العلل ومعرفة
الرجال لأحمد رواية ابنه عبد الله
العلل ومعرفة الرجال لأحمد رواية ابنه عبد الله
[مقدمة التحقيق]
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد: فهذا كتاب العلل ومعرفة الرجال للامام أحمد رحمه الله قد بذلت جهدي المستطاع في تحقيقه وتصحيحه وتخريجه وقدمت له بمقدمة اشتملت على موجز يتعلق بمعرفة الرجال والجرح والتعديل، ثم ذكرت ما يتعلق بالعلل، ثم ترجمت للامام أحمد ترجمة مختصرة ثم ذكرت وصف الكتاب والنسخة التي تم العمل عليها.
أدعو الله عز وجل أن يتقبله بقبول حسن.
وأرجو من الاخوة أهل العلم أن يتكرموا بالتنبيه على خطأ اطلعوا عليه حتى يمكن تصحيحه فيما بعد.
ولهم أجرهم عند الله.
الزاهر، مكة المكرمة 20 من صفر 1407
الدكتور وصي
الله بن محمد عباس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الامور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
خلق الله.
آدم عليه السلام، وخلق منها زوجه وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا، وشرع لهم شرائع كلفهم بها على لسان رسله من لدن آدم إلى خاتم النبيين نبينا محمد عليه وعلى الانبياء الصلاة والسلام.
أرسل الله رسله، يبلغون قومهم رسالات الله، يعيشون فيما بينهم يفسرون لهم أوامر الله ونواهيه بأقوالهم وأفعالهم، يحفظها عنهم أقوامهم ومتبعوهم ويعملون بها.
وهكذا جاءت رسل الله تترى.
وما أرسل من رسول إلا بلسان قومه، فيضل من يشاء ويهتدي من يشاء.
وكان النبي من الانبياء السابقين، يبعث إلى قومه خاصة وبعث نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة، فجعل الله رسالته ناسخة لجميع الرسالات فلا يسع أحدا من العالمين إلا اتباعه ومن يبتغ غير دينه دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين.
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) (1) .
(وما أرسلناك
إلا كافة للناس بشيرا أو نذيرا) (2)
ولما كانت الاديان السابقة لم يقدر الله لها الخلود، لم يتعهد بحفظها ولم يهئ لها من يقوم برعايتها وصيانتها، فلم تسلم من التحريف حتى كتبهم المقدسة المنزلة إليهم.
وذلك بشهادة القرآن العظيم.
(من الذين هادوا يحرقون الكلم عن مواضعه، ويقولون سمعنا وعصينا) (3) .
وندد بهم في قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، ليشتروا به ثمنا قليلا) (4) .
وأما شريعتنا الحنيفية البيضاء فقد وعد الله وتعهد بفضله ورحمته بحفظها قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون) (5) .
وهيأ لها رجالا ونساءا في كل عصر ومصر وفي كل قرن وزمن لحفظها من جميع نواحيها.
__________
(1) سورة الفتح: 28، سورة الصف: 9.
(2) سورة سبأ: 28.
(3) سورة النساء: 46.
(4) سورة البقرة: 79.
(5) سورة الحجر: 9.
هيأ لها رجالا يقومون بحفظ كتابه عن ظهر قلب ويتلونه ويدارسونه، ويحفظونه بين الدقتين، يحفظونه بدراسته وتقويم معانيه بالتفسير واستنباط الاحكام وجميع ما يتعلق به.
ثم تدبره والعمل بما فيه، ولما كانت آيات القرآن الكريم مجملة، أكرم الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بتكليفه بيان ما فيها من الاجمال، وتوضيح ما يحتاج إلى توضيح وتفصيل.
قال تعالى:
(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (1) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان، على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال، فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام، فحرموه ألا لا يحل لكم لحم الحمار الاهلي ... (2) .
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بتبليغ ما يعلمون منه إلى غيرهم فقال: بلغوا عني ولو آيتي (3) .
وقال: ليبلغ الشاهد منكم الغائب (4) .
وقال: تركت
فيكم شيئين، لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض (5)
__________
(1) سورة النحل: 44.
(2) صحيح الجامع الصغير 2: 375.
(3) صحيح البخاري 6: 496.
(4) صحيح البخاري 1: 199.
(5) صحيح الجامع
الصغير 3: 39.
فبهذا ظهر أن الذكر الذي وعد الله بحفظه وصيانته، يشمل القرآن الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بجميع أنواعها.
بهذه المهمة المباركة بعث الله نبينا فبلغ الرسالة وأدى الامانة وجاهد في الله حق جهاده.
دحر الاعداء مشركين وكفارا منافقين ويهود فآمنت له الجزيرة ومنهم من أسلم وتظاهر ولم يؤمن قلبه، كما قهر أخبث الامم أعدى اعداء الاسلام أبناء القردة والخنازير اليهود الذين لم يتركوا فرصة
إلا اهتبلوها بالكيد للاسلام والمسلمين، وولت زعامتهم من المدينة بخبثها ومكرها وحقدها وحطت رحالها في خيبر مجلوة مطرودة مذؤمة مدحورة.
عاش الناس في ظل رحمة للعالمين إلى أن كمل الدين وتمت نعمة الله على عباده في صورة كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كلها نابتهم نائبة رجعوا إليه أو حدثت لهم حادثة فزعوا إليه عاشوا في توادد وتراحم كالجسد الواحد بين مسلمين كأسنان المشط لا خلاف ولا شقاق وبين أعداء مكشوفين.
وبين منافقين كلما أوقدوا نار الفتنة أوحى الله نبيه ففضحهم وكشف عوارهم.
والغلبة لدين الله، الخير غالب واضح والشر قد اختفى وكاد أن لا يكون وصدق النبي صلى الله عليه وسلم: خير الناس قرني ... (1) جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا، وخير الله نبيه بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله (2) ومضى إلى الرفيق الاعلى راضيا مرضيا.
ولم يكد يشعر الناس بانقطاع خبر السماء ودفن أفضل الخلق في ثرى طيبة، حتى صلصلت في أسماعهم قعقة سلاسل الفتن على صفوان المحن، ووجد النافقون واليهود الاخابث منفذا ونفسا لحقدهم الدفين، وانجفل معهم الناشئة الطامحة من ذوي الاطماع ممن لم تخالط بشاشة الايمان
__________
(1) صحيح البخاري 5: 259.
(2) صحيح البخاري
1: 558.
شغاف قلوبهم من الذين لم تكتحل أعينهم بنور النبوة.
فأنكروا ركنا عظيما من أركان الاسلام الزكاة، فحدثت أول قاصمة الظهر فتنة المرتدين فقام بعبء الخلافة الراشدة أبو بكر الصديق، فقصم الفتنة بحزم وعزم ماضيين، تصف هذه الحالة الصديقة عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما.
" قبض النبي صلى الله عليه وسلم فارتدت العرب.
واشرأب النفاق بالمدينة، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لها ضها، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بحظها وعنائها في الاسلام.
أخرجه الامام أحمد في فضائل الصحابة.
قال لهذه الفتنة صديق هذه الامة وأفضلها فرد كيد الشيطان في نحره واستوت سفينة الاسلام على جودى السلامة والحمد لله رب العالمين وقضي نحبه ولقي ربه.
ثم قامت الخلافة العمرية الراشدة، خلافة المحدث، الملهم للخير، أعرف الناس بالناس فساسهم، بحكمة المؤمن البصير وقوة الايمان القاهرة، تعمل درته عملها.
تصد الغاوين عن غيهم وفتح لشغل الناس بالجهاد والدعوة إلى الله آفاقا واسعة.
فشغلهم بربهم عن أنفسهم، ودخل الناس في دين الله أفواجا بين طائع مؤمن وخائف منافق وكاره متربص، فائتمروا بينهم وهيئوا له غرابا من غربان الكفر فنقره نقرة أو نقرتين فقتله وهو يهيأ نفسه لصلاة الفجر، وفجعوا الاسلام في عبقرية.
وقامت خلافة ذي النورين حيي هذه الامة وحليمها وأوصلهم لرحمه وأتفاقهم لربه كما قالت فيه عائشة رضي الله عنها.
وكانت أيام خلافته أنضر أيام الخلافة الراشدة رغدا أو أمنا شرق فيها الجهاد وغرب وأبحر
(1/11)
وأصحر وأنجد وأتهم.
ودخل الاسلام في الوبر والمدر.
ولكن الفتنة لم تنم بل حفرت لنفسها مدخلا في حصن الاسلام باضت فيه وأفرخت، تطير أفراخها هنا وهناك وتبني أعشاشها في عواصم الاسلام ومدنها، يعذيها أشر
خلق الله.
اليهود السبائية فتقول المفسدون على ذي النورين أكاذيب ونسجوا حوله الاباطيل، جر أهم على ذلك حلمه وكرم طبعه، فذبحوه في بيته وهو يتلو كتاب الله كما تذبح الحملان.
استشهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ورحمه في دار الرسول ومدينته وانتهكت حرمات الخلافة بأبشع صورة، وقامت الفتنة كاسية عارية على قدم وساق ورفع رأسه الاختلاف والشقاق، وعميت المعالم على بعض الافاضل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم تعد وحده المسلمين منذ ودعتهم في ذلك اليوم الفاتن المفتون.
وفي هذا الجو الخانق المظلم يقوم بأمر الخلافة ربيب النبوة وبطل الجهاد ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأي أمر يقوم به هذا الخليفة راشد؟ بايعه المسلمون وهم متفرقون فرقة تزداد فجواتها كل يوم إذا سد منها فجوة انفتحت أمامه فجوات.
حمل ناس من المسلمين السيف في وجهه وقاتله جمع من الافاضل لا ينكر هو فضلهم، وتشقق المجتمع الاسلامي عن أقسى طوائف الفرق الخوارج الذين حاربوه حربا شعواء، وحاربه في الجانب الاخر إخوة له في الاسلام لم ينكر إسلامهم ولكنه قال عنهم: هم اخوتنا بغوا علينا.
ونشأت فرقة أخرى من أولاد سبأ وأفراخه الشيعة الذين ادعوا حبه وغلوا فيه حتى ألهوه، أظهروا الحب لال بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشاعوا في الناس أنهم مظلومون ظلمهم الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان، فجعلوا ديدنهم سب الصحابة وتكفيرهم.
وتآمر أعداء الاسلام فاستشهد علي رضي الله عنه بيد آثمة بعد ما قضى
(1/12)
ليله ونهاره في إخماد الفتن ولم يجد طمأنينه حتى لقي ربه، وصدقت عائشة
أم المؤمنين رضي الله عنه حينما وصلها استشهاد علي كرم الله وجهه فتمثلثت بهذا الشعر: فالقت عصاها واستقرت بها النوى * كما قر عينا بالاياب المسافر (1) وتجتمع الخلافة بعد تنازل الحسن بن علي، على معاوية رضي الله عنهما والفرقة خفت وطأتها فساسها بحلم وأناة وحكمة وصبر، وكان الامر فيه شئ من الهدوء والسكينة ولا يمضي يوم إلا وبعده شر منه.
والفتنة وإن كانت تقلق داخل المجتمع الاسلامي إلا أن خارجه بقي مرهوب الجانب ببركة الصالحين من عامة المسلمين وبصلاحهم فالخير كان هو المتحكم في سلوكهم وتعلقهم بالله عز وجل وقيامهم بالدعوة إلى الله.
كيف لا وهم صحابة رسول الله الذين رباهم الرسلم صلى الله عليه وسلم بسلوكه ومنهجه لم ينسوا واجباتهم في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم تسلم الامر التابعون لاصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تربوا في أحضان الصحابة وتلقوا الهدى وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم وقاموا بنشره بين الناس، فكانت روح الاسلام يقظة متبصرة، وكان المجتمع الاسلامي مرهوبا في نظر الاعداء الموتورين خارجا وداخلا.
وظلت جنود الاسلام في ظل هذه الفتن الداخلية تغزو وتفتح قلوب العباد وبلادهم وتنشر الدعوة إلى الله.
وتعلم الناس الكتاب والحكمة وتمضي سفينة الاسلام تمخر عباب الفتن الداخلية مع الجهاد في سبيل الله وتتوسع رقعة البلاد الاسلامية حتى تصل إلى قلب افريقيا وأبواب أوربا والصين ويدخل في دين الله ناس مخلصون طائعون، وناس اتفقت أهواءهم مع هوى السبائية في كل زمن فيتصلون بزمرتهم سنة الله في الذين خلوا من قبل.
__________
(1) طبقات ابن سعد 3: 40.
(*)
(1/13)
فلما نشأت الفرق واختلف الاهواء فشا الكذب في بعض الطوائف على رسول الله صلى الله عليه وسلم لان كل واحد جيدا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم أغلى شئ عند المسلمين فابتدأ وضع الاحاديث لتقوية الاهواء والاراء.
كما بدأ التحريف والتأويل الجائر لبعض الايات من كتاب الله.
فقام المسلمون بحفظ هذين الاصلين بجميع الوسائل والامكانيات يشهد التاريخ الصادق أن المسلمين عرفوا قدر هذين الاصلين كتاب الله وسنة رسوله وأنهما سبب سعادة كل مسلم وموضع هداية كل مؤمن ومعلوم من فطرة الانسان أن المتاع الغالي والثمين يبالغ في حفظه وصيانته بكل مستطاع.
وكلما زاد غلاء ازادت العناية في حفظه.
فقاموا بحفظ كتاب الله في الصدور ثم في المصاحف ما بين الدفتين.
كما قاموا بحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ظهر قلب ثم بتدوينه في الدواوين ثم التحقق والتثبت فيها.
روى مسلم في مقدمة صحيحه 15 عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الاسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم.
واستنبطوا بتوفيق الله لخدمتها علوما ما عرفت البشرية في تاريخها الطويل عشر معشار ما عند المسلمين، فانظر إلى تلك العلوم الكثيرة من التجويد والتفسير وأصولها والنحو والصرف، والبلاغة ثم مصطلح السنة وفي كل فن فنون وأفنان، كلها لخدمة هذين الاصلين الكريمين.
نعم من معجزة هذا الدين الخالد أن الله خلق له خلقا كانوا زبدة البشرية وخلاصتها وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين قاموا بنصرة نبيهم
وتعزيره وتوقيره والفداء بأرواحهم وأموالهم على إشارة طرفه المبارك.
لا يوجد لهم مثيل في أمة من الامم.
(1/14)
فقد حكى لنا كتاب الله عن اليهود حينما قالوا لنبيهم موسى: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون.
وتحكي لنا السيرة الصحيحة أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال قائلهم: يا رسول الله: والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لاخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا (1) ... قاموا بحفظ هذا الدين عن نبيهم ونقلوه إلى من بعدهم بعدالة تامة وأمانة كاملة.
وليس بخاف على الملم بتاريخ المسلمين الجهد الذي قام به أصحاب النبي صلى الله لجمع القرآن الكريم في مصحف مجمع عليه، فبذلك فرغ من جمع القرآن الكريم وتدوينه في عهد أفضل هذه الامة نؤمن بأنه موجود بين أيدينا غضا طريا كما أنزل الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم يحفظه في الصدور صغار هذه الامة وكبارها من غير أن يأتيه التحريف والتصحيف.
وأما السنة النبوية وإن كانت مدونة كثير منها في زمن الصحابة ولكن كان أكثر اعتمادها على الحفظ ولم تكن مدونة تدوينا كاملا كالقرآن الكريم.
فتبدأ مهمة التابعين ومن بعدهم فيقومون بجهود خارقة للعادات لجمع أحاديث نبيهم صلى الله عليه وسلم وضربوا في هذا المضمار أمثالا رائعة تدل على إعجاز هذا الدين الحنيف.
" آثروا قطع المفاوز والقفار على التنعم في الديار والاوطان في طلب السنن في الامصار وجمعها بالوجل والاسفار والدوران في جميع الاقطار،
حتى إن أحدهم ليرحل في الحديث الواحد، الفراسخ البعيدة، وفي الكلمة الواحدة الايام الكثيرة، لئلا يدخل مضل في السنن شيئا يضل به، وإن
__________
(1) صحيح مسلم 3: 1404، ومسند أحمد 3: 219، 220.
(*)
(1/15)
فعل، فهم الذابون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الكذب، والقائمون بنصرة الدين (1) .
وإن رحلة المحدثين لطلب السنن والاثار كان مصداقا لقوله تعالى: (فلو نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) (2) .
فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الواحد منهم يسافر لطلب حديث واحد أو لمجرد التثبت مسافة شاسعة يتحمل في هذه السبيل كل مشقة.
قال عبد الله بن بريدة أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر فقدم عليه وهو يمد لناقة له، فقال: مرحبا، قال: أما إني لم آتك زائرا، ولكن سمعت أنا وأنت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجوت أن يكون عندك منه علم، قال: ما هو؟ قال: كذا وكذا ... ويروي لنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه قصة رحلته فيقول: بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه فابتعت بعير فشددت عليه رحلي، وسرت شهرا، حتى قدمت الشام.
فأتيت عبد الله بن أنيس.
فقلت للبواب، قل له: جابر على الباب، قال: فأتاه، فقال له: جابر بن عبد الله، فأتاني فقال لي، فقلت له: نعم، فرجع فأخبره.
