السؤال باسم الله الأعظم

وسمع آخر يقول في تشهده أيضا : ( أبو داود والنسائي وأحمد والبخاري في الأدب المفرد ) ( اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت [ وحدك لا شريك لك ] [ المنان ] [ يا ] بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم [ إني أسألك ] [ الجنة وأعوذ بك من النار ] . [ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( تدرون بما دعا ؟ ) قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ( والذي نفسي بيده ] لقد دعا الله باسمه العظيم ( وفي رواية : الأعظم ) الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى}

الأحد، 25 فبراير 2024

ج8.النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام الفصل الثالث: أنبياء بني إسرائيل:

 

النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام

 

الفصل الثالث: أنبياء بني إسرائيل:

موسى:

يمكن تلخيص قصة موسى منذ مولده حتى رسالته بما تقوله أسفار العهد الجديد.

"تهذب موسى بكل حكمة المصريين، وكان مقتدرًا في الأقوال والأعمال ...

وصار غريبًا في أرض مديان حيث ولد ابنين..

وظهر له ملاك العرب في برية جبل سيناء، لهيب نار عليقة. فلما رأى موسى ذلك تعجب من المنظر، وفيما هو يتقدم ليتطلع صار إليه صوت الرب: أنا إله آبائك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب.... فهلم الآن أرسلك إلى مصر" "أعمال الرسل 7: 23-34".

ثم نعود الآن إلى التوراة لنعلم منها أنه:

"كان موسى ابن ثمانين سنة وهارون ابن ثلاثة وثمانين سنة حين كلما فرعون" "خروج 17: 7".

وفي أول وحي لموسى، بعد أن علمه الله الكثير مما يقول ويفعل، وأراه آيات وأعاجيب، كان عاقبة ذلك أن "قال موسى للرب: استمع أيها السيد، لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس ولا من حين كلمت عبدك بل أنا ثقيل اللسان.

فقال له الرب: من صنع للإنسان فما، أو من يصنع أخرس أو أصم أو أعمى.

أما هو أنا الرب؟ فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به.

فقال: استمع أيها السيد. أرسل بيد من ترسل.

فحمي غضب الرب على موسى، وقال: أليس هارون اللاوى أخاك. أنا أعلم أنه هو يتكلم وأيضًا ها هو خارج لاستقبالك.. فتكلمه وتضع الكلمات في فمه، وأنا أكون مع فمك ومع فمه وأعلمكما ماذا تصنعان". "خروج 4: 10-15".

(1/45)

لكن القرآن يبرئ موسى عن كل قول غليظ أن يعرضه في مثل تلك الساعات الخالجات لشيء من غضب الله، ويبين أن حديث الوحي الأول لموسى كان كله رحمة ولطفًا من الله، أظهر فيه موسى من التهذيب والخشوع والإدراك ما يتفق ووقار النبوة لشيخ في الثمانين من عمره.

لقد قال موسى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا، قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 25-36] .

لقد كان موسى واعيا أن ما يطلبه في هذا المشهد الخالد من خير يعينه على تبليغ رسالته لا بد وأن يناله، لأنه يطلب من أكرم الأكرمين. وكان حريا أن يجاب إلى طلبه وزيادة، فلقد تعهد له الله بالنصر النهائي إذ قال له:

{سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص 35]

وبعد جهد جهيد ومحن وأزمات استطاع موسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر ويقودهم عبر سيناء قاصدًا أرض فلسطين.

وفي سيناء تلقى موسى التوراة. "ولما رأى الشعب "الإسرائيلي" أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه.

(1/46)

فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وآتوني بها. فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون.

فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه عجلًا مسبوكا.

فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر. فلما نظر هارون بنى مذبحًا أمامه، ونادى هارون وقال: غدًا عيد للرب.

فبكروا في الغد وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة.. وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب.

فقال الرب لموسى: اذهب انزل لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر.

صنعوا لهم عجلًا مسبوكًا وسجدوا له.

وقال الرب لموسى: رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة. فالآن اتركني ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم. فتضرع موسى أمام الرب إلهه.. فندم الرب عن الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه.

فانصرف موسى ونزل من الجبل. ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار وطحنه حتى صار ناعمًا وذراه على وجه الماء وسقى بني إسرائيل.

وقال موسى لهارون: ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة؟

فقال هارون: لا يحم غضب سيدي. أنت تعرف الشعب أنه في شر.

فقال لي: اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. فقلت لهم: من له ذهب فلينزعه ويعطني فطرحته في النار فخرج هذا العجل" "خروج 32: 1-25".

لقد سجلت التوراة على هارون أنه شارك الشعب الإسرائيلي كفره إذ صنع بيده العجل الذي عبدوه ونصب نفسه كاهنًا له فبنى له مذبحًا وجعل له في الغد عيدًا.

ومعاذ الله أن يكون هارون النبي كذلك ...

(1/47)

فلقد تكفل القرآن ببراءة هارون من هذا الجرم الشنيع الذي لا يمكن الاعتذار عنه. فقرر أن الذي صنع العجل إنما هو شخص آخر غير هارون، كما سجل رفض هارون لتلك الفكرة الخبيثة وتنديده بها -وذلك في قول الحق:

{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي، قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ، أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي، قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} "طه: 86-91".

وتنسب التوراة إلى موسى وهارون عدم إيمانهما بالله، بل وتسجل عليهما الخيانة التي كان ثمنها أن حرمت عليهما أرض فلسطين. فلقد كان آخر وحي تلقاه موسى يقول على لسان الرب:

"اصعد إلى جبل عباريم. الذي قبالة أريحا وانظر إلى أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل ومت في الجبل الذي تصعد إليه وانضم إلى قومك كما مات هارون أخوك في جبل هود وضم إلى قومه، لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل عند ماء مريبة قادش في برية صين إذا لم تقدساني في وسط بني إسرائيل، فإنك تنظر الأرض من قبالته ولكنك لا تدخل إلى هنا" "تثنية 32: 49-52".

(1/48)

لقد كان ما حدث في برية صين أن الشعب الإسرائيلي تذمر على الرب وسخط على عملية إخراجه من أرض مصر ولم يكن لموسى وهارون دخل في ذلك ولا يمكن أن يكون وفي هذا تقول التوراة:"

"أتى بنو إسرائيل الجماعة كلها إلى برية صين.. ولم يكن ماء للجماعة، فاجتمعوا على موسى وهارون. وخاصم الشعب موسى وكلموه قائلين:

ليتنا فنينا فناء إخوتنا أمام الرب. لمذا أتيتما بجماعة الرب إلى هذه البرية لكي نموت فيها نحن ومواشينا؟ ليس هو مكان زرع وتين وكرم ورمان ولا فيه ماء للشرب.

فأتى موسى وهارون من أمام الجماعة إلى باب خيمة الاجتماع وسقطا على وجهيهما.

فتراءى لهما مجد الرب. وكلم الرب موسى قائلًا: خذ العصا واجمع الجماعة أنت وهارون أخوك وكلما الصخرة أمام أعينهم أن تعطي ماءها.

فأخذ موسى العصا من أمام الرب كما أمره وجمع موسى وهارون الجمهور أمام لصخرة فقال لهم: اسمعوا أيها المردة، أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماء؟ ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرتين فخرج ماء غزير، فشربت الجماعة ومواشيها.

فقال الرب لموسى وهارون: من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل لذلك لا تدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها. هذا ماء مريبة حيث خاصم بنو إسرائيل الرب فتقدس فيهم.

وكلم الرب موسى وهارون في جبل هور.. قائلا: يضم هارون إلى قومه لأنه لا يدخل الأرض التي أعطيت لبني إسرائيل لأنكم عصيتم قولي عند ماء مريبة.

فمات هارون على رأس الجبل "العدد: 20".

(1/49)

لكن القرآن يبرئ موسى وهارون من كل ما يمسهما من أذى ألحقه بهما كتبة الأسفار من الإسرائليين فحين تخاذل بنو إسرائيل عن دخول أرض فلسطين كان موسى مقدامًا -كصورته المشرقة في القرآن- يتقدم بنفسه ويضمن كذلك نفسه أخيه. وفي هذا يقول القرآن:

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 22-26] .

لقد عطرت سيرة موسى في القرآن ويكفي أن يقول الحق فيه:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا، وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 51-53] .

{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ، وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ، وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ، وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 114-122] .

(1/50)

إلياس:

هو إيليا ذو العزائم والنبي أبو العجائب، يجد في سيرته الباحثون عن المعجزات والخوارق الشيء الكثير والمثير.

لقد كان إلياسين هذا شديدًا على نفسه وكانت هيأته أنه "رجل أشعر متنطق بمنطقة من جلد على حقويه" "الملوك الثاني 1: 8" يسكن البراري ويلجأ إلى الجبال، ويعيش زاهدًا تقيًا ورعًا.

وكان إيليا التشبى هذا قويًا في الحق شديدًا على أعداء الله، فقد ابتلي في زمنه بملك جبار يخضع لزوجة طاغية، ذلك هو آخاب الذي عمل "الشر في عيني الرب أكثر من جميع الذين قبله.. حتى اتخذ إيزابل ابنة ملك الصيدونيين امرأة وسار وعبد البعل وسجد له.. وزاد آخاب في العمل لإغاطة الرب إله إسرائيل أكثر من جميع ملوك إسرائيل الذي كانوا قبله" "الملوك الأول 16: 30-33".

لقد كان إيليا يتنبأ باسم الإله الحي الذي لا يموت -بحدوث القحط والجفاف فتتحقق نبؤته تمامً:

"قال إيليا.. لآخاب: حي هو الرب إله إسرائيل الذي وقفت أمامه، أنه لا يكون طل ولا مطر في هذه السنين، إلا عند قولي.

وكان بعد مدة من الزمان أن النهر يبس لأنه لم يكن مطر في الأرض" "الملوك الأول 17: 1-7".

ثم عاد إيليا وتنبأ بانقضاء سنوات الجفاف فتحققت نبؤته بانهمار الأمطار:

"وبعد أيام كثيرة كان كلام الرب إلى إيليا، في السنة الثالثة، قائلًا: اذهب وتراء لآخاب فأعطي مطرا على وجه الأرض. فذهب إيليا ليتراءى لآخاب،

(1/51)

وكان الجوع شديدًا في السامرة. وقال إيليا لآخاب: اصعد كل واشرب لأنه حس دوي مطر.. وأما إيليا فصعد إلى رأس الكرمل وخر إلى الأرض وجعل وجهه بين ركبتيه، وقال لغلامه: اصعد تطلع نحو البحر. فصعد وتطلع وقال: ليس شيء، فقال: ارجع سبع مرات.

وكان من هنا إلى هنا أن السماء اسودت من الغيم والريح وكان مطر عظيم" "الموك الأول: 18".

وفي مواجهة عاصفة بين إيليا وآخاب تحدى إيليا أنبياء البعل الكذابين أن يتقدم هو بقربان إلى الرب إلهه، ويتقدم أولئكم الكذابون بقربان إلى البعل إلههم وتكون علامة الإله الحق أن يرسل نارًا من السماء لتأكل القربان الذي دعي باسمه:

"لما رأى آخاب إيليا قال له آخاب: أأنت هو مكدر إسرائيل؟ فقال: لم أكدر إسرائيل بل أنت وبيت أبيك بترككم وصايا الرب وبسيرك وراء البعليم ...

فالآن ارسل واجمع إلى كل إسرائيل إلى جبل الكرمل وأنبياء البعل أربع المئة والخمسين وأنبياء السوارى أربع المئة الذين يأكلون على مائدة إيزابل.

فأرسل آخاب إلى جميع بني إسرائيل وجمع الأنبياء "الكذابين" إلى جبل الكرمل..

فتقدم إيليا إلى جميع الشعب وقال: حتى متى تعرجون بين الفرقتين. إن كان الرب هو الله فاتبعوه، وإن كان البعل فاتبعوه. ثم قال إيليا للشعب: أنا بقيت نبيًا للرب وحدي وأنبياء البعل أربع مئة وخمسون رجلًا، فليعطونا ثورين فيختاورا لأنفسهم ثورًا. وأنا أقرب الثور الآخر.. ثم تدعون باسم آلهتكم وأنا أدعو باسم الرب. والإله الذي يجيب بنار فهو الله، فأجاب جميع الشعب وقالوا: الكلام حسن.

فأخذوا الثور.. وقربوه ودعوا باسم البعل.. فلم يكن صوت ولا مجيب ...

وقال إيليا لجميع الشعب: تقدموا إلي ... وقطع الثور ووضعه على الحطب ...

وكان عند إصعاد التقدمة أن إيليا النبي تقدم وقال: أيها الرب إله إبراهيم

(1/52)

وإسحاق وإسرائيل، ليعلم اليوم أنك أنت الله في إسرائيل وأني أنا عبدك وبأمرك قد فعلت كل هذه الأمور..

استجبني يارب.

فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة.

فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا: الرب هو الله، الرب هو الله.

فقال لهم إيليا: أمسكوا أنبياء البعل ولا يفلت منهم رجل. فأمسكوهم، فنزل بهم إيليا إلى نهر قيشون وذبحهم هناك" "الملوك الأول: 18".

إن العبر الواضحة في قصة إيليا ومعجزاته أن ما يجري من آيات على يد كل نبي ولو كان عجبا، إنما يتم بأمر الله، وليس هناك عذر لأي إنسان كائنًا من كان أن يتيه في نبي بسبب معجزاته فذاك بعد عن الحقيقة وضياع.

وكان أمر تدبير الطعام إلى إيليا عجيبًا فقد عهد به الله إلى مخلوقات ضعيفة كالغربان من الطير، أو امرأة أرملة من بني الإنسان حلت بها بركة إلياس:

"وكان كلام الرب له قائلًا: انطلق من هنا..واختبئ عند نهر كريث ... فتشرب من النهر وقد أمرت الغربان أن تعولك.

فانطلق وعمل حسب كلام الرب ... وكانت الغربان تأتي إليه بخبز ولحم صباحًا وبخبز ولحم مساءً:

وكان له كلام الرب قائلًا: قم اذهب إلى صرفة وأقم هناك هو ذا قد أمرت هناك امرأة أرملة أن تعولك فقام وذهب إلى صرفة.. وإذا بامرأة أرملة هناك تقشر عيدانًا فناداها. وقال: هاتي لي كسرة خبز في يدك. فقالت: عندي ملء كف في الكوار وقليل من الزيت في الكوز. فقا لها إيليا: لا تخافي..

(1/53)

لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل: أن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص إلى اليوم الذي فيه يعطي الرب مطرًا على وجه الأرض.

فذهبت وفعلت حسب قول إيليا هي وبيتها أيامًا، كوار الدقيق لم يفرغ وكوز الزيت لم ينقص حسب قول الرب الذي تكلم به عن يد إيليا" "الملوك الأول 17".

وحدث أثناء إقامة إيليا عند تلك الأرملة أن مرض ابنها مرضًا قضى عليه، فتضرع إيليا إلى الله أن يحيي ذلك الميت، وقد استجاب الله دعاءه:

"قال لها "إيليا": أعطيني ابنك وأخذه من حضنها.. وأضجعه على سريره، وصرخ إلى الرب وقال: أيها الرب إلهي.. أأيضًا إلى الأرملة التي أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك ابنها. فتمدد على الولد ثلاث مرات وصرخ إلى الرب وقال: يا رب إلهي لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه.

فسمع الرب لصوت إيليا فرجعت نفس الولد إلى جوه فعاش.

فأخذ إيليا الولد.. ودفعه إلى أمه وقال إيليا: انظري ابنك حي.

فقالت المرأة لإيليا: "هذا الوقت علمت أنك رجل الله وأن كلام الرب في فمك حق" "الملوك الأول 17: 19-24".

إن الحق هو ما شهدت به المرأة وهو ما يشهد به كل عاقل على صدق إيمان هذه المرأة التي لم تأخذها روعة الموقف ولم يذهب بعقلها ما صنعه إيليا من إيحاء لابنها بعد موت أحزنها وأثكلها. ولم تقل المرأة لإيليا:

علمت أن فيك جانبًا إلهيا لأنك فعلت ما اختص به الإله المحيي المميت، ولكنها قالت له بإيمان الراسخين: علمت أنك رجل الله وأن كلام الرب في فم. ومن ثم إن أحييت أو أمت فلن يكون ذلك إلا بأمر الله.

(1/54)

وحين انتهت حياة إيليا فإنه رفع إلى السماء ولم يذق الموت على الأرض:

"قال إيليا لإليشع "تلميذه": اطلب ماذا أفعل لك قبل أن أوخذ منك.

فقال إليشع: ليكن نصيب اثنين من روحك علي..

وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا بمركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء.

وكان إليشع يرى وهو يصرخ: يا أبي، يا مركبة إسرائيل وفرسانها، ولم يره بعد..

فأخذ رداء إيليا الذي سقط عنه فضرب الماء.. فانطلق إلى هنا وهناك فعبر إليشع.

ولما رآه بنو الأنبياء.. قالوا: قد استقرت روح إيليا على إليشع فجاءوا للقائه وسجدوا له إلى الأرض" "الملوك الثاني 2: 9-15".

هذا هو إيليا العجيب -كما يرى في أسفار العهد القديم -ذو الرداء العجيب الذي شابه عصا موسى حين فلق الماء فعبر العابرون.

وفي أسفار العهد الجديد نجد إيليا يحظى بما يليق به كنبي عظيم، فقد كان له نشاط بعد انقضاء حياته على الأرض.

إذ ظهر إيليا للمسيح وتلاميذه، وهؤلاء سمعوه يلقي القول إلى المسيح:

"أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا وصعد بهم إلى جبل عال منفردين وحدهم..

وظهر لهم إيليا مع موسى، وكانا يتكلمان مع يسوع.

(1/55)

فجعل بطرس يقول ليسوع: ... فلنصنع ثلاث مظال، لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة، لأنه لم يكن يعلم ما يتكلم به إذ كانوا مرتعبين. فنظروا حولهم بغتة ولم يروا أحدًا غير يسوع وحده معهم" "مرقس 9: 2-8".

ولقد كان الكهنة والشعب الإسرائيلي يتوقع عودة إيليا قبل مجيء المسيح كما فهموا ذلك من نبوءات الكتب والأنبياء ولذلك ترددوا في الإيمان بالمسيح: "سأله تلاميذه قائلين: فلماذا يقول الكتبة إن إيليا ينبغي أن يأتي أولًا" "متى 17: 10".

وفي القرآن الكريم نجد إيليا موضع تكريم ككل أنبياء الله ورسله: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 123-132] .

هذا هو إيليا الأول الذي طابت سيرته في كل الكتب المقدسة، والذي تمضي بعده القرون الطويلة قبل أن يظهر إيليا آخر -يحيى بن زكريا- يعيد لنا سيرته في القوة على نفسه والشدة على الحاكم الظالم.

(1/56)

عيسى:

لفظ المسيح:

ظهر في بني إسرائيل مسحاء كثيرون. كانوا يحظون بهذا اللقب بمجرد أن يمسحهم أحد الأنبياء بالزيت المقدس الطاهر، فهكذا كان الحال مع شاول الذي مسحه النبي صموئيل:

"والرب كشف أذن صموئيل.. قائلًا: غدًا في مثل الآن أرسل إليك رجلًا من أرض بنيامين، فامسحه رئيسًا لشعبي إسرائيل.

فأخذ صموئيل قنينة الدهن وصب على رأسه.

وكان عندما أدار "شاول" كتفه لكي يذهب من عند صموئيل أن الله أعطاه قلبًا آخر.. وإذا بزمرة من الأنبياء لقيته فحل عليه روح الله فتنبأ في وسطهم" "صموئيل الأول 9:" 15-16".

فكان المسيح هو اللقب الذي حظي به شاول كما أعلن صموئيل: "وقال صموئيل لكل إسرائيل: "اشهدوا علي قدام الرب وقدام مسيحه ... شاهد الرب عليكم وشاهد مسيحه اليوم هذا أنكم لم تجدوا ببدي شيئًا" "صموئيل الأول: 12: 1-5".

وكذلك شهد داود لشاول بأنه مسيح الرب:

"قال "داود" لرجاله: حاشا لي.. أن أعمل هذا الأمر بسيدي "شاول" بمسيح الرب، فأمد يدي إليه لأنه مسيح الرب" "صموئيل الأول 24: 6".

وبعد شاول: قام صموئيل بمسح داود، فتحول إلى مسيح آخر: "قال الرب "لصموئيل": قم امسحه.. فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا" "صموئيل الأول 16: 12-13".

(1/57)

وقبل أن يصعد إلياس إلى السماء فإنه مسح تليمذه إليشع نبيًا من بعده:

"وقال الرب "لإيليا": اذهب.. وامسح إليشع بن شافاط ... نبيا عوضًا عنك" "الملوك الأول 19: 15-17".

وأخيرًا جاء المسيح عيسى، أعظم مسيح ظهر في بني إسرائيل، والذي سمي في الإنجيل مسيح الرب:

"كان رجل في أورشليم اسمه سمعان. أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب. أخذه على زراعيه وبارك الله" "لوقا 2: 25-28".

ولادة العذراء:

اقتضت إرادة الله أن تلد سارة العجوز لإبراهيم الشيخ الهرم ابنًا هو إسحاق.

وإذا كان إنجاب الرجل العجوز ذرية في شيخوخته محتملًا إلى حد ما فإن إنجاب المرأة حين تتقدم بها السن وتتعدى التسعين عامًا يعتبر شبه مستحيل. ولكنه أمر الله يقول للشيء: {كُنْ فَيَكُونُ} . ولهذا حدث لإبراهيم ما أثار عجبه حين بشرته الملائكة بإسحاق، إذ كان قد "سقط إبراهيم على وجهه وضحك وقال في قلبه: هل يولد لابن مائة سنة، وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة"؟! "تكوين 17: 17".

وفعلًا ولدت سارة -على الرغم من عقرها- وعلى الرغم من شيخوخة إبراهيم ومرت القرون.. أكثر من سبعة عشر قرنًا من الزمان.

ثم كانت إرادة الله أن يذكر الناس بما حدث لأبي الأنبياء إبراهيم، فأعاد سيرته الأولى في الإنجاب على الكبر ممثلة تمامًا في زكريا وزوجه العاقر، إذ تعجب هذا كما سبق أن تعجب جده إبراهيم وقال للملاك:

"كيف أعلم هذا لأني أنا شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها؟ فأجاب الملاك وقال له: أنا جبرائيل الواقف قدام الله وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا" "لوقال 1: 18-19".

(1/58)

وبعد هذا التمهيد الإلهي المحكم، والذي تحقق فيه حدوث إنجاب في حالة عجيبة، أعقبه في حينه بحالة أعجب، ألا وهي حدوث إنجاب للعذراء مريم.

فالإنجيل يقول: "أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا "كزوجين" وجدت حبلى من الروح القدس" "متى 1: 18".

والدليل على أن توقيت حمل زوجة زكريا العاقر كان حكمة أريد بها التمهيد لحادث حمل العذراء -لكي يتقبله الناس دون زيغ أو طغيان- أن حمل زوجة زكريا العجيب استخدم حجة لإقناع مريم ذاتها بالاستسلام لما يثيرة حملها الأعجب من مشاكل واضطراب في نفسها وفي بيئتها.

فبعد أن بشرها الملاك بالحمل والولادة "قالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلًا!

فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك ... وهو ذا اليصابات "زوجة زكريا" نسيبتك هي أيضًا حبلى بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقرًا، لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله.

فقالت مريم: هو ذا أنا أمة الرب "واحدة من عبيد الله" ليكن لي كقولك: فمضى من عندها الملاك" "لوقا 1: 34-38".

ولا شك في أن حدوث حمل لفتاة عذراء دون اتصال برجل ما على أية صورة من الصور، إنما هو شيء خارق للعادة لأن ما اعتاد عليه الناس هو ضرورة تلقيح المرأة من الرجل حتى يتم الحمل وتحدث الولادة، لكن المؤمنين بالله ينظرون إلى حادث حمل مريم العذارء بابنها المسيح إثر نفحة من الروح القدس باعتباره واحدًا من مظاهر قدرة الله ورعايته لخلقه.

فالله -سبحانه- أوجد المسيح من امرأة فقط دون تدخل من رجل. وكان نتاج ذلك مولد إنسان بالصورة التي تلد بها كل النساء. وبذلك خلق الله إنسانًا ذا روح من إنسان ذي روح.

(1/59)

ومن قبل أوجد الله حواء. الأم الأولى للبشرية كجزء من آدم، وبذلك خلق الله إنسانًا ذا روح من إنسان ذي روح، لكن عملية مولد حواء كانت على غير الصورة التي توالدت بها البشرية بعد ذلك، فحواء لم يحمل بها في بطن ولم تنزل عند ولادتها من رحم.

ومن قبل أوجد الله آدم من قبضة من طين، أي خلق إنسانا ذا روح من جماد غير ذي روح. ولقد كانت التي حلت في آدم نفخة من روح الله.

ومن قبل آدم خلق الله الأكوان الرهيبة بعجائبها وعظائمها من العدم، أي خلق أشياء من لا شيء.

فالله عند المؤمنين {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرً} [البقرة: 20] .

ويمكن البرهنة على أن احتمالات الإنجاب للحالات الثلاث التي عرضناها وهي: إبراهيم الشيخ وزوجه العاقر سارة، وزكريا الشيخ وزوجه العاقر البصابات، ومريم العذراء بلا زوج -كلها متساوية، وذلك كالآتي:

نعلم من علوم الطبيعة أنه إذا توقف حدث على عاملين "أ"، "ب" بحيث لا يقع الحدث إلا إذا وجد العاملان معًا، فإن احتمال وقوع الحدث يتوقف على احتمال وجود العاملين الذي نعبر عنه بالصورة المبسطة التالية:

احتمال الحدث = احتمال العامل "أ" × احتمال العامل "ب".

وفي حالاتنا هذه نقول إن:

الحدث = الحمل.

العامل "أ"= حيوانات منوية صالحة.

العامل "ب" = بويضة أنثى صالحة.

ففي حالة إبراهيم نجد أن:

العامل "أ" محتمل وجوده، أي أن قيمته أكبر من الصفر ولتكن "س".

(1/60)

العامل "ب" غير محتمل وجوده، لأن سارة بلغت 90 عامًا، أي أن قيمته تساوي صفرا.

احتمال الحمل في حالة إبراهيم = س×. = صفر.

وبالمثل في حالة زكريا لأن الحالتين متماثلتين تمامًا.

وفي حالة مريم نجد أن:

العامل "أ" غير موجود أي أن قيمته = صفر.

العامل "ب" يحتمل -بل يغلب- وجوده في العذراء الناضجة، أي أن قيمته أكبر من الصفر ولتكن "ص".

احتمال الحمل في حالة مريم = 0 × ص = صفر.

ومن ذلك يتبين أن الحالات الثلاث متساوية، ولا يبقى لنا إلا أن نرد الأمر فيها جميعًا "لله العلي الكبير".

هذا.. ولم تكن ولادة العذراء مريم أول حادثة من نوعها، فقد سبقتها على الأقل حالة أخرى ذكرتها المصادر المسيحية عند الحديث عن تفسير النبوءة التي نقلها متى في إنجيله من سفر أشعياء، وفيها يقول:

"هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل "الذي تفسيره الله معنا" "1: 23".

يقول المفسرون:

"هذه النبوة مذكورة في "إش 7: 14": وقد أوحي بها نحو "740 ق. م" والعبارة منقولة عن الترجمة السبعينية "وهي ترجمة نقلها من العبرانية إلى اليونانية بعض علماء اليهود في الإسكندرية بين سنة 200، 300 ق. م.

وهي النسخة التي غلب استعمال اليهود لها في أيام المسيح".

(1/61)

وظن البعض أن هذه النبوءة تمت أولًا في أيام أحاز الملك في ولادة ولد من فتاة كانت حينئذ عذراء لكنها تزوجت فيما بعد. ثم إنها تمت ثانيًا بأسمى معنى بولادة المسيح وظن آخرون أن أشعياء لم يشر إلا إلى يسوع بن مريم. والرأي الأول هو الأرجح لأنه كثيرًا ما رأينا النبوءة الواحدة تمت عدة مرات"1.

من ذلك يتبين أن الشعب الإسرائيلي قد ولدت فيه عذراء مرة- على الأقل- منذ حوالي سبعة قرون قبل أن تلد فيه عذراء أخرى هي مريم. وفي جميع الحالات فإن هذه الولادة العذرية لا يمكن أن تعني شيئًا بالنسبة للمولود -مثل الحديث عن جانب لاهوتي له أو نحو ذلك- لكنها تعني شيئًا واحدً وهو أن الله -سبحانه- {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} 2، لأن الله {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3.

وإذا تركنا موضوع ولادة العذراء عند هذا الحد الذي يكفي لتقدير أن مجيء المسيح عيسى على تلك الصورة المعروفة ليس أكثر عجبًا من حواء أم البشرية، أو مجيء آدم الإنسان الأول -ثم انتقلنا إلى ميدان العلم الحديث، لوجدناه يتمشى تمامًا مع هذا الذي قررناه:

فمنذ ثلاثة عشر عامًا نشرت مجلة "لانست"4 الطبية الإنجليزية المعروفة، بحثًا بعنوان "التوالد العذري في الثدييات" جاء فيه: "إن إمكانية حدوث حمل لامرأة دون إدخال واحد -على الأقل- من الحيوانات المنوية إلى رحمها يعتبر أمرًا لا يستطيع الإنسان العادي قبوله برضا. ولبضع قرون وقفت الفكرة العلمية في صف هذا الإنسان العادي، لكن علماء الأحياء اليوم وخاصة علماء الوراثة الخلوية قد يكونون أقل تشددًا في استبعاد مثل هذا الاحتمال..

__________

1 الكنز الجليل في تفسير الإنجيل: تفسير إنجيل متى - ص9.

2 آل عمران: 47.

3 البقرة: 20.

4 مجلد عام 1955.

(1/62)

إن بعض الدوافع لذلك ناقشتها في الأسبوع الماضي الدكتورة "هيلين سبيرواي" أستاذة علم البيولوجيا الإحصائية بجامعة لندن، وذلك في محاضرة لها بعنوان: ولادة العذارى. ولقد كان ذلك بمناسبة ما تلاحظ من أن بعض أنواع الأسماك التي عزلت إناثها منذ ولادتها قد وجدت مخصبة ونتج عن ذلك ولادتها لنسل يتكون في غالبيته من إناث.

إن التوالد العذري الذي تبدأ فيه البويضة بالانقسام ذاتيًا، منتجة جنينًا بسيطًا، أو قيامها بتعويض الكروموزوم الأبوي الناقص بشكل ما من أشكال الازدواج يعتبر شيئًا نادرًا جدًا في الفقاريات ذات الدم الحار، لكنه شيء عادي في اللافقاريات.

وقد أمكن تسجيل عملية انقسام البويضة عذريًا في القطط1، وحيوان ابن مقرض2 ثم حديثًا في بعض دجاج الرومي غير المخصب3.

لكن تطور التوالد العذري بمعناه الكامل بحيث يعطي نسلًا قابلًا للنمو والحياة، يمكن عمله في الثدييات وذلك بتبريد قنوات فالوب، ولقد أمكن إنتاج كثير من الأرانب عديمة الآباء بهذا الأسلوب....

وبمراعاة كل تلك الاعتبارات، علينا أن نعيد النظر في مبررات اعتقادنا بأن التوالد الذاتي في الفقاريات شيء نادر، وأنه لا وجود له في الثدييات".

هذا.. وكانت صحيفة "الصنداي بكتوريال" البريطانية قد أشارت في عددها الصادر بتاريخ 6 نوفمبر 1955 إلى محاضرة الدكتورة "هيلين سبيرواي" عن "ولادة العذارى" وتلقت نتيجة لذلك عددًا من الرسائل من أمهات يقلن إنهن تعرضن لعملية حمل وولادة عذرية دون تدخل من أي رجل على أية صورة

__________

1 strassmann, e.o. amer. j. obstet. gynec. 1949, 58, 237.

2 chang, m. c. anat, rec. 1950, 108.31.

3 olsen, m.w., marsden, s.j. science, 1954, 120,545.

(1/63)

من الصور. وآنذاك شكلت الصحيفة لجنة من الأخصائيين أجرت فحوصًا طبية واختبارات علمية على عدد من تلكم الأمهات واستقر رأي اللجنة على استمرار بحث حالة سيدة تدعى إميمارى جونز وابنتها مونيكا ذات الأحد عشر عامًا والتي قالت أمها: إنها ولدتها من غير أب, وبعد ستة أشهر قالت اللجنة في تقريرها:

"لقد استخدمنا جميع التجارب والاختبارات العلمية الهامة المعروفة في عالم الطب، ولم نستطع أن نثبت أن أي رجل قد اشترك بأية وسيلة في خلق هذه الفتاة، إن جميع النتائج التي وصلنا إليها تتمشى مع نظرية الولادة العذرية، ولم نجد في هذه الفتاة أثرًا يمكن أن يأتي من أي شخص آخر سوى أمها"1.

كذلك أثبتت التجارب أنه بتنشيط البويضة بطرق كيميائية أو طبيعية فمن المحتمل تكوين الجنين كما حدث للضفادع منذ 45 عامًا عندما وخزت بويضة الأنثى بدبوس فنشطت وكونت جنينًا دون حيوانات منوية من الذكر وتحدث هذه الحالة في معظم اللافقاريات كالنمل.

وقد يكفي لتلقيح البويضة تنبيه ميكانيكي أو كهربائي كما سبق أن أعلن ذلك الأستاذ "سيفرز" رئيس مجمع ترقية العلوم البريطاني عام 1912"2.

واليوم ونحن في عام 1978 يطالعنا ما أذاعته وكالة يونيتدبرس للأنباء وهذا نصه: "وضعت أمس سيدة في جزر الرأس الأخضر طفلة حاملًا وظن الأطباء أن الطفلة مصابة بورم في بطنها ولكن الأشعة أوضحت أن ببطنها جنينًا عمره عدة أشهر، وقرر الأطباء إجراء عملية جراحية عاجلة لإنقاذ حياة الطفلة"3.

__________

1 صحيفة "أخبار اليوم" بتاريخ 30 يونية 1956.

2 من كتاب: العلم والعمران -فؤاد صروف- ص132.

3 صحيفة "الجمهورية" بتاريخ 9 مارس 1978.

(1/64)

لقد ضل كثيرون في أمر ولادة العذراء مريم، فالبعض أنكره وكفر وقال عليها آنذاك "بهتانًا عظيمًا" لا يزال يتردد صداه في الإنجيل حتى اليوم.

ففي إحدى محاورات المسيح مع اليهود، قالوا له: "إننا لم نولد من زنا" "يوحنا 8: 41".

بينما رأى البعض الآخر أن ولادة المسيح عيسى على تلك الصورة النادرة تعنى أن فيه جانبًا إلهيًا يتميز به عن بقية البشر وإن جاء على صورة بشر.

وبين رفض المسيح والغلو فيه تبقى حقيقة أمره واضحة كل الوضوح لا غموض فيها ولا إبهام. فالمؤمنون بالله جميعًا يشهدون: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ} [الشورى: 49] .

{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] .

أسماء عيسى وألقابه:

لقد نسب كتبة الأناجيل المسيح عيسى إلى يوسف النجار زوج أمه مريم، فيقول متى: "كتاب ميلاد يسوع المسيح.. إبراهيم ولد إسحاق، وإسحاق ولد يعقوب ... وسليمان ولد -رحعبام.. ومتان ولد يعقوب ويعقوب ولد يوسف رجل مريم، التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح" "متى 1: 1-16".

ويقول لوقا: "ولما ابتدأ يسوع بن ناثان بن داود" "لوقا 3: 23-31".

"كان أبواه "مريم ويوسف" يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح. ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد. وبعد ما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في أورشليم، ويوسف وأمه لم يعلما.. ولما لم يجداه رجعًا إلى أورشليم يطلبانه..فلما أبصراه اندهشا.

(1/65)

وقالت له أمه: يا بني، لماذا فعلت بنا هكذا. هو ذا أبوك وإنا كنا نطلبك معذبين" "لوقا 2: 41-48".

وعرف المسيح عيسى أيضًا بابن داود، يقول لوقا: "أرسل جبرائيل الملاك من الله.. إلى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف. فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم ... ها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا ... ويعطيه الرب الإلهي كرسي داود أبيه" "لوقا 1: 26-32".

وقد قبل المسيح لقب ابن داود من المؤمنين به: "وفيما هو خارج من أريحا مع تلاميذه وجمع غفير، كان بارتيماس الأعمى جالسًا على الطريق.. فلما سمع أنه يسوع الناصري ابتدأ يصرخ ويقول: يا يسوع بن داود ارحمني -فأجاب يسوع وقال له: ماذ تريد أن أفعل بك؟ فقال له الأعمى: يا سيدي أن أبصر. فقال له يسوع: اذهب، إيمانك قد شفاك. فللوقت أبصر وتبع يسوع في الطريق" "مرقس 10: 46-52".

على أن الاسم الذي اختاره المسيح لنفسه وكرره كثيرًا في أحاديثه هو "ابن الإنسان" وما ذلك إلا لكي يعي الناس جميعًا أنه أولًا وأخيرًا بشر مثل كل البشر. ومن غلا فيه بعد ذلك وخلط بينه وبين الله على أية صورة من الصور {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون: 117] .

لقد شاع استخدام هذا الاسم في الأناجيل الأربعة وكان هو المفضل عند المسيح حين يتكلم عن نفسه:

"كل من اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة الله، وكل من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، وأما من جدف على الروح القدس فلا يغفر له" "لوقا 12: 8-10".

"قال له واحد: يا سيد، أتبعك أينما تمضي؟ فقال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار وأما ابن الإنسان فليس له أن يسند رأسه" "لوقا 9: 57-58".

(1/66)

"ابن الإنسان قد جاء لكي يخلص ما قد هلك" "متى 18: 11".

"الحق لكم: لا تكلمون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان" "متى 1: 23".

"من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان "يوحنا 1: 51".

"اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكم ابن الإنسان" "يوحنا 6: 27".

ولقد أكد عيسى لتلاميذه أنه المسيح، فليعلموا ذلك وهو لا يطلب منهم أكثر من هذا:

"خرج يسوع وتلاميذه إلى قرى قيصرية فيليبس. وفي الطريق سأل تلاميذه قائلًا لهم: من يقول الناس أني أنا؟ فأجابوا: يوحنا المعمدان، وآخرون: إيليا، وآخرون: واحد من الأنبياء.

فقال لهم: وأنتم من تقولون أني إنا؟

فأجاب بطرس وقال له: أنت المسيج" "مرقس 8: 27-79".

لكن كاتب إنجيل متى أضاف على قول بطرس هذا شيئًا آخر من تلك الأقوال التي فتحت الأبواب واسعة للجدل والشقاق بل والحروب عبر القرون. فهو يقول: "ولما جاء يسوع إلى نواحي قيصرية فيليبس ... قال لهم: وأنتم من تقولون إني أنا؟ فأجاب سمعان بطرس وقال: أن المسيح ابن الله الحي". "متى 16: 13-16".

ويقول جون فنتون1 في تعليقه على هذه الفقرة من إنجيل متى: "لقد أضاف متى كلمات: ابن الله الحي، إلى كلمات مرقس: أنت المسيح، كما أضاف أيضًا كلمات يسوع التالية..

__________

1 عميد كلية اللاهوت بليتشفيلد بإنجلترا.

(1/67)

ومن هذا يتبين أن سياق الكلام حاليًا -يحتمل ألا يكون هو المضمون الأصلي.

لقد مارس متى هنا عادته في إضافة أقوال إلى أقوال مرقس"1.

ومن المعلوم أن إنجيل مرقس هو أقدم الأناجيل وأن كلًا من متى ولوقا استعانا به عندما كتبا إنجيلهما. ومهما يكن من أمر فإن تعبير "ابن الله" قد استخدمه الإسرائيليون القدامى وكتبة الأسفار ليدل على محبة الله ورعايته ولا يسمح بشيء أكثر من هذا.

فحين ذهب موسى لفرعون: يقول كتبة التوراة: "قال الرب لموسى.. تقول لفرعون: هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر.. أطلق ابني "الشعب الإسرائيلي" ليعبدني.

بعد ذلك دخل موسى وهارون وقالا لفرعون: هكذا يقول الرب إله إسرائيل: أطلق شعبي ليعيدوا لي في البرية" "خروج 4: 21-23، 5: 1".

"أنتم أولاد الرب إلهكم.. لأنكم شعب مقدس للرب إلهك" "تثنية 14: 1-2".

"أبو اليتامى، وقاضي الأرامل، الله" "مزمور 68: 5".

"وجدت داود عبدي بدهن قدسي مسحته. وهو يدعوني: أبي أنت. إلهي وصخرة خلاصي" "مزمور 89: 20- 26".

"كما يترأف الأب على البنين، يترأف الرب على خائفيه" "مزمور 103: 13".

"الذي يحبه الرب يؤدبه، وكأب بابن يسر به" "أمثال 3: 12".

"قال داود لسليمان.. كان إلي كلام الرب قائلًا.. هو ذا يولد لك ابن.. اسمه يكون سليمان.. هو يبني بيتًا لاسمي وهو يكون لي ابنًا وأنا له أبًا" "أخبار الأيام الأول 22: 7-10".

__________

1 j. c. fenton: saint mattew, p. 265

(1/68)

ويقول أشعياء: "إنك أنت أبونا.. أنت يا رب أبونا، ولينا منذ الأبد اسمك" "أشعياء 63: 16".

وفي محاورة بين المسيح واليهود قالوا له: "لنا أب واحد وهو الله". "يوحنا 8: 41".

ويشتهر إنجيل يوحنا بكثرة تفسيراته، وهو هنا يقول: "أولاد الله أي المؤمنون باسمه" "يوحنا 1: 12".

كذلك يقول: "ربي، الذي تفسيره، يا معلم" "يوحنا 1: 38"، "ربوني الذي تفسيره: يا معلم" "يوحنا 20: 16".

ويقول إنجيل متى على لسان المسيح: معلمكم واحد، المسيح، وأنتم جميعًا إخوة، ولا تدعوا لكم أبا على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السموات" "متى 33: 8-9".

على كل فقد حدد المسيح لقبه وحقيقته لتلاميذه تحديدًا واضحًا أشد الوضوح، مبرأ عن كل لبس وبغير حاجة إلى تأويل. ففي ساعاته الأخيرة مع تلاميذه قال لهم: "أنتم تدعونني معلمًا وسيدًا، وحسنا تقولون، لأني أنا كذلك" "يوحنا 13: 13".

وخلاصة القول في أسماء عيسى: إن أدقها ولا شك: "المسيح عيسى بن مريم" ثم ما نقرأه بعد ذلك في الأناجيل: "ابن الإنسان " - "يسوع بن يوسف الذي من الناصرة" - "ابن النجار" - "ابن داود" - "معلمًا وسيدًا".

شخصية المسيح في الأناجيل:

نعرض هنا بعض الصور والحالات والمواقف التي عرضها كتبة الأناجيل الأربعة لشخصية المسيح منذ مولده حتى رفعه والتي يكفي ذكرها دون الحاجة إلى كثير من الشروح والتأويلات فحقيقتها واضحة لا تحتاج إلى تعليق.

(1/69)

مولد المسيح وطفولته:

يقول متى: "أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس.. فيوسف رجلها.. أراد تخليتها ولكن إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلًا.. لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب وأخذ امرأته. ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر. ودعا اسمه يسوع" "متى 1: 18-25".

لقد حملت مريم بابنها عيسى بنفخة من الروح القدس، ثم سار الحمل بعد ذلك طبيعيًا، وكذلك الميلاد، إذ يقول لوقا: "وبينما هما "يوسف ومريم" هناك، تمت أيامها لتلد. فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في المذود" "لوقا 2: 6-7".

لقد كان حديث كتبة الأناجيل عن عدم معرفة يوسف لمريم -أي معاشرتها كزوجة قبل أن تلد ابنها البكر- سببًا لإثارة الجدل بين شيوخ المسيحية -وخاصة منذ القرن الخامس الميلادي -عما إذا كان يوسف قد عاشرها كزوجة بعد ذلك، وعما إذا كانت قد أنجبت له ذرية، خاصة وأن الأناجيل سمت عيسى ابنها البكر" وذكرت أن له إخوة يعيشون في حضن أمه.

ويقول "جون فنتون" في تفسيره للجزء الأخير من الفقرة التي ذكرها متى: ليس من الضروري أن يعطي هذا انطباعًا بأن يوسف عرفها بعد أن ولدت ابنها، لكن الإشارة إلى إخوة يسوع وأخواته التي ذكرها متى في "12: 46، 13: 55" دون أي بيان آخر توحي بأنه عرفها بعد ذلك"1.

هذا.. "ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع.. ولما تمت أيام تطهيرها حسب شريعة موسى صعدوا به إلى أورشليم ليقدموه للرب.

__________

1 المرجع السابق ص44.

(1/70)

كما هو مكتوب في ناموس الرب أن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوسًا للرب. ولكن يقدموا ذبيحة كما قيل في ناموس الرب زوج يمام أو فرخي حمام" "لوقا 2: 21-24".

المسيح في صباه:

"كان أبواه "يوسف ومريم" يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح.

ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد.

وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالسا وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم..

ثم نزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان خاضعًا لهما.

وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس".

هذا.. ومن المعلوم أن الأناجيل صمتت صمتًا تامًا عن الفترة بين صباه لما كان له من العمر اثنتا عشرة سنة إلى أن بدأ دعوته وله نحو ثلاثين سنة كما يقول لوقا.

التمهيد للرسالة:

"جاء يسوع من الناصرة واعتمد من يوحنا في الأردن. وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلًا عليه" "مرقس 1: 9-10".

"وإذا كان يصلي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة" "لوقا 3: 21-22".

(1/71)

"وشهد يوحنًا قائلًا: إني قد رأيت الروح نازلًا مثل حمامة من السماء فاستقر عليه وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء، قال لي: الذي ترى الروح نازلًا ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس" "يوحنا 1: 32-33".

بعد ذلك تعرض المسيح لفتنة الشيطان وتجربته حتى يظهر مدى طاعته لله، وشدة إيمانه به، وتمسكه بتوراة موسى:

"أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس وكان يقتاد بالروح في البرية، أربعين يومًا يجرب من إبليس ولم يأكل شيئًا في تلك الأيام، ولما تمت جاع أخيرًا.

وقال له إبليس: إن كنت ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزًا.

فأجابه يسوع قائلًا: مكتوب1 أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله.

ثم أصعده إبليس إلى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان وقال له إبليس: لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن ... فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع.

فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان، إنه مكتوب22: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد.

ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل، لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك وأنهم على أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك.

فأجاب يسوع وقال له: إنه قيل3: لا تجرب الرب إلهك.

__________

1 يقصد ما في توراة موسى التي تقول: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان" "تثنية 8: 3".

2 يقصد ما تقوله التوراة: "الرب إلهك تتقي وإياه تعبد وباسمه تحلف" "تثنية 6: 13".

3 القول هنا يقصد به ما في التوراة: "لا تجربوا الرب إلهكم" "تثنية 6: 16".

(1/72)

ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين.

ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل ... وكان يعلم في مجامعهم ممجدًا من الجميع" "لوقا 4: 1-15".

لقد عاش المسيح بين الناس يتعرض لما يتعرضون له من مشقات تتعبهم وآلام تحزنهم ومسرات تفرحهم وكان ينفعل وتجيش نفسه بشتى العواطف والانفعالات التي يعرفها كل الناس. بل إنه كان يقبل على الحياة أكثر مما فعل سلفه يحيى بن زكريا، فذلك ما شهد به المسيح، وكذلك شهد كتبة الأناجيل.

الطعام والشراب:

يقول المسيح: "جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب، فيقولون: به شيطان ...

جاء ابن الإنسان "المسيح" يأكل ويشرب، فيقولون: هو ذا إنسان أكول وشريب خمر" "متى 11: 18-19".

ويقول: "جون فنتون" في تعليقه على هذه الفقرة: "لقد دعا كل من يوحنا المعمدان "يحيى بن زكريا" والمسيح إلى التوبة، لكن اليهود لم يستجيبوا لهما. فاليهود يشبهون أولادًا سيئى المزاج مثيرين للخصام، لا يعجبهم شيء.

لقد عاش يوحنا بينهم ناسكًا متقشفًا فقالوا: به شيطان، ولما لم يكن المسيح متقشفًا قالوا: إنه ماجن ملحد"1.

وفي الساعات الأخيرة للمسيح مع تلاميذه "قال لهم شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم.. ثم تناول كأسًا "من الخمر" وشكر وقال: خذوا هذه واقتسموها بينكم" "لوقا 22: 14-16".

__________

1 المرجع السابق ص180.

(1/73)

وأقول لكم: إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا" "متى 26: 29".

الحب: "قدموا إليه أولادًا لكي يلمسهم، وأما التلاميذ فانتهروا الذين قدموهم: فلما رأى يسوع ذلك اغتاظ وقال لهم: دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعوهم لأن مثل هؤلاء ملكوت الله. فاحتضنهم ووضع يديه عليهم وباركهم" "مرقس 10: 13-15".

"كان يسوع يحب مرثا وأختها ولعازر، فلما سمع أنه مريض مكث حينئذ في الموضع الذي كان فيه يومين" "يوحنا 11: 5-6".

متاعب الحياة وأحزانها: "أتى إلى مدينة من السامرة.. وكانت هناك بئر يعقوب. فإذا كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر فجاءت امرأة من السامرة لتستقي ماء، فقال لها يسوع: أعطيني لأشرب.

لأن تلاميذه كانوا قد مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعامًا" "يوحنا 4: 5-8".

وقالت مريم أخت لعازر المريض الذي توفي حديثًا: "يا سيد، لو كنت ها هنا لم يمت أخي. فلما رآها يسوع تبكي واليهود الذين جاءوا معها يبكون انزعج بالروح واضطرب وقال: أين وضعتموه؟ قالوا له: يا سيد، تعالى وانظر بكى يسوع" "يوحنا 11: 32-35".

"جاء معهم يسوع إلى ضيعة يقال لها جثسيماني.. ثم أخذ معه بطرس وابنى زيدي وابتدأ يحزن ويكتئب. فقال لهم: نفسي حزينة جدًا حتى الموت. امكثوا ها هنا واسهروا معي" "متى 26: 36-78".

العجز: "قال لهم يسوع: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته. ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة" "مرقس 6: 4-5".

(1/74)

"خرج الفريسيون وابتدءوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء لكي يجربوه.

فتنهد بروحه وقال: لماذا يطلب هذا الجيل آية؟ الحق أقول لكم لن يعطى هذا الجيل آية. ثم تركهم ودخل أيضًا السفينة ومضى إلى العبر" "مرقس 8: 11-13".

ولقد قال المسيح بوضوح: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا" "يوحنا 5: 30".

وكما عجز عن الفعل واعترف بذلك فقد عجز عن القول واعترف بذلك أيضًا.

فحين سأله تلاميذه عن "انقضاء الدهر" ويوم القيامة قال لهم: "أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب" "مرقس 13: 32".

الغضب والعنف: "صعد يسوع إلى أورشليم ووجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقرا وغنمًا وحمامًا والصيارف جلوسًا. فصنع سوطًا من حبال وطرد الجميع من الهيكل. الغنم والبقر وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم "يوحنا 2: 13-15".

"جاء إلى يسوع كتبة وفريسيون.. قائلين: لماذ يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ؟

فأجاب وقال لهم: وأنتم أيضًا لماذا تتعدون وصية الله.. يا مراءون.

ثم دعا الجمع وقال لهم.. اتركره، هم قادة عميان وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة" "متى 15: 1-14".

"لما رأى يسوع ذلك اغتاظ" "مرقس 10: 14".

"نظر حوله إليهم بغضب حزينًا على غلاظة قلوبهم" "مرقس 7: 5".

"جيل شرير فاسق يلتمس آية" "متى 16: 4".

(1/75)

"ابتدأ يوبخ المدن التي صنعت فيها أكثر قواته لأنها لم تتب. ويل لك يا كوزين، ويل لك يا بيت صيدا.. وأنت يا كفر ناحوم المرتفعة إلى السماء ستهبطين إلى الهاوية" "متى 11: 20-23".

"ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون. ويل لكم أيها القادة العميان أيها الجهال والعميان.. أيها الفريسي الأعمى نق أولًا داخل الكأس والصفحة لكي يكون خارجهما أيضًا نقيًا. ويل لكم أيها الكتبة الفريسون المراءون لأنكم تشبهون قبورًا مبيضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات ونجاسة.. أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم" "متى 23-15-33".

الخوف والاضطراب والفزع: "لما كان في أورشليم في عيد الفصح آمن كثيرون باسمه.. لكن يسوع لم يأتمنهم على نفسه لأنه كان يعرف الجميع" "يوحنا 2: 23-24".

"كان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل لأنه لم يرد أن يتردد في اليهودية لأن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه" "يوحنا 7: 1".

"فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه. فلم يكن يسوع أيضًا يمشي بين اليهود علانية بل مضى من هناك إلى الكورة القريبة من البرية" "يوحنا 11: 53-54".

"انزعج بالروح واضطرب.. انزعج يسوع أيضًا في نفسه" "يوحنا 11: 33-38".

"الآن نفسي قد اضطربت وماذا أقول. أيها الآب نجني من هذه الساعة" "يوحنا 21: 27".

"لما قال يسوع هذا اضطرب بالروح" "يوحنا 13: 21".

(1/76)

"وظهر له ملاك من السماء يقويه. وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد الحاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض "لوقا 22: 33-44".

المسيح بين الناس:

حرفته: "لما كان السبت ابتدأ يعلم في المجمع. وكثيرون إذ سمعوا بهتوا قائلين: من أين لهذه.... أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخو يعقوب ويوسى ويهوذا وسمعان؟ أو ليست أخواته ها هنا عندنا؟ فكانوا يعثرون به" "مرقس 6: 1-3".

ويقول "دنيس نينهام" في تعليقه على هذه الفقرة: "إن كلمة النجار هنا مترجمة عن كلمة إغريقية تعني -مثل نظيرتها العبرية- عامل في الحجر أو الخشب أو المعدن، وإن المعنى الدقيق يجب استخراجه في كل حالة من سياق الكلام، إن آباء الكنيسة منقسمون تمامًا بالنسبة لمعنى كلمة النجار هنا، فربما كان يسوع بناء القرية وفي تلك الحالة كان لا بد أن تشتمل مهاراته على بعض أعمال النجارة"1.

ويذكر "وليم باركلي" في تفسيره للعهد الجديد أن حرفة المسيح -وهي النجارة- قد أثرت في تعاليمه فقوله في إنجيل متى: "تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، أحملوا نيري عليكم وتعلموا مني.. لأن نيري هين وحملي حفيف" "11: 28-30" فإن قول المسيح: "نيري هين" معناه في اللغة اليونانية: نيري مناسب. فقد كانت أنيار الثيران تصنع من الخشب وعادة كانوا يحضرون الثور إلى النجار ليقيس النير. وتقول الروايات القديمة إن يسوع في السنوات الصامتة قبل بدء خدمته الجهارية كان يعمل بالنجارة، واشتهر بأنه كان يصنع أفضل الأنيار في كل بلاد فلسطين، وأن الناس كانوا يأتون إليه من كل مكان ليصنع أنيارًا مناسبة لثيرانهم، وتقول الروايات

__________

1 d. e. nineham: saint mark, p, 185

(1/77)

إن المحلات كانت تضع لوحات فوق أبوابها إعلانًا عن نوع العمل فيها، وغالبًا كان يسوع يضع فوق دكان النجارة لوحة تقول: نيري مناسب -أو نيري هين- وربما استخدم يسوع التعبير عينه الذي كان يضعه على دكان النجارة في الناصرة"1.

إخوته: "وفيما هو يكلم الجموع إذا أمه وإخوته قد وقفوا خارجًا طالبين أن يكلموه. فقال له واحد: هو ذا أمك وإخوتك وافقون خارجًا طالبين أن يكلموك. فأجاب وقال للقائل له: من هي أمي ومن هم إخوتي.

ويقول جون فنتون: "ليس هنا ما يعلم عن علاقة هؤلاء الإخوة بيسوع. ومنذ القرنين الرابع والخامس جرى العرف على أن مريم لم يكن لها أولاد سوى يسوع. وإن أولئك الإخوة كانوا إما أولادا ليوسف من زواج سابق أو كانوا أبناء عمومة أو خئولة ليسوع.

وعندما يقول متى إن يوسف: لم يعرفها "مريم" حتى ولدت ابنها البكر "1: 25" فيمكن أن يعني هذا أن إخوة يسوع وأخواته كانوا الأولاد الصغار ليوسف ومريم"2.

ردة أصحابه: "قال لهم يسوع.. كما أرسلني الآب الحي، وأنا حي بالآب، فمن يأكلني فهو يحيا بي. فقال كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا: إن هذ الكلام صعب. من يقدر أن يسمعه. فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا.

__________

1 تفسير العهد الجديد -تأليف الدكتور وليم باركلي -ترجمة الدكتور بطرس عبد الملك وآخرين ص414-415.

2 j. c. fenton: saint mattew. p. 206

(1/78)

من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه. فقال يسوع للاثني عشر: ألعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا"؟! "يوحنا 6: 53-67".

"وكان عيد اليهود عيد المظال قريبًا. فقال له إخوته: انتقل من هنا واذهب إلى اليهودية لكي يرى تلاميذك أيضًا أعمالك التي تعمل. لأن إخوته أيضا لم يكونوا يؤمنون به" "يوحنا 7: 2-5".

"أقام اثنى عشر "تلميذًا" ليكونوا معه وليرسلهم ليكونوا.. ثم أتوا إلى بيت. فاجتمع أيضًا جمع حتى لم يقدروا ولا على أكل خبر.

ولما سمع أقرباؤه خرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا إنه مختل "العقل" "مرقس 3: 14-21".

عقيدة الذين شاهدوا المسيح ومعجزاته وآمنوا به: "كان بارتيماس الأعمى.. جالسًا على الطريق يستطعى فلما سمع أن يسوع الناصري ابتدأ يصرخ ويقول: يا يسوع ابن داود ارحمني. فأجاب يسوع وقال له: ماذا تريد أن أفعل بك؟ فقال له الأعمى: يا سيدي أن أبصر. فقال له يسوع: اذهب، إيمانك قد شفاك. فللوقت أبصر وتبع يسوع في الطريق" "مرقس 10: 46-52".

"ذهب إلى مدينة تدعى نايين، فلما اقترب إلى باب المدينة إذا ميت محمول، ابن وحيد لأمه وهي أرملة ومعها جمع كثير من المدينة. فلما رآها تحنن عليها وقال لها: لا تبكي، ثم تقدم ولمس النعش فوقف الحاملون. فقال: أيها الشاب لك أقول قم. فجلس الميت وابتدأ يتكلم فدفعه إلى أمه. "لوقا 7: 11-16".

"مضى يسوع إلى عبر الجليل.. وتبعه جمع كثير لأنهم أبصروا آياته التي

(1/79)

كان يصنعها في المرضى. قال له واحد من تلاميذه.. هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان ولكن ما هذا لمثل هؤلاء.. وأخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزع على التلاميذ، والتلاميذ أعطوا المتكئين وكذلك من السمكتين بقدر ما شاءوا. فلما شبعوا قال لتلاميذه: اجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء، فجمعوا وملئوا اثنتي عشرة قفة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت عن الآكلين.

فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبي الأتي إلى العالم" "يوحنا 6، 1-14".

"وفيما هو مجتاز رأي إنسانًا أعمى منذ ولادته. فتفل على الأرض وصنع من التفل طينًا وطلى بالطين عيني الأعمى وقال له: اذهب واغتسل في بركة سلوام.. فمضى واغتسل وأتى بصيرًا.

فالجيران. قالوا له: كيف انفتحت عيناك؟ أجاب ذلك وقال: إنسان يقال له يسوع.

فأتوا إلى الفريسيين.. وكان بينهم شقاق، قالوا أيضًا للأعمى: ماذا تقول أنت عنه من حيث إنه فتح عينيك؟ فقال: إنه نبي.

فدعوا ثانية الإنسان الذي كان أعمى وقالوا له: أعط مجدًا لله. نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطئ. أجاب الرجل وقال لهم: إن في هذا عجبًا إنكم لستم تعلمون من أين هو وقد فتح عيني. ونعلم أن الله لا يسمع للخطاة، ولكن إن كان أحد يتقي لله ويفعل مشيئته فلهذ يسمع" "يوحنا 9: 1-31".

"لما قربوا من أورشليم.. حينئذ أرسل يسوع تلميذين.. أتيا بالأتان والجحش ووضعا عليهما ثيابهما فجلس عليهما. والجمع الأكثر عليهما. والجمع الأكثر فرشوا ثيابهم في الطريق.

والجموع الذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين: أوصنا لابن داود. مبارك الآتي باسم الرب.

(1/80)

ولما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة: من هذا.

ققالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل. "متى 21: 1-11".

"ولما سمع رؤساء الكهنة والفريسيون أمثاله عرفوا أنه تكلم عليهم. وإذا كانوا يطلبون أن يمسكوه خافوا من الجموع لأنه كان عندهم مثل نبي" "متى 21: 45-46".

من الواضح الآن أن الذين شاهدوا المسيح ورأوا الآيات التي صنعها أمامهم أو صنعها من أجلهم -مثل إحياء ابن الأرملة- جميعهم آمنوا به باعتباره نبي عصره، فهو "يسوع بن داود" و"نبي عظيم".

و"بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم" و"إنسان ... نبي يتقي الله ويفعل مشيئته فلهذا يسمع له".

فالمسيح عند الذين آمنوا "مثل نبي" تمامًا كما كان أمر يحيى بن زكريا: "فإن هيرودس كان قد أمسك يوحنا.... وطرحه في سجن.. ولما أراد أن يقتله خاف من الشعب، لأنه كان عندهم مثل نبي" "متى 14: 3-5".

المسيح بين يدي الله:

جاء المسيح رسولًا من الله يدعو إليه -سبحانه- بإذنه، ولذا تكفل الله بتعليمه ماذا يقول وماذا يفعل. ولقد بين المسيح هذه الحقيقة الهامة في محاوراته مع اليهود.

"صعد يسوع إلى الهيكل وكان يعلم. فتعجب اليهود قائلين: كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم؟

أجابهم يسوع وقال: تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني. إن

(1/81)

شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي.

من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه، وأما من يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم" "يوحنا 7: 14-18".

"لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذ أتكلم. وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية، فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم" "يوحنا 12: 49-50".

ثم بين المسيح بعد ذلك أن من يطمع في الحياة الأبدية والنعيم الخالد، عليه أولا أن يؤمن بالله الذي أرسله. فذاك جوهر العقيدة التي جاء بها المسيح:

"الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة" "يوحنا 5: 24".

ولقد كان صلاة المسيح في ساعاته الأخيرة دعوة إلى التوحيد الخالص تقول: "لا إله إلا الله، المسيح رسول الله".

"تكلم يسوع بهذا ورفع عينه نحو السماء وقال.. وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته" "يوحنا 17- 1-3".

وفي حديث مع اليهود قال لهم: "كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه" "يوحنا 5: 44".

ولقد انحسمت تمامًا قضية التوحيد في عقيدة المسيح الصحيحة التي جاء بها ودعا إليها، كما يستبان بوضوح من هذا القصص الذي سجله ثلاثة من الأناجيل الأربعة.

(1/82)

فقد "جاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه أجابهم حسنًا سأله: أية وصية هي أول الكل؟

فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى.

وثانية مثلها هي: تحب قريبك كنفسك.

ليس وصية أخرى أعظم من هاتين.

فقال له الكاتب: جيدًا يا معلم. بالحق قلت، لأنه الله واحد، وليس آخر سواه.

ومحبته من كل القلب ومن كل الفهم ومن كل النفس ومن كل القدرة، ومحبة القريب كالنفس هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح.

فلما رآه يسوع أنه أجاب يعقل قال له: لست بعيدًا عن ملكوت الله" "مرقس 12: 28-34، متى 22: 35-40، لوقا 10: 25-28".

وحتى لا تكون هناك فرصة للتقول على المسيح والخلط بينه وبين الله -وبعد أن نتذكر تفسير الإنجيل بأن: ابن الله يعني المؤمن به- نورد ما سجله كتبة الأناجيل على لسان المسيح حيث حدد حقيقة الأمر بينه وبين الله تحديدًا قاطعًا لا لبس فيه ولا اجتهاد:

"لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلت أمضي إلى الآب، لأن أبي أعظم مني" "يوحنا 14: 28".

"أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" "يوحنا 20: 17".

"وسأله رئيس قائلًا: أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال له يسوع: لماذا تدعوني صالحًا؟؟ ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله.

(1/83)

أنت تعرف الوصايا: لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمك" "لوقا 18: 18-20".

بل إن المسيح حدد وضعه بالنسبة للروح القدس فقال: "كل خطية وتجديف يغفر للناس، وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان "المسيح" يغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي" "متى 12: 31-32".

ولقد بين المسيح: أن الله ذات، وأن المسيح ذات أخرى، فهما اثنان وليس واحدًا، ومحال أن يكون الاثنان واحدًا.

فلقد قال للفريسيين: "في ناموسكم مكتوب أن شهادة رجلين حق: أنا هو الشاهد لنفسي، ويشهد لي الآب الذي أرسلني" "يوحنا 8: 17-18".

إن هذا القول واضح تمامًا لدرجة أنه لم يعد يقبل أي تعليق.

كذلك بين المسيح أن لله مشيئة، وللمسيح مشيئة أخرى، وهو -ككل عبيد الله الصالحين يجاهد دائما لتتطابق مشيئته مع مشيئة الله. وتلك مرتبة الرضا الكامل بقضاء الله والتي لا ينالها إلا العباد المخلصون.

فحين أحس المسيح بالخطر يتهدد "كان يصلي لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن.

وقال: يا أبا الآب. كل شيء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس. ولكن ليكن لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت" "مرقس 14: 35-36".

وفي حديث مع اليهود كان قوله لهم: "كما أسمع أدين ودينونتي عادلة لأني لا أطلب مشيئتني، بل مشيئة الآب الذي أرسلني" "يوحنا 5: 30".

ولقد كان المسيح خاشعًا لله، يصلي له في كل حين ويفضل أن تكون صلاته على انفراد. ويتوجه إليه بالدعاء عند الحاجة وبالشكر في كل حين وخاصة

(1/84)

حين يستجاب له: "وفي الصبح باكرا جدًا قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء، وكان يصلي هناك، فتبعه سمعان والذين معه، ولما وجدوه قالوا له: إن الجميع يطلبونك" "مرقس 1: 35-36".

"وللوقت ألزم يسوع تلاميذه أن يدخلوا السفينة ويسبقوه إلى العبر حتى يصرف الجموع. وبعد ما صرف الجموع صعد إلى الجبل منفردًا ليصلي ولما صار المساء كان هناك وحده" "متى 14: 22-23".

"في تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي. وقضى الليل كله في الصلاة لله" "لوقا 6: 12".

"في تلك الساعة تهلل يسوع بالروح وقال: "أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض" "لوقا 10: 21".

"ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب، أشكرك لأنك قد سمعت لي" "يوحنا 11: 41".

معجزات المسيح:

ينتهي إنجيل يوحنا هكذا: "وأشياء أخر صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسوغ الكتب المكتوبة" "21: 25".

من الواضح أن هذا القول قائم على الظن، ومن أمهات الحقائق، {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًاْ} ومع ذلك فلنفرض أن المسيح قضى فترة رسالته -التي لم تزد عن ثلاث سنوات- وهو يصنع آيات ومعجزات، فمن المؤكد أنها لو كتبت جميعها فإن العالم يسعها وزيادة، على أن ما يعنينا في هذا المقام هو تركيز إنجيل يوحنا على معجزات المسيح باعتبارها الأساس الذي يقوم عليه القول بأن "المسيح ابن الله" كما يتضح من نهاية الإصحاح قبل الأخير الذي يقول:

(1/85)

"وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب. وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" "يوحنا 20: 30-31".

لقد سبق أن بينا أن "ابن الله" لا يعني -حسب تفسير يوحنا نفسه- أكثر من "المؤمنين باسمه" وأحبائه ومتقيه الذين يسمع لهم -سبحانه- ويظلهم برحمته -ومع ذلك فلننظر في معجزات المسيح وآياته التي تكلمت عنها الأناجيل.

لقد سبق أن بينا كيف عجز المسيح في بعض مواقف التحدي عن صنع آية تلجم خصومه ومعارضيه "فلم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة" ولقد قالها المسيح صراحة: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا" فهو قد رد الفضل كله لله وبرأ نفسه أن يكون له في ذلك فضل. وفي هذا يقول الإنجيل:

"أجاب يسوع وقال لهم: الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئًا إلا ما ينظر الآب يعمل.. لأن الآب يحب الابن ويريه جميع ما هو يعمله" "يوحنا 5: 19-20".

ولقد كان المسيح يفعل آيات كلها باسم الله الذي أرسله. فقد قال لليهود: "الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي" "يوحنا 10: 24-25".

ومن المؤكد أنه مهما جرت من آيات وعجائب على أيدي المؤمنين فإنها ليست مبررًا لأي خلط بينهم وبين الله على أية صورة من الصور، فالإنجيل يذكر قولًا للمسيح في هذا الصدد يهدم نظرية اتخاذ المعجزات برهانًا على صدق النظريات الفلسفية التي شاعت في العالم القديم عن حلول الإله في الإنسان أو حدوث اتحاد بينهما. فهو يقول على لسان المسيح:

"الحق الحق أقول لكم: من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا ويعمل أعظم منها" "يوحنا 14: 12".

فالحديث عن الروابط بين الله والمسيح، أو بين المسيح والمؤمنين، أو بين الله

(1/86)

والمؤمنين لا يسمح بالحديث عن "روابط بين جواهر" أو "اتصال ذات بذات" أو "انبثاق ذات من ذت" وإنما غاية القول فيه أن يكون حديثًا عن صلات روحية ومعنوية.

يقول الإنجيل على لسان المسيح: "الذي يقبل من أرسله يقبلني. والذي يقبلني يقبل الذي أرسلني" "يوحنا 13: 20".

"الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني" "يوحنا 12: 44".

"كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا. اثبتوا في محبتي. إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي. كما أني أنا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته" "يوحنا 15: 9-10".

"أنا قد أعطيتهم كلامك والعالم أبغضهم لأنهم ليسوا من العالم كما أني لست من العالم.. ليكون الجميع واحدًا، كما أنك أنت أيها الآب في، وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا" "يوحنا 17: 14-21".

هذا ... ولقد كانت أول معجزة صنعها المسيح -حسب رواية إنجيل يوحنا- هي تحويله الماء خمرًا، بناء على إيحاء من أمه. وكان ذلك في عرس حضراه مع تلاميذه.

"في اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك. ودعي أيضًا يسوع وتلاميذه إلى العرس. ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع: ليس لهم خمر. قال لها يسوع: ما لي ولك يا امرأة، ولم تأت ساعتي بعد. قالت أمه للخدم: مهما قال لكم فافعلوه، وكانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك ...

قال لهم يسوع: املئوا الأجران ماء، فملئوها إلى فوق، ثم قال لهم: استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكأ، فقدموا فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرًا ولم يكن يعلم من أين هي.. دعا رئيس المتكأ العريس وقال له: كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولًا، ومتى سكروا فحيئنذ الدون. أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن.

(1/87)

"هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه" "يوحنا 2: 1-11".

وتذكر الأناجيل أن المسيح صنع آيات ومعجزات يجملها إنجيل متى في معرض الحديث عن رسالته بقوله: "وكان يسوع يطوف المدن كلها والقرى يعلم في مجامعها. ويكرز ببشارة الملكوت. ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب" "متى 9: 35".

على أن نوعين من الآيات جديران بالعرض المفصل لما لها من أهمية وإثارة وهما: إحياء الموتى، والتنبؤ بأحداث المستقبل.

إحياء الموتى:

تذكر الأناجيل الأربعة أن المسيح مارس عملية إقامة الراقدين رقاد الموت ثلاث مرات، الأولى ذكرها مرقس ومتى، والثانية انفرد بذكرها لوقا، كما انفرد يوحنا بذكر الثالثة. ونبدأ بالحالة الأولى فنعلم أنها ابنة رئيس المجمع وكانت مريضة على وشك أن تموت، وبينما ذهب أبوها يرجو المسيح أن يأتي لزيارتها لعلها تشفى جاء من يخبره بموتها لكن المسيح يذهب إليها ويأخذ بيدها فتقوم من رقادها. ونعرض القصة حسب رواية مرقس فنقول:

"كان "المسيح" عند البحر، وإذا واحد من رؤساء المجمع اسمه بايرس جاء ... وطلب إليه كثيرًا قائلًا: ابنتي الصغيرة على آخر نسمة. ليتك تأتي وتضع يدك عليها لتشفى فتحيا. فمضى معه وتبعه جمع كثير، وكانوا يزحمونه.

وبينما هو يتكلم جاءوا من دار رئيس المجمع قائلين: ابنتك ماتت. لماذا تتعب المعلم بعد؟ فسمع يسوع لوقته الكلمة التي قيلت فقال لرئيس المجمع: لا تخف، آمن فقط. ولم يدع أحدًا يتبعه إلا بطرس ويعقوب ويوحنا أخا يعقوب.

(1/88)

فجاء إلى بيت رئيس المجمع.. ورأى ضجيجًا يبكون ويولولون كثيرًا، فدخل وقال لهم: لماذا تضجون وتبكون؟ لم تمت الصبية لكنها نائمة.

فضحكوا عليه، أما هو فأخرج الجميع، وأخذ أبا الصبية وأمها والذين معه ودخل حيث كانت الصبية مضطجعة. وأمسك بيد الصبية وقال لها: طليثا قومي، الذي تفسيره: يا صبية لك أقول قومي، وللوقت قامت الصبية ومشت لأنها كانت ابنة اثنتي عشرة سنة. فبهتوا بهتًا عظيمًا، فأوصاهم كثيرًا أن لا يعلم أحد بذلك وقال: أن تعطى لتأكل" "مرقس 5: 21-43".

لقد أكد مرقس على لسان المسيح قوله: "لم تمت الصبية، لكنها نائمة" وكذلك أكد متى نفس الحالة إذ قال على لسان المسيح: "إن الصبية لم تمت، لكنها نائمة" "متى 9: 24".

فهل يستطيع أحد يؤمن بالمسيح والإنجيل، أن يصر على اعتبار هذه الفتاة ميتة أحياها المسيح؟!

إن أقصى ما يمكن قوله في هذه لحالة أن تلك الفتاة كانت في حالة إغماء، أو فقدان وعي، أو على وشك الموت. ثم شفاها المسيح.

وأما الحالة الثانية التي ذكرها لوقا فقد ذكرناها عند الكلام عن "عقيدة الذين شاهدوا المسيح ومعجزاته وآمنوا به". وكانت لابن وحيد لأمه الأرملة وقد حمله المشيعون في النعش، فتقدم المسيح "ولمس النعش فوقف الحاملون. فقال: أيها الشاب، لك أقول قم. فجلس الميت وابتدأ يتكلم فدفعه إلى أمه" "لوقا 7: 14-15".

وأخيرًا.. كانت الحالة الثالثة التي انفرد بذكرها يوحنا لميت توفي حديثًا إثر مرض. يقول يوحنا: "كان إنسان مريضًا وهو لعازر من بيت عنيبا من قرية مريم ومرثا أختها، فأرسلت الأختان إليه قائلتين: يا سيد، هو ذا الذي تحبه مريض.

(1/89)

فلما سمع يسوع قال: هذا المرض ليس للموت، بل لأجل مجد الله.

ثم بعد ذلك قال لتلاميذه: لعازر مات، وأنا أفرح لأجلكم أني لم أكن هناك لتؤمنوا، ولكن لنذهب إليه. فلما أتى يسوع وجد أنه قد صار له أربعة أيام في القبر ... فقالت مرثا ليسوع:

يا سيد، لو كنت ها هنا لم يمت أخي، لكني الآن أيضًا أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه..

قال لها يسوع: سيقوم أخوك ...

وجاء إلى القبر وكانت مغارة وقد وضع عليه حجر. قال يسوع: ارفعوا الحجر.. فرفعوا الحجر حيث كان الميت موضوعًا ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب، أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتني.

ولما قال هذا صرخ بصوت عظيم: لعازر هلم خارجًا، فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطات بأقمطة. فقال لهم يسوع: حلوه ودعوه يذهب" "يوحنا 11: 1-44".

وبهذا تكتمل قصة الراقدين الذين أقامهم المسيح بعد مرات، حسبما روتها الأناجيل.

التنبؤ بأحداث المستقبل:

تذكر الأناجيل أن المسيح تنبأ لتلاميذه، بانقضاء الدهر وانهدام النظام الكوني بأكمله، ثم عودته بعد ذلك ليدين الناس، وأن كل تلك الأحداث الجسام سوف تحدث في الجيل الذي عاش فيه تلاميذه، يقول إنجيل متى: "فيما هو جالس على جبل الزيتون تقدم إليه التلاميذ على انفراد قائلين: قل لنا متى يكون هذا وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟

(1/90)

فأجاب يسوع وقال لهم: انظروا لا يضلكم أحد، فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين أنا هو المسيح ويضلون كثيرين.

وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس، والقمر لا يعطى ضوءه والنجوم تسقط من السماء، وقوات السماء تتزعزع، وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض، ويبصرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير. متى رأيتم هذا كله فاعلموا أنه قريب على الأبواب.

الحق أقول لكم: لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله" "متى 24: 3-34".

وبالمثل قال إنجيل مرقس: "الحق أقول لكم: لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله" "مرقس 13: 32".

وكذلك قال إنجيل لوقا: "الحق أقول لكم: إنه لا يمضي هذا الجيل حتى يكون الكل" "لوقا 21: 32".

إن تنبؤ المسيح بانقضاء العالم وعودته ثانية إلى الأرض لم يذكر فقط في تلك المناسبة التي اختارها التلاميذ لسؤاله، إنما تكرر ذلك في مواضع كثيرة من الأناجيل، مما يبين أنها كانت عقيدة سادت بين المسيحيين الأوائل الذين عاصروا المسيح ومن بينهم واحد من كتبة الأناجيل هو متى.

إن الحديث عن التنبؤ بانقضاء العالم في الجيل الذي عاصر المسيح لم يعد في حاجة إلى تعليق بعد أن ظل العالم قائمًا بعد جيل المسيح إلى اليوم بما يقرب من خمسين جيلًا.

معجزات المسيح بين معجزات سابقيه:

تحدثت الأناجيل عن معجزات كثيرة للمسيح شملت مجالات أربع هي: شفاء المرضى والعاجزين، ومباركة الطعام، وإحياء الموتى، والتنبؤ بأحداث المستقبل. وقد استعرضنا بالتفصيل ما قيل في معجزات المجالين الأخيرين باعتبارهما أكثر أهمية وإثارة.

(1/91)

ونريد الآن أن نستعرض معجزات المسيح مع معجزات عدد محدود من الأنبياء الذين سبقوه لننظر أوجه الائتلاف والاختلاف، ثم نقرر بعد ذلك الوضع الصحيح لمعجزات المسيح بين معجزات سابقيه.

فإذا بدأنا بمجال إحياء الموتى لوجدنا أن إلياس -كما سبق بيانه- قد سبق المسيح في هذا المجال وأحيا ابن الأرملة "الملوك الأول: 17" وكذلك فعل تلميذه وخليفته إليشع نفس الشيء بابن المرأة الشونمية. فقد "دخل إليشع البيت وإذا بالصبي ميت ومضطجع على سريره. فدخل وأغلق الباب على نفسيهما كليهما وصلى إلى الرب. ثم صعد واضطجع فوق الصبي ووضع فمه على فمه وعينيه على عينيه ويديه على يديه وتمدد عليه فسخن جسد الولد. ثم عاد وتمشى في البيت تارة إلى هنا وتارة إلى هناك وصعد وتمدد عليه فعطس الصبي سبع مرات ثم فتح الصبي عينيه.

فدعا "حيجزى "غلامه" وقال: ادع هذه الشمونمية، فدعاها، ولما دخلت إليه قال: احملي ابنك، فأتت وسقطت على رجليه وسجدت إلى الأرض ثم حملت ابنها وخرجت" "الملوك الثاني 4: 32-37".

بل إن إليشع هذا مارس عملية إحياء الموتى بعد وفاته. فقد حدث عندما كان قومه يدفنون أحد موتاهم على عجل خوفًا من الغزاة أن أسقطوا ذلك الميت في قبر إليشع، فلمس جسده عظام إليشع. وفي الحال عادت له الروح وقام الرجل الميت يسعى على رجليه:

"مات إليشع فدفنوه، وكان غزاة موآب تدخل على الأرض عند دخول السنة. وفيما كانوا يدفنون رجلًا إذا بهم قد رأوا الغزاة فطرحوا الرجل في قبر إليشع. فلما نزل الرجل ومس عظام إليشع، عاش وقام على رجليه". "الملوك الثاني 13: 20-21".

بل إن حزقيال لم يحي عددًا محدودًا من الموتى حديثي الوفاة فقط، إنما

(1/92)

أحيا جيشًا عظيمًا من الموتى بعد أن طال عليهم الأمد وتحللت رفاتهم ونخرت عظامهم:

"كانت على يد الرب فأخرجني بروح الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظامًا وأمرني عليها من حولها وإذا هي كثيرة جدًا على وجه البقعة وإذا هي يابسة جدًا. فقال لي: يا بن آدم.. أتحيا هذه العظام؟ فقلت: يا سيد الرب، أنت تعلم، فقال لي: تنبأ على هذه العظام وقل لها: أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب. هكذا قال السيد الرب لهذه العظام: هأنذا أدخل فيكم روحًا فتحيون وأضع عليكم عصبًا وأكسيكم لحمًا وأبسط عليكم جلدًا وأجعل فيكم روحًا فتحيون وتعلمون أني أنا الرب.

فتنبأت كما أمرت وبينما أنا أتنبأ كان صوت وإذا رعش فتقاربت العظام كل عظم إلى عظمه ونظرت وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها من فوق وليس فيها روح.

فقال لي: تنبأ للروح، تنبأ يا بن آدم وقل للروح هكذا قال السيد الرب: هلم يا روح من الرياح الأربع وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا.

فتنبأت كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدًا جدًا" "حزقيال 37:" 1-10".

وفي مجال التنبؤ بأحداث المستقبل نجد إلياس قد تنبأ بحدث الجفاف والقحط وذلك في موقف التحدي لآخاب الملك الشرير حيث قال له: "حي هو الرب إله إسرائيل الذي وقفت أمامه: أنه لا يكون طل ولا مطر في هذه السنين إلا عند قولي".

وقد حدث الجفاف كما تنبأ إيليا "فلم يكن مطر في الأرض".

وبعد انقضاء سنوات الجفاف "كان كلام الرب إلى إيليا في السنة الثالثة

(1/93)

قائلًا: اذهب وتراء لآخاب فأعطي مطرًا على وجه الأرض. فذهب إيليا ليتراءى لآخاب.

وقال إيليا لآخاب: اصعد كل واشرب لأنه حس دوي مطر.. وكان من هنا إلى هنا أن السماء اسودت من الغيم والريح وكان مطر عظيم" ...

وكذلك تنبأ إليشع بالجفاف سبع سنين وتحققت نبوءته:

"كلم إليشع المرأة التي أحيا ابنها قائلًا: قومي انطلقي أنت وبيتك وتغربي حيثما تتغربي لأن الرب قد دعا بجوع فيأتي أيضًا على الأرض سبع سنين.

فقامت المرأة وفعلت حسب كلام رجل الله وانطلقت هي وبيتها وتغربت في أرض فلسطين سبع سنين وفي نهاية السبع سنين رجعت المرأة من أرض الفلسطينيين" "الملوك الثاني 8: 1-3".

وكما سبق أن نبأت الملائكة إبراهيم بمولد ابن له من زوجته سارة العاقر، على لسان الرب قائلة:

"إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن" "تكوين 18: 10".

"وفعل الرب لسارة كما تكلم، فحبلت وولدت لإبراهيم ابنًا. إسحاق" "تكوين 21-3".

كذلك فعل إليشع تلميذ إلياس مع المرأة الشونمية التي "لم يكن لها ابن ورجلها قد شاخ.. فقال "إليشع": في هذا الميعاد نحو زمان الحياة تحتضنين ابنًا.. فحملت المرأة وولدت ابنًا في ذلك الميعاد نحو زمان الحياة كما قال لها إليشع، وكبر الولد" "الملوك الثاني 4: 14-18".

وفي مجال شفاء المرضى والعاجزين نجد موسى قد فعل أكثر من هذا إذ أوقف سريان وباء مميت اجتاح بني إسرائيل عقابًا لهم على تذمرهم على موسى

(1/94)

وهارون فقال موسى لهارون: "خذ المجمرة.. وضع بخورًا واذهب بها مسرعًا إلى الجماعة وكفر عنهم لأن السخط قد خرج من قبل الرب، فأخذها هارون كما قال موسى.. فامتنع الوبأ.

فكان الذين ماتوا بالوبأ أربعة عشر ألفًا وسبعمائة" "عدد 16: 46-49".

كذلك أوقف موسى عملية إبادة جماعية لبني إسرائيل حين سلط الله عليهم الحيات لتهلكهم عقابًا لهم على تذمرهم فقد "أرسل الرب على الشعب الحيات المحرقة فلدغت الشعب فمات قوم كثيرون من إسرائيل فأتى الشعب إلى موسى وقالوا: قد أخطأنا، تكلمنا على الرب وعليك، فصل إلى الرب ليرفع عنا الحيات ... فصلى موسى لأجل الشعب. فقال الرب لموسى: اصنع لك حية محرقة وضعها على راية فكل من لدغ ونظر إليها يحيا. فصنع موسى حية من نحاس ووضعها على الراية، فكان متى لدغت حية إنسانًا ونظر إلى حية النحاس يحيا" "العدد 21: 6-9".

كذلك نجد إليشع قد برأ نعمان قائد جيش الأراميين عندما جاء نعمان بخيله ومركباته ووقف عند باب بيت إليشع "فأرسل إليه اليشع رسولًا يقول: اذهب واغتسل سبع مرات في الأردن فيرجع لحمك إليك.. فرجع كلحم صبي صغير وطهر" "الملوك لثاني 5: 9-14".

كذلك رد إليشع البصر إلى جيش كبير من الأراميين بعد أن دعا عليهم بالعمى حتى يستطيع أسرهم وقيادتهم إلى حيث يريد. فقد أرسل ملك أرام: "خيلًا ومركبات وجيشًا ثقيلًا وجاءوا ليلًا وأحاطوا بالمدينة فبكر خادم رجل الله وقام وخرج، وإذا جيش محيط بالمدينة وخيل ومركبات. فقال غلامه له: آه يا سيدي، كيف نعمل؟ فقال: لا تخف لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم.

ولما نزلوا إليه صلى إليشع إلى الرب وقال: اضرب هؤلاء الأمم بالعمى، فضربهم بالعمى كقول إليشع، فقال لهم إليشع: اتبعوني

(1/95)

فأسير بكم إلى الرجل الذي تفتشون عليه، فسار بهم إلى السامرة، فلما دخلوا السامرة قال إليشع: يا رب، افتح أعين هؤلاء فيبصروا. ففتح الرب أعينهم فأبصروا وإذا هم في وسط السامرة.

فقال ملك إسرائيل لإليشع لما رآهم: هل أضرب؟؟ فقال: لا تضرب ... ضع خبزًا وماء أمامهم فيأكلوا ويشربوا ثم ينطلقو إلى سيدهم، فأكلوا وشربوا ثم أطلقهم.

ولم تعد جيوش أرام تدخل إلى أرض إسرائيل" "الملوك الثاني 6: 13-23".

وفي مجال مباركة الطعام وتكثيره، سوف لا نتكلم عن الأعاجيب الكبيرة والكثيرة التي جرت على يد موسى في هذا المجال. ولكنا نذكر إلياس وكيف كانت تعوله الغربان وتأتي إليه بالخبز واللحم صباح مساء، وكيف استمر يقتات هو ومن في بيت المرأة التي كان نازلًا عندها من كنار دقيق وكوز زيت طيلة سنوات القحط "الملوك الأول: 17".

كذلك بارك إليشع دهنة زيت في بيت امرأة فقيرة "فقال: اذهبي استعيري لنفسك أوعية من خارج من عند جميع جيرانك أوعية فارغة لا تقللي ثم ادخلي وأغلقي الباب على نفسك وعلى بيتك وصبي في جميع هذه الأوعية وما امتلأ انقليه.

فذهبت من عنده وأغلت الباب على نفسها وعلى بنيها وكانوا هم يقدمون لها الأوعية وهي تصب، ولما امتلأت الأوعية قالت لابنها: قدم لي أيضًا وعاء، فقال لها: لا يوجد بعد وعاء، فوقف الزيت فأتت وأخبرت رجل الله "إليشع" فقال: اذهبي بيعي الزيت وأوفي دينك وعيشى أنت بما بقي" "الملوك الثاني 4: 3-7".

وأيضًا "جاء رجل.. وأحضر لرجل الله خبز باكورة عشرين رغيفًا.. فقال: "إليشع": أعط الشعب ليأكلوا. فقال خادمه: ماذا؟ هل أجعل هذا أمام

(1/96)

مائة رجل. فقال: أعط الشعب فيأكلوا لأنه هكذا قال الرب: يأكلون ويفضل عنهم، فجعل أمامهم فأكلوا وفضل عنهم" "الملوك الثاني 4: 42-43".

هذا ... وإذا ما تركنا تلك المجالات الأربع التي تحدثنا فيها عن معجزات المسيح بين معجزات سابقيه، لوجدنا سبقًا كذلك في المجالات الأخرى لمن كان قبله من الأنبياء.

فقد حدث للمسيح مع تلاميذه أنهم "لما خرجوا من بيت عنيا، جاع، فنظر شجرة تين من بعيد عليها ورق وجاء لعله يجد فيها شيئًا، فلما جاء إليها لم يجد شيئًا إلا ورقًا لأنه لم يكن وقت التين، فأجاب يسوع وقال لها: لا يأكل أحد منك ثمرًا بعد إلى الأبد. وكان تلاميذه يسمعون.

وجاءوا إلى أورشليم.. ولما صار المساء خرج إلى خارج المدينة، وفي الصباح إذ كانوا مجتازين رأوا التينة قد يبست من الأصول، فتذكر بطرس وقال له: يا سيدي، انظر التينة التي لعنتها قد يبست" "مرقس 11: 12-21".

وهنا نذكر ماكان من أمر إليشع "وفيما هو صاعد في الطريق إذا بصبيان صغار خرجوا من المدينة وسخرو منه وقالوا له: اصعد يا أقرع.. اصعد يا أقرع.

فخرجت دبتان من الوعر وافترستا منهم اثنين وأربعين ولدًا" "الملوك الثاني 2: 23-24".

وعندما كذب خادم إليشع عليه وأخذ من الهدية التي كان نعمان يريد تقديمها إليه اعترافًا بفضله في شفائه والتي رفضها إليشع من قبل، دعا عليه قائلًا: "برص نعمان يلتصق بك وبنسلك إلى الأبد، فخرج من أمامه أبرص كالثلج" "الملوك الثاني 5: 27".

(1/97)

وأخيرًا -وليس آخرًا- نأتي إلى مجال الرفع إلى السماء، فنجد الأنبياء السابقين، قد سبقوا أيضًا في هذا المجال.

فهذا أخنوخ "إدريس" قد رفع إلى السماء فقد "سار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه" "تكوين 5: 25".

كذلك انتهت حياة إلياس بالرفع إلى السماء أمام أعين الناس، "وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما، فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء".

والآن نصل إلى الحقيقة التي ترى واضحة كل الوضوح يراها كل المبصرين فيقولون صدقًا: إن أقصى ما يقال في معجزات المسيح هو ما قاله بطرس رئيس تلاميذه وأعلنه على رءوس الأشهاد: "أيها الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال:

يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم تعلمون" "أعمال الرسل 2: 22".

"فتح بطرس فاه وقال.. أنتم تعلمون الأمر الذي صار في كل اليهودية. يسوع الذي من الناصرة وكيف مسحه الله بالروح القدس والقوة الذي جال يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه" "أعمال الرسل 1: 34-38".

فهي معجزات وآيات الفضل الأول والأخير فيها لله الذي أكرمه بها كما أكرم الأنبياء، قبله ومن لطف الله بخلقه أن جعل معجزات المسيح تكرارًا لبعض معجزات سابقيه. ويلاحظ أنها جميعًا معجزات أرضية خلافًا لما فعله موسى من الكثير من المعجزات الأرضية منها والسماوية على السواء. لقد شاهد بنو إسرائيل المعجزات تنزل عليهم من السماء أثناء خروجهم من مصر، إذ "انتقل ملاك الله السائر أمام عسكر إسرائيل وسار وراءهم وانتقل عمود السحاب من أمامهم ووقف وراءهم فدخل بين عسكر المصريين وعسكر اسرائيل وصار السحاب والظلام وأضاء الليل فلم يقترب هذا إلى ذاك كل الليل.

(1/98)

ومد موسى يده على البحر فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل وجعل البحر يابسة وانشق الماء" "خروج 14: 19-21".

وفي سيناء شاهد بنو إسرائيل الخبز ينزل عليهم من السماء "فكان في المساء أن السلوى صعدت وغطت المحلة، وفي الصباح كان سقيط الندى حوالي المحلة.

ولما ارتفع سقيط الندى إذا على وجه البرية شيء دقيق مثل قشور، دقيق كالجليد على الأرض فلما رأى بنو إسرئيل قالوا بعضهم لبعض: من هو؟ لأنهم لم يعرفوا ما هو. فقال لهم موسى: هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا التقطوا منه كل واحد حسب أكله" "خروج 16: 13-16".

ولذلك كان بنو إسرائيل على عهد المسيح فخورين بمعجزات موسى، يرونها أكبر وأعظم من تلك التي يجريها المسيح، وكان قولهم له: "أية آية تصنع لنرى ونؤمن بك؟ ماذا تعمل؟ آباؤنا أكلوا المن في البرية كما هو مكتوب أنه أعطاهم خبزًا من السماء ليأكلوا" "يوحنا 6: 30-31".

"وجاء إليه الفريسيون والصدوقيون ليجربوه فسألوه أن يريهم آية من السماء" "متى 15: 1".

الحق إن معجزات المسيح ليس فيها جديد، وإذا ما استعرنا لغة سفر "الجامعة" نقول: ليس تحت الشمس جديد.

المسيح ومعجزاته:

هناك ظاهرة تغلب في الأناجيل حين تتحدث عن معجزات المسيح فنجدها تبين على لسانه حرصه الدائم على كتمان ما أجراه الله على يديه من آيات، وما ذلك إلا حرصًا منه على عدم فتنة القوم فيه. لقد كان المسيح يعلم تمامًا مقدار التخلف الفكري والعقائدي في زمانه وكيف كان الناس يخترعون آلهة ينسجون حولها أساطير وينسبون لها أفعالًا يخلطونها بأفعال البشر، فيقولون: هذا إله نزل من السماء، وذلك ابن إله صعد إلى السماء.

ويرينا سفر "أعمال الرسل" كيف كانت الألوهية تخلع على البشر بكل بساطة في ذلك الزمان وبين تلك الأمم التي بدأت فيها الدعوة للمسيحية. فقد "كان يجلس في لسترة رجل عاجز. هذا كان يسمع بولس يتكلم فشخص إليه

(1/99)

وإذ رأى أن له إيمانًا ليشفى قال بصوت عظيم: قم على رجلك منتصبًا، فوثب وصار يمشي.

فالجموع لما رأوا ما فعل بولس رفعوا صوتهم بلغة ليكاونية قائلين: إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا. فكانوا يدعون برنابا "زفس" وبولس "هرمس".. فأتى كاهن زفس الذي كان قدام المدينة بثيران وأكاليل عند الأبواب مع الجموع وكان يريد أن يذبح.

فلما سمع الرسولان برنابا وبولس مزقا ثيابهما. واندفعا إلى الجمع صارخين وقائلين:

أيها الرجال، لماذا تفعلون هذا؟ نحن أيضًا بشر تحت آلام مثلكم نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها" "أعمال الرسل 14: 8-15".

"ولما نجوا وجدوا أن الجزيرة تدعى مليطة فقدم أهلها البرابرة إحسانا غير المعتاد لأنهم أوقدوا نارًا وقبلوا جميعنا من أجل المطر الذي أصابنا ومن أجل البرد.

فجمع بولس كثيرًا من القضبان ووضعها على النار فخرجت من الحرارة أفعى ونشبت في يده.. فنفض هو الوحش إلى النار ولم يتضرر بشيء رديء، وأما هم فكانوا ينتظرون أنه عتيد أن ينتفخ أو يسقط بغتة ميتًا.

فإذا انتظروا كثيرً ورأوا أنه لم يعرض له شيء مضر، تغيروا وقالوا: هو إله" "أعمال الرسل 28: 1-6".

"وفي يوم معين لبس هيرودس الحلة الملوكية وجلس على كرسي الملك وجعل يخاطبهم، فصرخ الشعب: هذا صوت إله لا صوت إنس" "أعمال الرسل 12: 21-22".

من أجل ذلك حرص المسيح على كتمان معجزاته التي ارتبط حدوثها دائما بإيمان الذين طلبوها فصنعت من أجلهم. هكذا قال المسيح وعلم بأن إيمان الإنسان هو الذي صنع المعجزة وهو إيمان مشترك بين الفاعل وذلك الذي صنعت من أجله، وحين يفقد ذلك الإيمان يحدث دائمًا العجز والإخفاق.

(1/100)

فلقد حدث أن جاء المسيح وتلاميذه إلى المجمع "فتقدم إليه رجل جاثيًا وقائلًا: يا سيد، ارحم ابني فإنه يصرع ويتألم شديدًا.. وأحضرته إلى تلاميذك فلم يقدروا أن يشفوه. فأجاب يسوع وقال: أيها الجيل غير المؤمن الملتوي، إلي متى أكون معكم؟ إلى متى أحتملكم؟

قدموه إلى ها هنا. فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان فشفي الغلام من تلك الساعة.

ثم تقدم التلاميذ إلى يسوع على انفراد وقالوا: لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه؟ فقال لهم يسوع: لعدم إيمانكم، فالحق أقول لكم: لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل ولا يكون شيء غير ممكن لديكم" "متى 17: 14-20".

فلنبحث دائمًا في معجزات المسيح عن شيئين هما: الإيمان والكتمان، ولسوف نجدهما دائما متلازمين. فهكذا تقول الشواهد التي نذكر منها:

إحياء بنت رئيس المجمع: فبعد أن "قامت الصبية ومشت.. أوصاهم كثيرًا أن لا يعلم أحد بذلك" "مرقس 5: 35-43، لوقا 8: 49-46".

تطهير الأبرص: "أتى إليه أبرص. قائلًا له: إن أردت تقدر أن تطهرني، فتحنن يسوع ومد يده ولمسه وقال له: أريد فاطهر. فللوقت وهو يتكلم ذهب عنه البرص".

بعد ذلك "انتهوا للوقت وقال: انظر لا تقل لأحد شيئًا" "مرقس 1: 49-44، متى 8: 1-4، لوقا 5: 12-14".

شفاء الأعمى: تبعه أعميان يصرخان ويقولان: ارحمنا يا بن داود ... فقال لهما يسوع: أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟ قالا له: نعم يا سيد.

حينئذ لمس أعينهما قائلًا: بحسب إيمانكما ليكن لكما. فانفتحت أعينهما".

(1/101)

بعد ذلك "انتهرهما يسوع قائلًا: انظرا لا يعلم أحد. ولكنهما خرجا وأشاعاه في تلك الأرض كلها" "متى 9: 27-31، مرقس 8: 22-26".

إخراج الشياطين: "قدموا إليه جميع السقماء والمجانين، فشفى كثيرين كانوا مرضى.. وأخرج شياطين".

بعد ذلك"لم يدع الشياطين يتكلمون لأنهم عرفوه" "مرقس 1: 32-34، لوقا 4: 40-41".

ويلاحظ أننا لم نقتبس شواهد من إنجيل يوحنا وما ذلك إلا لأن كاتب هذا الإنجيل قد ركز -كما بينا- على إظهار معجزات المسيح باعتبارها الوسيلة الرئيسية للإيمان ومن ثم فهو يدعو إلى إذاعتها ونشرها بشتى السبل، ولهذا اختفت منه أقوال المسيح التي تطلب كتمان معجزاته. على أن شيئًا واحدًا بقى في هذا الإنجيل وهو شطر الإيمان الذي لم يستطع إغفاله فسار فيه على شاكلة الأناجيل الثلاثة الأخرى التي أظهرته تمامًا.

فنجد الإيمان ملازمًا لحدوث الآية الكبيرة في إنجيل يوحنا ألا وهي إحياء لعازر. فلقد قالت أخته:مرثا" ليسوع: "يا سيد، لو كنت ها هنا لم يمت أخي. لكني الآن أيضًا أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله، فقال لها يسوع: سيقوم أخوك.

ودعت "مرثا" مريم أختها سرًا قائلة: المعلم قد حضر وهو يدعوك.

فمريم لما أتت إلى حيث كان يسوع ورأته خرت عند رجليه قائلة له: يا سيد لو كنت ها هنا لم يمت أخي".

لقد آمنت الأختان بالمسيح ولقد قالها المسيح لمرثا "ألم أقل لك إن آمنت ترين مجد الله" ثم "رفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب، أشكرك لأنك سمعت لي" بعد ذلك "خرج الميت" "يوحنا 11: 21-44".

وأما عن شطر الإيمان في الأناجيل الثلاثة الأخرى فحدث ولا حرج.

(1/102)

فهذا قائد المائة قال للمسيح: "يا سيد، لست مستحقًا أن تدخل تحت سقفي لكن قل كلمة فقط فيبرأ غلامي".

"فلما سمع يسوع تعجب وقال للذين يتبعون: الحق أقول لكم، لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا".

"ثم قال يسوع لقائد المائة: اذهب وكما آمنت ليكن لك. فبرأ غلامه في تلك الساعة" "متى 8: 8-13، لوقا 7: 6-10".

وتلك "امرأة نازفة دم منذ اثنتى عشرة سنة قد جاءت من ورائه ومست هدب ثوبه لأنها قالت في نفسها: إن مسست ثوبه فقط شفيت".

"فالتفت يسوع وأبصرها فقال: "ثقي يا ابنة، إيمانك قد شفاك فشفيت المرأة من تلك الساعة".

"متى 9: 20-22، لوقا 8: 43-48، مرقس 5: 25-34".

وتلك المرأة الكنعانية التي "صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيد يا بن داود.

ابنتي مجنونة جدًا.. حينئذ أجاب يسوع وقال لها: يا امرأة، عظيم إيمانك، ليكن لك كما تريدين، فشفيت ابنتها من تلك الساعة" "متى 15: 22-28، ومرقس 7: 26-30".

وفي جميع الأحوال التي صنع فيها المسيح معجزاته كانت تصاحبها دائمًا صلاته إلى الله ودعائه بالتوفيق والإكرام ثم الشكر على نعماء الله.

رأينا ذلك عند إحياء لعازر، إذ "رفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب، أشكرك لأنك سمعت لي".

ونراها في مواقف كثيرة كما حدث عند شفاء الأصم: فقد "أخذه من بين الجمع ...

ورفع نظره نحو السماء، وأن، وقال له: أفثا -أي انفتح- وللوقت انفتحت أذناه، فأوصاهم أن لا يقولوا لأحد" "مرقس 7: 33-36".

(1/103)

وعند مباركة الطعام، "أخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين ورفع نظره نحو السماء، وبارك، وكسر وأعطى للتلاميذ والتلاميذ للجموع. فأكل الجميع وشبعوا".

"متى 14: 19-20، لوقا 9: 16-17، يوحنا 6: 11".

وحين نجح تلاميذه في إخراج شياطين تقدم بالشكر الجزيل لله: "في تلك الساعة تهلل يسوع بالروح وقال: أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء، وأعلنتها للأطفال".

"لوقا 10: 21، متى 11: 25".

وبعد.. إذا كانت هذه هي حقيقة معجزات المسيح وموقفه منها -وقد رأيناه يحرص دائمًا على كتمانها واعتبارها فقط عاملًا يخفف من آلام المؤمنين- فكيف يمكن اتخاذها بعد ذلك برهانًا لعبادته وتأليهه؟!

