الضعفاء لأبي زرعة الرازي في أجوبته على أسئلة البرذعي
الفصل السادس: علومه ومؤلفاته
1- علومه
(أ) معرفته بعلم القراءات:
لقد اعتنى أبو زرعة رحمه الله بعلم القراءات عناية فائقة فاق بها أقرانه حيث أخذ هذا العلم العزيز عن الأئمة المعنيين به، وروى أحاديث كثيرة مكنته من تمييز القراءة الصحيحة، عن الشاذة، ولقد ضمن ابن أبي حاتم في كتابه علل الحديث بعض الأحاديث التي أعلها أبو زرعة والمتعلقة بالقراءات. وفيما يلي قائمة بأسماء مشاهير الأئمة القراء الذين روى عنهم ثم أُتبعها ببعض الأخبار التي يستدل بها على سعة حفظه وإحاطته بهذا العلم.
1- (خ دس) أحمد بن الصباح النهشلي، أبو جعفر بن أبي سريج الرازي المقرىء الذي قرأ القراءات على الكساني، توفي بعد 245 هـ (1) .
2- إبراهيم بن الحسن بن نجيح الباهلي المقرىء التبان البصري المتوفى سنة 235 هـ والذي قال عنه أبو زرعة: "كان صاحب قرآن وكان بصيراً به وكان شيخاً ثقة" (2) .
__________
(1) انظر: تهذيب التهذيب ج 1 ص 44، والجرح والتعديل ج 1/ ق1/56.
(2) انظر: تهذيب التهذيب ج 1 ص 115، والجرح
والتعديل ج1 / ق1/92.
3- (ق) حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهيب الأزدي، أبو عمر الدوري المقرىء الضرير المتوفى سنة 246 هـ الذي روى عن علي ابن حمزة الكسائي قال عنه الخطيب: "كان يقرأ بقراءة الكسائي واشتهر بها"، وقال ابن سعد: "كان عالما بالقرآن وتفسيره" (1) .
4- (خ) خالد بن يزيد بن زياد الأسدي الكاهلي، أبو الهيثم الطبيب الكحال المقرىء الكوفي المتوفى مابين 211-215 هـ، قال محمد بن الحجاج الضبي: "كان من القراء من أصحاب حمزة" (2) .
5- (م د) خلف بن هشام بن ثعلب، ويقال طالب بن غراب البزار البغدادي المقرىء المتوفى سنة 229 هـ قال أبو عمرو الداني: "قرأ القرآن عن سليم وأخذ حرف نافع عن إسحاق المسيبي وحرف عاصم عن يحى بن آدم وهو إمام في القراءات وله اختيار، حمل عنه ... " (3) .
6- زكرياء بن يحيى الخزار المقرىء البصري (4) .
7- (دق) عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان البهراني، أبو عمرو الدمشقي المقرىء المتوفى سنة 242 هـ، قال عنه الوليد بن عتيبة: "ما بالعراق اقرأ منه" وقال أبو زرعة الدمشقي: "ولا بالحجاز ولا بالشام ولا بمصر ولا بخراسان في زمنه عندي أقرأ منه" (5) .
8- (خ) عبد الله بن صالح بن مسلم أبو صالح العجلي الكوفي المقرىء المتوفى سنة 211 هـ قال عنه الوليد بن بكر الأندلسي: "من ثقات أئمة أهل الكوفة صاحب قرآن وسنة" (6) .
__________
(1) انظر: تهذيب التهذيب ج 2 ص 408، والجرح والتعديل ج 1/ ق2/ 183، طبقات القراء للجزري ج 1 ص 255.
(2) انظر: تهذيب التهذيب ج 3 ص 125.
(3) انظر: تهذيب التهذيب ج3 ص 156- 157.
(4) انظر: علل الحديث ج2 ص 103.
(5) انظر: تهذيب التهذيب ج 5 ص 140- 141، والجرح والتعديل ج 2/ ق 2/ 5.
(6) انظر: تهذيب التهذيب ج 5 ص 261- 262 والجرح
والتعديل ج 2/ ق2/ 85.
9- عبد الله بن يزيد بن راشد القرشي الدمشقي المقرىء أبو بكر (1) .
10- (ل) عمرو بن هارون المقرىء، أبو عثمان البصري صاحب الكري قال أبو عمرو الداني: "أخذ القراءة عن أيوب بن المتوكل وقرأ عليه روح بن عبد المؤمن وغيره" (2) .
11- عيسى بن ميناء قالون المدني المقرىء المتوفى سنة 220 هـ صاحب نافع قال الذهبي عنه: "أما في القراءة فثبت، وأما في الحديث فيكتب حديثه في الجملة" (3) .
12- (دس ق) كثير بن عبيد بن نمير المذحجي، أبو الحسن الحمصي المقرىء المتوفى بحدود سنة 250 هـ (4) .
13- (خ) روح بن عبد المؤمن الهذلي مولاهم أبو الحسن البصري المقرىء المتوفى سنة 233 هـ قال الداني: "قرأ على يعقوب الحضرمي" (5) .
14- خلاد بن خالد الشيباني، أبو عيسى المقرىء (6) .
وغير هؤلاء من مشاهير القراء، أما ما يدل على سعة حفظه، وإحاطته بأحاديث القراءات ووجوهها فكثيرة، منها ما رواه الخطيب بسنده إلى أم عمرو بنت شمر أنها قالت: "سمعت سويد بن غفلة يقرأ (وعيسى عين) يريد (حور عين) ، قال صالح: ألقيت هذا على أبي زرعة فبقي متعجباً وقال: أنا أحفظ في القراءات عشرة آلاف حديث. قلت: فتحفظ هذا؟ قال: لا" (7) ، ونقل ابن رجب عن
__________
(1) انظر: الجرح والتعديل ج 2/ ق2/ 202.
(2) انظر: تهذيب التهذيب ج 8 ص 111، والجرح والتعدبل ج 3/ ق1/268.
(3) انظر: ميزان الاعتدال ج 3/ ص 327، والجرح والتعديل ج 3/ ق 1/ 290.
(4) انظر: تهذيب التهذيب ج8/ 423-424، والجرح والتعديل ج 3/ ق 2/ 155.
(5) انظر: تهذيب التهذيب ج 3 ص 296.
(6) انظر: الجرح والتعديل ج 1/ ق2/ 368.
(7) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 328، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتهذيب الكمال ورقة (442- أ-) وتهذيب التهذيب ج 7 ص 32، وطبقات المفسرين للداوودي ج 1 ص370، وخلاصة تهذيب الكمال ج 2 ص 195.
(1/175)
أبي زرعة أنه قال: "أنا أحفظ ستماية ألف حديث صحيح وأربعة عشر ألف إسناد في التفسير والقراءات ... " (1) وقد يسأله بعض أهل العلم عن وجوه القراءات لبعض الآيات
مستدلين بأحاديث فيعلل هذه الأحاديث أو قد يرجح بعضها على بعض، فمثلا يقول ابن أبي حاتم: "سئل أبو زرعة عن حديث رواه الحكم بن عبد الملك، واختلف في متن الحديث في الرواية، عن الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ (وَتَرَى النَّاسَ سَكَرَى) يعني بنصب السين بغير ألف (2) ، ورواه الحسن بن بشير البجلي، عن الحكم بن عبد الملك، عن قتادة، عن الحسن عن عمران بن حصين، قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} يعني برفع السين بألف، فقال أبو زرعة: "ليس ذا ولا ذاك قد روى الثقات فلم يذكروا فيه الحروف، لم يذكروا قراءة" (3) ، وسئل أبو زرعة عن حديث علي بن نصر، ومعتمربن سليمان كلاهما عن شعبة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان نصر، ومعتمربن سليمان كلاهما عن شعبة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان بن قتة قال سمعت ابن عباس ومعاوية وعمرو بن العاص يقرؤون فاختلفوا في آداء الحرف ففي رواية علي بن نصر (وهو عليهم عَمٍ) بالخفض منون، وفي رواية معتمر (وهو عليهم عمى) يعني بالنصب منونا فقال أبو زرعة: "حديث المعتمر أصح" (4) .
__________
(1) انظر: شرح علل الترمذي ص 192.
(2) أي بفتح السين وإسكان الكاف مع حذف الألف بعد الكاف وهذه قراءة حمزة والكسائي وخلف وحجتهم أن (فعلى) جمع كل ذي ضرر مثل مريض ومرضى، وجريح وجرحى، وهالك وهلكى ... الخ. انظر: حجة القراءات لأبي زرعة عبد الرحمن بن زنجلة ص 472 وإتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر للدمياطي. البناء ص 313.
(3) انظر: علل الحديث ج 2 ص 440- 441.
(4) انظر: علل الحديث ج 2 ص 439، وانظر كذلك أمثلة أخرى في ببان علل أحاديث تتعلق في حروف القرآن، الحديث رقم (2 282، 2823، 2825، 2826، 2827، 2829) ، وانظر الكلام حول القراءة التي رواها سليمان بن قتة في تفسير البحر المحيط ج 7 ص 502- 503، وفتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير لمحمد بن علي الشوكاني اليماني ج4 ص505، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر الطبري ج 24 ص 128. وصحف اسم قتّة في البحر المحيط إلى قتيبة- وأحسبه خطأ مطبعيا- والصواب سليمان بن قتّة بفتح القاف ومثناة من فوق مشددة وقتة أمه التيمي مولاهم البصري. انظر: غاية النهاية ج 1 ص 314.
(1/176)
(ب) معرفته وإتقانه لموطأ الإمام مالك:
صنف الإمام مالك الموطأ وتوخى فيه القوى من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم فكان فيه المرسل، والمنقطع، والبلاغات وقد ميزها العلماء. يقول أبو بكر الأبهري: "جملة ما في الموطأ من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين (1720) حديثا المسند منها (0 60) ، والمرسل (222) ، والموقوف (613) ، وعن قول التابعين (285) (1) . وقد انتقى الإمام مالك أحاديث الموطأ من مائة ألف حديث كان يرويها، واستغرق تصنيفه وتنقيحه أربعين عاماً (2) ، ولما كان الإمام مالك أحد أعلام الإسلام، وشديد الانتقاد للرجال عالماً بشأنهم (3) ، ولا يروي في كتبه إلا عن الثقات- قال بشر الزهراني: "سألت مالكاً عن رجل فقال رأيته في كتبي. قلت: لا. قال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي" (4) . وقال ابن معين: "كل من روى عنه مالك فهو ثقة إلا عبد الكريم) (5) ولأجل هذا اهتم أبو زرعة بموطأ مالك حتى أحاط به إحاطة تامة مع الإتقان والتثبيت، ولقد ابتدأ حفظه للسنة النبوية بأحاديث الإمام- قال أبو زرعة: "أول شيء أخذت نفسي تحفظه من الحديث مالك فلما حفظته، ووعيته طلبت حديث الثورى" ... (6) حتى برع فيه.
قال علي بن الحسين بن الجنيد المالكي: "ما رأيت أحداً أعلم بحديث مالك بن أنس مسندها، ومنقطعها من أبي زرعة، وكذلك سائر العلوم، ولكن
__________
(1) انظر: تنوير الحوالك على موطأ مالك للسيوطي ص 8.
(2) انظر المصدر السابق ص 7.
(3) وصفه ابن عيينة بشدة الانتقاد للرجال والعلم بهم. انظر: تهذيب التهذيب ج10 ص 6.
(4) انظر: تهذيب التهذيب ج10 ص 6.
(5) انظر: تهذيب التهذيب ج 10 ص 7 وعبد الكريم هو (ابن أبي المخارق) .
(6) انظر: الانتقاء لابن عبد البر ص 32.
(1/177)
خاصة حديث مالك" (1) ، وذكره ابن أبي حاتم في موضع آخر وفيه
يقول للمالكي: "قلت: ما في الموطأ والزيادات التي ليست في الموطأ؟ قال نعم" (2) ، ويبدو أن زيادة الاهتمام جاءت من روايته عن أحمد بن عمرو ابن عبد الملك الأموي مولاهم، أبي الطاهر المصري المتوفي سنة 255 هـ الذي يعد من الطبقة الثانية من أصحاب مالك من أهل العراق (3) ، وأحمد ابن أبي بكر ابن القاسم بن الحارث، أبي مصعب الزهري المتوفى سنة 242 هـ الذي عُدَّ من الطبقة الصغرى من أصحاب مالك وأحد رواة الموطأ عنه (4) . ومن تنبيه شيخه يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي مولاهم المصري الحافظ المتوفى سنة 231 هـ بأهمية الموطأ حيث قال له: "ليس هذا زعزعة، عن زوبعة ترفع الستر، وتنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بين يديه. مالك، عن نافع، عن ابن عمر" (5) .
وعلى الرغم من اعترافه بصحة أحاديث الموطأ حيث يقول: "لو حلف رجل بالطلاق على أحاديث مالك التي بالموطأ أنها صحاح كلها لم يحنث، ولو حلف على حديث غيره كان حانثاً" (6) ؟ فقد نبه على بعض الأوهام التي وهم فيها الإمام مالك. وهذه بعض الأمثلة. قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه مالك بن أنس، عن حميد الطويل، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر؟ فقالا: إنما هو عن أنس، عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت لهما: الوهم ممن هو؟ قالا: من مالك" (7) وقال
__________
(1) انظر: تقدمة الجرح والتعديل ص 330، وتاريخ دمشق لابن عساكر في ترجمة أبي زرعة، وكذا تهذيب الكمال للمزي (442- أ-) .
(2) انظر: تقدمة الجرح والتعديل ص 331.
(3) انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض ج 3 ص 77، والديباج المذهب ج 1 ص 166، وتهذيب التهذيب ج1 ص 64 والجرح والتعديل ج 1/ ق 1/ 65.
(4) انظر: الديباج المذهب ج 1 ص 140، وتهذيب التهذيب ج 1 ص 20، والجرح والتعديل ج1/ ق1/ 43 وغيرهما كابن أخي ابن وهب، أحمد بن عبد الرحمن، ويونس ابن عبد الأعلى.
(5) انظر: ترتيب المدارك ج1 ص 136.
(6) انظر: ترتيب المدارك ج 1 ص 196.
(7) انظر: علل الحديث ج 1 ص 239 الحديث رقم (696) .
(1/178)
أيضاً "سئل أبو زرعة عن حديث مالك، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن عمر بن عثمان بن عفان، عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر" قال أبو زرعة: "الرواة يقولون: عمرو. ومالك يقول: عمر ابن عثمان. قال أبو محمد: أما الرواة الذين قالوا عمرو بن عثمان فسفيان ابن عيينة، ويونس بن يزيد، عن الزهري" (1) .
وأختم هذا الفصل ببعض الأمثلة التي تدل على معرفة أبي زرعة لما في الموطأ وضبطه له وبيان بعض الأوهام التي وهم فيها بعض الرواة عن مالك. قال ابن أبي حاتم: "سمعت أبا زرعة وذكر حديثا حدثنا به عن الأويس، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر "أن عمر ضرب لليهود والنصارى والمجوس إقامة ثلاث ليال بالمدينة يتسوقون ويقضون حوائجهم" قال أبو زرعة: "في الموطأ مالك، عن نافع، عن أسلم أن عمر. والصحيح ما في الموطأ" (2) ، وقال ابن أبي حاتم: "سمعت أبا زرعة وذكر حديثا رواه ابن وهب، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه عن عمر أن رفيقا لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة فنحروها فرفع ذلك إلى عمر فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم ثم قال عمر إني أراك تجيعهم، والله لأغرمنك غرما يشق عليك ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ قال أربع مائة درهم. قال أعطه ثماني مائة درهم. قال أبو زرعة، وفي موطأ مالك،
__________
(1) انظر: علل الحديث ج 2 ص 50 الحديث رقم (1635) وانظر الكلام حول هذا الحديث وأقوال الأئمة فيه في التقييد والإيضاح ص 106- 107. حيث استدل به ابن الصلاح كمثال للفرد المخالف لما رواه الثقات ثم قال بعد ذكره للحديث: "وذكر مسلم صاحب الصحيح في كتاب التمييز أن كل من رواه من اصحاب الزهري قال فيه: عمرو بن عثمان يعني بفتح العين. وذكر أن مالكا كان يشير بيده إلى دار عمر بن عثمان كأنه علم أنهم يخالفونه وعمرو، وعمر جميعا ولدا عثمان غير أن هذا الحديث إنما هو عن عمرو بفتح العين وحكم مسلم وغيره على مالك بالوهم فيه والله أعلم".
(2) انظر: علل الحديث ج 1 ص 280 الحديث رقم (831) .
(1/179)
عن هشام، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن عن عمر، ولم يقل عن أبيه وهذا الصحيح" (1) .
(جـ) علمه بمصطلح الحديث:
لقد أحاط أبو زرعة بجميع الفنون المتعلقة بالسنة النبوية سواء ماكان يتعلق بالرواية أو الدراية، وفيما يلي بعض أقواله، وآرائه التي تتعلق بمصطلح الحديث.
قوله في الاحتجاج بالحديث المرسل:
قال ابن أبي حاتم: "وسمعت أبي وأبا زرعة يقولان لا يحتج بالمراسيل، ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة" (2) .
رأيه في الرواية بالإجازة من غير مناولة:
قال الحافظ ابن رجب: "وقد ذكر الترمذي عن بعض أهل العلم إجازتها، وقد حكاه غيره عن جمهور العلماء، وحكاه بعضهم إجماعاً. وليس كذلك بل قد أنكر الإجازة جماعة من العلماء، وحكي ذلك عن أبي زرعة، وصالح بن محمد، وإبراهيم الحربي ... " (3) .
رأيه في رواية الثقة عن رجل غير معروف:
قال ابن أبي حاتم: "وسألت أبا زرعة عن رواية الثقات، عن رجل مما تقوى حديثه؟ قال: أي لعمري. قلت الكلبي (4) روى عنه الثوري قال: إنما ذلك إذالم يتكلم فيه العلماء، وكان الكلبي يتكلم فيه. قلت: فما معنى رواية
__________
(1) انظر: علل الحديث ج 1 ص 450- 451 الحديث رقم (1354) ، وانظر كذلك: الأحاديث رقم (0 160) و (1413) و (1499) .
(2) انظر: المراسيل لابن أبي حاتم ص 13، وشرح علل الترمذي ص 230.
(3) انظر: شرح علل الترمذي ص 219.
(4) الكلبي هو (ت فق) محمد بن السائب بن بشر، أبو النضر الكوفي المتوفى سنة 146هـ. قال ابن حبان: "وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه" انظر: تهذيب التهذيب ج 9 ص 178- 181.
(1/180)
الثوري عنه، وهو غير ثقة عنده؟ قال: كان الثوري يذكر الرواية عن الكلبي على الإنكار والتعجب فيعلقون عنه روايته عنه، ولم تكن روايته عن الكلبي قبوله له" (1) فتبين أنه لايعتبر الرجل الضعيف معدلا إذا روى عنه ثقة.
رأيه في الرواية عن الضعفاء من أهل التهمة بالكذب وكثرة الغلط والغفلة:
وللعلماء في ذلك قولان: أحدهما: جواز الرواية عنهم. والثاني: الامتناع من ذلك. قال ابن رجب: "والذي يتبين من عمل الإمام أحمد وكلامه أنه يترك عمن دونهم في الضعف مثل من في حفظه شيء، ويختلف الناس في تضعيفه وتوثيقه. وكذلك كان أبو زرعة يفعل" (2) .
أصح الأسانيد عنده:
قال ابن أبي حاتم: "سألت أبا زرعة فقلت: أي الاسناد أصح؟ قال الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح، ومنصور عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح. وابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح" (3) .
وقال أيضأ: "سألت أبا زرعة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة؟ قال: سهيل أشبه" (4) . وقال أيضا: "قلت لأبي زرعة: ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة أحب إليك أو العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أو سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة؟ قال جميعا ما أقربهم" (5) .
__________
(1) انظر: الجرح والتعديل ج 1/ ق 36/1، وشرح علل الترمذي ص 109، وفي ص 105، قال ابن رجب "وقد اختلف الفقهاء، وأهل الحديث في رواية الثقة عن رجل غير معروف هل تعديل له أم لا؟ وحكى أصحابنا عن أحمد في ذلك روايتين، وحكوا عن الحنفية أنه تعديل، وعن الشافعية خلاف ذلك".
(2) انظر: شرح علل الترمذي ص 113.
(3) انظر: الجرح والتعديل ج 1/ ق 1/26.
(4) انظر: المصدر السابق.
(5) انظر: المصدر السابق.
(1/181)
وقال أيضا: "سألت أبا زرعة عن ابن أبي الزناد، وورقاء، وشعيب ابن أبي حمزة، والمغيرة بن عبد الرحمن المديني كلهم، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحب اليك منهم؟ قال ورقاء أحب إلي من كلهم، قلت: بعده من أحب إليك؟ قال: المغيرة أحب إلي من كلهم، قلت: بعده من أحب إليك؟ قال: المغيرة أحب إلي من ابن أيى الزناد وشعيب؟ قلت: فابن أبي الزناد وشعيب؟ قال شعيب أشبه حديثا وأصح منه" (1) .
شرطه في قبول العنعنة من الثقة غير المدلس:
اشترط أبو زرعة ثبوت السماع مع الرؤية في قبول العنعنة من الثقة غير المدلس عمن عاصره، وأمكنه اللقى، وقد ذكر ابن رجب أبا زرعة ضمن من اشترط ذلك قال الحافظ ابن رجب: "وما قاله ابن المديني، والبخاري، هو مقتضى كلام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم من أعيان الحفاظ، بل كلامهم يدل على اشتراط ثبوت السماع كما تقدم عن الشافعي رضي الله عنه فإنهم قالوا في جماعة من الأعيان ثبتت لهم الرؤية لبعض الصحابة، وقالوا مع ذلك لم يثبت لهم السماع منهم، فرواياتهم عنهم مرسلة منهم الأعمش ويحيى بن أبي كثير، وأيوب وأبي عون، وقرة بن خالد رأوا أنساً، ولم يسمعوا منه. فروايتهم عنه مرسلة. كذا قاله أبو حاتم. وقاله أبو زرعة في يحيى بن أبي كثير، وقال أحمد في يحيى بن أبي كثير قد رأى أنسا فلا أدري سمع منه أم لا، ولم يجعلوا روايته عنه متصلة بمجرد الرؤية، والرؤية أبلغ من إمكان اللقي" (2) . وقال أيضا ابن رجب: "وقال أبو زرعة في أبي أمامة ابن سهل بن حنيف لم يسمع من عمر (3) . هذا مع أن أبا أمامة رأى النبي صلى الله عليه وسلم. فدل كلام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم على أن الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع، وهذا أضيق من قول ابن المديني، والبخاري، فإن المحكي عنهما إنه يعتبر أحد أمرين من
__________
(1) انظر: المصدر السابق.
(2) انظر: شرح علل الترمذي ص 272- 273.
(3) انظر: المراسيل لابن أبي حاتم ص 152.
(1/182)
السماع، وأما اللقاء، وأحمد ومن تبعه عندهم لا بد من ثبوت السماع، ويدل على أن هذا مرادهم أن أحمد قال: ابن سيرين لم يجىء عنه سماع من ابن عباس" (1) .
2- مؤلفات أبي زرعة
إمام كأبي زرعة زاد عدد شيوخه على الألف، وجاب أقطار الأرض، واشتهر برحلاتة البعيدة وملازمة للأئمة الكبار، لا بد وأن يكون له مصنفات كبيرة في العلوم التي طلبها ولو لم يصل إلينا معظمها. فهناك نصوص كثيرة تدل وتؤكد على قوة تصانيفه وتنوعها، وعظم حجمها. فهذا الحافظ الخليلي صاحب الإرشاد يصفه بقوله: " ... فضائله أكثر من أن تعد، وفي تصانيفه لايوازيه أحد" (2) ولقد استفاد من مصنفاته الأئمة الذين أتوا من بعده وخاصة تلاميذه مثل البرذعي وابن أبي حاتم الذي قال عنه الخليلي: "أخذ علم أبيه وأبي زرعة وكان بحرا في العلوم، ومعرفة الرجال والحديث الصحيح من السقيم، وله من التصانيف ما هو أشهر من أن يوصف في الفقه والتواريخ، واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار ... " (3) ويكاد لايوجد مصنف من مصنفات ابن أبي حاتم إلا وأقوال أبي زرعة وآراؤه فيه. في الجرح والتعديل، وعلل الحديث، والمراسيل، وبيان خطأ البخاري، واعتقاد أهل السنة، والتفسير وغير ذلك، ولا بد في هذا الموضع من ذكر أمر مهم يتعلق بأصول مؤلفات أبي زرعة حيث قال الخليلي في ترجمة ابن أبي حاتم: "ويقال إن السنة بالري ختمت به، وأمر بدفن الأصول من كتب أبي زرعة وأبي حاتم ووقف من الكتب تصانيفه وكان وصيه ابن الدرستيني" (4) وهو علي بن الحسين الدرستيني القاضي.