فقام يطاطئ ثوبه، حتى لقيني فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص لم أسمعه
فخشيت أن تموت أو أموت، قبل أن أسمته، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره.
__________
(1) من كتاب المجروحين 1، 27.
(2) سورة التوبة: 122.
(*)
(1/16)
وعن وهب بن عبد الله المعافري قال: قدم رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الانصار على مسلمة بن مخلد، فألفاه نائما.
فقال: أيقظوه، قالوا بل: نتركه حتى يستيقظ، قال: لست فاعلا، فأيقظوا مسلمة له، فرحب به، وقال: انزل.
قال: لا حتى ترسل إلى عقبة بن عار لحاجة لي إليه، فأرسل إلى عقبة، فأتاه، فقال: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من وجد مسلما على عورة فستره، فكأنما أحيا موءودة من قبرها؟ فقال عقبة: قد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذلك (1) .
وتبعهم التابعون لهم باحسان، فارتحلوا وجمعوا السنن من الاقطار والامصار ثم من تبعهم بإحسان إلى أن تم تدوين السنة في الدواوين التي نراها تزخر بها مكتبات العالم.
ولم يكتفوا بالجمع فقط بل استعملوا كل وسيلة لتنقيتها من الشوائب والاكدار، ووضعوا لها قواعد هي أرقي ما عرفت الدنيا وأفضل ما وصلت إليه الطاقة البشرية لتحقيق الاخبار والتثبت فيها فانظر كتب مصطلح الحديث وما فيها من أنواع علوم الحديث ترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت مثله قبل الاسلام.
وما من شك أن القرآن الكريم هو أول من أرشد إلى التحقيق والتثبت
في الاخبار فقال: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة) (2) .
وإلى تدوين السير والتراجم الصحيحة، المفيدة، المعتبرة، فقد ذكر لنا
__________
(1) أنظر سيرة البخاري للعلامة عبد السلام المباركفوري ص 12 - 14.
(2) سورة الحجرات: 6.
(*)
(1/17)
القرآن الكريم تراجم أعلام كثيرين ومواضع العبرة فيها صافية، خالصة من التناقض والمحالات، وانظر بجانبه الاساطير والقصص الباطلة في كتب من قبلنا.
ويعلمنا القرآن أيضا، أنه لا يكفي تدوين السير والتزام الصدق فيه فقط، بل ينبغي توجيه النقد الصادق أيضا للاعتبار والموعظة.
وانظر أمثله ذلك في قصة آدم ونوح ويونس عليهم السلام.
ومن هذا المنطلق القرآني الكريم، توجه أهل الحديث رحمة الله عليهم فبذلوا قصارى جهودهم وسعوا حتى جمعوا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته قولا وفعلا وتقريرا بأسانيدها.
ولولا ذلك الجهد العظيم من هذه الطائفة المباركة لحرمنا معرفة أحوال نبينا صلى الله عليه وسلم، ولتعذر علينا الامتثال بقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (1) .
ولم تقف جهودهم على هذه الحدود بل دونوا تراجم صحيحة صادقة للخلفاء الراشدين أيضا عملا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية " ... فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ (2) .
وخطوا خطوات فجمعوا تراجم غيرهم من الصحابة، وكيف يهملون
تراجم أصحاب نبيهم وقد زكاهم الله وأثنى عليهم، وإن في حياتهم لنا خبرا وعبرا.
فالكتب المؤلفة الخاصة بهم تدل على الجهود المبذولة في هذا الجانب.
ولما كان الخبر - أي خبر كان - لا يوثق به ولا يكون مقبولا إلا إذا
__________
(1) سورة الاحزاب: 21.
(2) أنظر صحيح الجامع الصغير 4: 132.
(*)
(1/18)
كان المخبر ثقة حافظا، عدلا، فكيف يقبل الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم من كل أحد بدون أن نعرف صدقه من كذبه وصوابه من وهمه وخطأه.
لذلك فاستنبطوا كلمة الاسناد باصطلاحهم الخاص واستنبطوا له علما خاصا يعرف بعلم النقد والجرح والتعديل.
وترجموا للتابعين ولمن بعدهم، وقيدوا أحوالهم حتى يعرف الضعيف من الحافظ والثقة من الكاذب ممن تقبل أخبارهم وممن ترد أحاديثهم فإذا رأيت كتب التراجم والتواريخ والطبقات ثم رأيت آلافا من التراجمن بجميع ما وصلوا إليه من مولد الراوي ونشأته إلى مماته، كيف كان مدخله ومخرجه، كيف كان في سلوكه ودينه وعقيدته ومعاملاته مع الاخرين، من شيوخه الذين تتلمذ عليهم وهل سمع أحاديثه أم بعضها من هم التلاميذ الذين تلقوا عنه ومن تلاميذه الثقات عنه ومن تضعف رواياتهم عنه.
كم عدد مروياته كم فيها صحيح وكم فيها ضعيف.
هل بقي في حفظه وعدالته على ما كان في شبابه وصحته أم اختلط بآخرته بعد ما كبر وشاخ أو بعد ما أصيب بعاهة أو حادث في نفسه، أو في كتبه، وهل حدث حال اختلاطه أم لا؟ فإن حدث فمن الذين أخذوا عنه قبل الاختلاط، ومن الذين أخذوا عنه بعد الاختلاط، ومن الذين أخذوا قبل الاختلاط، وبعده أيضا فهل ميزت
أحاديثهم أم لا؟ ؟ إلى غير ذلك من صفات تعلق بالراوي، هذا ما عرف بعلم معرفة الرجال أو علم الجرح والتعديل.
حتى انبهر بهذه العلوم أعداء الاسلام ونطق بعضهم بالثناء عليها وعليهم اعترافا بالفضل ما شهدت به الاعداء.
قال الدكتور سبرنجر في مقدمة كتاب الاصابة: " يحق للمسلمين أن يفتخروا بعلم الرجال كما شاءوا.
فلم توجد أمة
(1/19)
في الماضي ولا في الحاضر دونت تراجم وسير العلماء خلال اثني عشر قرنا كما فعل المسلمون.
فبامكاننا، الحصول على تراجم خمسمائة عالم من المشهورين من كتبهم.
اهـ (1) .
ولم يقتصر أهل الحديث على جمع التراجم بل بحثوا دقيقا في مروياتهم حتى روايات الثقات المعروفين منهم ولم يعتمدوا على كونهم ثقات ولم يفعوهم من البحث والنقد.
فإن الثقة قد يهم ويخطى، فطرة الله التي فطر الناس عليها.
فبحثوا في رواياتهم التي وهموا أو أخطأوا فيها، هذا ما عرف بعلم علل الحديث.
وهل يمكن يا صاح أن تكون طرق للبحث والنقد والتثبت والتفتيش للاخبار الماضية أحسن مما عند المحدثين كلا.
اولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المحافل.
وبجانب ذلك استنبطوا الاحكام من غير قياس جائر ولا التقيد بالظاهر.
وكتبوا فيها الجوامع والسنن والكتب الموضوعية كما حموا حمى العقيدة من جميع جوانبها ما سمعوا هيعة إلا طاروا لها خفافا وثقالا، وما رأوا ثغرة إلا رابطوا فيها، فحفظوا هذا الدين من زيغ الزائغين وتحريف
الغالين وانتحال المبطلين وضلال المشبهين والمعطلين والمكيفين والمؤولين.
وإنه ليحزننا بعد هذا أن يقوم بعض الحاقدين على السلف أو السلفية، فيرميهم بعدم الفهم للنصوص ويستخفهم فيسميهم " النقلة " الذين لا يفقهون.
كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.
__________
(1) نقلا عن كتاب سيرة البخاري للعلامة عبد السلام المباركفوري طبعة الجامعة السلفية بالهند.
(*)
(1/20)
موجز عن الجرح والتعديل الكلام على الرجال جرحا وتعديلا ليس من الغيبة بل هو واجب من واجبات الشريعة.
روى ابن حبان في كتاب الضعفاء والمجروحين عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر الكلاعي قالا: أتينا العرباض بن سارية وهو فيمن نزل فيه: ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم.
قلت لا أجد ما أحملكم عليه، فسلمنا عليه وقلنا أتيناك زائرين ومقتبسين، فقال العرباض صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا، موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا مجدعا فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الامور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم قال: " في قوله صلى الله عليه وسلم " فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم.." دليل على أن هـ صلى الله عليه وسلم أمر أمته بمعرفة الضعفاء من الثقات، لانه لا يتهيأ لزوم السنة مع ما خالطها من الكذب والاباطيل إلا بمعرفة الضعفاء من الثقات وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون من ذلك في أمته.
وقال أيضا: في قوله عليه السلام، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب.
(1/21)
دليل على استحباب معرفة الضعفاء من الحدثين إذ لا يتهيأ أن يبلغ الغالب ما شهد إلا بعد المعرفة بصحة ما يؤدى إلى ما بعده (1) .
وروى أحمد بن مروان المالكي حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: جاء أبو تراب النخشي إلى أبي فجعل أبي يقول: فلان ضعيف وفلان ثقة، فقال أبو تراب: يا شيخ لا تغتب العلماء، قال: فالتفت أبي إليه قال: ويحك هذا نصيحة، ليس هذا غيبة.
وقال محمد بن بندار قلت لاحمد بن حنبل: إنه ليشتد علي أن أقول: فلان ضعيف، فلان كذاب، قال أحمد: إذا سكت أنت وسكت أنا، فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم (2) .
وقال أبو بكر بن خلاد، دخلت على يحيى بن سعيد في مرضه فقال لي: يا أبا بكر: ما تركت أهل البصرة يتكلمون؟ قلت: يذكرون خيرا إلا أنهم يخافون عليك من كلامك في الناس، فقال: احفظ عني، لان يكون خصمي في الاخرة رجل من عرض الناس أحب إلى من أن يكون خصمي في الاخرة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: بلغك عني حديث وقع في وهمك أنه عني غير صحيح يعني فلم تنكر (3) .
وإن القرآن الكريم نفسه يحث على التثبت والبحث والتمحيص قال
تعالى: (يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (4) .
كما نجد في كتاب الله تعالى أصولا للنقد والجرح والتعديل: قال تعالى حاكيا عن سليمان عليه السلام:
__________
(1) أنظر الضفعاء والمجروحين 1: 9: 16.
(2) الكفاية 92.
(3) شرح علل الترمذي لابن رجب 173 وانظر الكفاية ص 90.
(4) سورة الحجرات: 6.
(*)
(1/22)
(فان سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) (1) .
وقال تعالى في الجرح: (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) (2) .
وقال في التعديل: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من دايارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، وينصرون الله ورسوله وأولئك هم الصادقون) (3) .
ثم نرى النبي صلى الله عليه وسلم في الاخبار فسأل وجرح وعدل.
ولنا فيه أسوة حسنة.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها حين قال فيها أهل الافك ما قالوا، قالت: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي يسألهما وهو يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار بالذي يعلم من براءة أهله وأما علي، فقال: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك، فقال: هل رأيت من شئ يريبك؟ قالت: ما رأيت أمرا أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام
عن عجين أهلها (4) وله أمثلة كثيرة في السنة.
ثم جاء دور الصحابة رضوان الله عليهم ففحصوا وفتشوا وبالغوا في التحقيق في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق
__________
(1) سورة النحل: 27.
(2) سورة المنافقون: 1.
(3) سورة الحشر: 8.
(4) صحيح البخاري 8: 338.
(*)
(1/23)
تسأله ميراثها، فقال لها أبو بكر ما لك في كتاب الله شئ وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك فقام محمد بن مسلمة الانصاري، فقال: مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذة لها أبو بكر (1) .
ويأتي دور الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فيتشدد أكثر من سلفه، عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من مجالس الانصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن فليرجع، فقال: والله لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي بن كعب، والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فقمت معه فأخبرت عمر أن الني صلى الله عليه وسلم قال: ذلك.
وفي بعض الروايات: قال عمر: انما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت.
وفي رواية فقال عمر بن الخطاب لابي موسى: أما إني لم أتهمك ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
وروى ابن عبد البر بسنده عن أبي هريرة قال: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه.
وروى أيضا عن عقبة بن نافع وصهيب أنهما قالا: يا بني لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عن ثقة (3) .
__________
(1) موطأ الامام مالك 2: 55.
(2) صحيح البخاري 11: 27، صحيح مسلم 3: 1694، الموطأ 2: 240.
(3) التمهيد 1: 45.
(*)
(1/24)
ثم يأتي زمن التابعين فيتطور هذا العلم ويتوسع أكثر.
وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله كان يتنفي الرجال والاحاديث.
أخرج ابن منده من طريق يزيد بن أبي مالك قال: كنت عند سعيد ابن المسيب فحدثني بحديث، فقلت من حدثك يا أبا محمد بهذا؟ فقال: يا أخا أهل الشام خذ ولا تسأل فإنا لا تأخذ إلا عن الثقات (1) .
وقال عامر ابن شراحيل الشعبي في قتادة: حاطب ليل (2) .
وقال في إبراهيم النخعي: ذاك الذي يروى عن مسروق ولم يسمع منه شيئا (3) .
وقال ابن سيرين: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم (4) .
وكان قتادة يرمي عبادة أبا يحيى بالكذب (5) .
ويروى عن ابن شهاب الزهري أقوال كثيرة في النقد والجرح والتعديل قال الزهري: العلماء أربعة سعيد بن المسيب بالمدينة والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، مكحول بالشام (6) .
وكان الزهري يشدد على من كان يحدث الحديث بلا إسناد.
ذكر الذهبي قوله في اسحاق بن عبد الله:
__________
(1) تهذيب التهذيب 4: 87.
(2) التهذيب 4: 87.
(3) الميزان 1: 74.
(4) مقدمة صحيح مسلم ص 14.
(5) الميزان 2: 381.
(6) الميزان 4: 177.
(*)
(1/25)
قاتلك الله يا ابن أبي فروة ما أجرأك على الله ألا تسند أحاديثك، تحدث بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة (1) .
ثم يأتي عصر أتباع التابعين الذين تتلمذوا على تلامذة الصحابة فيتقدم الفن إلى خطوات حثيثة، وتتأسس قوانين جديدة وينشئ الله أمثال شعبة، فيرحلون ويفتشون ويخبرون أحوال الرجال ويبدأون بالتصنيف والتأليف بشكل أوسع من ذي قبل.
وبالنظر في ترجمة شعبة يظهر أنه كان مبالغا جدا في التثبت فيما كان يروي ولم يكن يروي إلا عن الثقات المعروفين فيما قيل.
وكانت له طرق مختلفة لتحقيق الاخبار منها: أنه ما كان يكتفي باستماع الحديث مرة واحدة.
روى ابن أبي حاتم بسنده إلى حماد بن زيد قال: ما أبالي من خالفني إذا وافقني شعبة، لان شعبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث مرة، يعاوده صاحبه مرارا ونحن كنا إذا سمعنا مرة اجتزينا به (2) .
ومنها ما رواه ابن أبي حاتم بسنده إلى أبي داود الطيالسي قال: سمعت خالد بن طليق يسأل شعبة فقال: يا أبا بسطام حدثني حديث سماك بن حرب في اقتضاء الورق من الذهب حديث ابن عمر، فقال: أصلحك الله.
هذا حديث ليس يرفعه أحد إلا سماك، قال: فترهب أن أروي عنك؟ قال: لا، ولكن حدثنيه قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر ولم يرفعه.
وأخبرنيه أيوب عن نافع عن ابن عمر ولم يرفعه وحدثني داود بن أبي
__________
(1) الميزان 1: 193.
(2) تقدمة الجرح والتعديل 168.
(*)
(1/26)
هند عن سعيد بن جبير ولم يرفعه، ورفعه سماك فأنا أفرقه (1) .
فأظهر شعبة من هذه المقارنة أن سماكا أخطأ في رفع هذا الحديث إنما هو من قول ابن عمر موقوفا عليه.
ومثل هذه الطرق للتثبت والتحقيق مأثورة كثيرة عن اتباع التابعين وبرز في هذا القرن الخير، جهابذة الفن مثل سفيان الثوري [97 - 161] ومالك بن أنس إمام دار الهجرة [104 - 179] وعبد الله بن المبارك المروزي الخراساني [118 - 181] وأبو إسحاق الفزاري [ت 186] وسفيان بن عيينة [107 - 197] ويحيى بن سعيد القطان [120 - 198] ووكيع بن الجراح [128 - 198] وعبد الرحمن بن مهدى [135 - 198] .
ثم جاء الله بقوم آخرين تتلمذوا على هؤلاء الاعلام الغر الميامين فأخذوا طرقهم في البحث والتنقيب، وأضافوا عليها طرقا جديدة وفي مقدمتهم أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني ولهم كتب ومؤلفات في هذا الفن الشريف يمكن معرفتها بمراجعة تراجمهم.
ثم جاء أمثال الامام البخاري محمد بن اسماعيل ومسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وغيرهم، فزادوا في هذا البنيان لبنات مهمة واستنبطوا قواعد جديدة واستعملوا طريقة الاعتبار والمقارنة والمقابلة والسبر والاختيار بطريق أوسع لمعرفة الرجال وتميز الخطأ من الصواب.