المسيح في القرآن:

يتفق القرآن مع الإنجيل في أن مريم العذراء ولدت ابنها المسيح بعد أن حملت به إثر نفخة من الروح القدس. فهو يذكر ذلك في آيات فرادى وفي سور متفرقات مثل قوله:

{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] .

{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] .

{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 5] .

(1/104)

ويذكر القرآن قصة حمل مريم وولادتها في آيات كثيرة كما جاء في سورة آل عمران وسورة مريم، وفي غيرهما من السور.

فالمسيح كلمة الله الملقاة وروح منه:

{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] .

ولله كلمات كثيرة لا نهائية، ولذلك تعجز المخلوقات عن حصرها.

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقان: 27] .

ومن كلمات الله: قضاؤه في أكوانه وأحكامه العادلة الثابتة:

{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62-64] .

ومن كلمات الله ما يلقى فيفعل فعلًا: قد ينشئ إنشاء أو يمحو كائنًا: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 4] .

{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 82-83] .

وللك كان أمر تخليق عيسى ليس أكثر عجبا من أمر تخليق آدم فكليهما تنفيذ لإرادة الله:

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] .

ونلفت النظر إلى خطأ جسيم يقع فيه البعض حين يقولون: إن المسيح روح الله، وحقيقته أنه: روح من الله، جاء بنفخة إلهية كتلك التي حدثت لآدم، فقد

(1/105)

قال الله للملائكة إبان عملية خلق آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] .

فالمسيح ليس أكثر من عبد من عبيد الله المكرمين. {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59] .

لقد جاء المسيح عيسى مثلًا ملموسًا على قدرة الله على التخليق، وذلك في زمن طغت فيه المادية على بني إسرائيل فأنكروا إعادة تخليق الإنسان وبعثه في القيامة للحساب، وتحدثنا الأناجيل عن طائفة الصدوقيين التي كانت تنكر القيامة أيام المسيح، وكان لها نفوذ وسلطان فتقول:

"وجاء إليه قوم من الصدوقيين الذين يقولون ليس قيامة وسألوه" "مرقس 12: 18، متى 22: 23، لوقا 20: 27".

ومع بولس في رحلاته التبشرية "حدثت منازعة بين الفريسيين والصدوقيين وانشقت الجماعة، لأن الصدوقيين يقولون إنه ليس قيامة ولا ملاك ولا روح" "أعمال الرسل 23: 7-8".

فالمسيح عبد الله أولًا وأخيرًا، {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 172-173] .

وبعد ذلك فالمسيح مقرب من الله، مفضل بين الرسل:

{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران: 45] .

(1/106)

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253]

ولقد غلا كثيرون في المسيح {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116] وعبدوه فها هي "الرسالة إلى العبرانيين" تقول: "الله.. كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكل شيء.. صائرًا أعظم من الملائكة ... لأنه لمن من الملائكة قال قط: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك، وأيضًا: أنا أكون له أبًا، وهو يكون لي ابنًا" "1: 1-5".

ويقول بولس: "أمين هو الله الذي به دعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا"1 "كورنثوس 1: 9".

وها هو "إنجيل يوحنا" يقول في مقدمته الشاعرية: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله1، هذا كان في البدء عند الله" "1: 1-2".

__________

1 هذه الفقرة في الترجة الإنجليزية للنسخة المعتمدة من الكتاب المقدس تقرأ هكذا:

in the beginning was the word, and the word was with god, and the word was god.

ولكن ظهرت ترجمة حديثه تهذب الخلط بين الله وكلمة الله إلى حد ما وتقول:

before the world was created, the word aiready existed: he was with god, and he was the same as god

فهذه الترجمة الحديثة تقول: "وكان "الكلمة" مثل الله" بدلًا من الترجمة القديمة التي تقول: "وكان الكلمة الله"، وعندما يكون شيء مثل شيء آخر فإن هذا يعني بداهة أن هناك شيئين -عددهما 2 -لكن الشيء الثاني يماثل الشيء الأول وعلى صورته. وتقول التوراة: "خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه" "تكوين 1: 27" فهذا القول يعني حسب مفهوم كتبة التوراة أن كل البشر قد خلقوا على صورة الله تمامًا مثل الكلمة.

هذا.. وقد صدرت هذه الترجمة عن: جمعية التوراة الأمريكية -بنيويورك- عام 1971.

(1/107)

ولقد جاء القرآن يبين الحق في المسيح بأقوال محكمات، تقطع كل شك فيه بيقين لا يعرف سوى الثبات -فهو يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 72-77] .

جاء القرآن قاطعًا في بيان حقيقة ذلك الذي قتلوه على الصليب، فنفى نفيًا قاطعًا أن يكون ذلك قد حدث للمسيح، فقال:

{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157-158] .

لقد رفعه الله كما سبق أن رفع إدريس "أخنوح"، وإلياس "إيليا" اللذين سبقا المسيح في عملية الرفع.

(1/108)

وإن رفع المسيح قبل اصطياده بيد أعدائه ليتفق تمامًا ونبوءات المزامير التي نذكر منها:

"لأنك قلت: يا رب ملجئي: جعلت العلا مسكنك، لا يلاقيك شر، ولا تدنو ضربة من خيتمك.

لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك، على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك، لأنه تعلق بي أنجيه.

أرفعه لأنه عرف اسمي. يدعوني فأستجيب له، معه أنا في الضيق أنقذه وأمجده، من طول الأيام أشبعه، وأريه خلاصي" "مزمور 91: 9-16".

ونجد صدى لهذا في إنجيل يوحنا الذي يذكر قصة القبض على المصلوب بطريقة تخالف ما ذكرته الأناجيل الثلاثة الأخرى. فهذه الأناجيل تقول إن يهوذا الخائن سار مرشدًا لقوة الظلم التي جاءت لتقبض على المسيح الذي سيميزونه من أصحابه عندما يقبله يهوذا:

"وللوقت فيما هو "المسيح" يتكلم أقبل يهوذا واحد من الاثنى عشر ومعه جمع كثير بسيوف وعصى.

وكان مسلمه قد أعطاهم علامة قائلًا: الذي أقبله هو هو. أمسكوه وامضوا بحرص.

فجاء للوقت وتقدم إليه قائلًا: يا سيدي، يا سيدي، وقبله.

فألقوا أيديهم عليه وأمسكوه" "مرقس 14: 43-46، متى 26: 47-50، لوقا 22: 47-48".

لكن إنجيل يوحنا يذكر قصة مختلفة لا دخل فيها لقبلة الخيانة، فقد قدم المسيح نفسه لطالبيه وآنذاك حدث شيء غير متوقع أصابهم بصدمة كبيرة أوقعتهم على الأرض خاصة وأن العملية كانت في الليل:

(1/109)

"أخذ يهوذا الجند وخدامًا، وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه، وقال لهم: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري. فقال لهم يسوع: أنا هو. وكان يهوذا مسلمه أيضًا واقفًًا معهم.

فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض" "يوحنا 18: 3-6".

وعلى كل فليست هذه هي المرة الأولى التي يختلف فيها إنجيل يوحنا مع الثلاثة الآخرين فقد اختلفوا كذلك في يوم الصلب: إذ جعله يوحنا يوم الخميس، بينما جعله الآخرون يوم الجمعة، وما من شك في أن صلب يهوذا الخائن بدل المسيح ليتفق ونبواءات المزامير التي نذكر منها:

"أحمد الرب بكل قلبي. أحدث بجميع عجائبك ...

عند رجوع أعدائي إلى خلف يسقطون ويهلكون من قدام وجهك لأنك أقمت حقي ودعواي.. أهلكت الشرير ...

يا رافعي من أبواب الموت ...

تورطت الأمم في الحفرة التي عملوها.. في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم. معروف هو الرب. قضاء أمضى: الشرير يعلق بعمل يديه" "مزمور 9: 1-16".

والحق أن قول القرآن بعدم صلب المسيح أو قتله، لهو في رأيي من أكبر المعجزات، وإن الدراسة الدقيقة للمراجع والأسفار المسيحية لتتفق تمامًا وما جاء به القرآن1.

__________

1 راجع كتاب: المسيح في مصادر العقائد المسيحية -للمؤلف.

(1/110)

هذا.. وما من شك في أن إلصاق أية ألوهية بالمسيح على أية صورة من الصور إنما هو شر حرمه الله تحريمًا قاطعًا، وجعله إثما غير قابل للمغفرة.

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] .

ولا يصح إيمان بالله إلا إذا تبرأ من كل شرك وأقر بالتوحيد المطلق، فذاك هو الإخلاص لله، وبه الخلاص من عاقبة السوء. والمخلصون دائمًا يقولون:

{اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص] .

(1/111)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام

الفصل الرابع: نبي العالمين محمد خاتم النبيين

مدخل

...

الفصل الرابع: نبي العالمين محمد خاتم النبيين:

محمد رسول الله:

هو خاتم النبيين.. أكمل الله به الدين، وأتم على يديه الرسالة، وجعله رحمة للعالمين.

والحديث عنه دائمًا حديث متجدد.

فمنذ حمل رسالة الله إلى الناس وهو حديث العالم، قاصيه ودانيه، ولا يزال كذلك إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ولقد تعرض محمد رسول الله لأذى كثير من القريب والبعيد، سواء الذين عاصروه أو أولئك الذين جاءوا من بعده، حتى إن واحدًا من علماء المسيحية المعاصرين قال في "دراسته" "ربما لا يوحد صاحب دعوة تعرض للتجريح والإهانة ظلمًا على مدى التاريخ مثل محمد، كذلك لا يودد أي اتهام أساسه السياسة -لا الدين- مثل الاتهامات التي وجهت للإسلام"1.

ومع ذلك فإن الإسلام -دين الله الذي جاء به محمد للناس- ظل قويًا أبدًا يلقي بظله الممدود عبر صنوف البشر ومختلف القارات.

وأخيرًا وبعد زمان طويل بدأ العالمون من غير المسلمين في الاعتراف بصدق محمد وكمال رسالته واعتباره "الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على كلا المستويين: الديني والدنيوي، فهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات وبعد 13 قرنا من وفاته فإن أثر محمد ما يزال متجددًا"2.

__________

1 من بحث للدكتور ميجيل ايرناندث في المؤتمر الإسلامي المسيحي بقرطبة عام 1977.

2 من كتاب: "المائة.. الأعظم أثرا في التاريخ" -للعالم الفلكي الرياضي الأمريكي ميخائيل هارت.

(1/115)

وفي الحديث هنا عن محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نجد صغر الحيز المتاح في هذا الجزء من الكتاب يضطرنا إلى التركيز الشديد، لذلك نكتفي بعرض شيء من "البشارات"، ثم نلقي نظرة على "الرسول في القرآن" مع ذكر "قبس من سيرة الرسول"، وحديث عن "معجزات الرسول" وأخيرًا نتحدث عن "محمد نبي الملكوت".

(1/116)

البشارات:

لا يزال بين أيدينا إلى الآن بقية من البشارات بنبي الإسلام نكتفي بعرض نماذج منها في إيجاز شديد مما جاء في الأسفار المقدسة في الديانات: اليهودية، والمسيحية، والبرهمية، والمجوسية.

أولًا -بشارات العهد القديم:

1- بشارة التوراة:

"أ" تقول التوراة -التي تكون الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم- إنه قبيل موت موسى فإنه جمع بني إسرائيل كلهم ووقف فيهم معلمًا وخطيبًا وكان "هذا هو الكلام الذي كلم به موسى جميع بني إسرائيل في عبر الأردن.. وفي أرض موآب ابتدأ موسى بشرح هذه الشريعة قائلًا: الرب إلهنا كلمنا في حوريب.. فالآن يا إسرائيل اسمع الفرائض والأحكام التي أنا أعلمكم لتعملوها لكي تحيوا" "تثنية 1:1-6، 4:1".

ولقد كان ما أعلنه موسى أمام جميع بني إسرائيل تلك البشارة بنبي مرتقب عظيم الشأن، قال فيها:

"قا لي الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا، أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه.

ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه، وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلامًا لم أوصه به أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي" "تثنية 18: 17-20".

(1/117)

بادئ ذي بدء نقول: إن هناك اتفاقًا تامًا بين المسيحيين والمسلمين على أن هذا النبي المرتقب لم يظهر في بني إسرائيل حتى عهد المسيح. ويتبين ذلك من شهادة كل من بطرس واستيفانوس الذي كان يعتقد أن تلك النبوءة قد تحققت في المسيح.

فقد قال بطرس: "يسوع المسيح المبشر به لكم قبل ... فإن موسى قال للآباء: إن نبيًا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون في كل ما يكلمكم به" "أعمال الرسل 20:3-22".

وكذلك قال استيفانوس: "هذا هو موسى الذي قال لبني إسرائيل: نبيًا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون" "أعمال الرسل 7: 37".

ولا مانع من الموافقة على ذلك بشرط الإقرار بأن: المسيح مثل موسى تمامًا فقد كان موسى عبد الله ورسوله وكذلك يكون المسيح.

إن هذا الإقرار يقضي تمامًا على الخلافات في أساسيات العقيدة بين المسيحيين بعضهم البعض من جانب، وبينهم وبين المسلمين من جانب آخر.

ولكن واقع الأمر -للأسف الشديد- على خلاف ذلك من جميع الوجوه.

والآن ننظر في علامات هذا النبي المرتقب فنجد كلمات النبوة تقول:

"أ" "نبيًا من وسط إخوتهم": وإخوة بني إسرائيل هم أولاد عمومتهم أو أقرباؤهم الذين يشاركونهم نسب الآباء، فأولاد الجد الأكبر إبراهيم وأحفاده يعتبرون إخوة لأنهم ذرية لأب واحد. وقد شاع استخدام لفظ "الإخوة" في العهد القديم ليعني الأقرباء، وأولاد العمومة كما في قوله: "أرسل موسى رسلًا من قادش إلى ملك أدوم. هكذا يقول أخوك إسرائيل" "العدد 20: 14".

(1/118)

فالمقصود بـ "إسرائيل" هنا هم الشعب الإسرائيلي الذي كان يقوده موسى، وهؤلاء كانوا أحفاد.. إسرائيل "يعقوب" بن إسحاق بن إبراهيم، كما كان ملك أدوم وشعبه، من أحفاد.. عيسو أخى إسرائيل، علاوة على كون الأدوميين من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، ذلك أن عيسو بن إسحاق هذا كان قد ذهب إلى عمه "إسماعيل، وأخذ محلة بنت إسماعيل بن إبراهيم.. زوجة له" "تكوين 28: 9".

وكرر نفس المعنى في قوله: "أوصى الشعب قائلًا: أنتم مارون بتخم إخوتكم بني عيسو الساكنين في سعير" "تثنية 2: 4".

فلغة العهد القديم تقول إن: ذرية الأحفاد يعتبرون إخوة لذرية الأحفاد الذين يشتركون معهم في الجد الأكبر.

مما سبق نتبين أن هذا النبي المرتقب: ليس إسرائيليًا لكنه يشارك الإسرائليين جدهم الأكبر.

"ب" "مثلك" إن أهم ما يتميز به موسى أنه جاء بكتاب أنزل من عند الله هو التوراة، يقوم على التوحيد الخالص ويدعو إلى قتل الوثنيين وعباد الأصنام، ثم يفرض شرائع وأحكام تتعلق بالعبادات والمعاملات.

كذلك يتميز موسى بأنه "رجل حروب" فقد نظم صفوف بني إسرائيل وقادهم في الحروب ضد أعدائهم. ومن أمثلة مجهوداته الحربية:

بعد خروج موسى ببني إسرائيل من مصر "أتى عماليق وحارب إسرائيل. فقال.. موسى ليشوع "تابعه" انتخب لنا رجلًا واخرج حارب عماليق.. وأما موسى وهاورن وحور فصعدوا على رأس التلة.. وكان إذا رفع موسى يده أن إسرائيل يغلب وإذا خفض يده أن عماليق يغلب" "خروج 17: 8-11".

ثم بدأ موسى يجهز بني إسرائيل للحرب فقد "كلم الرب موسى في برية سيناء.. في السنة الثانية لخروجهم ... أحصوا كل جماعة بني إسرائيل بعشائرهم ... من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل خارج للحرب في إسرائيل" "العدد 1: 1-3".

(1/119)

وفي حروب بني إسرائيل بقيادة موسى ذاقوا النصر حين أطاعوه وساروا وفق خطته فقد "أرسل إسرائيل رسلًا إلى سيحون ملك الأموريين قائلًا: دعني أمر في أرضك.. فلم يسمح سيحون لإسرائيل بالمرور في تخومه ... وحارب إسرائيل فضربه إسرائيل بحد السيف وملك أرضه" "العدد 21: 21-24".

كذلك ذاق بنو إسرائيل الهزيمة في معركة الجبل1 -وفيهم موسى- حين خرجوا إلى الحرب بهواهم ورفضوا أوامره. وفي هذا قال لهم موسى: "تنطقتم كل واحد بعد حرمه واستخففتم الصعود إلى الجبل فقال الرب لي: قل لهم لا تصعدوا ولا تحاربوا.. فكلمكم ولم تسمعوا بل عصيتم قول الرب وطغيتم وصعدتم إلى الجبل. فخرج الأموريون الساكنين في ذلك الجبل للقائكم وطردوكم كما يفعل النحل وكسروكم" "تثنية 1: 41-44".

"ج" "أما النبي الذي.. يتكلم باسمي كلامًا لم أوصه أن يتكلم به.. فيموت ذلك النبي".

إن هذه الفقرة تحدد عقوبة النبي الذي يفتري على الله الكذب فيدعي أن الله أوحى إليه ولم يوح إليه شيء، فعقوبة ذاك النبي وأمثاله هي القتل. إن قوله: "يموت ذلك النبي" تعني قتله وإلا تصبح عديمة المعنى، لأن الموت نهاية كل حي سواء أكان نبيًا كاذبًا أم صادقًا.

إن ذلك ما تقوله التراجم القديمة: "أما النبي الذي يجترئ بالكبرياء ويتكم باسمي ما لم آمره بقوله: أو باسم آلهة غيري فليقتل".

لقد درج الكتاب المقدس على استخدام عقوبة الموت لتعني القتل كما في حدود الزنا:

"إذا زنى رجل مع امرأة.. فإنه يقتل، الزاني والزانية ... وإذا اقتربت امرأة إلى بهيمة لنزائهما، تميت المرأة والبهيمة إنهما يقتلان.. دمهما عليهما" "لاويين 2: 10-16".

__________

1 يذكرنا هذا على الفور بهزيمة المسلمين في معركة جبل أحد لأنهم خالفوا تعليمات الرسول -صلى الله عليه وسلم.

(1/120)

ونقف هنا لنقول: إن توراة موسى تنص بوضوح على أن كل نبي يقول بغير "لا إله إلا الله" فإن نهايته القتل، لأنه متنبئ افترى على الله كذبًا، وعلم غير الحقيقة الكبرى، وهي التوحيد الخالص، حتى لو أتى ذلك الدعي بكل المعجزات والأعاجيب، إن هذا ما تقوله التوراة:

"إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا، وأعطاك آية أو أعجوبة ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلًا: لنذهب وراء آلهة أخرى.. فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم.. لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم.

وذلك النبي ... يقتل لأنه تكلم بالزيغ من وراء الرب إلهكم" "تثنية 13: 1-5".

إن آية صدق النبي -إذن- كل نبي، هو أن يقول ويعلم "لا إله إلا الله".

والآن نقول: إن النبي المرتقب الذي لا تزل تبشر به التوراة -إلى الآن- لا يمكن أن يكون سوى محمد نبي الإسلام، فهو النبي الوحيد الذي ظهر بعد موسى وينطبق عليه الوصف أنه "مثل موسى" تمامًا، وذلك لأسباب كثيرة من بينها ما نذكره بعد مسلسلًا من المنشأ إلى نهاية الحياة الدنيوية لكل من هذين النبيين العظيمين:

1- ينسب موسى إلى أبيه عمرام بن قهات بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمه يوكابد بنت لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وبهذا يلتقي أبوه مع أمه في الجد الأول لأبيه. ونلاحظ أن صلة الأب بذلك الجد أبعد من صلة الأم به بمقدار جيل واحد ...

وينسب محمد إلى أبيه عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.

(1/121)

وكانت أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.. إلخ.

وبهذا يلتقي أبوه مع أمه في الجد الرابع لأبيه.... ونلاحظ كذلك أن صلة الأب بذلك الجد أبعد من صلة الأم به بمقدار جيل واحد.

وغني عن البيان أن كليهما قد حمل به وولد ولادة طبيعية.

2-جاء موسى من بيت اختص بالخدمة الدينية وهم بنو لاوى، فقد "أفرز الرب سبط لاوى ليحملوا تابوت عهد الرب ولكي يقفوا أمام الرب ليخدموه ويباروا باسمه" "تثنية 10: 8".

وكذلك جاء محمد من بيت اختص بالخدمة الدينية، فقد كان بنو عبد مناف يلون الرفادة والسقاية، وهما تقديم الطعام لحجاج البيت الحرام وتقديم الماء العذب لهم.

3- وكان موسى راعي غنم قبل رسالته، وكذلك كان محمد راعي غنم قبل رسالته.

4- وقد تزوج موسى قبل رسالته وكانت له ذرية: "أخذ موسى امرأته وبنيه وأركبهم على الحمير ورجع إلى أرض مصر" "خروج 4: 20".

ولقد حدثت هذه العودة بعد الرسالة.

وكذلك تزوج محمد قبل رسالته، وعمره آنذاك 25 عامًا، وكانت له ذرية من خديجة بنت خويلد التي كان عمرها آنذاك 40 عامًا.

5- وكلاهما عدد زوجاته بعد الرسالة، فقد تزوج موسى مرة أخرى من امرأة سمراء أعجبته فتعرض من جراء ذلك للنقد والسخرية، لكن الله -سبحانه- تكفل بالدفاع عنه. فلقد "تكلمت مريم "أخته" وهارون على موسى بسبب المرأة الكوشية لأنه كان قد اتخذ امرأة كوشية فقالا: هل كلم الرب موسى وحده. ألم يكلمنا نحن أيضًا؟

(1/122)

فسمع الرب. وأما الرجل موسى فكان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض.

فقال الرب حالًا لموسى وهارون ومريم: اخرجوا أنتم الثلاثة إلى خيمة الاجتماع، فخرجوا هم الثلاثة ... ودعا موسى وهارون فخرجا كلاهما. فقال "الرب": اسمعا كلامي.

إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا أستعلن له.. وأما عبدي موسى فليس هكذا، بل هو أمين في كل بيتي.. فلماذا لا تخشيان أن تتكلما على عبدي موسى؟

فحمى غضب الرب عليهما.. وإذا مريم برصاء كالثلج.. فقال هارون لموسى: أسألك يا سيدي لا تجعل علينا الخطية التي حمقنا وأخطأنا بها.. فصرح موسى إلى الرب قائلًا: اللهم اشفها.. فقال الرب لموسى: تحجز سبعة أيام وبعد ذلك ترجع" "العدد 12: 1-14".

وكذلك عدد محمد زوجاته بعد الرسالة بيد أن هنا وقفة لا بد منها:

لقد بعث الرسول وعمره 40 عامًا، وكان زوجته الوحيدة خديجة عمرها آنذاك 55 عاما. واستمرت هي الزوجة الوحيدة في حياة الرسول حتى توفيت بعد الرسالة بنحو 12 عامًا فكان عمر الرسول آنذاك 52، وكان عمرها حين توفيت 67 عامًا، إذ لم يتزوج الرسول ثانية إلا بعد وفاة هذه السيدة الفاضلة العجوز، والتي قضى معها 27 عامًا في حياة زوجية مستقرة، استغرقت كل شبابه وجزءا من مشيبه.

ثم كانت الزوجة الثانية في حياة الرسول -والأولى بعد وفاة خديجة- هي سودة بنت زمعة، أرملة السكران بن عمرو بن عبد شمس. ولم تعرف سودة بالجمال أو الثروة أو المكانة بما يجعل لمطمع من مطامع الدنيا أثرًا في زواجه منها. إنما كانت سودة زوجة لرجل من السابقين إلى الإسلام الذين احتملوا في

(1/123)

سبيله الأذى والذين هاجروا إلى الحبشة بعد أن أمرهم النبي بالهجرة إليها. وقد أسلمت سودة وهاجرت معه وعانت من المشاق ما عانى ولقيت من الأذى ما لقي.

ولما طال المكث على السكران في أرض الحبشة، ظن أن الأمور ربما تكون قد تحولت إلى جانب المسلمين، فعاد بها إلى أرض العرب، إلا أنه مات عقيب وصوله وترك زوجته مهيضة الجناح.

وهنا يقول الدكتور نظمي لوقا: "كان الموقف عصيبًا، فالمسلمون والمسلمات في ذلك العهد قليل عددهم.. والتنكيل بهم على أشده بعد أن مات أبو طالب عم الرسول حتى اجترأ المجترئون على إيذائه إيذاء بدنيًا عنيفًا، بعد أن كان جل إيذائهم من قبل باللسان والإشارة.

وإذا كان هذا حال الرسول. فكيف يكون حال من دونه من أتباعه؟ كيف يكون حال امرأة فقدت زوجها ولا نصير لها؟

محنة اهتزت لها قلوب المؤمنين وشغلت بالهم. وكان التكافل هو الواجب الأول والخاطر في كل ذهن. من الواجب أن يضم رجل مسلم مثل هذه الأرملة المهددة في دينها المطعونة في طمأنينتها. والتعدد ليس سنة مستحدثة في العرب، بل ذلك حالهم منذ قديم ...

فهل كان محمد، إذا ارتضى الزواج، الرجل الذي يتخلى عن هذه المسكينة فيعرضها للقهر والشماتة؟ معاذ النخوة؟

ليتزوجها إذن! لتكون مدبرة لبيته ومربية لابنته، لا لتكون متعة حس ولذة مضجع.

وإن هي إلا سنوات قلائل حتى أحست هذه العجوز الطيبة القلب أنها عبء على كرم زوجها وبره، فاستأذنته أن تظل في بيته وتعفيه من حقوق الزوجية ... وبقيت هناك تصلي وتصوم وتتصدق، زوجة شرف لا أكثر، وما كانت تصلح من الزواج إلا لهذا، وما صلحت لهذا إلا لنخوة في ذلك الرجل.. هذا هو أول

(1/124)

حظه من النساء بعد وفاة خديجة، وما هو بحظ الملهوف على لذات الفراش بعد طول مصابرة ومصانعة"1.

واستمر الدكتور نظمي لوقا في بيان دوافع تعدد زوجات الرسول وظروف كل حالة على حدة وكانت خلاصة قوله:

"هؤلاء زوجاته اللواتي بنى بهن وجمع بينهن. لم تكن واحدة منهن هدف اشتهاء كما يزعمون، وما من واحدة منهن إلا كان زواجه بها أدخل في باب الرحمة وإقامة العثار والمواساة الكريمة، أو لكسب مودة القبائل وتأليف قلوبها بالمصاهرة، وهي بعد حديثة عهد بالدين الجديد.

هي ضريبة واجب إذن. وما كان من الهين على رسول قائد جيش وحاكم دولة محاربة أن يزيد أعباءه بما يكون في بيت كثير النساء من خلافات على صغائر الأمور ...

ولكنه الواجب. واجب الدعوة أو واجب النخوة"2.

لقد عدد كل من موسى ومحمد زوجاته ولا حرج عليه فمن قبل عدد الأنبياء، وعلى رأسهم أبوهم إبراهيم، الذي تزوج هاجر ومعه زوجه الأولى سارة. وبعد موت سارة "عاد إبراهيم، فأخذ زوجة اسمها قطورة فولدت له "6 أبناء" ... وأما بنو السراري اللواتي كانت لإبراهيم فأعطاهم وصرفهم ... شرقًا" "تكوين 25: 1-6". لقد عدد إبراهيم الزوجات والسراري وكانت له منهن ذرية.

وكذلك عدد يعقوب زوجاته، فقد تزوج الأختين ليئة وراحيل كما تزوج جاريتهما بلهة وزلفة، فجمع أربعًا في وقت واحد، وجاء منهن بنو إسرائيل.

وعدد داود زوجاته فقد "أخذ داود نساء أيضًا في أورشليم وولد أيضًا داود بنين وبنات" "أخبار الأيام الأول 14: 3".

__________

1 محمد في حياته الخاصة، ص70-72.

2 المرجع السابق، ص110-111.

(1/125)

وكانت له أخينوعم اليزرعيلية وأبيجايل امرأة نابال الكرملي ومعكه بنت تلماي وحجيث وأبيضال وعجلة، وميكال بنت شاول.

وأما عن سليمان فحدث ولا حرج إذ تقول الأسفار:"وأحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون: موآبيات وعمونيات وأدوميات وصيدونيات وحثيات. من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل: لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم، لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم، فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة. وكانت له سبعمائة "700"!! من النساء السيدات وثلاثمائة "300"!! من السراري فأمالت نساؤه قلبه" "الملوك الأول 11: 1-3".

الحق ... إن الذين يمارون في تعدد الزوجات إما جهلة وإما منافقون.

وبعد هذه الوقفة التي جاءت في مكانها للحديث عن تعدد الزوجات نعود لنستكمل أوجه التشابه بين موسى ومحمد.

6- كان موسى معافًا في بدنه وعقله. وظل يتمتع بطاقته العقلية والبدنية حتى توفاه الله. "وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات، ولم تكل عينه ولا ذهبت نضارته" "تثنية 34: 7".

وكذلك كان محمد معافًا في بدنه وعقله، ولقد كانت رجاحة عقله سببًا في منع حرب أهلية كادت تنشب بين قبائل قريش من أجل التسابق على وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة بعد إعادة بنائها قبل بعثته. فقد اقترح عليهم أن يأتوه بثوب وضع عليه الحجر وأمسكت كل قبيلة من الثوب. فكأنهم حملوه جميعًا إلى ما يحاذي موضع البناء ثم تناوله بيده ووضعه في مكانه.

وكان محمد قوي البدن وسيم الطلعة أزهر اللون اشتهر في قومه بالأمانة فعرف بينهم منذ نشأته بالأمين. واجتمعت فيه كل صفات الخلق العظيم، كما

(1/126)

اكتملت فيه المهابة وقوة الشخصية التي تلطفها ألفة ولين جانب، حتى إن الأطفال لتركن إليه وتفرح بمداعبته.

وكان محمد شجاعًا مقدامًا، أول من يلبي داعي النصرة ويقتحم مواطن الخطر. يصف علي بن أبي طالب -وهو الفدائي المقدام- مواقف الرسول في الحرب فيقول: "كنا إذا اشتدت الحرب واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله، فما يكون أحدنا أقرب إلى العدو منه".

ولقد عرف كل من موسى ومحمد بالطهارة وسلامة الطبع فعافت نفساهما الطاهرتان كل خبيث من مأكل ومشرب فما ذاقا الخمر أو المسكر.

7- جاء موسى بكتاب من عند الله هو التوراة، لا يزال يقول الذين أعادوا كتابته بعد أن تعرض للضياع والأسر عند الأعداء -ولم يكتمل شرعيته إلا حوالي عام "400 ق. م" أي بعد موسى بنحو 800 عام- أن ما بين دفتيه هو كلام الله ووحيه، فالحديث عن الوصايا العشر يبدأ هكذا: "ثم تكلم الله بجميع هذه الكلمات قائلًا: أنا الرب إلهك. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي.. لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا ولا صورة ما" "خروج 20: 1-4".

"وقال الرب لموسى: اكتب لنفسك هذه الكلمات.. فكتب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر" "خروج 34: 27-28".

وفي آخر أيام موسى: "عندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلًا: خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهدًا عليكم" "تثنية 31: 24-26".

(1/127)

وجاء محمد بكتاب من عند الله هو القرآن، يشهد ما فيه على أنه كلام الله الذي أنزل وحيًا إلى الرسول {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192-195] .

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشوري: 7] .

{قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19] .

وبين التوراة والقرآن، جاء الإنجيل، إلا أن ما بين أيدينا من أناجيل أربعة قانونية لم يقل واحد منها إنه كلام الله، أو إن كاتبه قد كتبه بوحي أو إلهام.

فها هو إنجيل يوحنا الذي كتب بعد أكثر من 70 عامًا من رفع المسيح الذي ينسب إلى أحد تلاميذه يقول كاتبه في خاتمته: "هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا. ونعلم أن شهادته حق. وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتب واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة" "يوحنا 21: 24-25".

ولا شك أن درجة الدقة هنا يحددها اعتراف الكتاب بأنه لا يظن أن العالم يسع الكتب التي تحكي معجزات المسيح وأن ما سطره ليس إلا شهادة منه كتبها بجهوده الشخصية، وكذلك الحال مع بقية أناجيل متى ومرقس ولوقا بل وبقية أسفار العهد الجديد وخاصة رسائل بولس وتلاميذ المسيح والتي سبق أن عرضنا لها في موضوع الوحي1.

__________

1 راجع كتاب المؤلف: الوحي والملائكة.

(1/128)

وكذلك كان المسيح مثقفًا درس الأسفار المقدسة وتتلمذ على طائفة اليهود الأسينيين. ففي بدء رسالته "دخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ.

فدفع إليه سفر أشعياء النبي. ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبًا فيه: روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين.. وطوى السفر وسلمه إلى الخادم.. فابتدأ يقول لهم: إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم".

"لوقا 4: 16-21".

مما سبق نتبين أن كلام الله الذي يجعله في فم النبي المرتقب هو ما يقرؤه على الناس شفاهًا بأنه القرآن الذي جاء به، وكان فيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4] .

8- وكما نعلم جميعًا فقد كان كل من موسى ومحمد "رجل حرب" قاد أتباعه في معارك شرسة ضد الكفار وعباد الأوثان، وذاقت قوات كل منهما النصر، كما تعرضت للهزيمة.

ويجب أن نذكر أن "رجل الحرب" في الكتاب المقدس، صفة من صفات الله.

فها هو موسى يعظم ربه بعد غرق فرعون وجنوده ويقول: "الرب قوتي ونشيدي.. هذا إلهي فأمجده.

الرب رجل الحرب، الرب اسمه" "خروج 15: 2-3".

9- ولقد تلقى موسى الرسالة الإلهية وعمره 80 عامًا: "وكان موسى ابن ثمانية سنة وهارون ابن ثلاث وثمانين سنة حين كلما فرعون" "خروج 7: 7".

وكما علمنا فقد توفي موسى عن 120 عامًا، أي أن فترة رسالة موسى بلغت ثلث عمره.

كذلك بعث محمد وعمره 40 عامًا وتوفي عن 63 عامًا أي أن فترة رسالته بلغت ثلث عمره أيضًا.

(1/130)

10-وأخيرًا -وليس آخرًا- فقد مات كل منهما ميتة طبيعية ولم يتعرض فيها لقتل أو تعذيب. إنما مات رضي النفس في حضن أهله وعشيرته وأتباعه.

"ب" ثم كانت هناك بشارة أخرى لا تزال تذكرها التوراة تتعلق بالإسلام ونبيه وشريعته، وفتح مكة ودخوله ظافرًا على رأس جيش من صحابته الأبرار: 10000 من القديسين، كما تقول التوراة.

فهذه نبوءة موسى فيهم وفي نبيهم -محمد رسول الله- تقول، حسب ترجمة البروتستانت:

"جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران.

وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم.

فأحب الشعب. جميع قديسيه في يدك، وهم جالسون عند قدمك، يتقبلون من أقوالك" "تثنية 33: 2-3".

وإذا رجعنا إلى نسخة الملك جيمس نجد ترجمة الفقرة التي تتحدث عن "ربوات القدس" وما بعدها تعطينا صورة أوضح، إذ يقول: "وجاء مع عشرة آلاف "10.000" من القديسين. ومن يمينه خرجت شريعة ملتهبة لهم"1.

أما العبارة التي تقول: "أحب الشعب"، فنجدها في التراجم الفرنسية تتكلم عن حب الله للشعوب، أي للناس أجمعين، وليس شعبًا واحدًا، التي جرت العادة، في مثل تلك الحال، أن يفهم أنه الشعب الإسرائيلي، فالفرق كبير بين هذا وذاك. فهذه التراجم "أجل، إنه يحب الشعوب"2.

__________

1 and he came with ten thousands of saints: from his right hand went a fiery law for them.

2 oui, il aime les peuples. (l. s) .

(1/131)

وأما قولهم: "يتقبلون من أقوالك"، فهي في نسخة الملك جيمس: "وكل واحد سيتلقى من أقوالك".

وهناك إجماع بين التراجم على أن هذه الفقرة من سفر التثنية، لها علاقة بفقرة أخرى من سفر حبقوق "3:3" سنتعرض لها فيما بعد.

والآن ننظر في هذه النبوة، كما جاءت في سفر التثنية مع الأخذ في الاعتبار ما تقوله مختلف التراجم، نجد أن:

مجيء الرب من سيناء يشير إلى رسالة موسى، حيث ناداه الله في البقعة المقدسة.

وإشراق الرب من سعير، يشير إلى رسالة المسيح عيسى، حيث تمتد سعير جنوب البحر الميت، شرق فلسطين، وحيث اعتزل المسيح نحو 18 عامًا مع طائفة من أهل التقوى والورع يعرفون باسم: الأسينيين.

وأما تلألؤ الرب من جبل فاران، فهو إشارة إلى رسالة محمد الذي جاء من ذرية إسماعيل بن إبراهيم. فلقد سكن إسماعيل في "برية" فاران" "تكوين 21: 21".

وكان "بنو إسماعيل: اثنا عشر رئيسًا، حسب قبائلهم.. وسكنوا من حويلة إلى شور التي أمام مصر" "تكوين 25: 16-18".

هذا.. ولقد دخل محمد مكة في السنة الثامنة من الهجرة في 10.000 من أصحابه، القديسين كما تقول نبوءة موسى. دخلوها بسلام لهم ولأهلها.

فلما دخل المسجد الحرام طاف بالكعبة وسجد لله شاكرًا، ثم دعا القرشيين وقال لهم: "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ "

قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم.

قال: "فاذهبوا فأنتم الطلقاء".

(1/132)

ثم أتم رسول الله في أول يوم لفتح مكة، ما استمر يدعو إليه طيلة 20 سنة، وما حاربته مكة بصناديدها أشد الحرب فيه. فقط طهر المسجد الحرام من الأصنام وقضى تمامًا على الوثنية.

هذا.. ونجد إشارة أخرى إلى جبل فاران، جاءت في نبوءة حبقوق التي أشارت إليها مختلف التراجم، كما ذكرنا سلفًا. فهي تقول: "الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران" سلاه.

جلاله غطى السموات، والأرض امتلأت من تسبيحه "حبقوق: 3: 3".

إن المسلمين هم الوحيدون بين المؤمنين بالله ورسالاته، الذين يملئون الأرض تسبيحًا، خمس مرات على الأقل كل يوم في الأذان للصلاة، حيث يهتفون قائلين: الله أكبر، ثم يعلنون شهادة الحق الكبرى وهي: لا إله إلا الله.

وإن مكة لهي المدينة المقدسة الوحيدة التي قضى الله -جلت حكمته- ألا يدخلها مشرك نجس. فوجب على المسلمين أن يحافظوا على طهارتها هذه، فذاك قضاء الله في كتب النبيين، كما هتف به أشعياء الذي جاء بعد موسى بستة قرون، فقال نبوءة عن البرية، بلاد العرب المقفرة الجدباء، جاء فيها: "تفرح البرية والأرض اليابسة، ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس.. هو ذا إلهكم. الانتقام يأتي. جزاء الله. وتكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة لا يعبر فيها نجس بل هي لهم" "أشعياء 35: 1-8".

ولقد كان قضاء الله في القرآن العظيم:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] .

حقًا ... لقد عوض الله رسو له بصحابة عظام، قادهم في جيش من 10.000 قديس، كان كل منهم -كما تقول نبوءة التوراة- "يجلس عند قدمي النبي يتلقى من أقواله".

(1/133)

2- بشارة المزامير:

ثم كانت نبوءات المزامير عن ذلك النبي المرتقب، ومنها:1.

"أ" أنه وسيم الخلقة حسن المنظر: "أنت أبرع جمالًا من بني البشر".

"ب" رجل حرب من أجل الحق، يحالفه النصر: "تقلد سيفك على فخذاك أيها الجبار.. اركب من أجل الحق والدعة، والبر، فتريك يمينك مخاوف. شعوب تحتك يسقطون، بنات ملوك بين حظياتك".

لقد كان محمد نبي الإسلام صاحب هذه الصفات وصاحب هذه الأحداث.. وفي إحدى الغزوات كانت جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق من السبايا، ففك النبي أسارها وتزوجها فلما بلغ الخبر الناس أطلقوا من بأيديهم من أسرى بني المصطلق إكرامًا لمصاهرة رسول الله إياهم حتى لكانت عائشة تقول عن جويرية: "ما أعلم امرأة كانت أعظم من قومها بركة منها".

"ج" كذلك عرف عن محمد نبي الإسلام أنه لم يشتهر بسلسلة نسب تضم في الآباء كثيرًا من الملوك وإن كانت قد ضمت رؤساء قبائل موقرين في أقوامهم ابتداء من أبناء إسماعيل الذين كانوا رؤساء قبائل كبيرة2 حتى جده قصي الذي اجتمع له أمر مكة في منتصف القرن الخامس الميلادي ممثلًا في الحجابة والسقاية والرفادةن والندوة واللواء والقيادة.

ولكن الله -جلت حكمته- عوضه عن ذلك النسب الأبوي بنسب ولدى فقد خرجت منه ذرية وكان له نسب انتشر في الأرض، وكان أولئكم "أهل البيت" النبوي محل تقدير وتعظيم عبر العصور. وفي هذا يقول المزمور:

__________

1 انظر المزمور: 45.

2 تقول التوراة: "هذه أسماء بني إسماعيل حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار، وأدبئيل، ومبسام، ومشماع، ودومة، ومسا، وحدار، وتيما، ويطور، ونافيش، وقدمه.

هؤلاء هم بنو إسماعيل وهذه أسماؤهم بديارهم وحصونهم. اثنا عشر رئيسًا حسب قبائلهم.. سكنوا من حويلة إلى شور التي أمام مصر حينما تجيء نحو أشور" "تكوين 25: 13-18".

(1/134)

"عوضًا من آبائك يكون بنوك تقيمهم رؤساء في كل الأرض".

لقد مات النبي ودرعه مرهونة عند يهودي، فلم يورث مالًا، ولا ملكًا، وإنما ورث علمًا وحكمة ومودة ورحمة، وترك النبي ذرية ونسبًا وصهرًا.

{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] .

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] .

3- بشارة أشعياء:

ثم كانت نبوءات أشعياء1، وفيها عن هذا النبي:

"أ" اشتهر بأنه عبد الله ورسوله: "هو ذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم".

وقد اشتهر محمد نبي الإسلام بأنه عبد الله ورسوله كما اشتهر بذلك عباد الله المكرمون من الأنبياء والمرسلين. يقول القرآن الكريم.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] .

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23] .

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1] .

__________

1 انظر على وجه الخصوص الإصحاح 42.

(1/135)

"ب" يسود الدين وتكتمل الشريعة التي جاء بها في عهده، لا من بعده: "لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته".

ولقد وعد الله نبي الإسلام أن يتم الأمر الذي جاء به فقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] .

ولقد أكمل الله الدين في حياة النبي حتى إذا توفاه الله ترك الأمة الإسلامية على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لقد اكتمل الدين ونزل القرآن يقول: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] .

"ج" يعصمه الله من الناس حتى يكمل رسالته: "أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفك وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم".

ولقد طمأن الله نبي الإسلام ألا يلتفت إلى مؤامرات الكائدين له، فالله عاصمه من الناس حتى يبلغ الأمر غايته. ولقد نزل القرآن ليعلن هذا التحدي على رءوس الأشهاد:

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] .

"د" ينتسب النبي إلى إسماعيل بن إبراهيم: "لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار" وقيدار هذا هو الابن الثاني لإسماعيل. "تكوين 25: 13".

"هـ" أعداؤه المنهزمون عبدة أوثان، أصحاب أصنام: "يخزى خزيًا المتكلون على المنحوتات القائلون للمسبوكات أنتن آلهتنا":

"و" رجل حروب مقدام ينتصر على أعدائه: "الرب كالجبار يخرج. كرجل حروب ينهض غيرته. يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه".

ولقد سجل القرآن المعارك الكبرى في الإسلام وكان النبي هو القائد والمخطط والمحارب حين البأس:

(1/136)

{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121] .

{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} [النساء: 84] .

إن هذا أمر اختص به أولو العزم من الأنبياء والمجاهدين. ولقد كان ذلك أمر موسى بعد أن خرج ببني إسرائيل من مصر، وانتهت مرحلة في جهاده وبدأت مرحلة أخرى، فآنذاك "كلم الرب موسى في برية سيناء.. في السنة الثانية لخروجهم من أرض مصر قائلًا: أحصوا كل جماعة بني إسرائيل ...

من ابن عشرين سنة فصاعدًا. كل خارج للحرب في إسرائيل، تحسبهم أنت وهارون حسب أجنادهم ويكون معكما رجل لكل سبط، هو رأس لبيت آبائه".

"ز" في دينه هتاف من رءوس الجبال وتسبيح وتكبير: "من رءوس الجبال ليهتفوا، ليعطوا للرب مجدًا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر".

لقد بني الإسلام على خمسة أعمدة خامسها الحج، وفيه يعقد أكبر مؤتمر ديني عالمي سنويًا بجبل عرفات، وقد جعلت الوقفة بهذا الجبل ركن الحج الركين، إذ قال نبي الإسلام: "الحج عرفة"، فهناك يهتف الحجاج لله ويسبحون ويكبرون ويهللون ويتضرعون بالدعوات وصالح العبادات، وما أعظمه من نسك.

وفي الحج -يتجرد الإنسان عن زخرف الحياة ومتعها، إذ يحرم عليه ممارسة بعض ما اعتاده في حياته الزوجية الصالحة مثل العلاقة الجنسية، والتحلي بأفخر الثياب، وعوامل الصخب والإثارة.

هناك يواجه الإنسان الحقيقة بين يدي خالقه فيأتي هذه التجرية العظيمة طوعًا في الدنيا قبل أن يأتيها كرها في الآخرة، فآنذاك لا ينفع الندم ولا تجدي الحسرات.

(1/137)

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 197-198] .

"ح" الشعب الذي ظهر فيه كان متخلفًا ضعيفًا طعمة لكل آكل: "شعب منهوب ومسلوب، وقد اصطيد في الحفر كله وفي بيوت الحبوس اختبئوا. صاروا نهبًا. ولا منقذ. وسلبًا، وليس من يقول رد".

ويقول القرآن: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2-4] .

"ط" ولكن بعد أن جاءهم النبي خرجوا من الظلمات إلى النور: "لتفتح عيون العمي، لتخرج من الحبس المأسورين، من بيت السجن الجالسين في الظلمة.

أسير العمي في طريق لم يعرفوها، في مسالك لم يدروها أمشيهم. أجعل الظلمة أمامهم نورًا والمعوجات مستقيمة. هذه الأمور أفعلها ولا أتركهم".

ويقول القرآن الكريم: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1] .

{فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا، رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق: 10-11] .

(1/138)

إن تجربة الإسلام في عرب الجزيرة العربية نموذج فريد في التاريخ. وأذكر في هذا المقام مقالة الإنجليزي أرنولد توينبي قال فيها: لكي ندرك ما فعله الإسلام بالعرب -بمقاييس العصر- نتصور دولة في حجم كوبا تظهر فجأة، ثم تستولي على نصف الولايات المتحدة الأمريكية وتخضع لها روسيا بأكملها.

ومن الواضح أن ترينبي ضرب المثل بهاتين الدولتين الكبيرتين باعتبارهما القوتين الأعظم في النصف الثاني من القرن العشرين، ويناظرهما في القرن السابع الميلادي: الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الفارسية على الترتيب.

"ي" هو نبي البر الذي يعظم شريعة الله: "الرب قد سر من أجل بره، يعظم الشريعة ويكرمها".

إن بر نبي الإسلام ورحمته بالناس جميعًا أمر يشهد به الجميع حتى من غير المسلمين، ومنهم عتاة تطاولوا على الإسلام ونبيه، ولقد حدث أن مرت جنازة يهودي فوقف النبي تكريمًا للأخوة الإنسانية، فإذا ببعض الصحابة يقول له: إنها ليهودي -وقد علم ما أصاب النبي والمسلمين من أذى على يد اليهود تمثل في مؤامرات وفتن وحرب نفسية وحروب دموية -فأمسك عليه النبي اعتراضه قائلًا: "أليست نفسًا؟! "

صدق القرآن: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .

ثانيًا -بشارات العهد الجديد:

1- "النبي" المرتقب:

ظهر يوحنا المعمدان "يحيى بن زكريا" نبيًّا في اليهود في مطلع القرن الأول من الميلاد ليبشر بالمسيح -قريبه الذي ولد معه في نفس العام- ويمهد له الطريق.

وعند ما ظهر يوحنا كان اليهود يعلمون يقينًا من نبوءات كتبهم أنه لا يزال هناك في عالم الأنبياء ثلاثة لم يظهروا بعد ولذلك أرسلوا إليه يسألونه.

(1/139)

"هذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم، كهنة ولاويين ليسألوه: من أنت؟

فاعترف ولم ينكر وأقر: إني لست أنا المسيح.

فسألوه: إذا ماذا؟ إيليا أنت؟

فقال: لست أنا.

- النبي أنت؟

فأجاب: لا.

فقالوا له: ماذا تقول عن نفسك؟

قال: أنا صوت صاروخ في البرية. قوموا طريق الرب كما قال أشعياء النبي.

فسألوه وقالوا له: فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟

أجابهم يوحنا قائلًا: أنا أعمد بماء، ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه.. الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه" "يوحنا 1: 19-27".

من الواضح إذن أن لكل واحد من الثلاثة الذين كان ينتظرهم اليهود اسمًا يعرف به، وأن أسماء أولئك الثلاثة هي: إيليا - والمسيح- والنبي.

ومن الواضح كذلك أن النبي المرتقب هو آخر الثلاثة ظهورًا، أي يأتي بعد إيليا والمسيح وذلك لكونه آخر من سأل عنه اليهود يوحنا المعمدان.

ولما كان اليهود قد اشتهروا بظهور الأنبياء فيهم، فإن تسمية هذا النبي المرتقب الأخير باسم "النبي" يعني ولا شك أنه نبي ولكنه ليس ككل الأنبياء.

إنه نبي أمره جلل ونبؤه عظيم. إنه نبي الزمان أو هو "النبي" المرتقب.

(1/140)

وحتى بعد ظهور "المسيح" استمر اليهود يخلطون بينه وبين "النبي" المرتقب فقد حدث "في اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى قائلًا: إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب.. فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام، قالوا: هذا بالحقيقة هو النبي.

وآخرون قالوا: "هذا هو المسيح.. فحدث انشقاق في الجمع لسببه" "يوحنا 7: 37-43".

لقد ظهر النبي إيليا "إلياس" في بني إسرائيل في منتصف القرن التاسع قبل الميلاد، وإيليا هذا -انتهت حياته برفعه إلى السماء حيًّا.

ولقد استمر اليهود حتى ميلاد المسيح ينتظرون إيليا أو ظهور نبي يتقدم إليهم بروح إيليا.

ولقد كانت بشارة الملاك للنبي زكريا أنه سيرزق بابن اسمه يحيى "يوحنا" يتقدم بروح إيليا، إذ قال له الملاك:

"وخمرًا ومسكرًا لا يشرب. ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس.. ويرد كثيرون من بني إسرائيل إلى الرب إلههم. ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته" "لوقا 15: 13-17".

ولقد علم المسيح من حوله أن إيليا المنتظر قد جاء في شخص يوحنا بن زكريا فقد "ابتدأ يسوع يقول للجموع عن يوحنا.. ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيًّا؟

نعم أقول لكم وأفضل من نبي.

الحق أقول لكم: لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان ...

إن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي" "متى 11: 7-14".

(1/141)

ومرة أخرى "سأله تلاميذه قائلين: فلماذ يقول الكتبة: إن إيليا ينبغي أن يأتي أولًا "قبل المسيح".

فأجاب يسوع وقال لهم: إن إيليا يأتي ويرد كل شيء ولكني أقول لكم: إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا كل ما أرادوا....

حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان" "متى 17: 10-13".

والذي عملوه في يوحنا المعمدان أن حاكمًا فاجرًا يدعى هيرودس قطع رأسه وقدمه على طبق إرضاء لراقصة فاجرة جزاء تنديده بعلاقة هيرودس بامرأة أخيه المدعوة هيروديا.

وخلاصة القول الذي لا جدال فيه: إن نبوءات الأنبياء السابقين ومعتقدات الجيل المعاصر للمسيح كانت تقرب يقينا إنتظار ثلاثة مشهورين في عالم الأنبياء هم على الترتيب: إيليا، ثم المسيح، ثم النبي.

ولقد قرر المسيح صراحة أن إيليا قد جاء في شخص يوحنا المعمدان ومن المعتقد بين المسيحيين والمسلمين -أن المسيح قد جاء في القرن الأول من الميلاد.

لم يبق -إذن- بعد المسيح إلا أن يأتي "النبي" المرتقب، النبي الذي يكتمل به الزمان، وفي مجيئه يأتي "ملكوت السموات".

ويذكر التاريخ أن محمدًا نبي الإسلام قد أرسل كتبًا إلى الملوك والحكام من الجيران يدعوهم فيها إلى الإسلام منهم: كسرى ملك فارس وهرقل إمبراطور الروم والنجاشي ملك الحبشة والمقوقس الزعيم الديني لأقباط مصر التي كانت آنذاك تحت حكم الروم. وقد جاء في رد المقوقس: "سلام عليك -أما بعد:

(1/142)

فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًا بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام. وقد أكرمت رسولك"، وقد بعث إليه بجاريتين هما مارية وسيرين. وقد عرفت الأولى باسم مارية القبطية التي تزوجها النبي وولدت له إبراهيم. أما سيرين فقد تزوجها حسان بن ثابت.

ولا شك أن التمحيص التاريخي لكتاب المقوقس يقرب صحته لسببين على الأقل:

أحدهما: إن إرسال مارية إلى النبي باعتبارها ردًا كريمًا على كتابه إلى المقوقس ثم زواج النبي منها، وولادتها إبراهيم، ثم موته طفلًا وحزن النبي عليه وحديثه الشهير في رثائه ثم مقالة بعض المسلمين حين وافق موت إبراهيم كسوف الشمس فحسبوا ذلك معجزة وما كان من رد النبي عليهم حين قال قولته الخالدة: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته" كل ذلك حقائق تاريخية مسلم بها.

وأما الثاني: فهو قول المؤرخين المسلمين بأن المقوقس لم يسلم على الرغم من رده المهذب، فإن هذا يعني تحريهم الدقة فيما كتبوه، وكان بوسعهم إدعاء خلاف ذلك بعد أن انتشر الإسلام وساد.

بعد ذلك نقول: إن قول المقوقس في رسالته: "قد علمت أن نبيًا بقي" فهو يتفق وما في الأناجيل حتى اليوم. وأما قوله: "وكنت أظن أنه يخرج بالشام". فإنه يعني بوضوح أن توقع خروجه من الشام أو فلسطين مثلًا لا يعدو كونه مسألة ظنية، بدليل قوله: "كنت أظن"، وهو قد توقع خروجه بالشام لأن الشائع أن أنبياء كثيرين ظهروا في تلك البقعة من الأرض، فمن المتوقع -قياسًا على ذلك- أن يظهر النبي المرتقب فيها أيضًا.

بيد أن قول المسيح الذي قذف به في وجه رؤساء الكهنة وشيوخ اليهود في لقائه الغاضب بهم: "أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره" "متى 21: 43" إن هذا القول يعني بوضوح وبساطة أن عهد خروج الأنبياء في تلك البقعة قد انتهى. لأن رسالة الله قد نزعت من تلك

(1/143)

الأمة اليهودية العاصية. ثم تفضل الله بها على أمة أخرى يشهد المسيح أنها ستكون جديرة بها.

2- "الملكوت" المقترب:

عندما ظهر يوحنا المعمدان كنبي "كان لباسه من وبر الإبل وعلى حقويه منطقة من جلد وكان طعامه جرادًا وعسلًا بريًا.

"وكان" يكرز في برية اليهودية قائلًا: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات" "متى 3: 3-4".

ولما "سمع يسوع أن يوحنا أسلم، انصرف إلى الجليل وترك الناصرة.

من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات" "متى 4: 12-17".

"وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب" "متى 4: 23".

"ثم دعا "المسيح" تلاميذه الانثى عشر.. هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلًا: إلى طريق أمم لا تمضوا. إلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة.

وفيما أنتم ذاهبون أكرزوا قالين: إنه قد اقترب ملكوت السموات.

اشفوا مرضى، طهورا برصًا ... مجانًا أخذتم مجانًا أعطوا" "متى 10: 1-8".

ولقد علم المسيح تلاميذه أن يدعوا في صلاتهم بأن يأتي ملكوت السموات "وإذ كان يصلي في موضع، لما فرغ قال واحد من تلاميذه: علمنا أن نصلي كما علم يوحنا "المعمدان" أيضًا تلاميذه.

فقال لهم: متى صليتم فقولوا: أبانا الذي في السموات. ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك. اغفر لنا خطايانا ... ولا تدخلنا في تجربة" "لوقا 11: 1-4".

(1/144)

وكذلك تلك الصلاة الربانية هي تعليم المسيح في موعظة الجبل الشهيرة. "متى 6: 9-13".

مما سبق نتبين بوضوح أن: يوحنا المعمدان والمسيح، وتلاميذه جاءوا يبشرون باقتراب ملكوت السموات. ومن البدهي -إذن- أن هذا الملكوت شيء يأتي بعد المسيح.

ولقد رأينا أن المسيح تنبأ للإسرائيليين بانتزاع الملكوت منهم. فقال لهم: "إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره".

ومن ثم نتبين أن ملكوت الله الذي كان في بني إسرائيل ثم نزع منهم لم يكن سوى النبوة وما يرتبط بها من وحي ورسالة وكتب سماوية.

وأن المسيح حين تنبأ بنزعه منهم فإنه تنبأ كذلك بإعطائه لأمة أخرى تكون أفضل من تلك الأمة الإسرائيلية التي وصفت منذ عهدها المبكر في توراة موسى بأنها: "أمة عديمة الرأي ولا بصيرة فيهم" "تثنية 32: 28".

وعندما جاء يوحنا المعمدان يمهد للمسيح كان قوله للإسرائيليين: "يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا، لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" "متى 3: 7-9".

3- الرسول "روح الحق":

يذكر إنجيل يوحنا نبوءة للمسيح عن الرسول العظيم الآتي بعده تقول في شأنه الترجمة العربية باسم نسخة البروتستانت ما نورده في فقرات كالتالي:

"أ" "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن

(1/145)

يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم" "14: 15-17".

"ب" "الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني. بهذا كلمتكم وأنا عندكم. وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم" "14: 24-26".

"ج" "ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضًا لأنكم معي من الابتداء" "15: 26-27".

"د" "أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم.

ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة. أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي. وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضًا. وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين" "16: 7-11".

"هـ" "إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن.

وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل بكل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية" "16: 12-13".

قبل الشروع في دراسة هذه النبوة نلاحظ بادئ ذي بدء أن التراجم المتداولة قد اتفقت على الاسم الثاني لذلك الرسول الآتي بعد المسيح، فكان:

- في العربية: روح الحق.

- وفي الإنجليزية: the spirit of truth

- وفي الفرنسية: l'esprit de la verite

(1/146)

لكن تلك التراجم اختلفت في اسمه الأول، فكان:

- في العربية: المعزي "نسخة البروتستانت، والكتاب المقدس للكاثوليك. منشورات دار الشرق".

وأيضًا: المؤيد "العهد الجديد. منشورات دار المشرق".

- وفي الإنجليزية:

king james version "المعزي" the comtorter

revised standard version "المحامي. الناصح"the counsellor

وفي الفرنسية

"l. segond" "المعزى" le consolateur

"t. o. b. et b. de jerus" "الباراقليط: كلمة يونانية" le paraciet

ولما كانت نبوءة المسيح قد ذكرت أنه سيكون رسول يرسله الله الذي أرسل المسيح "الفقرتان: أ، ب"، كان من المنطق الذي لا يحتمل الجدل أن تكون تسميته المبدئية هي: الرسول روح الحق، وذلك إلى أن يتم التعرف على حقيقة اسمه الأول الذي اختلفوا فيه.

إن فهم هذه النبوءة وصدق تأويلها تحكمه مجموعة من الحقائق التي نعرضها فيما يلي:

1- روح الحق إنسان:

ولقد بين يوحنا التلميذ أن روح الحق يطلق على الإنسان الصادق في القول والعقيدة فقال: "أيها الأحباء، لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله ...

(1/147)

نحن من الله فمن يعرف الله يسمع لنا، ومن ليس من الله لا يسمع لنا.

من هذا نعرف: روح الحق؛ وروح الضلال "رسالة يوحنا الأولى -4: 1-6".

من ذلك يتبين أن اللغة الشاعرية التي كتب بها يوحنا التلميذ إنجيله ورسائله، تعني أن: روح الحق هو إنسان صادق، هو من الله، وأن روح الضلال هو إنسان كاذب ليس من الله في شيء.

ولقد أكدت ذلك حاشية كتاب أورشليم الفرنسي "المقدس" فأشارت إلى أن "روح الحق" الذي تكلم عنه يوحنا في رسالته الأولى هنا "4: 6" هو ما سبق أن ذكره في إنجيله "14: 17".

2- روح الحق غير الروح القدس:

لقد ذكرت نبوءة المسيح اسم:"روح الحق" ثلاث مرات وذلك في الفقرات 3: 1، جـ، هـ "14: 17، 15: 26، 16: 13"، بينما استبدل كاتب إنجيل يوحنا هذا الاسم بـ "الروح القدس" مرة واحدة فقط وذلك في الفقرة 3: ب "14: 26".

لقد عالج الدكتور موريس بوكاي هذه المشكلة في كتابه المعروف باسم الكتاب "المقدس" والقرآن والعلم1، إذ بينت المقارنة مع مخطوطة سريانية شهيرة اكتشفت بدير سيناء عام 1812، أن النص الوارد في 14: 26 يخلو من كلمة "القدس" أي أنه يتحدث عن "الروح" فقط، وليس "الروح القدس" وهو ما يعني أن كلمة "القدس" قد أضيفت بفعل أحد النساخ.

__________

1 la bible, le coran et la science، وقد نشرته دار المعارف بالقاهرة تحت عنوان "القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم".

(1/148)

يقول موريس بوكاي: "إن أي نقد جاء للنصوص يبدأ بالبحث عن الاختلافات النصية. ويظهر هنا أن ليس في مجموع المخطوطات المعروفة لإنجيل يوحنا نص آخر مختلف من شأنه أن يغير المعنى سوى تلك الفقرة 14: 26 من المخطوطة السريانية الشهيرة المسماة "Palimseste". والفقرة لا تشير هنا إلى الروح القدس وإنما إلى الروح فقط1.. فيما عدا هذه الملاحظة وبعض الاختلافات النحوية التي لا تغير شيئًا من المعنى العام للنص.

وما يهم هو أن المعروض هنا فيما يتعلق بالمعنى الدقيق للفعلين: "يسمع"، و"يتكلم". يجب أن يسري على كل مخطوطات إنجيل يوحنا, وهذا هو واقع الحال، إن فعل "يسمع entendre" في الترجمة الفرنسية هو فعل "akouo" باليونانية، ويعني استقبال أصوات. وقد أعطى الفعل اليوناني، على سبيل المثال، كلمة "acoustique" بالفرنسية، و"acoustics" بالإنجليزية، وتعني علم الأصوات.

وإن فعل "يتكلم parler" في الترجمة الفرنسية فهو فعل "Laleo" باليونانية، ومعناه العام إصدار أصوات وخاصة صوت الكلام. ويتكرر هذا الفعل كثيرًا في النص اليوناني للأناجيل وذلك عند الإشارة إلى تصريح خطير للمسيح في أثناء تبشيره. ويصبح من الواضح إذن أن المقصود بالاتصال بالناس هنا لا يكمن مطلقًا في إلهام من عمل الروح القدس، إنما هو اتصال ذو طابع مادي واضح، وذلك بسبب مفهوم إصدار الأصوات المرتبط بالكلمة اليونانية التي تعرفه. إن الفعلين اليونانين "akouo و"Laleo" يعنيان فعلين ماديين لا يمكن أن يخصا إلا كائنا يتمتع بجهاز للسمع وآخر للكلام، وبالتالي فمن

__________

1 الترجمة العربية بها خطأ فادح فقد قلبت المعنى رأسا على عقب إذ تقول: "والفقرة لا تشير إلى روح فقط وإنما إلى الروح القدس" ص127، بينما النص الفرنسي يقول:

lci, on ne mentionne pas l, esprit saint, mais l, esprit tout court" p. 108.

كذلك تقول ترجمتها الإنجليزية: here, it is not the holy spirit that is mentioned, but quite simply the spirit". p. 114.

ولقد بينت هذا الخطأ في مقال نشر بصحيفة "الشرق الأوسط" بتاريخ 21/ 9/ 1988.

(1/149)

المستحيل تطبيق هذين الفعلين على الروح القدس.. ولكن إذا حذفنا كلمتي "الروح القدس to pneuma to agion" من هذه الجملة فإن نص يوحنا كله يعبر عن معنى غاية في الوضوح ... إن ذلك يقودنا بمنتهى المنطق أن نرى في الباراقليط "paraclet" الذي ذكره يوحنا كائنًا بشريًا مثل المسيح يتمتع بحاستي السمع والكلام، وهما الحاستان اللتان يتضمنهما النص اليوناني ليوحنا بشكل قاطع.

إن وجود كلمتي "الروح القدس" في النص الذي بين أيدينا اليوم يمكن إرجاعه بسهولة إلى إضافة ألحقت عمدًا فيما بعد، وقصد بها تغيير المعنى الأصلي لفقرة تتناقض بإعلانها مجيء نبي بعد المسيح مع تعاليم الكنائس المسيحية الوليدة التي أرادت أن يكون المسيح هو خاتم الأنبياء"1.

مما سبق يتبين ضرورة إسقاط كلمتي "الروح القدس" التي حرفها قلم الكاتب في 14: 26، واعتبارهما: "روح الحق" التي ذكرت في تلك النبوءة ثلاث مرات متتاليات.

ويحضرنا في هذا المقام ما يقوله الوحي إلى النبي إرميا في هؤلاء المحرفين: "كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا. حقًا إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب" "إرميا 8: 8".

3- مجيء الروح القدس غير مرتبط برحيل المسيح:

تقول الفقرة "3: د": من النبوءة، على لسان المسيح: "أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي" "16: 7" إنها تقرب هنا شيئًا هامًا وهو أن المسيح وذلك الرسول المعزي لا يجتمعان في الدنيا معًا، مما يؤكد مرة أخرى أن المعزي لا يمكن أن يكون الروح القدس الذي أيد المسيح طيلة حياته.

__________

1 القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ص127-129 مع تصحيح الترجمة.

(1/150)

فمن المعلوم أن الروح القدس ظل يعمل منذ خلق الله العالم وإلى أن جاء المسيح وإلى ما بعد المسيح وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإذا ركزنا على نشاط القدس في جيل المسيح مع ذكر شيء يسير مما قبله لوجدنا الآتي:

"أ" كان الروح القدس مع داود:

"لأن داود نفسه قال: بالروح القدس قال الرب لربى ... ". "متى 12: 36".

"ب" بارك الروح القدس كلا من زكريا وامرأته اليصابات، وأوحى إلى زكريا وإي سمعان التقي: "امتلأ زكريا أبوه من الروح القدس وتنبأ قائلًا: مبارك الرب إله إسرائيل.. وامتلأت اليصابات من الروح القدس.

وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان، وهذا الرجل كان بارًا تقيًا.. والروح القدس كان عليه وكان قد أوحى إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب" "لوقا 1: 67، 40، 2: 25-26".

"جـ" بارك الروح القدس يحيى وهو في بطن أمه:

"قال له الملاك: لا تخف يا زكريا.. ستلد لك ابنًا وتسميه يوحنا.. ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس" "لوقا 1: 13-15".

"د" كان الروح القدس هو المسئول عن حمل مريم بابنها المسيح:

"لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس" "1: 18".

"هـ" ولقد نزل الروح القدس على المسيح واستمر معه بعد أن عمده يوحنا في ماء الأردن:

"ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضًا، وإذ كان يصلي انفتخت السماء ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة": "لوقا 3: 21-22".

(1/151)

وقال يوحنا المعمدان: "الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلًا ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس" "يوحنا 1: 33".

"في تلك الأيام جاء يسوع.. واعتمد من يوحنا.. وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلًا عليه" "مرقس 1: 9-10".

"إذ السموات قد انفتحت فرأى روح الله نازلًا مثل حمامة وآتيا عليه "متى 3: 16".

"فالروح القدس -روح الله- استقر على المسيح، إذ أيده الله به، استمر يعمل معه طيلة رسالته.

"و" وكان الروح القدس مؤيدًا للمسيح في دعوته ومعجزاته:

"أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس.

ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل.. وكان يعلم في مجامعهم" "لوقا 4: 1، 14-15".

"أما الفريسيون فلما سمعوا قالوا: هذا لا يخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين، فعلم يسوع أفكارهم وقال لهم.. إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله "متى 2: 24-28".

وكما بارك الروح القدس زكريا واليصابات وابنهما يحيى وسمعان التقي فقد بارك كذلك تلاميذ2 المسيح بعد رحيله عنهم:

"ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معًا بنفس واحدة، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم.

وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدءوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا" "أعمال الرسل 2: 1-4".

(1/152)

إن الروح القدس يعمل من قبل أن يأتي المسيح ومن بعد ما جاء لكن روح الحق -الذي انفرد يوحنا بالحديث عنه دون بقية الأناجيل وبين أنه إنسان مؤمن بالله يصدق الحديث- شيء آخر، له عمل ورسالة يخاطب بها العالم لا تبدأ إلا بعد رحيل المسيح.

هذا ... ومن المعلوم أن إنجيل يوحنا يعتبر آخر الأناجيل كتابة بعد رفع المسيح، فقد كتب ما بين عام 100-125م وأنه لم يتقيد بالتسلسل التاريخي للأحداث فاختلف لذلك كثيرًا مع الأناجيل الأخرى. ويعتذر بعض العلماء عن ذلك بشيخوخة يوحنا الذي كتب إنجيله ورسائله أو أملاها حسبما أسعفته ذاكرته.

كذلك عرف عن يوحنا لغته الشاعرية التي تكلمت كثيرًا عن الحب والمحبة وخلطت الخالق بالمخلوق، ولكنه لم يعرف تلك المحبة عندما تكلم عن اليهود الذين ذكر اسمهم في إنجيله أكثر من عشر مرات عن نظيره في أي إنجيل آخر. ويتضح ذلك مما يلي:

- جعل التلاميذ من غير هذا العالم وكذلك المسيح، فقال على لسانه:

"ليسوا من العالم كما أني لست من العالم" "17: 14".

- جعل التلاميذ والمسيح والله شيئًا واحدًا فقال على لسان المسيح:

"ليكون الجميع واحدًا كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا" "17: 21".

4- الله وحده هو مرسل المرسلين وليس المسيح:

تقول الفقرة "3: أ" إن المسيح سيطلب من الله أن يرسل لمن سيرحل عنهم رسولًا آخر، وذلك في قوله: "أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر" "14: 16". وفي ترجمة أخرى دقيقة فإن هذه الفقرة تقرأ هكذا: "أتوسل إلى الآب ... ".

(1/153)

ثم تطور ذلك في الفقرة "3: ب" إلى القول: "سيرسله الآب باسمي" "14: 26".

ثم تطور مرة أخرى ليكون في الفقرة "3: جـ": "الذي سأرسله أنا إليكم من الآب" "15: 26"، وفي الفقرة "3: د": "إن ذهبت أرسله إليكم" "16: 7". لكن الحق الذي لا مرية فيه هو أن الله وحده هو مرسل المرسلين وليس المسيح. إن هذا هو ما أعلنه المسيح على رءوس الأشهاد وبينه قولًا وفعلًا من أنه ليس له من الأمر شيء، وأن الأمر كله لله، فقال: "تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني. إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي. من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه. وأما من يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم" "يوحنا 7: 16-18"، "إني لم آت من نفسي، بل ذاك أرسلني" "يوحنا 8: 42".

"الآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي.. أنا قد أتيت باسم "الله" ولستم تقبلونني" "يوحنا 5: 37، 43".

"إني لم أتكلم من نفسي، لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم. وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية.

فما أتكلم به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم" "يوحنا 12: 49".

"أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا.. إني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني" "يوحنا 5: 30".

"ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة" "مرقس 6: 4-5".

وكما عجز عن الفعل واعترف بذلك، فقد عجز عن الإخبار بالغيب واعترف بذلك أيضًا. فحين سأله تلاميذه عن "انقضاء الدهر" ويوم القيامة، قال لهم:"أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء ولا "أنا" إلا الآب" "مرقس 13: 32".

(1/154)

واعترف المسيح أنه لا يملك من أمر الآخرة شيئًا. فحين "تقدم إليه يعقوب ويوحنا ابنى زبدى قائلين: يا معلم، نريد أن تفعل لنا كل ما طلبنا. فقال لهما: ماذا تريدان أن أفعل لكما؟. فقالا له: أعطنا أن نجلس واحد عن يمينك والآخر عن يسارك في مجدك. فقال لهما يسوع: لستما تعلمان ما تطلبان.. الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا للذين أعد لهم" "مرقس 10: 35-40".

من الواضح إذن أن المسيح لا يملك من الأمر شيئًا، وأنه لم يأت من نفسه بل الله -مالك الملك ومن له الأمر والخلق- هو الذي أرسله. وهو الذي يحكم بين عباده يوم القيامة ويحدد مصائرهم. ومن ثم يتبين أن كل حديث عن إرسال المسيح "لروح الحق" بعد رحيله عن الدنيا، إنما هو زعم باطل وافتراء على الحق.

5- روح الحق "ما ينطق عن الهوى":

"لأنه لا يتكلم من نفسه، بل بكل ما يسمع يتكلم به" "يوحنا 16: 13".

6- روح الحق يعلم الناس الدين الكامل:

"فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم.... وهو يرشدكم إلى جميع الحق" "يوحنا 14: 26، 16: 13".

7- ما جاء به روح الحق باق إلى الأبد:

إن لغة الكتاب "المقدس" تعتبر الحديث عن الأنبياء مكافئًا صحيحا للحديث عن الكتب التي جاء بها هؤلاء الأنبياء.. ومن أمثلة ذلك كما ذكره لوقا في قصة الغني الذي استمتع بالدنيا وكانت عاقبته الجحيم، ولعازر الفقير الذي كانت عاقبته النعيم في حضن إبراهيم. فحين طلب ذلك الغني المعذب إلى أبينا إبراهيم أن يرسل لعازر من الأموات لينذر أهل بيته، "حتى يشهد لهم لكيلا

(1/155)

يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هذا. قال له إبراهيم: عندهم موسى والأنبياء ليسعموا منهم.

فقال: لا يا أبي إبراهيم. بل إذا مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون.

فقال له: إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء، ولا إن قام واحد من الأموات يصدقون" "لوقا 16: 28-31".

لقد مات موسى والأنبياء وتركوا كتبًا هي التي أشار إليها أبونا إبراهيم، وبين أن الحديث عنها هو بمثابة الحديث عنهم. وكان ذلك ما أكده لوقا مرة أخرى في قوله: "ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب" "لوقا 24: 27".

فعلى ضوء ذلك يفهم معنى قول المسيح فيما يجيء به الرسول الآتي بعده حين أعلن لتلاميذه أنه: "يمكث معكم إلى الأبد" "يوحنا 14: 16". أن تلاميذ المسيح الذي قال لهم هذا الكلام لم يمكثوا إلى الأبد، لكنهم ماتوا أو قتلوا -جميعًا- منذ تسعة عشر قرنًا. فهذا القول لا يصمد للتأويل حرفيًا ولكنه يعني أن ما يأتي به "روح الحق" "إلى الأجيال المتلاحقة سيبقى إلى يوم الدين.

وخلاصة القول: إن دراسة هذه النبوءة على ضوء ما جاء في الكتاب "المقدس" وما نسبته الأناجيل للمسيح من أقوال يقطع بأن الرسول "روح الحق" الآتي بعد المسيح إنما هو: إنسان، وأنه غير روح القدس الذي لا يرتبط مجيئه برحيل المسيح، وأن الله وحده هو مرسل المرسلين وليس المسيح، وأن هذا الرسول "ما ينطق عن الهوى"، وأنه يعلم الناس الدين الكامل، وأن ما جاء به وحيًا من الله باق أبد الدهر.

(1/156)

إن هذا يقود إلى التسليم بأن هذه النبوءة تنطبق جملة وتفصيلًا على محمد بن عبد الله، رسول الله إلى الناس جميعًا. الذي أكمل الله به الدين وختم به النبوة، فقال وقوله الحق: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] .

وتكفل الله بحفظ كتابه -القرآن العظيم- فقال في شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .

اسم الرسول الآتي بعد المسيح:

ذكرنا سلفًا أن التراجم المتداولة لإنجيل يوحنا اتفقت على اسمه الثاني وهو: "روح الحق"، بينما اختلفت في اسمه الأول لاختلاف فهمهم لمعنى كلمة يونانية قد يسمعها شخص غير مدقق فيكتبها: باراقليط "Paraclet"، مما اضطر التراجم الفرنسية الحديثة أن تنقلها صوتيًا على هذه الصورة.

ونريد الآن أن نتعرف على حقيقة هذا الاسم الأول الذي اختلفوا فيه.

في دراسة دينية ولغوية رصينة قام بها عالم اللاهوت المسيحي "سابقًا" ديفيد بنجامين كلداني، وجاءت ضمن دراسات وبحوث أخرى نشرها في كتابه: "محمد في الكتاب المقدس"1 بعد أن اهتدى إلى الإسلام وتسمى "عبد الأحد داود" -نجد فصلًا عن البارقليط، يقول فيه: "أما الإنجيل الرابع فهو مثل أي كتاب أو سفر آخر في العهد الجديد، فقد كتب باليونانية وليس بالآرامية التي كانت اللغة الوطنية لعيسى وتلاميذه.

وبالتالي فإنه تواجهنا مرة أخرى نفس الصعوبة التي لقيناها عندما كنا نبحث في "يودوكيا" الخاصة بما لوقا، وهذه الصعوبة تتلخص في السؤال: ما هي الكلمة أو الاسم الذي استعمله يسوع في لغته الأصلية والتي نقلها الإنجيل

__________

1 ترجمة فهمي شتا -دار الضيافة للنشر والتوزيع- الأردن/ عمان 1985.

(1/157)

الرابع بلفظ: "البرقليط" أو "الفرقليط" ثم ترجمت إلى المعزي في جميع نسخ ذلك الإنجيل؟ ...

إن الفرقليط لا تعني المعزي أو المحامي، في الواقع، وهي ليست كلمة كلاسيكية بالمرة، والتهجئة للكلمة هي "paraklytos" ومعناها في الأدبيات اليونانية: شخص يدعى للمساعدة، محام، وسيط، ولا حاجة لأن يدعي المرء أنه عالم يوناني ليعرف أن الكلمة اليونانية التي ترادف المعزي ليست: باراكليتوس "paraclytos" بل باراكلون "paracalon، وثمة كلمة يونانية أخرى مرادفة لكمة معزي وهي: باريجوريتس (parygorytys) بمعنى: أنا أعزي. أما بالنسبة للمعنى الآخر لكلمة: وسيط أو محامي -الذي يتضمنه الكلمة الكنسية، بارقليط "paraclet" فإنني أصر ثانية على أن: باراكالون "PARACALON" وليس: باراكليتوس "PARACLYTOS، وهي الكلمة التي تعطي معنى مشابهًا، واللفظة اليونانية المرادفة لكلمة: محامي "Advocate، هي "Sanegorus" ولكلمة: وسيط أو شفيع، هي: "Meditea" ...

إن الاعتقاد بأن موت عيسى على الصليب "حسب زعم النصارى" قد فدى المؤمنين من لعنة الخطيئة الأصلية، وأن روحه وبركته وحضوره في القربان المقدس سيبقى معهم إلى الأبد، هذا الاعتقاد تركهم دون حاجة إلى عزاء أو إلى مجيء معز.

ومن ناحية أخرى فإنهم إذا كانوا بحاجة إلى معز كهذا فإن جميع الادعاءات والمزاعم النصرانية حول تضحية المسيح وتحمله آلام الصلب تتهافت وتصبح باطلة.

والواقع أن لغة الأناجيل والرسائل تدل بوضوح على أن العود الثاني لعيسى فوق السحاب كان وشيكًا1، "متى 16: 28، مرقس 9: 1 لوقا 9: 27، تسالونيكي الأولى 4: 15-17" ...

__________

1 تؤكد الأناجيل ورسائل التلاميذ وبولس أن المسيح تنبأ بعودته سريعًا إلى الأرض بعد أن ينهدم النظام الكوني "والنجوم تسقط من السماء وقوات السماء تتزعزع" وأن ذلك سوف يحدث قبل أن يموت الجيل الذي عاصره "24: 3، 29: 34"، ومن ثم فليسوا في حاجة إلى معز.

إنهم في حاجة إلى رسول يعلمهم الحق بعد أن أثبت الواقع استحالة تحقيق تلك النبوءة التي ألحقت ظلمًا بالمسيح.

(1/158)

إن البرقليطوس المذكور في إنجيل القديس يوحنا لا يعني ولا يمكن أن يعني: المعزي أو المحامي، وإن الكلمة صورة مشوهة من كلمة أخرى هي: بيرقليطوس "periqlytos".

إن كلمة: بيرقليطوس، تعني من الناحية اللغوية البحتة: الأمجد، والأشهر، والمستحق للمديح، وإنني أتناول مرجعًا هو قاموس إسكندر، الإغريقي الفرنسي، حيث يفسر كلمة "periqleitos" فيقول:

qu' on peut entendre de tous les cotes: qu'il

est tacile a entendre. tres celebre: =periqleitos.

tres celebre, illustre, glorieux: = periqleyos.

tres celebre, illustre, glorieux, = kleos, glorire.

renommee, celebrite'.

هذا الاسم المركب مكون من: المقطع الأول "Peri"، والمقطع الأخير "Kleotis" وهذا يشتق من التمجيد أو الثناء والاسم الذي أكتبه بالحروف الإنجليزية، وهو: "Periqletos أو "Periqlytos، يعني بالضبط ما يعنيه اسم أحمد باللغة العربية.

إن التنزيل القرآني القائل بأن عيسى بن مريم أعلن لبني إسرائيل أنه كان {مُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 1 واحد من أقوى البراهين على أن محمدًا كان نبيًا وأن القرآن تنزيل إلهي فعلًا، إذ لم يكن في وسعه أبدًا أن يعرف أن كلمة البرقليط كانت تعني "أحمد" إلا من خلال الوحي والتنزيل الإلهي، وحجة القرآن قاطعة ونهائية لأن الدلالة الحرفية للاسم اليوناني تعادل بالدقة ودون شك كلمتي: أحمد، ومحمد.. ومن العلامات الرئيسية للبرقليط: روح الحق، عندما يأتي أنه سوف يبكت العالم على الخطية "يوحنا 16: 8" ولا يوجد عبد آخر من عباد الله، سواء أكان ملكًا مثل

__________

1 الصف: 6.

(1/159)

داود وسيلمان، أو نبيًا مثل إبراهيم وموسى، بلغ بهذا التبكيت إلى مداه بتصميم وحماس وشجاعة، كما فعل محمد. فكل خرق للشريعة أو القانون إثم وخطيئة، ولكن الوثنية هي أم الخطايا وأصلها1. فنحن نأثم في حق الله إذا أحببنا شيئًا أكثر من حبنا إياه، ولكن عبادة أي شخص أو كائن آخر إلى جانب الله، تعتبر كفرًا. إن جميع العالمين لله قاموا بإنزال العقوبة على مرتكبي الخطايا من جيرانهم وشعويهم، ولكن لم يفعلوا ذلك على نطاق العالم كله كما فعل محمد، إذ لم يقتصر عمله فقط على اقتلاع الوثنية من شبه الجزيرة العربية أثناء حياته، بل قام بإرسال مبعوثين إلى كسرى أبرويز وهرقل، وهما حاكمان لأعظم إمبراطوريتين "فارس وروما"، وإلى ملك أثيوبيا، وحاكم مصر، والعديد من الملوك والأمراء الآخرين، يدعوهم إلى اعتناق دين الإسلام ونبذ الكفر والعقائد الباطلة.

وبدأ هذا التبكيت من محمد بتبليغ كلمة الله كما تلقاها، أي بترتيل آيات من القرآن، ثم بالوعظ والتعليم وممارسة الدين الحقيقي، ولكن عندما عارضته قوى الظلام والكفر بالسلاح، استل سيفه وعاقب العدو الكافر. وكان ذلك تنفيذًا لأمر الله "سفر دانيال: 7". وقد منح الله لمحمد القوة، والسلطان لتأسيس مملكة الله "الملكوت الموعود"، وليصبح أول أمير وقائد عام لها، تحت سلطة ملك الملوك ورب الأرباب "الله" ...

والعلامة الأخيرة، وليست أقل العلامات قيمة للبرقليط هي أنه: "لا يتكلم من نفسه، بل بكل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية" "يوحنا 16: 13".

ولا يوجد شيء أو كلمة أو تعليق من محمد وأصحابه الطاهرين ضمن نصوص القرآن الكريم. فكل محتوياته من كلام الله المنزل، إذ كان محمد ينطق بكلمة الله كما سمعها من جبريل. وكانت تدون على يد كتبة الوحي الأمناء، وكلمات الرسول وأقواله وتعاليمه على قداستها ورفعة قدرها ليست من كلام الله، ولذلك فهي تدعى بالأحاديث.

__________

1 {إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116] .

(1/160)

إذن، أليس هو الفراقليط الحقيقي، حتى بهذا الوصف؟ وهل باستطاعتكم أن تبينوا شخصًا آخر إلى جانب أحمد، لديه كل هذه الصفات المادية والعملية، وتلك العلامات والمميزات التي للفرقليط؟ إنكم لا تستطيعون ... 1.

ذلك بعض ما جاء في دراسة هذا العالم، والقس السابق، دافيد بنجامين الكلداني، وانتهت به إلى قبول الإسلام دينا حقًا، وقائمًا على العلم والبرهان.

ولقد كان تعليقه على نبوءة المسيح التي ذكرها كاتب إنجيل يوحنا بعد ما لحق بها من تحريف، أن صيغتها الحالية التي تقول على لسان المسيح: "أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد" "14: 16"، أنها تحتاج إلى تصحيح.

فهو يقول: "إذا أردنها أن نجد المعنى الحقيقثي لهذا الكلمات المسروقة أو المحرفة على الصورة التالية:

"سوف أذهب إلى الآب. وسيرسل لكم رسولًا سيكون اسمه البرقليطوس "أحمد" لكي يبقى معكم إلى الأبد." وبالكلمات التي أضيفت والتي تحتها خط، يعود تواضع عيسى الذي سلب منه"2.

ولقد سبق أن برهنا على أن الحديث عن النبي يمكن أن يعني الحديث عن كتاب الله الذي جاء به إلى الناس.

بقيت إضافة لا بد منها، نعرضها باختصار فيما يلي:

"أ" صدق تنبؤات الرسول:

نطق محمد رسول الله بالقرآن كلام الله، وكان مما جاء فيها تنبؤات عن أحداث المستقبل، سواء ما تعلق بالرسالة والرسول، أو بأحداث تخص القوى الكبرى في العالم آنذاك.

__________

1 محمد في الكتاب المقدس: عبد الأحد داود ص202-229.

2 المرجع السابق ص219.

(1/161)

فلقد تنبأ القرآن بحفظ شخص الرسول من مؤامرات الناس، فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] .

- وتنبأ القر آن بانتصار الإسلام ونبيه، فنزلت آياته والمسلمون آنذاك يعانون الضعف والتعذيب والاضطهاد -تقول: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 44-45] .

- وتنبأ القرآن بانتصار الروم على الفرس رغم ما نزل بهم آنذاك من هزائم منكرة، إذ احتلت جيوش فارس: الشام ومصر وبلاد الأناضول، وتقدمت شمالًا حتى بلغت البوسفور.

وفي تلك الأثناء نزلت آيات القرآن لتعلن للناس كافة انتصار الروم "في بضع سنين"، ولتبقى إلى الآن تتلى صباح مساء، وتعرف باسم سورة الروم التي تستفح بقول الله: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 1-6] .

إن هذا يكفي لللتأكيد على أن الرسول الآتي بعد المسيح هو روح الحق، محمد الذي نزل عليه القرآن ليخبر حقًا وصدقًا بالغيب، والذي قال في شأنه المسيح: "ويخبركم بأمور آتية" "16: 13".

"ب" تحريفات كتبة الأسفار وأخطاؤهم:

لقد بينا في دراسة سابقة ما انتهى إليه علماء الكتاب "المقدس" من تعرض نصوصه للتحريف والتبديل سواء عن قصد من كتبتها، أو خطأ منهم بسبب سوء الاستنساخ نتيجة لضعف السمع أو البصر أو كليهما.. إلخ1.

ولقد بينت هذه الدراسة أن صفة "المعزي" لا تتفق وواقع الحال بعد المسيح.

__________

1 راجع كتاب: اختلافات في تراجم الكتاب المقدس.

(1/162)

وإن الغموض الذي لحق بمعناها في اليونانية إنما يرجع إلى تشابه النطق الصوتي لكلملتين يونانيتين نكتبهما كالآتي:

سكنر.

بالعربية: بيريقليطوس.

المعنى: رجل الحمد. أحمد.

باراقليطوس.

محام. معز "حسب الترجمة الشائعة".

لقد تعرضت أسفار الكتاب "المقدس" كثيرًا لهذا النوع من الأخطاء، وتعطينا "دائرة المعارف الأمريكية" أمثلة ملموسة لذلك تتطلب إعادة تصحيح بعض العبارات التي لا يزال الناس يقرءونها إلى اليوم في التراجم المتداولة دون أن يدركوا لها معنى، لأنها لا يمكن أن تعطي معنى مقبولًا على الصورة التي لا تزال عليها حتى الآن. وفي هذا تقول:

"وثمة نوع آخر من الأخطاء نجده في المزمور 49: 11 فالجزء الأول من الفقرة العبرية يمكن ترجمته إلى الإنجليزية كالآتي:

their inwardness "qirban" is their homes forever, their dwelling places to all generations.

واضح أن هذا الكلام لا معنى له، وقد ترجم في نسخة الملك جيمس بتصرف بعد إضافة الكلمات التي تحتها خط كالآتي:

their in ward thought is that their houses shall continue forever, and their dwelling places to all generations

وهذه الكلمات المائلة غير موجودة في النص العبري على الإطلاق".

وفي الترجمة العربية لنسخة البروتستانت تقرأ هذه الفقرة كالآتي:

"باطنهم أن بيوتهم إلى الأبد مساكنهم إلى دور فدور" "المزمور 49".

(1/163)

وتستطرد دائرة المعارف الأمريكية فتقول: "لكننا إذا رجعنا إلى النسخة السبعينية والنسخة السوريانية والنسخة الأرامية. لوجدنا أن هذه الفقرة يمكن ترجمتها إلى الإنجليزية كالآتي:

their graves "qibram" are their homes forever, their dwelling places to all generations.

وواضح أن الخطأ النسخي نشأ عن تبادل الحرفين b&r كل مكان الآخر، حيث تحولت الكلمة التي كتبت أصلًا "qibam" إلى كلمة "qibam"1.

ويمكن ترجمة الفقرة الإنجليزية المذكور آنفا إلى العربية كالآتي:

"قبورهم هي بيوتهم ومساكنهم إلى دور فدور". ولا شك أن هذا يعطي معنى مفهوم غير الذي تعطيه الفقرة 11 من المزمور 49.

"ولقد أكد اكتشاف وثائق البحر الميت "عام 1947" ضرورة إدخال بعض التغييرات على النسخة العبرية الحديثة كما في سفر أشعياء 49: 24 حيث تستبدل كلمة "البار" المذكورة بها إلى كلمة "الجبار" التي تتفق عليها النسخ السبعينية والسوريانية واللاتينية "وهي تقرأ في الترجمة العربية لنسخة البروتستانت هكذا:

"هل تسلب من الجبار غنيمة وهل يفلت سبي المنصور".

ويرجح أن يكون خطأ الكاتب في النسخة العبرية الحديثة بسبب تشابه كلمتي البار والجبار.

كذلك يرى أغلب العلماء ضرورة تهذيب فقرة من سفر عاموس 6: 12 والتي تقرأ هكذا:

"هل تركض الخيل على الصخر أو يحرث عليه بالبقر" -إذ عدم التوافق الموجود في هذه الفقرة يمكن إرجاعه إلى خطأ من الكاتب الإسرائيلي

__________

1 "الأمريكية: جـ3 ص622".

(1/164)

بسبب ضم كلمتين عبريتين كان يجب فصلهما. وعلى هذا الأساس تكون قراءة النص بعد معالجته كالآتي:

"هل تركض الخيل على الصخر أو تحرث الثيران في البحر"1.

ليس عجيبًا إذن، أن تتحول كلمة: أحمد، أو رجل الحمد، إلى: المعزي -إذا افترضنا حسن النية- بسبب سوء استنساخ الكلمة اليونانية الأصلية.

"جـ" المسيح وأسماء الناس:

تبين الأناجيل أن المسيح اعتاد أن يطلق اسمًا آخر على بعض أحبابه، يرى فيه دلالة صادقة تميز شخصية كل منهم. فلقد فعل ذلك مع بعض تلاميذه الاثنى عشر: إذ "جعل لسمعان اسم بطرس، ويعقوب ابن زبدى ويوحنا أخا يعقوب وجعل لهما اسم: بوانرجس، أي ابني الرعد" "مرقس 3: 16-17".

ومن هنا كان إطلاق المسيح اسم: أحمد -بصيغة أفعل التفضيل هذه- على محمد رسول الله، الآتي إلى الناس من بعده، متفقًا تمامًا وما عرف عنه. وهو برهان واضح، يضاف إلى البراهين الأخرى، التي تؤكد انطباق النبوة التي نطق بها المسيح في إنجيل يوحنا على محمد الرسول روح الحق، إذ تقول إنه "لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به".

لقد عرف بين الناس، قبل النبوة، باسم: محمد، وعرف بينهم بعد النبوة، باسم: محمد، وذكره القرآن بهذا الاسم أربع مرات. وعلى هذا فإن المنطق البسيط يقول إنه لو كان القرآن من عند محمد لكان أولى به أن يذكر في تبشير المسيح به -الذي ذكره القرآن- اسم: محمد، وليس اسم: أحمد.

__________

1 المرجع السابق ص622.

(1/165)

لكنه النبي الصادق الذي {مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3-5] .

ولهذا جاءت بشارة المسيح في القرآن هكذا:

{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] .

لقد كانت هذه الإضافات براهين إضافية للتأكيد على تمام انطباق نبوءة المسيح التي ذكرها إنجيل يوحنا- على محمد رسول الله.

أما بعد:

إن مسيحية اليوم التي تخلط بين الله والمسيح وتقوم على التثليث تعتبر أكبر الديانات اتباعًا فهي تمثل العالم الذي يتعرض لتبكيت شديد في القرآن الذي جاء به محمد يقول: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 88-95] .

لقد جاء القرآن لينذر: {الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 4-5] .

(1/166)

حقا، لقد بشر المسيح بنبي الإسلام فقال:

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6] .

ولقد ترجم القسيس أوسكان الأرمني سفر أشعياء إلى اللغة الأرمنية وطبعت ترجمته عام 1733 وقد جاء في الإصحاح الثاني والأربعين منه هذه الفقرة:

سبحوا الله تسبيحًا جديدًا. وأثر سلطنة على ظهره، واسمه أحمد"1.

وحين جاء نبي الإسلام كانت المسيحية قد صارت دين الإمبراطورية الرومانية، وكان المسيحيون أمما كثيرة تؤمن باسم المسيح، لكنها تختلف فيه اختلافًا كبيرًا. وصل إلى حد القتال المسلح وإراقة الدماء ورمي كل طائفة من يخالفها المعتقد بالكفر والهرطقة.

ولقد تعرض هؤلاء للتبكيت والنذير والوعيد بعد أن جاءهم فيه القول الفصل والقصص الحق:

{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] .

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ

__________

1 من كتاب "خلاصة سيف المسلمين -تأليف حيدر علي القرشي، مطبعة أنتوني بورتولي، ص63-64.

(1/167)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 59-64] .

والآن نقول: إن خلاصة بشارة العهدين -القديم والجديد- بنبي الإسلام نقرؤها واضحة في القرآن بعد أن رأينا كيف اتفقت عليها الكتب المقدسة الثلاثة وهي التوراة والإنجيل والقرآن.

يقول الحق الرحيم: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 156-158] .

ثالثًا -بشارات أسفار البراهمة:

لقد تميز الباحثون في العقائد والإلهيات من مسلمي شبه القارة الهندية، بالأصالة والعمق والدقة والصبر الجميل. ونخص بالذكر منهم رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي مؤلف الكتاب القيم "إظهار الحق" الذي يعتبر مرجع كل العصور في الحوار المسيحي الإسلامي، ثم أبو الحسن الندوي ومؤلفه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" ووحيد الدين خان مؤلف "الإسلام يتحدى" ومولانا أبو الكلام آزاد في بحثه عن "ذي القرنين" ثم مولانا عبد الحق

(1/168)

فديارتي مؤلف كتاب "محمد في الأسفار الدينية العالمية" وفي حقه يقول عباس محمود العقاد: لقد استفاد المؤلف "في مقارناته ومناقضاته بمعرفته للفارسية والهندية والعبرية والعربية وبعض اللغات الأوربية. ولم يقنع فيه بكتب التوراة والإنجيل بل عمم البحث في كتب فارس والهند وبابل القديمة وكانت له في بعض أقواله توفيقات تضارع أقوى ما ورد من نظائرها في شواهد المتدينين كافة، ولا نذكر أننا اطلعنا على شاهد أقوى منها في روايات الأقدمين أو المحدثين من أتباع الديانات الأولى أو الديانات الكتابية"1.

يقول عبد الحق: "إن اسم الرسول العربي" أحمد" مكتوب بلفظه العربي في السامافيدا من كتب البراهمة وقد ورد في الفقرة السادسة والفقرة الثانية من الجزء الثاني ونصها:

إن أحمد تلقى الشريعة من ربه وهي مملوءة بالحكمة، وقد قبس منه النور كما يقبس من الشمس" وإن وصف الكعبة المعظمة ثابت في كتاب الآثار فافيدا حيث يسميها الكتاب: بيت الملائكة.

وفي مواضع كثيرة من الكتب البرهمية يرى المؤلف أن النبي محمدًا مذكور بوصفه الذي يعني الحمد الكثير والسمعة البعيدة"2.

رابعًا- بشارات أسفار المجوسية:

يوجد في كتب زرادتشت التي اشتهرت باسم الكتب المجوسية نبوءة في كتاب زندافستا عن "رسول يوصف بأنه رحمة للعالمين "سوشيانت"، ويتصدى له عدو يسمى بالفارسية القديمة أبا لهب "إنجرامينيا"، ويدعو إلى إله واحد لم يكن له كفوًا أحد "هيج جيز باونمار" وليس

__________

1 مطلع النوع: ص12.

2 المرجع السابق ص12-13.

(1/169)

له أول ولا آخر ولا ضريع ولا قريع ولا صاحب ولا أب ولا أم ولا صاحبة ولا ولد ولا ابن ولا مسكن ولا جسد ولا شكل ولا لون ولا رائحة.

"جزآخاز وإنجام وأنباز ودشمن ومانندويار وبدر ومادر وزن وفرزند وحاى سوى وتن أسا وتناني ورنك وبوي أست"1.

رسول العالمين:

تبين دقة البناء القرآني إمكانية اختلاف معنى الكلمة الواحدة حين تختلف صورتها من النكرة إلى المعرفة فهناك فرق بين: صاعقة والصاعقة ومطر والمطر، وماء والماء2.

وعلى سبيل المثال فإن كلمة "الماء" في القرآن الكريم تعني دائمًا الماء الذي ينزل من السماء فتقوم به حياة الكائن الحي من نبات وحيوان وإنسان، وهو الماء الذي يتكون من اتحاد عنصري الإيدروجين والأوكسجين اتحادًا كيميائيًا بنسبة وزنية ثابتة.

ومن أمثلة ذلك قوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57] .

أما إذا استخدمت كلمة "ماء" فإنها قد تعني "الماء" الطبيعي كما في قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 48-49] .

__________

1 المرجع السابق ص13.

2 راجع كتاب المؤلف: العلوم الذرية الحديثة في التراث الإسلامي - ص138.

(1/170)

كما أن كلمة "ماء" قد تعني شيئًا آخر غير الماء الطبيعي كما في قوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق 5-6] .

فهذا الذي قيل إنه ماء هو جسم سائل يختلط أمره بالماء ويدخل فيه الماء كأحد مكوناته إلا أنه شيء مختلف عن الماء الطبيعي.

كذلك يكون الحال مع كلمة "الكتاب" وما يضاف إليها أو يتعلق بها.

فمن المعلوم أن القرآن الكريم قد استخدم لفظ "أهل الكتاب" ليعني اليهود والنصارى أحدهما أو كليهما.

فهو يعني اليهود في قوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72] .

وهو يعني النصارى في قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171] .

وهو يعني اليهود والنصارى في قوله: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113-114] .

إن هذا كله يعني أنه كلما جاءت كلمة "الكتاب" مضافة فإنها لا تشير بالضرورة إلى أهل الكتاب.

ولقد حدث الخطأ ووقع المحظور حين ظن بعض المفسرين ذلك في تفسير قوله تعالى في آخر سورة الرعد:

(1/171)

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] .

يقول ابن كثير في تفسيره: "قيل: نزلت في عبد الله بن سلام. قاله مجاهد، وهذا القول غريب لأن هذه الآية مكية وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة.

وكان ابن جبير ينكر أن يكون المراد بها عبد الله بن سلام ويقول: هي مكية....

والصحيح في هذا أن {وَمَنْ عِنْدَهُ} اسم جنس".

لا شك أن اعتراض ابن جبير على القول بأن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام إنما هو اعتراض منطقي لأنه قائم على البرهان.

لقج أصبح واضحًا لنا الآن أن معنى قوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} لا يقتصر فقط على "أهل الكتاب" إنما يعني كذلك من عنده علم كتب تسربت إليها نبوءات وبشارات تناقلها الناس عن أنبياء الله ورسله الكثيرين ومنهم الذين عاشوا على هذه الأرض ولم ندر من أمرهم شيئًا لأنهم ممن قال الله فيهم: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: 164] .

لذلك وجدنا بشارت النبي في أسفار البراهمة والمجوس بجانب أسفار اليهود والمسيحيين، وما ذلك إلا لأنه رسول الله إلى هذا العالم، فكان أن ارتبط به العالم على اختلاف ملله ونحله، وهتف باسمه ووصفه قبل أن يراه، وصدق فيه قول الحق: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .

(1/172)

الرسول في القرآن:

تمهيد:

رسل الله بشر ولدوا جميعًا من نساء جئن من ذرية آدم، اصطفاهم الله واختصهم برسالاته، فهم {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26-28] .

وبين "أمر الله" والعمل في خدمة رسالاته حمل المرسلون أثقالًا وتعرضوا لضغوط عالية ومواقف حرجة وقاسوا محنًا وآلاما وكانت حياتهم جهادا خالصًا في سبيل الله.

ومن المسلمات في واقع الحياة أن "الناس معادن" تختلف خواصهم كاختلاف خواص المعادن والخامات الطبيعية فمنها المتميز النادر كالذهب ومنها الرخيص الوفير كالتراب. ومنها الصلد الشديد كالحديد ومنها الطري اللعوب كالزئبق، ومنها.. ومنها ...

ومن المسلمات كذلك أن الناس مواهب يختلفون في حظوظهم منها كاختلافهم في الأشكال والألوان. فهذا له يد فنان وذاك شاعر بالسليقة وثالث ذو عقلية رياضية. وهكذا.