__________
(1) انظر: شرح علل الترمذي ص 274. وانظر: ص 278- 279.
(2) انظر: الإرشاد في معرفة علماء الحديث ج 6، في علماء الري.
(3) انظر: المصدر السابق في ترجمة ابن أبي حاتم وانظر: معجم البلدان ج 3 ص 120- 121.
(4) انظر: الإرشاد في معرفة علماء الحديث ج 6 في ترجمته.
(1/183)
الرد على هذا الخبر:
إن هذا الخبر انفرد بذكره الخليلي في كتابه الإرشاد فقط، وأورده من غير إسناد. إضافة إلى ذلك ذكره بصيغة التمريض. لذا نستبعد صحته، وكان الأولى بابن أبي حاتم أن يفعل هذا بكتبه لايوقفها من بعده على طلبة العلم- والله أعلم- ابن الحسين الدرستيني القاضي- وهذا الخبر يحتاج إلى تأمل وتمحيص وهو يحتمل أحد أمرين لاثالث لهما.
إما أنه أمر بدفن الأصول في حالة روحية غمرته وأصبح مرهف الحساسية مشفقا عليهما، يخشى أن مصنفاتهما ليست لابتغاء وجه الله أو قد داخلها بعض الرياء. وهذا أمر قد حصل لعدد غير قليل من السلف الصالح رحمهم الله حيث كانوا لايعدون الحديث والتدوين من عدة الموتى لذا أوصى محمد بن العلاء الهمداني المتوفى سنة 248 هـ أن تدفن كتبه معه فدفنت (1) . قال أبو زرعة عن عطاء بن مسلم الخفاف: "كان من أهل الكوفة دفن كتبه ثم روى من حفظه فوهم، وكان رجلا صالحاً" (2) .
وقال العجلي عن يوسف بن أسباط الشيباني: "صاحب سند وخبر دفن كتبه وقال لايصلح فكبر عليها" (3) .
وإما أنه أمر بدفنها- أي الأصول- بعد أن ضمنها في كتبه التي صنفها فمن أراد كتب أبيه أو كتب أبي زرعة فعليه بمصنفاته باعتبار أن مصنفاته صارت الغاية في التصنيف، وهذا هو الاحتمال الراجح. وكذلك حفظ لنا البرذعي بعض مصنفات أبي زرعة، منها كتاب أسماء الضعفاء، وأجوبة أبي زرعة على أسئلته التي وجهها إليه في تجريح الرواة.
وفيما يلي تعداد لمؤلفات أبو زرعة وعرض لبعضها:
1- كتاب فوائد الرازيين:
ويبدو أن هذا الكتاب مؤلف من عدة أجزاء ضمنها فوائد حديثية رواها
__________
(1) انظر: تهذيب التهذيب ج 9 ص 386.
(2) انظر: تهذيب التهذيب ج 7 ص 211- 212.
(3) انظر: تهذيب التهذيب ج 11 ص 408.
(1/184)
عن حفاظ الري، كل حافظ وفوائده. يقول البرذعي: "دفع إليّ أبو زرعة جزءا من فوائد الرازيين فنسخت منه ما نسخت وكان فيه أحاديث عن أحمد بن أبي سريج، وعمن دون أحمد، فلما أتيته بالكتاب قلت: لا أراك أدخلت في هذا الجزء محمد بن حميد يحتاج إلى جزء على حدة" (1) .
2- كتاب الفوائد (2) :
قال أبو حاتم حين كلامه عن إسماعيل بن قيس أبي مصعب الأنصاري: "وأتعجب من أبي زرعة حيث أدخل حديثه عن ابن عبد الملك ابن شيبة في فوائده ولا يعجبني حديثه" (3) .
3- كتاب الفضائل (4) .
4- كتاب أعلام النبوة أو (دلائل النبوة) : ذكره الحافظ ابن كثير في تاريخه المشهور فقال: "قال الإمام العالم الحافظ أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي، نضر الله وجهه في كتاب دلاثل النبوة- وهو كتاب جليل ... " (5) وذكر حديثاً رواه أبو زرعة في كتابه هذا يتعلق بما شاهده النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به.
والكتاب يتعلق بمعجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، كآية انشقاق
__________
(1) انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (24- أ-) ، ولا شك بأن ابن أبي حاتم قد ضمن كتابه الموسوم بفوائد الرازيين الفوائد التي جمعها وألفها أبو زرعة.
(2) انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (29- ب-) ، ويبدو أن هذا الكتاب قد ضمنه الفوائد التي رواها عن عامة شيوخه من غير أهل الري.
(3) انظر: الجرح والتعديل ج 1/ ق 1/193، وانظر كذلك ج1 / ق2/ 378- 379 حيث قال ابن أبي حاتم في ترجمة خليفة بن خياط العصفري: "انتهى أبو زرعة إلى أحاديث كان أخرجها في فوائده عن شباب العصفري فلم يقرأ علينا فضربنا عليه، وترك الرواية عنه".
(4) انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (29- ب-) .
(5) انظر: البداية والنهاية ج 4 ص 259- 260.
(1/185)
القمر (1) ، وإضاءة عصا بعض الصحابة في ليلة ظلماء (2) ، وما سيكون من أحداث بعد وفاته ووقع.
وقد أورد أبو زرعة في كتابه ما صح من الروايات، وإذا ثبت لديه ضعف بعضها يضرب عليها ولا يحدث بها. قال البرذعي: "وشهدت أبا زرعة في كتاب أعلام النبوة على باب ما يعرف من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لعلي في الطائر أنه قال: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك" (3) ، فلم يقرأ علينا شيئا مما في الباب. وقال: "ليس فيه حديث صحيح"، ولقد ذكره السخاوي باسم (دلائل النبوة) (4) ، وذكر ابن أبي حاتم كتابا لأبي زرعة باسم (الدلالات) (5) ولعله نفس الكتاب واكتفى بهذه التسمية.
5- كتاب السير (6) .
6- كتاب المختصر (7) .
7- كتاب الزهد (8) .
__________
(1) انظر: المصدر السابق ج 6 ص 75.
(2) انظر: المصدر السابق ج 6 ص 278 وكذلك نقل عنه في ج 6 ص 283- 284 فيما خص به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأمته.
(3) انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (30- أ-) وسيرد تخريج الحديث في موضعه.
(4) انظر: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 534.
(5) انظر: الجرح والتعديل ج 4/ ق2/ 304 حيث قال بعد أن نقل قول أبي زرعة في يعلى بن الأشدق العقيلي (وقرأ علينا كتاب الدلالات فانتهى إلى حديثه فترك قراءته) .
(6) انظر: أجوية أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (29- أ-) .
(7) انظر: علل الحديث ج1 ص 46 حيث قال ابن أبي حاتم بعد أن نقل قول أبيه في حديث تعليم جبريل للنبي كيفية الوضوء "وقد كان أبو زرعة أخرج هذا الحديث في- كتاب المختصر-) عن ابن أبي شيبة، عن الأشيب، عن ابن لهيعة. فظننت أنه أخرجه قديما للمعرفة".
(8) انظر: الإصابة لابن حجر ج 7 ص 170 من ط البجاوي.
(1/186)
8- كتاب الأطعمة (1) .
9- كتاب الفرائض (2) .
10- كتاب الصوم (3) .
11- كتاب الآداب (4) .
12- كتاب الوضوء (5) .
13- كتاب الشفعة (6) .
14- كتاب الأفراد (7) .
__________
(1) قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 2 ص 11 "قرأ علينا أبو زرعة كتاب الأطعمة فانتهى إلى حديث كان حدثهم قديماً إسماعيل بن أبان الوراق، عن عنيسة بن عبد الرحمن، عن علاق بن مسلم، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "تعشوا ولو بكف من حشف فإن ترك العشاء مهرمة" قال أبو زرعة: "هذا حديث ضعيف ولم يقرأ علينا"، وانتهى أبو زرعة إلى حديث آخر عن إسماعيل بن أبان عن كثير بن سليم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "من أحب أن يكثر بركة بيته فليتوضأ إذا حضر غداه وإذا رفع" قال أبو زرعة: هذا حديث منكر" وامتنع من قراءته فلم يسمع منه". وانظر: كذلك ج 2 ص 23.
(2) انظر: علل الحديث ج 2 ص 51 حيث قال ابن أبي حاتم: "وانتهى أبو زرعة فيما كان يقرأ من كتاب الفرائض إلى حديث حماد بن سلمة، عن بديل بن ميسرة، عن علي بن طلق أو غيره عن رجل من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: الخال مولى من لا مولى له يرث ماله ويفك عانه ... " وانظر كذلك ج 2 ص 53 حيث قال ابن أبي حاتم: "وسمعت أبا زرعة وقرأ علينا كتاب الفرائض فانتهى إلى حديث ... " وذكر الحديث. ثم قال ابن أبي حاتم: "فامتنع أبو زرعة من قراءته علينا ولم نسمعه منه".
(3) انظر: تقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ص 333.
(4) انظر: علل الحديث لابن أبي حاتم ج 2 ص 337.
(5) انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (39- ب-) .
(6) انظر: علل الحديث ج 1 ص 479 حيث قال ابن أبي حاتم بعد أن نقل قول أبي زرعة في حديث "الشفعة كحل العقال": "ولم يقرأه علينا في كتاب الشفعة وضربنا عليه"، وانظر كذلك: تهذيب التهذيب ج 9 ص 105.
(7) انظر: الإصابة لابن حجرج 3 ص 493 ط البجاوي في ترجمة ضمرة اليمامي.
15- كتاب العلل: حيث أفرد فيه الكلام عن علل الأحاديث (1) .
16- كتاب الجرح والتعديل (2) .
ولقد اعترض بعض الأئمة على أبي زرعة في تأليفه هذا الكتاب، وقالوا ماهو إلا كتاب التاريخ الكبير للبخاري، (3) . قال الإمام الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد النيسابوري الكرابيسي المتوفى سنة 378 هـ: "كنت بالري وهم يقرؤون على ابن أبي حاتم كتاب الجرح والتعديل فقلت لابن عبدويه الوراق: هذه ضحكة أراكم تقرؤون كتاب التاريخ للبخاري على شيخكم على الوجه وقد نسبتموه إلى أبي زرعة وأبي حاتم، فقال: يا أبا أحمد إن أبا زرعة وأبا حاتم لما حمل إليهما تاريخ البخاري قالا: هذا علم لا يستغنى عنه، ولا يحسن بنا أن نذكره عن غيرنا، فأقعدا عبد الرحمن يسألهما عن رجل بعد رجل وزادا فيه ونقصا" (4) ، وزاد الخطيب في الخبر "ونسبه عبد الرحمن إليهما" (5) . وقال الحاكم أيضا في كتابه الكنى " ... وكتاب محمد بن إسماعيل في التاريخ كتاب لم يسبق إليه، ومن ألف بعده شيئا من التاريخ أو الأسماء أو الكنى لم يستغن عنه، فمنهم من نسبه إلى نفسه، مثل أبي زرعة، وأبي حاتم، ومسلم، ومنهم من حكاه عنه، فالله يرحمه فإنه الذي أصل الأصول" (6) ، وذكر الخليلي في الإرشاد نحو هذا الكلام (7) .
__________
(1) انظر: شرح العلل لابن رجب الحنبلي ص 59 وكان الخطيب البغدادي، يمتلك نسخة منه ورد بها دمشق. انظر: تسمية ما ورد به الخطيب دمشق رقم (85) لمحمد بن أحمد الأندلسي ط الترقي دمشق 1945م، وانظر: موارد الخطيب للدكتور أكرم العمري ص 322.
(2) انظر: شرح علل الترمذي ص 59.
(3) كتاب التاريخ الكبير للبخاري طبع بحيدر آباد في 8 أجزاء (4 مجلدات) ، 1941- 1945م، 1959 م (3 مجلدات) 1963 م.
(4) انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي ج 3 ص 978.
(5) انظر: موضح أوهام الجمع والتفريق ج1 ص 8- 9.
(6) انظر: طبقات الشافعية ج 2 ص 225- 226.
(7) انظر: الإرشاد في معرفة علماء الحديث ج 10، في علماء بخارى. والسنن الأبين لابن رشيد ص 131.
(1/188)
والصواب أن أبا زرعة وأبا حاتم لما وقفا على كتاب التاريخ الكبير للبخاري وجدا فيه نقصا في بعض التراجم، من حيث ضبط الأسماء أو الكنى، أو منزلتهم في تحمل الحديث وروايته. ولما كانا يمتلكان القدرة على التمييز والفهم لمراد الأئمة في ألفاظهم التي استعملوها في تجريح الرواة وتوثيقهم، صنف كل منهما كتابا في الجرح والتعديل على نفس منهج البخاري، مع الزيادة في حجمه وبعض التغيير في هيكله، وضبط بعض الأسماء والكنى التي قد أخطأ فيها البخاري (1) حسب اجتهادهما ومن ثم جمع كتابيهما ابن أبي حاتم في كتابه المشهور المعروف بالجرح والتعديل (2) ، وأضاف إلى كتابيهما ما دوّنه عن شيوخه وما اجتهد به من أحكام على الرواة ومن يطيل النظر والدراسة لكتابه يجد مصداق ذلك. ولقد أحسن الحافظ ابن رجب في كلامه وحكمه على ذلك بقوله حين كلامه عن مصادر الترمذي في كتاب العلل: "وأما التواريخ والعلل والأسماء ونحو ذلك، فقد ذكر أن أكثر كلامه فيه استخرجه من كتاب تاريخ البخاري وهو كتاب جليل لم يسبق إلى مثله رحمه الله، ورضي عنه وهو جامع لذلك كله. ثم لما وقف عليه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان رحمهما الله صنفا على منواله كتابين: أحدهما: كتاب الجرح والتعديل، وفيه ذكر الأسماء فقط. وزاد على ماذكره البخاري أشياء من الجرح والتعديل وفي كتابيهما من ذلك شيء كثير لم يذكره البخاري (3) .
17- كتاب بيان خطأ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه.
وهو عبارة عن كتاب صنفه أبو زرعة بعد اطلاعه على كتاب التاريخ الكبير للبخاري ضمنه الأخطاء والأوهام التي وجدها فيه. روى الخطيب بسنده إلى أبي علي صالح بن محمد الحافظ أنه قال: "قال لي أبو زرعة: يا أبا علي نظرت في كتاب محمد بن إسماعيل هذا أسماء الرجال فإذا فيه خطأ كثير، فقلت
__________
(1) ينقل ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل عن أبي زرعة في مواضع كثيرة ما يدل على مخالفته للبخاري. وانظر الكلام في بيان خطأ البخاري ص 226.
(2) كتاب الجرح والتعديل طبع بحيدر آباد في ثمانية أجزاء 1941م- 1953م.
(3) انظر: شرح علل الترمذي ص 59.
(1/189)
له: بليته إنه رجل كل من كان يقدم عليه من العراق من أهل بخارى نظر في كتبهم، فإذا رأى اسما لايعرفه وليس عنده كتبه، وهم لايضبطون وتكون كتبهم غير منقوطة، فيضمه في كتابه خطأ-، وإلا فما رأيت خراسانيا أفهم منه لولا في لسانه وفي ذلك الكتاب أسام لاتعرف ولم يبين من روى عنهم، وعمن رووا، وأي شيء رووا، فيتحير الإنسان فيه. قال: وسألني خالد بن أحمد أبو الهيثم أن أنظر له شيئا في هذا الكتاب فأصحح له فنظرت فغيرت أشياء أخطأ فيه وصحف ورأيت محمد بن إسماعيل ببغداد يقرأ عليهم هذا الكتاب فقال: وإبراهيم بن شعيب روى عنه ابن وهب. فقلت له: إنما هو إبراهيم بن شعيث، ثم قلت له: أنت تنظر في كتب الناس فإذا مر بك اسم لاتعرفه أخذته والخطأ فيه من غيرك، لأنهم كانوا لايضبطون" (1) .
وأبو زرعة هو أول من صنف في بيان خطأ البخاري، ثم أبو حاتم ثم بعدهما ابن أبي حاتم. حيث صنف في الأخطاء كتابا (2) ضمنه تصويبات أبي زرعة وأبيه وقد ينبه في كل ترجمة فيما إذا اتفق والده مع أبي زرعة أو يخالفه وسماه بنفس اسم كتاب أبي زرعة. يقول ابن أبي حاتم في بدايته: "سمعت أبي يقول: قال أبو زرعة رضي الله عنهم: حمل إلى الفضل بن العباس المعروف بالصائغ كتاب التاريخ ذكر أنه كتبه من كتاب محمد بن إسماعيل البخاري فوجدت فيه ... " (3) وأخذ ينبه على ما رآه خطأ مع بيان الصواب عنده إلى آخر الكتاب، ولقد دافع عن كتاب التاريخ الكبير الخطيب البغدادي بعد اطلاعه على كتاب ابن أبي حاتم حيث يقول: "وقد جمع عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي الأوهام التي أخذها أبو زرعة على البخاري في كتاب مفرد ونظرت فيه فوجدت كثيرا منها لا تلزمه وقد حكى عنه في ذلك الكتاب أشياء هي مدونة في تاريخه على الصواب بخلاف الحكاية عنه، ومن العجب أن ابن أبي حاتم أغار على
__________
(1) انظر: موضح أوهام الجمع والتفريق ج 1 ص 7.
(2) كتاب بيان خطأ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه. لابن أبي حاتم طبع بحيدر آباد سنة 1961م.
(3) انظر: المصدر السابق ص 2.
(1/190)
كتاب البخاري ونقله إلى كتابه في الجرح والتعديل وعمد إلى ما تضمنه من الأسماء فسأل عنها أباه وأبا زرعة ودوّن عنهما الجواب في ذلك ثم جمع الأوهام المأخوذة على البخاري وذكرها من غير أن يقدم ما يقيم به العذر لنفسه عند العلماء في أن قصده بتدوين تلك الأوهام بيان الصواب لمن وقعت إليه دون الانتقاص والعيب لمن حفظت عليه ونحن لا نظن أنه قصد غير ذلك فإنه كان بمحل من الدين، وأحد الرفعاء من أئمة المسلمين رحمة الله عليه وعليهم أجمعين" (1) ، ولقد أجاد الشيخ المعلمي اليماني رحمه الله- حيث أقرّ الخطيب على دفاعه وبرر انتقاد أبي زرعة ومن معه فقال بعد أن نقل عن البخاري إنه قال عن تاريخه (صنفته ثلاث مرات) : "ومعنى هذا أنه بدأ فقيد: التراجم بغير ترتيب ثم كرّ عليها فرتبها على الحروف ثم عاد فرتب تراجم كل حرف عل الأسماء: باب إبراهيم. باب إسماعيل ... الخ، هذا هو الذي التزمته ويزيد من الأسماء التي تكثر مثل محمد وإبراهيم فيرتب تراجم كل اسم على ترتيب الحروت الأوائل لأسماء الآباء ونحوها، وقال بعد نقله قول البخاري: "صنفت جميع كتبي ثلاث مرات" يعني والله أعلم أنه يصنف الكتاب ويخرجه للناس. ثم يأخذ يزيد في نسخته ويصلح ثم يخرجه الثالثة وهذا ثابت للتاريخ كما يأتي، ثم قال بعد كلام: "فإن ما تقدم من كلام أبي زرعة وصالح بن محمد الحافظ، وما جمعه ابن أبي حاتم من المآخذ على البخاري كان بالنظر إلى النسخة التي أخرجها البخاري أولا وبهذا يتضح السبب فيما ذكره الخطيب معترضا على ابن أبي حاتم قال: "وحكي عنه- أي عن البخاري- في ذلك الكتاب أشياء على الغلط هي مدونة في تاريخه على الصواب بخلاف الحكاية عنه فكلام ابن أبي حاتم كان بحسب النسخة التي أخرجها البخاري أولا وكلام الخطيب بالنظر إلى النسخة التي أخرجها ثانيا وهي رواية أبي أحمد محمد بن سليمان بن فارس الدلال النيسابوري المتوفى سنة 312 هـ ذكر الخطيب في الموضح أول اعتراضاته على البخاري إسناده إليه. وفي رواية ابن فارس هذه مواضع على الخطأ وهي في رواية محمد بن سهل بن كردي عن البخاري على الصواب- ثم قال اليماني- انظر: موضح الأوهام 7 و 9 و13 من أوهام البخاري مع تعليقي، فظهر أن
__________
(1) انظر: موضح أوهام الجمع والتفريق ج 1 ص 7- 8.
(1/191)
رواية ابن فارس مما أخرجه البخاري ثانياً، ورواية ابن سهل مما أخرجه ثالثاً" (1) ومن يقرأ كتاب بيان خطأ أبي عبد الله ... لابن أبي حاتم يتضح له أن أبا زرعة صنف هذا الكتاب ثم بعده أبو حاتم وبعدهما ابن أبي حاتم وكذا في الجرح والتعديل فمثلا في ترجمة عاصم بن عمر بن الخطاب ابن أبي حاتم: "سئل أبو زرعة فقيل له أن محمد بن إسماعيل البخاري أخرج في كتابه عاصم بن عمرو ابن أبي أحمد القرشي الذي روى بكير بن الأشج عن محمد بن وهب عنه؟ قال أبو زرعة: إنما هو عاصم بن عمر بن الخطاب وابن أبي أحمد بن جحش) (2) وقال في ترجمة عبد الله بن ناسح الحضرمي: "كان البخاري أخرج هذا الاسم في باب النون ناسخ الحضرمي فغير أبي بخطه وقال إنما هو عبد الله بن ناسح الحضرمي، وكذلك أخرج أبو زرعة فيما أخرج عن خطأ البخاري هذا الاسم وقال كما قال أبي" (3) .
18- التفسير:
لقد عدّ الحافظ شمس الدين محمد بن علي الداودي المتوفى سنة 945 هـ أبا زرعة الرازي أحد المفسرين الذين عنوا بالتفسير وأفرد له ترجمة في كتابه طبقات المفسرين (4) ، ولقد استفاد أبو زرعة من كبار المفسرين وروى بعض
__________
(1) انظر: موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب ج 1 ص 10- 11.
(2) انظر: الجرح والتعديل ج 3/ ق 1/346.
(3) انظر: الجرح والتعديل ج 2/ ق 2/184- 185، وتعجيل المنفعة ص 16، وقال المحقق المعلمي في حاشية الورقتين 184- 185 من الجرح والتعديل: "والذي في الأصلين من تاريخ البخاري وكذلك طبع (ناشج) وبين ابن حجر في الإصابة والتعجيل على أن الراجح في هذا الإسم (ناسح) وأن البخاري وتابعه جماعة قال (ناسح) وفي التعجيل بعد كلام تلخص من هذا أن شرحبيل بن شفعة إنما روى عن ناسح والد عبد الله وإن عبد الله بن ناسح روى عنه الحسن بن أيوب وشريح ابن كسيب) وفي تبصير المنتبه بتحرير المشتبه ج 4 ص 1404 قال ابن حجر: "ناسح الحضرمي- بمهملتين- له صحبة. وابنه عبد الله بن ناسح، شيخ للحسن ابن أبوب الحضرمي". وانظر كذلك أمثلة أخرى في الجرح والتعديل ج 3/ ق 2/322، ج 4/ ق 1/138، ج 4/ ق 1/358، ج 4/ ق1/ 138، ج 3/ ق 2/322.
(4) انظر: طبقات المفسرين للداودي ج 1 ص 369- 371.