قال أحمد في ترجمة سفيان بن عيينة: هو أثبت الناس في عمرو بن دينار (2) .
وقال أيضا: كنت أنا وعلي بن المديني فذكرنا أثبت من يروي عن
__________
(1) تقدمة الجرح والتعديل 158.
(2) ميزان الاعتدال 2: 170.
(*)
(1/27)
الزهري.
فقال علي: سفيان بن عيينة، وقلت أنا مالك بن أنس، وقلت: مالك أقل خطأ عن الزهري، وابن عيينة يخطئ في نحو من عشرين حديثا عن الزهري، في حديث كذا وكذا فذكرت منها ثمانية عشر حديثا، وقلت: هات ما أخطأ مالك، فجاء بحديثين أو ثلاثة، فرجعت، فنظرت فيما أخطأ فيه ابن عيينة، فإذا هي أكثر من عشرين حديثا.
وقال أيضا: عند مالك عن الزهري نحو من ثلاثمائة حديث كذا عند ابن عيينة عنه نحو الثلاثمائة (1) .
فاستننج الامام أحمد من هذه المقارنة والسبر أن مالكا أثبت في
الزهري من ابن عيينة.
وذكر النسائي رواية لعبد الملك بن نافع الشيباني عن ابن عمر رأيت رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه نبيذ وهو عند الركن ودفع إليه القدح ... ثم قال النسائي: عبد الملك بن نافع ليس بالمشهور، ولا يحتج بحديثه، والمشهور عن ابن عمر خلاف حكايته.
ثم ذكر روايات كثيرة تخالف هذه الرواية وقال: " وهؤلاء أهل الثبت والعدالة، مشهورون بصحة النقل، وعبد الملك لا يقوم مقام واحد منهم ولو عاضده من أشكاله جماعة وبالله التوفيق (2) .
ويبدو لي أن طريقة الوحيدة في معرفة الثقة من غيره من الرواة المتقدمين.
فإذا لم يوجد في الرواي المتقدم باسناد صحيح كلام من إمام معاصر له.
__________
(1) العلل رقم 2543 ب والميزان 2: 170.
(2) أنظر سنن النسائي 8: 323.
(*)
(1/28)
كانوا يستعملون هذه الطريقة للحكم عليه وعلى أحاديثه، ولو لم تعرف عدالته، فالظاهر أنهم كانوا يكتفون بستر حاله والنظر في مروياته فإن وافق في رواياته الثقات المعروفين وثق وإن خالف، ضعف.
ومن نظر كلام ابن عدي في كلامه وابن حبان في ضعفائه ظهر له أنهما كانا يستعملان هذه الطريقة بكثرة واضحة جدا.
قال ابن حيان في ترجمة عبد الله بن لهيعة.
قد سبرت أخباره في رواية المتقدمين، والمتأخرين عنه فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجودا وما لا أصل له في رواية المتقدمين كثيرا،
فرجعت إلى الاعتبار، فرأيته يدلس عن قوم ضعفاء على أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات، فألزق ذلك الموضوعات بهم (1) .
هذا عرض موجز عن تاريخ الجرح والتعديل وهذه بعض الشواهد والامثلة لاقوالهم ومنهجهم في هذا الباب تظهر لنا جهود أئمتنا رحمهم الله في حفظ السنة النبوية.
__________
(1) ميزان الاعتدال 2: 482.
(*)
(1/29)
العلة العلة لغة: المرض، وصاحبها معتل، عل المريض يعل فهو عليل (1) .
وقال في القاموس: العلة بالكسر: المرض، عل يعل واعتل وأعله تعالى، فهو معل وعليل، ولا تقل معلول، والمتكلمون يقولونها، ولست منه على ثلج (2) .
العلة اصطلاحا: العلة في اصطلاح المحدثين: عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة في صحة الحديث (3) .
والحديث المعلل والمعلول: هو الحديث الذي أطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن ظاهره السلامة منها (4) .
فعلى هذا التعريف: لا يسمى الحديث المنقطع مثلا معلولا ولا الحديث الذي راويه مجهول، أو ضعيف معلولا.
وانما يسمى معلولا إذا آل أمره إلى شئ من ذلك مع كون ظاهره السلامة منه.
قال الحاكم: هذا النوع منه معرفة علل الحديث وهو علم برأسه غير
__________
(1) أنظر معجم مقاييس اللغة 4: 13.
(2) قاموس المحيط 4: 21.
وانظر تاج العروس 8: 32، ولسان العرب 11: 471.
(3) أنظر علوم الحديث لابن الصلاح 81، والتقييد والايضاح 116، وفتح المغيث 1: 210، تدريب الراوي 1: 252، النكث لابن حجر 2: 710.
(4) علوم الحديث 84.
(*)
(1/31)
الصحيح والسقيم والجرح والتعديل ... وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واه، وعلة الحديث، يكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علة، فيخفي عليهم، علمه، فيصير الحديث معلولا والحجة فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة، لا غير (1) .
فالاصل في اطلاق العلة هو السبب الخفي القادح في صحة الحديث.
ولكن قد يتوسعون فيطلقون العلة على كل سبب قادح سواء أكان ظاهرا أم خفيا بل ولا يخلو كتاب من كتب العلل إلا وقد أورد فيه مؤلفه مطلق سبب الضعف في الرواية.
حتى إن بعضهم أطلق العلة على سبب غير قادح أيضا كالحديث الذي وصله الثقة الضابط، فأرسله، غيره (2) .
قال ابن الصلاح: قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الاسباب القادحة في الحديث المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ العلة في الاصل، ولذلك نجد في كتب العلل الكثير من الجرح بالكذب والغفلة وسوء الحفظ، ونحو ذلك من أنواع الجرح، وسمى الترمذي النسخ علة من علل الحديث.
ثم إن بعضهم أطلق اسم العلة على ما ليس بقادح من وجوه الخلاف نحو إرسال من أرسل الحديث الذي أسنده الثقة، الضابط حتى قال: من
أقسام الصحيح ما هو صحيح معلول كما قال بعضهم: من الصحيح ما هو صحيح شاذ (3) .
__________
(1) معرفة علوم الحديث 112، 113.
(2) أنظر الباعث الحثيث 71، توضيح الافكار 3: 33، تدريب الراوي 1: 257.
(3) علوم الحديث 84.
(*)
(1/32)
وأما قول صاحب القاموس: لا تقل معلول.
يعني به أن أهل اللغة لا يثبتون هذه الكلمة بهذا المعنى على هذه الصيغة.
ووافقه ابن الصلاح من المحدثين أيضا حيث قال: ويسميه أهل الحديث المعلول، وذلك منهم ومن الفقهاء في قولهم في باب القياس العلة والمعلول مرذول عند أهل اللغة والعربية (1) .
ولحنه النووي أيضا في تقريبه (2) .
ولكننا نقول: إن استعمال أهل الحديث كلمة المعلول بالمعنى الذي أرادوه ليس مخالفا للغة، لانه استعملها أبو اسحاق الزجاج اللغوي، المشهور في العروض قريبا من المعنى الذي استعملها أهل الحديث (3) .
وقال ابن القوطية اللغوي (4) .
عل الانسان مرض والشئ اصابته علة، ذكره الجزائري ثم قال: فيكون استعماله بالمعني الذي أرادوه غير منكر، بل قال بعضهم: استعمال هذا اللفظ أولى لوقوعه في عبارات أهل الفن مع ثبوته لغة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ (5) .
وزيادة عليه أننا نجد وقوعه في كلام البخاري، والترمذي والدارقطني والحاكم وغيرهم (6) وهم أقرب إلى اللغة الصحيحة قبل أن يدخل فيها
__________
(1) علوم الحديث لابن الصلاح 81.
(2) تقريب النووي 161 مع تدريب الراوي.
(3) أنظر فتح المغيث 1: 210.
(4) هو محمد بن عمر بن عبد العزيز بن ابراهيم الاندلسي أبو بكر المعروف بابن القوطية مؤرخ أعلم أهل زمانه باللغة والادب مات بالقرطبة سنة 367، أنظر وفيات الاعيان 1: 521.
لسان الميزان 5: 324، الاعلام 7: 201.
(5) توجيه النظر 264.
(6) تدريب الراوي 161.
(*)
(1/33)
دخائل.
وقد عاصروا كبار اللغويين، ولا نجد منهم انكارا على المحدثين في استعمال هذه الكلمة بهذا المعنى.
والله أعلم.
نشأة علم علل الحديث: يبدو أن علم علل الحديث في صورة مصغرة مبكرة مساير لعلم الحديث جمعا ونقدا من زمن الصحابة رضي الله عنهم، وحيث إن الوهم والخطأ من أهم عناصر علل الحديث.
ومن الممكن أن يقع فيهما بعض الصحابة، فيمكننا أن نمثل لهذا بوقائع ثبتت عن الصحابة وهم فيه بعضهم البعض، وإن كتاب " الاجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة " للزركشي، أكبر مجموعة لهذا.
وكما وهم سعيد بن المسيب أو بعض الصحابة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم (1) .
ثم سار هذا العلم مع الرواية والتحديث في كل عصر، كلما اتسعت الرواية اتسع مجاله واشتدت الحاجة إليه.
وقد قيض الله له في كل عصر ومصر علماء جهابذة كانوا ينخلون الروايات ويتخللونها، ويخرجون منها
حرفا حرفا الصحيح والسقيم والضعيف والمعلول.
أهمية علم علل الحديث: لما عرف أن علل الحديث يكثر وقوعها في أحاديث الثقات الذين عليهم العمدة في الروايات، فأعرض المحدثين وعامتهم لا يظهر لهم خلل في أحاديثهم، ولذلك صار أغمص أنواع الحديث وأدقها مسلكا، ولا يقوم به إلا من منحه الله فهما غائصا واطلاعا حاويا وادراكا لمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة لاختلاف المرويات.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب النكاح 2: 1031.
(*)
(1/34)
ولهذا لم يتكلم في هذا العلم إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم.
قال أبو عبد الله بن مندة الحافظ: انما خص الله بمعرفة هذه الاخبار نفرا يسيرا من كثير ممن يدعي علم الحديث، فأما شأن الناس ممن يدعي كثرة كتابة الحديث أو متفقه في علم الشافعي وأبي حنيفة أو متبع لكلام الحارث المحاسبي والجنيد وذي النون وأهل الخواطر.
فليس لهم أن يتكلموا في شئ من علم الحديث إلا من أخذه عن أهله وأهل المعرفة.
فحينئذ يتكلم بمعرفة (1) .
وقال عبد الرحمن بن مهدي: معرفة الحديث إلهام، فلو قلت للعالم يعلل الحديث من أين قلت هذا لم يكن له، حجة، ذكره الحاكم.
وذكر أيضا باسناده عن أبي زرعة وقال له رجل: ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ قال: الحجة، أن تسألني عن حديث له علة فأذكر علته، ثم تقصد ابن واره يعني محمد بن مسلم ابن واره، وتسألنه عنه ولا تخبره بأنك قد سألتني عنه فيذكر علته، ثم يقصد أبا حاتم فيعلله، ثم تميز
كلام كل منا على ذلك الحديث.
فإن وجدت بيننا خلافا في علته فاعلم إن كلا منا تكلم على مراده.
وإن وجدت الكلمة متفقة فاعلم حقيقة هذا العلم.
قال: ففعل الرجل.
فاتفقت كلمتهم عليه، فقال: أشهد أن هذا العلم إلهام (2) .
وهنا تنبيه: ينبغي أن نفهم كلام عبد الرحمن بن مهدي على وجهه، وهو أنه ليس مقصوده من قوله " معرفة الحديث إلهام " أنه قد يعلل ولا حجة له فيه إنما
__________
(1) شرح علل الترمذي لابن رجب 61، 62.
(2) معرفة علوم الحديث للحاكم 112 - 113.
(*)
(1/35)
مقصوده (إن صح عنه هذا القول) أنه تحصل له ملكة قوية راسخة حتى إنه بمجرد النظر في اسناد الحديث ومتنه تظهر له صحته أو ضعفه فيحكم في أول وهلة ببصيرته أنه صحيح أو معلول.
ثم إذا طلبت منه الحجة لا بد وأن يذكر تفصيلها.
ولا يمكن أن نجد حديثا معللا إلا دونه سبب، لكن قد يختصر المعلل في الحكم فيذكر حكمه بدون ابداء السبب.
وقد استدل بقول ابن مهدي هذا بعض من له هوى في انكار الحديث فتوسع في تفسيره والاستدلال به فقال: إن المحدث قد يرى الحديث المتفق على صحته أنه ضعيف وبالعكس ولا يستطيع اقامة الحجة على ذلك وهو معذور في حكمه هذا كالصيرفي الناقد يحكم على الدارهم بالزيف والصالح ويعجز عن إبانة السبب.
فنقول: ليس الامر كما ذكر فالواقع يخالف قوله، فهذه كتب العل
أمامنا، إن وجد الايجاز والاختصار في بعضها ففي الاخر تجد التفصيل وبيان السبب والتعليل.
فمثله كمثل الطبيب الحاذق إذا عرض له شخص ظاهره السلامة، لا يظهر المرض فيه لعامة الناس، فينظر إليه أول نظرة ويبدي رأيه إجمالا إن فيه مرض كذا، فإذا أجري عليه الفحص والفسر والتحليل والاشعة، يظهر بوضوع صدق قوله.
كما قال نعيم بن حماد قلت لابن مهدي: كيف تعرف صحيح الحديث وسقيمه؟ قال: كما يعرف الطبيب المجنون (1) .
أقسام العلة: تقع العلة في الاسناد وحده وفي المتن وحده وفي كليهما فعلى هذا تنقسم
__________
(1) شرح علل الترمذي لابن رجب 175.
(*)
(1/36)
إلى ستة أقسام:
1 - العلة في الاسناد ولا تقدح مطلقا.
2 - العلة في المتن دون الاسندا ولا تقدح مطلقا.
3 - العلة في المتن واستلزمت القدح في الاسناد.
4 - العلة في الاسناد وتقدح فيه دون المتن.
5 - العلة في المتن وتقدح فيه وفي الاسناد معا.
6 - العلة في المتن وتقدح فيه دون الاسناد (1) .
بعض أجناس المعلل: قد قسم الحاكم في معرفة علوم الحديث أجناس المعلل إلى عشرة أقسام وحررها السيوطي في تدريب الراوي وذكر لها امتثلتها.
نكتفي بذكر الاجناس فقط.
1 - أن يكون السند ظاهره الصحة وفيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه.
2 - أن يكون الحديث مرسلا من وجه رواه الثقات الحفاظ ويسند من وجه ظاهره الصحة.
3 - أن يكون الحديث محفوظا عن صحابي ويروى عن غيره لاختلاف بلاد رواته كرواية المدنيين عن الكوفيين.
4 - أن يكون محفوظا عن صحابي فيروى عن تابعي يقع الوهم بالتصريح بما يقتضي صحته بل ولا يكون معروفا من جهته.
__________
(1) أنظر النكث لابن حجر 2: 747، وتوضيح الافكار للصنعاني 2: 31 - 33 وانظر الامثلة هناك لكل قسم.
(*)
(1/37)
5 - أن يكون روى بالعنعة وسقط منه رجل دل عليه طريق أخرى محفوظة.
6 - أن يختلف على رجل بالاسناد وغيره ويكون المحفوظ عنه ما قابل الاسناد.
7 - الاختلاف على رجل تسمية شيخه أو تجهيله.
8 - أن يكون الراوي عن شخص أدركه وسمع، لكنه لم يسمع منه أحاديث معينة فإذا رواه عنه بلا واسطة فعلتها أنه لم يسمعها منه.
9 - أن تكون طريقة معروفة يروي أحد رجالها حديثا عن غير تلك الطريق فيقع من رواه من تلك الطريق بناء على الجادة في الوهم
10 - أن يروى الحديث مرفوعا من وجه موقوفا من وجه، قال الحاكم.
فقد ذكرنا علل الحديث على عشرة أجناس وبقيت أجناس لم
نذكرها وانما جعلتها مثالا لاحاديث كثيرة معلولة يهتدي إليها المتبحر في هذا العلم، فإن معرفة علل الحديث من أجل هذه العلوم (1) .
بعض المؤلفين في علل الحديث ومؤلفاتهم: يذكر عدد من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم فيمن ألف في علم علل الحديث، فبعضهم وصل إلينا كتابه وبعضهم لم يعثر على تأليفه ولكن أقوالهم منقولة في ثنايا كتب من بعدهم، لو جمعت لحصلت لنا تأليفاتهم.
وقد ذكر الامام الترمذي في كتابه العلل الصغير جملة ممن سبقوه بالتأليف في هذا الموضوع نذكرهم في ضمن المؤلفين.
__________
(1) أنظر معرفة علوم الحديث للحاكم 112 - 119 وتدريب الراوي 167 - 169.
(*)
(1/38)
قال: إنما حملنا على ما بينا في هذا الكتاب من قول الفقهاء وعلل الحديث لانا سئلنا عن هذا فلم نفعله زمانا ثم فعلناه لما رجونا فيه من منفعة الناس.