بعد ذلك يأتي شيء من التعليم والتهذيب -قل أو كثر- ليصقل تلك المواهب ويرتقي بها، فتثبت قدم كل ذي موهبة فيما حظي به.

وفي مجال الرسالة الإلهية لا نجد عجبًا يخالف واقع الحياة أو طبيعة الأشياء فالرسل هم أولًا وأخيرًا بشر من الناس إلا أنهم صنعوا على عين "الحق" فكانوا أهلًا لرسالات الله، و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] .

(1/173)

وترينا دراسة أحوال المرسلين -وخاصة أصحاب الرسالات الكبرى: موسى وعيسى ومحمد- أن الأمور لم تجر دائمًا وفق مشتيئتهم، فلم يكن لهم "من الأمر شيء" لأن "الأمر كله لله"، وما كانوا بين يديه -سبحانه- أكثر من عباد مخلصين.

ومن هنا كان الصراع العنيف وكانت المعارك الطاحنة في داخل تلك النفوس البشرية العالية قبل أن تكون في خارجها.

ومن المؤكد أن رسل الله -فيما يتلقونه من وحي- ليسوا أكثر من:"أجهزة استقبال" تامة الأمانة والدقة والكفاءة، لا بد أن تبلغ نسبتها العددية 100%.

وفيما عدا ذلك فهم مجتهدون قد يتعرضون لما يتعرض له البشر من هفوات ومآخذ، إلأ أن كونهم أفضل البشر جعل ما يمكن أن يؤخذ عليهم وفق ميزان "الحق" يندرج تحت الحكمة التي تعني أن من حسنات الإبرار ما قد يحسب سيئات للمقربين، باعتبار أن المقربين من الأبرار، وبالتالي كانت موازينهم أدق وحسابهم أصعب.

وإذا كنا نعهد في سيرة العظماء من البشر -رغم اختلاف مقاييس العظمة- كأن "القدر" يعدهم لما صار إليهم أمرهم، فمن باب أولى أن تكون عناية القدر برسل الله، قبل أن تأتيهم رسالات السماء.

لقد كان أول وحي إلى النبي أرميا ينبئه أنه في رعاية الله قبل أن يخلق:

"كانت كلمة الرب إلي قائلًا: قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك: جعلتك نبيًا للشعوب".

وكذلك كانت رعاية الله مع المسيح، إذ أوحى إلى يوسف خطيب مريم أمه أن يهرب به إلى مصر خوفًا من بطش هيرودس.

(1/174)

"إذا ملاك الرب ظهر ليوسف في حلم قائلًا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك، لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام وأخذ الصبي وأمه ليلًا وانصرف إلى مصر".

وكانت عين الله على رسوله محمد قبل أن يكون وبعد أن كان. فلقد حدث في طفولته ما يرويه: "لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان. كلنا قد تعرى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة.

فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم.. ما أراه لكمة ... وجيعة، ثم قال: شد عليك إرازك، فأخذته وشدتته علي ... ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي ... من بين أصحابي"1.

ولقد حدث في صباه أن استرعى انتباهه عرس بمكة، تجمع القوم فيه للهو واللعب. فذهب إليه كما يذهب الصبية للمشاهدة والسرور. لكنه لم يلبث أن غلبه النوم، فانتحى خلف الدار ونام حتى أيقظته شمس الصباح.

قبل الرسالة:

تحقق خبرات الحياة صدق القول بأن "من شب على شيء، شاب عليه" وأن "الإنسان أسير العادة" وما إلى ذلك من الأمثال السائرة والقواعد السلوكية التي لم تعد في حاجة إلى برهان بعد أن صار الواقع لها خير برهان.

ذلك أن الإنسان يسهل تشكليه وتهذيبه منذ طفولته إلى نحو العشرين عامًا، وتبدأ الصعوبة في التغيير إلى الثلاثين عامًا، وتكاد تبلغ المستحيلات عند الأربعين عامًا.

__________

1 تاريخ الطبري: جـ2- ص201.

(1/175)

فإذا كان رسل الله قد اختيروا رجالًا قاربوا الأربعين من أعمارهم أو تخطوها، فإن هذا يعني أنهم كانوا أصلًا مؤهلين بطبيعتهم البشرية وما درجوا عليه من كريم الخصال وتميز المواهب، لكي يكونوا رسل الله إلى خلقه.

فحين جاء أول وحي لإبرهيم أبي الأنبياء "كان "عمره" خمسًا وسبعين سنة".

وحين بدأت رسالة موسى "كان موسى ابن ثمانين سنة".

وحين بدأت رسالة المسيح "كان له نحو ثلاثين سنة".

على أن هناك حالات خاصة من الأنبياء والمرسلين مثل أرميا الذي جاءه الوحي وهو ولد صغير:

"قلت: آه يا سيد الرب، إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد. فقال الرب لي: لا تقل إني ولد، لأني إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به".

وكذلك يحيى بن زكريا الذي قال عنه "الحق": {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] .

ومحمد رسول الله ليس "بدعًا من الرسل" فقد جاءه الوحي وهو في الأربعين من عمره وقد عرفت أخلاقه وتميزت سماته لكل من خالطه وعرفه.

ولذلك نجد "الحق" يقول في وصف الرسول مبكرًا في صدر سورة القلم التي تعتبر ثاني سورة من القرآن {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .

لقد كان خلق محمد هو أول البراهين على صدق ما جاء به، ورصيده الهائل الذي أعد بقدر الله لخدمة الرسالة.

فحين فاجأه الحق وهو في غار حراء ونزل عليه الملك بأول سورة "اقرأ" ثم انصرف عنه، رجع رسول الله إلى خديجة يرجف بها فؤاده، حتى إذا دخل عليها قال: "زملوني، زملوني". فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة:

(1/176)

"أي خديجة، مالي؟ لقد خشيت على نفسي"، ثم أخبرها الخبر، فقالت خديجة: "أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".

لقد كانت أخلاق محمد -التي خبرتها خديجة عن كثب- وما اشتهر به بين الناس من جميل المحامد والسجايا، هي حيثيات الحكم التي استندت إليها في التأكيد على صدق ما جاءه، وأنه "الحق" من الله.

ولقد حدث ابن عباس قال: "لما أنزل الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 1، أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصفا، فصعد عليه ثم نادى: "يا صباحاه".

فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله.

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي.. أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ "

قالوا: نعم. ما جربنا عليك إلا صدقًا.

قال: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد".

فقال أبو لهب "عمه": تبا لك سائر اليوم. ألهذا جمعتنا؟ 2.

بقي أن نلاحظ في قول الحق: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 3، أن كلمة "على" للاستعلاء، وأن الخلق العظيم خاصية من خلقته الطبيعية وفطرة فطر عليها، فدل ذلك على أن الرسول في هذا المجال كالسيد بالنسبة لمن ساد عليه.

واستمر خلق الرسول يستخدم كواحد من خير البراهين على صدق رسالته، فكانت آيات القرآن تشير إلى ذلك بين الحين والحين حتى تذكر من جحد نبوته

__________

1 الشعراء: 214.

2 تفسير الفخر الرازي، وابن كثير.

3 القلم: 4.

(1/177)

من عشيرته وقومه بسابق عهدهم به صادقًا وأمينًا، فقد عرفوه عن قرب معرفة الصاحب لصاحبه، وخبروا رجاحة عقله وطيب معدنه. فالذي يأتيه إنما هو وحي السماء استقبلته نفس محمد الطاهرة وعقله الواعي:

{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 15-22] .

وحين حاولوا مداهنته وطلبوا منه قرآنا لا يسفه آلهتهم ولا يدعو إلى نبذ عبادة اللات والعزى ولا يحرم عليهم ما تردوا فيه من خبائث ومنكرات كان قول "الحق":

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 15-17] .

ثم كانت هذه الدعوة للمكيين بتحرير الفكر وتحري الحقيقة في أمر صاحبهم، وذلك بانبعاثهم مثنى، أو فردًا فردًا، ثم تفكرهم في أمر محمد على ضوء سابق عهدهم به، وحين يصدقون العزم ويتجردون من الهوى، سوف تصدق نتائج تفكيرهم.

وهذه الدعوة للتفكير علمية ولا شك، فهي تأخذ في اعتبارها "علم النفس" وخصائص النفس البشرية التي قد تكابر في الحق حين تطرح القضية أمام ملأ من الناس، لكن احتمالات رجوع تلك النفس إلى الحق يكون أكبر حين يخلو

(1/178)

الإنسان بنفسه أو يفكر مع صديق له فآنذاك يرشد كل صاحبه ويستمع الواحد للآخر ولا حرج.

{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] .

نعم كان خلق محمد قبل الرسالة كافيًا لإيمان القوم به، لكنهم كذبوه جحودًا واستكبارًا لأهواء شخصية ودوافع قبلية ولم يكن تكذيبهم راجعًا لاختلاط أمره عليهم. وفي هذا يقول "الحق":

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] .

بداية الطريق:

الرسالة الإلهية طريق غايته الوصول إلى الله ...

وهو طريق يهدي الذين أرسل إليهم، كما سبق وقد هدى من قبلهم المرسلين.

يهدي الذين أرسل إليهم بكتاب الله وسنة رسوله، بعد أن هدى المرسلين بالوحي الإلهي والتعاليم السماوية.

وفي قصة إبراهيم -الذي صار أبا الأنبياء- كان "ابن تسع وتسعين سنة حين ظهر له الرب وقال له:

"أنا الله القدير. سر أمامي وكن كاملًا. فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيرًا جدًا.

فسقط إبرام على وجهه وتكلم الله معه قائلًا:

أقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدًا أبديًا لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك".

(1/179)

إنه طريق إلى الله، يسير فيه الإنسان.

ويحتاج المسافر في كل طريق إلى من يأخذ بيده ويهديه الغاية ويعطيه الوسيلة ويحذره المصاعب والأهوال، ويعرفه القواعد والأحكام. هكذا الطريق إلى الله.

ومن أعلم بالطريق إليه -سبحانه- إلا هو، فهو الذي يهدي إليه، ولا هدي إلا به.

إذ يرسل ملائكته سفرة حفظة، بكتبه المكرمة إلى رسله المصطفين الأخيار والطريق شاق وطويل ...

هكذا كان مع نوح وإبراهيم وموسى وإلياس. ويحيى وعيسى، وهكذا كان مع محمد.

النبأ العظيم:

فجيء الوحي محمدًا في غار حراء، فأوحى إليه ما أوحى وصاحب ذلك ما صاحبه من خوف وربهة. ويقص محمد الخبر على خديجة، فتخفف من روعه بادي الرأي استنادًا إلى خبرتها الوثيقة. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فما كان خبر السماء إلا ليؤخذ بكل الجد ويستيقن منه بالبحوث والتجارب.

وهناك يحدث أمران هما بمقياس العصر تجارب معملية كتلك التي تجرى لدراسة ظاهرة من الظواهر الطبيعية.

الأول: انطلقت خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد عرف خبر الوحي من الأسفار السابقة، فلما أخبرته بما حدث لمحمد وما رآه وسمعه أطرق مليًا ثم قال: "قدوس قدوس.. والذي نفس ورقة بيده: لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت".

(1/180)

الثاني: طلبت خديجة إلى محمد أن يخبرها بمجيء الملك متى رآه. فلما جاء الملك أجلست زوجها محمدا على فخذها الأيسر ثم على فخذها الأيمن ثم في حجرها وفي كل مرة تسأله عنه فيخبرها أنه لا يزال يراه.

حتى إذ حسرت وألقت خمارها فإذا بمحمد لم يعد ير الملك.

لم يبق -إذن- شك في أن هذا الذي يأتيه هو ملك طاهر، كما لم تبق هناك أية فرصة للشك في أن محمدًا وخديجة كانا أكثر الناس حرصًا على التثبت من حقيقة هذا الأمر الجديد الذي لا عهد لهم ولأمتهم به.

ولقد رأينا عند الحديث عن الوحي1 كيف صار صموئيل نبيًا فقد كان يخدم أمام الكاهن عالي، وبعد أن اضطجع للنوم، إذ به يسمع صوتًا يناديه فظنه عالي، فذهب إليه فقال عالي: "لم أدع، ارجع واضطجع"، ولما تكرر ذلك للمرة الثالثة "فهم عالي أن الرب يدعو الصبي فقال عالي لصموئيل: اذهب اضطجع ويكون إذا دعاك تقول: تكلم يا رب لأن عبدك سامع ...

فجاء الرب ... ودعا كالمرات الأولى ... فقال صموئيل: تكلم لأن عبدك سامع ...

وكبر صموئيل وكان الرب معه.. وعرف جميع إسرائيل ... أنه قد أؤتمن صموئيل نبيا للرب".

فهكذا صار صموئيل نبيًا للرب في ساعة من ساعات الليل وبكل بساطة وبلا جدل أو تمحيص.

ويعتبر صموئيل هذا من كبار أنبياء بني إسرائيل وهو الذي اعتمد شاول كأول ملك يقوم في إسرائيل وهو الذي مسح داود نبيًا "وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا".

__________

1 راجع كتاب المؤلف: الوحي والملائكة.

(1/181)

فروض وتكاليف:

من الطبيعي أن يبدأ التعليم الإلهي بالرسول.. وهكذا كان فلقد فرض عليه القيام بالليل، تعبدًا لله وتهذيبًا، وبعد أن انقضى عهد الراحة والنوم متزملًا ومتدثرًا.. وبدأ عهد جديد كله عمل وكفاح وصبر وجهاد.

وهو عمل في دوائر متحدة المركز تماثل تلك الدوائر التي تنبعث على سطح الماء لبحيرة هادئة إذا ما أصابتها قذيفة.

وحين نبدأ بالرسول في المركز نجد أقرب دائرة إليه أهل بيته، ثم صحبه المخلصين، ثم عشيرته الأقربين.

وهكذا نزلت أولى آيات سورة المزمل لتقول: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1-4] .

هو فرض وتكليف، إذا صرفنا النظر عن كونه شغلًا مبذولًا وطاقة مستنفذة فلا شك أن النفس العالية لا بد وأن تستقبل ذلك التكليف بشيء من الخوف والرهبة، حذرًا من الضعف الذي ارتبط بالإنسان، أو مخافة عدم الإتقان.

لكنه -في الحقيقة- تكليف غلفته رحمة الله، ذلك أن النفس البشرية بطبيعتها تشعر بشيء من الراحة ويهون عليها الصعب حين تجد لها فيه خيارًا.

وهكذا كان فرض قيام الليل، إذ ترك الخيار في مقداره فزال بذلك الحرج وخف التكليف.

ولكي يعلم الرسول حقيقة ما انفتح عليه من السماء كانت الآية التالية لما سبق ذكره من سورة المزمل تخبر بكل وضوح أنه يتعرض لضغط عال من السماء يجب أن يستعد له منذ تلك اللحظة فهي تقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] .

لقد كان نزول القرآن على الرسول عملية تصحبها الشدة ويلازمها الضغط الثقيل، وحين قال عبد الله بن عمرو: يا رسول الله. هل تحس بالوحي؟

(1/182)

أجابه الرسول يقول: $"أسمع صلاصل، ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض".

وقال زيد بن ثابت: "أنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفخذه على فخذي، فكادت ترض فخذي".

وأما من الناحية الموضوعية فإن القرآن حجة على كل من بلغه وشاهد له أو عليه يوم الدين، فأمره جد ليس بالهزل، وهو نبأ عظيم، يلازمه من الأمور ما يلازم كل نبأ عظيم.

ثم تأتي مرحلة جديدة وهي إعلان الرسالة في الدائرة التالية، نذيرًا وبشيرًا لقوم يسمعون مع زيادة في التعليم لما يجب أن يكون عليه حال الرسول. فقد نزلت سورة المدثر لتقول:

{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1-7] .

لقد بدأ الصراع ولا محيص، ذلك أن العرب حين نزل فيهم القرآن كانوا أمة أمية، عزلتها الصحراء وطبعت عليها من سماتها الشيء الكثير، فآثرت الحفاظ على تراث الأقدمين بكل ما فيها من مساوئ، ومثالب. وهي مستعدة للقتال ضد كل تطور أو دعوة لنبذ ذلك القديم. حتى ولو كانت هذه الدعوة من السماء.

محنة روحية:

نزل الوحي بالقرآن وبدأت نواة الإسلام في بيت محمد فكان السابقون إليه زوجه خديجة، وابن عمه وربيبه الصبي علي بن أبي طالب، ومولاه زيد بن حارثة، ثم كان السابقون بعد بيته يتقدمهم "صاحبه وصديقه الحميم أبو بكر الذي آمن لفوره، دون أن يكون له في الإسلام كبوة، والذي طفق يدعو إليه منذ

(1/183)

اللحظة الأولى من وثق فيهم من القوم فتابعه على الإسلام عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام. ثم أسلم بعد ذلك أبو عبيدة بن الجراح وغيره كثير من أهل مكة".

وكان الواحد منهم إذا هدي إلى الإسلام ذهب إلى النبي سرًا فأعلن إسلامه.

وكان ذلك التخفي راجعًا إلى علم المسلمين الأوائل بما يضمره المجتمع القرشي من عداوة شديدة لكل من يفكر في الخروج على آلهته المتوارثة ومعبوداته الوثنية.

لكن أمر الوحي ونزول القرآن وإعلان نبوة محمد كان خبرًا يذاع منذ اللحظة الأولى ويكفي ما أعلنته خديجة لورقة بن نوفل وهي تستقي منه الخبر الذي لم تعهده العرب منذ قرون عديدة.. وما كان هذا الخبر بالذي يمكن كتمانه في مثل تلك البيئة التي اشتهرت بتناقل الأخبار وتقصي الروايات، وكان عندها من الفراغ الذهني والفكر ما يجعلها تذيع كل ما تلتقطه الآذان صباح مساء.

وإذا بمفاجأة لم يتقوقعها الرسول تحدث.

لقد توقف الوحي، إذ انقضت ليلة وليلتان وليالي وآيام ولا خبر من السماء.

وذاع هذا الأمر -كالمعتاد- وشمت الشامتون من الكفار وقالوا: إن محمدًا ودعه ربه، وأشفق الصحب من المسلمين ولعل منهم من حدثته نفسه فقال للنبي: ما أرى ربك إلا قد قلاك.

وبين هذا وذاك عانى النبي في تلك المحنة الروحية الشيء الكثير، حتى ترانا لا نعجب حين نقرأ لكتاب السيرة وهم يتحدثون عن فتور الوحي فيقولون: إن النبي هانت عليه نفسه وتمنى لو ألقى بها من أعلى جبل حراء أو أبى قبيس بعد أن ألفى نفسه وحيدًا هكذا كالمعلق بين السماء والأرض.

لقد سبق أن طلب موسى من الله الموت لنفسه حين ثقل عليه الأمر مع بني إسرايل: "فقال موسى للرب: لماذ أسأت إلى عبدك، ولماذا لم أجد نعمة في عينيك حتى إنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب علي؟

(1/184)

إن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتلًا.. فلا أرى بليتي" "العدد 11: 11-15".

وكذلك طلب إلياس "إيليا" الموت لنفسه بعد أن أرهقته مطاردة آخاب ملك إسرائيل الفاجر وزوجته إيزابل وهما يطلبان قتله، فإذا ثقل عليه الأمر واشتد الكرب "سار في البرية مسيرة يوم حتى أتى وجلس تحت رتمة وطلب الموت لنفسه وقال: قد كفى الآن يا رب. خذ نفسي" "الملوك الأول 19: 4".

لكن {رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] .

فما لبث الوحي أن عاد للنزول بعد أن فتر حينًا تعلم فيه النبي الصبر والتعلق كلية بالله الذي وحده "له الخلق والأمر".

وكانت سورة الضحى خير عزاء للرسول وبشرى وتثبيت:

{وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 1-5] .

واستمر الوحي نزولًا وآيات الله تترى، حتى إذا انقضت عدة سنوات تعرض النبي لتجربة أخرى تناظر تلك المحنة الروحية التي فجأته في صدر الدعوة

فإذا كانت الحرب على أشدها بين القرشيين وأشياعهم من جابب، ومحمد والمسلمين من جانب آخر.. "بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالو لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.

فقال "أحبار اليهود": سلوه عن ثلاث.. فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول.. وعن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها.. وسلوه عن الروح ما هو؟ ...

فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش. فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد وقد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور،

(1/185)

فأخبرهم بها فجاءوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا محمد أخبرنا فسألوه عما أمروهم به فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أخبركم غدًا عما سألتم عنه" ولم يستثن، فانصرفوا عنه.

ومكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحيًا ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألنا عنه، وحتى أحزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة.

ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف وفيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه"1.

لم يقل الرسول لمن سألوه: "أخبركم غدًا عما سألتم عنه إلا أن يشاء الله" فكان ذلك الحرج الشديد والأذى والمعاناة".

إنه نبي ورسول من عند الله، كل كلمة بل كل حرف وتصرف بحساب وإلا فهناك حساب يتناسب وأقدار الرجال. ثم نزل التعليم الإلهي للرسول بأن نزول الملائكة بالوحي عبر الزمان لكل الأنبياء والمرسلين لا يتم إلا بأمر الله الذي له وحده المشيئة المطلقة "وهو الحكيم الخبير".

{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] .

وتطالعنا الآن نتيجة حتمية أكدتها أحداث الرسالة في الإسلام -سبق أن أشرنا إليها- وهي أن رسل الله تحت ضغط الوحي ليسوا أكثر من "أجهزة استقبال" تامة الدقة والأمانة بالغة الحساسية، فحين تأتيها الإشارة من السماء

__________

1 تفسير ابن كثير: سورة الكهف.

(1/186)

تلتقطها وتذيعها، أما حين يتوقف الإرسال فلا استقبال ولا إذاعة، بصرف النظر عما يصيب رسل الله آنذاك من حرج وأذى وضيق، إذ إن الأمر كله لله وهم خدم في بيت رسالته.

الرسول بين يدي الله:

تقرير واقع: نزلت سورة الضحى لتطمئن الرسول وتشف صدور المؤمنين وتذهب غيط قلوب الكافرين ثم تذكر الرسول بواقع الأمر فتقول له:

{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 6-8] .

هذه حقائق ثلاث كانت في حياة الرسول، يهمنا منها ما يتصل بالدين. فمن المعلوم أنه -صلوات الله عليه- نشأ في أمة أمية وفي مجتمع وثني، عزفت نفسه المطهرة عن المشاركة في سفاهات قومه على أية صورة من الصور، فلقد أيقن بفطرته السوية أنهم في معتقداتهم الدينية على باطل لا مراء فيه، ولكن أين الحق إذن؟

إن هذا ما تطلعت نفسه دائمًا لإدراكه وكانت وسيلته الوحيدة هي التباعد عما فيه قومه، ثم التفكير وحيدًا في هذا الكون العظيم وظواهره ونواميسه. ولقد طاب له التأمل والتفكير وهو يرعى الغنم في الصحراء ثم وجد في التحنت أو التحنف خير داواء مستطاع لما يختلج في صدره، فكان يذهب إلى غار بجبل حراء فيقضي فيه ما شاء الله من ليالي وأيام يفكر في الكون وخالقه، ثم يعود إلى خديجة بعد أن يكون قد نفد ما معه من قليل الزاد.

ولم يلبث أن تعهدته العناية الإلهية بالرؤيا الصادقة -التي تعتبر إرهاصًا للوحي في حياة الأنبياء- فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت صادقة كنور الصباح. وأخيرًا جاء الحق وحيًا من الله، قرآنًا.

لقد هداه الله فعرفه الحق وسبله، فالهدى يعني التعريف بالطريق كما في

(1/187)

قوله تعالى في سورة البلد 10: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أي عرفنا الإنسان طريقي الخير والشر، فيسلك الأول، ويجتنب الثاني.

وكذلك قوله في سورة الصافات 23: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} أي أرشدوهم إلى طريق جهنم. والضلال عكس الهدى بمعنى الجهل بالشيء كما يقال في اللغة: ضللت الدار -أي لم أعرف موضعها.

والضلال يعني النسيان كذلك وعدم الإلمام بالشيء، أو جزئياته أو إهماله كما في قوله تعالى في آية التداين من سورة البقرة 282: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} .

فضلال الشاهدة هنا يعني نسيانها حقيقة الشهادة.

وحين قال فرعون لموسى، وهو يمن عليه بما كان من سابق أمره حين تربى في بيت الملك، ثم قتل المصري وهرب إلى مدين -ما تذكره سورة الشعراء 18-21: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ، قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} .

فقول موسى: {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} أي الجاهلين بالحقائق، كما تعني كذلك حال موسى قبل النبوة والرسالة.

وعلى ضوء هذا نفهم معنى قوله تعالى لنبيه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} 1.

فقول الله حق، {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} 2.

__________

1 الضحى: 7

2 الأحزاب: 53.

(1/188)

على أن لهذا القول دلالة لا تخفى على كل من {كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 1 فهذا القول يعني أن محمدًا الذي اشتهر بالأمانة -قبل الرسالة- بين الناس، لهو أشد أمانة فيما يتنزل إليه من ربه من قرآن.

إن القرآن هو الذكر الحكيم، وما أنزل الله {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} 2 ولقد صرفه -سبحانه- بين الناس ليذكروا، {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 3 ولهذا نجد القرآن يعيد التذكرة بعد سنوات من نزول سورة الضحى فيقول: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍوَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [الشورى: 52] .

بل إن القرآن ليقرر حقيقة نبؤها عظيم وأمرها جد، فيقول للرسول على لسان "الحق" إنه لا يملك من أمر القرآن بعد نزوله شيئًا، كما أنه لم يكن يملك من أمره شيئًا قبل التنزيل. فالله قادر أن يذهب بما أوحى، وآنذاك يجد الرسول نفسه وقد تقطعت به كل الأسباب.

{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا، إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} [الإسراء: 86-87] .

ولا عجب. فالأمر كله لله، ليس الأمر فقط، بل له سبحانه "الخلق والأمر" فهو الذي يملك السمع والأبصار و.. يدبر الأمر".

وفي تذكرة للإنسان، يقول القرآن: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 46] .

__________

1 سورة ق: 37.

2 طه: 3.

3 الذاريات: 55.

(1/189)

فالله وحده له المشيئة في كل شيء:

{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى، وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 6-8] .

ولقد كان الأنبياء جميعًا واعين لتلك الحقيقة الهامة، وهي أن الإيمان الذي ملأ قلوبهم هو في قبضة "الحق"، وعلى المؤمن الحقيقي أن يسأل الله دائمًا الثبات على اليقين والترقي في مراتب الإيمان. ولهذا قال إبراهيم أبو الأنبياء في محاوراته مع قومه: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 8-82] .

وعلى شاكلة إبراهيم -ومن بعده- كان موقف شعيب مع قومه، إذ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ، قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 88-89] .

ليس الإيمان فقط -وهو الشيء غير المادي -الذي يرد حفظه إلى الله، بل إن كتاب الله المسطور يرد حفظه إلى الله كذلك، فإن شاء حفظه وإن شاء استحفظ عليه البشر. وفي هذه الحالة الأخيرة يصبح معرضًا -ولا شك- للتغير والتبديل، لأن الزيغ من طبع الإنسان.

(1/190)

وما حدث لتوراة موسى خير دليل على ذلك.

فحين ذهب موسى لميقات ربه يتلقى التوراة بعد أن استخلف أخاه هارون في قيادة بني إسرائيل أعطى الله "موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء لوحي الشهادة، لوحي حجر مكتوبين بأصبع الله".

لكن الشعب الإسرائيلي انتهز فرصة غياب موسى فخرج على قيادة هارون وضع له عجلًا مسبوكًا من الذهب غنمه من المصريين قبل رحيله وقام يعبده ويلعب حوله.

"فقال الرب لموسى: اذهب انزل لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر.. صنعوا لهم عجلًا مسبوكًا وسجدوا له.

فحمي غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل".

لقد كسر موسى بنفسه التوراة التي كتبتها يد القدرة ولم يجف مدداها بعد ...

ولذلك "قال الرب لموسى: انحت لك لوحين من حجر مثل الأولين فأكتب أنا على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين اللذين كسرتهما.. واصعد في الصباح إلى جبل سيناء".

ولكن الذي حدث بعد ذلك أن موسى هو الذي كتب التوراة، فقد:

"قال الرب لموسى: اكتب لنفسك هذه الكلمات، فكتب على اللوحين كلمات العهد، الكلمات العشر".

ومن المعلوم أن التوراة تعرضت بعد ذلك للحرق والضياع، وقد أعاد عزرًا كتابتها بعد أكثر من 700 عام من نزولها على موسى.

هذا.. ولما كان "النبي" هو الذي ينبئ عن الله، أي يخبر الناس بما يريد "الحق" سبحانه -أن يظهره إلى الخلق، فإن "النبي" لا يستطيع أن يحدث بشيء من الغيب إلا ما شاء الله.

(1/191)

وكانت "الساعة" من الأمور التي بقي علمها عند الله فخفيت عن جميع الأنبياء والمرسلين.

ولقد كان كفار قريش ينكرون القيامة والساعة وكأنهم أرادوا تعجيز الرسول فسألوه عنها سؤال المنكر المصر على جحوده فجاء الحق يقول:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187] .

ومن قبل قرر المسيح لتلاميذه أن القيامة والساعة شيء اختص الله بعلمه، فأخفاه عن جميع خلقه بما فيهم الملائكة والمسيح، فقد قال لهم:

"أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب".

ومن الطبيعي أنه ما دام أمر الساعة قد خفي عن كبار الأنبياء، فإن مصائر البشر الأبدية التي تتقرر في الساعة، لا تتقرر إلا بأمر الله {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] .

وحتى أنبياء الله {لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28] .

بل إن ملائكة الله لا يشفعوه إلا من بعد إذنه:

{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] فالأمر متوقف آنذك على رضوان الله وحده لا شريك له.

(1/192)

ويقطع تاريخ الأنبياء بأن النبوة لا تعني مداومة النبي الاطلاع على الغيب، فكلهم لم يعلم منه شيئًا إلا ما أظهره الله عليه وفق قدره المحكم والمحتوم.

فقد حدث لإبراهيم حين تغرب في أرض جرار أن قال عن سارة زوجته إنها أخته، فلما أنكر زوجيتها له "أرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة" ليعاشرها معاشرة الأزواج "فجاء الله إلى أبيمالك في حلم الليل وقال له: هأنت ميت من أجل المرأة التي أخذتها، فإنها متزوجة ببعل ...

فبكر أبيمالك في الغد ودعا جميع عبيده ... ثم دعا أبيمالك إبراهيم وقال له: ماذا فعلت بنا.. حتى جلبت علي وعلى مملكتي خطية عظيمة.

فقال إبراهيم: إني قلت ليس في هذا الموضع خوف الله ألبتة فيقتلونني لأجل امرأتي" "تكوين 20" فمن الواضح أن إبراهيم كان لا يعلم ما ينتظره في الغد ولذلك أنكر زوجيته لسارة.

وحدث بعد ذهاب موسى وأخيه هارون إلى فرعون ليخرجا بني إسرائيل من مصر أن فرعون زاد من اضطهاده للإسرائيليين "فرأى مدبرو بني إسرائيل أنفسهم في بلية ...

وصادفوا موسى وهارون واقفين للقائهم حين خرجوا من لدن فرعون فقالوا لهما:

ينظر الرب إليكما ويقضي لأنكما أنتنتما رائحتنا في عيني فرعون وفي عيون عبيده حتى تعطيا سيفًا في أيديهم ليقتلونا.

فرجع موسى إلى الرب وقال: يا سيد، لماذ أسأت إلى هذا الشعب؟ لماذ أرسلتني؟

فإنه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء إلى هذا الشعب، وأنت لم تخلص شعبك" "خروج 5: 19-23".

فمن الواضح أن موسى كان يجهل الأحداث الجسام التي تنتظره وبني إسرائيل، ومنها تخليصهم من قبضة فرعون في أيام معلومات.

(1/193)

وحين ضاقت السبل بإيليا من مطاردة آخاب وإيزابل فإنه "جلس تحت رتمة وطلب الموت لنفسه وقال: قد كفى الآن يا رب خذ نفسي.

وإذا بملاك قد مسه وقال: قم وكل. ثم عاد ملاك الرب ثانية فمسه وقال: قم وكل لأن المسافة كبيرة عليك. فقام وأكل وشرب وسار بقوة تلك الأكلة أربعين نهارًا وأربعين ليلة إلى جبل الله حوريب ودخل هناك المغارة وبات فيها" "الملوك الأول 19: 4-8".

فمن الواضح أيضًا أن نفس إيليا ما كانت تدري {مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} وما كانت تدري {بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} 2.

ولقد حدث حين شعر المسيح بمؤامرات اليهود تحاك ضده وأنهم يريدون قتله، أن قال لهم في الهيكل: "تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني.. لماذا تطلبون أن تقتلوني ... وكان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل، لأنه لم يرد أن يتردد في اليهودية لأن اليهودكانوا يطلبون أن يقتلوه".

واستمرت هذه سياسة المسيح تجاه اليهود في تجنب الأماكن التي يمكنهم اصطياده فيها:

"فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقلتوه. فلم يكن يسوع أيضًا يمشي بين اليهود علانية بل مضى من هناك إلى الكورة القريبة من البرية إلى مدينة يقال لها أفرايم ومكث هناك مع تلاميذه" "يوحنا 11: 53-54".

فمن الواضح أن المسيح كان يجهل تمامًا ما يخبئه له القدر في صراعه مع اليهود، ولذلك اتخذ من الاحتياطات ما ارتآه معينًا على إفشال مخططاتهم ضده.

لأنه لو كان يعلم أنهم سيصطادونه في يوم معين لما كان هناك فائدة من تلك الاحتياطات، ولو كان يعلم أنهم لن يصطادوه أبدًا فلم يكن لها من داع أيضًا.

وإنما تتخذ الاحتياطات بسبب الجهل بالغيب.

__________

1، 2 لقمان: 34.

(1/194)

لقد درج كثير من الناس على اعتبار الأنبياء وكلاء عن الله في كل ما يتصل بالغيب من شر وما ينتظر الناس من مصائر وأقدار. ولقد حسم القرآن الكريم هذه القضية حسمًا، فقال فيها الحق الواضح الذي يمنعها أن تكون وسيلة للتسلية والتعجيز من عتاة الكافرين، أو مدعاة للأحاجي والألغاز بين ضعاف المؤمنين وذلك في آياته البينات:

{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50] .

{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188] .

وإذا كان الرسول قد بعثه الله ليهدي الناس ويأخذ بأيديهم بعيدًا عن مهاوي الضلال، فما هو إلا معلم ومبلغ وداع إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

أما استجابة الناس إلى الهدي فليست من مسئولياته، بل إنه لو أراد إكراههم على ما فيه منفعتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلًا:

{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 21-22] .

{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272] .

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] .

وخلاصة القول في تقرير واقع "الرسول بين يدي الله" هو ما يقرره "الحق" في قوله المحكم":

(1/195)

{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] .

التعاليم الأساسية:

استفتح القرآن -في سورة "اقرأ"- باسم الإله الذي {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} فهو الإله {الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 3-5] .

ثم توالت آيات الله، وعلى هديها قام الرسول يدعو إلى ربه على بصيرة، وفي مواجهته قام المشركون من قريش والذين كفروا به من اليهود، يحاربونه ومن تبعه بكل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.

وفي محاوراتهم معه قال المشركون: "انسب لنا ربك" وجاءه أناس من اليهود يقولون: "صف لنا ربك، فإن الله أنزل نعته في التوراة".

فأنزل الله -تعالى- سورة "الإخلاص" وهي نسبة خاصة لله؛ تقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .

ولقد علم الرسول أصحابه أنها "تعدل ثلث القرآن".

كان طبيعيًا -إذن- أن تكون سورة "الإخلاص" من أوائل السور التي نزلت في صدر القرآن، إذ هي تضع الأساس الذي يقوم عليه الإسلام، فما اتفق معها يتفق والعقيدة الإٍسلامية، وما اختلفت معها استحال التوفيق بينه وبين أساسيات الإسلام، مهما اجتمع لذلك من فلاسفة العصر وقادة الفكر وشيوخ الأديان.

وكان منطقيًا أن يكون أساس العقيدة واضحًا كل الوضوح بسيطًا كل البساطة، يفهمه كل ذي عقل سواء من أوتي حظًا من علم أو كان من الجهلة والأميين. فمن غير المعقول أن يكون أساس الدين -الذي يتوقف عليه المصير

(1/196)

الأبدي للإنسان- قائمًا على قصص وأقاويل تعاني في سبيل وعيها العقول والأفهام.

وكان عدلًا ورحمة أن يدخل الإنسان -كل الإنسان- دائرة الغفران والقبول طالما سلم أساس عقيدته فقام على التوحيد الخالص، المبرأ عن كل شبهة وشرك، فكل ما رواء ذلك يمكن أن يهون لأن رحمة الله أوسع، وأقرب للإنسان من حبل الوريد.

لذلك نجد "الحق" يقول:

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] .

{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] .

(1/197)

قبس من سيرة الر سول:

ملامح الشخصية:

من الأهمية بمكان التعرف على الملامح التي تعين على رسم صورة صادقة لشخصية الأنبياء في شتى مظاهرها الجسمية والخلقية والسلوكية، فذاك شيء تتحرق له البشرية وترجوه. ولكم كتب الكتاب والباحثون وفاضت كتاباتهم بالحسرة والألم من قلة المعلومات والبيانات التي تفتقدها السيرة الذاتية لاثنين من أصحاب الرسالات الكبرى هما موسى وعيسى.

ويكفي أن نذكر في هذا المقام ما يقوله "دنيس نينهام" في مقدمة تفسيره لإنجيل مرقس: "إنها لحقيقة تصدمنا أنهم "كتبة الأناجيل" لم يخبرونا بأي شيء عن هيئة "يسوع" وبنيته الجسمية وصحته، كما لم يخبرونا بشخصيته وعما إذا كان -على سبيل المثال- سعيدًا مبتهجًا رابط الجأش، أم أنه كان على العكس من ذلك.

إنهم لم يفكروا -حتى- أن يخبرونا بطريقة قاطعة عما إذا كان قد تزوج أم لا.

كذلك فإنهم لم يعطونا معلومات محددة عن طول فترة دعوته أو عمره حين توفي، كما أنه لا توجد أقل نبذة عن تأثير بيئته الأولى عليه أو عن أي تطور في نظرته ومعتقداته.

لقد أمكن حساب الفترة التي تلزم لإتمام الأحداث التي يرويها مرقس فوجد أنها لا تتعدى ثلاثة أو أربعة أسابيع، عدا الفقرة "1: 13" التي تقول: "وكان هناك في البرية أربعين يومًا يجرب من الشيطان".

لقد دفعت هذه الحقيقة "ستريتر" أن يقرر في كتابه: الأناجيل الأربعة - "ص424": أن المجموع الكلي للأحداث التي سجلها الإنجيل صغير جدًا

(1/198)

لدرجة أن الثغرات الموجودة في الرواية لا بد أن تكون هي الجزء الجدير بالاعتبار"1.

هذا.. على حين تزخر سيرة محمد بكل ما هو ضروري وكاف لبيان حقيقة هذه الشخصية العالمية كبشر ثم كنبي صاحب كبرى الرسالات.

وعند الحديث عن ملامح الشخصية لمحمد خاتم النبيين نجد وفرة في كتب السيرة تتضافر جميعها لتعطينا صورة متآلفة عن الخواص الجسمية والنفسية للرسول. ويحدثنا في هذا اثنان ممن تربيا في حجر رسول الله هما هند بن أبي هالة -وكانت أمه خديجة بنت خويلد الزوجة الأولى والوحيدة طيلة حياتها مع الرسول- ثم علي بن أبي طالب وقد احتضنه الرسول منذ صباه.

قال هند وقد سأله الحسن بن علي عن صفات رسول الله:

"كان أطول من المربوع2 وأقصر من المشذب3 عظيم الهام، رجل الشعر، إذا تفرقت عقيصته4 فرق وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه.. أزهر اللون5، واسع الجبين، أزج الحواجب6 سوابغ7 في غير قرن بينهما ... ، كث اللحية8، أدعج9، سهل الخدين10، ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان، دقيق المسرية11.. معتدل الخلق، بادن متماسك، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس12.. موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجر كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى

__________

1 المسيح في مصادر العقائد المسيحية: ص45.

2 الرجل الوسيط القامة.

3 الطويل.

4 الشعر الذي يلوى "ضفيرة".

5 أبيض اللون في صفاء.

6 حواجب دقيقة في طول.

7 تامة وكاملة.

8 غزير شعرها.

9 شديد سواد العين مع شدة بياضها.

10 قليل لحمها.

11 المسربة من الشعر: وسط الصدر إلى البطن.

12 رءوس العظام.

(1/199)

ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة ... شنن الكفين1 والقدمين، سابل الأطراف، خمصان الأخمصين2، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء.

إذا زال زال قلعًا، يخطو تكفيًا، ويمشي هونًا، ذريع المشية3، إذا مشى كأنما ينحط من صبب4، وإذا التفت التفت جميعًا. خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة. يسوق أصحابه5، يبدأ من لقيه بالسلام".

وقال هند بن أبي هالة في وصف منطقه: "كان متواصل الأحزان دائم الفكرة، ليست له راحة، لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، يتكلم بجوامع الكلم، فصل لا فضول ولا تقصير. دمث6 ليس بالجافي ولا المهين.

يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئًا ولا يمدحه.

لا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعرض للحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له. ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها. إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث يصل بها، يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه. جل ضحكه التبسم".

وقال الحسن: سألت أبي عن دخول رسول الله فقال: "كان دخوله لنفسه مأذون له في ذلك. وكان إذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء:

جزءًا لله، وجزءًا لأهله، وجزءًا لنفسه، ثم جزءًأ جزأه بين الناس، فرد ذلك على العامة والخاصة لا يدخر عنهم شيئًا. وكان من سيرته في جزء الأمة إيثار

__________

1 غليظ الأصابع.

2 شديد التجافي عن الأرض.

3 سريع المشية.

4 كأنما ينزل في موضع منحدر.

5 يمشي وراءهم.

6 سهل الخلق والمعاملة.

(1/200)

أهل الفضل بأدبه وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة ومنهم ذو الحاجتين ومنهم ذو الحوائج: فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من سألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي ويقول: $"ليبلغ الشاهد الغائب". و$"أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته".

قال: وسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه، فقال: "كان رسول الله يخزن لسانه إلا بما يعنيهم ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم. ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خاتمه. يتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهيه. معتدل الأمر غير مختلف لا يغفل مخافة أن يغفوا أو يميلوا. لكل حال عنده عتاد. لا يقصر عن الحق ولا يجوزه. الذين يلونه من الناس خيارهم. أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة".

قال: فسألته عن مجلسه كيف كان فقال: "كان رسول الله لا يجلس ولا يقوم إلى على ذكر..

وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك. يعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه.

من جالسه أو قاومه في حاجه صابره حتى يكون هو المنصرف. ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور القول وقد وسع الناس من بسطه وخلقه، فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحق سواء.

مجلسه مجلس حكم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات ولا تئوين فيه الحرم ولا تثنى فلتاته. متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى، متواضعين يوقرون فيه الكبير ويحمون الصغير، يؤثرون ذا الحاجة ويحفظوا الغريب".

قال: فسألته عن سيرته في جلسائه فقال: "كان رسول الله دائم البشر سهل الخلق لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مزاح.

(1/201)

يتغافل عما لا يشتهي ولا يؤيس منه "راجيه".... قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدًا ولا يعيره ولا يطلب عورته ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه.

إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا ولا يتنازعون عنده.

يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه. ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته. ويقول: "إذا رأيتم طالب حاجة فارفدوه".

ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام".

قال: فسألته كيف كان سكوته؟ قال: "كان سكوته في أربع: الحلم والحذر والتقدير والتفكر. فأما تقديره ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأما تذكره -أو قال تفكره- ففيما يبقى ويفنى. وجمع له الحلم والصبر فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه".

إن طبيعة البيئة التي بدأت فيها الدعوة إلى الإسلام تتطلب من الداعية صبرًا وحلمًا يفوق كل حد. ولقد تكفل الله بذلك فأسبغ على رسوله من كريم السجايا وعظيم الأخلاق ما يتفق ومطالب إنجاح الدعوة. وقد سجل الحق ذلك في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] .

لقد كانت تلك هي الخطوط العامة لملامح شخصية الرسول، ولكن ليزداد الأمر وضوحًا كان علينا أن نعرض صورًا مختلفة للرسول نقتبسها من حياته الشخصية والعامة، ونقدم أنماطًا من سلوكه وفكره ومنهجه في مختلف مراحل حياته بعد أن صار نبيًا.

(1/202)

ونبذأ بالبحث عن أوجه الكسب الشخصي التي يمكن أن تعود على الرسول من رسالته التي تحمل في سبيلها الكثير من المخاطر والآلام والأحزان. فنجده قد جرد نفسه وأهله من كل ما يمكن احتسابه كسبًا أو منفعة، فقد عاش فقيرًا زاهدًا. أمضى جل حياته يعاني آلام الجوع وشظف العيش طوعًا واختيارًا.

قال علقمة بن مسعود: اضطجع رسول الله على حصير فأثر الحصير بجلده، فجعلت أمسحه وأقول: بأبي أنت وأمي، ألا أذنتنا فنبسط لك شيئًا يقيك منه تنام عليه؟ فقال: "ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".

وقال أبو هريرة: والذي نفس أبي هريرة بيده، ما شبع نبي الله وأهله ثلاثة أيام تباعًا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا.

وقالت عائشة: إنا كنا آل محمد ليمر بنا الهلال "الشهر" ما نوقد نارًا "للطبخ" إنما الأسودان: التمر والماء. إلا أنه كان حولنا أهل دور من الأنصار يبعثون إلى رسول الله بلبن منائحهم فيشرب ويسقينا من ذلك اللبن.

ولم يكتف رسول الله بعيش الكفاف الذي فرضه على نفسه وعلى أهله، إنما حرم عليهم ميراثه في ذلك القليل من حطام الدنيا الذي تركه.

قال عمرو بن الحارث: ما ترك رسول الله دينارًا ولا درهما ولا عبدًا ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه، وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقة.

ولقد توفي رسول الله ودرعه مرهونة عند يهودي وفاء لطعام اشتراه منه، فما وجد ما يفكها به من دراهم حتى مات.

وبعد وفاة الرسول ذهبت ابنته فاطمة وعمها العباس إلى أبي بكر يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله يقول: "لا نرث، ما تركناه صدقة".

فغضبت فاطمة وهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت.

(1/203)

بعد ذلك ننظر الرسول في مواضع الخطر فنجده سباقًا مقدامًا. لقد فزع أهل المدينة ذات ليلة من جراء صوت سمعوه، فانطلق أناس قبل الصوت يستطلعون الخبر، فتلقاهم رسول الله راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يطمئنهم ويقول: "لم تراعوا".

وفي المواقف الحرجة من المعارك يصمد الرسول ويثبت حتى يستعيد المؤمنون المقاتلون الموقف. قال علي -وهو الفارس المغوار: كنا إذا اشتدت الحرب واحمرت الحدق، اتقينا برسول الله، فما يكون أقرب إلى العدو منه.

وفي الموقف الصعب يوم أحد جرح وجه الرسول وكسرت رباعيته وكلمت شفته وسال الدم على وجهه لكنه ثبت ولم يبرح مكانه ولم يبق معه آنذاك إلا اثنا عشر قتل منهم سبعة وبقي الخمسة.

وفي الموقف الصعب يوم حنين تعرض المسلمون لكمين أصابتهم فيه السهام والرماح فولوا مدبرين، بينما ثبت رسول الله وهو راكب بغلته يدعو أصحابه إلى الثبات ويقول: "إلي عباد الله، إلي أنا رسول الله". ثم يعلن عن نفسه في مواجهة الأعداء ويقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". وما هي إلا فترة استعاد بعدها المسلمون زمام الموقف فهزموا المشركين ووقع في أيديهم أسرى كثيرين.

وإذا كنا في الحرب ومواضع الخطر نجد الرسول قوي العزم جبار البأس، فإنا واجدوه مع الأطفال والضعفاء، رقيق المعشر يمزح معهم ويداعبهم، بيد أنه لا يقول إلا صدقًا. قال أنس: كان رسول الله من أفكه الناس مع صبي. وجاء مرة رجل يسأله دابة تحمله، فقال له الرسول: "إنا حاملوك على ولد ناقة".

فقال: يا رسول الله، ما أصنع بولد ناقة؟

فقال له الرسول: "وهل تلد الإبل إلا النوق".

(1/204)

وكان رجل من البادية اسمه زاهر يتردد على الرسول وقد عرف بدمامة خلقته، وجده الرسول يومًا يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه "مداعبا" والرجل لا يبصره.

فقال: أرسلني، من هذا؟ فالتفت، فعرف النبي، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي حين عرفه. وجعل النبي يمزح معه ويقول: "من يشتري العبد"؟ فقال: يا رسول الله، إذن والله تجدني كاسدًا، فقال رسول الله: "لكن عند الله لست بكاسد".

وقال أنس وقد خدم الرسول عشر سنين: أرسلني يومًا لحاجة فقلت: والله لا أذهب. فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله قد قبض بقفاي ورائي.

فنظرت إليه وهو يضحك فقال: "يا أنيس 1، ذهبت حيث أمرتك"؟

فقلت: نعم، أنا ذاهب يا رسول الله.

وقال بعض صحابة النبي إليه: يا رسول الله، إنك تداعبنا. قال: "إني لا أقول إلا حقًا".

وقد عرف عن النبي عفة لسانه في المواقف التي ترضيه والتي لا ترضيه، فلم يشتهر بتوبيخ من حوله وتعنيفهم، أو ما من شأنه أن يصدهم ويفقدهم الثقة في أنفسهم. ولم يسمع عنه أنه قال لهم: "يا قليلي الإيمان" أو "يا أغبياء"، أو "إلى متى أحتمل غباوتكم وقساوة قلوبكم" أو شيئًا من هذا التقريع.

إن الأناجيل تمتلئ بأقوال من هذا النوع تنسب للمسيح وهو يتحدث إلى تلاميذه وحوارييه، كما تمتلئ بحملاته العنيفة على اليهود والتنبؤ لهم بالهلاك في جهنم.

__________

1 لاحظ المداعبة في قوله: "أنيس" بدلًا من "أنس".

(1/205)

ولقد كانت هذه المواقف وأمثالها موضع تعليقات شتى من علماء المسيحية ومثال ذلك قول جورج ويلز -الأستاذ بجامعة لندن- في دراسة له عنه المسيح:

"إن مثل هذا الموقف من المسيح يجعل من النادر وصفه بأنه متسامح مع أعدائه.

فبينما هو يمنع القدح والذم: "من قال يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم" "متى 5: 22"، نجده ينغمس في ذلك ويأخذ كامل حريته في الذم: "أيها الجهال والعميان" "متى 23: 17"، "يا غبي هذه الليلة تطلب نفسك منك" "لوقا 12: 20".

ولقد علمنا أن نحب جيراننا، بل وحتى أعداءنا، ولكنه بالرغم من ذلك يتوعد الكتبة والفريسيين ويصفهم بأنهم مراءون وحيات وأفاعي "متى 23: 29، 33".

وإذا نحينا جانبًا إخفاق المسيح في الحفاظ على المعيار، فإنه لم يدافع بثبات عن أي معيار متناسق ... فبينما يقول عن الناموس: "من نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعي أصغر في ملكوت السموات"، نجده بعد هذا القبول الصريح لناموس موسى، يجنح سريعًا لإحداث تغييرات كبيرة فيه.

إن ناموس موسى يسمح بالطلاق، لكن المسيح يمنعه إلا في حالة الزنا.

وكذلك يسمح الناموس بالقصاص: عين بعين، وسن بسن، لكنه يمنع القصاص أيضًا"1.

لقد كان الرسول إذا بلغه عن رجل شيء، لا يقول: ما بال فلان يقول..

ولكنه كان يوجه خطابه بصورة عامة يستر فيها صاحب السقطة ويعطيه الفرصة ليستقيم أمره وذلك بقوله: $"ما بال أقوم يقولون كذا، وكذا ... "

__________

1 g. a. wells: the jesus of the early christians, pp. 61, 64.

(1/206)

وكان يقول: "لا يبلغني أحد عن أحد شيئًا "سيئًا" إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر". وكل هذه الرقة وهذه التربية النفسية مع قوم طبعت عليهم البيئة من قسوتها الشيء الكبير.