(1/192)
التفاسير المعتمدة عن التابعين ومن بعدهم ولقد اتبع منهج التفسير بالمأثور فيأخذ ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين وتابعيهم وكان يميّز الأحاديث الصحيحة عن الضعيفة الواردة في التفسير، ذكر عددا منها ابن أبي حاتم في علل الحديث (1) ، وهذا هو المنهج الصحيح إن أردنا أن نفسر القرآن الكريم تفسيرا خاليا من الأحاديث الضعيفة نقيا من الإسرائيليات. ولقد ضم ابن أبي حاتم قسما كبيرا من تفسير أبي زرعة في تفسيره (2) ، فبعض طرقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) ، أو بعض الصحابة أو إلى التابعين أو تابعيهم. وهذه بعض الطرق التي روى أبو زرعة منها التفسير.
أ- تفسير السدي وهو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة المتوفى سنة 128 هـ. يرويه بالسند التالي: قال أبو زرعة: ثنا عمرو بن حماد بن طلحة
__________
(1) انظر: علل الحديث ج 2، علل أخبار في القرآن وتفسيره الأحاديث رقم 1647- 1649،1656، 1661، 1663- 1667، 1673، 1677، 1678، 1679، 1693، 1694، 1707، 1728، 1745- 1759، 1763، 1765، 1766، 1767، 1773، 1775- 1778، 1791، وبعض هذه الأحاديث تتعلق بأسباب النزول.
(2) ما وصل إلينا من تفسير ابن أبي حاتم محفوظ في دار الكتب بالقاهرة (2) 1 ص 36 تفسير (مجلدات 1، 7، 249 ورقة 293 ورقة، انظر فهرست معهد المخطوطات 1: 28) ، أيا صوفيا 175 (مجلد 2/205 ورقة 748 هـ) ، الظاهرية 7312 (مجلد 1، 101 ورقة، القرن السابع أو الثامن الهجري، انظر: عزت حسن 1: 183) وانظر تاريخ التراث ج 1 ص 448.
ووصل إلينا كذلك المجلد الثالث وفيه تفسير سورة المائدة من الآية (45) - الآية (33) من سورة الأنفال. والمجلد الرابع من الآية (34) من سورة الأنفال إلى- الآية (11) من سورة الرعد. والمجلدان في المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة ومنهما نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية تحت الأرقام 279- 286.
(3) انظر مثلا المواضع التالية في تفسير ابن أبي حاتم ج 1، ورقة (182- أ- ب) ، (203 - ب-) ، (210- أ-)
(1/193)
القناد، المتوفى سنة 222 هـ، ثنا أسباط بن نصر الهمداني، المتوفى سنة 170 هـ عن السدي (1) .
ب- تفسير سعيد بن جبير الأسدي تلميذ عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر الذي قتله الحجاج سنة 95 هـ، يرويه بالسند التالي: قال أبو زرعة: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، القرشي الحافظ المتوفي سنة 231 هـ، ثنا ابن لهيعة، وهو عبد الله بن لهيعة بن عقبة المصري الفقيه المتوفى سنة 174 هـ، عن عطاء بن دينار، الهذلي مولاهم أبو الزيات المصري، المتوفى سنة 126 هـ (2) ، عن سعيد بن جبير (3) .
ج- تفسير عطاء بن أبي رباح أسلم القرشي الذي أدرك مائتين من الصحابة، المتوفى سنة 114 هـ يرويه بالسند التالي: قال أبو زرعة: حدثنا صفوان، هو ابن صالح بن صفوان الثقفي الدمشقي، المتوفى سنة 237 هـ، ثنا الوليد بن مسلم القرشي الدمشقي الذي قال فيه أبو زرعة هو أعلم من وكيع بأمر المغازي المتوفى سنة 194 هـ، ثنا عثمان بن الأسود بن موسى المكي، المتوفى سنة 150 هـ، عن عطاء بن أبي رباح (4) .
(د) تفسير عبد الله بن عباس ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم. يرويه بالسندين التاليين:
قال أبو زرعة: ثنا منجاب بن الحارث بن عبد الرحمن التميمي الكوفي، المتوفى سنة 231 هـ، ثنا بشر بن عمارة الخثعمي المكتب الكوفي، عن أبي روق، عطية بن الحارث
__________
(1) انظر مثلا المواضع التالية من تفسير ابن أبي حاتم المجلد 1 ورقة (6- أ-) ، (6- ب-) 2، (7- ب-) 2، (8- ب-) ، (9- أ-) ، (12- أ-، ب) ، (13- أ- ب) ، (14 - ب-) ، (16- أ-) 2، (16- ب-) ، (18- ب-) ، (20- ب-) ، (21- أ- ب-) ، (24- ب-) ، (26- ب-) 2.
(2) قال أحمد بن صالح عنه: "من ثقات المصريين وتفسيره فيما يروي عن سعيد بن جبير صحيفة، وليست له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير"، انظر: تهذيب التهذيب ج 7 ص 198.
(3) انظر: تفسير ابن أبي حاتم المواضع التالية في ج 1، ورقة (6- أ-) ، (9- ب-) ، (18 - أ-) ، (19- أ-) ، (22- ب-) .
(4) انظر: المصدر السابق ورقة (6- ب-، 7- أ-) .
(1/194)
الهمداني الكوفي الذي ذكره ابن سعد في الطبقة الخامسة وقال عنه هو صاحب التفسير (1) ، عن الضحاك بن مزاحم الهلالي الخراساني المتوفى سنة 105 هـ، عن ابن عباس (2) .
وقال أبو زرعة: ثنا ابن أبي شيبة، ثنا معاوية بن هشام القصار الأزدي الكوفي، المتوفى سنة 205 هـ، عن عمار بن رزيق الضبي التميمي، أبو الأحوص الكوفي، المتوفى سنة 159 هـ، عن عطاء بن أبي السائب ابن مالك الثقفي الكوفي، المتوفى سنة 137 هـ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (3) .
هـ- تفسير قتادة ابن دعامة السدوسي، المتوفى سنة 118 هـ، يرويه بالسندين التاليين:
قال أبو زرعة: ثنا العباس بن الوليد الترسي البصري، المتوفى سنة 238 هـ، ثنا يزيد بن زريع التميمي، البصري الحافظ، المتوفى سنة 182 هـ، ثنا سعيد بن أبي عروبة العدوي البصري، المتوفى بحدود 156 هـ، عن قتادة السدوسي (4) .
وقال أبو زرعة: ثنا صفوان بن صالح الدمشقي، ثنا الوليد بن مسلم الدمشقي، ثنا ويقول تارة أخبرني سعيد بن بشير الأزدي، البصري المتوفى سنة 168 هـ، عن قتادة السدوسي (5) .
__________
(1) انظر: تهذيب التهذيب ج 7 ص 224..
(2) انظر: تفسير ابن أبي حاتم المواضع التالية: ورقة (9- أ- ب-) ، (10- أ-) ، (12 - أ-) 2، (15- أ-) ، (16- ب-) ، (21- أ-) ، (24- أ-) ، (26- ب-) .
(3) انظر: تفسير ابن أبي حاتم ج 1، ورقة (172- أ) ، ولا يمنع من وجود طرق أخرى عن ابن عباس لأنني ما تتبعت الأسانيد في جميع الكتاب بالتفصيل وكذا بالنسبة لغير ابن عباس الذين ذكرتهم والذين سأذكرهم. واكتفيت بهذه الأمثلة كنماذج.
(4) انظر: المصدر السابق ورقة (7- ب-) ، (19- ب-) .
(5) انظر: المصدر السابق ورقة (13- ب-) 2، (17- ب-) ، (19- ب-) ، (20 - أ-) 2، (22- أ-) ، (24- أ-) .
(1/195)
وقال أبو زرعة: ثنا محمد بن المثنى، عن عبيد العنزي المتوفى سنة 252 هـ، ثنا معاذ بن معاذ بن نصر العنبري الحافظ البصري المتوفي سنة 196 هـ، عن ابن عون، أبو عبد الله الخراساني، المتوفى بين سنة 145- 150 هـ، عن محمد بن سيرين (1) .
ي- تفسير مكحول الشامي المتوفى بعد سنة 112 هـ، يرويه بالسند التالي:
قال أبو زرعة: ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، ثنا مروان بن معاوية بن الحارث الفزاري الكوفي، الحافظ المتوفى سنة 193 هـ، ثنا صبيح مولى بني مروان عن مكحول (2) .
ك- تفسير عكرمة بن خالد العاص، توفي بعد عطاء بن أبي رباح، أي بعد 114 هـ، يرويه بالسندين التاليين:
قال أبو زرعة: ثنا محمد بن أبي بكر المقدسي، ثنا عبد العزيز بن عبد الصمد البصري الحافظ، المتوفى بحدود 189 هـ، عن مالك بن دينار، عن عكرمة (3) .
وقال أبو زرعة: ثنا محمد بن الصباح البزاز البغدادي، المتوفى سنة 227 هـ، ثنا إسماعيل بن زكرياء، عن محمد بن عون الخراساني، عن عكرمة (4) .
وكان حريصا على رواية التفاسير المعتمدة عن الثقات. يقول ابن أبي حاتم في ترجمة محمد بن المنهال الضرير البصري الحافظ المتوفى سنة 231 هـ "سمعت أبا زرعة يقول سألت محمد بن المنهال أن يقرأ عليّ تفسير أبي رجاء ليزيد بن زريع فأملى عليّ من حفظه نصفه ثم أتيته يوما آخر بعدكم فأملى عليّ من حيث انتهى فقال: خذ فتعجبت من ذلك وكان يحفظ حديث يزيد بن زريع" (5) .
__________
(1) انظر: المصدر السابق ورقة (173- أ-) .
(2) انظر: تفسير ابن أبي حاتم ج 1، ورقة (203- ب-) .
(3) انظر: المصدر السابق ورقة (9- ب-) .
(4) انظر: المصدر السابق ج 67 في تفسير سورة القصص تلك الدار الآخرة.
(5) انظر: الجرح والتعديل ج 4/ ق 1/ 92، وتهذيب التهذيب ج 9 ص 476.
(1/197)
وكذلك أخذ التفسير عن محمد بن يزيد الأسفاطي (1) ، البصري، وكان يحفظ مائة وأربعين ألف حديث في التفسير والقراءات، ومن كانت هذه حصيلته، كان له القدرة على فهم كتاب الله فهما صحيحا.
19- أجوبته على أسئلة البرذعي (في الضعفاء) (2) .
20- كتاب أسماء الضعفاء (3) .
21- أجوبته على أسئلة البرذعي (في الثقات) :
يقول البرذعي: "وسألته بعد هذا عن قوم مدحهم، فأجابني بما ضمنته غير هذا الموضع" (4) .
22- كتاب الصحابة:
من مجموع النصوص التي وقفت عليها والمتعلقة بالصحابة لعلها تدل على أن أبا زرعة الرازي أفرد الصحابة رضي الله عنهم بمصنف. ويبدو لي من النصوص أنه ضمنه الكلام عن منزلة الصحابة، ومكانتهم، وعددهم، والحكم بزندقة من جرحهم، وتمييز الصحابي عن التابعي. قال ابن حجر في ترجمة مسلم بن الحارث التميمي: "وصحح البخاري وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان والترمذي وابن قانع وغير واحد أن مسلم بن الحارث هو صحابي ... " (5) .
ويدل على إحاطته بمعرفة الصحابة ما رواه الثقات عنه "أن رجلا سأله فقال له: يا أبا زرعة، أليس يقال حديث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف حديث؟ قال: ومن قال ذا؟ قلقل الله أنيابه، هذا قول الزنادقة، ومن يحصي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر: تقدمة الجرح والتعديل ص 357.
(2) وسأتناوله بالدراسة في التمهيد للباب الثاني.
(3) وسأتناوله بالدراسة في التمهيد للباب الثاني.
(4) انظر: أجوبته على أسئلة البرذعي ورقة (11- أ- ب-) .
(5) انظر: تهذيب التهذيب ج 10 ص 125، وانظر كذلك: تهذيب التهذيب ج 8 ص 351، وانظر: الجرح والتعديل ج 1/ ق2/ 288، ج 1/ ق1/149، 282، 306، ج 1/ ق2/22، 88، 228، 239، ج2/ ق2/107، وانظر: الإصابة ج 4 ص152.
(1/198)
عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه. قيل: يا أبا زرعة، هؤلاء أين كانوا وسمعوا منه (1) ؟ قال: أهل المدينة وأهل مكة ومن بينهما والأعراب ومن شهد معه حجة الوداع" (2) .
وأما حكمه بالزندقة على من يجرح الصحابة، فقد روى الخطيب بسنده إليه أنه قال: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلم إنه زنديق، وذلك أن الرسول حق والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة (3) ، ومما يدل على تمييزه ودقة معرفته نراه يحكم على بعض الرواة بقوله: "ليست له صحبة" (4) ، ويقول تارة عن بعضهم: "له صحبة قديمة" (5) ، ويقول: "لا يسمى وهو صحابي في الصحابة" (6) أو يقول عن البعض: "هو من التابعين" (7) ولم ينس الصحابيات
__________
(1) انظر: التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح ص 305- 306، وقد عقب العراقي على هذا النص بقوله: "وفي هذا التحديد بهذا العدد المذكور نظر كبير، وكيف يمكن الاطلاع على تحرير ذلك مع تفرق الصحابة في البوادي والقرى والموجود عن أبي زرعة بالأسانيد المتصلة إليه ترك التحديد في ذلك وأنهم يزيدون على مائة ألف كما رواه أبو موسى المديني في ذيله على الصحابة لابن مندة بإسناده إلى أبي جعفر أحمد بن عيسى الهمداني قال: قال أبو زرعة الرازي توفي النبي- صلى الله عليه وسلم-، ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل وامرأة، وكل قد روى عنه سماعا أو رؤية انتهى ... " وانظر كذلك: فتح المغيث ج 4 ص 39، الإصابة ج 1 ص 3- 4 ط السعادة بمصر، وتلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي ص 103، ومحاسن الاصطلاح للبلقينى ص432.
(2) انظر: الكفاية للخطيب ص 97، وتاريخ دمشق لابن عساكر في ترجمة أبي زرعة، وتهذيب الكمال للمزي ورقة (442- أ-) والإصابة ج 1 ص 11.
(3) انظر: الكفاية للخطيب ص 97، وتاريخ دمشق لابن عساكر في ترجمة أبي زرعة، وتهذيب الكمال للمزي ورقة (442-أ-) والإصابة ج 1 ص 11.
(4) انظر: الجرح والتعديل ج 4/ ق 2/448، 363، ج 3/ ق 1/ 0 2 1، ق 2/
162، والإصابة ج 2 ص 60.
(5) انظر: الجرح والتعديل ج 4/ ق 1/ 54.
(6) انظر: الجرح والتعديل ج 4/ ق 2/ 351، 374، 387، وانظر: تعجيل المنفعة ص310، والجرح والتعديل ج 4/ ق 2/ 390، 405.
(7) انظر: الجرح والتعديل ج 4/ ق 2/ 390، 415، وتهذيب التهذيب ج 5 ص 81، والإصابة ج 5 ص 40 وقد يكون صنف في التابعين أيضاً. وانظر: ج 4/ ق 1/290 من الجرح والتعديل حيث قال ابن أبي حاتم عن محمود بن لبيد: "قال البخاري له صحبة وأبو زرعة يقول روى عن ابن عباس" وقال في ج 2/ ق2/ 262 "قال عنه أبو زرعة: عبد الرحمن بن عسيلة توفي النبي- صلى الله عليه وسلم - وهو بالجحفة، وقدم المدينة، ولم يلحق النبي- صلى الله عليه وسلم
(1/199)
رضي الله عنهن فقد أولاهن حضنهن بالمعرفة والإحاطة، فمثلا يقول عن أم خالد فيما نقله عنه ابن أبي حاتم: "اسمها أمة وتكنى بأم خالد، وكانت تحت الزبير وهي ابنة خالد بن سعيد بن العاص بن أمية. وقال- أي ابن أبي حاتم- سمعت أبا زرعة يقول: أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص الأكبر اسمها أمة، صح لها عن النبي صلى الله عليه رسلم أحاديث، وسعيد بن العاص مات في الجاهلية بين الطائف ومكة وهي امرأة الزبير كان خالد بن الزبير ولد منها، ولدته بأرض الحبشة" (1) .
23- المسند:
لقد صنف كثير من الحفاظ والمحدثين المسانيد قبل عصر أبي زرعة وفي عهده من شيوخه وأقرانه، وبعد طبقته. والمسانيد كما يقول الكتاني: "جمع مسند وهي الكتب التي موضوعها جعل حديث كل صحابي على حدة. صحيحا كان أو حسنا أو ضعيفاً، مرتبين على حروف الهجاء في أسماء الصحابة، كما فعله غير واحد، وهو أسهل تناولاً، أو على القبائل أو السابقة في الإسلام، أو الشرافة النسبية، أو غير ذلك، وقد يقتصر في بعضها على أحاديث صحابي واحد، كمسند أبي بكر، أو أحاديث جماعة منهم، كمسند الأربعة أو العشرة أو طائفة مخصوصة، جمعها وصف واحد، كمسند المقلين، ومسند الصحابة الذين نزلوا مصر، إلى غير ذلك (2) ، وذكر الكتاني مسند أبي زرعة ضمن المسانيد التي ذكرها (3) . ولم أعثر على نسخة من مسند أبي زرعة- رغم تتبعي وبحثي في فهارس المخطوطات- وهو من جملة مصنفاته المفقودة، وأود في هذه المناسبة أن أنبه إلى وهم وقع فيه بروكلمان حيث قال في تاريخ الأدب العربي ج 3/ 310 حين كلامه عن مسند أحمد (وتوجد أقسام متفرقة منه من مسند الشاميين؛
__________
(1) انظر: الجرح والتعديل ج 4/ ق 2/ 462.
(2) انظر: الرسالة المستطرفة ص 60- 61.
(3) انظر: الرسالة المستطرفة ص 64.
(1/200)
برلين 1259، كوبريلي 412- 416 (برواية أبي زرعة المتوفى 276 هـ، والصواب. أنه توفي سنة 264 هـ وانظر طبقات الحفاظ للسيوطي 9/ 78، أو هو كتاب مستقل لتلميذه المذكور) ، ولم يتابعه الأستاذ سزكين في هذا بل نسبه للإمام أحمد (1) ، ووهم صاحب فهرس المخطوطات المحفوظة في مكتبة كوبريلي زادة (2) حيث ذكره في كتب الحديث باسم (مسند الشاميين) ونسبه لأبي زرعة ولم يذكر نسبه، وأعطى لأجزائه الأرقام التالية: 412، 413، 414، 415، 416، ولقد كتبت إلى أحد الإخوة من طلبة العلم الأتراك كي يصف لي الكتاب المعطى لأجزائه الأرقام السابقة فاستجاب مشكورا ورد على رسالتي برد (3) ضمنه وصفا دقيقا لهذه الأجزاء التي تدل بكل وضوح ودون لبس على أنها أجزاء من مسند الإمام أحمد رحمه الله والجزء الأول ورقمه (412) والسادس ورقمه (414) ويتضمنان مسند الشاميين، والجزء الثاني ورقمه (413) يتضمن مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه والجزء الثامن ورقمه (415) يتضمن مسند الأنصار وغيرهم من القبائل، والجزء الخامس ورقمه (414) يتضمن مسند أبي قتادة الأنصاري وغيره، والجزء التاسع ورقمه (416) يتضمن مسند صفوان المرادي. وهذه النسخة من المسند مروية بالسند التالي مما رواه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل عن أبيه، رواية أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي عنه، رواية أبي علي الحسن بن علي بن المذهب عنه، رواية أبي القاسم هبة الله بن عبد الواحد بن الحصين الشيباني. وهذا السند كتب على الأجزاء المذكورة ولا يوجد فيها أي إشارة إلى أن أبا زرعة هو الذي رواها.
وأما النسخة التي أشار إليها بروكلمان في مكتبة برلين الغربية فقد اطلعت عليها في صيف عام 1399 هـ، فتبين أنها مسند الشاميين من مسند
__________
(1) انظر: fuat sezcin geschichte des Arabischen Schrifttums
band (I) : Leiden
(2) انظر: فهرس المخطوطات المحفوظة في مكتبة كوبريلي زاده ط سنة 1303 هـ في استانبول 6 ص 25.
(3) استلمت رسالته بتاريخ 11/ 3/ 1976.
(1/201)
أحمد بن حنبل أيضاً وبرواية القطيعي، ورواه عنه ابن المذهب، وعن ابن المذهب رواه ابن الحصين الشيباني.
ومن خلال النصوص التي جمعتها والمتعفقة بالمسند يبدو أن أبا زرعة رتّب مسنده على حسب المدن التي نزلها الصحابة رضي الله عنهم بعد أن أورد أحاديث العشرة ثم المهاجرين، ثم الأنصار وهكذا، أو يبدو أن له أكثر من مسند يتضمن مجموع الصحابة وآخر يتعلق بالشاميين- والله أعلم- لما لهم من أهمية وهذه بعض النماذج التي تلقي ضوءاً على منهجه.
مسند ابن عمر. قال ابن أبي حاتم: "وانتهى أبو زرعة في مسند ابن عمر إلى حديث لإسماعيل بن إبراهيم بن هود فقال: اضربوا عليه ولم يقرأه" (1) .
مسند المصريين. قال ابن أبي حاتم في ترجمة أبي اليقظان "أخرج أبو زرعة لأبي اليقظان هذا الحديث الواحد في مسند المصريين" (2) ، والحديث "أبشروا فوالله لأنتم أشدّ حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تروه من عامة من رآه".
مسند البصريين. قال ابن أبي حاتم في ترجمة قبيصة بن وقاص، السلمي، البصري "أدخله أبو زرعة في مسند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين سكنوا البصرة ولا نعرف له غير هذا الحديث الواحد.." (3) ، أي حديث "يكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة ... ".
مسند الشاميين. قال ابن أبي حاتم في ترجمة عروة بن مغيث: "وضبطه ابن حجر باسم معتب) الأنصاري (أخرج اسمه أبو زرعة في مسند
__________
(1) انظر: الجرح والتعديل ج 1/ ق1/ 157- 158، وانظر فيما يتعلق بمسند ابن عمر في الجرح والتعديل ج 2/ ق2/ 253 في ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله العمري حيث قال ابن أبي حاتم: "سئل أبو زرعة عنه فقال: (هو متروك الحديث، وترك قراءة حديثه في مسند ابن عمر ولم يقرأه علينا".
(2) انظر: الجرح والتعديل ج 4/ ق 2/ 460 وانظر أيضا فيما يتعلق بمسند المصريين ج 1/ ق 1/ 290 من الجرح والتعديل في ترجمة أُبي بن عمارة الأنصاري.
(3) انظر: الجرح والتعديل ج 3/ ق 2/ 124.
(1/202)
الشاميين" (1) ، وقال في ترجمة فرات بن ثعلبة البهراني: "شامي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أدخله أبي في مسند الوحدان، وأدخله أبو زرعة في مسند الشاميين ولم يذكر فيما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لقياً ولا سماعاً" (2) .
وقال في ترجمة شرحبيل بن أوس: شامي، ويقال أوس بن شرحبيل، وشرحبيل بن أوس أشبه له صحبة، وقال: "رأيت في كتاب أبي زرعة بخطه قد أخرج في مسنده، شرحبيل بن أوس ثم أخرج في آخر أحاديث شرحبيل حديث الزبيدي- أي محمد بن الوليد الزبيدي، عن عياش عن مؤنس، عن نمران- كتبه، ولم يترجم لأوس بن شرحبيل في مسند الشاميين" (3) ، ومن النصوص التي تتعلق بعموم الذين خرج أحاديثهم دون تعيين المدن التي نزلوها ما قاله ابن أبي حاتم في عبد الله بن خنبش ويقال عبد الرحمن بن خنبش- قال أبو محمد- وهو أصح وذلك أن أبا زرعة ترجم له في كتاب المسند عبد الرحمن بن خنبش روى عن النبي صلى الله عليه وسلم (4) .
__________
(1) انظر: الجرح والتعديل ج 3/ ق 1/ 395، والإصابة ج 2 ص 478، وانظر نصوصاً أخرى تتعلق بمسند الشاميين في ج 2/ ق 1/150، 210، ج 4/ ق 1/440، 458، تعجيل المنفعة ص 275، الإصابة ج 2 ص 143.
(2) انظر: الجرح والتعديل ج 3/ ق 2/ 79.
(3) انظر: الجرح والتعديل ج 2/ ق 1/337- 338.