لانا قد وجدنا غير واحد من الائمة تكلفوا من التصنيف ما لم يسبقوا إليه منهم:
1 - هشام بن حسان [ت 147]
و2 - عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح [ت سنة 150]
و3 - سعيد بن أبي عروية [ت سنة 156]
و4 - مالك بن أنس [الامام ت سنة 179]
و5 - حماد بن سلمة [ت سنة 167]
و6 - عبد الله بن المبارك [ت سنة 181]
و7 - يحيى بن زكريا بن أبي زائدة [ت سنة 183]
و8 - وكيع بن الجراح [ت سنة 197]
و9 - عبد الرحمن بن مهدي، [ت سنة 198] وغيرهم من أهل العلم والفضل صنفوا فجعل الله في ذلك منعة كثيرة، فنرجو لهم الثواب الجزيل عند الله لما نفع الله به المسلمين فبهم القدوة فيما صنفوا (1) .
ومن جملة المصنفين في علل الحديث:
10 - يحيى بن سعيد القطان [ت سنة 198] فقد ذكر ابن رجب في شرح علل الترمذي أن له كتابا في العلل (2) .
11 - العلل عن سفيان بن عيينة [ت سنة 198] رواية ابن المديني علي
__________
(1) علل الحديث للترمذي المطبوع بآخر سنته 5: 738.
(2) شرح علل الترمذي لابن رجب 533.
(*)
(1/39)
ابن عبد الله عنه (1) .
12 - علل الحديث للحسن بن محبوب بن وهب الشراد البجلي [ت سنة 224] (2) .
13 - العلل المنقولة عن يحيى بن معين (ت سنة 233) (3) .
14 - العلل لابن المديني (ت سنة 234) وذكر الحاكم أن له كتاب علل المسند في ثلاثين جزء 1، وذكر له كتبا أخرى في العلل.
15 - علل ابن المديني التي كتبها اسماعيل القاضي (ت 282) .
16 - كتاب علل حديث ابن عيينة لابن المديني.
17 - العلل المتفرقة لابن المديني (4) .
18 - كتاب العلل لابن المديني برواية أبي الحسن محمد بن أحمد بن البراء (ت سنة 291) (5) .
19 - العلل ومعرفة الرجال للامام أحمد (ت سنة 241) رواية عبد الله ابن أحمد (ت سنة 290) (6) .
20 - سؤالات خطاب بن بشر (ت 264) للامام أحمد (7) .
21 - العلل لاحمد برواية أحمد بن محمد بن الحجاج المروذي (ت سنة
__________
(1) فتح المغيث للسخاوي 2: 334.
(2) فهرست ابن النديم 310 وفتح المغيث 2: 334.
(3) شرح علل الترمذي لابن رجب 533.
(4) معرفة علوم الحديث للحاكم 71 وانظر الجامع للخطيب 2: 360، وشرح الترمذي لابن رجب 186 - 187.
(5) مطبوع بتحقيق الدكتور محمد مصطفى الاعظمي.
(6) وهو هذا الكتاب الذي تقدمه محققا إن شاء الله وقد طبع منه حوالي نصف الكتاب بتحقيق الفاضلين الدكتور طلعت قوج والدكتور إسماعيل جراح أوغلي وطبع بتركيا سنة 1963.
(7) المعجم المفهرس لابن حجر 1: 467 نقلا عن مقدمة علل الدارقطني.
(*)
(1/40)
275) وغيره (1) .
22 - علل الحديث ومسائل أحمد لمحمد بن جعفر بن محمد بن هانئ الاثرم (ت سنة 261) على خلاف (2) .
23 - علل الحديث ومعرفة الشيوخ لابي جعفر محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي (ت سنة 242) (3) .
24 - كتاب العلل لعمرو بن علي الفلاس (ت 249) (4) .
25 - كتاب العلل للامام البخاري محمد بن اسماعيل (ت 256) (5) .
26 - علل الحديث ابن شهاب الزهري لمحمد بن يحيى الذهلي (ت سنة 258) (6) .
27 - كتاب العلل لمسلم بن الحجاج صاحب الصحيح (ت 261) (7) .
28 - المسند المعلل ليعقوب بن شيبة (ت 262) قال فيه الخطيب: لم يتمه وقال الذهبي في التذكرة ما صنف مسند أحسن منه لكنه ما أتمه (8) .
29 - كتاب العلل لابي بشير اسماعيل بن عبد الله بن مسعود الاصبهاني
__________
(1) توجد منه نسخة مصورة في قسم المخطوطات بالجامعة الاسلامية برقم 99.
(2) تاريخ بغداد 5: 110.
(3) تاريخ بغداد 5: 417، التهذيب 9: 265.
(4) التهذيب 8: 81.
(5) فتح المغيث 2: 334.
(6) تذكرة الحفاظ 2: 531 فهرست ابن خير 103.
(7) فتح المغيث 2: 334، الرسالة المتطرفة 147.
(8) تاريخ بغداد 14: 281، علوم الحديث لابن الصلاح 255، تذكرة الحافظ 2: 577 ولم بعثر بتقديم سامي حداد سنة 1359 في المطبعة الامريكية ببيروت.
(*)
(1/41)
(ت 267) (1) .
30 - العلل لابي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي (ت 264) (2) .
31 - العلل الكبير لابي عيسى الترمذي صاحب السنن (ت 279) (3) .
32 - العلل الصغير للترمذي وشرحه ابن رجب (4) .
(33) العلل لابراهيم بن إسحاق الحربي (ت 285) (5) .
34 - المسند الكبير المعلل لابي بكر البزار أحمد بن عمرو بن عبد الخالق (ت سنة 292) (6) .
35 - العلل في الحديث لابي اسحاق ابراهيم بن أبي طالب محمد بن نوح النيسابوري (ت 295) (7) .
36 - علل الحديث لابي يعلي زكريا بن يحيى الساجي (ت سنة 307) (8) .
37 - العلل لابي بكر الخلال أحمد بن محمد بن هارون (ت 311) (9) .
38 - معرفة الرجال وعلل الحديث لعبد الله بن حنين المعروف بابن أخي ربيع الصباغ (ت 318) (10) .
__________
(1) فتح المغيث 2: 334.
(2) موارد الخطيب 322 والظاهر أنه متضمن في كتاب علل ابن أبي حاتم، أنظر شرح علل الترمذي لابن رجب 59.
(3) شرح علل الترمذي لابن رجب 534.
(4) مطبوع بتحقيق الشيخ صبحي السامرائي.
(5) التهذيب 7: 207، 11، 193.
(6) له ذكر كثير، الخطيب في تاريخ 4: 334 وتوجد بعض الاجزاء من الكتاب ويقدمه أخونا الفاضل الدكتور محفوظ الرحمن بتحقيقة أنظر مقدمة علل الدارقطني له.
(7) تذكرة الحفاظ 2: 648، ايضاح المكنون 2: 314.
(8) تذكرة الحفاظ 2: 709 - 710.
(9) تذكرة الحفاظ 3: 785 طبقات الحنابلة 2: 12، الرسالة المستطرفة 148.
(10) مقدمة علل الدارقطني.
(*)
(1/42)
39 - علل الحديث لابن أبي حاتم عبد الرحمن (ت 327) (1) .
40 - كتاب العلل لابي علل حسين بن علي النيسابوري (ت 349) (2) .
41 - علل حديث الزهري لابي حاتم محمد بن حبان البستي (ت 354) (3) .
42 - علل حديث مالك لابن حبان في عشرة أجزاء (3) .
(43) علل ما استند إليه أبو حنيفة في عشرة أجزاء (3) .
44 - المسند الكبير المعلل لابي علي الحسين بن محمد الماسرجسي (ت 365) (4) .
45 - كتاب العلل لابي الحسين محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي (ت 368) (5) .
46 - العلل لابي أحمد محمد بن محمد بن أحمد الحاكم (ت 378) (6) .
47 - العلل للدارقطني أبي الحسن علي بن عمر (ت سنة 385) (7) .
48 - العلل لابي علي حسن بن محمد الزجاجي (ت في حدود 400) (8) .
49 - العلل لابي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري (ت 405) (9) .
__________
(1) مطبوع ومصور.
(2) فتح المغيث 2: 334 الرسالة المستطرفة 111.
(3) الجامع لاخلاق الراوي 2: 361 نقلا عن مقدمة علل الدارقطني.
(4) فتح المغيث 2: 342 قال: إنه في ألف وثلاثمائة جزء.
(5) تذكرة الحفاظ 3: 944.
(6) تذكرة الحفاظ 3: 977.
(7) حقق وطبع بعض أجزائه بتحقيق الدكتور محفوظ الرحمن.
(8) الرسالة المستطرفة 148، مقدمة علل الترمذي بشرح ابن رجب 20.
(9) الرسالة المستطرفة 111، وتذكرة الحفاظ 3: 1043.
(*)
(1/43)
50 - علة الحديث المسلسل في يوم العيد لابي محمد عبد الله بن يوسف الجرجاني (ت 489) (1) .
51 - المعتل من الحديث لعبد الحق بن عبد الرحمن الاشبيلي (ت 582) (2) .
52 - العلل المتناهية لابي الفرح عبد الرحمن بن علي الجوزي (ت سنة 597) (3) .
53 - العلل لشمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي (ت 744) (4) .
54 - تلخيص العلل المتناهية للذهبي محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748) (5) .
55 - الزهر المطول في الخبر المعلول لابن حجر العسقلاني (ت 852) (6) .
56 - شفاء الغلل في بيان العلل لابن حجر (7) .
هذه بعض المؤلفات التي عثر عليها في موضوع علل الحديث ويوجد الكلام على علل الاحاديث في عامة كتب الرجال والتخريجات وشروح الحديث.
وهي في الحقيقة مأخوذة من هذه الكتب التي ألفت في هذا الشأن خاصة.
__________
(1) مخطوطات الظاهرية الحديث للالياني 246، نقلا عن مقدمة علل الدارقطني.
(2) مقدمة علل الدارقطني.
(3) مطبوع في إدارة العلوم الاشربة بفيصل آباد باكستان.
(4) فتح المغيث 2: 334.
(5) وقد حققه الاخ محفوظ الرحمن لنيل درجة الماجستير في الجامعة الاسلامية.
(6) تدريب الراوي 1: 258.
(7) شذرات الذهب 7: 272.
(*)
(1/44)
ترجمة الامام أحمد بن محمد بن حنبل (*)
نسبه: هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله ابن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن ادد بن الهميسع بن حمل بن النبت بن قيذار بن اسماعيل بن الخليل ابراهيم عليه السلام.
ولادته: قال صالح بن أحمد بن قال لي أبي: ولدت سنة أربع وستين ومائة
__________
(*) مصادر ترجمته: رسالته صالح بن أحمد المطبوع مع كتاب أحمد بن حنبل لاحمد عبد الجواد الرومي.
طبقات ابن سعد 7: 354، التاريخ الكبير 1 / 2: 5 التاريخ الصغير 2: 375، تاريخ الفسوي 1: 212 تقدمه الحرج 292، و 1 / 2: 60، حب الاوليا 9: 161 كتاب المحن لابي العرب، الفهرست لابن النديم 285 تاريخ بغداد 4: 412، طبقات الحنابلة
1 / 4، شرح علل ابن رجب 181، تهذيب الاسماء واللغات 1: 110، وفيات الاعيان 1: 63، تهذيب الكمال 1: 36 المطبوع على الاصل.
تذكرة الحفاظ 2: 431، سير أعلام النبلاء 11: 177 الواخ بالوفيات 6: 363، طبقات الشافعية للسبكي 2: 27 كتاب المناقب للامام أحمد لابن الجوزي، البداية والنهاية 10: 325 غاية النهاية للجزري 1: 112، النجوم الزاهرة 2: 304 شذرات الذهب 2: 96، المنهج الاحمد 1: 7، تاريخ الاسلام للذهبي في مقدمة مسند أحمد تحقيق أحمد شاكر.
المصعد الاحمد لابن الجزري تهذيب التهذيب 1: 72.
(*)
(1/45)
(164) في أولها في ربيع الاول.
وجئ بي حملا من مرو، وتوفي أبي محمد ابن حنبل وله ثلاثون سنة فوليتني أمي.
ومثله قول يعقوب الدورقي: سمعت أحمد يقول: ولدت في شهر ربيع الاول سنة أربع وستين ومائة.
وقال عبد الله بن أحمد وأحمد بن أبي خثيمة: ولد في ربيع الاخر.
أبوه: محمد بن حنبل كان أحد قادة الجيش في مرو ومات بعد مقدمه إلى بغداد بنحو من ثلاث سنين من ولادة أحمد.
جده: وجده حنبل بن هلال، كان من أبناء الدعوة وكان واليا على مرو (سرخس) من قبل الخليفة العباسي المهدي بن منصور فكان يقيم أبو أحمد هناك.
أمه: أمه صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك الشيباني من بني عامر، كان
أبوه نزل بهم فتزوج بها.
وكان جدها من قبل أمها عبد الملك بن سوادة بن هند الشيباني من وجوه بني شيبان.
نشأته: لما مات أبوه وأحمد صغير، تولته أمه وربته تربية حسنة يحب جم وعطف بالغ.
(1/46)
قال صالح بن أحمد: قال أبي: وكان قد ثقبت أذني.
فكانت أمي رحمة الله عليها تصير فيهما حبتين من لؤلؤ.
فلما ترعرعت، نزعتهما، فدفعتهما إلى فبعتهما بنحو من ثلاثين درهما.
وكانت ترسله في الكتاب.
وكانت آثار النجابة والفضل والصلاح تبدو منه من صغره.
روى ابن الجوزي باسناده عن أبي عفيف قال: كان أحمد في الكتاب معنا وهو غليم نعرف فضله، وكان الخليفة بالرقة فيكتب الناس إلى منازلهم، فيبعث نساءهم إلى العلم: ابعث إلينا بأحمد بن حنبل، ليكتب لهم جواب كتبهم، فربما أملوا عليه الشئ من المنكر.
فلا يكتبه لهم.
وقال أبو سراج بن خزيمة: فكان إذا دخل إليهم لا يرفع رأسه ينظر إليهم، فقال أبي وذكره، فجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته.
وقال: أنا أنفق على ولدي واجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا فما أراهم يفلحون وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم أنظر كيف يخرج وجعل يعجب.
طلبه العلم ورحلته فيه:
الرحلة في طلب الحديث لها شأن عظيم، وما كان الاولون يتحملون مشاق الغربة والسفر إلا ليجمعوا العلم من العلماء والمشايخ الذين تفرقوا في المدن والعواصم الاسلامية.
وقد ضرب فيها أئمة الحديث أمثلة رائعة لم يوجد لها نظير في طائفة من الطوائف ولا في أمة من الامم.
وهذا أمر لا يحتاج إلى الاستدلال ولا ضرب الامثال.
ابتدأ الامام أحمد في طلب الحديث من شيوخ بغداد يقول: أول من كتبت عنه الحديث، أبو يوسف.
(1/47)
وقال: طلبت الحديث وأنا ابن ست عشرة سنة، ومات هشيم وأنا ابن عشرين سنة، وأؤل سماعي من هشيم سنة تسع وتسعين ومائة.
ثم رحل إلى الكوفة، والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام، والجزيرة وكتب عن علماء كل بلد.
وقد روى في المسند عن مثنين وثمانين ونيف من المشايخ.
يقول: أول خرجة خرجتها إلى البصرة سنة 186 وهي الاولى والثانية سنة 190، ودخلت الثالثة في سنة 194 وقد مات غندر ودخلت سنة 200.
قال صالح لابيه: أي سنة خرجت إلى سفيان بن عيينة؟ قال: في سنة 187.
قد مناها يعني مكة وقد مات فضيل بن عياض وهي: أول سنة حججت، وسنة احدى وتسعين حج الوليد بن مسلم وفي سنة ست وتسعين، وأقمت سنة سبع وتسعين وخرجت سنة ثمان وتسعين، وأقمت سنة تسع وتسعين عند عبد الرزاق وجاءنا موت سفيان ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي سنة ثمان وتسعين يعني ومائة.
وقال عبد الله بن أحمد: خرج أبي إلى طوس ماشيا وخرج إلى اليمن ماشيا، وقال أبي: ما كتبنا عن عبد الرزاق من حفظه شيئا إلا المجلس الاول وذلك أنا دخلنا بالليل فوجدناه في موضع جالسا، فأملى علينا سبعين حديثا، ثم التفت إلى القوم فقال: لولا هذا ما حدثتكم يعني أبي.
وربما كانت تمنعه قلة ذات اليد، ويصده ضيق المعيشة عن الرحلات مع رغبته الشديدة فيها.
قال رحمه الله: ولو كان عندي خمسون درهما كنت خرجت إلى جرير
(1/48)
ابن عبد الحميد إلى الري، فخرج بعض أصحابنا.
ولم يمكنني الخروج لانه لم يكن عندي.
وقال: لو كانت عندي نفقة لرحلت إلى يحيى بن يحيى يعني الاندلسي، بالاندلس.
كما خرج الامام إلى عبادان سنة ست وثمانين وخرج إلى واسط وأقام على يزيد بن هارون.
وحصلت له بهذه الرحلات الكثيرة: ذخيرة كبيرة ومجموعة كثيرة من الاحاديث والاثار.