قال أنس: كنت أمشي مع النبي وعليه برد غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذ بردته جبذًا شديدًا حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته.

ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك.

فالتفت إليه رسول الله فضحك. ثم أمر له بعطاء.

ويطول بنا الحديث في خصائص رسول الله دون أن نستقصيها، على أن ما نطمع فيه هو أن نعطي الفرصة مرة أخرى لنزيد فيها.

(1/207)

معجزات الرسول:

لو سئل مسلم عن معجزات الرسول لقال: معجزته القرآن.

بهذه الإجابة البسيطة قال المسلم حقًا وأجاب صدقًا. فالقرآن بما فيه -وما فيه كثير وكثير- يغني عن تلمس أي برهان أو البحث عن معجزة أخرى غيره.

لكن الفكرة الشائعة في أذهان البشر عن المعجزة تدفعهم بداءة إلى توقع الحديث عن أعاجيب وخرق لقوانين الطبيعة، وهو ما سوف نصطلح على تسميته بمعجزات الحوادث باعتبارها تمثل أحداثا شغل كل منها حيزًا محددا من الزمان والمكان.

ومن المعلوم أن وقوع معجزات الحوادث -على شاكلة ما تذكره أسفار العهد القديم، وأسفار العهد الجديد- ليس قرينة كافية على صدق النبي. فقد حذرت التوراة من إمكانية حدوث معجزات مادية على أيدي أنبياء كذبة يدعون إلى غير توحيد الله، فقالت تعليمًا من الله: "إذا قام في وسطك نبي أو حالم. وأعطاك آية أو أعجوبة، لو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها، قائلًا: لنذهب وراء آلهة آخرى.. فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم لأن الرب إلهكم يمتحنكم.. وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يقتل لأنه تكلم بالزيغ من وراء الرب إلهكم".

وكذلك حذر الإنجيل على لسان المسيح من أولئك الذين يحسبون مسيحيين ويأتون بمعجزات تثير عجب الناس وتستولي عليهم، لكنهم في حقيقة الأمر كذبة وإخوة للشياطين. وفي هذا يقول:

"ليس كل من يقول: يارب، يارب، يدخل ملكوت السموات، وكثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يارب، يارب أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة.

فحينئذ أصرح لهم: إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" "متى 7: 21-23".

وكذلك بين المسيح أن صدق النبوة لا يشترط ارتباطها بحدوث الأعاجيب، فهذا يحيى بن زكريا الذي قال في حقه.

"ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيًا؟ نعم أقول لكم، وأفضل من نبي".

ويشهد الإنجيل بأن يحيى هذا "لم يفعل آية واحدة" "يوحنا 10: 41".

ومع ذلك فإن دراسة معجزات الرسول تدفعنا إلى الحديث عنها من وجهين:

الأول: معجزات الحوادث على شاكلة معجزات الأنبياء السابقين.

الثاني: معجزات القرآن.

وفيما يلي عرض سريع لبعض ما يقال في هذا المجال الواسع.

(1/208)

معجزات الحوادث:

من كتب السيرة: نجد في كتب السيرة1 أحاديث عن معجزات وأعاجيب صنعها الرسول وشهدها الناس. كفارًا ومؤمنين وقد كان بعضها سببًا مباشرًا لإيمان من آمن منهم -ويذكر في هذا المجال ما يلي:

1- دخل أعرابي المسجد يوم جمعة والرسول قائم يخطب. فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وتقعطت السبل. فادع الله لنا يغيثنا. فرفع الرسول يديه وقال: "اللهم اسقنا" "ثلاثا"، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت واستمر الحال على ذلك ستة أيام.

2- خرج رسول الله ذات يوم مع جمع من أصحابه فلما حضرت الصلاة لم يجد القوم ما يتوضئون به. فقالوا: يا رسول الله، ما نجد ما نتوضأ به، ورأى في وجوه أصحابه كراهية ذلك. فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح من ماء يسير، فأخذ نبي الله فتوضأ منه، ثم مد أصابعه الأربع على القدح ثم قال: "هلموا فتوضئوا"، فتوضأ القوم حتى بلغوا فيما يريدون من الوضوء وكانوا أكثر من سبعين.

3- لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا؟ فلما رأى عمر بن الخطاب أن رسول الله قد هم أن يأذن لهم في نحر بعض ظهورهم "التي يركبونها" قال: يا رسول الله، كيف بنا إذا نحن لقينا العدو غدًا جياعًا رجالًا؟! ولكن إن رأيت يا رسول الله أن تدعو لنا ببقايا أزوادهم وتجمعها ثم تدعو الله فيها بالبركة فإن الله سيبارك لنا في دعوتك.

فدعا النبي ببقايا أزوادهم فجعل الناس يجيئون بالحبة من الطعام وفوق ذلك فكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر. فجمعها رسول الله ثم قام فدعا ما شاء الله أن يدعو، ثم دعا الجيش بأوعيتهم وأمرهم أن يحتثوا فما بقي في الجيش وعاء إلا ملئوه.

__________

1 راجع البداية والنهاية -لابن كثير- الجزء السادس.

(1/209)

4- أتى النبي رجل من بني عامر فقال: يا رسول الله، أرني الخاتم الذي بين كتفيك فإني من أطب الناس. فقال له رسول الله: "ألا أريك آية"؟ قال: بلى، قال: فنظر إلى نخلة فقال: "ادع ذلك العذق". فدعاه فجاء ينقز بين يديه، فقال له رسول الله: "ارجع" فرجع إلى مكانه. فقال العامري: يا آل بني عامر، ما رأيت كاليوم رجلًا أسحر من هذا؟

5- كان في المسجد جذع نخلة يسند رسول الله ظهره إليه إذا كان يوم جمعة أو حدث أمر يريد أن يكلم الناس فيه فقالوا: ألا نجعل لك يا رسول الله شيئًا كقدر قيامك؟

قال: "لا عليكم أن تفعلوا". فصنعوا له منبرًا ثلاث مراق. فلما جلس عليه. خار الجذع كما تخور البقرة ولم يسكن إلا بعد أن التزمه الرسول ومسحه.

6- أبصر رسول الله بشر بن راعي العير وهو يأكل بشماله، فقال: "كل بيمينك". قال: لا أستطيع "ليس عن عجز وإنما تكبرًا" قال: "لا استطعت".

فشلت يده وما وصلت إلى فيه بعد ذلك.

7- قال حبيب بن أساف: أتيت رسول الله أنا ورجل من قومي في بعض مغازيه، فقلنا: إنا نشتهي أن نشهد معك مشهدًا. قال: "أسلمتم"؟ قلنا: لا، قال: "فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين". قال: فأسلمنا.

وشهدت مع رسول الله فأصابتني ضربة على عاتقي فجافتني فتعلقت يدي.

فأتيت رسول الله، فتفل فيها وألزقها، فالتأمت وبرأت، وقتلت الذي ضربني.

8- أتى جابر بن عبد الله إلى رسول الله فعرف في وجهه الجوع. فرجع إلى منزله فذبح داجنًا كانت عندهم وطبخها وثرد تحتها في جفنة وحملها إلى رسول الله. فأمره أن يدعو له الأنصار فأدخلهم عليه أرسالا. فأكلوا كلهم وبقي مثل ما كان، وكان رسول الله يأمرهم أن يأكلوا ولا يكسروا عظمًا. ثم إنه جمع العظام في وسط الجفنة فوضع عليها يده، ثم تكلم بكلام لا أسمعه إلا أني أرى شفتيه تتحرك، فإذا الشاة قد قامت تنفض أذنيها.

(1/210)

فقال: "خذ شاتك با جابر، بارك الله لك فيها". قال: فأخذتها ومضيت وإنها لتنازعني أذنها حتى أتيت البيت. فقالت لي المرأة: ما هذا يا جابر؟ فقلت: هذه والله شاتنا التي ذبحناها لرسول الله دعا الله فأحياها لنا. فقالت: أنا أشهد أنه رسول الله، أشهد أنه رسول الله، أشهد أنه رسول الله.

9- وحدث يوم أحد أن سالت عين قتادة بن النعمان على خده، فأخذها الرسول في كفه وأعادها إلى مقرها فاستمرت بحالها وبعدها.

وحدث يوم خيبر أن نفث في عيني علي وهو أرمد، ومسح رجل سلمة بن الأكوع بعد أن أصيبت، فبرئت الأعضاء المصابة جميعًا لساعتها.

من القرآن الكريم: نذكر هنا بعضًا مما اصطلحنا على تسميته بمعجزات الحوادث وجاء ذكرها في القرآن. ومن هذه المعجزات:

1- الإسراء والمعراج: وقد سجل القرآن حادث الإسراء في سورة عرفت باسمه تستفتح بالقول الكريم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] .

وقد حدث في صبيحة الإسراء أن صلى رسول الله الصبح ثم قال لابنة عمه: "يا أم هانئ، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين".

وقال الرسول لابنة عمه: "وأنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت".

فأشفقت عليه أم هانئ من تكذيب قومه وأخذت بثوبه قائلة: إني أذكرك الله أنك تأتي قومك يكذبونك وينكرون مقالتك فأخاف أن يسطوا بك، قالت: فضرب ثوبه من يدي ثم خرج إليهم فأتاهم وهم جلوس فأخبرهم ما أخبرني.

وقالت عائشة: لما أسري برسول الله إلى المسجد الأقصى، أصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر

(1/211)

فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أن أسري به الليلة إلى بيت المقدس. فقال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أفتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح. قال: نعم. إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء.

وتذكر كتب السيرة أن رسول الله التقى ليلة الإسراء بعدد من الأنبياء وخاصة أصحاب الرسالات الكبرى ومنهم موسى. وفي هذا تقول سورة السجدة 23- حسب رأي المفسريين1: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} . وهذا يعني -قياسًا- أن يلتقي محمد خاتم النبيين بكل من أوتي كتابًا من الأنبياء والمرسلين ومنهم إبراهيم2 وداود وعيسى. وهنا نذكر ميثاق الله مع النبيين في عالم الحقيقة: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 81-83] .

هذا عن حادث الإسراء، وأما حادث المعراج فقد سجلته سورة النجم في قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13-18] .

__________

1 تفسير ابن كثير.

2 يذكر القرآن الكريم صحف إبراهيم في قوله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18-19] وكذلك ما جاء في سورة: [النجم: 36-37] .

(1/212)

وهنا وقفة نستمع فيها إلى حديث يعتبر -في نظري- من أهم ما روته عائشة أم المؤمنين من أحاديث. ويروي هذا الحديث عنها مسروق قال: كنت متكئًا عند عائشة فقالت: ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم علي الله الفرية. قلت ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية.

قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني.

ألم يقل الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} 1، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} 2؟

فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنما هو جبريل. لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين. رأيته منهبطًا من السماء سادًا عظم خلقه ما بين السماء والأرض".

فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51] .

قالت: ومن زعم أن رسول الله كتم شيئًا من كتاب الله، فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] .

قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد، فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللَّهُ} [النمل: 65] 3.

__________

1 التكوير: 23.

2 النجم: 13.

3 اقرأ أيضًا قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الآية: 50] .

(1/213)

قالت: ولو كان محمد -صلى الله عليه وسلم- كاتمًا شيئًا مما أنزل عليه -لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] .

بقي أن نذكر عددًا من الملاحظات على معجزة الإسراء والمعراج:

1 كلتاهما آية من آيات الله جاءت للرسول شخصيًا، بدليل قوله عن الإسراء: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1] . وقوله عن المعراج: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] .

ولنا بعد ذلك أن نقول: إن الله -جلت حكمته- أراد أن يخفف من أحزان الرسول، ومعاناته بسبب تكذيب قومه إياه وإيذائه ومن اتبعه من المسلمين وما تعرضوا له من حرب نفسية واقتصادية وعذاب بدني، فكان الإسراء والمعراج حتى ترتفع نفس الرسول فوق تلك المحن والآلام، ومن ثم يستطيع أن يرفع معنويات أتباعه ويبث في أنفسهم الطمأنينية والثقة في خير العاقبة.

وكان الإسراء والمعراج تعليمًا للرسول وإطلاعًا له على الملكوت حتى ينبئ عن عوالم الغيب بحديث اليقين. فالقاعدة التي درج الناس عليها أن يكون مستوى المعلم أرقى من مستوى تلاميذه. وكذلك الأنبياء جاءوا معلمين للبشرية فلا شك أن مستواهم يجب أن يكون -وإنه لكذلك- أكبر وأرقى من مستوى الناس جميعًا.

2 والمسلم ملتزم بالإيمان بمعجزة الإسراء والمعراج لكونها مسجلة في القرآن على هذا النحو البين، ولا عليه بعد ذلك أن يذكر المنطق الرياضي الذي استخدمه أبو بكر في البرهنة على صدق الحادث، وذلك حين لجأ إلى باب القياس فقال: "إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء". وما يترتب على ذلك هو أن يصدق المؤمن -كل مؤمن- الرسول في كل ما يقول.

(1/214)

3 ليس عجيبًا أن يرتد نفر عن الإيمان بالرسول بعد حديث الإسراء، فتاريخ الرسالات الكبرى مليء بأمثال هؤلاء الذين بقيت نفوسهم تعاني من صغار عاقها عن الارتفاع إلى مستوى الأحداث، واستمرت تقيس الأمور بمقاييس قاصرة أو خاطئة أدى بها ذلك إلى الرسول والكفر برسالته.

لقد فعل بنو إسرائيل شيئًا من ذلك مع موسى -على الرغم من الآيات والأعاجيب التي صنعها في وسطهم- فبعد أن فك أسرهم من قبضة فرعون وطوف بهم في سيناء قاصدًا فلسطين يريد اقتحامها، تخاذلت الجماعة الإسرائيلية عندما علمت بقوة سكان الأرض "وبكى الشعب تلك الليلة وتذمر على موسى وعلى هارون جميع بني إسرائيل، وقال لهما كل الجماعة: ليتنا متنا في أرض مصر ... لماذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف ...

أليس خيرًا لنا أن نرجع إلى مصر. فقال بعضهم لبعض: نقيم رئيسًا ونرجع إلى مصر" "العدد 14: 1-4".

وبعد ذلك نظم لفيف من الإسرائيليين مقاومة لزعامة موسى تريد التمرد عليه والانتكاس في حركته التحريرية وتعمل من أجل العود لمصر وكان على قيادة هذه الحركة "قورح بن يصهار بن قهات لان لاوى، وداثان وابيرام ابنا اليآب ...

يقاومون موسى مع أناس من بني إسرائيل مائتين وخمسين رؤساء الجماعة مدعوين للاجتماع ذوي اسم. فاجتمعوا على موسى وهارون وقالوا لهما: كفاكما. إن كل الجماعة بأسرها مقدسة وفي وسطها الرب فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب.

فأرسل موسى ليدعو داثان وابيرام ابني اليآب فقالا: لا نصعد. أقليل أنك أصعدتنا من أرض تفيض لبنا وعسلًا "أرض مصر" لتميتنا في البرية حتى تترأس علينا ترؤسًا. كذلك لم تأت بنا إلى أرض تفيض لبنا وعسلًا. ولا أعطيتنا نصيب حقول وكروم. هل تقلع أعين هؤلاء القوم، لا نصعد" "العدد 16: 1-14".

(1/215)

وحدثت ردة لكثير من تلاميذ المسيح ومريديه حين سمعوا بعض أحاديثه.

وفي هذا يقول الإنجيل: "قال كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا أن هذا الكلام صعب: من يقدر أن يسمعه. فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا فقال لهم: أهذا يعثركم..!

من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه "ولم يبق معه إلا الاثنا عشر" فقال يسوع للاثنى عشر: ألعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا".

ولا ننسى ردة يهوذا الذي ائتمنه المسيح فجعله أمين سره وعينه أمينًا لصندوق الجماعة فقد "كان الصندوق عنده وكان يحمل ما يلقي فيه" "يوحنا 12: 6".

ثم تآمر على سيده، بيد أن خيانته ارتدت عليه فلقي جزاءه.

ليس عجيبًا -إذن- أن يرتد نفر عن الإيمان بالرسول في أعقاب حادث الإسراء الذي كان للرسول آية، وللمؤمنين به تمحيصا واختبارًا.

2- وحين هاجر الرسول برفقة صاحبه أبي بكر من مكة إلى المدينة كان اتجاههما في أول الرحلة إلى الجنوب -في طريق اليمن- حتى تضل قريش وهي تقتفي أثرهما، وكان غار ثور أول محطة لهما.

لكن ذلك لم يثن قريشا عن ابتعاث فتيانها في كل اتجاه يطلبون الرسول حيًا أو ميتًا، وكان منهم من اقترب من ذلك الغار وهناك لقوا راعيًا سألوه فكان جوابه: قد يكونان بالغار ... وآنذاك شعر أبو بكر بالخطر يطبق عليهما فتصبب عرقًا وقال للرسول: لو نظر أحدهم تحت قدمية لرآنا. فأجابه الرسول: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

لقد ذهب أحد القرشيين يتسلق إلى الغار، ثم ما لبث أن عاد أدراجه.

ولما سأله أصحابه عن سبب نكوصه قال: إن عليه العنكبوت من قبل ميلاد محمد، وحمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفت أنه ليس فيه أحد -وهناك ارتد فتيان قريش خائبين.

(1/216)

لقد قضي الله -جلت حكمته- أن يعصم محمدا من الناس ويحفظه حتى يكمل الرسالة فقام جند الله ينفذون المشيئة الإلهية {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] .

لقد عهد إلى الملائكة بإنجاح عملية الهجرة وتأمينها ضد كل محاولات الإحباط التي قد يقوم بها العدو، فنجحت العملية بأمر الله، سجل القرآن ذلك الحدث الخطير فقال مذكرًا المؤمنين: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] .

3- بعث رسول الله رجلًا يستدعى له طاغية من فراعين العرب، فقال الرجل: يا رسول الله، إنه أعتى من ذلك، قال: "اذهب فادعه لي".

فذهب الرجل إلى الطاغية وقال له: يدعوك رسول الله.

قال: وما الله؟ أمن ذهب هو أو من فضة أو من نحاس؟ فرجع الداعية إلى رسول الله وقال له: قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك فقال لي: كذا وكذا.

فقال رسول الله: "ارجع إليه الثانية فادعه". فعاد الداعية إلى الطاغية فأعاد عليه هذا مثل الكلام الأول.

وتكرر ذلك الموقف للمرة الثالثة والطاغية يرفض الحضور عند رسول الله ويجادل هزؤًا واستخفافًا، وبينما هو يتحدث إلى الداعية ويزيد في المراء جاءت إليه سحابة حيال رأسه، فرعدت ووقعت منها صاعقة ذهبت بقحف رأسه.

ونزل القرآن يقول: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13] .

4- كذلك تدخلت الملائكة في غزوة بدر التي كانت أول المعارك الحاسمة في تاريخ الإسلام وأعظمها خطرًا، وسجل القرآن ذلك الحادث الجليل فقال:

(1/217)

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 9-12] .

5- وكذلك تدخلت قوى عظمى في غزوة الأحزاب وكان للملائكة عمل حاسم نصر المسلمين آنذاك بعد موقفهم المتدهور. وفي هذ يقول القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} [الأحزاب: 9-11] .

{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] .

إن تدخل الملائكة وغيرها من القوى التي لم يتعود على إدراكها البشر يعني حدوث معجزة وآية عجيبة، وهذه جميعها مرادفات للقوة حسبمان اصطل عليها في الكتاب المقدس.

هذا ... وبعد أن عرضنا شيئًا من معجزات الحوادث باعتبارها عجائب أيد الله بها رسوله، ننتقل الآن للحديث عن المعجزة الخالدة: معجزة القرآن.

(1/218)

معجزة القرآن:

ماذ أقول في معجزة القرآن ...

هل يمكن أن يأتي الحديث عن الإعجاز القرآني مندرجًا تحت موضوع فرعي من جملة موضوعات يشتمل عليها واحد من فصول هذ الكتاب؟

كلا ... فالأمر أكبر من ذلك.

بيد أني سأحاول أن أقول كلمات متفرقات تشير إلى ملامح هذا البحر الزاخر، لعلها تعين على رسم صورة -ولو من بعيد- لحقيقة معجزة القرآن.

المعجزة وسيلة لا غاية.. هكذا يشهد تاريخ الرسالات.

فهي وسيلة تعين على الإيمان بالله ورسالاته حتى إذا آمن الناس التزموا بالمنهج الإلهي الذي يضمن لهم الخير في الدنيا والآخرة.

لقد كان عرب الجزيرة العربية قبل الإسلام على تلك الحال المعروفة وأقل ما يقال في أمرهم أنهم كانوا على هامش الحياة، فلما جاءهم القرآن وأسلموا لله وتمسكوا بمنهاجه، أحيا الله مواتهم فطلعوا على العالم بحضارة قوامها الدين والدنيا، وكان لهم من جماع الأمر ما أذهل العالم ولا يزال -حتى الآن.

يقول فيليب حتى: "لو قام في الثلث الأول من القرن السابع الميلادي أحد وتكهن بأن دولة خامدة الذكر وضيعة الجانب تخرج من مجاهل جزيرة العرب، ثم تنقض على الدولتين العظيمتين المعروفتين فتقوض الدولة الواحدة -دولة آل ساسان- وتظفر بأملاكها، ثم تقطع من ولايات الثانية -بيزنطة- أزهى مقاطعاته، نقول: لو صدرت مثل هذه النبوءة من فم إنسان ذلك العصر لحكم عليه بالجنون.

والواقع أن هذا ما حدث فعلًا. فبعد الرسول تغيرت طبيعة بلاد العرب الجدباء، وأخذت تنشئ رجالًا أبطالًا يندر وجود من يشاركهم في أي صقع

(1/219)

كان، فكأن أعجوبة حلت فيها.. إن عظمة الجيش العربي لم تقم على قوة السلاح أو جودة التنظيم، بل كان ثمرة القوة المعنوية الروحية التي كان الإيمان والدين قد عززاها في نفسه.

لقد جاء الإسلام مهيبًا بالشرق إلى النهوض من كبوته بعد ألف سنة اجتاحته فيها سطوة الغريب. ولقد انفتح أمام الأمم المغلوبة باب الحرية فصاروا يمارسون عقائد أديانهم دون إزعاج"1.

لقد أثبتت المعجزة نفسها ولم تعد في حاجة إلى برهان.

ومع ذلك سوف نتحدث عن شيء من أوجه الإعجاز القرآني.

معجزات يس:

نفرض أن العالم لم يعرف إلا كتابًا مقدسًا واحدًا جاء به من يقول للناس إنه رسول الله، فالناس المسؤلون أمامه صنفان: مؤمن به ومصدق له، أو كافر به ومكذب له. فإذا وجدنا طائفة من الناس تنتمي للصنف الأول فلا حاجة لهم إذن بالحديث عن معجزات النبي وكتابه فلقد آمنوا به وانتهى الأمر. وأما الصنف الثاني من الناس -وهم الكفار والمكذبون- فهؤلاء في موقف يقتضي بيان إعجاز الكتاب ومعجزات النبي حتى يكونوا على بينة من الأمر {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} 2، و {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 3. فالأمر جد خطير لأنه يتعلق بمصير الإنسان الأبدي.

ومما لا شك فيه أن هناك نوعا من المعجزات يجب تنحيته جانبًا عند البرهنة على أن هذا الكتاب أو ذاك إنما هو وحي الله الذي نزل من السماء، وأعني هنا

__________

1 تاريخ العرب -تأليف الدكتور فيليب حتى وآخرين "جامعة برنستون"- مترجم عن الإنجليزية، دار الكشاف -بيروت- 1949 ص193، 231.

2 الأنفال: 42.

3 النساء: 165.

(1/220)

ما اصطلحنا على تسميته بمعجزات الحوادث. وما ذلك إلا لكونها أحداثًا شغلت حيزًا من المكان والزمان وكانت حجة على مواقعيها ومن كانوا شهودًا لها، ثم انقضى أمرها وصارت ماض يستطيع العقل البشري في مختلف العصور اللاحقة لعصرها أن يثير حولها من الشبهات والأضاليل ما يجعلها حجر عثرة في طريق الإيمان، بدلًا من أن تكون وسيلة تعين عليه.

وننتقل من الإجمال إلى التفصيل فنفرض أنه التقى مجموعة من الداعين إلى أديانهم في حديقة عامة -ولتكن حديقة هايدبارك بلندن- ثم قام كل منهم يعرض على جمع من الملاحدة دينه معتمدا أولًا وأخيرا على معجزات الحوادث- فماذ يقولون؟

يقول اليهودي: منذ 33 قرنًا مضت وقف موسى وهارون أمام فرعون مصر "وطرح عصاه أمام فرعون وأمام عبيده فصارت ثعبانًا. فدعا فرعون أيضا الحكماء والسحرة.. طرحوا كل واحد عصاه فصارت العصى ثعابين ولكن عصا موسى ابتلعت عصيهم".

ومنذ 28 قرنًا أحيا إيليا ابن المرأة الأرملة حين صلى "إلى الرب وقال: يا رب إلهي لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه؟ فسمع الرب لصوت إيليا فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش".

إن دين اليهودية هو دين الله الحق!

ويقول المسيحي: منذ أكثر من 19 قرنًا قدموا للمسيح "مجانين كثيرين فأخرج الأرواح بكلمة وجميع المرضى شفاهم".

وجاءه "واحد من رؤساء المجمع اسمه بايروس ... قائلًا: ابنتي الصغيرة على آخر نسمة. ليتك تأتي وتضع يدك عليها لتشفى..فجاء إلى بيت رئيس المجمع.. وقال لهم: لم تمت الصبية لكنها نائمة.. وأمسك بيد الصبية وقال لها: طليثا قومي.. وللوقت قامت الصبية ومشت".

إن دين المسيحية هو دين الله الحق!

(1/221)

ويقول المسلم: منذ 14 قرنًا أصيبت عين قتادة بن النعمان في غزوة أحد فسالت حدقته فردها محمد رسول الله إلى موضعها، فكان قتادة لا يدري أيها أصيبت إذ قد شفيت عينه تمامًا.

وذبح جابر بن عبد الله داجنا كانت في منزله وطبخها ثم حملها إلى رسول الله فأمره أن يدعوا الأنصار فأدخلهم عليه أرسالًا فأكلوا كلهم، وكان رسول الله يأمرهم أن يأكلوا ولا يكسروا عظمًا. ثم إنه جمع العظام في وسط الجفنة فوضع يده عليها ثم تكلم بكلام خفيض فإذا الشاة قد قامت تنفض أذنيها. فقال الرسول: "خذ شاتك يا جابر، بارك الله لك فيها".

إن دين الإسلام هو دين الله الحق.

إذا حدث ذلك وقدم الداعون أديانهم إلى الناس اعتمادا على تلك الحوادث فما هي النتيجة؟ إن النتيجة المؤكدة لذلك هي الرفض: رفض الدعوة والاستماع للداعين.

والحق أن هذا المشهد الذي تصورناه قد حدث شيء منه أمام كاتب هذه السطور، وكان ذلك في يوم سبت من شتاء عام 1964 حين وقف قس مسيحي في أحد الشوارع القريبة من حديقة هايدبارك ومعه نسخة من الكتاب المقدس وسلم خشبي مزدوج اعتلاه وبدأ يقدم موعظة للسامعين تذكر بعض معجزات الحوادث وتردد أفكار بولس. فانبرى له من الحاضرين شاب إنجليزي جامعي، اشتبك معه في حوار ساخن وكان مما قاله الشاب: دع ما في الكتاب وحدثني عما تقدمه لي الآن.

إن ما في الكتاب شيء انتهى منذ زمان، أما اليوم فماذ تقول لي؟

وتدخل بعض الحاضرين في الحوار الذي لم يلبث أن تحول إلى معركة كلامية عنيفة بين البروتستانت والكاثوليك استخدمت فيها أقسى الشتائم والألفاظ الجارحة!

(1/222)

نعم ... إن الحديث عن معجزات الحوادث هو حديث عن الماضي الذي ولى وغاب، وهو حديث لا يقدم برهانا لإيمان المحدثين، لكنه يأتي نتيجة لإيمانهم الذي يبدأ حين يروا الآيات حاضرة بين أيديهم.

والآن ... ماذا نقرأ في القرآن الكريم:

يقول الحق تقريرًا عن الحاضر، الآن وكل آن:

{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6] .

ويقول الحق تقريرًا عن المستقبل وهو لم يزل بعد بظهر الغيب إلا أنه في زمن ما سيكون حاضرًا يعيشه الناس:

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] .

{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل: 93] .

وبين ياء المضارع في كلمة "يرى" وسين المستقبل في كلمتي "سنريهم" و"سيريكم" نشهد آيات الله رأي العين ونتيقنها ملء العقل والبصيرة. ومن حقنا الآن أن نقول: إن معجزات يس هي معجزات كل العصور ومن بينها العصر الحديث. ولا علينا بعد ذلك إذا كتبناها هكذا: معجزات يس ... ثم لننظر الآن بعضًا من هذه المعجزات التي نكتفي بذكر ثلاثة أوجه منها فقط يستطيع الإنسان مشاهدتها في القرآن الكريم وهي: الإعجاز العلمي -التحدث بالغيب- ثم القرآن والكتب المقدسة السابقة- وفيما يلي عرض مجمل لكل من هذه الوجوه.

(1/223)

1- الإعجاز العلمي في القرآن:

كلمة عن الإعجاز اللغوي: مضى أكثر من ألف عام والباحثون في إعجاز القرآن يرون له أوجهًا مختلفة، وإن كانت جميعها -في رأيي- جاءت نتيجة لنظرهم إليه من زاوية واحدة هي لغة القرآن وما تشتمل عليه من ألفاظ ومعان ونظم. فالقرآن كلام من جنس كلام العرب ولكن قوته الإلهية فعلت بهم الأعاجيب إذ أحيتهم بعد موات وأخرجتهم من ظلمات شتى إلى نور الحق والحياة.

وإذا كانت عصا موسى واحدة من أفرع شجرة زيتون أو رمان، قطعها يومًا ليتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، فإذا بها تتحول بعد الرسالة في يده إلى شيء آخر معجز: حية تسعى، وقوة تفلق البحر فتضرب به طريقًا يبسًا وتفجر من الحجارة أنهارًا -فهكذا يمكن القول عن كلام القرآن بأن إعجازه الحقيقي يكمن في فيضه الإلهي الذي غلب العرب على أمرهم -وهم أهل الكلام- فأخذهم بروعته وأصاب منهم لباب الأفئدة ومجامع الأحاسيس.

ولقد وفق قدامى الباحثين في بيان أوجه الإعجاز اللغوي للقرآن وكان من أمثلة ما قالوه في إعجاز نظمه ما عرضه عبد القاهرة الجرجاني -المتوفى عام 471هـ- في الآية رقم "100" من سورة الأنعام التي تقول: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} .

يقول عبد القاهر: "ليس بخاف أن لتقديم الشركاء حسنًا وروعة ومأخذًا في القلوب ... إنك لا تجد شيئًا منه إذا أخرت فقلت: وجعلوا الجن شركاء لله..

والسبب في ذلك.. هو أن للتقديم ها هنا فائدة شريفة ومعنى جليلًا لا سبيل إليه مع التأخير. وبيانه: إنا وإن كان نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجن شركاء وعبدوهم مع الله وكان هذا المعنى يحصل مع التأخر حصوله مع

(1/224)

التقديم، فإن تقديم "الشركاء" يفيد هذا المعنى ويفيد معنى آخر وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون له شريك.. لا من الجن ولا من غير الجن"1.

والذي لا جدال فيه هو أن روعة القرآن كانت هي القوة القاهرة التي غشيت من ألقي إليه السمع من العرب. فلم يلبث أن استجاب له وتحمل في سبيله كل أذى وضيق ... والحق يقول في سورة الأنعام 36: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} .

ولا تزال روعة القرآن إلى الآن هي سر إلهي -يماثل الروح في الجسد- يفيض على الباحثين عن الحق فيخرون {لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} 2. {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} 3.

يقول القس السابق إبراهيم خليل فيلبس الذي أعلن إسلام في عام 1955: "نصبت راعيًا وقسيسًا للكنيسة الإنجيلية بباقور محافظة أسيوط سنة 1952 في حفل رائع تحدثت عنه كل الصحف الدينية وقتئذ وذاع نشاطي الديني بين المرسلين الأمريكيين ولا سيما في العمل التبشيري بين المسلمين. وكنت أعتمد في هذا المضمار على النفوذ الإنجليزي بالبلاد وقتئذ "من سنة 1945-1955" حتى انتدبني سنودس النيل الإنجيلي للتدريس بكلية اللاهوت بأسيوط لكنيسة نهضة القداسة التابعة للإرسالية الإنجليزية الكندية.

ثم تهافتت علي الإرسالية الألمانية السويسرية بأسوان للعمل كسكرتير عام للإرسالية وتم انتدابي في سنة 1954 وهناك قمت بعمل تبشيري سافر في المنطقة من الدكا بأراضي النوبا إلى إدفو جنوبًا. وكان معقل نشاطي مستشفى الجرمانية حيث يتوافقد عدد من المسلمين والمسلمات للاستشفاء والعلاج.. كما

__________

1 دلائل الإعجاز: ص221.

2 الإسراء: 107.

3 الإسراء: 109.

(1/225)

كانت لي ندوات تبشيرية مع رجالات مسلمي أسوان. واستطعت أن أقوم بنهضات دينية رائعة دعوت لها كبار الشخصيات.

ومن العجب العجاب أنني في نشوة انتصاراتي بالعمل التبشيري وفي فترة إعداد نفسي لنيل درجة دكتوراة في الفسلفة واللاهوت من جامعة برنستون بأمريكا، وفي استعدادي وإعدادي للرسالة التي أسميتها "سيف جليات"1 أردت الهجوم على الإسلام بمهاجمة القرآن. ويشاء الله أن يقهرني بالقرآن الكريم ليسمعني صوته بقوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} 2.

كان لهذه الآية وقع في نفسي، إذ جعلتني أفكر تفكيرًا حرًا نزيها، وأحسست بأن الله الذي علمني ما لم أعلم يستطيع أن يجردني من العلم والمعرفة ويتركني للذل والهوان. لكن إرادته لهدايتي جعلته يفيض علي من أنوار هذه الآية ما أيقظ ذهني وقلبي ووجهني إلى إرادته ومشيئته.

والحق أن ما قرره القرآن الكريم هو الصدق اليقيني: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} 3.

{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} 4.

"الحمد لله الذي هداني لهذا، وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله"5.

إن روعة القرآن هي التي فعلت -ولا تزال تفعل الأعاجيب- ليس فقط بين الذين ورثوا العربية لسانًا يتحدثون به، بل أيضًا بين ذوي الألسنة الأعجمية -غير العربية- الذين إذا سمعوا القرآن يرتل أو يتغنى به، اطمأنت به قلوبهم

__________

1 التسمية مأخوذة من المعركة التي انتصر فيها النبي داود على جالوت.

2 الجن: 1-2.

3 الأنعام: 125.

4 الزمر: 22.

5 الاستشراق والتبشير وصلتهما بالإمبريالية العالمية -تأليف: إبراهيم خليل أحمد- ص14-15.

(1/226)

وجلسوا بين يديه خاشعين بعد أن شعروا أنه شفاء لما في صدروهم بصرف النظر عن أسباب تلك الحالة وتعلاتها.

الإعجاز العلمي ليس بمستحدث: من يقرأ قول الحق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12-14] .

ومن يقرأ قول الحق: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43] .

ومن يقرأ قول الحق: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 19-20] .

ثم أخيرًا -وليس آخرًا- من يقرأ قول الحق: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30] .

من يقرأ بعض أو كل هذه المجموعات الأربع من آيات القرآن الكريم -سواء أكان في عصر العلم الذي نعايشه، أو في العصر الذي سبقه منذ قرون -سوف يعلم يقينًا أنها تتحدث عن ظواهر كونية بلغة جديدة على أسماع العالمين.

لغلة العلم الحديث. لقد لاحظ شيوخ المفسرين منذ قرون عديدة وجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وسجلوا ذلك في كتبهم، ومن ذلك ما ذكره ابن كثير في تفسيره لقول الحق:

(1/227)

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] .

فقد قال ابن كثير: "سنظهر لهم" دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقًا منزلًا من عند الله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدلائل خارجية "في الآفاق" ودلائل في أنفسهم. ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى".

حين نقول -إذن- إن الإعجاز العلمي للقرآن يمس ما نعرفه من علوم حديثه بمسمياتها مثل علوم: الأجنة، والطبيعة الجوية، والجيولوجيا، ونشأة الكون، وبناء الخلية الحية -وهو ما تمثله المجموعات الأربع من الآيات السابق ذكرها على الترتيب، فإننا في الواقع لا نأتي بجديد من ناحية الشكل أو الإطار العام، وإنما الجديد هو المزيد من وضوح الرؤية وتعدد الآيات وتنوعها، ودقة التفاصيل.

وإذا كان لا يزال يوجد بيننا اليوم من كتاب المسلمين الذين يترددون في الحديث عن الإعجاز العلمي للقرآن اكتفاء بكونه معجزة أثبتت نفسها بما فعلت في العرب والعالم، فلا شك أن هذا الموقف الجامد لم يعد له ما يبرره بعد أن انفتحت أعين الكثير من العلماء -مسلمين وغير مسلمين- على حقائق من الإعجاز العلمي للقرآن.

منذ نحو خمسين عامًا مضت كتب شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي تقديمًا لكتاب "حياة محمد" لمؤلفه الدكتور محمد حسين هيكل وكان مما قاله:

"يقول بعض علماء الكلام إن الاطلاع على علم تشريح الأفلاك وعلم تشريح الإنسان يدل أوضح الدلالة على شمول العلم الإلهي لدقائق الوجود، وأنا أقرر أيضًا أن العلم والكشف عن سنن الوجود وعجائبه سيكون نصير الدين "الإسلامي" وسيقرب إلى العقل الإنساني طريق فهم ما كان

(1/228)

غامضًا مبهمًا، وما كان فوق طاقة العقل إدراكه من قبل مصداقًا لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1.

والكهرباء وما نشأ عنها من المخترعات قربت إلى العقل فهم إمكان تحول المادة إلى قوة وتحول القوة إلى مادة، وقد انتفع الدكتور هيكل بشيء من هذا في تقريب قصة الإسراء"2.

واليوم يكتب شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود مقالًا عن "موقف الإسلام من الفن والعلم والفسلفة" فيقول:

"قد يتساءل إنسان عن نوعية العلم الذي يدعو إليه الإسلام ...

إن العلم الذي يدعو إليه الإسلام هو العلم بالطبيعة والأحياء، والكيمياء، والطب وغير ذلك من العلوم المادية، وهو بالضرورة أيضًا علم الدين، من تفسير، وحديث، وفقه.. وإن الآية الكريمة: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 3 إنما وردت في معرض الحديث عن الكونيات المادية.

والله سبحانه وتعالى يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} وما من شك في أنه بمقدار تعمق الإنسان في الجانب العلمي على أساس من الإيمان وفي صدق وإخلاص تكون خشيته لله؛ إنه يرى من نواميس الكون، ومن الإتقان في الخلق، ومن الحكمة في التدبير ما يجعله يسجد لمبدع الكون ومنسقه.

وإن هؤلاء الذين يتصلون مثلًا بعلم التشريح من قرب أو يتخصصون فيه، يرون من الإحكام ومن الدقة الدقيقة في مختلف الأجهزة الجسمية، وفي

__________

1 فصلت: 53.

2 الطبعة الثالثة عشر: ص15-16 دار المعارف بمصر.

3 فاطر: 28.

(1/229)

مفردات هذه الأجهزة ما يضطرهم اضطرارًا إلى السجود لرب هذا التنسيق والترتيب والإبداع.

وليس علم التشريح وحده هو الذي يبهر العالم المتبحر فيه، وإنما يبهر علم الفلك العالم الفلكي.

إنه يرى هذه النجوم التي لا تكاد تعد تسير في هذه السعة الكونية الهائلة في ترتيب وتناسق وإحكام {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 1.

وعالم الأحياء وهو يتأمل عوالمه، ويفاجأ كل يوم بجديد وغريب وبديع فيها.

إن هؤلاء جميعًا وغيرهم يجدون أنفسهم لا محالة أمام صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعًا فيقولون مع القرآن الكريم: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ، الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} 2.

وصدق الله إذ يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 3.

لقد أحدث الإسلام في الدنيا -بموفقه هذا من العلم- نهضة علمية، كان من ثمارها الحضارة الإسلامية التي كانت تسمي البحوث في الطبيعة وفي الكون هذه التسمية الجميلة: "العلم بسنن الله الكونية". فعلم الطبيعة في الصورة الإسلامية هو العلم بسن الله الكونية"4.

__________

1 يس: 4.

2 الملك: 1-4.

3 فاطر: 28.

4 مجلة الأزهر: عدد رجب 1397هـ "يوليو 1977م".

(1/230)

إن حقيقة الإعجاز العلمي للقرآن لم تعد قضية تقبل الجدل فقد أقر بها شيوخ التفسير منذ قرون وحسمها شيوخ الأزهر في العصر الحديث. وشهد بها رجال العلم الحديث مسلمين وغير مسلمين.

من شهادات العلماء:

قام الطبيب الفرنسي، "موريس بوكاي" بعمل دراسة دقيقة وجادة في الكتب المقدسة والعلم، ونشرها بالفرنسية تحت عنوان:

La Bible, Le Coran etla Science.

وقد نشرت "دار المعارف" ترجمتها العربية تحت عنوان "دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة" وإذا كان جوهر هذه الدراسة ينحصر في مقابلة نصوص الكتاب المقدس -بعهديه القديم والجديد- والقرآن بحقائق العلم، فإن المؤلف قدم لدراسته هذه بالبحث في التوراة والإنجيل والقرآن ودراستها النقدية وكيفية جمعها ودرجات الدقة لنصوص كل منها.

وقد اضطره ذلك إلى تعلم اللغة العربية حتى يستطيع الحديث عن القرآن وتفسيراته حديث الواثق الذي ينهل من الأصل مباشرة، فيتجنب بذلك التفاوت والأخطاء التي قد تتعرض لها عملية الترجمة.

يقول "موريس بوكاي" في مقدمة كتابه:

"لقد كانت مقابلة نصوص الكتب المقدسة بحقائق العلوم موضوع تفكير الإنسان في كل العصور.

ففي البدء قيل إن اتفاق العلم والكتب المقدسة أمر لازم لصحة النصوص المقدسة.

وسوى نرى فيما بعد أن القرآن يثير وقائع ذات صفة علمية، وهي وقائع كثيرة جدا، خلافا لقلتها في التوراة، إذ ليس هناك أي وجه للمقارنة بين القليل جدًا لما أثارته التوراة من الأمور ذات الصفة العلمية، وبين تعدد وكثرة

(1/231)

الموضوعات ذات السمة العلمية في القرآن وأنه لا يتناقض موضوع ما من مواضيع القرآن العلمية مع وجهة النظر. وتلك هي النتيجة الأساسية التي تخرج بها دراستنا.

هذه التأملات حول الصفة المقبولة أو غير المقبولة علميًا لمقولة في كتاب مقدس تتطلب منا إيضاحا دقيقًا. إذ علينا أن نؤكد أننا عندما نتحدث هنا عن حقائق العلم فإننا نعني به كل ما قد ثبت منها بشكل نهائي؟ وأن هذا الاعتبار يقضي باستبعاد كل نظريات الشرح والتبرير التي قد تفيد في عصرنا لشرح ظاهرة ولكنها قد تلغي بعد ذلك تاركة المكان لنظريات أخرى أكثر ملاءمة للتطور العلمي. وإن ما أعنيه هنا هو تلك الأمور التي لا يمكن الرجوع عنها، والتي ثبتت بشكل كاف بحيث يمكن استخدامها دون خوف الوقوع في مخاطر الخطأ، حتى وإن يكن العلم قد أتى فيها بمعطيات غير كاملة تمامًا.

وعلى سبيل المثال فإننا نجهل التاريخ التقريبي لظهور الإنسان على الأرض، غير أنه قد اكتشفت آثار لأعمال بشرية نستطيع وضع تاريخها فيما قبل الألف العاشرة من التاريخ المسيحي دون أن يكون هناك أي مكان للشك. وعليه فإننا لا نستطيع علميًا قبول صحة نص سفر التكوين الذي يعطى إنسانًا. وتورايخ تحدد أصل الأنسان "خلق آدم" بحوالي 37 قرنًا قبل المسيح. وبناء على ذلك فإن معطيات التوراة الخاصة بقدم الإنسان غير صحيحة.

قد قمت أولًا بدراسة القرآن الكريم وذلك دون أي فكر مسبق وبموضوعية تامة. باحثًا عن درجة اتفاق نص القرآن ومعطيات العلم الحديث. وكنت أعرف قبل هذه الدراسة وعن طريق الترجمات أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة من الظاهرات الطبيعية، ولكن معرفتي كانت وجيزة، وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم الحديث"1.

__________

1 دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة: ص11-13.

(1/232)

بعد هذه المقدمة عرض "موريس بوكاي" لأصل الكتاب المقدس وأسفاره ومواقف الكتاب المسيحيين تجاه الأخطاء العلمية في نصوص العهد القديم ودراستها النقدية. ثم تعرض للأناجيل ومصاردها وما وصفه بـ "تناقضات وأمور غير معقولة في الروايات".

ثم تحدث عن القرآن وصحة النص وتاريخ تحريره وجمعه ومقابلة المعطيات القرآنية عن الخلق وعلم الفلك، وعالم النبات وعالم الحيوان، والتناسل الإنساني، ثم قام بموازنة بين القرآن وكل من الأناجيل والعهد القديم والمعارف الحديثة -ثم انتهى من بحثه الطويل هذا إلى خاتمة أثبت بها خلاصة ما انتهى إليه.

وفي بدء حديثه عن "القرآن والعلم الحديث" قال:

"لقد أثارت هذه الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن دهشتي العميقة في البداية. فلم أكن أعتقد قط بإمكان اكتشاف عدد كبير إلى هذا الحد من الدعاوى الخاصة بموضوعات شديدة التنوع، ومطابقة تمامًا للمعارف العلمية الحديثة، وذلك في نص كتب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا.

في البداية لم يكن لي أي إيمان بالإسلام. وقد طرقت دراسة هذه النصوص بروح متحررة من كل حكم مسبق وبموضوعية تامة. وإذا كان هناك تأثير ما قد مورس فهو بالتأكيد تأثير التعليم الذي تلقيته في شبابي حيث لم تكن الغالبية تتحدث عن المسلمين وإنما عن المحمديين لتأكيد الإشارة إلى أن المعني به دين أسسه رجل، وبالتالي فهو دين عديم القيمة تماما إزاء الله. وككثيرين كان يمكن أن أظل محتفظًا بتلك الأفكار الخاطئة عن الإسلام وهي على درجة من الانتشار بحيث إنني أدهش دائما حينما ألتقي خارج المتخصصين بمحدثين مستنيرين في هذه النقاط. أعترف إذن بأنني كنت جاهلًا قبل أن تعطى لي عن الإسلام صورة تختلف عن تلك التي تلقيناها في الغرب.

وعندما استطعت قياس المسافة التي تفصل واقع الإسلام عن الصورة التي اختلقناها عنه في بلادنا الغربية شعرت بالحاجة الملحة لتعلم اللغة العربية التي لم

(1/233)

أكن أعرفها وذلك حتى أكون قادرًا على التقدم في دراسة هذا الدين الذي يجهله الكثيرون. وكان هدفي الأول هو قراءة القرآن ودراسة نصه جملة بجملة مستعينًا بمختلف التعليقات اللازمة للدراسة النقدية، وتناولت القرآن منتبهًا بشكل خاص إلى الوصف الذي يعطيه عن حشد كبير من الظاهرات "الظواهر" الطبيعية.

لقد أذهلتني دقة بعض التفاصيل الخاصة بهذه "الظواهر" وهي تفاصيل لا يمكن أن تدرك إلا في النص الأصلي، أذهلتني مطابقتها للمفاهيم التي نملكها اليوم عن نفس هذه "الظواهر" والتي لم يكن ممكنًا لأي إنسان في عصر محمد أن يكون عنها أدنى فكرة.

إن أول ما يثير الدهشة في روح من يواجه مثل هذا النص لأول مرة هو ثراء الموضوعات المعالجة فهناك الخلق وعلم الفلك وعرض لبعض الموضوعات الخاصة بالأرض، وعالم الحيوان، وعالم النبات، والتناسل الإنساني.

وعلى حين نجد في التوراة أخطاء علمية ضخمة، لا نكتشف في القرآن أي خطأ"1.

ثم كان من جملة ما انتهى إليه "موريس بوكاي" في خاتمة بحثه أن قال: "إن القرآن وقد استأنف التنزيلين اللذين سبقاه، لا يخلو فقط من متناقضات الرواية وهي السمة البازة في مختلف صياغات الأناجيل، بل هو يظهر أيضًا -لكل من يشرع في دراسته بموضوعية وعلى ضوء العلوم- طابعه الخاص، وهو التوافق التام مع المعطيات العلمية الحديثة، بل أكثر من ذلك وكما أثبتنا، يكتشف القارئ فيه مقولات ذات طابع علمي من المستحيل تصور أن إنسانًا في عصر محمد -صلى الله عليه وسلم- قد استطاع أن يؤلفها، وعلى هذا فالمعارف العلمية الحديثة تسمح بفهم بعض الآيات القرآنية التي كانت بلا تفسير صحيح حتى الآن.

__________

1 المرجع السابق: ص144-145.

(1/234)

إن مقارنة عديد من روايات التوراة مع روايات نفس الموضوعات في القرآن تبرز الفروق الأساسية بين دعاوى التوراة غير المقبولة علميًا وبين مقولات القرآن التي تتوافق تمامًا مع المعطيات الحديثة، ولقد رأينا دليلًا على هذا من خلال روايتي الخلق والطوفان.

ولا يستطيع الإنسان تصور أن كثيرًا من المقولات ذات السمة العلمية كانت من تأليف بشر، وهذا بسبب حالة المعارف في عصر محمد -صلى الله عليه وسلم- لذا فمن المشروع تمامًا أن ينظر إلى القرآن على أنه تعبير الوحي من الله، وأن تعطى له مكانة خاصة جدًا حيث إن صحته أمر لا يمكن الشك فيه، وحيث إن احتواءه على المعطيات العلمية المدروسة في عصرنا تبدو وكأنها تتحدى أي تفسير وضعي.

عقيمة حقًا تلك المحاولات التي تسعى لإيجاد تفسير للقرآن بالاعتماد فقط على الاعتبارات المادية"1.

2- التحدي بالغيب:

الإيمان بناء أساسه الغيب:

لكنه بناء قوامه البرهان، وإلا تساوات المتضادات، فاستوى النور والظلمات، واستوى الأحياء والأموات ... وهذا محال.

فلم يشهد أحد من البشر خلق السموات والأرض، ولم يشهد بنو آدم خلق أنفسهم، لكن المؤمنين منهم يؤمنون بالغيب، فهم يؤمنون بقصة "الخلق" حسبما ترويها كتبهم المقدسة، وإن اختلفت بينها الروايات.

ولم يشهد أحد من الأجيال المتأخرة -التي بعد بها الزمان- الأنبياء والمرسلين وهم يلقون قول الله، ويبثون التعاليم، ويتحدثون إلى الناس عن

__________

1 المرجع السابق: ص285-286.

(1/235)

الملائكة والبعث والجزاء، لكن المؤمنين من الناس يؤمنون بالغيب، فهم يؤمنون بهم وبما أثر عنهم ويؤمنون بالملائكة والقيامة والثواب والعقاب.

وإذا تصور الإنسان أنه يستطيع الاستغناء عن معرفة الماضي بكل ما فيه، فلا مجال على الإطلاق لإمكانية استغنائه عن معرفة المستقبل الذي ينتظره بعد الموت. إنه المستقبل الغيب، وهو المستقبل الخطير الذي يحدد مصيره الأيدي.

ويقودنا هذا إلى التسليم بأنه: إن لم يكن الغيب أولًا، فإنه الغيب أخيرًا.

من ذلك نتبين خطورة حديث الغيب في الكتب المقدسة، واعتباره برهان صدق على ما يأتي به الزمان بشرط -واحد على الأقل- أن يصدق حديثها عن كل ماض سبق أن تنبأت بشأنه من أحداث.

وللغيب في القرآن مقامه الذي يحظى به، ويكفي أن ننظر أول المصحف فتطالعنا هذه الآيات:

{الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 1-5] .