(4) انظر: الجرح والتعديل ج 2/ ق2/ 43، وقال ابن حجر في الإصابة ج 4 ص 300- 301 في ترجمة عبد الرحمن (أخرجه أبو زرعة الرازي في مسنده فيمن اسمه عبد الله) ، وانظر: تعجيل المنفعة ص 166.
(1/203)
الفصل الساااااابع
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الضعفاء لأبي زرعة الرازي في أجوبته على أسئلة البرذعي
الفصل السابع: حفظه، ومكانته بين العلماء
1- حفظه
إن من أهم المميزات التي تميز بها محدثنا هي الحفظ، ولقد شهد بذلك الأئمة الحفاظ من شيوخه، وأقرانه، وتلاميذه، وهذه جملة من أقوالهم.
قيل لأبي بكر بن أبي شيبة (1) : "من أحفظ من رأيت؟ قال: ما رأيت أحدا أحفظ من أبي زرعة الرازي" (2) .
وقال ابن وارة: سمعت إسحاق بن راهوية يقول: "كل حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل" (3) .
__________
(1) (خ م دس ق) الحافظ عديم النظير الثبت النحرير عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم، العبسي مولاهم الكوفي، صاحب المسند، والمصنف وغير ذلك توفي سنة 235 هـ. انظر: تذكرة الحفاظ ج 2 ص 432- 433.
(2) انظر: مقدمة الكامل لابن عدي ص 212، وتاريخ بغداد ج 10 ص 331، والمنتظم ج 5 ص 47، وطبقات الحنابلة ج 1 ص 201، وطبقات المفسرين ج1 ص 370 والإرشاد ج 6، في علماء الري، وتاريخ دمشق، وشرح علل الترمذي: 191.
(3) انظر: شرح علل الترمذي ص 191، ومقدمة الكامل ص 212، وتاريخ بغداد ج 10 ص 332، والمنتظم ج 5 ص 47 وطبقات الحنابلة ج 1 ص 201، والمنهج الأحمد ج 1 ص 149، والإرشادج 6، في علماء الري، وتاريخ دمشق، وتهذيب الكمال ورقة (442- أ) .
(1/205)
وقال أحمد بن حنبل: "ماجاوز الجسر أفقه من إسحاق بن راهويه، ولا أحفظ من أبي زرعة" (1) .
وقال أبوحاتم: "رحم الله أبا زرعة كان والله مجتهدا في حفظ آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم" (2) .
وقال أبو يعلى الموصلي (3) : "ما سمعنا بذكر أحد في الحفظ إلا كان اسمه أكثر من رؤيته إلا أبا زرعة الرازي فإن مشاهدته كانت أعظم من اسمه، وكان لايرى أحدا ممن هو دونه في الحفظ، أنه أعرف منه، وكان قد جمع الأبواب، والشيوخ والتفسير، وغير ذلك، وكتبنا بانتخابه بواسط ستة آلاف" (4) .
وقال يحيى بن مندة (5) : "قيل أحفظ الأمة أبو هريرة، ثم أبو زرعة الرازي" (6) .
ولقد اندهش من حفظه الغزير أحد المحدثين فقال: "ما ولدت حواء قط أحفظ من أبي زرعة" (7) .
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 328، وتاريخ دمشق، والإرشاد ج 6، في علماء الري، وتهذيب الكمال ورقة (442-) ، وتهذيب التهذيب ج 7 ص 31- 532 وطبقات الحنابلة ج1 ص 200، والمنهج الأحمدج 1 ص 149، والمنتظم ج 5 ص 47.
(2) انظر: تهذيب الكمال للمزي ورقة (442 ط) ، وتاريخ دمشق.
(3) أبو يعلى الموصلي الحافظ الثقة محدث الجزيرة أحمد بن علي بن المثنى التميمي صاحب المسند الكبير وقد خرج لنفسه معجم شيوخه في ثلاثة أجزاء توفي سنة 307 هـ. انظر: تذكرة الحفاظ ج 2 ص 707-708.
(4) انظر: مقدمة الكامل ص 213، وشرح علل الترمذي ص 192، وتاريخ بغداد ج 10 ص 334، والإرشاد ج 6، في علماء الري والمنتظم ج 5 ص 47.
(5) ابن مندة: الحافظ العالم المسند أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب الأصبهاني ثقة، حافظ، مكثر، صدوق كثير التصانيف ت 411 هـ. تذكرة الحفاظ ج 4 ص 1250.
(6) انظر: شرح علل الترمذي ص 192.
(7) انظر: شرح علل الترمذي ص 192. وقد بالغ في قوله هذا، لأن أبا زرعة نفسه قال: "كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث فقيل: ما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب. وسئل أبو زرعة: أنت أحفظ أم أحمد؟ قال: بل أحمد. قالوا: كيف؟ قال: وجدت كتب أحمد بن حنبل ليس فيها في أوائل الأجزاء ترجمة أسماء المحدثين الذين سمع منهم، فكان يحفظ كل جزء ممن سمعه، وأنا لا أقدر على هذا ... ) وقال غير هذا في حفظه. انظر: شرح علل الترمذي ص 182 وغيره.
(1/206)
أما مقدار الأحاديث التي حفظها فقد ورد عن إمام أهل السنة أحمد ابن حنبل أنه قال: "صح من الحديث سبعمائة ألف حديث وكسر، وهذا الفتى- يعني أبا زرعة- قد حفظ ستمائة ألف" (1) .
وقال الحافظ البيهقي معقبا على قول أحمد: "إنما أراد ما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاويل الصحابة، وفتاوى من أخذ عنهم من التابعين" (2) .
وقال أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ: "لم يكن في هذه الأمة أحفظ من أبي زرعة، كان يحفظ سبعمائة ألف حديث، وكان يحفظ مائة وأربعين ألفا في التفسير والقراءات.." (3) .
وقال الحافظ يحيى بن مندة: "وبلغني بإسناد هو لي مسموع أن أبا زرعة قال: أنا أحفظ ستمائة ألف حديث صحيح، وأربعة عشر ألف إسناد في التفسير، والقراءات، وعشرة آلاف حديث مزورة، قيل له: ما بال المزورة تحفظ؟ قال: إذا مرّ بي منها حديث عرفته" (4) ، وبهذا يتضح لنا أن قوله موافق لشهادة أحمد في مجموع الأحاديث التي حفظها وهي ستمائة ألف، حديث صحيح.
أما في التفسير، والقراءات فكان يحفظ أربعة عشر ألف إسناد، وقد
يدخل فيها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وآثار الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم من التابعين، ولعل الحافظ البيهقي قد وهم في إحصائها مع جلالة منزلته لأن فتاوى التابعين لاتعتبر من الحديث الصحيح. وأما قول
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 332، وطبقات الحنابلة ج 1 ص 201، والمنتظم ج 5 ص 47، والأنساب للسمعاني ج 6 ص 36، وتهذيب الكمال ورقة (442 ط) ، وتهذيب التهذيب ج 7 ص 33، والمنهج الأحمد ج 1 ص 149، وسير أعلام النبلاء في ترجمته.
(2) انظر: تاريخ دمشق، وتهذيب الكمال ورقة (442- أ) ، وتهذيب التهذيب ج 7 ص 33.
(3) انظر: تهذيب الكمال ورقة (442- أ) .
(4) انظر: شرح علل الترمذي ص 192.
(1/207)
الحافظ أبي بكر محمد بن عمر الرازي فقد خالف ماصرح به أبو زرعة نفسه، الذي وافق فيه أحمد، ولقد روى الخطيب البغدادي بسنده الى أم عمرو بنت شمر أنها قالت: "سمعت سويد بن غفلة يقرأ (وعيس عين) ، يريد حورعين. قال صالح: ألقيت هذا على أبي زرعة فبقي متعجباً. وقال: أنا أحفظ قي القراءات عشرة آلاف حديث. قلت: فتحفظ هذا؟ قال: لا" (1) أقول: فلعله زاد في حفظه لها بعد هذه الحادثة فأصبح يحفظ المقدار الذي صرح به- والله أعلم.
ومن الطريف ما ذكره الخطيب بسنده إلى أبي العباس محمد بن جعفر الرازي أنه قال: "سئل أبو زرعة الرازي عن رجل حلف بالطلاق إن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث، هل حنث؟ فقال: لا، ثم قال أبو زرعة: أحفظ مائتي ألف كما يحفظ الإنسان قل هو الله أحد، وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث" (2) .
لذا يعد من الحفاظ القلائل الذين حفظوا هذا القدر العظيم من كلام النبوة، كابن أبي شيبة، والبخاري، وإبراهيم بن موسى الرازي، وغيرهم حتَّى إن الإمام أحمد صرح بحفظه وسرده للأحاديث من بين أقرانه فقد سأله ابنه عبد الله: "يا أبت من الحفاظ؟ قال: يا بني شباب كانوا عندنا من أهل خراسان، وقد تفرقوا. قلت: من هم يا أبت؟ قال: محمد ابن إسماعيل ذاك البخاري، وعبيد الله بن عبد الكريم ذاك الرازي، وعبد الله بن عبد الرحمن ذاك
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 328، وتهذيب الكمال ورقة (442- أ) ، وتاريخ دمشق، وسير أعلام النبلاء، وتهذيب التهذيب ج 7 ص 32، وطبقات المفسرين ج 1 ص370.
(2) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 335، وتاريخ دمشق، وتهذيب الكمال ورقة (442- أ) ، والمنتظم ج 5 ص 47، وحكم الذهبي على هذه الحكاية بالإرسال.
انظر: سير أعلام النبلاء، ولقد ذكرها ابن عدي صاحب الكامل عن أبيه، حيث كان ضمن القوم الذين ذهبوا إلى أبي زرعة كي يستفتوه. ولعلها حادثة أخرى لأنه لم يذكر مقدار الحفظ. انظر: مقدمة الكامل ص 213، وشرح علل الترمذي ص 191، وطبقات الشافعية للسبكي ج 1 ص 65.
(1/208)
السمرقندي، والحسن بن شجاع ذاك البلخي" (1) ، ثم قال له: "يا أبت: فمن أحفظهم؟ قال: أسردهم أبو زرعة، وأعرفهم محمد بن إسماعيل، وأتقنهم عبد الله، وأجمعهم للأبواب الحسن" (2) .
وإذا أردنا أن نعرف الوسائل التي اتبعها محدثنا حتى وصل إلى هذه المنزلة الرفيعة في الحفظ فهي بلاشك تقوى الله، والتقرب إليه بالنوافل والطاعات. قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (3) ، ودعاء المخلصين من شيوخه، والصالحين الذين صحبهم، ولما كان الجزاء من جنس العمل، فكان يترك الرذائل، ويصون سمعه عن الباطل أكرمه الله بالحفظ المتواصل، فقد ذكر الخطيب البغدادي عنه أنه قال: "ما سمعت أذني شيئاً من العلم إلا وعاه قلبي، وإني كنت أمشي في سوق بغداد فأسمع من الغرف صوت المغنيات، فأضع أصبعي في أذني مخافة أن يعيه قلبي" (4) . ولقد كان شديد التعاهد لمذاكرة تراث المصطفى صلى الله عليه وسلم. يقول أبو زرعة لأحد أصحابه: "إذا مرضت شهرا أو شهرين تبين علي في حفظ القرآن، وأما الحديث فإذا تركته أياما تبين علي ثم قال أبو زرعة: ترى قوما من أصحابنا كتبوا الحديث تركوا المجالسة منذ عشرين سنة أو أقل إذا جلسوا اليوم مع الأحداث كأنهم لا يعرفون ولا يحسنون الحديث. ثم قال: الحديث مثل الشمس إذا جلس من الشرق خمسة أيام لا يعرف فهذا الشأن تحتاج أن تتعاهده أبدا" (5) ولقد كان من حرصه على الحفظ أن ترك أكل الجبن والخل لما كان يشيع في عصره من سوء أثرهما على الحفظ.
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 327، وتاريخ دمشق، والأنساب ج 6 ص 35، وطبقات الحنابلة ج 1 ص 200، وتهذيب الكمال ورقة (442- أ-) ، وانظر كذلك: تاريخ بغداد ج 2 ص 21 حيث ذكر نحو هذا النص وطبقات الشافعية ج 2 ص 220، وسير أعلام النبلاء في ترجمة أبي زرعة.
(2) انظر: تهذيب التهذيب ج 2 ص 283.
(3) سورة البقرة: آية 281.
(4) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 332، وتاريخ دمشق، وتهذيب الكمال ورقة (442- أ) ، وتهذيب التهذيب ج 7 ص 32، والمنتظم ج 5 ص 48.
(5) انظر: سير أعلام النبلاء في ترجمته.
(1/209)
يقول ابن أبي حاتم: "وكان أبو زرعة لا يأكل الجبن ولا الخل" (1) ولقد استطاع - رحمه الله- ملازمة هذا المنهج حتى بقي حافظا متمتعا بذاكرة قوية حتى إنه كان يقول: "إن في بيتي ما كتبته منذ خمسين سنة، ولم أطالعه منذ كتبته، وإني أعلم في أي كتاب هو، في أي ورقة هو، في أي صفحة هو، في أي سطر هو" (2) .
وحتى وهو في النزع بلّغ حديثا من حفظه لما توقف أقرانه من الحفاظ في إسناده (3) ، والأمثلة على حفظه وقوة ذاكرته كثيرة (4) .
2- مكانته بين العلماء
لقد تمتع محدثنا الرازي بمكانة مرموقة بين علماء عصره، حازت السبق والتفوق على أقرانه، وانتشر ذكره وذاع صيته في كل مركز علمي يدخله، وما من حافظ كبير وإمام جليل يلتقي به إلا ترجم حبه له وإعجابه به، بآيات من الثناء العاطر والشكر المتواصل، وأخذ حبهم وتقديرهم لأبي زرعة يزداد كلما ازداد طلبا للحديث وتمسكا به والذب عنه، وأهلته إحاطته بعلوم السنة الشريفة، ومعرفته بدقائق رواياتها لأن يكون حكما بين المحدثين إذا اختلفوا. وأقواله في الرواة أساسا اذا جرحوا أو عدلوا. ولم يقتصر هذا على تلاميذه بل
__________
(1) انظر: المصدر السابق، ولقد كان غيره من المحدثين يفعل ذلك، حتى إنهم كانوا يحملون الزبيب هدية لأطفالهم لأنه ينشط الفكر على ما شاع عن بعض كبار المحدثين والحفاظ. انظر: الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح المقدسي ج 3 ص 28، وزاد المعاد لابن القيم ج1 ص 168.
(2) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 332، والمنتظم ج 5 ص 48، وتاريخ دمشق، وطبقات الحنابلة ج 1 ص 201، والمنهج الأحمد ج1 ص 149، وتهذيب الكمال ورقة (442- ب) ، وتهذيب التهذيب ج 7 ص 33.
(3) سأذكر الخبر كاملاً في وفاته.
(4) انظر: تاريخ بغداد ج10 ص 331، ومقدمة الجرح والتعديل ص 333، وتهذيب الكمال ورقة (442- ب) وغير ذلك.
(1/210)
عم أقرانه وشيوخه، وليس هذا في حدود الري بل في البلاد الأخرى أيضا حتى إن إمام السنة أحمد بن حنبل كان يقتصر على أداء الفرائض حينما ينزل عنده أبو زرعة في زياراته لبغداد حرصا على مذاكرته، وصحح أحاديث كان مترددا في ثبوتها بمعرفته، وكثيرا ما كان يحتكم أقرانه إليه ليميّز لهم الأحاديث المعللة من الصحيحة (1) ، حتى إن الحافظ محمد بن مسلم بن وارة كان يسأله عن بعض ما يخفى عليه من فقه الحديث وغريبه، من ذلك ما ذكر عنه أنه قال: "مازلت أستجفي عائشة رضي الله عنها في قولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وبمنة الله لا بمنتك" حتى سألت أبا زرعة الرازي فقال: وآت الحمد أهله" (2) ولقد كان العلماء يطمئنون للأثر أو الخبر بمجرد إقرار أبي زرعة له، فقد أورد ابن الصلاح في مقدمته خبرا يتعلق بتحديد مفهوم الصحبة والصحابي ثم قال: "إسناده جيد حدث به مسلم بحضرة أبي زرعة" (3) .
ويرجع الفضل إليه في خلو صحيح مسلم من الأحاديث المنتقدة. يقول ابن الصلاح: "ومما جاء في فضل صحيح مسلم ما بلغنا عن مكي ابن عبدان أحد حفاظ نيسابور أنه قال: سمعت مسلما يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته، وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة خرجته" (4) .
وهذه طائفة من نصوص التقدير والإعجاب التي توضح وتبين لنا مكانة محدثنا بين علماء عصره. قال أبو زرعة: سمعت إبراهيم بن موسى يقول لي: "أجد منك ريح الولد" (5) أي يحبه كحبه لأولاده.
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 330- 331، وتهذيب التهذيب ج 7 ص 33 ومقدمة الجرح والتعديل، ص 337.
(2) انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان ج 3 ص 17.
(3) انظر: التقييد والإيضاح ص 299.
(4) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي ج 1 ص 15 وكذا في ص 26.
(5) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 342.
(1/211)
قال إسحاق بن راهويه: "كل حديث لا يعرفه أبو زرعة الرازي ليس له أصل" (1) .
قال عمرو بن سهل بن صرخاب: "ما ولد في خمسين ومائة سنة مثل أبي زرعة" (2) .
وقال أحمد بن سليمان الرهاوي: "ما أحد أحب إلي أن أراه من أبي زرعة" (3) .
وقال فضلك الصائغ: "دخلت المدينة فصرت إلى باب أبي مصعب فخرج إلي شيخ مخضوب وكنت أنا ناعسا فحركني فقال: يا مردريك من أين أنت؟ لأي شيء تنام؟ فقلت: أصلحك الله من الري، من بعض شاكردي أي زرعة. فقال: تركت أبا زرعة وجئتني؟ لقيت مالك بن أنس، وغيره فما رأت عيناي مثله" (4) .
وقال أبو عبد الله بن ساكن الزنجاني: "دخلت مصر والشام فرأيت الكبراء من أصحاب الشافعي، ودخلت البصرة والكوفة ورأيت المبرزين ما رأيت فيهم مثل أبي زرعة ورعاً وديانة وحفظاً" (5) .
وقال محمد بن يحيى النيسابوري: "لا يزال المسلمون بخير ما أبقى الله
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 332، ومقدمة الجرح والتعديل ص 342،
والمنتظم ج 5 ص 47، وطبقات الحنابلة ج 1 ص 201، وسير أعلام النبلاء وتهذيب الكمال ورقة (442- أ) .
(2) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 329، وتاريخ دمشق لابن عساكر.
(3) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 342.
(4) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 330، وتهذيب التهذيب ج 7 ص 32، وسير أعلام النبلاء، وتاريخ دمشق، في ترجمة أبي زرعة. ومردريك: مرد الشاب أو الفتى، وشاكرد التلميذ، وهي كلمة فارسية. انظر: السامي في الأسامي، لأحمد ابن محمد أبي الفضل الميداني النيسابوري ت 531 هـ. ص 190.
(5) انظر: الإرشاد ج 6، علماء الري في ترجمته.
(1/212)
عز وجل لهم مثل أبي زرعة وما كان الله عز وجل ليترك الأرض إلا وفيها مثل أبي زرعة يعلم الناس ما جهلوه" - وجعل يمدح أبا زرعة في كلام كثير (1) .
وقال أبو حاتم الرازي: "إذا رأيت الرازي، وغيره يبغض أبا زرعة فاعلم أنه مبتدع" (2) ، وشهد له بالإمامة (3) ، وكان يحدث عنه فيقول: "حدثني أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد القرشي، وما خلف بعده مثله علما وفهما، وصيانة وحذقا، وهذا ما لا يرتاب فيه، ولا أعلم من المشرق والمغرب من كان يفهم في هذا الشأن مثله، ولقد كان من هذا الأمر بسبيل" (4) ، وكان يفضله على بعض الحفاظ فيقول: "كان أبو زرعة أفهم من أبي عبد الله الطهراني، وأعلم منه بكل شيء بالفقه والحديث وغيره" (5) . وظل محافظا على حبه وولائه حتى بعد وفاته من ذلك قوله: "رحم الله أبا زرعة كان والله مجتهدا في حفظ آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم" (6) ، وسمعه ابنه عبد الرحمن يقول: "الذي كان يحسن صحيح الحديث من سقيمه، وعنده تمييز ذلك ويحسن علل الحديث أحمد ابن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني، وبعدهم أبو زرعة كان يحسن ذلك". قيل لأبي- القائل عبد الرحمن- فغير هؤلاء تعرف اليوم أحداً؟ قال: لا" (7) .
وقال محمد بن مسلم بن وارة: "إن الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا جعل
__________
(1) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 330، وتهذيب الكمال ورقة (442- أ) ، وتاريخ دمشق، وسير أعلام النبلاء.
(2) انظر: تاريخ بغداد ج10 ص 329، وتهذيب الكمال ورقة (442- أ-) ، وتهذيب التهذيب ج 7 ص 32، وتاريخ دمشق.
(3) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 334، وتهذيب الكمال ورقة (442- أ) ، وتاريخ دمشق، وتهذيب التهذيب ج 7 ص 31 وطبقات الحنابلة ج 1 ص 201، والمنهج الأحمد ج1 ص 150.
(4) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 333، وتهذيب التهذيب ج 7 ص 32، ومقدمة الجرح والتعديل ص 231، وانظر: طبقات الداوودي ج 1 ص 371 باختصار وتاريخ دمشق، وتهذيب الكمال ورقة (442- أ) ، وسير أعلام النبلاء.
(5) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 231.
(6) انظر: تهذيب الكمال ورقة (442- أ) ، وتاريخ دمشق.
(7) انظر: الجرح والتعديل ج 1/ ق 1/23.
(1/213)
فيهم آية، وإن أبا زرعة آية من آيات الله عز وجل" (1) وقال أيضاً: "ما خلف أبو زرعة مثله وكان دربندان العلم" (2) .
وقال ابن حبان: "كان أحد أئمة الدنيا في الحديث مع الدين والورع والمواظبة على الحفظ والمذاكرة وترك الدنيا وما فيه الناس" (3) .
وقال الحافظ الخليلي: "فضائله أكثر من أن تعد، وفي تصانيفه لايوازيه أحد"، وقال أيضاً: "الإمام المتفق عليه بلا مدافعة بالحجاز والعراق والشام ومصر والجبل وخراسان لا يختلف فيه أحد" (4) .
وقال عبد الرحمن بن محمد القزويني القاضي: "حدثنا يونس بن عبد الأعلى يوما فقال: حدثني أبو زرعة فقال له رجل من أصحاب الحديث من أبو زرعة هذا؟ قال: إن أبا زرعة أشهر في الدنيا من الدنيا" (5) ، وقال أيضاً: "أبو زرعة آية، وإذا أراد الله أن يجعل عبدا من عباده آية جعله" (6) ، وقال: "ما رأيت أكثر تواضعا من أبي زرعة" (7) ، وقال: "أبو زرعة وأبو حاتم إماما خراسان - ودعا لهما - وقال: بقاؤهما صلاح للمسلمين" (8) .
وقال الفضل الصائغ: "دخلت على الربيع بمصر فقال لي: من أين أنت؟ قلت من أهل الري – أصلحك الله – من بعض شاكردي أبو زرعة فقال:
__________
(1) انظر: الإرشاد ج 6، علماء الري في ترجمة أبي زرعة.
(2) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 329، وتاريخ دمشق.
(3) انظر: تهذيب التهذيب ج 7 ص 33.
(4) انظر: الإرشاد ج 6، علماء الري في ترجمة أبي زرعة.
(5) انظر: تاريخ دمشق في ترجمة أبي زرعة وكذا في سير أعلام النبلاء.
(6) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 330.
(7) انظر: طبقات المفسرين ج1 ص 371، وتهذيب الكمال ورقة (442- أ-) ، وتاريخ دمشق.
(8) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 334.
(1/214)
تركت أبا زرعة وجئتني؟ إن أبا زرعة آية، وإن الله إذا جعل إنسانا آية من شكله حتى لا يكون له ثان" (1) .
وقال الحسين بن صالح: "ما رأيت أحدا يحدث لله غير أبي زرعة الرازي، ويحيى الكرابيسي" (2) .