قال عبد الله بن أحمد قال لي أبو زرعة: أبوك يحفظ ألف ألف حديث.
فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الابواب.
ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء، ثم قال: فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر والاثر وفتوى التابعي وما فسر، وإلا فالمتون المرفوعات القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك.
وذكر الذهبي أيضا عن أبي زرعة قال:
حزرت كتب أحمد يوم مات، فبلغت اثني عشر حملا وعدلا ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان، ولا في بطنه حدثنا فلان، كل ذلك كان يحفظه عن ظهر قلب.
وقد لقي الامام في رحلته عناء كثيرا.
فلم تكن الطرق معبدة ولا المراكب مهيأة، وإن كانت، فخلو اليد من الدراهم يحول دون الركوب على الرواحل والمراكب.
ثم إنه طبع على عزة النفس فكان لا يقبل من أحد هبة ولا عطية
(1/49)
ويرتفع عن الجوائز والاعطيات ويرضى لنفسه بالكسب الحلال بعرق الجبين فكان يكرى نفسه مع الجمالين.
روى أبو نعيم في الحلية عن اسحاق بن راهويه يقول: لما خرج أحمد ابن حنبل إلى عبد الرزاق، انقطعت به النفقة فأكرى نفسه من الجمالين إلى أن وافى صنعاء، وقد كان أصحابه عرضوا عليه المؤاساة، فلم يقبل من أحد شيئا.
وباسناده عن عبد بن حميد يقول: سمعت عبد الرزاق يقول: قدم علينا أحمد بن حنبل ههنا، فقام سنتين إلا شيئا، فقلت له: يا أبا عبد الله.
خذ هذا الشئ فانتفع به فإن أرضنا ليست بأرض متجر ولا مكست.
وأرانا عبد الرزاق كفه ومدها فيها دنانير.
قال أحمد: أنا بخير، ولم يقبل مني.
وروى عن أحمد بن سليمان الواسطي أنه قال: بلغني أن أحمد بن حنبل، رهن نعله عند خباز على طعام، أخذه منه عند خروجه من اليمن، وأكرى نفسه من ناس، من الجمالين عند خروجه من اليمن، وعرض عليه
عبد الرزاق دراهم صالحة، فلم يقبلها منه.
وروى أيضا عن علي بن الجهم بن بدر قال: كان لنا جار فأخرج إلينا كتابا، فقال: اتعرفون، هذا الخط؟.
قلنا: نعم، هذا خط أحمد بن حنبل، فقلنا له: كيف كتب ذلك؟، قال: كنا بمكة مقيمين عند سفيان ابن عيينة، فقصدنا أحمد بن حنبل أياما فلم نره، ثم جئنا إليه، لنسأل عنه، فقال لنا أهل الدار التي هو فيها، هو في ذلك البيت، فجئنا إليه والباب مردود عليه، وإذا عليه خلقان فقلنا له، يا أبا عبد الله، ما خبرك؟ لم نرك منذ أيام، فقال: سرقت ثيابي، فقلت له: معي دنانير،
(1/50)
فإن شئت خذ قرضا، وإن شئت صلة، فأبى أن يفعل، فقلت: تكتب لي بأخذه؟ قال: نعم، فأخرجت دينار فأبى أن يأخذه، وقال: اشتر لي ثوبا واقطعه بنصفين، فأومى أنه يأتزر بنصف، ويرتدي بالنصف الاخر، وقال: جئني ببقيته، ففعلت وجئت بورق وكاغذ فكتب لي فهذا خطه.
وذكر ابن الجوزي عن صالح أنه سمع أباه يقول: خرجت إلى الكوفة فكنت أبيت وتحت رأسي لبنة، فحممت، فرجعت إلى أمي ولم أكن استأدنتها.
وبهذه النفس الابية وبكد العيش وضنك المعيشة متوكلا على الله خرج في سبيله يجوب البراري، والقفاء يفترش الارض الجرداء ويرتدي برداء السماء يتوسد باللبن والاحجار، يلتقي المشايخ ويتلقى منهم الحديث، حتى صار إماما يقتدى به، وحجة يشار إليه بالبنان، ويرجل إليه للاخذ والسماع.
تصدره للتحديث والفتوى:
حرث عادة أغلب المحدثين رحمة الله عليهم أن لا يجلس الواحد منهم إلا بعد ادراك الفكر ونضوج الرأي واكتمال القوة العقلية.
قال ابن خلاد الرامهرمزي في المحدث الفاصل وعنه الخطيب في الجامع لاخلاق الراوي وآداب السامع: " الذي يصح عندي من طريق الاثر والنظر في الحد الذي إذا بلغه الناقل حسن به أن يحث هو أن يستوفى الخمسين، لانها انتهاء الكهولة، وفيها مجتمع الاثر ... وليس بمستنكر أن يحدث عند استيفاء الاربعين، لانها حد الاستواء ومنتهى الكمال.
نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين
(1/51)
سنة وفي الاربعين تتناهى عزيمة الانسان، وقوته، ويتوفر عقله، ويجود رأيه.
اهـ.
ويبدو أن الامام أحمد لم يتصدر للتحديث والفتوى إلا بعد الاربعين، وقبله كان متفرغا للطلب والاخذ والجمع مشغولا بالرحلات الكثيرة للقي المشايخ.
ذكر ابن الجوزي عن الحجاج بن الشاعر، أنه جاء إلى أحمد بن حنبل، فسأله أن يحدثه في سنة 203 (يعني وعمره كان آنذاك 39 سنة) فأبى أن يحدثه.
فخرج إلى عبد الرزاق، ثم رجع في سنة أربع يعني ومائتين، وقد حدث أحمد، واستوى الناس عليه، وكان له في هذا اليوم أربعون سنة.
ثناء الائمة عليه: فلما جلس للتحديث ضربت إليه أكباد الابل وشدت إليه الرحال من كل صوب للنهل من معينه الثر.
وذاع في الاقطار الاسلامية المترامية
الاطراق صيته، وظهر علمه وفضله على الناس من اخوانه وأصحابه حتى اعترف بفضله شيوخه، وأثنوا عليه ثناء يستحقه هذا الامام الزاهد المجاهد العابد، الفقيه.
قال الشافعي رحمه الله: رأيت ببغداد ثلاث أعجوبات رأيت بها نبطيا يتنحى علي حتى كأنه عربي وكأنه نبطي، ورأيت أعرابيا يلحن حتى كأنه نبطي، ورأيت شابا وخطه الشيب فإذا قال: حدثنا قال الناس كلهم: صدق.
قال المزني: فسألته، فقال: الاول، الزعفراني والثاني، أبو ثور الكلبي، وكان لحانا، وأما الشاب فأحمد بن حنبل.
(1/52)
وقال الشافعي أيضا: ما رأيت رجلين أعقل من أحمد بن حنبل وسليمان بن داود.
وقال ابن أبي أويس وقال عنده بعض أصحاب الحديث: ذهب أصحاب الحديث.
فقال ابن أبي أويس: أبقى الله أحمد بن حنبل فلم يذهب أصحاب الحديث.
وقال علي بن المديني: أحمد بن حنبل سيدنا، وكان يجلة ويكرمه كثيرا، وهو هو في علم الحديث: حتى قال فيه البخاري: ما استصغرت نفسي إلا عند علي بن المديني.
وكان يقول ابن المديني أيضا: إن سيدي أحمد بن حنبل أمرني ألا أحدث إلا من كتاب.
وقال أيضا: أحمد بن حنبل عندي أفضل من سعيد بن جبير في زمانه، لان سعيدا كان له نظراء، وإن هذا ليس له نظير.
وكان يقول: ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل وبلغني أنه، لا يحدث إلا من كتاب ولنا فيه أسوة.
وقال أيضا: إن الله عز وجل أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث، أبو بكر الصديق يوم الردة وأحمد بن حنبل يوم المحنة وقد كان لابي بكر أصحاب وأعوان.
وأحمد ليس له أعوان ولا أصحاب.
وقال أبو عبد السلام بن سلام: انتهى العلم إلى أربعة إلى أحمد بن حنبل وهو أفقههم وإلى ابن أبي شيبة، وهو أحفظهم له، وإلى علي بن المديني.
وهو أعلمهم به وإلى يحيى بن معين وهو أكتبهم له.
وقال يحيى بن معين: ثقات الناس، أو أصحاب الحديث أربعة:
(1/53)
وكيع ويعلى بن عبيد والقعنبي وأحمد بن حنبل.
وقال النسائي: كان أحمد بن حنبل بالذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: كائن في أمتي ما كان في بني اسرائيل، حتى إن المنشار ليوضع على مفرق رأسه.
ما يصرفه ذلك عن دينه ولولا أحمد بن حنبل قام بهذا الشأن، لكان عارا علينا إلى يوم القيامة.
وقال أيضا: لم يكن في عصر أحمد بن حنبل مثل هؤلاء الاربعة علي ابن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه واعلم هؤلاء الاربعة بالحديث وعلله علي بن المديني وأعلمهم بالرجال وأكثر حديثا يحيى بن معين، وأحفظهم للحديث والفقه اسحاق بن راهويه، إلا أن أحمد بن حنبل كان عندي أعلم بعلل الحديث من اسحاق، وجمع أحمد المعرفة بالحديث والفقه والورع والزهد والصبر.
وسئل أبو زرعة عن علي بن المديني ويحيى بن معين أيهما كان أحفظ؟
قال: كان علي أسرد وأتقن ويحيى أفهم، بصحيح الحديث وسقيمه وأجمعهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل، كان صاحب حفظ وصاحب فقه، وصاحب معرفة، قال: وما أعلم في أصحابنا أفقه من أحمد، قيل له: اختيار أحمد واسحاق أحب إليك أم قول الشافعي؟ قال: بل اختيار أحمد واسحاق أحب إلي، وقال: ما رأت عيناي مثل أحمد بن حنبل في العلم والزهد والفقه والمعرفة وكل خير.
وانظر مزيدا من ثناء الائمة أقران أحمد ومن بعده من أتباعه فيما ذكر ابن الجوزي في مناقبه في الباب الرابع عشر يدل لك على عظمة هذا الامام وحب الناس له.
(1/54)
قال ابن رجب في شرح علل الترمذي: وممن أفرد التصنيف لمناقبه ابن أبي حاتم وابن شاهين والبيهقي، وأبو اسماعيل الانصاري ويحيى بن مندة وابن الجوزي، وقد أفردت مصنفا لمناقبه.
* ميزة الامام أحمد من بين أقرانه: إن الناظر في شخصية الامام تظهر له ميزة فاضلة وفضيلة متميزة من بين أقرانه ومعاصريه.
وهي أنه جمع بن التلقي والتحديث والرواية والدراية.
والكلام في علل الحديث ومعرفة الرجال، والكلام في الفقه والمسائل.
وقد خلد الله منه هذه الاثار كلها فصار بحق إماما يقتدى به، في حين أننا نجد من أقرانه من كان يجمع علوما مختلفة ولكن لم يقدر الله أن تنقل عنه هذه العلوم المختلفة فنجده قد خصص نفسه لجانب ولم يتفرغ للجوانب الاخرى.
فانظر في ترجمة يحيى بن معين رفيق عمر الامام أحمد تجد مصداق ذلك.
يقول أحمد بن عقبة: سألت يحيى بن معين: كم كتبت من الحديث يا أبا زكريا، قال: كتبت بيدي هذه ستمائة ألف حديث.
قال أحمد بن عقبة: وإني أظن أن المحدثين قد كتبوا له بأيديهم ستمائة ألف وستمائة ألف (1) .
وقال محمد بن نصر الطبري: سمعت يحيى بن معين يقول: قد كتبت بيدي ألف ألف حديث (2) .
__________
(1) تاريخ بغداد 14: 182.
(2) تذكرة الحفاظ 1: 430.
(*)
(1/55)
وكان يحب الاكثار من كتابة الحديث ويقول: أشتهي أن أقع على شيخ عنده بيت ملئ كتبا أكتب عنه وحدي (1) .
وقال فيه الامام أحمد: كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس هو بحديث وفي رواية فليس هو ثابتا.
وقال علي بن المديني: ما نعلم أحدا من لدن آدم (!) كتب من الحديث ما كتبه يحيى بن معين (2) .
ومع هذه الذخيرة الكبيرة عنده في الحديث كان يتقلل من الرواية والتحديث، ولم يكن يعقد الحلقات المعروفة لدى أقرانه من المحدثين للامام والرواية، والظاهر أنه خصص نفسه لنوع خاص من علم الحديث وهو نقد الروايات والجرح والتعديل.
فنجد له مجموعة كبيرة في هذا
الجانب، كما نجد نقولا كثيرة عنه في كتب الرجال.
ومما يؤيد ذلك أن أبا داؤد وهو أحد الرواة الذين دونوا عنه مادة النقد ولازموه، لم يخرج له في كتاب السنن إلا خمسة وعشرين حديثا فقط على سعة كتابه، واستيعابه قدرا كبيرا من أحاديث الاحكام، في حين أن كتابه ملئ بالرواية عن أحمد ومسدد وغيرهما ممن هو مثله أو دونه في جمع الروايات (3) .
وكذلك الامام العجلي، أبو الحسن، أحمد بن عبد الله بن صالح (182 - 261) كان كثير التلقي كبير الحفظ، وقد أخذ من أكثر أئمة عصره
__________
(1) أنظر مقدمة تاريخ يحيى بن معين ص 55.
(2) تاريخ بغداد 14: 80، 82.
(3) أنظر مقدمة تاريخ يحيى بن معين 62.
(*)
(1/56)
في كل المراكز العلمية المعروفة في ذلك العصر مثل الكوفة، والبصرة وبغداد والشام والحجاز ومصر كما يظهر من رحلاته الكثيرة وشيوخه الكثيرين حتى إنه في سفرة واحدة إلى البصرة كتب سبعين ألف حديث عدا حديث حماد بن سلمة والقعنبي حتى كن الدوري بالغ فيه مبالغة نادرة وقال: إنه يعد من أمثال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين.
ومع ذلك لا نكاد نجد له رواية في كتب الحديث المعروفة حتى قال الذهبي: ما أظنه، روى شيئا سوى حكايات (1) .
وصف الامام أحمد وهيئته: روى الخطيب باسناده عن محمد بن العباس بن الوليد النحوي قال: رأيت أحمد بن حنبل رجلا حسن الوجه، ربعة من الرجال يخضب بالحناء
خضابا، ليس بالقاني في لحيته شعرات سود، ورأيت ثيابه غلاظا إلا أنها بيض، ورأيته معتما عليه ازاره.
وذكره ابن الجوزي وغيره عن ابن جعفر بن ذريح العكبري: طلبت أحمد بن حنبل لاساله عن مسألة، فسلمت عليه، وكان شيخا مخضوبا، طوالا أسمر، شديد السمرة.
وذكر ابن أبي حاتم عن عبد الملك الميموني يقول: ما أعلم أني رأيت أحدا أنظف ثوبا، ولا أشد تعاهدا لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أتقى ثوبا وشدة بياض من أحمد بن حنبل.
وقال أبو بكر المروذي: رأيت أبا عبد الله إذا كان في البيت كان عامة جلوسه متربعا خاشعا، فإذا كان برا (يعني خارجا) لم يكن يتبين منه
__________
(1) تذكرة الحفاظ 2: 561، وانظر مقدمة ثقات العجلي للاستاذ عبد العليم ص 54.
(*)
(1/57)
شدة خشوع كما كان داخلا، وكنت أدخل عليه، والجزء في يده يقرأ، فإذا قعدت أطبقه ووضعه بين يديه.
وكان الناس يحضرون مجلسه ليتعلموا منه حسن الادب.
قال الحسن بن اسماعيل: سمعت أبي يقول: كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء على خمسة آلاف أو يزيدون أقل من خمسمائة يكتبون والباقون يتعلمون منه حسن الادب وحسن السمت.
لباسه: قال الميموني: كانت ثياب أحمد بن حنبل بين الثوبين تساوي ملحفته خمسة عشر درهما.
وكان ثوبا يؤخذ بالدينار ونحوه لم تكن له رقة تنكر ولا غلظ ينكر، وكانت ملحفته مهدبة.
وقال الفضل بن زياد: رأيت على أبي عبد الله في الشتاء قميصين وجبة
ملونة بينهما وربما ليس قميصا وفروا ثقيلا وربما رأيت عليه في البرد الشديد الفرو، فوق الجبة ورأيت عليه عمامة فوق القلنسوة وكساء ثقيلا.
وقال جعفر بن محمد بن المغيرة: رأيت على أبي عبد الله في الصيف قميصا وسراويل ورداء وربما لبس قيمصا ورداء واتشح بالرداء، وكان كثيرا ما يتشح فوق القميص.
وقال صالح بن أحمد: كانت لابي قلنسوة وقد خاطها بيده فيها قطن، فإذا قام من الليل لبسها: وقال حميد بن زنجويه: رأيت على أحمد بن حنبل جبة خضراء فيها رقعة بيضاء من صوف.
(1/58)
وقال حمدان بن علي: رأيت على أبي عبد الله جبة وعليها رقعة بغير لونها.