ولحديث الغيب في القرآن آيات تغني كل من يقبل الإيمان القائم على برهان، وأما أولئك الذين حددوا مسبقًا مواقفهم منه، وأصروا على الجحود والنكران، فقد صاروا بإرادتهم الحرة هم {الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96-97] .

ففي قضية الإيمان يقول الحق: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] .

هذا.. ولسوف نعرض بعضا من أنباء غيب المستقبل الذي يتحدى به القرآن الكفار والجاحدين منذ نزل وحيًا على رسول الله حتى يأتي أخطر غيب في حياة البشر، ألا وهو يوم الدين.

(1/236)

التنبؤ بهزيمة الكفر:

منذ بدأ القرآن في التنزيل وهو في تحد مباشر لخصوم دين الله الذين أغلقوا عقولهم دونه وأعلنوا الحرب على أتباعه. ولما كان أشد خصومه هم سادة قريش وكبراءها وكان المسلمون الأوائل على قلة في العدد والقوة فكان المتوقع -وفق مقاييس البشر وخبراتهم- أن تكون أوائل آيات لينة مع أولئك الخصوم والمعاندين طالما بقي ميزان القوى في غير صالح المسلمين.

لكن الأمر جاء على عكس ما يتوقعه البشر من الحكماء والمفكرين ...

لقد بدأت آياته قوية الحملة على الكافرين واستمرت كذلك حتى اكتمل الدين.

إنها قوية لأنها الحق المطلق الذي لا يعرف في مواجهة الباطل ولو أقل القليل من المهادنة أو المداهنة.

وهي قوية أبدًا لأنها كلام الله رب العالمين ...

لقد تنبأ القرآن -في ثانية سوره نزولًا- بمقتل الزعيم القرشي الوليد بن المغيرة بضربة حدد موقعها على أنفه، وذلك بعد أن فضح أصله وكشف سرائر نفسه، فقال مخاطبًا الرسول:

{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ، وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 9-16] .

ثم مرت الأيام والشهور ونزل كلام الله يتوعد ذلك العتل القرشي بعذاب الآخرة الذي ينتظره جزاء موته على الكفر. وذلك بعد أن فضح خلجات نفسه وشكوكه وهواجسه بل وتقلصاته، فقال:

(1/237)

{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا، سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ، لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر: 11-29] .

ثم تمضي السنون.. ثلاث عشرة سنة أو نحوها وإذا بالوليد بن المغيرة يقتل في غزوة بدر بضربة على أنفه.

لقد زهقت نفسه كافرًا -كما تنبأ القرآن- خلال سنوات تم خلالها تحول الكثيرين من الكفر إلى الإسلام.

وبالمثل كانت نبوءة القرآن في أبي لهب -عم النبي- والذي كان من أشد الناس عداوة له وإيذاء، فنزلت فيه سادسة السور نزولًا تنبأ له بالعذاب جزاء كفره المستمر فتقول: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ، سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد] .

وكما هو معلوم فإن القرآن منذ بدأ تنزيله وآياته تذاع فور تلقيها، يقرؤه النبي على المؤمنين ويقرءونه جميعًا تعبدًا وتبركًا والتزامًا، فحين نزلت هذه السورة ذاع خبرها فورًا وكان أن سمعت بها أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب "فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر. فقالت: يا أبا بكر. هجانا صاحبك. فقال أبو بكر: لا ورب هذه البنية "المسجد". ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به".

والحق ما قاله أبو بكر، لأن الذي هجاها وتوعدها هي وزوجها أبا لهب إنما هو الله -سبحانه- ولو كانت الأمور تسير على هوى الرسول لآثر المهادنة ولين

(1/238)

الحديث في بدء الدعوة -على الأقل- والمسلمون آنذاك ضعاف، لكنه القرآن كلام رب العالمين فرض على الرسول فرضًا وما عليه إلا أن يصدع بما يؤمر لأنه ليس له من الأمر شيء إذ إن الأمر كله لله.

ولقد عاش أبو لهب بعد هذه النبوءة أكثر من ثلاثة عشر عامًا إلى أن مات على كفره. وكان باستطاعت أبي لهب وامرأته والوليد وأمثالهم أن يتظاهروا بالدخول في الإسلام كيدًا له وطعنًا في صدق محمد ورسالته، لكن هذا الأمر على بساطته استحال عليهم فعله تحقيقًا لنبؤات القرآن الكريم كلام رب العالمين.

وإذا تركنا التنبؤ بالأحداث على المستوى الفردي -وهو لا شك معجز ودقيق- لوجدنا القرآن ينبئ كذلك بالأحداث على المستوى الجماعي. فلقد قرر أن جمع الكافرين سيلقى الهزيمة في معركة ضد المسلمين يولى فيها الأدبار. وذلك حين قال عن الكفار وتوقعاتهم: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 44-45] .

إن القرآن يتنبأ هنا بما سوف يحدث لهم في الدنيا، لأن الآخرة لا مكان فيها لتولي الأدبار والفرار.

ولقد بين القرآن أن دحرهم في الآخرة شيء آخر ينتظرهم، وهو بطبيعة الحال أشد وأنكى. ولذلك أتبع آية النبوءة السابقة بقوله: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ، إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 46-48] .

لقد كان المسلمون حين نزلت آية النبوءة هذه على حال من الضعف الشديد، حال لا تسمح بتصور تحقيق أي انتصار على قوى الكفر التي تبطش بهم، وهي حال دفعت عمر بن الخطاب -الذي عرف

(1/239)

طيلة حياته بقوة البناء النفسي والبدني -لأن يقول: "أي جمع يهزم! أي جمع يغلب"!

وما هي إلا سنوات حتى كانت معركة بدر الكبرى، وفيها هزم جميع الكفار وولوا الأدبار.

التنبؤ بانتصار الإسلام:

إن التنبؤ بانتصار الإسلام مرادف تمامًا للتنبؤ بهزيمة الكفر فالنتيجة واحدة في الحالتين.

وإذا كان القرآن قد بدأ الحديث عن هزيمة الكفر قبل أن يبدأ الحديث عن انتصار الإسلام، فلأن ذلك يماثل مهاجمة الأعداء في عقر دارهم وإخراجهم منها أذلة وهم صاغرون.

وإذا كان القرآن قد بدأ بالتحدث على المستوى الفردي فلأن ذلك أشد وقعًا وأعمق أثرًا، إذ إنه يدفع رءوس الكفر إلى ضرورة المواجهة وقبول التحدي، وإلا انفضح أمرهم وانكشف ما هم فيه من زيف وضلال أمام الخصوم والأشياع -على السواء- فصاروا بذلك مثلًا للزعامة الكاذبة، وذلك خلافًا لحالة التحدي الجماعي التي قد يجد فيها الكثيرون فرصة للتقاعس عن المواجهة والقعود انتظارًا لما قد يحققه الغد من ظنون وأوهام.

هذا.. ولقد تنبأ القرآن بما سيكون عليه أمر النبي فألقى نبوءة صريحة تقطع بحفظه من كل محاولات الكفار لقتله والقضاء عليه -وذلك ما نجده في قول الله:

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] .

(1/240)

قالت عائشة: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحرس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} قالت: فأخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- رأسه من القبة وقال: "يا أيها الناس انصرفوا. فقد عصمنا الله عز وجل".

لقد اكتملت رسالة النبي في حياته ومات ميتة طبيعية على فراشه بين أهله وصحابته فتحققت بذلك نبوءة القرآن تمامًا.

وفي مجال التنبؤ بانتصار الإسلام ممثلًا في انتصار نبيه نقرأ قول الله: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15] .

ولقد قال ابن عباس -وأصحابه- في تفسير الآية: "من كان يظن أن لن ينصر الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة فليمدد بحبل إلى سماء بيته ثم ليختنق به" والمعنى: "أنه من كان يظن أن الله ليس بناصر محمدًا وكتابه ودينه فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه، فإن الله ناصره لا محالة".

إن الكلام واضح تمامًا فلقد تحقق نصر الله لرسوله في الدنيا، وهو برهان على نصره في الآخرة: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8] .

ولقد تنبأ القرآن بانتصار الإسلام ليكون دينًا عالميًا فقال متحديا أهل الكفر والشرك:

(1/241)

{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 8-9] .

إن الإسلام منذ ظهر وهو يمتد أبدًا. ويجب ألا نخلط بين الإسلام وما يتعاقب على المسلمين من أحوال القوة والضعف، فتلك أمور تتناسب طرديًا مع استمساكهم به أو ابتعادهم عنه. إن هذه مسلمات يعترف بها أعداء الإسلام.

يقول المستشرق الألماني "باول شمتز":

"بينما كان الغرب في القرون الماضية يحرز انتصارات سياسية في كل مكان في وسط إفريقيا، امتد -وما زال يمتد- فحيثما حل الإسلام ضاعت جهود المبشرين المسيحيين وفقدوا الأمل في تحويل روح وثنية إلى المسيحية.

فالإسلام في تماسكه وبساطته متفوق على المسيحية المبددة جهودها في نزاعات عقائدية وخلافات مذهبية تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم فيتعسر فهمها، وليس بالإمكان حل طلاسمها. ولا يغزو الإسلام هذه المناطق عن طريق دخول الناس فيه فرادى بل يحاول غزو القبيلة كلها كوحدة وطنية لأنه لا يوجد دين آخر غير الإسلام يربط الحياة السياسية والدينية ببعضها ويوحد بين الطبيعة الروحية والدنيوية في الفرد"1.

ويقول المفكر الإنجليزي "هيلبير بلوك":

"لا يساورني أدنى شك في أن الحضارة التي ترتبط أجزاؤها برباط متين وتتماسك أطرافها تمسكًا قويًا وتحمل في طياتها عقيدة مثل الإسلام لا ينتظرها مستقبل باهر فحسب بل ستكون أيضًا خطرًا على أعدائه. ومن الممكن أن يعارض المرء هذا الرأي بأن الإسلام فقد سيطرته على بعض الأشياء المادية وخاصة ما يتصل بالحرب "القوة العسكرية" فهو لم يلحق بالتقدم التكنولوجي

__________

1 الإسلام قوة الغد العالمية: ص319.

(1/242)

الحديث. إني لا أستطيع أن أدرك لماذا لم يعوض الشرق الإسلامي ما فاته في هذا الميدان؟ فلا تحتاج علوم الهندسة الحديثة إلى طبيعة عقلية خاصة، بل يتطلب الإلمام بها والتفوق فيها الخبرة وتوجيه الخبراء. لماذا لا يتعلم العالم الإسلامي ما تعلمناه في مجال التكنولوجيا، وفي مقابل هذا سوف يكون من الصعب علينا "نحن الغربيين" استعادة التعاليم الروحية التي فقدتها المسيحية بينما لم يزل الإسلام يحافظ عليها"1.

التنبؤ بانتصار الروم على الفرس:

بعث الله محمدًا برسالة الإسلام وهو في الأربعين من عمره ويقدر المؤرخون أن بدء الوحي كان حوالي عام 610م. وفي تلك الفترة كان عرب الجزيرة يعيشون على هامش الأحداث التي يصنعها ذلك الصراع الطويل بين القوتين العظميين في ذلك الزمان وهما الروم والفرس.

لقد كان صراعًا تميز بطول المعارك وشراستها وأدى إلى اضطراب الأحوال السياسية في منطقة الشرق الأدنى لمدة طويلة، ويقدم لنا المؤرخ الإنجليزي "ستيفن رنسيمان" صورة عن أحوال تلك الفترة من الصراع فيقول: "في سنة 602 استوى على السلطة الرومانية فوكاس قائد إحدى الكتائب الإمبراطورية واغتصب العرش الإمبراطوري وطفح عهده بالهمجية وانعدام الكفاية والاضطراب، فبينما عانت القسطنطينية عهد إرهاب، ساد بالأقاليم ما نشب من الفتن والحروب الداخلية بين أحزاب الملعب في المدن وبين المذاهب الدينية المتنازعة.

وفي سنة 610 أزاح فوكاس عن العرش نبيل شاب ينتمي إلى أصل أرمني هو هرقل ابن حاكم إفريقية.

وفي نفس السنة أتم كسرى الثاني ملك الفرس استعداداته الحربية لغزو الإمبراطورية "الرومانية" وتقطيع أوصالها. استمرت الحروب الفارسية تسع عشرة سنة على

__________

1 المرجع السابق: ص323.

(1/243)

أن الإمبراطورية ظلت اثنتي عشرة سنة تتخذ خطة الدفاع بينما احتل جيش فارسي بلاد الأناضول وقام جيش فارسي آخر بفتح الشام فسقطت في أيديهم أنطاكية سنة 611 ودمشق سنة 613، وفي ربيع سنة 614 دخل فلسطين القائد الفارسي شهرباراز فصار ينهب الأراضي ويحرق الكنائس أينما سار ولم يفلت من يده إلا كنيسة المهد في بيت لحم لما كان يعلو بابها من فسيفساء تمثل رسم صورة الحكماء القادمين من الشرق في أزياء فارسية، وفي 15 أبريل سنة 614 اقتحم شهرباراز بيت المقدس، واستعد البطريرك زكريا لتسليم المدينة ليتجنب سفك الدماء، غير أن السكان المسيحيين رفضوا الاستكانة إلى التسليم، وفي 5 مايو سنة 614 وبفضل مساعدة اليهود المقيمين داخل المدينة شق الفرس طريقهم إلى داخل المدينة فتلا ذلك من المناظر المريعة ما يجل عن الوصف، إذ صحب اشتعال النار بالكنائس والدور من حول المسيحين أن تعرضوا للقتل دون تمييز فقام العساكر بالإجهاز على بعضهم بينما زاد عدد الذين لقوا مصرعهم على أيدي اليهود. وبلغ عدد الذين تعرضوا للقتل نحو 60 ألفًا على ما جاء في بعض الروايات، وزاد على 35 ألفًا من جرى استرقاته وبيعه ...

وزحف الفرس على مصر بعد ثلاث سنوات "617م" وأضحوا سادتها في خلال سنة واحدة. وفي تلك الأثناء تقدمت جيوشهم شمالًا حتى بلغت البوسفور.

على أن سقوط بيت المقدس في أيدي الفرس كان صدمة عنيفة للعالم المسيحي. وما قام به اليهود من دور في ذلك لم يجر نسيانه أو اغتفاره، فاتخذت الحرب مع الفرس صفة الحرب المقدسة. فلما صار هرقل آخر الأمر سنة 622 قادرًا على أن يتخذ خطة الهجوم على العدو نذر نفسه وجيشه لله ومضى على أنه محارب مسيحي يقاتل قوى الظلمة "الشر".

واستطاع هرقل آخر الأمر برغم ما جرى من تقلبات عديدة في الأحداث وما اشتد من القلق واليأس في أوقات عديدة أن ينزل الهزيمة الساحقة بالفرس1.

__________

1 تاريخ الحروب الصليبية: الجزء الأول ص24-27.

(1/244)

وحين ننظر إلى ما كان عليه الحال عام 614 فإنا نجد النصر يسير في ركاب الفرس على حين تلحق بالروم الهزائم المتواليات. ولكن ذلك العام شهد نزول آيات من القرآن تقول: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 1-6] .

لقد حزن المسلمون لهزائم الروم لما شعروا به نحوهم من روابط القربى في الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين. على حين فرح المشركون بانتصار الفرس أو كما قال المستشرق الألماني "كارل بروكلمان": "هلل المكيون لهذه الانتصارت الفارسية ولكن محمدًا أعلن أتباعه أن الهزيمة لا بد أن تحل بالفرس في وقت قريب"1.

لقد كان النبي يعلن الناس من حوله بكل ما يقول القرآن فور تلقيه وهو هنا قد أعلنهم بنبوءة رد الكرة إلى الروم وتحقيق انتصارهم على الفرس.

ولقد استمرت الأمور تسير بعد نزول آية النبوءة هذه في غير صالح الروم إذ استولى الفرس على مصر في عام 618 كما هددوا القسطنطينية قلب الإمبراطورية.

ولكن ما إن جاء عام 622 حتى بدأ الموقف يتحول لصالح الروم "واتخذ هرقل خطة مهاجمة الفرس فقام بثلاث حملات باهرة في الإقليم الواقع من خلف جبال القوقاز"2 "ثم لم يلبث أن انتزع من كسرى ثمرات النصر الذي تم له وتعقبه حتى عاصمة ملكه.. من

__________

1 تاريخ الشعوب الإسلامية: ص90.

2 تاريخ الشعوب الإسلامية: ص90.

(1/245)

ذلك الحين والإمبراطورية الساسانية "الفارسية" تسير قدمًا نحو مصيرها النهائي المحتوم إلى الدمار"1.

لقد انتهت هزائم الروم أمام الفرس وبدأ انتصارهم ولم يمض على نزول آية النبوءة بضع سنين -وهو العدد أقل من عشرة- واستمر الموقف كذلك حتى استرد الروم كل ما فقدوه.

لقد كانت هذه الآية برهانًا لمن هو في ريب من القرآن على صدق تنزيله، فمن المحال على بشر عاقل أن يربط مصير دعوته بصراع متقلب الأحداث والمفاجآت كصراع الروم والفرس، فما كانت هذه النبوءة إلا تنزيلًا ممن {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 63] .

أما بعد ...

إن أمر الغيب كان -ولا يزال- من أخطر ما يحدد حقيقة التنزيل في الكتب المقدسة ولقد كان من جراء فشل بعض التنبؤات المنسوبة للمسيح أن نسب جماعة من علماء المسيحية الخطأ إليه، وكان الأحرى بهم أن ينسبوه إلى كتبة الأناجيل.

ذلك أن الأناجيل تتنبأ بنهاية العالم وعودة المسيح ثانية إلى الأرض في القرن الأول من الميلاد.

"ورغم أن إنجيل متى هو أحد كتب العهد الجديد الذي ذكر بوضوح حدوث النهاية السريعة للعالم فإننا في الواقع نجد أن أغلب كتاب العهد الجديد قد عبروا عن هذه العقيدة.

وفي اعتقاد كثير من العلماء أن يسوع نفسه كان يتطلع إلى عودته سريعًا إلى الأرض بعد وفاته في مجد وبهاء"2.

__________

1 موسوعة تاريخ العالم: جزء 20- ص478.

2 المسيح في مصادر العقائد المسيحية: ص23.

(1/246)

لقد وقف كفار قريش يعاندون رسول الله فقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 90-93] .

لقد كانوا يطلبون المعجزات المادية -معجزات الحوادث- لا رغبة في البرهان على صدق الرسالة -فقد علموا صدق الرسول- ولكنه العناد والتعجيز.

وأمثال هؤلاء {لَا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ} [يونس: 96-97] .

فلقد سبق أن جاءت ثمود الناقة وقال لهم نبيهم صالح: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [الشعراء: 155-158] .

وإذا كان هذا موقف سالفيهم من العرب، فإنه كذلك موقف سالفيهم من الإسرائيليين الذين وقفوا يعاندون المسيح وقد جاءهم بمعجزات الحوادث فكذبوه وقالوا إنه ساحر يستخدم قوى الشياطين: "فقد "أحضر إليه مجنون أعمى وأخرس فشفاه حتى إن الأعمى الأخرس تكلم وأبصر، فبهت كل الجموع وقالوا: لعل هذا هو ابن داود. أما الفريسيون فلما سمعوا قالوا: هذا لا يخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين" "متى 12: 22-24".

ومن يتصفح التاريخ يجد سنة الله قائمة في إنزل العذاب بمكذبي معجزات الحوادث في الدنيا قبل الآخرة.

فلقد حدث ذلك لثمود إذ جعلهم الله عبرة وقال فيهم: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 51-52] .

(1/247)

وحدث ذلك لبني إسرائيل بعد أن عبدوا العجل في سيناء فقد قال لهم: "الرب إله إسرائيل.. ضعوا كل واحد سفيه على فخذه.. واقتلوا كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه وكل واحد قريبه ... ووقع من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل.. فضرب الرب الشعب لأنهم صنعوا العجل الذي صنعه هارون" "؟! " "خروج 32: 27-35".

وحدث ذلك لبني إسرائيل بعد ذلك مرات ومرات، وحدث لذريتهم بعد أن كذبوا المسيح وتآمروا عليه فما هي إلا فترة وجيزة حتى انقض عليهم الرومان فقتلوا الآلاف وهدموا الهيكل وشردوا الباقين. تلك سنة الله التي أفهمها من قول الحق: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا، سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 76-77] .

هذا ... ولما كان محمد رسول الله إلى العالمين فقد اقتضت حكمة الله أن تكون معجزته هي القرآن، كتاب هو منهج الله وهو في ذات الوقت يشتمل على آيات الله التي تستطيع البشرية في نضجها وترقيها أن تجدها ماثلة أمامها، فتستوعبها وتؤمن بها.

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] .

لقد اتسع مجال الرسالة من القبلية المحدودة إلى العالمية، فتغيرت لذلك آيات صدق الرسول من معجزات مادية لم تلبث أن طواها الزمان، إلى آيات قرآنية يتجدد الإيمان بها كلما تقدمت السنون ومرت الأعوام.

وأمر الغيب في القرآن برهان صدق ويقين، يستطيع كل عاقل أن يستخلص منه بديهية تماثل تلك البديهيات التي تقوم عليها العلوم الرياضية والطبيعية، بديهية تقول: إن من صدقك الحديث بالأمس سوف يصدقك غدًا.. ونقيض ذلك مفهوم ومعلوم..

(1/248)

ومن أجل ذلك نقرأ في القرآن: {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 20] .

3- القرآن والكتب المقدسة السابقة:

لا يكتمل إيمام المسلم إلا إذا آمن بوحي الله وكتبه التي سبقت القرآن وقد ذكرها إجمالًا في قوله:

{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 84] .

{وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى: 15] .

وبذلك كان المسلمون هم الطائفة الوحيدة على ظهر الأرض التي تؤمن بكل كتب الله المنزلة، وقد سجل القرآن ذلك في قوله: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: 119] .

ثم ذكر القرآن بعضًا من هذه الكتب تحديدًا كما جاء في حديثه عن صحف إبراهيم:

{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 14-19] .

وتحدث القرآن عما أوتيه داود فقال: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النساء: 163] .

(1/249)

على أن ما يعنينا في هذا المقام هو موقف القرآن من الأسفار اليهودية والمسيحية، والتي تتكون بوجه عام1 من التوراة وتعرف باسم أسفار موسى الخمسة، ثم أسفار الأنبياء الذين ظهروا في بني إسرائيل من بعد موسى حتى عصر الميلاد. وأخيرًا إنجيل المسيح.

موقف محدد:

لقد جاء القرآن واضحًا في موقفه تجاه هذه الأسفار وحفظتها من الأحبار والعلماء فذكر عددًا من الأساسيات منها:

1- تعرضت الأسفار اليهودية والمسيحية للفقد والضياع بسبب التفريط في التحفظ عليها وحفظ ما فيها فصارت تلك المفقودات نسيًا منسيًا:

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ، فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 12-14] .

__________

1 يرفض اليهود الأسفار المسيحية كلها كما يختلف اليهود والمسيحيون على الأسفار المقدسة والمشتركة بينهم. راجع كتاب المؤلف: المسيح في مصادر العقائد المسيحية.

(1/250)

2- قام على أمر هذه الكتب طائفة من الأحبار والكهنة والكتبة وجد بينهم:

"أ" الذين يحرفون كلام الله بتغييره وتبديله وعدم الحفاظ على صورته الأصلية: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] .

"ب" الذين يضيفون إلى كلام الله وينقصون منه ما شاءت لهم أهواؤهم ثم يدعون أن ذلك وحي الله:

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 78-80] .

{انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 50] .

{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] .

"جـ" ولقد درج كثير منهم ممن عهد إليهم بالحفاظ على كتب الله من الكتبة والرؤساء الدينيين على كتمان الحق الذي لا يتفق وأهواءهم:

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] .

(1/251)

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 174-176] .

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] .

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71] .

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15-16] .

ولقد ترتب على تلك المواقف الخطرة من أهل الكتاب أن صارت هذه الأسفار تشتمل على بقية من حق أنزله الله، كما اشتملت على غير الحق الذي أشاع فيها التناقض والاختلاف.

على أن القرآن قد فرق بين الأخيار والأشرار من أهل الكتاب وأعطى كلًا قدره، فهو قد أثنى على أهل الخير منهم أطيب ثناء ووعدهم حسن المآب.

{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 113-115] .

(1/252)

{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 199] .

كذلك فإن القرآن حمل بشدة على الأشرار من أهل الكتاب وتوعدهم سوء المنقلب: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150-151] .

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] .

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] .

ونستطيع الآن تقرير ما يمكن استخلاصه من موقف القرآن من الأسفار اليهودية والمسيحية -أي الكتاب المقدس- فنقول: إن هذه الأسفار بها بقية مما أنزله الله، كما أنها فقدت قدرًا من الحقائق عندما ضاع منها حظ من التنزيل الإلهي، وهي تضم بين جنباتها اختلافًا كثيرًا بسبب ما صنعته بها أيدي البشر الذين استحفظوا عليها وقاموا على أمرها.

مجمل دراسات الكتاب المقدس:

تعرضت أسفار الكتاب المقدس لدراسات مستفيضة خلال القرون الأخيرة شارك فيها عدد كبير من علماء اليهودية والمسيحية، وقد انتهت دراستهم إلى

(1/253)

تقارير ونتائج محددة ليس هذا مجال عرضها ولكن يكفينا هنا أن نلم بشيء من خطوطها العامة ثم نقارن بينها وبين ما يستخلص من موقف القرآن من هذه الأسفار.

ولسوف نعرض لمجمل دراسات الكتاب المقدس من زاويتين أساسيتين؛ الأولى: عرض لبعض ما قاله العلماء عن أسفاره، والثانية: نظرة في أسفاره يستطيع بها القارئ العادي أن يلمس بنفسه حقيقة هذه الأسفار.

أولًا -أسفار العهد القديم:

"أ" حديث عن أسفار العهد القديم:

1- تقول دائرة المعارف الأمريكية: "لقد كان هناك نشاط أدبي بين الإسرائيليين في عهد مبكر فسجلوا تقاليدهم القبلية وقوانين الجماعة الإسرائيلية، وهذا بجانب الأغاني الشعبية وترانيم العبادة وما ينطق به الكهنة والأنبياء من كهانة ووحي.. وبعد أن استقرت حياة الطائفة الإسرائيلية بدأت تظهر بالتدريج وعن غير قصد عناصر من هذه الآداب، اعتبرتها الطائفة ركائز لحياتها العقائدية.

وبهذا أعطيت هذه العناصر وقارًا خاصا تفردت به وتحولت بذلك إلى كتابات مقدسة. ولا شك أن الكتاب الأصليين لهذه الكتب لم يدر بخلدهم أن ما كتبوه وسجلوه سيكون له مثل هذه القداسة في حياة الطائفة الإسرائيلية، في يوم من الأيام"1.

2- "وقد اكتسب كل من الأجزاء الرئيسية للعهد القديم صبغته القانونية على مدى قرون طويلة بيانها كالآتي:

__________

1 دائرة المعارف الأمريكية: الجزء الثالث ص613.

(1/254)

"اكتمل للناموس "أسفار موسى الخمسة" شرعيته حوالي عام 400ق. م -والأنبياء "يشوع - صموئيل - أشعياء - أرميا.. ملاخي" حوالي عام 200 ق. م- وأما الكتب "المزامير - الأمثال - أيوب - دانيال.. أخبار الأيام" فكانت حوالي عام 90 ميلادية"1.

هذا.. وإذا كانت تواريخ تلقي موسى للتوراة تتراوح بين عامي 1290، 1250 ق. م صار من الواضح أن أسفار "الناموس" التي وصلتنا قد استغرقت أكثر من ثمانية قرون حين اكتمل بناؤها وأخذت صورتها القانونية.

ولا يختلف الحال كثيرًا بالنسبة لأسفار "الأنبياء و"الكتب" فكليهما استغرق قرونًا عدة ليكتسب قانونيته.

3- "يعتبر العهد القديم كتابًا غير متجانس، إذ إنه مجموعة من الوثائق تكونت خلاق فترة تزيد على الألف عام بواسطة رجال لهم تراث لغوي متعدد.

ولم تصلنا أية نسخة بخط المؤلف الأصلي لكتب العهد القديم، أما النصوص التي بين أيدينا فقد نقلتها إلينا أجيال عديدة من الكتبة والنساخ، ولدينا شواهد وفيرة تبين أن الكتبة قد غيروا بقصد أو بدون قصد في الوثائق والأسفار التي كان عملهم الرئيسي هو كتابتها ونقلها..

وقد حدث التغيير بدون قصد حين أخطئوا في قراءة أو سمع بعض الكلمات أو في هجائها، أو أخطئوا في التفريق بين ما يجب فصله من الكلمات وما يجب أن يكون تركيبًا واحدًا. كذلك فإنهم كانوا ينسخون الكملة أو السطر مرتين، وأحيانًا ينسون كتابة كلمات بل فقرات بأكملها، وأما تغييرهم في النص الأصلي عن قصد فقد مارسوه مع فقرات بأكملها. حين كانوا يتصورونها قد كتبت خطأ في صورتها التي بين أيديهم، كما كانوا يحذفون بعض الكلمات أو الفقرات أو يزيدون على النص فيضيفون فقرات توضيحية ...

__________

1 المرجع السابق: ص623.

(1/255)

ولا يوجد سبب يدعو للافتراض بأن وثائق العهد القديم لم تتعرض للأنواع العادية من الفساد النسخي على الأقل في الفترة التي سبقت اعتبارها أسفارًا مقدسة.

ولقد نشأ بين اليهود طائفة خصصت نفسها لرعاية هذه الوثائق عرفت بالكتبة كما يشير إلى ذلك سفر عزرا ... وقد سميت هذه الطائفة أخيرًا بالأسفاريين ولم يكن عملها مقصورًا على النسخ، بل كانوا حفاظًا على الوثائق ومترجمين لها، بل ومؤلفين بكل معنى الكلمة.

وكان من نتيجة عملهم أن أخذ النص صورته القانوية ليترجم بعد ذلك إلى اللغات الأخرى.

وحين زاد الاحترام للأسفار فإن جماعة الأسفاريين قد أدخلت على النص بعض التغييرات التي تبجل اسم إله إسرائيل، أو تشوه أسماء معبودات الوثنيين.

كما كانوا ينقحون فقرات بدت لهم غير مفهومة وأحيانًا يستخدمون أحدث ما صارت إليه اللغة بدلًا من اللغة القديمة، فكل هذا ظاهر لدينا في النص الذي نقلوه لنا"1.

4- يشير العهد القديم الذي نعرفه اليوم إلى كتب وأسفار أخرى غير موجودة الآن وتشير إليها أسفاره مثل: العدد 21: 14-15، يشوع 10: 13، صموئيل الثاني 1: 8 الملوك الأول 11: 41"2.

5- وتقول دائرة المعارف البريطانية: إن التقويم التاريخي لأحداث العهد القديم قد صار لاعتبارات كثيرة أمرًا غير موثوق فيه. فقبل قيام المملكة لم تكن الظروف تسمح بعمل تقويم تاريخي يعتمد عليه وفي

__________

1 المرجع السابق: ص615-618.

2 المرجع السابق: ص619.

(1/256)

واقع الأمر فإن تاريخ الأحداث القديمة قد أضيف بعد قرون عديدة من وقوعها ودرجة الدقة فيها مظهرية فقط.. وحتى بعد تكوين الممكلة فإن الأخطاء تسربت إلى الأرقام بحيث صار الخطأ في تواريخ الأحدث نحو بضع عشرات من السنين.

فالتقويم التاريخي لأحداث الفترة القديمة التي تبدأ من خلق الإنسان حتى خروج بني إسرائيل من مصر يعتمد على ما يعرف باسم روايات الكهنة لأسفار موسى الخمسة. إن الأرقام هنا في الغالب -إن لم تكن دائمًا- إنما هي أرقام مصطنعة. ومن الملاحظات البارزة في هذا المجال ما نجده في اختلاف الأرقام بين كل من النسختين السامرية والإغريقية وبين النسخة العبرية، وذلك بالنسبة للفترة من بدء الخلق حتى مولد إبراهيم إذ تنخفض الأرقام في النسخة السامرية بينما ترتفع في النسخة الإغريقية.

فالنسخة العبرية تقدر للفترة من بدء الخلق حتى الطوفان 1656 عامًا، بينما يبلغ تقديرها في النسخة السامرية 1307 عامًا، وفي النسخة الإغريقية 2262 عامًا.

كذلك تقدر النسخة العبرية للفترة من الطوفان حتى دعوة إبراهيم 365عامًا بينما هي في النسخة السامرية 1015 عامًا، وفي النسخة الإغريقية 1145 عامًا.

إن هذه الأرقام ترجع إلى أصول بابلية عديمة القيمة التاريخية وحتى لو أخذنا بوجهة النظر التي تقدر عام 1491 ق. م. تاريخًا لخروج الإسرائيليين من مصر -رغم أنه تاريخ مبكر أكثر من المحتمل- فإن تاريخ بدء الخليقة يرجع إلى عام 4157 ق. م حسب النسخة العبرية "وإلى عام 5328 ق. م حسب النسخة الإغريقية" كذلك تكون بلبلة ألسن البشر قد حدثت في بابل عام 2501 ق. م حسب النسخة العبرية "وفي عام 3066 ق. م حسب النسخة الإغريقية".

(1/257)

لكن الآثار القديمة للمصريين والبابليين تؤكد ظهور الإنسان على وجه الأرض لفترة طويلة من الزمن قبل أي من التاريخين المذكورين لبدء الخليقة. إن الأرقام المذكورة في الإصحاحين الخامس والحادي عشر من سفر التكوين، لا تبين سوى ما كان يتصوره كتبة الأسفار عن تواريخ تلك الأيام الغابرة"1.

"ب" نظرة في أسفار العهد القديم:

إن ما عرضناه حتى الآن يكفي للقول بأن أصدق ما يقال على الإطلاق في أسفار العهد القديم وحفظتها من أهل الكتاب هو ما ذكره القرآن في تعبيره الدقيق: {نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13] فلقد ظهر بوضوح كيف كان "نسيان" كتبة الأسفاربالمعنى الحرفي للكلمة، وكيف كان "نسيانهم" بمعانيها الأخرى التي تعني الإهمال في التحفظ والترك عمدًا أو سهوًا مما نتج عنه الفقد والضياع.

ونعرض الآن عددًا محدودًا لأمثلة بسيطة يدرك بها القارئ درجة الدقة في هذه الأسفار.

1- تقول التوراة: "مات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب. ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم" "تثنية 35: 5-6".

من المؤكد أن هذا القول لم يأت به موسى وحيًا من عند الله. إنما هو وصف من عمل الكهنة حسب تصورهم للأحداث بعد وقوعها بالكثير من عشرات السنين كما يدل عليها قولهم: "إلى هذا اليوم" إذ يعني هذا أن أجيال تعاقبت في الفترة من موت موسى حتى كتابة التوراة ولا يعرف أحد منها قبر موسى.

__________

1 دائرة المعارف البريطانية: الجزء الثالث ص510.

(1/258)

2- ظهرت بعض تراجم للعهد القديم عن العبرية القديمة من أهمها النسخة السبعينية الإغريقية والنسخة الأرامية والنسخة السوريانية والنسخة اللاتينية وتختلف هذه النسخ أحيانًا عن النسخة العبرية الحديثة، إلا أنه بمقارنة هذه النسخ معًا فإنه يمكن الوصول أحيانًا إلى النص العبري الأصلي كما يتضح من المثال الآتي:

"في سفر صموئيل الأول "14: 41" نجد أن فقرة طويلة قد سقطت من النسخة العبرية الحديثة على حين بقيت تلك الفقرة في النسختين السبعينية واللاتينية. والكلمات التي كتبت بالبنط الأسود هي التي فقدت من النص العبري:

وقال شاول للرب إله إسرائيل لماذ لم تجب عبدك اليوم. إذا كان الذنب في أو في يوناثان ابني، يارب إله إسرائيل أعط أوريم ولكن إذا كان الذنب في شعبك إسرائل أعط ثميم.

فأخذ يوناثان وشاول. أما الشعب فخرجوا".

ولمعرفة السبب الذي من أجله أسقط الكاتب العبري كل هذه الكلمات نقول إن عينيه لا بد قد قفزتا من كلمة: إسرايل، قرب أول الفقرة لكلمة: إسرائيل، قرب نهايتها، وكان من نتيجة ذلك أنه حذف تلقائيًا -دون أن يدري- الكلمات الواقعة بينهما"1.

وتقرأ هذه الفقرة في الترجمة العربية الشائعة كالآتي:

"فأخذ يوناثان وشاول أما الشعب فخرجوا".

ومن الواضح أن حذف تلك الكلمات قد أفقد الفقرة معناها.

3- يقول سفر صموئيل: "حمى غضب الرب على إسرائيل فأهاج عليهم داود قائلًا: امض وأحص إسرائيل ويهوذا.. فدفع يوآب جملة عدد الشعب إلى الملك فكان إسرائيل ثمانمائة ألف رجل ذي بأس مستل السيف. ورجال يهوذا حمسمائة ألف رجل"2 "صموئيل 24: 1-9".

__________

1 دائرة المعارف الأمريكية: ص622.

2 المرجع السابق.

(1/259)

لكن كاتب سفر أخبار الأيام لم تعجبه هذه الأعداد فكتب يقول:

"وقف الشيطان ضد إسرائيل وأغوى داود ليحصي إسرائيل.. فدفع يوآب جملة عدد الشعب إلى داود فكان كل إسرائيل ألف ألف ومائة ألف رجل مستلي السيف، ويهوذا أربعمائة وسبعين ألف رجل مستلي السيف، وأما لاو وبنيامين فلم يعدهم معهم" "أخبار الأيام الأول 21: 1-6".

فنجد أن الرواية الثانية قد زادت في التعداد بما يقرب من ثلث مليون وهو خطأ ينفي عن مثل هذا الكلام أي إمكانية لاعتباره وحيًا مقدسًا.

4- ويقول سفر الملوك: "في السنة الثالثة لآسا ملك يهوذا، ملك بعشا ابن أخيا علي جميع إسرائيل في ترصة أربعة وعشرين سنة" "الملوك الأول 15: 33".

وبعد أن "اضطجع بعشًا مع آبائه ودفن في ترصة وملك أيلة ابنه عوضًا عنه ...

وفي السنة السادسة والعشرين لآسا ملك يهوذا، ملك أيلة بن بعشا على إسرائيل في ترصة سنتين. فدخل زمرى وضربه فقتله في السنة السابعة والعشرين لآسا ملك يهوذا وملك ذلك عوضًا عنه" "الملوك الأول 16: 8-10".

ومن ذلك يتبين أنه في السنة السادسة والعشرين لآسا ملك يهوذا يكون بعشا ملك إسرائيل في عداد الأموات. وفي السنة السادسة والثلاثين لآسا يكون بعشا قد مضى على موته عشر سنوات.

لكن كتبة سفر أخبار الأيام نسوا ذلك فقالوا: "في السنة السادسة والثلاثين لملك آسا، صعد بعشا ملك إسرائيل على يهوذا وبنى الرامة لكيلا يدع أحدًا يخرج أو يدخل إلى آسا ملك يهوذا" "أخبار الأيام الثاني 16: 1".

(1/260)

وعلى ذلك تكون هذه الرواية قد وقعت في خطأ فاحش، إذ كيف يصعد بعشا ملك إسرائيل بعد موته بعشر سنين ليحارب آسا ملك يهوذا؟!

إن هذا قليل من كثير مما تحتويه أسفار العهد القديم. ولقد كان من نتاج فحص هذه الأسفار بواسطة علمائها أن وجدت الكنسية الكاثوليكية وهي التي تتمسك بشدة بعقيدة الإلهام واعتبار كل الكتاب موحى به من الله -أن عليها إصدار بيان يواجه مثل هذه الحقائق التي لم تعد تقبل المراء فيها. فلقد بحث المجمع المسكوني الثاني1 للفاتيكان "1962-1965" هذه المشكلة التي تتعلق بوجود أخطاء في بعض نصوص أسفار العهد القديم، وقدمت له خمس صيغ مقترحة استغرق بحثها ثلاث سنوات من الجدل والمناقشة وأخيرًا تم قبول صيغة حظيت بالأغلبية الساحقة إذ صوت إلى جانبها 2344 ضد 6 أصوات. وقد أدرجت الوثيقة المسكونية الرابعة عن "التنزيل" فقرة تختص بالعهد القديم "الفصل الرابع ص53" تشير إلى وجود شو ائب به، وإلى بطلان بعض النصوص وبشكل لا يسمح بأية معارضة.

وتقول هذه الفقرة ما نصه:

"بالنظر إلى الوضع الإنساني السابق على الخلاص الذي وضعه المسيح، تسمح أسفار العهد القديم للكل بمعرفة من هو الله ومن هو الإنسان بما لا تقل عن معرفة الطريقة التي يتصرف بها الله في عدله ورحمته مع الإنسان، غير أن هذه الكتب تحتوي على شوائب وشيء من البطلان، ومع ذلك ففيها شهادة عن تعليم إلهي"2.

إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: كم من المؤمنين بقداسة هذه الأسفار واعتبارها تعليمًا إلهيًا موحى به من الله. يعلم هذا الذي قررته الكنيسة الكاثوليكية بشأنها وما تحتويه من شوائب وبطلان؟

__________

1 عقد المجمع الأول في عام 1869.

2 دراسة الكتب المقدسة ص59-60.

(1/261)

ويتبع ذلك سؤال آخر: ثم ما هو موقف الذين علموا ذلك من هذه الأسفار؟

إن استقراء التاريخ يجعلنا نقرر أن هناك أناسًا عبر القرون وفي شتى بقاع الأرض وبمختلف الثقافات والأوضاع الدينية والفكرية والعلمية سوف يظلون يدافعون على ما توارثوه من معتقدات بصرف النظر عما لحق بها من شوائب وأباطيل ...

فإلى هؤلاء لا أملك إلا أن أردد ما قاله المسيح في الإنجيل:

"اذهبوا وتعلموا ما هو، إني أريد رحمة لا ذبيحة" "متى 9: 13".

ثانيًا -أسفار العهد الجديد:

"أ" حديث عن أسفار العهد الجديد:

سبق أن أصدرت كتابًا1 جمعت فيه خلاصة أبحاث علماء المسيحية ودراستهم لأسفار العهد الجديد. وكان يمكن الاكتفار بالإشارة إلى ما في ذلك الكتاب عند الحديث -الآن- عن هذه الأسفار. إلا أن احتمال عدم اطلاع بعض القراء على ذلك الكتاب يضطرني إلى اقتباس بعض منه نقلًا عن أقوال الثقات من علماء المسيحية:

1- "إن المسيحين الأوائل لم يكونوا يعتقدون أن كتبهم المقدسة تكون عهدًا جديدًا يتميز عن العهد القديم.. إن العهد الجديد كتاب غير متجانس ذلك أنه شتات مجمع فهو لا يمثل وجهة نظر واحدة تسوده من أوله إلى آخره لكنه في الواقع يمثل وجهات نظر مختلفة"2.

__________

1 المسيح في مصادر العقائد المسيحية.

2 المرجع السابق ص15.

(1/262)

2- "في فترة المائة وخمسين عامًا الأخيرة تحقق العلماء من أن الأناجيل الثلاثة الأولى "متى ومرقس ولوقا" تختلف عن الإنجيل الرابع "يوحنا" أسلوبًا ومضمونًا.

إن الاختلاف بينهم عظيم. لدرجة أنه لو قبلت الأناجيل المتشابهة "الثلاثة الأولى" باعتبارها صحيحة وموثوقًا بها، فإن ما يترتب على ذلك هو عدم صحة إنجيل يوحنا"1.

3- "ليس لدينا معرفة مؤكدة بالنسبة للكيفية التي تشكلت بموجبها قانونية الأناجيل الأربعة ولا بالمكان الذي تقرر فيه ذلك"2.

4- "لقد أسقط عدد كبير من الكتب المسيحية الأولى، من العهد الجديد القانوني وهذه تتكون أساسًا من الأناجيل المحذوفة مثل: أناجيل العبريين، والمصريين، وبطرس.. وأسفار رؤيا غير معترف بها مثل رؤيا بطرس، وراعي هرمس.. وخطابات الآباء والرسوليين.

على أن التاريخ المضبوط الذي تحددت فيه قانونية أسفار العهد الجديد غير مؤكد"3.

5- "إن النسخ الأصلية "الإغريقية" لكتب العهد الجديد فنيت منذ مدة طويلة.. وإن كل النسخ التي استخدمها المسيحيون في الفترة التي سبقت مجمع نيقية "عام 325م". قد غشيها نفس المصير. ومما يجب ذكره أنه حتى اختراع الطباعة لم يكن قد تم الوصول إلى اتفاق كامل في أي من نصوص العهد الجديد الإغريقية أو اللاتينية.

أما موقف الأناجيل فإن التغيرات الهامة قد حدثت عن قصد مثل إضافة أو إدخال فقرات بأكملها. وبالتأكيد فإن بعضًا منها قد استمد من مصدر خارجي.. إن نصوص جميع هذه المخطوطات "للعهد الجديد" تختلف

__________

1 المرجع السابق: ص17، 18، 29.

2 المرجع السابق: ص20.

3 المرجع السابق: ص40-41.

(1/263)

اختلافًا كبيرًا، ولا يمكننا الاعتقاد بأن أيا منها قد نجا من الخطأ. ومهما كان الناسخ حي الضمير فإنه ارتكب أخطاء وهذه الأخطاء بقيت في كل النسخ التي نقلت عن نسخته الأصلية.

إن أغلب النسخ الموجودة في جميع الأحجام تعرضت لتغييرات أخرى على أيدي المصححين الذين لم يكن عملهم دائمًا إعادة القراءة الصحيحة"1.

إن هذا القدر الضئيل يكفي للتذكير مرة ثانية بقول "الحق" في القرآن عن أسفار العهد الجديد وكاتبيها وكهانها ومن تابعهم في الأقوال والأفعال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 14] .

نعم ... لقد نسوا تمامًا بكل معاني الكلمة....

ولقد كان الجزاء أن أغرى الله {بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 64] .

وكان الثمن فادحا، دفعه هؤلاء النصارى -المسيحيون- وشاركهم فيه كثير من أبناء البشرية الذين ارتبطوا بهم، أو ربطهم المسيحيون بهم.

وتبلغ هذه العداوة والبغضاء بين الأمم النصرانية قمتها المأساوية في تلك الحروب المستعرة بينهما على مدى التاريخ، وآخرها في المدى القريب هذه الحروب العالمية: الأولى "1914-1918" والثانية "1939-1945".. والله أعلم بما سيأتي به الغد. وإذا كنا لا نستطيع القطع بوقوع الحرب العالمية الثالثة فمن المؤكد أن كلا المعسكرين: الشرقي الشيوعي، والغربي الرأسممالي يستعد لها ويجند في سبيلها الموارد والأموال والقوى البشرية الهائلة. وكل هذا تجسيد للعداوة والبغضاء بين أمم هذين المعسكرين، وجميعها أمم نصرانية.

__________

1 المرجع السابق ص35.

(1/264)

"ب" نظرة في أسفار العهد الجديد:

أصبح واضخًا تمامًا أن كتب العهد الجديد وخاصة الأناجيل تختلف فيما بينها اختلافًا كثيرًا يلحظه كل من تدبرها، وهو اختلاف يرجع أساسًا إلى اختلاف المصادر التي استقى منها مؤلفوها. وأولئك الذين قال عنهم لوقا -وهو واحد منهم- في مقدمة إنجيله: "إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا.. رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس. لتعرف صحة الكلام الذي علمت". ونسوق الآن عددًا محدودًا من أمثلة الاختلاف في أسفار العهد الجديد.

1- اختلف متى ولوقا في نسب المسيح وذلك حين قرر الأول أن يوسف رجل أمه مريم -الذي كانت تدعوه مريم أبا للمسيح كما في لوقا "2: 48"- ينحدر من نسل سليمان بن داود. "متى 1: 7-16".

بينما جعله الثاني ينحدر من نسل ناثان بن داود "لوقا 3: 23-31".

وذلك بجانب اختلافات أخرى ولقد بين "موريس بوكاي" هذا الخلاف نقلًا عن مصادر كاثوليكية، في كتابه "التوراة والعلم"1، كما بينته في كتابي "المسيح في مصادر العقائد المسيحية"2 وذلك نقلًا عن مصادر أغلبها بروتستانتية.

2- وإذا أخذنا بما ترويه الأناجيل عن الصلب وأحداثه لوجدناها قد اختلفت فيه من الألف إلى الياء.

__________

1 دراسة الكتبة المقدسة ص105-115.

2 انظر ص78-83.

(1/265)

ويكفي أن يراجع القارئ ما ذكرته الأناجيل عن: "حادث القبض وملابساته -المحاكمات- توقيت الصلب "اليوم والساعة" صرخة اليأس على الصليب -شهود الصلب- كل ذلك وغيره كثير، يكفي للقول بأن الأناجيل قد اختلفت فيما بينها اختلافًا بعيدًا وهو اختلاف يكفي لرفض ما يذكره أحد الأناجيل، إذا أخذنا برواية الأناجيل الأخرى.

أيها نأخذ به، وأيها نرفض؟

رب قارئ -درج على الإيمان التقليدي بما ترويه الأناجيل- لا يجد مفرًا من أن يقول: {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} 1 "الملك: 26".

3- وما تؤمن به المسيحية التقليدية من أن المسيح قد صلب ومات ووضع في قبر ثم قام من الأموات فإن حديث القيامة هذا بدأته مريم المجدلية "التي كان قد أخرج منها سبعة شياطين" "مرقس 16: 9" حين ذهبت وأخبرت بطرس بأن القبر خال من الجثة "فخرج بطرس والتلميذ الآخر "يوحنا" وأتيا إلى القبر ... ثم جاء سمعان بطرس يتبعه ودخل القبر. .. فحينئذ دخل أيضًا التلميذ الآخر.. ورأى فآمن لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات" "يوحنا20: 3-9".

من ذلك يؤكد إنجيل يوحنا أن بطرس رئيس التلاميذ -بالذات- كان يجهل أي حديث عن قيامة المسيح. بل إن إنجيل لوقا ليؤكد هذا الجهل للتلاميذ كلهم -وفيهم بطرس- الذي كان أكثرهم تعجبًا من حديث القيامة فيقول:

"رجعن من القبر وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله. وكانت مريم المجدلية ويوحنا ومريم أم يعقوب والباقيات معهن اللواتي قلن هذا للرسل.

فترائى كلامهن لهم كالهذيان ولم يصدقوهن. فقام بطرس وركض إلى القبر فانحنى ونظر الأكفان موضوعة وحدها فمضى متعجبًا في نفسه مما كان" "لوقا 24: 9-12".

__________

1 المسيح في مصادر العقائد المسيحية: ص179.

(1/266)

لكن أناجيل مرقس ومتى ولوقا تذكر لنا حديثا جرى بين المسيح وتلاميذه تنبأ فيه بقلته ثم قيامته من الأموات. فهي تقول:

"ابتدأ يعلمهم أن ابن الإنسان "المسيح" ينبغي أن يتألم كثيرًا ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة الكتبة ويقتل وبعد ثلاثة أيام يقوم.

وقال القول علانية.

فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره فالتفت وأبصر تلاميذه فانتهر بطرس قائلًا: اذهب عني يا شيطان لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس" "مرقس 8: 31-33، متى 16: 21-23، لوقا 9: 22".

إن رواية الحوار بين المسيح وتلاميذه على ضوء هذه الصورة تعني أن قيامة المسيح من الأموات أصبحت أمرًا مفروغًا منه وأنها واحدة من تعاليمه لتلاميذه مثلها مثل القتل. ذلك أن الأناجيل تذكر أن المسيح "قال القول علانية".

ولما راجعه فيه بطرس أمام التلاميذ ما كان من المسيح إلى أن أغلظ له القول ولقبه بالشيطان.

فإذا وجدنا بعد ذلك أن روايات القيامة التي جاءت بها مريم المجدلية كانت بالنسبة لبطرس، ورفاقه كلامًا "كالهذيان" لا يمكن تصديقه، فإن النتيجة التي لا مفر من التسليم بها هي: أن ذلك الحوار الذي قيل إنه جرى بين المسيح وتلاميذه، والذي تنبأ فيه بقتله ثم قيامته لم يحدث على الإطلاق، وأن ما نجده عن ذلك الحوار في الأناجيل لا يعدو أن يكون إضافات أدخلت إليها فيما بعد"1.