وقال عبد الله بن محمد القزويني: "سمعت محمد بن إسحاق الصاغاني يقول في حديث ذكره من حديث الكوفة فقال: هذا أفادنيه أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم، فقال له بعض من حضر يا أبا بكر أبو زرعة من أولئك الحفاظ الذين رأيتهم؟ وذكر جماعة من الحفاظ، منهم الفلاس. فقال: أبو زرعة أعلاهم، لأنه جمع الحفظ مع التقوى والورع، وهو يشبه بأبي عبد الله أحمد بن حنبل" (3) .
ولقد عمد بعض المحدثين إلى أسلوب من أساليب الود والتقدير لأبي زرعة فكتبوا له كتبا يكبرون فيها إلتزامه بنهج السلف الصالح ودعوته الناس للتمسك بالسنة النبوية وترغيبهم بها وترهيبهم من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، والرد على المخالفين وهذه بعض الرسائل التي كتبها الأئمة.
يقول الإمام إسحاق بن راهوية في كتابه لأبي زرعة: "إني أزداد بك كل يوم سرورا فالحمد لله الذي جعلك ممن يحفظ سنته وهذا من أعظم مايحتاج إليه اليوم طالب العلم، وأحمد بن إبراهيم لا يزال في ذكرك الجميل حتى يكاد يفرط، وإن لم يكن فيك بحمد الله إفراط، وأقرأني كتابك إليه بنحو ما أوصيتك من إظهار السنة، وترك المداهنة فجزاك الله خيرا أقدم على ما أوصيتك فإن للباطل
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 330، وتهذيب الكمال ورقة (442- أ-) ، وسير أعلام النبلاء، وتاريخ دمشق. في ترجمة أبي زرعة.
(2) انظر: الإرشاد للخليلي.
(3) انظر: تاريخ بغداد ج10 ص 333، وطبقات المفسرين ج 1 ص 370، وتاريخ دمشق لابن عساكر.
(1/215)
جولة ثم يضمحل، وإنك ممن أحب صلاحه وزينه، وإني أسمع من إخواننا القادمين ما أنت عليه من العلم والحفظ فأسر بذلك" (1) .
وكتب إليه عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني المعروف برسته (2) من أصبهان، يقول في كتابه "اعلم رحمك الله أني ما أكاد أنساك في الدعاء لك ليلي ونهاري أن يمتع المسلمون بطول بقائك فإنه لايزال الناس بخير مابقي من يعرف العلم وحقه من باطله، ولولا ذلك لذهب العلم وصار الناس إلى الجهل، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وقد جعلك الله فيهم فأحمد الله على ذلك فقد وجب لله عز وجل الشكر في ذلك" (3) .
وكان الحب والتقدير يعبر عنه أحياناً بالدعاء. فقد ذكر ابن أبي حاتم عن الحسن بن أحمد بن الليث أنه قال: "سمعت أحمد بن حنبل- وسأله رجل فقال: بالريّ شاب يقال له أبو زرعة، فغضب أحمد وقال: تقول شاب؟ كالمنكر عليه، ثم رفع يديه وجعل يدعو الله عز وجل لأبي زرعة ويقول: اللهم انصره على من بغى عليه، اللهم عافه، اللهم ادفع البلاء اللهم، اللهم- في دعاء كثير. قال الحسن: "فلما قدمت حكيت ذلك لأبي زرعة وحملت إليه دعاء أحمد بن حنبل له وكنت كتبته عنه، فكتبه أبو زرعة، وقال لي أبو زرعة: ما وقعت في بلية
__________
(1) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 341، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص 122، وتاريخ دمشق، وتهذيب الكمال ورقة (442- أ) ، وتهذيب التهذيب ج 7 ص 32.
(2) هو (ق) عبد الرحمن بن عمر بن يزيد بن كثير الزهري، أبو الحسن الأصبهاني الأزرق روى عن ابن عيينة، وأبي داورد الطيالسي، وابن مهدي وغيرهم، وعنه أبو زرعة وغيره. كان عنده عن ابن مهدي ثلاثون ألف حديث، وكان روايه يحيى القطان، وقال أبو حاتم: صدوق ولد سنة 188هـ وتوفى سنة 255 هـ. انظر: تهذيب التهذيب ج 6 ص 234- 235، والجرح والتعديل ج2/ ق 2/ 263.
(3) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 341، وانظر كتاب أبي ثور لأبي زرعة في مقدمة الجرح والتعديل ص 344، وشرف أصحاب الحديث ص 130، وقد تقدم تخريج هذا الحديث في المقدمة.
(1/216)
فذكرت دعاء أحمد إلا ظننت أن الله عز وجل يفرج بدعائه عني" (1) . وكان محمد بن مسلم بن وارة يدعو له في صلاته بعد موته (2) .
__________
(1) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 342/ باب ما ذكر من جلالة أبي زرعة عند العلماء، ومناقب الإمام أحمد ص 122، وتاريخ دمشق، وتهذيب الكمال ورقة (442- أ-) ، وتهذيب التهذيب ج 7 ص 32.
(2) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 342.
(1/217)
الفصل الثامن
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الضعفاء لأبي زرعة الرازي في أجوبته على أسئلة البرذعي
الفصل الثامن: مذهبه، وعقيدته، وزهده، ووفاته.
1- مذهبه
شهدت الري كغيرها من بلاد خراسان، وما جاورها نشوء الاتجاهات الفكرية الإسلامية، واكتمال مناهج مذاهب أهل الرأي وأهل الحديث وغيرها، وكان الكثير من أهل الري على مذهب أهل الرأي المتمثل بالإمام أبي حنيفة وكان أبو زرعة أحد الأتباع أيام حداثة سنه، قال أبو زرعة: "كان أهل الري قد افتتنوا بأبي حنيفة وكنا أحداثاً (1) ، نجري معهم ولقد سألت أبا نعيم عن هذا، وأنا أرى أني في عمل، ولقد كان الحميدي يقرأ كتاب الرد ويذكر أبا حنيفة، وأنا أهم بالوثوب عليه ... " (2) ، ولقد كان مهتما تلك الفترة من حياته بفقه أبي حنيفة حتى إنه حفظ ما دون من كتب الامام. قال أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ عنه: "وحفظ كتب أبي حنيفة في أربعين يوماً، وكان يسردها مثل الماء ... " (3) ولكن لا ندري مدة هذه الفترة التي كان متابعا فيها لمذهب أبي حنيفة، ويبدو أنها قصيرة فبعد أن اتصل بأهل الحديث أخذ يبتعد عن أهل
__________
(1) يقال هؤلاء قوم حدثان جمع حدث وهو الفتي السن، ورجل حدث أي شاب، فإن ذكرت السن قلت حديث السن وهؤلاء غلمان حدثان أي أحداث ... ) انظر: لسان العرب ج 2 ص 437.
(2) انظر: أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ورقة (36- ب، 37- أ) .
(3) انظر: تهذيب الكمال للمزي ورقة (442- أ-) .
(1/219)
الرأي، وانكب على حفظ الأحاديث النبوية، وأول ما بدأ بحفظه حديث الإمام مالك فيقول عن نفسه: "أول شيء أخذت نفسي تحفظه من الحديث، حديث مالك، فلما حفظته، ووعيته طلبت حديث الثوري وشعبة، وغيرهما.." (1) ولم يهتم بتلك الفترة بحفظ آراء الفقهاء وفقههم، ومناظرة أتباعهم فيحدثنا عن نفسه أيام لقائه بإسماعيل بن يحيى المزني (2) فيقول: "ما أعلم أني أتيت المزني إلا مرة واحدة مررت به وهو قاعد فسلم عليّ فاستحييت منه فجلست إليه ساعة، فقلت له- القائل ابن أيى حاتم- سألته عن شيء أو جرى بينك وبينه شيء؟ قال: لا لم يكن لي نهمة (3) في الكلام والمناظرة في تلك الأيام، وإنما كان نهمتي في كتابة الحديث" (4) ، إلا أنه بعد هذه الفترة التي استوعبت حافظته فيها معظم الطرق والروايات للأحاديث النبوية أخذ يهتم بتدوين مسائل الصحابة، والتابعين ثم آراء ومسائل الفقهاء من أتباع التابعين. فنقل عنه أنه قال: "فلما تناهيت في حفظ الحديث نظرت في رأي مالك والثوري، والأوزاعي وكتبت كتب الشافعي (5) ، وروى عنه أنه قال: "رأيت فيما يرى النائم كأني في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكأني أمسح يدي على منبر النبي صلى الله عليه وسلم موضع المقعد والذي يليه والذي يليه ثم أمسكته، فقصصته على رجل من أهل سجستان كان معنا بحران. فقال: هذا أنت تعنى بحديث النيي صلى الله عليه
__________
(1) انظر: الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ص 32.
(2) إسماعيل بن يحيى بن عمرو بن مسلم، أبو إبراهيم المزني وكان فقيها عالما راجح المعرفة جليل القدر في النظر عارفا بوجوه الكلام والجدل حسن البيان مقدما في مذهب الشافعي وقوله وإتقانه وله على مذهب الشافعي كتب كثيرة لم يلحقه أحد فيها ولقد أتعب الناس بعده منها المختصر الكبير نحو ألف ورقة، والصغير الذي عليه العمل نحو من ثلاثمائة ورقة، وكان تقيا ورعا دينا صبوراً، ت 264 هـ. انظر: الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ص 110.
(3) النهمة الحاجة وقيل بلوغ الهمة والشهوة في الشيء. انظر: لسان العرب ج 16 ص 73، وورد في نسخة أخرى من الجرح والتعديل بلفظ (همة) ، والهمة: ما همَّ به من أمر ليفعله. انظر: لسان العرب ج 16 ص 105.
(4) انظر: الجرح والتعديل ج 1/ ق1/ 204.
(5) انظر: الانتقاء ص 32.
(1/220)
وسلم، والصحابة والتابعين وكنت إذ ذاك لا أحفظ كثير شيء من مسائل الأوزاعي ومالك والثوري وغيرهم، ثم عنيت به بعد" (1) .
ثم اعتنى بفقه الشافعي فدون جميع كتبه أثناء إقامته في مصر سنة 228-229 هـ، في رحلته الثانية وسمع جميعها من الربيع (2) قبل موت البويطي بأربع سنين (3) . يقول أبو زرعة: "وكنت عزمت في بدو قدومي مصر أني أقل المقام بها فلما رأيت كثرة العلم بها، وكثرة الاستفادة، عزمت على المقام ولم أكن عزمت على سماع كتب الشافعي فلما عزمت على المقام وجهت إلى أعرف رجل بمصر بكتب الشافعي فقبلتها منه بثمانين درهما أن يكتبها كلها وأعطيته الكاغد، وكنت حملت معي ثوبين ديبقيين لأقطعهما لنفسي فلما عزمت على كتابتها أمرت ببيعهما، فبيعا بستين درهما، واشتريت مائة ورقة كاغد بعشرة دراهم كتبت فيها كتب الشافعي" (4) حتى إنه برع في فروع المذهب وأصوله، وكان يميز اجتهاد بعض تلاميذ الإمام وتفريعهم على المذهب ومخالفتهم له فقد روى الخليلي بسنده إلى أبي عثمان سعيد بن عمرو البرذعي أنه قال: "لما رجعت إلى مصر وأردت الخروج إلى خراسان أقمت ثانيا عند أبي زرعة الحافظ فعرضت عليه كتاب المزني، فكلما قرأت عليه مما خالف الشافعي جعل أبو زرعة يبتسم
__________
(1) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 230- 231، وتهذيب الكمال للمزي ورقة (442- أ) ، وتاريخ دمشق لابن عساكر في ترجمة أبي زرعة.
(2) الربيع هو (دس) ابن سليمان بن داوود الجيزي أبو محمد الأزدي مولاهم المصري صحب الشافعي طويلاً، وأخذ عنه كثيرا وخدمه وكانت الرحلة إليه في كتب الشافعي قال عنه ابن يونس والخطيب ثقة ت 256 هـ. انظر: تهذيب التهذيب ج 3 ص 245، والانتقاء ص112.
(3) (ل ت) يوسف بن يحيى القرشي أبو يعقوب البويطي المصري الفقيه كان من أهل الدين والعلم والفهم والثقة صلبا في السنة فيرد على أهل البدع، وكان حسن النظر حمل من مصر أيام المحنة بالقرآن إلى العراق فأرادوه على الفتنة فامتنع فسجن إلى أن توفي ببغداد سنة 1332هـ. انظر: تهذيب التهذيب ج 11 ص 427- 429، والانتقاء ص 109- 110. وانظر: تهذيب التهذيب ج 3، ص 246.
(4) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 340.
(1/221)
ويقول: لم يعمل صاحبك شيئا في اختياره لنفسه لا يمكنه الانفصال فيما ادعى. قلت: هل سمعت منه شيئا؟ قال: لا، وما جالسته إلا يومين" (1) .
إضافة إلى هذه الحصيلة الفكرية الغزيرة فقد اطلع على مذهب شيخه الكبير أحمد بن حنبل، فقد ذكره القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى الفراء في جملة من نقل الفقه عن الإمام أحمد (2) ، وذكر أبو بكر الخلال أنه "روى عن الإمام أحمد الكثير من المسائل الغريبة، وأنه كان يحفظ حديثه كله" (3) .
بعد هذا العرض الذي بين الإحاطة الواسعة لأبي زرعة في مذاهب الأئمة رحمهم الله من أتباع التابعين إضافة إلى اغترافه من مشكاة النبوة وعلل نهله بآثار أصحابه رضي الله عنهم نتساءل هل استقر على مذهب معين أم انفرد بطريقة خاصة ومذهب معروف في استنباط الأحكام والفتيا؟ أم بقي ضمن الحفاظ الذين يحفظون الأحاديث والآثار وآراء الفقهاء ولا قدرة لهم على الاستنباط كما يرى ذلك ابن القيم حيث قسم العلماء إلى قسمين فيقول: "قسم حفاظ معتنون بالضبط، والحفظ، والآداء كما سمعوا ولا يستنبطون ولا يستخرجون كنوز ما حفظوه، وقسم معتنون بالاستنباط، واستخراج الأحكام من النصوص والتفقه فيها. فالأول كأبي زرعة وأبي حاتم وابن وارة، وقبلهم كبندار محمد بن بشار، وعمرو الناقد، وعبد الرزاق، وقبلهم كمحمد بن جعفر وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم من أهل الحفظ والإتقان والضبط لما سمعوه من غير استنباط وتصرف، واستخراج الأحكام من ألفاظ النصوص" (4) . فأقول وبالله التوفيق: لا شك أن أبا زرعة من الحفاظ المتقنين الذين شهد لهم بالضبط والإتقان وهو أحد الحفاظ
__________
(1) انظر: الإرشاد في معرفة علماء الحديث ج 3، في ترجمة المزني، وتذكرة الحفاظ ج 2 ص 743- 744.
(2) انظر: طبقات الحنابلة ج 1 ص 7.
(3) انظر: طبقات الحنابلة ج 1 ص 199، والمنهج الأحمد ج 1 ص 148، والمقصود بالمسائل الغريبة في الفقه هي المسائل التي لا يكثر وقوعها أو نادرة الحدوث والله أعلم.
(4) انظر: الوابل الصيب لابن قيم الجوزية ص 128، وما تمس إليه الحاجة لمن يطالع سنن ابن ماجة ص 20.
(1/222)
الذين عنوا بفقه الحديث حتى إن الحاكم ذكره ضمن فقهاء المحدثين، وأفرده بترجمة كباقي الأئمة كالزهري، والأوزاعي، وابن عيينة وابن المبارك، ويحيى القطان، وابن مهدي، وأحمد بن حنبل، وابن المديني، وغيرهم، وذكر قبل تراجمهم المقصود بفقه الحديث فقال: "بعد معرفة فقه الحديث، إذ هو ثمرة هذه العلوم، وبه قوام الشريعة، فأما فقهاء الإسلام أصحاب القياس، والرأي والاستنباط، والجدل، والنظر فمعروفون في كل عصر، وأهل كل بلد، ونحن ذاكرون بمشيئة الله في هذا الموضع فقه الحديث عن أهله ليستدل بذلك على أن أهل هذه الصنعة من تبحر فيها لا يجهل فقه الحديث إذ هو نوع من أنواع هذا العلم" (1) وبقول الحاكم هذا يرد كلام ابن القيم رحمه الله.
وبناء على قول الحاكم هذا أرجح أن أبا زرعة اتبع طريقة الإمام أحمد في الفقه وأصبح من أتباعه، وقد تكون منزلته كمنزلة المجتهدين الذين يتبعون بعض الأئمة واجتهادهم داخل مذاهب أولئك الأئمة، فلا يخرجون عن قواعدهم في الاستنباط والاجتهاد، واجتهادهم يكون تفريعا على أصول أئمة المذاهب. وسأذكر طريقة الإمام أحمد بن حنبل في استنباط الأحكام الشرعية، وأذكر بعض الشواهد التي تدل على متابعة أبي زرعة له. بين الحافظ ابن رجب أن العلماء حيال المسائل المفروضة ينقسمون ثلاثة أقسام، ثم ذكر أن الطريقة المثلى في ذلك هي طريقة أحمد بن حنبل ثم قال في تقسيمه للعلماء: " ... وأما فقهاء أهل الحديث العاملون به، فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله عز وجل، وما يفسره من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين بإحسان، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحيحها وسقيمها، ثم الفقه فيها وتفهيمها والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة، والزهد والرقائق، وغير ذلك. وهذه هي طريقة الإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث الربانيين، وفي معرفة هذا شغل شاغل عن التشاغل بما أحدث من الرأي مما لا ينتفع به ولا يقع، وإنما يورث التجادل فيه الخصومات والجدال وكثرة
__________
(1) انظر: معرفة علوم الحديث للحاكم ص 63.
(1/223)
القيل والقال" (1) .
فهذه طريقة الإمام أحمد، ومن تبعه من المحدثين، رأس مالهم في الاجتهاد والفتيا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد كتاب الله عز وجل، ثم يليهما في الرتبة أقوال فتاوى الصحابة ومن بعدهم من التابعين، وكان أبو زرعة يرى أن من يتصدر للفتيا في مسائل الطلاق عليه أن يحفظ قدراً كبيراً من الحديث فيقول: "عجبت ممن يفتي في مسائل الطلاق يحفظ أقل من مائة ألف حديث" (2) .
ومما يدل على تأثره بطريقة الإمام أحمد قوله: "اختيار أحمد وإسحاق أحب إليّ من قول الشافعي، وما أعرف في أصحابنا أسود الرأس أفقه من أحمد" (3) ، ولقد ذكر ابن عبد البر أن أبا زرعة قال: فيمن أسلم على ميراث قبل أن يقسم إنه له" (4) . وتابع في هذا إمامه أحمد (5) ، ولقد مدحه أحد أصحابه بقوله:
فتى حنبلي الرأي لايتبع الهوى ... ولكنه من خشية الله يحذر
يؤدي عن الآثار لا الرأي همه ... وعن سلف الأخيار ماسيل يخبر
فتى صيغ من فقه بل الفقه صوغه ... مثال عبيد الله مافيه يشكر
تمنى رجال أن يكونوا كمثله ... وقد شيبتهم في الرياسة أعصر (6) .
2- عقيدته، وأقواله في المعتقد
لقد نهج كثير من السلف الصالح على تدوين اعتقادهم ضمن مصنفاتهم ومؤلفاتهم أو يقررونها على تلاميذهم. وأبو زرعة شأنه شأن أئمة الحديث في ذلك إلا أننا لم نقف على مصنف دونه بنفسه في العقيدة إلا أن تلميذه الملازم له
__________
(1) انظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص 44- 45.
(2) انظر: الإرشاد ج 6، في ترجمته.
(3) انظر: سير أعلام النبلاء في ترجمته.
(4) انظر: التمهيد لابن عبد البر ج 2 ص 59، وانظر كذلك مناظرته لأبي حاتم في مسألة رفع اليدين في القنوت، سير أعلام النبلاء، وتاريخ بغداد ج 2 ص 76.
(5) انظر: المغنى لابن قدامة المقدسي ج 6 ص 298.
(6) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 373.
(1/224)
ابن أبي حاتم قد ضمن كتابه (أصل السنة واعتقاد الدين) (1) عقيدة أبيه وأبي زرعة ومنه نقل العلماء هذا المعتقد في مؤلفاتهم منهم الامام الجليل أبو القاسم هبة الله بن الحسين بن منصور الطبري اللالكائي في كتابه النفيس (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم) (2) حيث رواه بسنده عن شيخه محمد بن المظفر المقرىء، قال حدثنا الحسين بن محمد بن حبش المقرىء قال حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ... وكذلك الحافظ الذهبي في كتابه (العلو للعلي الغفار) (3) ذكر بعض اعتقاده رواه بسنده عن شيخه أحمد بن أبي الخير عن يحيى بن يونس، أنبأنا أبو طالب اليوسفي أنبأنا أبو إسحاق البرمكي أنبأنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا عبد الرحمن ابن أبي حاتم ... وذكره أيضا الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية باختصار (4) . وسأذكر نص الاعتقاد ثم أعقبه ببعض أقواله المتفرقة أيضا وبالله التوفيق.
نص الاعتقاد من كتابي ابن أبي حاتم وأبي القاسم اللالكائي.
قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي وأبا زرعة رضي الله عنهما عن مذاهب (أهل السنة) (5) في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلما (ء) في جميع الأمصار حجازا (6) وعراقاً (7)
__________
(1) كتاب (أصل السنة واعتقاد الدين) وهو يتضمن أسئلة وجهها إلى والده وإلى أبي زرعة مع إجاباتها محفوظ في المكتبة الظاهرية بدمشق. مجموع 11 (166 -أ- 169) كتب في القرن السادس الهجري رواه عنه أبو الحسين يحيى بن عبد العزيز. وانظر تاريخ التراث العربي ج 1 ص 449 وقد حصلت على نسخة مصورة منه.
(2) كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة ... محفوظ في المكتبة الظاهرية بدمشق تحت رقم (1427) الجزء الأول الورقة (47- أ- 49- ب) تحت عنوان (اعتقاد أبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم وأبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الرازيين) .
(3) العلو للعلي الغفار في صحيح الأخبار وسقيمها) ط 2 عام 1968 القاهرة ص 137- 138.
(4) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ص111- 112 ط زكريا علي يوسف القاهرة.
(5) كلمة أهل السنة لا توجد في كتاب ابن أبي حاتم وتوجد في كتاب اللالكائي.
(6) في كتاب ابن أبي حاتم كتبت هكذا (وحجازاً) .
(7) في كتاب ابن أبي حاتم (أو عراقاً) .
(1/225)
ومصراً (1) وشاما ويمناً فكان من مذهبهم إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، والقدر خيره وشره من الله وخير هذه الأمة بعد نبيها (عليه السلام) (2) أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان (3) بن عفان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم (4) وهم الخلفا (ء) الراشدون المهديون وإن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد لهم (5) بالجنة على ماشهد به رسول (الله صلى الله عليه وسلم) (6) وقوله الحق، والترحم على جميع أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) (7) ، والكف عما شجر بينهم وإن الله عز وجل علىعرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله (صلى الله عليه وسلم) (8) بلا كيف، أحاط بكل شيء علما ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، والله (9) تبارك وتعالى يُرى في الآخرة، يراه (10) أهل الجنة بأبصارهم ويسمعون كلامه كيف شا (ء) وكما شا (ء) والجنة والنار حق وهما مخلوقتان لايغيبان أبدا (11) والجنة ثواب لأوليائه والنار عقاب لأهل معصيته إلا من رحم (12) ، والصراط حق والميزان له كفتان توزن فيه أعمال العباد حسنها وسيئتها حق والحوض المكرم به نبينا (صلى الله عليه وسلم) (13) حق والشفاعة حق (وإن ناسا من أهل التوحيد يخرجون من النار بالشفاعة حق
__________
(1) في كتاب اللالكائي لا توجد.
(2) من كتاب اللالكائي.
(3) في كتاب اللالكائي كتبت كلمة (عثمان) فقط.
(4) وفي كتاب اللالكائي كتب (عليهم السلام) .
(5) عبارة (وشهد لهم) مكررة في كتاب ابن أبي حاتم.
(6) من كتاب اللالكائي.
(7) ما بين القوسين لا يوجد في كتاب اللالكائي.
(8) من كتاب اللالكائي.
(9) وفي كتاب اللالكائي (وأنه) بدل (والله) .
(10) وفي كتاب ابن أبي حاتم (ويراه) .