وقال المروذي أراد أبو عبد الله أن يرقع قميصه فلم يكن عنده رقعة، فقال: أرقعه من ازاري، فقطعناه من ازاره فرقعناه ولقد احتاج غير مرة إلى خرق فكان يقطع من ازاره، وأعطاني خفا له لارمة قد لبسه سبع عشرة سنة، فإذا فيه خمسة مواضع أو ستة مواضع الخرز فيه من برا.
وهكذا كان لباسه ونعله رحمه الله، وإذا قارنا هذه الحالة بمعيشته واسباب رزقه فلا نستبعدها فقد كان رحمه الله زاهدا من كبار الزهاد في الدنيا قانعا بالقليل من الكفاف الذي يأتيه من غلة أرضه وبما يأتي من كسب يده وعياله، متعفنا عن قبول الجوائز والهدايا.
زهده وتعففه: إن زهد أحمد شئ معروف وقد رأينا في نمط عيشه وليله ونهاره، كيف
كان يعيش زاهدا بعيدا عن الترف والترفه، ونحن نعتقد أنه لو أراد الدنيا لجاءت إليه تجر أذيالها بالمناصب والولايات، فجده كانت له مكانة مرموقة، وأبوه أيضا كان كذلك في خدمة الدولة الاسلامية العباسية، ثم هو قد بلغ الغاية في العلم والفضل والامامة له أتباع من الامراء والعامة يفدونه بأرواحهم فضلا عن أموالهم ويرون شرفا لهم أن يقبل منهم الهدايا، ولكن الامام لم تمد عينه إلى الدنيا وزخارفها.
ولم يقبل الولايات والمناصب وآثر الخمول لنفسه واختار التواضع والقناعة بما يسد به حاجته في أدنى درجات المعيشة.
ذكر ابن الجوزي عن الشافعي قوله: لما دخلت على هارون الرشيد قلت له بعد المخاطبة: إني خلفت اليمن
(1/59)
ضائعة تحتاج إلى حاكم، فقال: انظر رجلا ممن يجلس إليك حتى توليه قضاءها، فلما رجع الشافعي إلى مجلسه، رأى أحمد بن حنبل من أمثلهم أقبل عليه، فقال: إني كلمت أمير المؤمنين أن يولي قاضيا بالمين وأنه أمرني أن أختار رجلا ممن يختلف إلي وإني قد اخترتك فتهيأ حتى أدخلك على أمير المؤمنين يوليك قضاء اليمن.
فأقبل إليه أحمد وقال: إنما جئت إليك لاقتبس منك العلم تأمرني أن أدخل لهم في القضاء ووبخه فاستحى الشافعي.
وروى ابن أبي حاتم عن صالح بن أحمد قال: دخلت يوما على أبي رحمه الله أيام الواثق، والله أعلم على أي حالة نحن.
وقد خرج لصلاة العصر، وكان له لبد يجلس عليه وقد أتى عليه سنون كثيرة حتى قد بلي وإذا تحته كاغذ وإذا فيه:
بلغني يا أبا عبد الله ما أنت فيه من الضيق وما عليك من الدين وقد وجهت إليك بأربعة آلاف درهم على يدي فلان لتقضي به دينك وتوسع على عيالك، وما هي من صدقة ولا زكاة، وإنما هو شئ ورثته عن أبي، فقرأت الكتاب ووضعته، فلما دخلت قلت: يا أبة ما هذا الكتاب؟ فاحمر وجهه، وقال: رفعته منك ثم قال: تذهب بجوابه، فكتب إلى الرجل: وصل كتابك إلي، ونحن في عافية، فأما الدين فإنه لرجل لا يرهقنا، وأما عيالنا، فهم في نعمة والحمد لله، فذهبت بالكتاب إلى الرجل الذي كان أوصل كتاب الرجل، فلما كان بعد حين ورد عليه كتاب الرجل بمثل ذلك فرد عليه الجواب بمثل ما ورد فلما مضت سنة أقل أو أكثر ذكرناها، فقال: لو كنا قبلناها كانت قد قد ذهبت.
اهـ.
(1/60)
وأرسل له محمد بن سليمان السرخسي عشرة آلاف درهم فقال أحمد لرسول محمد السرخسي: جزاه الله خيرا نحن في غنى وسعة وأبي أن يأخذها، فراجعه فقال: دعنا نكن أعزاء.
معيشة الامام أحمد: إن طلب العلم والفقه كاد أن يكون متلازما للفقر، فبقدر ما يصرف المرء همه وهمته في الطلب والتحصيل ينقص حظه من الدنيا إلا أن يكون له مورد غير الكسب الخاص وإذا زاد على ذلك زهد الطبع والقناعة البالغة فلا تسأل عن ضيق معيشته وإن الطالب المثالي لهذه الامة وفقيه الصحابة، أبا هريرة رضي الله عنه يروي لنا من حاله في الطلب ثم فقره وعوزه، فيما أخرجه البخاري في صحيحه من كتاب العلم قال باسناده:
قال أبو هريرة رضي الله عنه، إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آتيان في كتاب الله ما حدثت حديثا.
ثم يتلو " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات إلى قوله الرحيم ".
إن اخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالاسواق وإن إخواننا من الانصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون.
وكان الامام أحمد من أولئك المخلصين للطلب والتحصيل، ولم يتفرغ لتجارة ولا لعمل خاص مستمر، وانما اقتنع باليسير مما كان يأتيه من كراء دار له ومن عمله بيده أو بيد أهله.
ذكر ابن الجوزي في المناقب:
(1/61)
كان أحمد رضي الله عنه خلف له أبوه طرز (أي حوانيت للحياكة، تحاك فيها الثياب) ودارا يسكنها وكان يكري تلك الطرز ويتعفف بكرائها عن الناس.
ويبدو أنه كان يكري جزء من الدار أيضا، وإن أجرة هذه الطرز والدار لم تكن كافية لسد حاجته.
كما يظهر مما ذكر محمد بن يونس البلدي قال: كنت جالسا مع أبي عبد الله فجاءه بعض سكانه بدرهم ونصف، فلما وقع في يده تركني، وقام فدخل إلى منزله، ورأيت السرور في وجهه، فظننت أنه كان قد أعدة لحاجة مهمة.
ولما لم تكن هذه الغلة كافية لنفقته كان يخرج إلى اللقاط.
قال أبو جعفر الطرسوسي حدثني الذي نزل عليه أبو عبد الله قال لما نزل علي خرج في اللقاط، فجاء وقد لقط شيئا يسيرا، فقلت له: قد أكلت أكثر مما قد لقطت، فقال: رأيت أمرا استحييت منه رأيتهم
يلقطون، فيقوم الرجل على أربع، وكنت أنحف إذا لقطت.
وقال أبو بكر المروذي.
قال لي أبو عبد الله: خرجت إلى الثغر على قدمي، فالتقطنا، وقد رأيت قوما يفسدون مزارع الناس، لا ينبغي لاحد أن يدخل مزرعة رجل إلا بإذنه.
وقال اسحاق بن راهويه: كنت أنا وأحمد باليمن عند عبد الرزاق وكنت أنا فوق الغرفة، وهو أسفل.
وكنت إذا جئت إلى موضع، اشتريت جارية، قال: فاطلعت على أن نفقته فنيت، فعرضت عليه.
فامتنع.
فقلت: إن شئت قرضا وإن شئت صلة، فأبى، فنظرت فإذا هو ينسج التكك، ويبيع وينفق.
وقد تقدم أنه احتاج في بعض أيامه فأكرى نفسه من الحمالين.
وربما احتاج وأعوزه الفقر.
فكان ينسخ الكتب للناس بأجرة فقد سبق أن ذكر
(1/62)
ما روى أبو نعيم في الحلية عن علي بن الجهم قال: كان جار فأخرج إلينا كتابا فقال: أتعرفون هذا الخط؟، قلنا: نعم، هذا خط أحمد بن حنبل، فقلنا له: كيف كتب ذلك؟ قال: كنا بمكة مقيمين عند سفيان بن عيينة، فقصدنا أحمد بن حنبل أياما فلم نره، ثم جئنا إليه، لنسأل عنه.
فقال لنا أهل الدار التي هو فيها: هو في ذلك البيت، فجئنا إليه، والباب مردود عليه، وإذا عليه خلقان، فقلنا له: يا أبا عبد الله، ما خبرك؟ لم نرك منذ أيام، فقال: سرقت ثيابي، فقلت له: معي دنانير، فإن شئت خذ قرضا وإن شئت صلة فأبى أن يفعل.
فقلت: تكتب لي بأخذه (كذا في الكتاب والذي يبدو أن الصواب بأجرة) قال: نعم، فأخرجت دينارا فأبى أن يأخذه.
وقال: اشتر لي ثوبا واقطعه بنصفين فأومى أنه يأتزر بنصف
ويرتدي بالنصف الاخر، وقال: جئني ببقيته، ففعلت، وجئت بورق وكاغذ، فكتب لي فهذا خطه.
وكان هناك لمعيشة الامام مصدر آخر ضعيف أيضا في بعض الاحيان، وكان يكون قوته وقوت عياله.
فقد كانت زوجته أم صالح تغزل في البيت.
روى ابن أبي حاتم عن صالح بن أحمد قال: قال أبي: إن كانت والدتك في الغلاء تغزل غزلا دقيقا، فتبيع الاستار بدرهمين أقل أو أكثر فكان ذلك قوتنا.
وهذا الدخل المحدود وهو أيضا غير مستقر، يصور لنا مستوى معيشة الامام وأهله في المأكل والملبس، وقد رأينا في صفته وهيئته كيف كان لباسه.
وأما من حيث المأكل فقد روى لنا صالح ابن الامام فيما روى عنه
(1/63)
ابن أبي حاتم قال: ربما رأيت أبي رحمه الله يأخذ الكسر فينفض الغبار عنها ثم يصيرها في قصعة، ويصب عليها ماءا حتى تبتل ثم يأكلها بالملح ما رأيت أبي قط اشترى رمانا ولا سفرجلا وشيئا من الفاكهة إلا أن يكون يشتري بطيخة فيأكلها بخبز أو عنبا أو تمرا، فأما غير ذلك فما رأيته اشتراه.
وقال أيضا: كان ربما خبز له فيجعل في فخارة عدسا وشحما وتمرات شهرين.
فيجئ إلى الصبيان بقصعة.
فيصوت ببعضهم.
فيدفعه إليهم فيضحكون، ويأكلون وكثيرا ما يأتدم بالخل.
ووجد الامام مرة بردا في أطرافه.
فقال ما أراه إلا من إدامي أكل
الخل والملح.
كرم الامام وجوده مع ضيق الحال: روى ابن الجوزي في المناقب عن أبي بكر المروذي قال: كان أبو عبد الله ربما وأسى من قوته، وجاء أبو سعيد الضرير فشكى فقال له: يا أبا سعيد ما عندنا إلا هذا الجذع، فجئ بحمال يحمله قال: فأخذت الجذع فبعته بتسعة دراهم ودانقين.
وعن يحيى بن هلال الورق قال: جئت إلى محمد بن عبد الله بن نمير فشكوت إليه، فأخرج إلى أربعة دراهم أو خمسة دراهم وقال: هذا نصف ما أملك.
قال وجئت مرة إلى أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل فأخرج إلي أربعة دراهم وقال: هذه جميع ما أملك.
وعن هارون المستملي قال: لقيت أحمد فقلت: ما عندنا شئ،
(1/64)
فأعطاني خمسة دراهم، وقال: ما عندنا غيرها.
وحتى إنه كان ينفق من طعامه الذي هو أحوج إليه لبعض الدواب ويؤثره على نفسه رحمة الله عليه.
قال المروذي: كنت مع أبي عبد الله في طريق العسكر فنزلنا منزلا فأخرجت رغيفا ووضعت بين يديه كوز ماء، فإذا بكلب قد جاء.
فقام بحذائه، وجعل يحرك ذنبه، فألقى إليه لقمة، وجعل يأكل ويلقي إليه لقمة، فخفت أن يضر بقوته فقمت فصحت به لانحيه من بين يديه، فنظرت إلى أبي عبد الله قد احمار وتغير من الحياء، وقال: دعه فإن ابن عباس قال: لها نفس سوء.
عيال الامام أحمد: لم يتزوج الامام أحمد إلا بعد ما بلغ أربعين سنة كما روى المروذي وأول زوجاته: عباسة بنت الفضل أم صالح، ولم يولد منها غير ابنه صالح ثم تزوج: ريحانة وهي أم عبد الله ولم يولد منها غيره وكانت أمرأة صالحة ترى السعادة في رضي زوجها، فلما قضت سبعة أيام قالت للامام كيف رأيت يا ابن عم انكرت شيئا؟ قال: لا إلا أن نعلك هذه تصر.
وفي رواية أخرى قالت امرأة أحمد لاحمد بعدما دخلت عليه بأيام: هل تنكر مني شيئا؟ قال: لا إلا هذه النعل التي تلبسينها ولم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فباعتها واشترت مقطوعا فكانت تلبسها وهي أم عبد الله.
(1/65)
سراريه: قال الخلال حدثنا زهير بن صالح قال: لما توفيت أم عبد الله، اشترى حسن.
فولدت له منه أم علي واسمها زينب ثم ولد الحسن والحسين توأما وماتا بالقرب من ولادتهما.
ثم ولدت الحسن ومحمدا فعاشا حتى صارا من السن إلى نحو الاربعين ثم ولدت بعدهما سعيدا.
ذكر ابن الجوزي الزوجتين المذكورتين أم صالح وأم عبد الله وهذه الجارية ثم قال: ما عرفنا أن أحمد رضي الله عنه تزوج سوى المرأتين اللتين ذكرناهما ولا تسرى إلا بهذه الجارية واسمها حسن إلا أن ابن المنادى ذكر في كتاب فضائل أحمد أن أحمد استأذن أهله أن يتسرى طلبا للاتباع فأذنت
له، فاشترى جارية بثمن يسير وسماها ريحانة استنانا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعلى هذا يكون قد اشترى جاريتين وتكون إحداهما في حياة زوجته.
وضعف الذهبي في تاريخه قول ابن المنادى هذا.
أولاد الامام أحمد: 1 - صالح وهو أكبر أولاده كنيته أبو الفضل ولد سنة 230 وتوفي في رمضان سنة 265، بأصفهان.
2 - عبد الله وتأتي ترجمته منفصلة.
3 - الحسن بن أحمد عاش نحو أربعين سنة.
4 - محمد بن أحمد عاش نحو أربعين سنة.
5 - سعيد بن أحمد.
6 - زينب بنت أحمد وقد كبرت وبلغت الزواج.
7 - ذكرت له بنت آخر فاطمة بنت أحمد.
(1/66)
فتنة خلق القرآن ومحنة الامام أحمد رحمه الله إن أبرز الامور في حياة الامام أحمد موقفه النبيل الشجاع في فتنة القول بخلق القرآن.
فتنة عمياء هوجاء هبت سمومها في عهد الخليفة العباسي مأمون.
وإن كانت جراثيمها قديمة وجذورها عميقة، فإن حلقاتها تتصل باليهودية الحاقدة الحانقة على الاسلام والمسلمين.
وغذيت هذه الفتنة بالفلسفة اليونانية والرومانية التي ترجمت بجميع خبثها ودرنها وشركياتها ووثنياتها.
ولو اقتصرت الترجمة على علوم الطب والعلوم الانسانية الاخرى واستفاد منها المسلمون في أمور دنياهم لكان أمرا محمودا، فإن ديننا دين
فطرة يأمرنا ألا ننسى أنصباءنا من الدنيا.
ولكن يحدثنا التاريخ أن الترجمة اشتملت بل استوعبت الافكار الفلسفة الباطلة المتعلقة بالعقيدة وذات الباري جل وعز وصفاته أيضا، مما لا حاجة فيها للمسلمين وقد بينها رسولنا صلى الله عليه وسلم أوضح بيان وفهمها الرعيل الاول من هذه الامة فهما واضحا من غير تأويل ولا تحريف ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل أمروها على ظاهرها.
وهل تجد منهم أحدا ولو كان أعرب الاعراب وأغرق الناس في البداوة أشكلت عليه آيات الاسماء الصفات؟ لا وكلا.
وللمسلمين في كل زمان ومكان مندوحة في فهم أصحاب
(1/67)
المصطفى صلى الله عليه وسلم لهذا الدين الحنيف عقيدة وسلوكا ولن يصلح آخر هذه الامة إلا بما صلح به أولها.
ولما دخلت الافكار الفاسدة أحدثت فيهم انكار الصفات كليا أو جزئيا أو تأويلها أو تعطيلها مع شكوك وشبهات أخرى.
كما حدث التجهم والاعتزال والاشعرية كعقيدة.
وبالحملة أصل هذه المقالة الخبيثة هو التأثر باليهودية المغذاة بالفلسفة والسفسطة الكافرة.
تصل جذورها باليهود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يقولون بخلق التوراة.
قال ابن الاثير في تاريخه في حوادث سنة 240: وفيها توفى القاضي أبو عبد الله أحمد بن دؤاد في المحرم بعد ابنه أبي الوليد بعشرين يوما، وكان داعية إلى القول بخلق القرآن وغيره من مذاهب المعتزلة وأخذ ذلك عن بشر المريسي وأخذه بشر من الجهم بن
صفوان، وأخذه جهم من الجعد بن درهم، وأخذه الجعد من أبان بن سمعان، وأخذه أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الاعصم وختنه.