__________

1 راجع كتاب: المسيح في مصادر العقائد المسيحية -الباب الرابع.

(1/267)

4- ومما لا شك فيه أن بولس هو مبشر المسيحية الأول بصورتها الراهنة، وإليه ينسب نصف أسفار العهد الجديد وهو لم يكن قط من تلاميذ المسيح ولم يحظ برؤيته والحديث إليه ولو مرة واحدة في حياته. لكن ما اشتهر به بولس شيئان: الأول -أنه كان من أشد اليهود عداوة للمسيحية والمسيحيين، عداوة بلغت حد القتل. وفي هذا يقول سفر أعمال الرسل عن بولس "شاول":

"أما شاول فكان لم يزل ينفث تهددًا وقتلًا على تلاميذ الرب. فتقدم إلى رئيس الكهنة وطلب منه رسائل إلى دمشق إلى الجماعات حتى إذا وجد أناسًا من الطريق رجالًا أو نساء يسوقهم موثقين إلى أورشيلم" "أعمال الرسل 9: 1-2".

وأما الثاني -فهو أن بولس أعلن فجاة سماعه لصوت المسيح من السماء أثناء ذهابه إلى دمشق ومن تلك الساعة تحول إلى المسيحية وصار أكبر دعاتها لكن قصة بولس مع صوت المسيح يحكيها سفر أعمال الرسل بصورتين متناقضتين تمامًا بالنسبة للمسافرين مع بولس وقيل إنهم كانوا شهودًا لتلك الحادثة. فهو يقول عنهم في الأولى:

وأما الرجال المسافرون معه فوقفوا صامتين يسمعون الصوت ولا ينظرون أحدًا" "9: 3-6".

أما الرواية الثانية التي قصها ذات السفر فإنها تقول على لسان بولس:

"والذين كانوا معي نظروا النور وارتعبوا ولكنهم لم يسمعوا صوت الذي كلمني" "22: 6-9".

فعلى حسب الرواية الأولى نجد شهود بولس: سمعوا ولم يروا وعلى حسب الرواية الثانية فإنهم: رأوا ولم يسمعوا....؟

(1/268)

إن التناقض واضح لا يحتاج إلى تعليق.

لقد كان تلاميذ المسيح على حق حين شكوا في بولس، إذ "لما جاء شاول إلى أورشليم حاول أن يلتصق بالتلاميذ وكان الجميع يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ" "أعمال الرسل: 9: 36".

حقًا يقول القرآن أفضل ما قيل في هذا المقام. وقل في الحديث، ودل على الحقيقة:

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] .

(1/269)

خلاصة الموقف مع الكتاب المقدس:

1- تمهيد:

نزل القرآن على رسول الله في أمة أمية فتعلم منه المسلمون الأوائل "نبأ ما قبلهم، وخبر ما بعدهم، وحكم ما بينهم"، ولقد كان حب الاستطلاع دافعًا للبعض منهم أن يسأل أهل الكتاب من اليهود والنصارى عما في كتبهم فقام ابن عباس -وقد استيقن من القرآن حقيقة ما جرى لأسفار السابقين- وقال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحدث، تقرءونه محضًا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا.

2- تقرير الحقيقة:

في حملة من أهل الكتاب للغو في القرآن قال أبو هريرة: كان أهل الكتاب يقرءون التوارة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، وهنا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولا قرر به الحقيقة واضحة وضوح شمس الصحراء في رابعة النهار- إذ قال: "لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل الله".

إن هذا يعني أن تلك الأسفار التي في حوزة أهل الكتاب فيها: ما يمتنع تصديقه وفيها ما يمتنع تكذيبه، فالأول قد جافى الحقيقية وتلبس بغيرها، وأما الثاني فقد قال حقًا ونطق صدقًا.

3- شهود من أهله:

ظهر الإسلام دينا شامخًا، واكتمل بناؤه في حياة رسول الله واستمر نفوذه فعالًا عبر العصور. وخلال مساره الطويل بقي موقف السلطات الدينية اليهودية والمسيحية منه قائمًا على محاربته والكفر بالنبي والقرآن. لكن السنوات الأخيرة حدثت فيها بعض التطورات الهامة.

(1/270)

وليس هذا مجال لعرض تلك التطورات ولكن يكفينا هنا أن نذكر بعضا من شهادات السلطات الدينية لأهل الكتاب ممثلة في هيئاتها وعلمائها. وإذا كان هذا لا يعني قبولهم الكامل للإسلام إلا أن أهم تطور حدث في هذا المجال هو اقتراب شهاداتهم عن أسفارهم المقدسة اقترابًا تطابقت نصوصه في بعض الأحيان مع شهادات الإسلام.

"أ" تقول دائرة المعارف البريطانية عن أسفار العهد القديم:

"لقد أصبح من الواضح: أن هذه الأسفار لا تحتوي كل الصدق وأن ليس كل ما تحتويه هذا الأسفار بصادق"1.

عجبًا حقًا ... !

أليس هذا ما سبق أن نطق به محمد رسول الله لفظًا ومعنى حين قال: "لا تصدوقهم ولا تكذبوهم":؟!

"ب" في عام 1963 عقد في كندا المؤتمر التبشيري الثالث لطائفة الإنجليين.

وكان مما قاله "كانون ماكس وارن" سكرتير جميعة التبشير الكنسية في بحثه المقدم إلى المؤتمر:

"لقد تجلى الله بطرق مختلفة. ومن الواجب أن تكون لدينا الشجاعة الكافية لنصر على القول بأن الله كان يتكلم في ذلك الغار الذي يقع في تلك التلال خارج مكة"2 وهو يقصد بذلك الوحي إلى النبي محمد حين بدأ في غار حراء.

ويتحدث "بطرس واتيلى" الذي عهد إليه بكتابة تقرير عن هذا المؤتمر فيقول عن بحث "كانون وارن": "من المحال تجنب استخدام ألفاظ الإبداع والسمو عند الحديث عنه. لقد كان واحدا من أكثر الأحاديث التي

__________

1 الجزء الثاني ص501.

2 Frontier Mission, p 18.

(1/271)

استمعت إليها تأثيرًا طيلة حياتي وذلك لما تميز به من سعة في الفكر ووضوح الرؤيا"1.

"جـ" وفي عام 1965 أصدر المجمع المسكوني الثاني للفاتيكان فقرة عن كتب العهد القديم جاء فيها:

"إن هذه الكتب تحتوي على شوائب وشيء من البطلان".

"د" ومنذ نزل القرآن والجاحدون له مصرون على اللغو فيه وإذاعة الأراجيف والترهات حول النبي الذي جاء به. ولقد سجل القرآن عليهم تلك المواقف وأقام عليهم الحجج التي أعجزتهم وأشياعهم إلى يوم الدين.

لقد كان مما قالوه: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 4-5] .

وقالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103] .

لقد كان الأولى بذلك المعلم الخرافي أن يظهر بتعليمه. بدلًا من أن يعطي الفضل لغيره، ولكن ما الحيلة وقد عميت الأبصار وتحجرت القلوب.

ولقد كان القرآن يستدرجهم إلى ميدان التحدي، فما داموا يدعون أن مصدره بشري أرضي وليس وحيًا إلهًيا. فقد دعاهم إلى الإتيان بمثله، فقال في سخرية أليمة: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 33-34] .

وبعد أن قال لهم: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13] عاد فتحداهم بسورة واحدة، فقال مخاطبًا الناس أجمعين:

__________

1 المرجع السابق: ص17.

(1/272)

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23] .

ولما كان القرآن تنزيلًا ممن {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 1 فقد كتب العجز على معانديه فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] .

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] .

ولقد حلا للكثير من أهل الكتاب حين رأوا القرآن يعرض قصصًا يشابه بعض ما في أسفارهم أن يرددوا ما سبق أن قاله الكفار من اطلاع النبي على كتب الأولين وترديدها.

ولو كان لذلك الزعم أساس لهدمه قول بعض الباحثين المسيحيين -حين قارنوا بين أحاديث كل من أسفار العهد القديم وخاصة التوراة والأناجيل، والقرآن وذلك في الموضوعات المشتركة بينهم- فقد تبين لهم أن القرآن خلا من الأخطاء "والشوائب والبطلان" الموجودة في غيره. فكيف يتأتى ذلك إن لم يكن مصدره إلهيا؟!

وفي هذا يقول "موريس بوكاي": "لا يجد قارئ القرآن أخطاء في الأسماء كتلك التي يجدها في الأناجيل ونعني الأخطاء الخاصة بإسلام المسيح واستحالات الأنساب في العهد القديم "والتي تجعل الطوفان يحدث في القرن 22 قبل المسيح، وفي عصر كانت هناك حضارات مزدهرة على الأرض فبالنسبة لمصر كان ذلك في الفترة الوسطى التي تلت نهاية الدولة القديمة وبداية الدولة الوسطى. وبالنظر إلى ما نعرف عن تاريخ هذا العصر فإنه يكون مضحكًا القول بأن الطوفان قد دمر في ذلك العصر كل الحضارات".

__________

1 الأعراف: 54.

(1/273)

ومرة أخرى تفرض الموضوعية أن نشير إلى ادعاء هؤلاء الذين يقولون بلا أي أساس أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- مؤلف القرآن قد نقل كثيرًا من التوراة، ولو كان ذلك حقًا لتساءلنا من الذي دفعه أو ما الحجة التي أقنعته بالعدول عن نقل التوراة فيما تعلق بأسلاف المسيح وإدخال تصحيح في القرآن يضع نصه بعيدًا عن أي مرمى نقدي تثيره المعارف الحديثة، على حين أن نصوص الأناجيل والعهد القديم غير مقبولة بالمرة من وجهة النظر هذه"؟ 1.

وبعد.. لقد بين القرآن حقيقة الأسفار اليهودية والمسيحية، فصدق على ما بها من بقايا حق أنزله الله، وصحح ما بها من أساسيات خالطها كثير من "شوائب وبطلان" ثم جاء مهيمنًا عليها بما استحدث وشرع. فنقل الرسالة من القبلية المحدودة إلى العالمية الواسعة، مع ما يتطلبه ذلك من تعاليم وضوابط ومعالجات لمختلف القضايا التي تهم العالمين: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] .

{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] .

إن حديث القرآن عن أهل الكتاب وأسفارهم إنما هو معجزة تقوم بذاتها، وهي معجزة أساسها العلم الذي تحصله البشرية بالدراسة والتمحيص خلال العديد من القرون، ثم تأتي النتيجة مطابقة لما قال به محمد رسول الله الذي كان يتعلم الآيات من القرآن وحيًا في لحظات.

لقد كان من جوامع كلمه: "لا تصدقوهم ولا تكذبوهم".

إنها معجزة {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] .

__________

1 دراسة الكتب المقدسة ص242.

(1/274)

محمد نبي الملكوت:

جاء يحيى بن زكريا، والمسيح عيسى، ومن بعده تلاميذه وحواريوه يبشرون جميعًا باقتراب "ملكوت الله" أو "ملكوت السموات".

فمن الواضح "أن ملكوت الله" أو "ملكوات السموات" هو شيء عظيم وخطير الشأن، وتحقيق للنبوءات السابقة. وهو أمل يرتجى في تخليص البشرية من أغلالها وهدايتها إلى طريق الله البر الرحيم. ومن المؤكد أن "ملكوت الله" شيء يأتي بعد المسيح الذي جاء يبشر باقترابه.

ولقد بين المسيح أن الملكوت يعني نبوة ورسالة. ففي حواره مع "رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب" في الهيكل، ألقى إليهم النذير بنزع النبوة من بني إسرائيل وإعطائها لأمة أخرى أفضل وأجدر بحمل رسالة الله إلى الآخرين -فقال قولته الشهيرة: "لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره".

لقد أوتي بنو إسرائيل النبوة وحملوا الرسالة فماذا فعلوا؟!

تربصوا بالأنبياء وعصوا المرسلين، فاستحقوا ما جرى لهم، والله أعلم بما هو آت ...

ولقد جاء محمد نبي الملكوت المنتظر بعد المسيح، وهو نبي -لا يزال- يقول فيه الإنجيل على لسان المسيح مخاطبًا تلاميذه:

"إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن.

وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق. لأنه لا يتكلم من نفسه بل بكل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية".

وأخيرًا جاء محمد نبي الملكوت.. فماذ فعل الذين كانوا ينتظرونه؟

(1/275)

لقد كانوا أول كافر به ... !

إنها قصة متكررة تستقي أحداثها المأساوية من قلوب مريضة ونفوس هوى بها الهوى.

فلا يزال اليهود يصلون إلى اليوم من أجل قدوم المسيح المخلص ...

ولقد جاء المسيح منذ 20 قرنا، وبلغ الرسالة وأعطى البشارة وهم له رافضون.

ولا يزال المسيحيون يصلون إلى اليوم من أجل قدوم ملكوت الله قائلين: "أبانا الذي في السموات.. ليتقدس اسمك وليأت ملكوتك".

ولقد جاء الملكوت منذ 14 قرنًا: نبيه محمد، وكتابه القرآن، ورسالته الإسلام، لكنهم بقوا على حالهم من الغفلة والصد والنكران.

ولقد بلغ الضلال غايته حين نسجت حول الإسلام وكتابه ونبيه أحاديث الإفك ودعاوى الباطل، وألصق به ما ليس منه في شيء، ثم ما لبثت تلك الأباطيل أن صارت تراثًا. يتوارثونها جيلًا بعد جيل.

وكان قمة المأساة حين وقف البابا إيربان الثاني رأس الكنيسة الكاثوليكية ليعطي في مجمع كليرمونت عام 1095 إشارة البدء بالحروب الصليبية -محطمًا بذلك كل ما تقوله الأناجيل عن تعالي المسيح في المحبة والتسامح -ثم ينعت المسلمين بالكفرة ويقول لسامعيه:

"أنتم فرسان أقوياء ولكنكم تتناطحون وتتنابذون فيما بينكم. ولكن تعالوا حاربوا الكفار. يا من تنابذتم اتحدوا، يا من كنتم لصوصًا كونوا الآن جنودًا.

تقدموا للدفاع عن المسيح، لا تمنعكم عواقيب ولا تلهكم نساؤكم ولا أولادكم ولا أموالكم عن القتال في سبيل الله.

تقدموا إلى بيت المقدس، انتزعوا الأرض الطاهرة واحفظوها لأنفسكم فهي تدر سمنًا وعسلًا.

(1/276)

اذهبوا إلى القتال وسنرتب أموركم وأموالكم في غيابكم.

سأغفر لكم ذنوبكم وخطاياكم بالقوة التي زودني بها الله"!

ولقد استمر ذلك الحقد الأسود هو الميراث الذي يحرص الجميع على الأخذ منه بنصيب ولو كان أقل القليل.

وإذا كانت الحروب الصليبية قد فشلت في تحقيق مطامع مثيريها في الاستيلاء على الأرض واغتصاب خيراتها وإقامة ممالك صليبية في الشرق الإسلامي. فإن روحها العدوانية لا تزال تتحكم في تحديد السياسية الدولية إلى الآن.

يقول "إيوجين روستو" رئيس قسم التخطيط بوزارة الخارجية الأمريكية ومستشار الرئيس الأمريكي السابق "ليندون جونسون" حتى عام 1967: "يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب. بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية.

لقد كان الصراع محتدمًا بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى "الحروب الصليبية" وهو مستمر حتى هذه اللحظة بصورة مختلفة. ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي.

إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته وعقيدته ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة في الدين الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها"1.

__________

1 سلسلة: نحو وعي إسلامي: العدد 2، ص25-26.

(1/277)

إن "رستو" يحدد بوضوح أن هدف الاستعمار في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية وذلك استمرارًا للحروب الصليبية، وهو في هذا لا يأتي بجديد. إنما هو يردد تعاليم عتاة الاستعمار الغربي وينهل مما توارثوه جميعًا من جهل بالإسلام وحقد عليه ورعب ملأ قلوبهم منه بسبب ما أشاعته السلطات الدينية حوله من أساطير وخرافات.

فمن قبل قال "جلادستون" رئيس وزراء بريطانيا: "ما دام هذا القرآن موجودا، فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان"1.

وحين احتلت بريطانيا فلسطين في الحرب العالمية الأولى نشرت الصحف البريطانية صورة الجنرال "اللنبى" وكتبت تحتها عبارته المشهورة التي قالها عقب فتح المقدس: "اليوم انتهت الحروب الصليبية".

وقد هنأ "لويد جورج" وزير الخارجية البريطانية الجنرال "اللنبى" في البرلمان لإحراز النصر فيما أسماه: الحملة الصليبية الثامنة.

وكانت هذه السموم هي التي نفثها الجنرال "جورو" الفرنسي عندما اقتحم "دمشق وتوجه فورًا إلى قبر صلاح الدين وركله بقدمه قائلًا: "ها قد عدنا يا صلاح الدين".

وهكذا يحصد المسلمون والمسيحيون ثمار ضلالات دينية سببها الجهل المتعمد بالإسلام -لا تزال حتى الآن سببًا وحيدًا لاشتعال الحروب المتتالية بينهم.

__________

1 الإسلام على مفترق الطرق: ص41، تأليف المستشرق النمسوي "ليوبولد فايس"، وكان قد بدأ في عام 1922 عمله مراسلًا متجولًا لعدد من الصحف الأوربية في الشرق الإسلامي حيث درس أحواله الدينية والسياسية والاجتماعية ولما عاد إلى النمسا عام 1926 أعلن إسلامه وتسمى باسم "محمد أسد".

(1/278)

إن تبعة ذلك كله تقع أولًا على عاتق علماء المسيحية ومبشريها. ثم هي تقع بعد ذلك على عاتق كل من يؤمن بتعاليم المسيح في الإنجيل ويصدقها القول والفعل.

وإذا تركنا مسيحية القرون الوسطى والنظرة الخاطئة للإسلام والمسلمين وسرنا عبر التاريخ حتى مطلع القرن العشرين، لوجدنا تكريسًا لما سبق من خرافات وأباطيل.

فقد عقد بالقاهرة عام 1906 مؤتمر للتبشير يجمع إرساليات التبشير البروتستانتينية للتفكير في نشر الإنجيل بين المسلمين. وقد افتتح يوم 4 إبريل في منزل أحمد عرابي باشا في باب اللوق وبلغ عدد مندوبي الإرساليات 62 بين رجال ونساء، من الولايات المتحدة وإنجلترا وألمانيا وهولندا والسويد والدانمرك.

وانتخب القسيس "زويمر" -رئيس إرساليات التبشير في البحرين وصاحب فكرة عقد المؤتمر- رئيسا له. وقد جمعت أبحاثه في كتاب يحمل اسم "وسائل التبشير بالنصرانية بين المسملين" واشتمل الفصل الأول منه على بحث "عما إذا كان الإله الذي يعبده المسلمون هو إله النصارى واليهود أم لا؟ وقد صرح الدكتور "لبسيوس" بأن إله الجميع واحد، إلا أن القسيس "زويمر" خالفه في هذا الرأي فقال: إن المسلمين مهما يكونون موحدين فإن تعريفهم لإلههم يختلف عن تعريف المسيحيين لأن إله المسلمين ليس إله قداسة ومحبة"1.

عجيب حقًا أمر هؤلاء الناس....

لقد عرف الإسلام كدين منذ منتصف القرن السابع، واشتهر بالتوحيد الخالص وعبادة الإله الواحد خالق كل شيء، والتصديق بكل رسالات الله وكتبه وأنبيائه ومنهم إبراهيم وموسى وعيسى المسيح.

تلك كلها معلومات أولية لا تحتاج من غير المسلم إلى دراسة أو تمحيص.

__________

1 الغارة على العالم الإسلامي ص22.

(1/279)

ومع ذلك نجد البابا "إيربان الثاني" يقف بعد ذلك بنحو خمسة قرون ليعلن للشعوب المسيحية أن المسلمين كفار..! وتستمر السلطات الدينية المسيحية في التشكيك في إيمان المسلمين بالله لدرجة أن يثار في مؤتمر القاهرة التبشيري عام 1906 سؤال عما إذا كان إله المسلمين هو إله المسيحيين واليهود. ثم يصر كبير المبشرين "زويمر" على رفض القول بأن الإله واحد في الديانات الثلاث.

ولعل السبب في هذا الموقف هو أنه ما دام إله المسلمين هو إله المسيحيين فإن السؤال الذي يعقب ذلك بداهة هو: لماذا -إذن- يقوم تبشير بالنصرانية بين المسلمين؟

آنذاك يقتصر نشاط التبشير على الوثنيين -هذا إذا كان هدفه دينيًا حقًا ولم يربط نفسه بالاستعمار والسيطرة العنصرية-وآنذاك يفقد كثير من المبشرين ما يتمتعون به من مكاسب مادية ومعنوية.

نحو صفحة جديدة:

إن عهدا جديدًا في العلاقات بين المسيحية والإسلام يوشك أن يبدأ وهو عهد يطوي صفحات الماضي بكل شرورها ومآسيها ويفتح آفاقًا واسعة من الفهم والاعتراف بالحقائق التي تأتي نتيجة الدراسات الجادة والمجردة عن الأحكام المسبقة.

ولقد بدأ يلوح في الآفاق ما ينبئ بإمكانية تحقيق فهم أفضل من المسيحية نحو الإسلام، وذلك في عصر يتجه نحو العالمية ويواجه فيه المؤمنون بالأديان السماوية -اليهودية والمسيحية والإسلام- خطر الإلحاد والكفر بالله ورسالته.

فلقد أبطلت الكنيسة الكاثوليكية في النصف الثاني من القرن العشرين ما سبق أن أعلنه أحد رؤسائها السابقين في نهاية القرن الحادي عشر، من اعتبار المسلمين كفارًا، وذلك في بحوثها التي عرضت في المجمع الثاني للفاتيكان، والذي عقد في الفترة 63-1965.

(1/280)

فقد قالت هذه الوثائق: "إن كنيسة المسيح تعترف بأن مبادئ عقيدتها قد بنيت لدى الرسل والأنبياء طبقًا لسر الخلاص الإلهي.

فهي تعترف فعلًا بأن جميع المؤمنين وهم أبناء إبراهيم -حسب العقيدة- داخلون في رسالة ذلك النبي.

وبدافع المحبة نحو إخواننا فلننظر بعين الاعتبار إلى الآراء والمذاهب، التي وإن تباينت كثيرًا عن آرائنا ومذهبنا فإنها تضم نواة من تلك الحقيقة التي تنير قلب كل إنسان يولد في هذا العالم.

ولنعانق أولًا المسلمين الذين يعبدون إلها واحدًا، والذين هم أقرب إلينا في المعنى الديني وفي علاقات ثقافية إنسانية واسعة".

وفي عام 1977 عقد في قرطبة المؤتمر الثاني للحوار الإسلامي المسيحي.

وقد ألقى كلمة الافتتاح الكاردينال "أنريكي ترانكون" مطران مدريد ورئيس أساقفة أسبانيا- فكان مما قاله:

"إني كأسقف أود أن أنصح المؤمنين المسيحيين بنسيان الماضي، كما يريد المجمع البابوي منهم، وأن يعربوا عن احترامهم لنبي الإسلام.. إن المجهودات الفكرية واللاهوتية التي يتسم بها هذا المؤتمر تهدف إلى غاية بعيدة، إلى البحث بكل أمانة عن البراهين التي تحمل المسيحيين على تقدير محمد نبي الإسلام تقديرًا إيجابيًا استنادًا إلى العقيدة المسيحية وطرق فكرنا اللاهوتي.

إن هذا شي هام جدًا بالنسبة للمسيحي، إذ كيف يستطيع أن يقدر الإسلام والمسلمين دون تقدير نبيهم والقيم التي بثها ولا يزال يبثها في حياة أتباعه؟ إن ذلك سيكون دليلا على عدم المحبة والاحترام للمسلمين الذين يجب أن ننظر إليهم بتقدير كما بحثنا في المجمع الكاثوليكي.

لن أحاول هنا تعداد قيم نبي الإسلام الرئيسية الدينية منها والإنسانية فليست هذه مهتمي، وسوف يلقيها عليكم الأخصائيون

(1/281)

واللاهوتيون المسيحيون بالمؤتمر. غير أني أريد أن أبرز جانبين إيجابيين -ضمن جوانب أخرى عديدة- وهما إيمانه بوحدة الله وانشغاله بالعدالة.

أما إيمانه بالله الأحد فهو سمة رسالته وحياته. إنها أهم عقيدة تركها لأمته.

وأما دعوته إلى العدالة مع شتى التطبيقات الدينية والاجتماعية فهي ما تزال قائمة.. بيد أني أود أن أخص بالذكر دعوته إلى سواسية الناس رجالًا ونساء إلى تحقيق العدالة بينهم".

وفي مؤتمر قرطبة ألقى الدكتور "ميجيل كروث إيرناندث" بحثا عن "الجذور الاجتماعية والسياسية للصورة المزيفة التي كونتها المسيحية عن النبي محمد" وقد جاء فيه: "سبق أن أكدت في مناسبة سابقة -وأظن أنني قد قررت ذلك عدة مرات- الاستحالة من الوجهة التاريخية والنفسية لفكرة النبي المزيف التي تنسب لمحمد ما لم نرفضها بالنسبة لإبراهيم وموسى وأصحاب النبوات الأخرى من العبرانيين الذين اعتبروا أنبياء.

إنه لم يحدث أن قال نبي "منهم" بصورة بينة وقاطعة -أن عالم النبوة قد أغلق ... وفيما يتعلق بالشعب اليهودي فإن عالم النبوة ما يزال مفتوحًا ما داموا ينتظرون المسيح المخلص.

أما فيما يتعلق بالحركة المسيحية فإنه لا يوجد أي تأكيد قطعي يدل على انتهاء عالم النبوة، وأي قارئ لرسائل القديس بولس وآثار الحواريين وسفر الرؤيا يعلم ذلك جيدًا.

وفيما يتعلق بي فإن يقيني أن محمدًا نبي لدرجة أنني حاولت في دراسة لي كتبت عام 1968 أن أشرح كيف أن محمدًا كان نبيًا حقًا

(1/282)

من وجهة النظر الدينية المسيحية، وكيف أن الله يمكنه بل ويريد رسالة النبي للعرب برغم وجود الديانة المسيحية".

كذلك قال "إجناثيو نايت" أستاذ تاريخ الثقافة بالجامعة المركزية بمدريد في بحث له ألقاه في مؤتمر قرطبة بعنوان "إلى أي مدى يعتبر محمد نبيًا من قبل المسيحيين":

"إن محمدًا هو نبي إحدى الديانات الكبرى المعاصرة ... إن الإسلام اليوم هو أكبر قوة حية وهو الذي يدفع تيارات العالم الثالث ويجمع بين 102 دولة من الدول النامية وغير المنحازة في مواجهة أغنى 30 دولة في العالم الأول الرأسمالي والصناعي وفي مواجهة 20 دولة من دول العالم الثاني الشيوعي.

وإذا كانت المسيحية قد تشعبت ليس فقط إلى 260 مذهبًا موجودا الآن وإنما انقسمت إلى ثلاث شعب كبيرة: الأرثوذكسية الشرقية، والبروتستانت، والكاثوليك -وكذلك البوذية تشعبت إلى المهايانة والهينيلنه والزن الياباني -فإن الإسلام ما يزال يحتفظ بأساس وحدته.

إن الإسلام ليس استمرارًا فحسب بل وتقدما كذلك. وفي أفريقيا نجد أن هناك شخصًا يعتنق المسيحية مقابل شخصين يعتنقان الإسلام، ولا نريد أن نعرض للبوذية أو غيرها من الديانات التي تعاني من حالة انقراض واضح.

ولماذا نرى أن الاتحاد ضروري بين أتباع الديانات؟ من الممكن استنتاج الإجابة مما عرضناه سابقًا، ذلك أنه لم يحدث قط في تاريخ الإنسانية أن زحف الإلحاد بهذه الصورة. لقد كانت الديانات تتصارع فيما بينها للسيطرة على أتباعها ولكنا اليوم أمام الدفاع عن العقيدة الجامعة، أي الإيمان بالله بعد أن أصبح هذا الإيمان في حالة خطر.

وفي نهاية الأمر ومع ترك الاختلافات الموجودة بين العديد من الديانات،

(1/283)

ومع النظر فيما يجمع بيننا، نتساءل: أليس الإله واحدًا؟ أما فيما يتعلق بالأنبياء فهم مشتركون: محمد وموسى وعيسى.

وهكذا فإن الوحدة أمر حاسم ومهم لتخليص البشرية وعقائدها المشتركة في الإله.

ويجب أن يكون ذلك بالدرجة الأولى بين الديانتين الكبيرتين: المسيحية والإسلام، حتى يمكنهما بعد ذلك جذب البوذية واليهودية والهندوكية.

ولهذا فإن الخطوة الأولى نحوم الهدف الواسع والبعيد هي دراسة وفهم وتقدير عيسى ومحمد، وهما نبيان مؤسسان ومحبوبان من جميع المؤمنين".

المسيح ليس خاتم النبيين:

لقد تعرض المسيح لما تعرض له الأنبياء من السخرية والتكذيب. "ولما جاء إلى وطنه كان يعلمهم في مجمعهم حتى بهتوا وقالوا: من أين لهذا هذه الحكمة والقوات؟! أليس هذا ابن النجار؟! أليست أمه تدعى مريم، وإخوته يعقوب وموسى وسمعان ويهوذا؟! أو ليست أخواته جميعهن عندنا؟! فمن أين لهذا هذه كلها؟! فكانوا يعثرون به".

لقد كان المسيح عالم بتلك الحقيقة، وأنه كنبي -مثل غيره من الأنبياء- لا بد وأن يواجه مثل تلك المواقف، ولهذا ألقى إليهم قوله الذي يمثل حكمة صدقتها أحداث الزمان: "فقال لهم: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته".

"متى 13: 54-57، مرقس 6: 1-4، لوقا 4: 24، يوحنا 4: 44".

لقد كانت هذه واحدة من المقولات القليلة التي اتفقت عليها الأناجيل الأربعة.

(1/284)

ولقد كان المسيح عالمًا بما تقوله الأسفار المقدسة عند بني إسرائيل -وهو واحد منهم- عن الأنبياء الذين ظهروا فيهم. وكان منهم قلة من الصادقين، أهل الحق والحقيقة، وبجانبهم كثرة كاثرة من أدعياء النبوة ومحترفيها، وفي هؤلاء الكذبة تقول أسفار العهد القديم:

"قد رأيت في أنبياء السامرة حماقة. تنبئوا بالبعل وأضلوا شعبي إسرائيل.

وفي أنبياء أورشليم رأيت ما يقشعر منه: يفسقون ويسلكون بالكذب ويشددون أيادي فاعلي الشر حتى لا يرجعوا الواحد عن شره.. من عند أنبياء أورشليم خرج نفاق في كل الأرض. هكذا قال رب الجنود: لا تسمعوا لكلام الأنبياء الذين يتنبئون لكم. فإنهم يجعلونكم باطلًا. يتكلمون برؤيا قلبهم لا عن فم الرب.

"قد سمعت ما قالته الأنبياء الذين تنبئوا باسمي بالكذب قائلين: حلمت، حلمت. حتى متى يوجد في قلب الأنبياء المتنبئين بالكذب بل هم أنبياء خداع قلبهم. الذين يفكرون أن ينسوا شعبي اسمي بأحلامهم" "أرميا 23: 13-27".

"هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل: لا تغشكم أنبياؤكم الذين في وسطكم وعرافوكم ولا تسمعوا لأحلامكم التي تتحلمونها. لأنهم إنما يتنبئون لكم باسمي بالكذب. أنا لم أرسلهم يقول الرب" "أرميا 29: 8-9".

وبعد أن جاء المسيح رسولًا من الله إلى بني إسرائيل، وأبلغهم رسالة ربه ثم رحل عنهم، ظهر من بعده -وخاصة بين المنتسبين إلى الطائفة الجديدة التي حملت اسمه- أنبياء كذبة وأدعياء رسالة مزيفة. وفي هذا تقول أسفار العهد الجديد: "ولما اجتازوا الجزيرة إلى بافوس وجدا رجلًا ساحرًا نبيًا كذابًا يهوديًا اسمه باريشوع" "أعمال الرسل 13: 6".

(1/285)

"أيها الأحباء: لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح، هل هي من الله، لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم. هم من العالم، من أجل ذلك يتكلمون من العالم والعالم يسمع لهم. نحن من الله فمن يعرف الله يسمع لنا. ومن ليس من الله لا يسمع لنا. من هذا نعرف روح الحق وروح الضلال" "رسالة يوحنا الأولى 4: 1-6".

"أيها الأولاد: هي الساعة الأخيرة. وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتي، قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون. من هنا نعلم أنها الساعة الأخيرة.

منا خرجوا. لكنهم لم يكونوا منا لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا، لكن ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا" "رسالة يوحنا الأولى 2: 18-19".

ولكن كان أيضًا في الشعب أنبياء كذبة كما سيكون فيكم أيضًا معلمون كذبة الذين يدسون بدع هلاك" "رسالة بطرس الثانية 2: 1".

"ولكن ما أفعله سأفعله، لأقطع فرصة الذين يريدون فرصة كي يوجدوا كما نحن أيضًا في ما يفتخرون به. لأن مثل هؤلاء هم رسل كذبة فعلة ماكرون مغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح" "كورنثوس الثانية 11: 12-13".

لقد كان ادعاء النبوة وبأ انتشر في الشعب الإسرائيلي قبل المسيح، ثم امتدت عدواه إلى الطائفة الجديدة التي بدأت تنشق عن اليهودية وتقيم لها كيانا مستقلًا، وصار أتباعها يعرفون باسم المسيحيين "أعمال الرسال 11: 26".

ومن أجل ذلك حذر المسيح من أدعياء النبوة فقال: "احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة.

من ثمارهم تعرفونهم. هل يجتنون من الشوك عنبا أو الحسك تينًا" "متى 7: 15-16".

ومن الواضح أنه لو كان المسيح خاتم الأنبياء والمرسلين لقرر ذلك صراحة، ولم يكلف أتباعه مشقة فحص النبوات من بعده وفق معيار الثمار التي تجتنى منها، للتمييز بين الحق والباطل.

(1/286)

وما كان له أن يقول إنه خاتم النبيين بعد حديثه الصريح -الذي ذكرناه سلفًا- عن الرسول روح الحق الآتي بعده إلى العالم، والذي يذكره الإنجيل بأنه سيكون: "معزيًا آخر" "يوحنا 14: 16"، سبقه ولا شك معزون آخرون.

وبجانب هذا، تتحدث أسفار العهد الجديد عن استمرارية النبوة الحقة بعد المسيح، وعن وجود أنبياء حقيقيين في الشعب المسيحي، فتقول:

"فحدث أنهما اجتمعا في الكنيسة سنة كاملة وعلما جمعًا غفيرًا. ودعى التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولًا.

وفي تلك الأيام انحدر أنبياء من أورشليم إلى أنطاكية. وقام واحد منهم اسمه أغابوس وأشار بالروح أن جوعًا عظيمًا كان عتيدًا أن يصير على جميع المسكونة، الذي صار أيضًا في أيام كلوديوس قيصر" "أعمال الرسل 11: 26-28".

"وكان في أنطاكية في الكنيسة هناك أنبياء ومعلمون" "أعمال الرسل 13: 1".

"ويهوذا وسيلًا: إذ كانا هما أيضًا نبيين، وعظا الإخوة بكلام كثير وشدداهم" "أعمال الرسل 15: 32".

"وضع الله أناسا في الكيسة: أولًا رسلًا، ثانيًا أنبياء، ثالثًا معلمين، ثم قوات، وبعد ذلك مواهب شفاء أعوانا تدابير، وأنواع السنة" "كورنثوس الأولى 12: 28".

"جدوا للمواهب الروحية وبالأولى أن تتنبئوا.. إني أريد أن جميعكم تتكلمون بألسنة، ولكن بالأولى أن تتنبئوا. لأن من تنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة.

(1/287)

أما الأنبياء: فليتكلم اثنان أو ثلاثة، وليحكم الآخرون.. لأنكم تقدرون جميعكم أن تتنبئوا واحدا واحدا. ليتعلم الجميع ويتغرى الجميع.

وأرواح الأنبياء خاضعة للأنبياء" "كورنثوس الأولى 14: 1-32".

"لا تطفئوا الروح. لا تحتقروا النبوات. امتحنوا كل شيء. تمسكوا بالحسن. امتنعوا عن كل شبه شر" "تسالونيكي الأولى 5: 19-20".

أما بعد:

لقد كان هذا تبيانًا لابد منه لما قاله الدكتور "ميجيل كروث إيرناندث"، في بحثه الذي قدمه في مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي بقرطبة -وذكرناه سلفًا- حين قرر أنه: "فيما يتعلق بالحركة المسيحية، فإنه لا يوجد أي تأكيد قطعي يدل على انتهاء عالم النبوة "بعد المسيح"، وأي قارئ لرسائل القديس بولس وآثار الحواريين وسفر الرؤيا يعلم ذلك جيدًا.

على أن أسفار "موسى والأنبياء" قد بينت للناس جميعًا كيفية التمييز بين النبي الصادق والنبي الكاذب، فقررت أن:

1- النبي الكاذب لا يقول: لا إله إلا الله. فهو يزيغ الناس عن عبادة الإله الواحد الذي أنزل التوراة على موسى:

"إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا وأعطاك آية أو أعجوبة. ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلأ: لنذهب وراء آلهة أخرى لم نعرفها. ونعبدها، فلا تسمع لكلام ذلك النبي إذ الحالم ذلك الحلم، لأن الرب يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم" "تثنية 13: 1-3".

(1/288)

2- النبي الكاذب يطلق نبوءات كاذبة لا تتحقق:

"وإن قلت في قلبك كيف تعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب. فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر. فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب، بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه""تثنية 18: 21-22".

3- وتكون عاقبة النبي الذي يفتري على الله الكذب أن يعالجه الموت سريعًا:

"وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلامًا أوصه أن يتكلم به، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى. فيموت ذلك النبي" "تثنية 18: 20".

ولقد كان هذا ما حدث فعلًا للأنبياء الكاذبين. فقد "قال أرميا النبي "الصادق" لحننيا النبي "الكاذب": اسمع يا حننيا، إن الرب لم يرسلك، وأنت قد جعلت هذا الشعب يتكل على الكذب.

لذلك هكذا قال الرب: هأنذا طاردك عن وجه الأرض. هذه السنة تموت لأنك تكلمت بعصيان على الرب. فمات حننيا النبي "الكاذب" في تلك السنة في الشهر السابع" "أرميا 28: 15-17".

"هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل عن آخاب بن قولايا وعن صديقا بن معسيا اللذين يتنبآن لكم باسمي بالكذب وهأنذا أدفعهما ليد نبوخذ ناصر ملك بابل فيقتلهما أمام عيونكم.

ثم صار كلام الرب إلى أرميا قائلًا: أرسل إلى كل السبي قائلًا: هكذا قال الرب لشمعيا النحلامي. من أجل أن شمعيا قد تنبأ لكم وأنا لم أرسله وجعلكم تتكلون على الكذب. لذلك هكذا قال الرب.

هأنذا أعاقب شمعيا النحلامي ونسله. لا يكون له إنسان يجلس في وسط هذا الشعب" "أرميا 29: 21-32".

(1/289)

وما كان الله لينذر إنسانًا يدعي أنه رسول الله، كذبًا وافتراء على الله، دون أن يعالجه بالموت. فلقد وصل ذلك الدعي في ظلمه إلى مداه. وفي هذا يقول القرآن العظيم:

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144] .

وكان حديث الله إلى الكافرين بنبوة محمد من مشركي العرب، ومن على شاكلتهم حتى الآن، أن يعلموا قضاء الله حقًا وعدلًا في كل مفتر كذاب. وهو أن يعاجله بالموت عقابًا له. فقال -وقوله الحق- في بعض أوائل آيات القرآن نزولًا: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44-47] .

نعم ...

إن بقاء محمد بن عبد الله يدعو إلى الله بصفته رسولًا منه إلى الناس بإذنه، لمدة تزيد على اثنين وعشرين عامًا، تعرض فيها لمختلف المخاطر والأهوال وخرج منها جميعًا سالمًا وقد اكتملت رسالته وأتم الله دينه، ثم انتهت حياته بميتة طبيعية بين أهله وصحابته والمسلمين، إن في ذلك لبرهانا من أقوى البراهين على صدق ما جاء به، وآية بينة لأهل الكتاب -من اليهود والنصارى- الذين لا بد وأن يعوا ما تقول كتبهم في النبوة والأنبياء.

{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] .

المشكلة والحل:

لقد عرضنا آنفًا بعضًا مما قاله علماء المسيحية ومفكريها الدينيين في مؤتمر قرطبة عام 1977، وكيف دعوا إلى قيام وحدة بين الإسلام والمسيحية للدفاع

(1/290)

عن الإيمان بالله أمام تيارات الإلحاد الزاحفة التي تدمر كل قيم الإنسان وأخلاقيات وتهوي به إلى ما دون مرتبة الأنعام.

ومن الواضح أن الحديث عن الوحدة هنا يقصد به وحدة الفكر الديني وهو أمر لا يمكن تحقيقه بالتمني ولا حتى بالنوايا الطيبة. ولكنه يحتاج إلى مراجعة للمواقف ومواجهة للحقائق وإعادة العالم الصغير قبل توحيد العالم الكبير.

إن المنطق يقضي بأن تقوم الوحدة المسيحية أولًا بين طوائفها المختلفة، بعد ذلك تلتقي المسيحية الموحدة مع الإسلام للاتفاق على ما يجمع بينهما وترك نقاط الخلاف بعد إعلانها صراحة.

وإذا أردنا مواجهة الحقائق ومعرفة سبب الفرقة والشقاق الذي ولد العداوة والبغضاء نقول ما يقوله "ستيفن رنسيمان" في حديثه عن الشقاق الديني في المسيحية: "إن الموضوع الأساسي الذي دارت حوله خصوماتهم ومنازعاتهم فكان طبيعة المسيح التي تعتبر أهم وأعقد المشاكل في أصول الدين المسيحي"1؟.

لقد جاءت هذه المشكلة -التي مزقت المسيحية عبر القرون ومنعت ولا تزال تمنع أي إمكانية لحدوث تقارب فكري مع الإسلام- من بذور ألقاها بولس في رسائله التي بدأت كتابتها بعد رفع المسيح بأكثر من 20 عامًا. لقد خلط بولس بين الله والمسيح، ومن ثم بدأ الحديث عما يعرف بلاهوت المسيح وتجسد الإله.

يقول بولس: "الله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد".

"الله.. الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين".

__________

1 تاريخ الحروب الصليبية: الجزء الأول ص20.

(1/291)

"إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا الله، لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرًا شبه الناس".

ثم جاء إنجيل يوحنا الذي كتب بعد رفع المسيح بمدة تتراوح بين 70-90 عامًا ليكرس فكرة الخلط بين الله والمسيح وتجسيد الله ويقول: "في البدء كان الكمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله".

هذه هي المشكلة العقائدية التي تمنع كل وحدة، والحل الوحيد هو الالتزام بما تذكره الأناجيل من ألقاب وأسماء للمسيح قبلها بل ودعا إلى التمسك بها. لقد أجمعت الأناجيل على أن المسيح هو: ابن الإنسان -ابن داود- رسول الله -نبي- سيد -ومعلم ...

ويكفي التذكرة بما قاله المسيح لتلاميذه: "أنتم تدعونني معلمًا وسيدًا، وحسنا تقولون لأني أنا كذلك".

لقد بين البحث العلمي الذي قام به سبعة من علماء المسيحية المعاصرين أن الحديث عن تجسد الله إنما يعني خرافة.. ولقد جاء ذلك في كتاب جمع بحوثهم ونشر في لندن عام 1977 تحت عنوان "أسطورة تجسد الإله"1.

تقول مقدمة الطبعة الخامسة لهذا الكتاب -والتي صدرت عام 1978 -عن تطور المسيحية الغربية في مواجهة معارف الإنسان الحديثة منذ القرن التاسع عشر: "إنها قبلت التسليم بأن أسفار الكتاب المقدس كتبها مجموعة من البشر في ظروف متنوعة ولا يمكن الموافقة على اعتبار ألفاظها تنزيلا إلهيًا.

إن المعارف الإنسانية تستمر في النمو بمعدل متزايد، كما أن الضعط على المسيحية يقوى أبدًا مما يجعلها تكيف نفسها لتصير شيئًا يمكن الإيمان به، إيمان أهل الفكر الواعي والإخلاص أولئك الذين جذبتهم إليها بعمق شخصية يسوع وما تلقيه من أضواء على معنى حياة الإنسان

__________

1 The Myth god incarnate, Edited by john Hick.

(1/292)

إن المشتركين في هذا الكتاب مقتنعون أن تطورًا لاهوتيا آخر لا بد منه في هذا الجزء الأخير من القرن العشرين. وتنبع الحاجة إليه من تطور معرفتنا بمصادر المسيحية، ويتضمن ذلك اعترافًا أن يسوع كان -كما يقدمه لنا سفر أعمال الرسل "2: 21"1 -رجل قد تبرهن من قبل الله، لأداء دور معين خلال هدف إلهي، وأن التصور الذي لحق به أخيرًا باعتباره الإله المتجسد، والأقنوم الثاني من الثالثوث المقدس الذي عاش حياة البشر، إن كل ذلك إلا أسلوب أسطوري أو شاعري للتعبير عما يعنيه بالنسبة لنا.

إن هذا الاعتراف أصبح لازمًا لصالح الحقيقة ...

ولنقلها الآن: إن ما نأمل فيه هو تنقية الحديث عن الله وعن يسوع من الخلط والتشويش، وبذلك يتحرر الناس لخدمة الله في طريق المسيحية باستقامة وكمال".

حقًا إن تحقيق الوحدة بين المؤمنين بالله والمؤمنين بالمسيح ليس له من سبيل سوى الكف عن الخلط بين الله والمسيح، ثم تقديس الله بما يتفق وجلاله، ثم الإيمان بأن المسيح "رجل قد تبرهن من قبل الله بقوات وعجائب صنعها الله بيده" وأنه كان فقط "إنسانًا نبيًّا مقتدرًا في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب" "لوقا: 24: 19".

ولا مجال -إذن- للحديث عن المسيح بأكثر من هذا الذي تقوله أسفار العهد الجديد.

__________

1 يقصد هنا ما قاله بطرس: "أيهال الرجال الإسرائيليون.. اسمعوا هذه الأقوال: يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضًا تعلمون".

(1/293)

لقد وضحت المشكلة الآن ووضح حلها الوحيد، لو جنح من يهمهم الأمر إلى العقل والصدق مع أنفسهم قبل الصدق مع الآخرين. والنتيجة المنطقية لذلك أن يكف المسيحيون عن التبشير بالمسيحية بين المسلمين بعد أن اتحدت بينهم أسس العقيدة، وأن يوجهوا نشاطهم إلى الوثنيين والمرتدين من الملاحدة الشيوعيين.

وآنذاك ينعم العالم بسلام لم يشهده من قبل، سلام من الله، وسلام بين المؤمنين، ثم سلام مفروض بعد ذلك على البقية من غير المؤمنين.

(1/294)

بيان للناس:

إن خير ما نختم به كتاب "النبوة والأنبياء" أن نضع كل إنسان أمام مسئوليته الفردية التي يتوقف عليها مصيره الأبدي كما يتوقف عليها صلاح حال الدنيا وتحقيق حياة أفضل للإنسان.

إن القرآن كتاب الله قد نزل من أجل كل الناس. فالواجب المقدس يقتضي أن يلم كل إنسان بهذا الكتاب الذي جاء من أجله، وعليه بعد ذلك أن يقرر ما يشاء.

يقول الله لكل الناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] .

ويقول الله لرسوله في القرآن وعن طريقه يقول للناس: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] .

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

(1/295)

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 104-109] .

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحج: 49-51] .

ويقول الله لليهود والنصارى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15-16] . صدق الله العظيم.

(1/296)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام

الفهارس

محتويات الكتاب

...

"محتويات الكتاب"

3 المقدمة

الفصل الأول. مدخل لدراسة النبوة والنبيين

"9-30"

13 الصورة العامة لأنبياء العهد القديم.

14 لفظ النبي.

17 الأنبياء الحقيقيون والأنبياء المحترفون.

20 مظاهر النبوة ووسائل التنبؤ في إسرائيل.

24 الأنبياء أحباب الله.

25 ملامح مشتركة بين الأنبياء.

الفصل الثاني. أنبياء القرون الأولى

"31-42".

33 نوح.

37 إبراهيم.

الفصل الثالث. أنبياء بني إسرائيل

"43-112".

45 موسى.

51 إلياس.

57 عيسى.

57 لفظ المسيح.

58 ولادة العذراء.

65 أسماء عيسى وألقابه.

69 شخصية المسيح في الأناجيل.

70 مولد المسيح وطفولته.

71 المسيح في صباه.

(1/299)

71 التمهيد للرسالة.

73 الطعام والشراب.

74 الحب –متاعب الحياة وأحزانها- العجز.

75 الغضب والعنف.

76 الخوف والفزع والاضطراب.

77 المسيح بين الناس: حرفته.

78 إخوته –ردة أصحابه.

79 عقيدة الذين شاهدوا المسيح ومعجزاته وآمنوا به.

81 المسيح بين يدي الله.

85 معجزات المسيح.

91 معجزات المسيح بين معجزات سابقيه.

99 المسيح ومعجزاته.

104 المسيح في القرآن.

الفصل الرابع: نبي العالمين محمد. خاتم النبيين

"113-289".

115 محمد رسول الله.

البشارات

"117-172".

117 أولا –بشارات العهد القديم: بشارة التوراة.

134 بشارة المزامير.

135 بشارة أشعياء.

139 ثانيا –بشارات العهد الجديد: النبي المرتقب.

144 الملكوت المقترب.

145 الرسول "روح الحق".

147 روح الحق إنسان.

(1/300)

148 روح الحق غير الروح القدس.

150 مجيء روح القدس غير مرتبط برحيل المسيح.

153 الله وحده هو مرسل المرسلين وليس المسيح.

155 روح الحق "ما ينطق عن الهوى".

155 روح الحق يُعلم الناس الدين الكامل.

155 ما جاء به روح الحق باق إلى الأبد.

157 اسم الرسول الآتي بعد المسيح.

161 "أ" صدق تنبؤات الرسول.

162 "ب" تحريفات كتبة الأسفار وأخطاؤهم.

165 "ج" المسيح وأسماء الناس.

168 ثالثا- بشارات أسفار البراهمة.

169 رابعا- بشارات أسفار المجوسية.

170 رسول العالمين.

الرسول في القرآن

"173-197".

173 تمهيد.

175 قبل الرسالة.

179 بداية الطريق.

180 النبأ العظيم.

182 فروض وتكاليف.

183 محنة روحية.

187 الرسول بين يدي الله: تقرير واقع.

196 التعاليم الأساسية.

قبس من سيرة الرسول

"198-207".

198 ملامح الشخصية.

(1/301)

معجزات الرسول.

"207-274"

209 معجزات الحوادث: من كتب السيرة.

211 من القرآن الكريم.

219 معجزة القرآن.

220 معجزات يس.

224 1- الإعجاز العلمي في القرآن: كلمة عن الإعجاز اللغوي.

227 الإعجاز العلمي ليس بمستحدث.

231 من شهادات العلماء.

235 2- التحدي بالغيب.

237 التنبؤ بهزيمة الكفر.

240 التنبؤ بانتصار الإسلام.

243 التنبؤ بانتصار الروم على الفُرس.

249 القرآن والكتب المقدسة السابقة.

250 موقف محدد.

253 مجمل دراسات الكتاب المقدس.

254 أسفار العهد القديم.

262 أسفار العهد الجديد.

270 خلاصة الموقف مع الكتاب المقدس: تمهيد.

270 تقرير الحقيقة.

270 شهود من أهله.

محمد نبي الملكوت

"275-296".

280 نحو صفحة جديدة.

284 المسيح ليس خاتم النبيين.

291 المشكلة والحل.

295 بيان للناس.

*

297 قائمة المراجع الرئيسية.

299 محتويات الكتاب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قائمة العلل والسؤلات الواقعة في كتاب صحيح البخاري لابن المبرد، جمال الدين يوسف بن عبد الهادي الحنبلي (ت ٩٠٩ هـ)

قائمة العلل والسؤلات الواقعة في كتاب صحيح البخاري لابن المبرد، جمال الدين يوسف بن عبد الهادي الحنبلي (ت ٩٠٩ هـ ) الرابط...