(11) في كتاب اللالكائي (والجنة حق والنار حق وهما مخلوقتان لا يفنيان أبداً) وفي كتاب ابن أبي حاتم (والجنة والنار حق وهما مخلوقتان أبداً ونعيم الجنة لا يفنى أبداً) .
(12) زاد اللالكائي بعدها (الله عز وجل) .
(13) ما بين القوسين لا يوجد في كتاب اللالكائي.
(1/226)
وعذاب القبر حق ومنكر ونكير والكرام الكاتبين حق) (1) والبعث من بعد الموت حق وأهل الكبائر في مشيئة الله عز وجل لانكفر أهل القبلة بذنوبهم ونكل سرائرهم (2) إلى الله عز وجل ونقيم فرض الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة ونسمع ونطيع لمن (ولاه الله عز وجل أمرنا) (3) ولا ننزع يداً (4) من طاعة ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة وإن الجهاد (5) ماض مذ بعث الله (6) نبيه صلى الله عليه وسلم (7) إلى قيام الساعة مع أولي الأمر من أئمة المسلمين لا يبطله شيء والحج كذلك. ودفع الصدقات من السوائم إلى أولي الأمر من أئمة المسلمين. والناس موقنون في أحكامهم (ومواريثهم ولا ندري) (8) ما هم عند الله (9) فمن قال إنه مؤمن حقا فهو مبتدع ومن قال إنه (10) مؤمن عند الله فهو من الكاذبين، ومن قال إني مؤمن بالله (11) فهو مصيب، والمرجئة مبتدعة ضلال والقدرية مبتدعة ضلال ومن (12) أنكر منهم أن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون فهو كافر (13) وإن الجهمية كفار، والرافضة رفضوا الاسلام والخوارج مرّاق ومن زعم أن القرآن مخلوق فهوكافركفراً ينقل عن الملة (14) ومن شك في كفره
__________
(1) ما بين القوسين لا يوجد في كتاب اللالكاني.
(2) في كتاب اللالكائي (أسرارهم) .
(3) في كتاب ابن أبي حاتم (لمن ولاه) وفي كتاب اللالكائي (ولانا الله عز وجل أمرنا) والصواب ما أثبتناه.
(4) في كتاب ابن أبي حاتم (يد) وفي كتاب اللالكائي (يداً) .
(5) وفي كتاب اللالكائي (فإن الجهاد) .
(6) زاد اللالكائي بعدها (عز وجل) .
(7) في كتاب اللالكائي (عليه السلام) .
(8) من كتاب اللالكائي وفي كتاب ابن أبي حاتم (ومواشهم لا ندري) .
(9) زاد اللالكائي بعدها (عز وجل) .
(10) في كتاب اللالكائي (ومن قال هر مؤمن) .
(11) زاد اللالكائي بعدها كلمة (حقاً) .
(12) في كتاب اللالكائي (فمن) .
(13) في كتاب اللالكائي (فمن أنكر منهم أن الله عز وجل لايعلم مالم يكن قبل أن يكون فهو كافر.
(14) في كتاب اللالكائي (فهو كافر بالله العظيم كفرا ينتقل عن الملة) .
(1/227)
ممن يفهم فهو كافر، ومن شك في كلام الله فوقف فيه شاكا يقول لا أدري مخلوق أم غير مخلوق فهو جهمي، ومن وقف في القرآن جاهلا علم وبدّع (ولم) (1) يكفر. ومن قال: (لفظي بالقرآن مخلوق أو القرآن بلفظي مخلوق فهو جهمي) (2) ، وفيه أيضا قال أبو محمد: (سمعت أبي وأبا) (3) زرعة (يأمران) (4) بهجران أهل الزيغ والبدع ويغلظان بذلك أشد التغليظ (5) وينكران وضع الكتب بالرأي غير آثار (6) وينهيان عن مجالسة أهل الكلام (7) وعن النظر في كتب المتكلمين ويقولان: "لا يفلح صاحب كلام أبداً". ثم قال أبو محمد: "وبه أقول أنا".
واكتفى الذهبي في كتاب (العلو للعلي الغفار) بعد أن ذكر سؤال ابن أبي حاتم لأبيه وأبي زرعة وجوابهما له. بقولهما "أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً ومصراً وشاماً ويمنا فكان من مذهبهم أن الله تبارك وتعالى على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه بلا كيف أحاط بكل شيء علما ثم قال (ح) وأخبرنا التاج عبد الخالق أنبأنا ابن قدامة أنبأنا محمد بن عبد الباقي أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين ابن زكرياء أنبأنا هبة الله بن الحسن وذكر باقي سند اللالكائي ثم قال (ح) وأنبأنا التاج أنبأنا ابن قدامة قال: وقرأت بالموصل على أبي الفضل الطوسي أخبركم أبو الحسن العلاف أنبأنا أبو القاسم بن بشران أنبأنا علي ابن حردك أنبأنا عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار فكان من مذاهبهم أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته والقدر خيره وشره من الله تعالى، وأن الله تعالى على عرشه بائن
__________
(1) من كتاب اللالكائي.
(2) وفي كتاب اللالكائي زاد بعد كلمة جهمي (أو القرآن بلفظي مخلوق فهو جهمي) .
(3) في كتاب ابن أبي حاتم كتبت هكذا (وأبي) .
(4) لا توجد في كتاب ابن أبي حاتم وتوجد في كتاب اللالكائي.
(5) هكذا في كتاب اللالكائي وفي كتاب ابن أبي حاتم هكذا (ويغلظان رأيهما أشد التغليظ) .
(6) في كتاب اللالكائي (برأي في غير آثار) .
(7) لا توجد كلمة (عن) في كتاب اللالكائي.
(1/228)
من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف أحاط بكل شيء علما ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" (1) .
وذكر أبو القاسم هبة الله في (باب سياق ذكر من رسم بالإمامة في السنة والدعوة والهداية إلى طريق الاستقامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة) ثم قال: "فمن الصحابة ... " وذكرهم ثم قال: "ومن التابعين وذكرهم حتى ذكر طبقة أبي زرعة فقال: "ومن أهل الري إبراهيم بن موسى (الهعا) والصواب الفراء وأبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي وأبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ... الخ" (2) ، واستدل أبو القاسم اللالكائي بقول أبي زرعة مع علماء الري حيث قالوا: "القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهوكافر" (3) . وذكر الذهبي الأئمة الذين قالوا بتكفير من قال بخلق القرآن من عصر مالك والثوري، وذكر أئمة آخرين منهم أبو زرعة الرازي (4) .
وقال أبو زرعة "القرآن كلام الله في مخلوق والذي يقف فيه على الشك هو والذي يقول: مخلوق: شيء واحد. أحمد بن حنبل يقول: تفرقت الجهمية على ثلاث أصناف: صنف قالت: القرآن مخلوق، وصنف وقفت، وصنف قالت: لفظنا بالقرآن مخلوق" (5) .
وقال ابن أبى حاتم في كتاب (الرد على الجهمية) (6) حدثنا أبي وأبو زرعة قالا كان يُحكى لنا أن هنا رجلا من قصة هذا فحدثني أبو زرعة قال: "كان بالبصرة رجل وأنا مقيم في سنة (230) فحدثني عثمان بن عمرو بن الضحاك عنه أنه قال: إن لم يكن القرآن مخلوقا فمحا الله ما في صدري من القرآن وكان
__________
(1) انظر: العلو للعلي الغفار ص 137- 138.
(2) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة ... ورقة (8- ب- 10- أ) .
(3) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة ... ورقة (74- ب-) .
(4) انظر: العلو للعلي الغفار ص 87، 119.
(5) انظر: طبقات الحنابلة ج 1 ص 202.
(6) لم أقف على مكان وجود هذا المخطوط وانظر: تاريخ التراث العربي ج 1 ص 449.
(1/229)
من قراء القرآن فنسي حتى كان يقال له: قل (بسم الله الرحمن الرحيم) فيقول: معروف معروف ولا يتكلم به. قال أبو زرعة: "فجهدوا بي أن أراه فلم أره" (1) .
قال أبو زرعة الرازي: حدثنا هدبة بن خالد، سمعت سلام بن أبي مطيع يقول: "ويلكم ما تنكرون هذا الأمر والله ما في الحديث شيء إلا وفي القرآن ما هو أثبت منه، قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (2) {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (3) {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (4) {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (5) {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (6) {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} (7) {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (8) {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} (9) .
"قال: فما زال في ذا من العصر إلى المغرب" (10)
وقال أبو زرعة الرازي: حدثنا سويد بن سعيد، عن معاوية بن عمار قال سئل جعفر بن محمد عن القرآن فقال: "ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله عز وجل" (11) .
قال أبو إسماعيل الأنصاري مصنف (ذم الكلام وأهله) أنبأ أبو يعقوب القراب، أنبأنا جدي، سمعت أبا الفضل إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم الأصبهاني، سمعت أبا زرعة الرازي- وسئل عن تفسير {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
__________
(1) انظر: العلو للعلي الغفار ص 138- 139.
(2) سورة الحجرات: آية1.
(3) سورة آل عمران: آية 28.
(4) سورة المائدة: آية 116.
(5) سورة الأعراف: آية 54، سورة الرعد: آية 2، سورة الفرقان: آية 59.
(6) سورة الزمر: آية 67.
(7) سورة ص: آية 75.
(8) سورة النساء: آية 164.
(9) سورة القصص: آية 30.
(10) انظر: العلو للعلي الغفار ص 105.
(11) انظر: المصدر السابق ص 108 والأسماء والصفات للبيهقي ص 246.
(1/230)
اسْتَوَى} (1) فغضب وقال: "تفسيره كما تقرأ هو على عرشه وعلمه في كل مكان، من قال غير هذا فعليه لعنة الله" (2) .
قول أبي زرعة فيمن ينتقص من الصحابة:
روى الخطيب بسنده إلى أبي زرعة أنه قال: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة" (3) .
رأي أبي زرعة في أحاديث الصفات:
قال أبو زرعة: "الأخبار التي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤية وخلق آدم على صورته والأحاديث التي في النزول ونحو هذه الأخبار: المعتقد من هذه الأخبار: مراد النبي صلى الله عليه وسلم والتسليم بها حدثني أبو موسى الأنصاري قال: قال سفيان بن عيينة ماوصف الله تبارك وتعالى به نفسه في كتابه: فقراءته تفسيره ليس لأحد أن يفسره إلا الله" (4) .
وقال أبو زرعة في الإيمان: "الإيمان عندنا قول وعمل يزيد وينقص ومن قال غير ذلك فهو مبتدع مرجىء" (5) .
اعتقاده في التفضيل بين الصحابة:
قيل لأبي زرعة "من الذي شهد على علي بن أبي طالب بتفضيل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟ قال أبو زرعة: روى ذلك من أصحاب النبي صلى الله
__________
(1) سورة طه: آية 5.
(2) انظر: العلو للعلي الغفار ص 137.
(3) انظر: الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 97، وتهذيب الكمال للمزي ورقة (442- أ) وتاريخ دمشق لابن عساكر بسنده من طريق الخطيب، والإصابة لابن حجر ج1 ص 11.
(4) انظر: طبقات الحنابلة ج 1 ص 201- 202.
(5) انظر: طبقات الحنابلة ج 1 ص 202.
(1/231)
عليه وسلم أبو موسى وأبو هريرة، وعمرو بن حريث، وأبو جحيفة، ومن التابعين محمد بن الحنفية، وعبد خير، وعلقمة، وأبو هلال العلي" (1) وإضافة إلى استنباطه من السنة النبوية والآثار نراه يتثبت ويتحرى أقوال أئمة المسلمين في ذلك. فقد روى ابن عبد البر بسنده إلى أبي علي الحسن بن أحمد بن الليث الرازي أنه قال: "سألت أحمد بن حنبل فقلت يا أبا عبد الله من تفضل؟ قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم الخلفاء. فقال يا أبا عبد الله إنما أسألك عن التفضيل من تفضل؟ قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء المهديون الراشدون، ورد الباب في وجهي. قال أبو علي: ثم قدمت الري فقلت لأبي زرعة: سألت أحمد وذكرت له القصة فقال: لا نبالي من خالفنا نقول أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلافة والتفضيل جميعا هذا ديني أدين الله به، وأرجو أن يقبضني الله عليه" (2) .
وروى الحافظ ابن عساكر عن الإمام أبي زرعة "أن رجلا قال له: إني أبغض معاوية، فقال له أبو زرعة: ولم؟ قال: لأنه قاتل علياً، فقال له أبو زرعة: ويحك، إن رب معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فأيش (3) دخولك أنت بينهما رضي الله عنهما" (4) .
ومن اعتقاده أيضا:
قوله: "الجمعة والجهاد عندنا مع البر والفاجر ممن يتولى ذلك من الولاة" (5) .
قوله في بعض الفرق:
روى القاضي، أبو الحسين بن أبي يعلى بسنده إلى أحمد بن صالح أنه
__________
(1) انظر: طبقات الحنابلة ج 1 ص 202.
(2) انظر: جامع بيان العلم وفضله ط دار الكتب الحديثة بالقاهرة ص 486- 487.
(3) كلمة (أيش) مركبة من (أي شيء) . انظر: مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق 2/ 478
(4) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر في ترجمة معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنه- عن النسخة المصوّرة المحفوظة في معهد المخطوطات في جامعة الدول العربية تحت رقم (602 تاريخ) .
(5) انظر: طبقات الحنابلة ج اص 202.
(1/232)
قال: "سمعت أبازرعة الرازي يقول: إذا رأيت الكوفي يطعن على سفيان الثوري وزائدة فلا تشك أنه رافضي. وإذا رأيت الشامي يطعن على مكحول والأوزاعي فلا تشك أنه ناصبي. وإذا رأيت الخراساني يطعن على عبد الله بن المبارك: فلا تشك أنه مرجىء، واعلم أن هذه الطوائف كلها مجمعة على بغض أحمد بن حنبل لأن ما منهم أحد إلا وفي قلبه منه سهم لابرء له" (1) .
3- زهده
إن ثمرة طلب العلم مرضاة الله سبحانه وتعالى وخشيته، والإنابة إليه. قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (2) ، وخير العلوم علم معرفة طريق الآخرة، وهذه المعرفة ملازمة للكتاب والسنة فلا يستطيع السالك النفوذ منها إلا بعد تسلحه بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته. قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3) وقال الجنيد بن محمد البغدادي رحمه الله: "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلم" (4) ، وقال: "من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة" (5) ، لذا نرى الكثير من الأئمة الحفاظ آثروا الآخرة، وزهدوا في الدنيا لأنهم عاشوا بأرواحهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصف لنا زهده أبو زرعة فقال: "ترك النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا وهو واجد لها، وقد ذمها. وقد عرضت عليه مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فأبى ذلك صلى الله عليه وسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لوشئت لسارت معي جبال الدنيا
__________
(1) انظر: طبقات الحنابلة ج 1 ص 199- 200، والمنهج الأحمد ج 1 ص 149.
(2) سورة فاطر: آية 28.
(3) سورة النساء: آية 80.
(4) انظر: مدارج السالكين ج 2 ص 464.
(5) انظر: المصدر السابق.
(1/233)
ذهباً وفضة" (1) ، وإمامنا أبو زرعة الرازي أحد الأئمة الذين وصفوا بالزهد والعبادة، يقول الحافظ ابن كثير عنه: "كان فقيهاً، ورعاً، زاهداً، عابدا متواضعا خاشعا أثنى عليه أهل زمانه بالحفظ، والديانة، وشهدوا له بالتقدم على أقرانه" (2) وعده أبو حاتم الرازي من الزهاد الأربعة الذين أعجب بهم فيقول: أزهد من رأيت أربعة: آدم بن أبي إياس (3) ، وثابت بن محمد الزاهد (4) ، وأبو زرعة، وأحمد بن حنبل (5) . وسئل عنه محمد بن إسحاق الصاغاني، وذكر جماعة من الحفاظ فقال: "أبو زرعة أعلاهم، لأنه جمع الحفظ مع التقوى والورع، وهو يشبه بأبي عبد الله أحمد بن حنبل" (6) . ولقد صنف أبو زرعة كتابا في الزهد (7) . وذكره بعض مصنفي كتب الزهاد، فأفرد له ابن الجوزي ترجمة في كتابه (صفة الصفوة) .
ولعل الفضل الأكبر في تميزه عن أقرانه بهذه الدرجة من الزهد، صحبته لكبار الزهاد في زمانه كبشر بن الحارث الحافي (8) ، وأحمد بن حنبل، وروايته كذلك عن أحمد بن عبد الله الزاهد (9) ، والربيع بن ثعلب العابد (10) ، وسريج بن
__________
(1) انظر: طبقات الحنابلة ج 1 ص 202- 203، والمنهج الأحمد ج 1 ص 150.
(2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير ج 11 ص 37.
(3) هو آدم بن أبي أياس عبد الرحمن بن محمد، أبو الحسن العسقلاني ت 220 هـ. انظر: تهذيب التهذيب ج1 ص 196.
(4) هو ثابت بن محمد العابد أبو محمد الشيباني ت 215 هـ. انظر: تهذيب التهذيب ج 2 ص 14.
(5) انظر: تهذيب الكمال للمزي ورقة (442- أ) ، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ بغداد ج 2 ص 75.
(6) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 333، وتاريخ دمشق، وطبقات المفسرين للداوودي ج 1 ص 370.
(7) انظر: الإصابة لابن حجر ج 7 ص 170 ط البجاوي وهو من جملة كتبه المفقودة، ولعله ضمنه أقواله وآراءه في الزهد إضافة إلى الأحاديث النبوية وآثار الصحابة في الزهد.
(8) بشر بن الحارث بن عبد الرحمن، المروزي، أبو نصر الزاهد ت 227 هـ. انظر: تهذيب التهذيب ج1 ص 444- 445.
(9) أحمد بن عبد الله بن ميمون التغلبي، أبو الحسن بن أبي الحواري الدمشقي الزاهد ت 246هـ. انظر تهذيب التهذيب ج1 ص 49، والجرح والتعديل ج 1/ ق1/ 47.
(10) انظر: الجرح والتعديل ج 1/ ق 2/ 456.
(1/234)
يونس (1) وسلمة بن عقار البغدادي (2) - الذي روى عن معروف الكرخي، وفضيل بن عياض، وغيرهما (3) -، وغير هؤلاء، ولقد كان يحرص على تتبع أخبارهم وأحوالهم، وحفظ أقوالهم (4) ، ولقد كان منهجه في الزهد معتدلا، ممدوحا نلمسه من قوله الذي سمعه ابن أبي حاتم. يقول أبو زرعة: "لو كان لي صحة بدن على ما أريد كنت أتصدق بمالي كله، وأخرج إلى طرسوس أو إلى ثغر من الثغور، وآكل من المباحات وألزمها"، ثم قال: "إني لألبس الثياب لكي إذا نظر إلي الناس لا يقولون قد ترك أبو زرعة الدنيا، ولبس الثياب الدون، وإني لآكل ما يقدم إليّ من الطيبات، والحلواء لكي لا يقول الناس إن أبا زرعة لا يأكل الطيبات لزهده، وإني لآكل الشيء الطيب، وما مجراه عندي، ومجرى غيره من الأدم إلا واحد، وألبس الثياب الجياد، ودونه من الثياب عندي واحد، لأن جميعاً يعملان عملاً واحداً، ومن أحب أن يسلم من لبسه الثياب يلبسه لستر عورته فإنه إذا نوى هذا، ولم ينو غيره سلم" (5) . وسمعه يقول أيضاً: "كنت فيما مضى وأنا صحيح، وربما أخذتني الحمى فأضعف، وأجد لذلك ألماً، وأنا اليوم ربما حممت، وربما لم أحم فلا أجد لشيء مما أنا فيه ألماً أظن في نفسي أنه كذا ينبغي أن يكون" (6) .
ومنهجه هذا يدل على تأثره بسفيان الثوري، وأحمد. قال سفيان: "الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا لبس العباء" (7) . "وسئل أحمد بن حنبل عن الرجل يكون معه ألف دينار، هل يكون زاهداً؟ فقال: نعم، على شريطة أن لا يفرح إذا زادت، ولا يحزن إذا نقصت" (8) . ولقد كان رحمه الله يستمع لنصيحة الزهاد الصالحين، ويلتزم بها
__________
(1) سريج بن يونس بن إبراهيم البغدادي، أبو الحارث العابد ت 235 هـ. انظر: تهذيب التهذيب ج 3 ص 458 والجرح والتعديل ج 2/ ق 1/ 305.
(2) سلمة بن عقار حدث عن فضيل بن عياض ومعروف الكرخي، وسفيان بن عيينة وغيرهم. قال عنه يحيى بن معين: ثقة مأمون. انظر: تاريخ بغداد ج 9 ص 134.
(3) انظر: الجرح والتعديل ج 2/ ق1/ 167.
(4) انظر: طبقات الحنابلة ج 1 ص 202، والمنهج الأحمد ج 1 ص 150.
(5) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 348.
(6) انظر: المصدر السابق.
(7) انظر: مدارج السالكين ج 2 ص 10.
(8) انظر: مدارج السالكين ج 2 ص 11.
(1/235)
وخاصة تحذيرهم إياه من التقرب إلى الولاة والأمراء. فقد ذكر ابن عساكر عن أبي زرعة أنه قال: "كنا نبكر بالأسحار إلى مجلس الحديث نسمع من الشيوخ فبينما أنا يوما من الأيام قد بكرت، وكنت حدثا إذ لقيني في بعض طرق الريّ من سماه أبي، ونسيته أنا، شيخ مخضوب بالحناء فيما وقع لي فسلم علي فرددت عليه السلام، فقال لي: يا أبا زرعة سيكون لك شأن وذكر، فاحذر أن تأتي أبواب الأمراء ثم مضى الشيخ، ومضى هذا لهذا الحديث دهر وسنين كثيرة، وصرت شيخا كبيراً، ونسيت ما أوصاني به الشيخ، وكنت أزور الأمراء، وأغشى أبوابهم، فبينما أنا يوماً، وقد بكرت أطلب دار الأمير من حاجة عرضت لي إليه، فإذا أنا بذلك الشيخ الخضيب بعينه في ذلك الموضع فسلم عليّ كهيئة المغضب، وقال لي: ألم أنهك عن أبواب (1) الأمراء أن تغشاهم، ثم ولى عني، فالتفت فلم أره وكأن الأرض انشقت فابتلعته فخيل إلي أنه الخضر (2) من وقتي فلم أزر أميراً، ولا غشيت بابه، ولا سألته حاجة حتى تكون له الحاجة فيركب إلي فربما أذنت له، وربما لم آذن له على قدر ما يتفق" (3) ، حتى إن بعضهم كره زيارة والي الري له. فقد ذكر الرافعي أن أحد طلاب العلم قال: قال لي أبو زرعة يعني الرازي: "تبلغ سلامي الشيخ الصالح إدريس الصايغ وهو من أهل أبهر يقال إنه كان سيد الأولياء في عصره قال: فلما دخلت على إدريس قال لي كلاما حاصل معناه بالعربية لا تبلغ إلي رسالة أبي زرعة. قلت: لم وأبو زرعة إمام الدنيا؟ فقال: أليس دخل عليه والي الري فصافحه. قال سعيد: وكنت أقيم بأبهر شهرين وثلاثة ثم أعود إلى أبي زرعة، فلما عدت إلى أبي زرعة قال: بلغت إدريس سلامي؟ قلت: أستعفى من ذلك. قال: ومن أين كان بلغه. فقلت: من عبد الله: فبكى أبو زرعة وقال: قل له إذا عدت إليه قد تبت على يدك فاسمع سلامي ورد علي الجواب. قال: فلما دخلت عليه قال لي: أيش خبر أبي زرعة؟ قلت: بخير
__________
(1) كتب بالأصل بعد (أبواب) كلمة لم أهتد لمعناها وأقرب ما تكون كلمة (الدين) ولقد كان السلف الصالح يكرهون الدخول على الأمراء وأخبارهم في ذلك كثيرة مشهورة.
(2) ذهب جمهور المحدثين والعلماء إلى القول بوفاة الخضر ولا يصح في حياته حديث واحد. انظر: المنار المنيف ص 67- 76، والإصابة ج 1/ 429- 452.
(3) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر في ترجمة أبي زرعة.