وأخذه طالوت من لبيد بن الاعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لبيد يقول: بخلق التوراة، وأول من صنف في ذلك طالوت، وكان زنديقا، فأفشى الزندقة (1) .
ورجال هذه السلسلة الزائقة يهود أو من أصل اليهود، وأما بشر بن غياث المريسي الذي تولى كبر هذه الفتنة في وقته وكان عين الجهمية ورأسهم وعالمهم في عصره فقد كان أبوه يهوديا.
__________
(1) الكامل 7: 75.
(*)
(1/68)
روى الخطيب في تاريخه عن اسحاق بن ابراهيم الملقب بلؤلؤ، الصدوق الثقة قال: مررت بالطريق فإذا بشر المريسي والناس عليه مجتمعون.
فمر يهودي، فأنا سمعته يقول: لا يفسد عليكم كتابكم كما أفسد أبو علينا الثورة يعني أن أباه كان يهوديا (1) .
وقال العجلي في ثقاته: بشر المريسي عليه لعنة الله مرة واحدة، شيخ قصير دميم المنظر، وسخ الثياب، وافر الشعر، أشبه شئ باليهود، وكان أبوه يهوديا، صباغا بالكوفة في سوف المراضع.
ثم قال: " لا يرحمه الله فلقد كان فاسقا " (2) .
وقال المروزذي سمعت أبا عبد الله وذكر المريسي فقال: كان أبوه يهوديا، أي شئ تراه يكون (3) .
وملخص الفتنة والمحنة أن المأمون الخليفة العباسي كان قد استحوذ
عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق وزينوا له القول بخلق القرآن ونفى الصفات عن الله عز وجل.
قال البيهقي: لم يكن في الخلفاء قبله في بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنها جهم، فلما ولي هو الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك، وزينوا له، واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم، فكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب صاحب الشرطة، يأمره أن يدعوا الناس إلى القول بخلق القرآن.
واتفق له ذلك في آخر عمره قبل موته بشهور من سنة 218.
__________
تاريخ بغداد 7: 58.
(2) ثقات العجى 1: 247 - 248.
(3) سيرة أعلام النبلاء 10: 201، الميزان 1: 323.
(*)
(1/69)
فلما وصله الكتاب، استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك، فامتنعوا فتهددهم بالضرب وقطع الارزاق فأجاب أكثرهم مكرهين.
واستمر على الامتناع الامام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فحملا على بعير محمل واحد مقيد بين متعادلين.
فلما كان ببلاد الرحبة جاءهما رجل من الاعراب من عبادهم.
يقال له جابر بن عمر فسلم على الامام وقال له: يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤما عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيحيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة.
وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل.
وإنك إن لم تقتل تمت، إن عشت عشت حميدا.
قال الامام: وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع.
فلما اقتربا من جيش الخلافة ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن لم تحبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف.
قال: فجثى الامام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال: سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل.
اللهم فإن يكن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته.
قال: فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الاخير من الليل.
قال أحمد: ففرحنا، ثم جاء الخير بأن المعتصم قد ولي الخلافة وقد
(1/70)
انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد، وأن الامر شديد فرددنا إلى بغداد في سفينة مع بعض الاساري، ونالني منهم أذى كثير.
ومات محمد بن نوح في الطريق فصلى عليه أحمد.
فلما رجع إلى بغداد دخلها في رمضان فأودع في السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا.
يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه.
ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم.
فلما أدخل على المعتصم زادوه في القيد.
قال الامام: فلم استطع أن أمشي بها فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاءوني بدابة فحملت عليها فكدت أن اسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم.
فأدخلت في بيت وأغلق علي وليس عندي سراج فأردت الوضوء، فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء، فتوضأت، ثم قمت ولا أعرف القبلة، فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ولله الحمد.
ثم دعيت، فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إلي وعنده ابن أبي دؤاد قال: أليس قد زعمتم أنه حدث السن، وهذا شيخ مكهل.
فلما دنوت منه وسلمت عليه قال لي: أدنه فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال: إجلس، فجلست وقد اثقلني الحديد فمكثت ساعة ثم قلت: يا أمير المؤمنين الام دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
قلت فإني أشهد أن لا إله إلا الله، ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس.
ثم قلت: فهذا الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه.
ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من كان قبلي، لم أتعرض
(1/71)
إليك.
ثم قال: يا عبد الرحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة؟ قال أحمد: فقلت: الله أكبر هذا فرج للمسلمين، ثم قال: ناظره يا عبد الرحمن كلمه.
وجرت مناظرات طويلة.
فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع وهنا قضاتك والفقهاء فسلهم.
فقال لهم: ما تقولون فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد، ثم احضروه في اليوم الثاني وناظروه ثم في اليوم الثالث.
وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم وتغلب حجته حججهم فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد وكان من أجهلهم بالعلم والكلام.
وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة ولا علم لهم بالنقل، فجعلوا ينكرون الاثار، ويردون الاحتجاج بها، وفي أثناء ذلك كله يتعطف به
الخليفة، ويقول: يا أحمد أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي، فيقول الامام: يا أمير المؤمنين يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها.
فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة، فقالوا: يا أمير المؤمنين: هذا كافر ضال، مضل.
وقال له اسحاق بن ابراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين، فعند ذلك حمي، واشتد غضبه، وكان إليهم عريكة وهو يظن أنهم على شئ.
قال الامام أحمد فعند ذلك قال لي: لعنك الله طمعت فيك أن تجيبني، ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه.
(1/72)
قال الامام: فأخذت وسحبت وخلعت وجئ بالعقابين (1) والسياط وأنا أنظر وكان معي شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مصرورة في ثوبي.
فجردوني منه وصرت بين العقابين فقلت: يا أمير المؤمنين، الله الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث وتلوت الحديث.
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا أله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم.
فبم تستحل دمي ولم آت شيئا من هذا؟ يا أمير المؤمنين أذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك فكأنه أمسك.
ثم لم يزالوا به يقولون له: يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل.
كافر.
فأمر بي فقمت بين العقابين وجئ بكرسي فأقمت عليه وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم، فتخلعت يداي، وجئ بالضرابين ومعهم السياط.
فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له: يعني المعتصم: شد قطع الله يديك، ويجئ الاخر فيضربني سوطين ثم الاخر كذلك فضربوني أسواطا فأغمي علي وذهب عقلي مرارا فإذا سكن الضرب يعود علي عقلي.
وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم.
فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك، الخليفة على رأسك، فلك أقبل، وأعاد والضرب ثم عاد إلي، فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء إلي الثالثة، فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب وأرعبه ذلك من أمري، وأمرني فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت.
وقد أطلقت الاقياد من رجلي وكان ذلك في اليوم العشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومأتين.
وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطا وقيل: ثمانين سوطا ولكن
__________
(1) العقابان: خشبتان يشج (أي يمد) الرجل الجلد بينهما.
(*)
(1/73)
كان ضربا مبرحا شديدا جدا (1) .
ويقول أشاباض أحد الجلادين: ضربت أحمد بن حنبل ثمانين سوطا، لو ضربته فيلا لهدمته (2) .
وذكر أبو العرب التميمي في كتاب المحن عن أبي عمران موسى بن الحسن البغدادي الصقلي (3) قال: حضرت أمر أحمد بن محمد بن حنبل.
إذ أحضر (المعتصم) أحمد وأمر الجلادين، فعلقوه بين السماء والارض، ووقف له ستين جلادا ثلاثين ناحية وثلاثين ناحية..فقام
إليه المعتصم فقال: ويحك يا أحمد إني أسأل الله أن لا يبتليني بك.
ما تقول في القرآن؟ فقال: القرآن كلام الله وكلام الله غير مخلوق فأمر به فضرب.
ثم سأله، فأعاد قوله الاول كلام الله فأمر فأعادوا عليه الضرب، ثم قام إليه فناشده الله في نفسه وأمر بمسورتين (4) فوضعتا تحت رجليه، فكان معلقا بين السماء والارض، ثم سأله المعتصم عن القرآن، فقال له: كلام الله وكلام الله غير مخلوق.
فقال له رجل من الجلادين: يا أمير المؤمنين إن أردت ضربته سوطين أقتله فيهما، فضربه سوطين شق منهما خصريه وسالت أمعاءه.
فأمر به فأخرج من الحديد وشد بثوب تام وصاح الناس والعامة، وخرج الجلادون، فقالوا مات أحمد وذكروا للعامة أنهم أخرجوا من رجليه الحديد وهو على وجهه، ثم خرج أبو اسحاق عدو الله من القصر وابن أبي دؤاد الزنديق في موكب عظيم فحالت العامة بين أبي اسحاق وبين الجسر حتى خاف على نفسه وأسمعوه ما يكدره (5) .
__________
(1) تاريخ ابن كثير ببعض الاختصار 10: 331 - 335.
(2) المنهج الاحمد 1: 41.
(3) ترجمه في تاريخ بغداد 13: 46 ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا.
(4) المسورة متكأ من أدم.
(5) كتاب المحن 439 - 440 تحقيق يحيى الجبوري طبعة دار الغرب الاسلامي 1403.
(*)
(1/74)
ولما حمل الامام من دار الخلافة إلى دار اسحاق بن ابراهيم وهو صائم اتوه بسويق ليفطر من الضعف، فامتنع من ذلك وأتم صومه، وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم والدم في ثوبه، فقال له ابن سماعة القاضي، وصليت في دمك؟ فقال له أحمد: قد صلى عمر وجرحه يثعب
دما فسكت.
قلت: إن الصلاة التي صلاها الامام في دمائه لهي أفضل إن شاء الله عند الله بالاف الدرجات من صلواتهم بطهاراتهم الظاهرة الكاملة، لان صلواتهم مشوبة بالبدع وفساد العقيدة وأما صلاة الامام فهي خالصة من أي شائبة يزينها الوسام الكريم بالجراحات لله وفي سبيل الله.
وهذا الدم الشريف الذي سأل منه لوجه الله يأتي يوم القيامة إن شاء الله.
اللون لون الدم والريح ريح المسك يرفع الله به درجاته عنده.
ولما رجع الامام إلى منزل إسحاق بن ابراهيم صاحب الشرطة جاءه الجرايحي، فقطع لحما ميتا من جسده وجعل يداويه، والنائب في كل وقت يسأل عنه، لان المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندما كثيرا وجعل يسأل النائب عنه، والنائب يستعلم خبره، فلما عوفي فرح المعتصم والمسلمون بذلك.
ولما سار الامام بعد برءه إلى منزله ولم يزل كذلك مدة خلافة المعتصم.
وكذلك في أيام ابنه الواثق فلما ولى المتوكل على الله الخلافة استبشر الناس بخلافته فإنه كان محبا للسنة وأهلها ورفع المحنة عن الناس وكتب إلى الافاق: لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن.
وأكرم الامام إكراما بالغا.
حتى إنه كتب إلى نائبه ببغداد أن يحمل إليه إلامام فاعتذر الامام ثم عزم عليه أنه يحب أن يأنس بقربه وبالنظر إليه وحصول البركة من دعائه فسار إليه الامام وهو عليل في بعض بنيه.
فأنزله منزلا كريما في
(1/75)
غاية التعظيم والتكريم وكتب الخليفة لاهله وأولاده كل شهر بأربعة آلاف درهم فمانع أبو عبد الله الخليفة فقال الخليفة لا بد من ذلك وما هذا إلا
لولدك فأمسك أبو عبد الله عن المعانعة ثم أخذ يلوم أهله وعمه.
وبعد أيام انصرف الامام فدخل بغداد مختفيا وكان الخليفة يوفد إليه في أمور يشاوره فيها ويستشيره في أشياء تقع له (1) .
ولما ارتفعت عنه المحنة واستبدل الله بها، اعتراف فضله لدى الخاصة والعامة.
بل والخليفة يسمع لمشورته وارشاده وأمكن الله الامام عن أعدائه الذين تسببوا له الايذاء هل انتقم من أحد؟ كلا ولا يرجى من رجل طبعه الله على الحلم والزهد واحتساب الاجر عند الله، أن يطلب الانتقام من أحد.
ولما استدعاه المتوكل وقارب العسكر تلقاه وصيف الخادم في موكب عظيم فسلم على الامام فرد عليه السلام وقال له الوصيف.
قد أمكنك الله من عدوك ابن أبي دؤاد فلم يرد عليه جوابا ولا نجد ذكرا أن الامام انتقم منه أو أراد ذلك قط.
وكذلك جعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة وكان يتلو في ذلك قوله تعالى، وليعفوا أو ليصفحوا الاية ويقول: ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك وقد قال تعالى: فمن عفا وأصلح على الله إنه لا يحب الظالمين.
قال حنبل: سمعته يقول: كل من ذكرني في حل إلا مبتدع وقد جعلت أبا اسحاق يعني المعتصم في حل.
__________
(1) رسالة صالح بن أحمد والبداية والنهاية 10: 338 وما بعدها ومناقب أحمد 308 وما بعدها.
(*)
(1/76)
وفي رواية ابن عبد الله عن أبيه: قال: وجه إلى الواثق أن أجعل
المعتصم في حل من ضربه إياي فقلت ما خرجت من داره حتى جعلته في حل وذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقوم يوم القيامة إلا من عفا فعفوت عنه.
ولا يرجى من إمام السنة إلا هذا الموقف النبيل لا يضمر حقدا على أحد لنفسه في حين أن أتباعه كانوا يريدون اثارته في بعض الايام ولكنه لم يحد عن المنهج القويم قيد شعرة.
قال حنبل بن اسحاق ابن عم الامام في كتاب المحنة: لما أظهر الواثق هذه المقالة، وضرب عليها وحبس جاء نفر إلى أبي عبد الله من فقهاء أهل البغداد منهم بكر بن عبد الله وابراهيم بن علي المنجي، وفضل بن عاصم وغيرهم فأتوا أبا عبد الله فدخلت عليه فاستأذنت لهم، فدخلوا عليه.
فقالوا له: يا أبا عبد الله، هذا الامر قد فشا وتفاقم، وهذا الرجل يفعل ويفعل، وقد أظهر ما أظهر، ونحن نخافه على أكثر من هذا وذكروا له أن ابن أبي دؤاد عزم على أن يأمر المعلمين بتعليم الصبيان، في الكتاب مع القرآن، القرآن كذا وكذا، فقال لهم أبو عبد الله: فماذا تريدون؟ قالوا: اتيناك لنشاورك فيما نريد، قال: فماذا تريدون؟ قالوا: ألا نرضى بإمرته ولا سلطانه، فناظرهم أبو عبد الله ساعة حتى قال لهم: فماذا يضرهم إن لم يتم هذا الامر، أليس قد صرتم من ذلك إلى المكروه؟ عليكم النكرة بقلوبكم ولا تخرجوا يدا من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين معكم ولا تسفكو دماءكم ودماء المسلمين انظروا في عاقبة أمركم.
ولا تعجلوا واصبروا حتى يستريح بركم أو يستراح من فاجركم ودار بينهم في ذلك كلام كثير لم احفظه، واحتج عليهم أبو عبد الله لهذا،
__________
(1) البداية والنهاية 10: 338.
(*)
(1/77)
فقال بعضهم: إنا نخاف على أولادنا إذا أظهر هذا لم يعرفوا غيره ويمحو الله الاسلام ويدرس، فقال أبو عبد الله: كلا إن الله عز وجل ناصر دينه وإن هذا الامر له رب ينصره، وإن الاسلام عزيز منيع.
فخرجوا من عند أبي عبد الله ولم يجبهم إلى شئ مما عزموا عليه (1) وكانت محنة الامام أحمد وخروجه منها صابرا محتسبا بعد هذا الايذاء الشديد.
أمرا أكرم الله وشرف به هذا الامام واختص به من دون أقرانه.
وجعلها الله كلمة باقية في عقبه: فاجتمعت كلمتهم في الثناء عليه لهذا الموقف الجليل وبرزت شخصيته علما وعلامة للسنة وأهلها، قال الامام البخاري: لما ضرب أحمد بن حنبل كنا بالبصرة فسمعت أبا الوليد الطيالسي يقول: لو كان أحمد في بني اسرائيل لكان أحدوثة.
وقال المزني: أحمد بن حنبل يوم المحنة وأبو بكر يوم الردة وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار وعلى يوم الجمل وصفين.
وقال قتيبة: مات سفيان الثوري ومات الورع ومات الشافعي وماتت السنن ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع وإن أحمد بن حنبل قام في الامة مقام النبوة قال البيهقي يعني في صبره على ما أصابه من الاذي في ذات الله.
وقال بشر الحافي، أدخل أحمد في الكير فخرج ذهبا أحمر.
وقال بن المعلي الرقي: من الله على هذه الامة بأربعة بالشافعي فهم الاحاديث وفسرها وبين مجملها من مفصلها والخاص والعام والناسخ والمنسوخ وبأبي عبيد بين غريبها.
ويحيى بن معين نفي الكذب عن
__________
(1) أنظر مفاتيح الفقه الحنبلي 1: 247 وتاريخ الاسلام للذهبي جزء ترجمة الامام في طلائع مسند أحمد 1: 105.