(1/236)
يبلغك السلام. قال عليه السلام ورحمة الله فأنهيته إلى أبي زرعة فقال: هو أحب إليّ من عبادة كذا وكذا" (1) ، ولقد كان خاشعا في صلاته مقبلا بقلبه إلى ربه. قال أحمد بن سعيد الدارمي: "صلى أبو زرعة الرازي في مسجده عشرين سنة بعد قدومه من السفر، فلما كان يوم من الأيام قدم عليه قوم من أصحاب الحديث فنظروا، فإذا في محرابه كتابة قالوا له: كيف تقول في الكتابة في المحاريب؟ فقال: قد كرهه قوم ممن مضى. قالوا له هو ذا في محرابك كتابة أو ما علمت به؟ قال: سبحان الله رجل يدخل على الله تعالى ويدري ما بين يديه" (2) .
معرفته بسمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديه:
لقد كان أبو زرعة الرازي يتقن سمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، ويحافظ عليهما، حتى يخيل لمن رآه أنه أحد أصحاب النبي الكريم وذلك لشدة حرصه على اتباع سنن الرسول صلى الله عليه وسلم في المأكل والملبس وفي شؤونه الأخرى وكأنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال الحافظ أبو الحسن علي بن الحسين الدرستيني القاضي: "كان يقال عبد الله بن مسعود يشبه النبي صلى الله عليه وسلم سمتا وهدياً" (3) ، وقال عبد الله: "من أراد أن ينظر إلى سمتي وهدي فلينظر إلى علقمة" (4) ، وقال علقمة مثل ذلك في إبراهيم النخعي (5) ،
__________
(1) انظر: التدوين في أخبار قزوين في ترجمة عمر بن أحمد بن عبد الرحمن الفراني أبو الخير.
(2) انظر: تاريخ دمشق، في ترجمة أبي زرعة. وصفة الصفوة لابن الجوزي ج 4 ص 70.
(3) قال حذيفة: "إن أشبه الناس دلا وسمتا وهديا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- لابن أم عبد، من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه" انظر: فتح الباري ج 10 ص 509 والحديث رقم (7277) ومسند أحمد ج 5 ص 389، 4 39، 395، 401، 402، وجامع الترمذي ج 10 ص 310-311.
(4) علقمة هو (ع) بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي الكوفي قال الأعمش عن عمارة بن عمير قال لنا أبو معمر: "قوموا بنا إلى أشبه الناس هديا وسمتا ودلا بابن مسعود، فقمنا معه حتى جلس إلى علقمة" ت 62 أو قبل 73 هـ. انظر: تهذيب التهذيب ج 8 ص 277- 278.
(5) إبراهيم هو (ع) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، أبو عمران الكوفي قال العجلي: "رأى عائشة رؤياً وكان مفتي أهل الكوفة وكان رجلا صالحا فقيها متوقيا قليل التكلف ومات وهو مختلف من الحجاج" ت 96 هـ. انظر: تهذيب التهذيب ج 1 ص 177- 178.
(1/237)
وقال إبراهيم مثل ذلك في منصور ابن المعتمر (1) ، وقال منصور مثل ذلك في سفيان الثوري، وقال سفيان مثل ذلك في وكيع بن الجراح (2) ، وقال وكيع مثل ذلك في أحمد بن حنبل، وقال أحمد مثل ذلك في أبي زرعة الرازي، وقال أبو زرعة مثل ذلك في عبد الرحمن بن أبي حاتم" (3) .
4- وفاته
وبعد هذه الحياة المليئة بالأسفار، وطلب الحديث ونشره وروايته وحض طلاب العلم على التمسك بسنة الرسول الكريم أدركه الأجل على إثر مرض ظل ينتابه مدة ولقد وصفه أبو حاتم بقوله: "مات أبو زرعة مطعونا مبطونا يعرق جبينه في النزع" (4) ، وكان لسانه يردد ذكر الله، ذكر المطمئن المشتاق إلى لقاء ربه
__________
(1) منصور هو (ع) بن المعتمر بن عبد الله أبو عتاب الكوفي. قال عبد الرزاق: حديث سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله فقال: "هذا الشرف على الكرسي". وقال العجلي: "كوفي ثقة ثبت في الحديث كان أثبت أهل الكوفة وكأن حديثه القدح لا يختلف فيه أحد، متعبد رجل صالح أكره على القضاء ... " ت 132 هـ. انظر: تهذبب التهذيب ج 10 ص 312- 315.
(2) وكيع هو (ع) بن الجراح بن مليح الرؤاس أبو سفيان الكرفي الحافظ قال ابن سعد: "كان ثقة مأموناً عالياً رفيع القدر كثير الحديث حجة" ت 96 اهـ. انظر: تهذيب التهذيب ج 1 ص 123- 131.
(3) انظر: الإرشاد ج 5، حين الكلام عن سفيان الثوري.
(4) وانظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 346، والمنتظم ج 5 ص 48، وهذه صفة موت المؤمن. قال- صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن يموت بعرق الجبين" انظر: جامع الترمذي (تحفة الأحوذي) كتاب الجنائز/ باب 9 ج 4 ص 57. وقال عنه: هذا حديث حسن، وانظر: المجتبي من سنن النسائي ج 4 ص 6 كتاب الجنائز/ باب علامة موت المؤمن، ومجمع الزوائد ج 2 ص 325 وقال عنه رواه الطبراني في الأوسط، وفي الكبير نحوه في حديث طويل ورجاله ثقات رجال الصحيح، ومعنى الحديث كما قال الحافظ العراقي: "اختلف فيه، فقيل: إن عرق الجبين يكون لما يعالج من شدة الموت، وقيل: من الحياء وذلك لأن المؤمن إذا جاءته البشرى مع ما كان قد اقترف من الذنوب حصل له بذلك خجل واستحيى من الله تعالى فعرق لذلك جبينه"، قال العراقي أيضاً: "ويحتمل أن عرق الجبين علامة جعلت لموت المؤمن لأن لم يعقل معناه". انظر: المجتبى ج 4 ص 6، وتحفة الأحوذي ج 4 ص 57.
(1/238)
ويقول: "اللهم أني أشتاق إلى رؤيتك فإن قال لي: بأي عمل اشتقت إليّ قلت: برحمتك يا رب" (1) .
ولقد ضرب أبو زرعة مثلا عظيما في المحبة للسنة النبوية، والحرص على تبليغها أمام أقرانه وتلاميذه من المحدثين حينما توقفوا في روايتهم لحديث التلقين، ولنستمع للخبر كما يرويه أبو جعفر التستري فيقول: "حضرنا أبا زرعة - يعني الرازي- بماشهران، وكان في السوق، وعنده أبو حاتم، ومحمد بن مسلم، والمنذر بن شاذان، وجماعة من العلماء فذكروا حديث التلقين وقوله صلى الله عليه وسلم "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" قال: فاستحيوا من أبي زرعة، وهابوه أن يلقنوه فقالوا: تعالوا نذكر الحديث. فقال محمد بن مسلم: حدثنا الضحاك بن مخلد عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح وجعل يقول ولم يجاوز، وقال أبو حاتم: حدثنا بندار حدثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح، ولم يجاوز، والباقون سكتوا. فقال أبو زرعة- وهو في السوق- حدثنا بندار حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي غريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" (2) . وتوفي رحمه الله،
__________
(1) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 346.
(2) الحديث رواه أبو داوود في سننه في/ كتاب الجنائز/ باب في التلقين ج 14 ص 79 بنفس السند من طريق عبد الحميد بن جعفر قال حدثني صالح ... الخ الحديث، ورواه الحاكم في المستدرك ج 1 ص 500 من طريق أبي عاصم النبيل ثنا عبد الحميد ... الخ، وقال عنه: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وله قصة لأبي زرعة الرازي قد ذكرتها في كتاب المعرفة"- أي معرفة علوم الحديث ص 76 ورواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عبد الحميد بن جعفر. انظر: الفتح الرباني ج 7 ص 56- 57، وماشهران: إحدى قرى الري. انظر: معجم البلدان مادة (ماشهران) .
(1/239)
وزاد أبو حاتم "فصار البيت ضجة ببكاء من حضر" (1) . وذلك يوم الإثنين، ودفن يوم الثلاثاء سلخ ذي الحجة سنة أربع وستين ومائتين" (2) .
ومما قيل فيه من الشعر:
أضاءت بلاد الري نورا وأشرقت--بذكر عبيد الله فالله أكبر
فشكرا لمن أبناه فينا وحمده--على أنه فينا التقي المخير
لقد نور الريّ العريضة علمه--بدين رسول الله فالدين أنور
إذا غاب غاب العلم والحلم والتقى--وعند حضور القرن يبهى ويزهر
تمنى جماعات الرجال وترتجى--أراملها والكف بالجود تمطر
فلو كان بالري العريضة كائن--كمثل عبيد الله يا قوم يشكر
أنسنا بما آنستنا من فوائد--وكنت ضيا ظلماتنا فهي مقمر
حبانا بك الله العزيز بقدرة--وبصرنا ما لم نكن قبل نبصر
فتى حنبلي الرأي لا يتبع الهوى--ولكنه من خشية الله يحذر
يؤدي عن الآثار لا الرأي همه--وعن سلف الأخيار ما سيل يخبر
وليس كمن يأتي لنعمان دينه--وحجته حمادُ يوما ومسعر
فتى صيغ من فقه بل الفقه صوغه--مثال عبيد الله ما فيه منكر
تمنى رجال أن يكونوا كمثله--وقد شيبتهم في الرياسة أعصر
__________
(1) انظر الحادثة في: مقدمة الجرح والتعديل في باب ما ظهر لأبي زرعة من سيد عمله عند وفاته ص 345، وتاريخ بغداد ج 10 ص 335، والإرشاد ج 6، في علماء الري، والمنتظم لابن الجوزي ج 5 ص 48، وتاريخ دمشق، وتهذيب الكمال للمزي ورقة (442- ب) ، ومعرفة علوم الحديث ص 76، والمنهج الأحمد ج1 ص 150- 151، وسير أعلام النبلاء في ترجمة أبي زرعة، والتدوين في أخبار قزوين في ترجمة محمد بن ميسرة بن علي بن الحسن بن إدريس الخفاف، القزويني، وصفة الصفوة ص 71، وطبقات الشافعية للسبكي ج 1 ص 64.
(2) انظر: تاريخ بغداد ج 10 ص 335- 336، وطبقات الحنابلة ج1 ص 203، والإرشاد ج 6، في علماء الري، وتاريخ دمشق، وتهذيب الكمال للمزي ورقة (442 ب) ، ومرآة الجنان لليافعي ج 2 ص 176، والبداية والنهاية ج 11 ص 37، وتهذيب التهذيب ج 7 ص 33، وسير أعلام النبلاء.
(1/240)
وهيهات أن يستدركوا فضل علمه ... ولو مكثوا تسعين حولا وعمرو
لكي يدركوه أو تنال أكفهم ... مدى النجم من حيث استقل المغور
أبا زرعة القمقام أصبحت بارزاً ... على كل مرجىء بدينك تفخر
أبو زرعة شيخ النهى بكمالها ... لك السبق إذ أنت الأغر المشهر
فمتعك الرحمن بالحلم والتقى ... وأبقاك ما دام الدجاج يقرقر
فمن مبلغ عني أميري طاهرا ... بأن عبيد الله شاه مظفر
أقام منار الدين فينا بعلمه ... وليس كمن في دينه ينتصر
أتيتك لا أدلي إليك بقربة ... سوى قربة الدين الذي هو أكثر
فسبقك محمود وشكرك واجب ... وعلمك مبسوط وبحرك يزخر
وأبقاك ربي ماحييت بغبطة ... فأنت نقي العرض ليث غضنفر (1)
ومن رثاه من أهل الأدب أيضاً الحواري فيقول:
نفى النوم عن عيني ومازلت ساهراً ... أراعي نجوما في السماء طوالعاً
بفقدان حبر مات بالري فاضلاً ... عليما حليما خيرا متواضعاً
عنيت عبيد الخالق الجهبذ الذي ... أقام لنا آثار أحمد بارعاً
أقام لنا دين النبي محمد ... وأوضح للإسلام حقا وتابعا
وأنفى لنا التكذيب والبطل حسبة ... ورد على الضلال من كان ضائعا
بآثار ختام النبيين أحمد ... وكان إماماً قدوة كان خاضعاً
فكاد له قلبي يطير مفجعاً ... غداة نعوه أو تصدع جازعاً
وما زلت ذا شجو وهم وعبرة ... كثكلى كئيبا دامع العين فاجعاً
لقد مات محموداً سعيداً ولم نجد ... له خلفاً في المشرقين مطالعاً
كمثل عبيد الله ذي الحلم فاضل ... أبي زرعة الغواص في العلم شاسعاً
دفيناً كريماً تحت رمس وبرزخ ... وأورثنا غماً إلى الحشر فاظعاً
__________
(1) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 372- 373.
(1/241)
فبورك قبر أنت فيه مغيب ... ... ولا زلت في الجنات جذلان راتعاً
أبا زرعة فجعت من كان عالما ... ... بموتك ياذا العلم بحراً جامعاً
تركت أولي علم حيارى أذلة ... ... لموتك حتى الحشر فينا جوازعاً
أبا زرعة يا خير من مات فاقداً ... ... فبعدك قد صرنا نقاس القوارعا
فقل لذوي زور وإفك وباطل ... ... ومن كان أمسى شامتا أو مخادعاً (1)
إلى أن قال:
فصلى عليك الواحد الفرد ما دعت ... حمامة أيك أو يرى النجم ساطعا فاجعاً
وصلى عليك الصالحون ملائك ... وكل نبي كان في الدهر شافعا
وصلى عليك الراسخون فواضل ... إلى الحشر مثل الرمل إذ كنت خاشعاً (2)
__________
(1) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 373- 374.
(2) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 375.
(1/242)
الفصل التاسع
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الضعفاء لأبي زرعة الرازي في أجوبته على أسئلة البرذعي
الفَصْل التَاسِع: مَنهَجُه في بَيَان عِلَل الحَديثِ
قبل أن أبين منهج أبي زرعة في تعليله للأحاديث لا بدّ من ذكر حد الحديث المعلل وبعض أقوال الأئمة في أهمية معرفته، ثم أعقبها ببعض الحوادث والأخبار التي رواها الأئمة عن أبي زرعة والتي تدل على سعة اطلاعه ومعرفته في علل الحديث. فالحديث المعلل، ويسميه أهل الحديث (المعلول) وذلك منهم ومن الفقهاء في قولهم في باب القياس: (العلة والمعلول) مرذول عند أهل العربية واللغة فهو: الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن ظاهره السلامة منها، ويتطرّق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر (1) .
قال الحاكم: "معرفة علل الحديث وهو علم برأسه غير الصحيح والسقيم والجرح والتعديل" (2) . وقال أيضا في نهاية حديثه عن معرفة علل الحديث: "إن معرفة علل الحديث من أجل هذه العلوم" (3) وقال الحاكم أيضأ: "وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل فإن حديث المجروح ساقط واه وعلة
__________
(1) انظر: مقدمة ابن الصلاح ص 81 والتقيد والإيضاح ص 116، وانظر: تدريب الراوي ص 161 وشرح ألفية العراقي للعراقي ج 1 ص 226.
(2) انظر: معرفة علوم الحديث ص 112.
(3) انظر: معرفة علوم الحديث ص 119.
(1/243)
الحديث يكثر في أحاديث الثقات أن يحدّثوا بحديث له علة فيخفى عليهم علمه فيصير الحديث معلولا والحجة فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير" (1) .
وقال عبد الرحمن بن مهدي: "لأن أعرف علة حديث هو عندي أحب إليّ من أن أكتب عشرين حديثا ليس عندي" (2) . وقال أيضاً: "معرفة الحديث إلهام، فلو قلت للعالم يعلل الحديث من أين قلت هذا لم يكن له حجة" (3) ، وقيل له "إنك تقول للشيء هذا صحيح وهذا لم يثبت فعمن تقول ذلك؟ فقال: أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك فقال هذا جيد وهذا بهرج (أي الرديء من الفضة) أكنت تسأل عمن ذلك أو تسلم له الأمر قال: فهذا كذلك بطول المجالسة والمناظرة والخبرة" (4) .
وقال ابن رجب خلال كلامه عن حديث معلول: "وإنما يحمل مثل هذه الأحاديث على تقدير صحتها على معرفة أئمة أهل الحديث الجهابذة النقاد الذين كثرت دراستهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ولكلام غيره لحال رواة الأحاديث ونقلة الأخبار ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وضبطهم وحفظهم. فإن هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث مختصون بمعرفته كما يختص البصير الحاذق بمعرفة النقود جيّدها ورديئها وخالصها ومشوبها، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بإنقاد الجواهر وكل من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عن سبب معرفته ولا يقيم عليه دليلا لغيره، وآية ذلك أنه يعرض الحديث الواحد على جماعة ممن يعلم هذا العلم فيتفقون على الجواب فيه من غيرمواطأة وقد امتحن منهم غير هذا مرة
__________
(1) انظر: معرفة علوم الحديث ص 112- 113، تدريب الراوي ص 161 باختصار وتوجيه النظر إلى أصول الأثر لطاهر الجزائري ص 267، 268.
(2) انظر: علل الحديث لابن أبي حاتم ج 1 ص 9، ومعرفة علوم الحديث ص 112، وتدريب الراوي ص 161، وتوجيه النظر ص 267، والبدر المنير لابن الملقن الورقة (9- ب) .
(3) انظر: معرفة علوم الحديث ص 113، وتدريب الراوي ص 162، وانظر قوله وتعقيب ابن نمير عليه في علل الحديث ج1 ص 9 وتوجيه النظر ص 271، قال ابن نمير (وصدق لو قلت له من أين قلت لم يكن له جواب) .
(4) انظر: تدريب الراوي ص 162.
(1/244)
في زمن أبي زرعة وأبي حاتم فوجد الأمر على ذلك، فقال السائل أشهد أن هذا العلم إلهام" (1) .
وهذه الحادثة التي أشار إليها ابن رجب رواها الحاكم بسنده إلى محمد بن صالح الكيليني أنه قال: "سمعت أبا زرعة وقال له رجل: ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ قال: الحجة أن تسألني عن حديث له علة فأذكر علته، ثم تقصد ابن وارة يعني محمد بن مسلم بن وارة، وتسأله عنه ولا تخبره بأنك قد سألتنى عنه فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم فيعلله، ثم تميز كلام كل منا على ذلك الحديث، فإن وجدت بيننا خلافا في علته فاعلم أن كلا منا تكلم على مراده، وإن وجدت الكلمة متفقة فاعلم حقيقة هذا العلم، قال ففعل الرجل فاتفقت كلمتهم عليه فقال: أشهد أن هذا العلم إلهام" (2) .
وكثيرا ماكان أبوحاتم وأبو زرعة يتذاكران في علل الحديث. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: "جرى بيني وبين أبي زرعة يوما تمييز الحديث ومعرفته فجعل يذكر أحاديث ويذكر عللها، وكذلك كنت أذكر أحاديث خطأ وعللها وخطأ الشيوخ فقال لي: يا أبا حاتم قل من يفهم هذا، ما أعز هذا. إذا رفعت هذا من واحد واثنين فما أقل من تجد من يحسن هذا، وربما أشك في شيء أو يتخالجني شيء في حديث فإلى أن ألتقي معك لا أجد من يشفيني منه. قال أبي: وكذلك كان أمري" (3) .
ويشهد أبوحاتم بمعرفة أبي زرعة في علل الحديث فيقول في مجلسه وقد جرى عنده معرفة الحديث: "ذهب الذي كان يحسن هذا يعني أبا زرعة وما بقي بمصر ولا بالعراق أحد يحسن هذا. قال- القائل ابن أبي حاتم-:
__________
(1) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 224.
(2) انظر: معرفة علوم الحديث ص 13 1، وتدريب الراوي ص 162، وتوجيه النظر ص 268، 289، والباعث الحثيث حاشية ص 66.
(3) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 356، وتاريخ بغداد ج 2 ص 76.
(1/245)
محمد بن مسلم؟ قال: يفهم طرفاً منه" (1) ولقد ذكر ابن رجب خلال شرحه لحديث "استفت قلبك" الأئمة المشهورين بمعرفة علل الحديث فقال: "فالجهابذة النقاد والعارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جدا. وأول من اشتهر في الكلام في نقد الحديث ابن سيرين، ثم خلفه أيوب السختياني، وأخذ عنه شعبة وأخذ عن شعبة يحيى القطان وابن مهدي، وأخذ عنهما أحمد وعلي بن المديني وابن معين، وأخذ عنهم مثل البخاري وأبي داوود وأبي زرعة وأبي حاتم. وكان أبو زرعة في زمانه يقول: قل من يفهم هذا وما أعزه إذا رفعت هذا (2) عن واحد واثنين فما أقل من تجد من يحسن هذا. ولما مات أبو زرعة قال أبوحاتم: ذهب الذي كان يحسن هذا المعنى. يعني أبا زرعة ما بقي بمصر ولا بالعراق واحد يحسن هذا. وقيل له بعد موت أبي زرعة تعرف اليوم واحدا يعرف هذا؟ قال: لا وجاء بعد هؤلاء جماعة منهم النسائي والعقيلي وابن عدي والدارقطني وقل من جاء بعدهم من هو بارع في معرفة ذلك حتى قال أبو الفرج ابن الجوزي في أول كتابه الموضوعات: قل من يفهم هذا بل عدم والله أعلم" (3) ، ولقد روى المحدثون عن أبي زرعة أخبارا كثيرة في تعليله للأحاديث فتارة يحتكم إليه بعض أقرانه فيبين علة الحديث، وتارة يكتب إليه بعض المحدثين من غير بلده، وتارة يعل أحاديث بعض شيوخه حتى إن ابن أبي حاتم أفرد في باب خاص أخبار أبي زرعة في علل الحديث من تقدمة الجرح والتعديل بعنوان (باب ما ذكر من معرفة أبي زرعة بعلل الحديث وبصحيحه من سقيمه) وها أنا ذا أذكر بعض هذه الأخبار. قال ابن أبي حاتم: "سمعت أبا زرعة يقول: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا وكيع عن مسعر عن عاصم بن عبيد الله قال: "رأيت ابن عمر يهرول إلى المسجد، فقال أبو زرعة: فقلت له: مسعر لم يرو عن عاصم
__________
(1) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 356، وقال كما نقله ابنه عنه في الجرح والتعديل ج 1/ ق1/ 23 "الذي كان يحسن صحيح الحديث من سقيمه وعنده تمييز ذلك ويحسن علل الحديث أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني، وبعدهم أبو زرعة كان يحسن ذلك قيل لأبي- القائل ابن أبي حاتم- فغير هؤلاء تعرت اليوم أحداً؟ قال: لا".
(2) انظر: جامع العلوم والحكم ص 225، وانظر: كلام ابن الجوزي في الموضوعات ج 1 ص 31.
(3) بالأصل (ألا) .
(1/246)
بن عبيد الله شيئا إنما هذا سفيان عن عاصم، فلح فيه قال فدخل بيته فطلبه فرجع فقال: غيروه هو عن سفيان" (1) .
وقال ابن أبي حاتم: "رأيت في كتاب كتبه عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني المعروف برسته من أصبهان إلى أبي زرعة بخطه: وإني كنت رويت عندكم عن ابن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم".
فقلت: هذا غلط الناس يروون عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم فوقع ذلك من قولك في نفسي فلم أكن أنساه حتى قدمت ونظرت في الأصل فإذا هو عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن خف عليك فاعلم أبا حاتم عافاه الله، ومن سألك من أصحابنا فإنك في ذلك إن شاء الله والعار خير من النار" (2) .
وقال ابن أبي حاتم: "حضر عند أبي زرعة محمد بن مسلم والفضل ابن العباس المعروف بالصائغ فجرى بينهم مذاكرة فذكر محمد بن مسلم حديثا فأنكر فضل الصائغ فقال: يا أبا عبد الله ليس هكذا هو فقال كيف هو؟ فذكر رواية أخرى فقال محمد بن مسلم بل الصحيح ما قلت والخطأ ما قلت قال فضل: فأبو زرعة الحاكم بيننا فقال محمد بن مسلم لأبي زرعة أيش تقول أينا المخطىء؟ فسكت أبو زرعة ولم يجب. فقال محمد ابن مسلم: مالك سكت تكلم، فجعل أبو زرعة يتغافل فألح عليه محمد ابن مسلم وقال: لا أعرف لسكوتك معنى إن كنت أنا المخطىء فأخبر وإن كان هو المخطىء فأخبر، فقال هاتوا أبا القاسم ابن أخي فدعى به فقال اذهب وادخل بيت الكتب فدع القمطر الأول والقمطر الثاني والقمطر الثالث وعدّ ستة عشر جزءا وائتني بالجزء السابع
__________
(1) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 335، 336 وانظر كذلك مناقشة أخرى بين أبي زرعة وأبي بكر بن أبي شيبة في حديث علله لأن ابن أبي شيبة رواه من طريق وكيع عن مسعرعن عاصم بن عبيد الله أيضاً في الوضوء ثم رجوعه إلى قول أبي زرعة ذكره ابن أبي حاتم أيضا في مقدمة الجرح والتعديل ص 338.