(*)
(1/78)
الاحاديث.
وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة لولا هؤلاء الاربعة لهلك الناس.
وقال ابن حبان: أغاث الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أنه ثبت في المحنة وبذل نفسه لله حتى ضرب بالسياط للقتل فعصمه الله تعالى عن الكفر وجعله علما يقتدي به وملجأ يلجأ إليه (1) .
* - أثر المحنة على المجتمع: العاقبة للمتقين، فالمحنة التي اكتوى بنارها أهل الحديث وعلى رأسهم الامام أحمد.
استبدلت بالمنحة من عند الله تعالى فبدل أن كانوا في وقت ما في امتهان وامتحان جاء الوقت فصارت الكلمة لهم وأكرموا اكراما بالغا وأفل نجم المعتزلة الذين كانوا قد استحوذوا من قبل على السلطان واستعملوا القوة لايذاء أهل السنة ومنعهم من رواية روايات الصفات والرؤية وأمثالها.
فقد استقدم المتوكل المحدثين إلى سامراء وأجزل عطاياهم وأكرمهم وأمرهم أن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية وجلس أبو بكر بن أبي شيبة.
في جامع الرصافة، فاجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس.
وجلس أخوه عثمان في جامع المنصور فاجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس، وتوفر دعاء الخلق للمتوكل، وبالغوا في الثناء عليه، والتعظيم له، حتى قال قائلهم ... الخلفاء الثلاثة أبو بكر الصديق في قتل أهل الردة وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم، والمتوكل في احياء السنة وامانة التجهم (2) .
__________
(1) أنظر مناقب الامام أحمد لابن الجوزي.
(2) مفاتيح الفقه الحنبلي 1: 230 وهو عن تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 346.
(*)
(1/79)
وعكس هذا انقلب الامر على رؤس الاعتزال ودارت الدائرة عليهم.
فقد ذكر المسعودي في حوادث سنة 239 أنه سخط (المتوكل) على أحمد بن دؤاد وولده أبي الوليد محمد بن أحمد، وكان على القضاء، وأخذ من أبي الوليد مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار وجوهرا بأربعين ألف دينار، وحضر إلى بغداد، وقد كان أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد فلج بعد موت عدوه ابن الزيات بسبعة وأربعين يوما.
وذكر ابن الاثير في الكامل في حوادث سنة 237 وفيه غضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد، وقبض ضياعه وأملاكه وحبس ابنه أبا الوليد، وسائر أولاده فحمل أبا الوليد مائة ألف وعشرين ألف دينار وجواهر قيمتها عشرون ألف دينار، ثم صولح بعد ذلك على سنة عشر ألف درهم، وأشهد عليهم جميعا ببيع أملاكهم (1) .
* - عتاب الامام أحمد يرجو ويطلب من أصحاب الذين لهم مكانة معروفة بين الناس علما وديانة أن لا يسارعوا في التقية وأن لا يوافقوا في القول بخلق القرآن.
وكان يرى أنهم لو صبروا كان عند الدولة لهم اعتبار وما سارعت في تنفيذ ما أراد المعتزلة منها، فلما تسارعوا في استعمال التقية ويقي الامام وقليل من الاخرين الذين ليست لهم كبير مكانة في الشعب هان على الدولة أن تأخذهم بحجة أن جمهور العلماء والفقهاء معها كما صارت موافقهم سببا لزلزله أفكار العامة واضطرابها أيضا.
وكان نقمة الامام بالاخص على أولئك الذين لم يدخلوا في المحنة ولم
__________
(1) الكامل 7: 59.
(*)
(1/80)
يصابوا بأذى قليل ولا كثير بل خافوا في المستقبل وتخاذولوا ولذلك كان يلتمس العذر لسجادة والقواريري، دون غيرهما.
قال المقريزي: وكان أبو عبد الله يقيم عذرهما ويقول: أليس قد حبسا وقيدا، قال الله تعالى: (إلا من أكره وقبله مطمئن بالايمان) قال أبو عبد الله: القيد كره والحبس كره والضرب كره، فأما إذا لم تنل بمكروه فلا عذر له (1) .
ولم يكن يعذر أولئك الذين سارعوا في التقية ولما يصبهم الاذى في هذه السبيل.
روى ابن الجوزي باسناده عن أبي بكر المروذي يقول: جاء يحيى بن معين فدخل على أحمد بن حنبل وهو مريض، فسلم فلم يرد عليه السلام، وكان أحمد قد حلف بالعهد أن لا يكلم أحدا ممن أجاب حتى يلقى الله عز وجل، فما زال يحيى يعتذر ويقول: حديث عمار، وقال الله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان فقلت أحمد وجهه إلى الجانب الاخر، فقال يحيى: أف وقام، وقال: لا يقبل لنا عذرا، فخرجت بعده وهو جالس على الباب، فقال: أي شئ قال أحمد بعدي؟ قلت: قال: يحتج بحديث عمار، وحديث عمار مررت وهم يسبونك فنهيتهم فضربوني، وأنتم قيل لكم نريد أن نضربكم، فسمعت يحيى يقول: مر يا أحمد غفر الله لك، فما رأيت والله تحت أذيم سماء الله، أفقد في دين الله منك (2) .
وقد أجاب في المحنة خوفا من الاذى والقتل على ابن المديني رحمه الله أيضا ولم يقتصر إلى حد الاجابة بل تقرب منهم وأراد إرضاء ابن أبي دؤاد بترك الرواية عن الامام وكان يأمر الناس بالضرب على أحاديثه.
__________
(1) أنظر مفاتيح الفقه الحنبلي 1: 242.
(2) مناقب ابن الجوزي 389.
(*)
(1/81)
قيل لابراهيم بن إسحاق الحربي: أكان علي بن المديني يتهم بشئ من الكذب، فقال: لا، إنما كان حدث بحديث فزاد في خبره كلمة يرضي بها ابن أبي دؤاد، وسئل فقيل له: كان يتكلم على بن المديني في أحمد بن حنبل؟ فقال: لا، إنما كان إذا رأى في كتاب حديثا عن أحمد قال: اضرب على ذا، ليرضي به ابن أبي دؤاد وكان قد سمع من أحمد وكان في كتابه سمعت أحمد، وقال أحمد وحدثنا أحمد (1) .
ولذلك أدخله العقيلي في الضعفاء وقال: جنح إلى ابن أبي دؤاد والجهمية (2) .
وروى ابن الجوزي عن أبي بكر المروذي قال: دخلنا العسكر إلى أن خرجنا ما ذاق أبو عبد الله طبيخا ولا دسما وقال: كم تمتع أولئك، يعني ابن أبي خيثمة وابن المديني وعبد الاعلى، إني لاعجب من حرصهم على الدنيا، فكيف يطوفون على أبوابهم (3) .
وقال ابن رجب في شرح العلل في ترجمة ابن المديني: أنه تقرب إلى ابن أبي دؤاد، حيث استماله بدنياه وصحبه وعظمه، فوقع بسبب ذلك في أمور صعبة، حتى أنه كان يتكلم في طائفة من أعيان أهل الحديث، ليرضى بذلك ابن أبي دؤاد، فهجره الامام أحمد لذلك (4) .
ولما كان موقف بعض العلماء كما ذكر ورأى الامام أنهم فرطوا في أمانة الدعوة والقيام بجانب الحق ونصرته كان من الطبيعي أن ينبعث الغضب لله في نفسه.
__________
(1) تاريخ بغداد 11: 470.
(2) ضعفاء العقيلي ل 297.
(3) مناقب أحمد 390.
(4) شرح علل الترمذي ص 187.
(*)
(1/82)
ولنذكر مقالته حينما راجعه عمه على التقية: إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يظهر الحق.
ولذلك ترك الرواية عمن أجاب في المحنة: قال العقيلي في الضعفاء: قرأت على عبد الله بن أحمد كتاب العلل عن أبيه، فرأيت فيه حكايات كثيرة عن أبيه عن علي بن عبد الله، ثم قد ضرب على اسمه، وكتب فوقه حدثنا رجل، ثم ضرب على الحديث كله.
فسألت عبد الله، فقال: كان أبي حدثنا عنه، ثم أمسك عن اسمه، وكان يقول: حدثنا رجل، ثم ترك حديثه بعد ذلك.
وقد يقال: إن الذين اختاروا التقية لهم عذرهم وهو الاكراه وقد اختاروا أمرا مباحا فلم هجرهم أحمد.
؟ فأجاب عن هذا الامر ابن الجوزي فقال: الجواب من ثلاثة أوجه: أحدهما أن القوم توعدوا ولم يضربوا، فأجابوا والتواعد ليس باكراه (وقد بان هذا بما ذكرناه من حديث يحيى بن معين) .
والثاني، أنه هجرهم على وجه التأديب.
ليعلم تعظيم القول الذي أجابوا عليه.
فيكون ذلك حفظا لهم من الزيغ.
والثالث يقال: إن معظم القوم لما أجابوا قبلوا الاموال، وترددوا إلى القوم، وتقربوا منهم، ففعلوا ما لا يجوز فلهذا استحقوا الذم والهجر (1) .
__________
(1) مناقب أحمد لابن الجوزي ص 390.
(*)
(1/83)
والحق أن هجر الامام للمحيبين في المحنة لم يكن إلا تأديبا وتشنيعا لفعلهم، ولم يكن تجريحا في عدالتهم بحال.
وعلى هذا الامر نفسه تحمل تركه الرواية عن علي بن المديني وضربه على أحاديثه.
ويبدو لي أن ترك الرواية عن ابن المديني كان مؤقتا ثم روى عنه فيما بعد، وأوضح مثال لذلك نجد نصوصا كثيرة عنه رواها الامام في هذا الكتاب (العلل) كما نجد روايات كثيرة عنه في المسند.
فيمكن أن يكون ضرب على أحاديثه ثم أجازها، فرواها عنه تلامذته.
كما أننا نجد روايات كثيرة من زيارات عبد الله ورواياته في كتب أبيه وكتابه السنة عن ابن معين.
ومعروف أن عبد الله لم يكن يكتب الحديث ولا يروي إلا عمن يرضى عنه أبوه ويأذن له في الاخذ عنه، ثم لا يتصور أن الامام عفا عن الذين تسببوا له في الايذاء تقليدا ثم يبقى غاضبا على من اختار التقية.
نعم حيث إن غضبه كان لله وفي سبيل الله فلم يعف عن المبتدعة الذين جعلوا القول بخلق القرآن ديانة لهم ولسببه آذوه كل الايذاء أمثال ابن أبي دؤاد رأس الفتنة ورجلها كما مضى ذكره.
* - مرض الامام أحمد ووفاته: بعد حياة حافة بالعلم والجهاد مرض الامام مرض موته ليلة الاربعاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول سنة 241 وتوفى عاشر يوم مرضه يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الاول.
ودفن بعد العصر، وصلى عليه جم غفير قدر بألف ألف نفس، رحمه الله ورفع درجاته مع النبيين والصديقين والشهداء.
آمين.
(1/84)
وصف كتاب العلل ومعرفة الرجال
ويشمل تعيين اسم الكتاب وتوثيق نسبته إلى الامام أحمد ووصف النسخة وذكر مكانها وناسخها وتعريفا موجزا عن مواد الكتاب.
1 - اسم الكتاب: نجد في ظهر الكتاب إسمه هكذا: كتاب العلل ومعرفة الرجال عن أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل.
رواية أبي علي محمد بن أحمد بن الحسن الصواف.
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل.
عن أبيه.
سماع عبيد الله بن أحمد.
ويبدو أن هذا هو اسم الكتاب الذي سمي به الامام أحمد أو ابنه عبد الله أو أبو علي بن الصواف.
وأي من هؤلاء الثلاثة كان المسمى للكتاب.
فهذا الاسم هو المتعين فإن كان المسمى الامام أحمد فهو واضح، وإن كان عبد الله بن أحمد فيترجح أنه بعد الجمع والترتيب يكون عرضه وقرأه على أبيه، وكذلك إن كان الذي سماه هو أبو علي بن الصواف فهو أيضا لا بد وأن يكون قرأه على عبد الله بهذا الاسم وقرره عبد الله.
(1/85)
لان ناسخ الكتاب وهو عبيد الله بن أحمد نسخه من أصل أبي علي فلا بد وأن يكون نسخه باسمه ثم سمعه من أبي علي.
ولا نظن أن التسمية منه.
لذا نرى أن المثبت على ظهر الكتاب هو اسم الكتاب لا غير.
وإن الذين استفادوا من الكتاب قد اختصروا في ذكر اسمه في أغلب الاحيان فسموه العلل، وسماه بعضهم التاريخ لاشتماله على تاريخ الرواة مواليدهم وأحوالهم ووفياتهم على ما سميت به تواريخ البخاري الثلاثة وتاريخ ابن أبي خيثمة ووغيرها.
وإن كان هذه الكتب مشتملة على بعض علل الحديث ولكن حيث إن الصبغة الغالبة عليها هي بيان أحوال الرجال سميت باسم التاريخ.
2 - توفيق نسبة الكتاب إلى الامام أحمد: نجد كثيرا من العلماء المشتغلين قديما وحديثا بعلم الحديث أو الذين لهم عمل في ذكر المؤلفات في العلوم والفنون إذا ذكروا التصانيف في العلل والجرح والتعديل أو إذا ترجموا للامام أحمد ذكروا كتاب العلل ناسبين للامام، وخاصة برواية عبد الله إبنه هذا الذي بين أيدينا.
ثم إن المواد التي نقلت عن عبد الله بن أحمد عن أبيه من كتاب العلل في ثنايا كتب المتقدمين موافقة لما حواها هذا الكتب كما يظهر للناظر في تخريجاتها.
لذا لا نشك أن كتاب العلل هذا أصله من تأليفات الامام أحمد لان الامر قد اشتهر بل وتواتر بحيث لا يترك مجالا للشك.
ولعل قائلا يقول: إنه لم يكن كتاب مؤلف للامام أحمد بهذا المعنى وإنما هي أسئلة وجهها عبد الله إلى أبيه فأجاب عليها أبوه فينبغي نسبة الكتاب إلى عبد الله.
(1/86)
فنقول إن من جملة طرق انتشار التأليف في تلك الايام أن التلميذ كان يكتب عن الشيخ وهو يملي عليه، أو يسئله التلميذ في بعض الاحيان فيجيبه الشيخ من حفظه أو من كتابه فينتشر الكتاب من طريق التلميذ، وبهذه الطريقة وصلت إلينا أكثر كتب السلف.
وبهذه الطريقة نفسها نقل عبد الله عن أبيه هذا الكتب، ثم زاد فيه زيادات، وهذا لا يعني أنه لم يكن عند الامام كتاب أو تأليف منه في هذا الموضوع.
فالذي نتصوره أنه كان عنده كتاب في العلل ومعرفة الرجال بخط يده كالمسند وغيره فأملى بعضه على عبد الله وبعضه سأله عبد الله فأجابه بحفظه أو من كتابه في بعض الاحيان.
وتدل عليه تلك الروايات الكثيرة التي يقول فيها عبد الله أملى علي أبي، ويقول في بعضها: وجدت في كتاب أبي بخط يده ولم أسمعها، فالتي لم يمل عليه والتي وجدها في كتاب أبيه ألحقتها فيما بعد بالكتاب.
وعلى كل حال يثبت لدينا وجود كتاب في موضوع العلل وأحوال الرجال من تأليفات الامام أحمد أخذه عنه ابنه عبد الله قراءة وإملاء ووجادة وأدخل فيه زيادات عن شيوخه غير أبيه.
ومن جملة من ذكروا كتاب العلل للامام: 1 - فمن أقدمهم فيما اطلعت، العقيلي محمد بن عمر بن موسى بن حماد (ت 322) في كتابه الضعفاء حيث قال: قرأت على عبد الله بن أحمد كتاب العلل عن أبيه فرأيت فيه حكايات كثيرة عن أبيه عن على بن عبد الله (يعني ابن المديني) ثم قد ضرب على اسمه وكتب فوقه " حدثنا رجل " ثم ضرب على الحديث كله، فسألت
(1/87)
عبد الله (1) ... كما استفاد هو منه من طريق عبد الله كثيرا.
2 - وذكره ابن أبي حاتم عبد الرحمن (ت 328) فقال في ترجمة عبد الله بن أحمد: "..وكتب إلي بمسائل أبيه وبعلل الحديث وكان صدوقا ثقة (2) .
3 - وذكره ابن المنادى أبو الحسين أحمد بن جعفر بن محمد (256 - 336) باسم التاريخ قال: لم يكن في الدنيا أحد أروى عن أبيه منه لانه سمع المسند وهو ثلاثون ألفا والتفسير ... وسمع الناسخ والمنسوخ والتاريخ (3) ... 4 - وذكره ابن النديم محمد بن اسحاق (ت 385) فقال: له من التب كتاب العلل، كتاب التفسير (4) ... 5 - وذكره البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي (ت 458) فقال: " رواه عبد الله بن أحمد في كتاب العلل عن أبي الربيع الزهراني ... وهذا اسناد صحيح (5) .
6 - وذكره ابن أبي يعلي محمد بن الحسين أبو الحسين الفراء (451 - 458) فقال: قرأت في كتاب أ