(2) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 336.
(1/247)
عشر، فذهب فجاء بالدفتر فدفعه إليه فأخذ أبو زرعة فتصفح الأوراق وأخرج الحديث ودفعه إلى محمد بن مسلم فقرأه محمد بن مسلم فقال نعم غلطنا فكان ماذا؟ " (1) .
وقال ابن أبي حاتم أيضاً: "قيل لأبي زرعة بلغنا عنك أنك قلت لم أر أحداً أحفظ من ابن أبي شيبة؟ فقال نعم في الحفظ ولكن في الحديث- كأنه لم يحمده فقال: روى مرة حديث حذيفة في الإزار فقال حدثنا أبو الأحوص عن أبي اسحاق عن أبي معلى عن حذيفة فقلت له إنما: هو أبو إسحاق عن مسلم بن نذير عن حذيفة، وذاك الذي ذكرت عن أبي إسحاق عن أبي المعلى عن حذيفة قال كنت ذرب اللسان فبقي فقلت للوارق أحضروا المسند، فأتوا بمسند حذيفة فأصابه كما قلت" (2) .
وكان أبو زرعة وأقرانه يبينون علل أحاديث الشيوخ ويكون حكمهم واحداً متفقين عليه. قال ابن أبي حاتم: "سمعت أبا زرعة يقول أتينا أبا عمر الحوضي وقد دخل قوم عليه وهو يحدثهم وأنا وأبو حاتم وجماعة منا خارج نتسمع فوقع في مسامعنا وهو يقول: حدثنا جرير بن حازم عن مجالد عن الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم: إني مكاثر بكم الأمم. فصحنا من وراء الباب فقلنا يا أبا عمر هذا عن جابر. فقال: صدقتم صدقتم ادخلوا" (3) .
__________
(1) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 337.
(2) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص 237- 338، وانظر كذلك في ص 338، مناقشة أخرى بين أبي زرعة والحافظ ابن أبي شيبة وقد بين له علة حديث أنس يتبع الميت ثلاثة ... الحديث والعلة هي أن ابن أبي شيبة لقن بخطأ فتلقفه وحدث به ثم عاد إلى قول أبي زرعة- رحمه الله-.
(3) انظر: مقدمة الجرح والتعديل ص336، 337.
(1/248)
1- أهم الأساليب التي اتبعها أبو زرعة في تعليل الأحاديث
1- تارة يعرض على أبي زرعة طرق الحديث فيرجح إحدى هذه الروايات على الأخرى بقوله "حديث فلان أصح" مثال ذلك. قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج1/ 176رقم الحديث 505 "سئل أبو زرعة عن حديث رواه هشيم وسفيان بن حسين وروى أحمد بن يونس عن أبي عوانة كلهم عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير، أنه قال: "أنا أعلم الناس بوقت صلاة العشاء كان يصلّيها بعد سقوط القمر ليلة الثالثة من أول الشهر. وروى مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر عن بشير بن ثابت عن حبيب بن سالم عن النعمان عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو زرعة حديث بشير بن ثابت أصح" (1) .
2- وتارة يعلل الحديث بالإرسال بأن يعرض الحديث متصلاً فيحكم بأن الصواب مرسلاً وليس بمتصل. قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج1/ 179 رقم الحديث (512) : "سئل أبو زرعة عن حديث رواه إسماعيل بن عياش عن ابن جريح عن ابن أبي مليكة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قاء أحدكم في صلاته أو رعف أو قلس فلينصرف وليتوضأ، ثم يبني على ما مضى من صلاته مالم يتكلم". قال أبو زرعة: "هذا خطأ، الصحيح عن ابن جريج عن أبيه عن ابن أبي مليكة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل" (2) .
__________
(1) وانظر الأمثلة على ذلك: الأحاديث: 506، 510،524،605، 935، 936، 972،990، 991، 993، 1005،1008، 1009، 1234، 1384، 1536، 1621، 1678، 1746، 1748، 1753، 1758، 2169، 2170، 2526، 2694، 2703، 2708، 2824.
(2) وانظر كذلك الأحاديث: 513، 765، 87، 1199، 1279، 1525، 588 1، 693 1، 1767، 2497، 07 25، 08 25، 2823 وقد يضيف على الإرسال حكما آخر فمثلا حكم على الحديث رقم (1371) بقوله: "مرسل مقلوب".
(1/249)
3- وتارة يعلل الحديث بقوله: "وهم فيه فلان أو الوهم من فلان. قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 1/ 12 رقم الحديث: (7) وسألت أبا زرعة عن حديث رواه محمد بن أبي بكر المقدمي عن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن الأعمش عن أبي وائل عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء أنه قال هذا وضوء من لم يحدث، قال أبو زرعة: "هذا خطأ إنما هو الأعمش عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت لأبي زرعة: الوهم ممن هو قال: من الطفاوي. قلت: ما حال الطفاوي؟ قال: صدوق إلا أنه يهم أحياناً" (1) .
4- وتارة يعلل الحديث بقوله: "حديث منكر. والحديث المنكر هو الحديث الذي رواه ضعيف مخالفاً لثقة (2) .
قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 1/ 194 الحديث رقم (557) "سئل أبو زرعة عن حديث رواه عثمان بن أبي صالح المصري، عن ابن لهيعة، عن عقيل، عن الزهري، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. قال أبو زرعة: "هذا حديث منكر" (3) .
__________
(1) وانظر كذلك الأحاديث: 525، 555، 696، 884، 916، 1050، 1100، 1446، 1489، 1537، 1538، 1540، 1542، 1548، 1549، 1666، 1707، 1750، 1752، 1757، 1776، 2073، 2565،2637،2676، 2680، وقد يضيف على الوهم حكماً آخرا كقوله على الحديث رقم (797) (موقوف والوهم من فلان) أو يقول كما في الحديث رقم (1161) : الوهم إما من فلان أو فلان، أو تارة يحكم عليه بالوهم ولم يبين العلة كما في الحديثين 508، 530.
(2) انظر: فتح المغيث للسخاوي ج 1 ص 190- 191.
(3) وانظر كذلك الأحاديث:
761، 778، 1170، 186 1، 1192، 1311، 1428، 1434، 1435، 1462، 1505، 1514، 1539، 1546، 1587، 1673، 2167، 2495، 2182، 2495، 2498، 2504، 2528، 2539، 2540، 2545، 2707، 2793، وقال كما في الحديث رقم: (2822) (رفع هذا الحديث منكر وقد يقول: "حديث منكر خطأ" كما في الحديث رقم (561) 0 أو يقول: "حديث منكر وفلان ضعيف الحديث" كما في الأحادبث 507، 2108، 2627، 2541، وقد يقول كما في الحديث رقم (1976) "حديث منكر وفلان منكر الحديث" وقولهم منكر الحديث لا يعنون به أن كل ما رواه منكر بل إذا روى الرجل جملة وبعض ذلك مناكير فهو منكر الحديث". انظر: الرفع والتكميل للكنوي ص 1414. وقد يقول كما في الحديث رقم (2788) : "منكر لا يعرف فلان" وقد يقول كما في الحديث رقم (449) "فلان منكر الحديث وأبوه ضعيف جداً" أو يقول كما في الحديث رقم (1383) "منكر، منكر جداً" أو يقول كما في الحديثين 1802، 2155 "منكر بهذا الإسناد" أو يقول كما في الحديث رقم (2106) "منكر أخاف أن لا يكون له أصل".
(1/250)
5- وتارة يعلل الحديث بقوله: "أخطأ فيه فلان".
قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 1/ 11 حديث رقم (1) : "سألت أبا زرعة رضي الله عنه عن حديث رواه قبيصة بن عقبة، عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن محجل أو محجن، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصعيد كافيك ولو لم تجد الماء عشر سنين فإذا أصبت الماء فأصبته بشرتك. قال أبو زرعة: هذا خطأ أخطأ فيه قبيصة إنما هو أبو قلابة عن عمرو بن بجدان، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم" (1) .
6- وتارة يعلل الحديث بقوله: "موقوف".
قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 1/ 223 حديث رقم 647 "سئل أبو زرعة عن حديث رواه القواريري عن يزيد بن هارون، عن حجاج بن أرطاة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه
__________
(1) وانظر كذلك الأحاديث: 6، 511، 798، 883، 992، 994، 1006، 1028، 1120،1214، 1277، 1283، 1619، 1641، 1661، 1665، 1754، 1765، 1900، 2673، 2705، 2798، 2825.
(1/251)
وسلم قال: "ما أدي زكاته فليس كنزاً " قال أبو زرعة: "هكذا رواه القواريري والصحيح موقوف" (1) .
7- وتارة يعلل الحديث بقوله: "ليس بقوي"
قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 1/ 24 الحديث رقم 36: "سمعت أبا زرعة يقول: حديث سمعان في بول الأعرابي في المسجد عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: احفروا موضعه. قال: هذا حديث ليس بقوي" (2) .
أو يعلل الحديث بقوله عن راوية: "فلان ليس بقوي": قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 1/ 44 حديث رقم 98: "سمعت أبا زرعة يقول في حديث رواه وكيع عن عيسى بن المسيب، عن أبي زرعة ابن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الهر سبع". فقال أبو زرعة: "لم يرفعه أبو نعيم وهو أصح. وعيسى ليس بقوي".
8- وقد يعلل الحديث بقوله عن رواية: "فلان لا يشتغل به، في حديثه مثل فلان هو مضطرب الحديث" (3) .
9- وقد يعلل الحديث بقوله عن راوي الحديث "ضعيف الحديث": قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 1/ 252 حديث رقم 743: "سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه بقية عن سعيد بن أبي سعيد عن هشام عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجم وهو
__________
(1) وانظر كذلك الأحاديث: 650، 760، 1118، 1524، 1586، 1630، 1728، 1763، 2043، 2152، 2506، وقد يضيف حكما آخرا فمثلا حكم على الحديث رقم (528) بقوله: "وهم وهو موقوف" أو "الوهم من فلان" كما في الحديث رقم (797) أو يقول: "موقوف ولا بأس به" كما في الحديث رقم (2372) أو يقول: "يوقفه فلان" كما في الحديث رقم (1136) .
(2) وانظر: كذلك الأحاديث: 99- 2134، 1353.
(3) انظر: علل الحديث ج1 ص 15- 16، الحديث رقم (12) .
(1/252)
صائم فقالا: هو سعيد بن عبد الجبار عن ابن جزي عن هشام والحديث حديث هشام عن أبيه أنه كان يحتجم وهو صائم، وأبو جزي ضعيف الحديث" أو يقول كما في الحديث رقم 1629 "ليس بمحفوظ وفلان ضعيف الحديث" وانظر رقم 1637، أو يقول كما في الحديث 2090 "فلان ضعيف الحديث وفلان مرسل" أو يقول كما في الحديث 2818 "ضعيف الحديث كان يكذب".
10- وتارة يعلل الحديث المروي من طرق عديدة بقوله "فلان أحفظ" فتكون الروايات الأخرى معلّة. قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 2/ 12 حديث رقم 1510: "وسئل عن حديث رواه القعنبي عن سليمان ابن المغيرة عن ثابت، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها، ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان" ورواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو زرعة: حماد أحفظ" (1) .
11- وقد يعلل الحديث بقوله "باطل اضربوا عليه"، ولا يحدثهم به:
قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 1/ 479 حديث رقم 1432: "سئل أبو زرعة عن حديث رواه إبراهيم بن أبي الليث، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، عن أبيه وعبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفعة ما لم تقع الحدود فإذا وقعت الحدود فلا شفعة"، قال أبو زرعة هذا حديث باطل فامتنع أن يحدث به وقال: اضربوا عليه" (2) .
12- قد تذكر له (أي لأبي زرعة) طرق لحديث واحد فيرجح واحدة بقوله "حديث فلان أشبه".
__________
(1) وانظر كذلك الأحاديث: 1282، 332 1، 1664، 1755، وقد يقول فلان أحب إليّ كما في الحديثين: 1628، 1751.
(2) وانظر كذلك الأحاديث: 2518، 2520، 2577، أو يقول عنه كما في الحديث رقم (1550) : "إسناد باطل" أو يقول كما في الحديث رقم (2533) : "باطل ليس له عندي أصل وكان حدثهم قديماً في كتاب كذا وقال: اضربوا عليه".
(1/253)
قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 1/ 11 حديث رقم 2: "سألت أبا زرعة عن حديث رواه شعبة والأعمش عن سلمة بن كهيل عن ذر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه أن رجلا أتى عمر فقال: إني أجنبت ولم أجد الماء فذكر عمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم في التيمم ورواه الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن أبي مالك عن عبد الرحمن ابن أبزى قال: كنت عند عمر إذ جاءه رجل. قال أبو زرعة: حديث شعبة أشبه." (1) .
13- أو يقول: "الحديث حديث فلان فتكون الرواية الأخرى أو الروايات معللة".
قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 1/ 184-185 حديث رقم 529: "سئل أبو زرعة عن حديث رواه الحكم بن بشير عن عمرو بن قيس الملائي، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي رزين، عن أبي هريرة قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة ذات ليلة حتى ذهب ثلث الليل أو قريب، ثم خرج علينا والناس قليل فغضب غضباً شديداً ثم قال: "لو أن رجلا دعا الناس إلى عرق أو مرماتين- قال أبو زرعة سهمين- لأجابوه وهم يسمعون النداء للصلاة".
لقد هممت أن أبعث رجالاً، ثم أتخلل دور قوم لا يشهد أهلها الصلاة فأضرمها بالنار، وروى هذا الحديث حماد بن سلمة وزيد بن أنيسة فقالا عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أبو زرعة الحديث حديث حماد وزيد بن أنيسة وتابعهما على ذلك أبو بكر بن عياش".
14- وقد يعلل الحديث بأن يكون المتن صحيحا والمسند لحديث آخر: قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 1/ 12 حديث رقم 5:
__________
(1) وانظر كذلك الحديث رقم: (11) أو قد يضيف على قوله هذا "وفلان ضعيف" كما في الحديثين: 13، 216.
(1/254)
"سألت أبا زرعة عن حديث رواه إبراهيم بن عبد الملك، عن قتادة، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد.
قال أبو زرعة: "هذا خطأ إنما هو قتادة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم".
15- وقد يعلل الحديث بقوله: "واه" أو عن الراوي واهي الحديث أو "واه": قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 1/45 حديث رقم 100 بعد أن سأل والده عن حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة مرة وقال: "هذا وضوء من لا يقبل الله صلاة إلا به". ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: "هذا وضوء من يضاعف الله له الأجر مرتين". ثم توضأ ثلاثاً ثلاثا وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي". "وسئل أبو زرعة عن هذا الحديث فقال: هو عندي حديث واه ومعاوية بن قرة لم يلحق ابن عمر..".
أو يقول "حديث واه جداً" كما في الحديث رقم 1312 أو يقول عن الراوي: "فلان واه" كما في الحديث رقم 2628.
16- وقد يصحح الحديث مرفوعا فتكون الرواية الأخرى أو الروايات معللة: قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 2/88 حديث رقم 1759 "سئل أبو زرعة عن حديث رواه أبو سلمة المنقري عن حماد، عن ثابت، عن أنس موقوفاً {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} قال: "ساخ الجبل" ورواه عبد الصمد بن عبد الوارث ومحمد بن كثير العبدي كلاهما عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} "فلما تجلى ربه للجبل" وذكر الحديث قال أبو زرعة كان أبو سلمة يقول قبلنا عن حماد عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء الله فلما قرأت عليه لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح موقوف" (1) .
__________
(1) وانظر: الحديثين 775، 785 أو قد يقول كما في الحديث رقم (91) : "حديث فلان مرفوع أصح وهو أحفظ، وفلان ليس به بأس".
(1/255)
وهذه أمثلة لعلل مختلفة. قال أبو زرعة:
- "حديث فلان أبي فلان ليس بصحيح وأبوفلان مجهول" (1) .
- "المحفوظ عن فلان عن فلان عن أنس" فتكون الروايات الأخرى معلولة (2) .
- "لا أحفظ من حديث فلان إلا هكذا" (3) .
- "اختلفوا في هذا الإسناد" (4) .
- "الصحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا ميمونة" (5) .
- "فلان ليس يمكن أن يقضى له" (6) .
- "اختلف الرواة فيه" (7) .
- "لم يسمع فلان عن فلان شيئاً" (8) .
- "منكر وهو من حديث فلان أشبه وروي من طريق آخر والصحيح عن فلان" (9) .
- "إنما هو عن طريق فلان" (10) .
- "ليس بمحفوظ والصحيح فلان" (11)
__________
(1) انظر: الحديث رقم (14) .
(2) انظر: الحديث رقم (42) .
(3) انظر: الحديث رقم (80) .
(4) انظر: الحديث رقم (90) .
(5) انظر: الحديث رقم (95) .
(6) انظر: الحدبث رقم (96) .
(7) انظر: الحديثين 646، 2747.
(8) انظر: الحدبث رقم (731) .
(9) انظر: الحديث رقم (869) .
(10) انظر: الحديث رقم (888) .
(11) انظر: الحديث رقم (1175) .
(1/256)
- "قصر به شعبة" (1) .
- "الحديث ليس عندهم بحمص" (2) .
- "ليس له أصل" (3) .
- "واه ضعيف باطل غير ثابت ولا صحيح ولا أعلم بين أهل العلم بالحديث خلافا أنه حديث واه ضعيف لا تقوم بمثله حجة" (4) .
- "سمعت أحمد بن حنبل يقول: حديث فلان خطأ الإسناد" (5) .
- "حديث فيه كلام أدرج من قبل الزهري فالحفاظ يميّزون كلامه" (6) .
- "فلان لا أعرفه إلا في هذا وأخاف أن يكون غلط" (7) .
وقد يعلل بعض الأحاديث دون ذكر السبب. قال ابن أبي حاتم في علل الحديث ج 1/ 488 حديث رقم 1462، "سألت أبا زرعة عن حديث رواه بقية عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه لم يكن يرى بالقز والحرير للنساء بأساً". فقال أبو زرعة: "هذا حديث منكر. قلت: تعرف له علة؟ قال: لا" (8) .
__________
(1) انطر: الحديث رقم (1179) .
(2) انظر: الحدبث رقم (1264) .
(3) انظر: الحديثين 2516، 2517.
(4) انظر: الحديث رقم (1285) .
(5) انظر: الحديث رقم (1551) .
(6) انظر: الحدبث رقم (1566) .
(7) انظر: الحديث رقم (1747) .
(8) وانظر: الحديث رقم (2704) .
(1/257)
التمهيد
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
الضعفاء لأبي زرعة الرازي في أجوبته على أسئلة البرذعي
التمهيد
1- اسم الكتاب ومؤلفه
كتب على الورقة الأولى من المخطوط اسم الكتاب وهو (كتاب الضعفاء والكذابين والمتروكين من أصحاب الحديث عن أبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم وأبي حاتم محمد بن إدريس الرازيين رحمهما الله مما سألهما عنه وجمعه وألفه أبوعثمان سعيد بن عمرو بن عمار البرذعي الحافظ رحمه الله) .
وهذا يدل على أن الكتاب صنفه البرذعي، وأما إضافة أبي حاتم لأبي زرعة، فلعل ذلك كتبه الناسخ أو أحد رواة الأجوبة. لأن العلماء لم يضف أحد منهم اسم أبي حاتم إلى أبي زرعة عند ذكرهم هذه الأجوبة أو السؤالات والذي يقرأ هذه الأجوبة بإمعان يجد أن معظم أقوال أبي حاتم هي عبارة عن تأييد لأقوال أبي زرعة في رواة جرحهم، فإن مجلس أبي زرعة كان يضم بعض الحفاظ كأبي حاتم ومحمد بن وارة، وغيرهما فكان أبو حاتم يشارك أبا زرعة في بعض الأجوبة، وفي بعض الأحيان يصف أحد الرواة له فيتذكره ثم يحكم عليه، ولقد انفرد أبو حاتم ببعض الأجوبة في عدد من الرواة، إما يسأله البرذعي فيها أو هو ذكرها له في مجلس أبي زرعة. وضم البرذعي لهذه الأجوبة أيضاً أجوبة لبعض الأئمة وجدها في مصنفاتهم أو أخذها مشافهة منهم، فنقل عن تاريخ أبي زرعة الدمشقي أربعة نصوص، وكذلك نصاً من التأريخ الكبير للبخاري وأجوبة لمحمد بن يحيى النيسابوري، وعليه فإن هذا الكتاب صنفه البرذعي وضمنه أجوبة شيخه أبي زرعة الرازي مع أجوبة قليلة جداً ومعدودة لبعض الأئمة الذين كانوا في مجلس محدثنا عدا النصوص المنقولة، وضم لهذا المصنف أيضاً
(2/271)
كتاب الضعفاء لأبي زرعة الرازي. وروى البرذعي هذا المصنف بدوره لتلاميذه وهذا الأسلوب كان متبعاً في تلك الفترة، فكان طلاب الحديث يتوجهون بأسئلتهم إلى شيوخهم فيدونون أجوبته. وهذه الأجوبة تخص الشيخ المجيب على الأسئلة وتنسب له لا لتلميذه الذي دونها.
بقيت مسألة تحتاج إلى بيان وهي أن المخطوط كتب عليه (كتاب الضعفاء والكذابين والمتروكين ... ) والذي اشتهر عن البرذعي كما مر أنه صنف كتاباً ضمنه سؤالاته لأبي زرعة، أو يطلقون عليه أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي. ولم أقف على نص يقطع التساؤلات ويدل على أن البرذعي هو الذي سماه بهذا الاسم، ومن الجائز أن أحد تلاميذه أو الذين رووا هذه الأجوبة هو الذي سماه باسم (كتاب الضعفاء والكذابين ... ) . وآثرت الاسم الذي أطلقه الحفاظ على الكتاب، وهذه بعض النصوص التي ذكر فيها اسم الكتاب:
1- قال الخطيب البغدادي في ترجمة يعقوب بن موسى الأردبيلي: "سكن بغداد، وحدث بها عن أحمد بن طاهر بن النجم الميانجي، عن سعيد ابن عمرو البرذعي سؤالات وتعاليق عن أبي زرعة الرازي، ولم يكن عنده شيء يرويه غير ذلك" (1) . ومن المعلوم أن الخطيب روى جميع النصوص - التي نقلها من الأجوبة- عن شيخه أبي بكر أحمد بن محمد البرقاني، والبرقاني رواها عن الأردبيلي.
2- قال الحافظ ابن حجر في ترجمة إسماعيل بن زياد السكوني: "وفي سؤالات سعيد بن عمرو البرذعي لأبي زرعة الرازي ... " (2) .
أما كتاب الضعفاء لأبي زرعة الرازي الذي ضمه البرذعي إلى كتابه فقد سماه باسم (أسامي الضعفاء ومن تكلم فيهم من المحدثين" (3) .
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد ج 14 ص 295.
(2) انظر: تهذيب التهذيب ج 1 ص 301، وانظر كذلك المواضع التالية منه أيضاً في ج 2 ص 119. ج 4 / 393، 25، 274، ج 5 / 258، ج 6 ص 174.
(3) انظر: الأجوبة ورقة (25- أ) .
(2/272)
وسماه المزي باسم (أسامي الضعفاء ومن تكلم فيهم) (1) دون ذكر جملة (من المحدثين) .
وقد سماه الحافظ الذهبي باسم (الضعفاء) فقال في ترجمة أيوب بن صالح "وثقه أبو حاتم، وغيره. وأما أبو زرعة فسرد اسمه في كتاب الضعفاء" (2) .
وكذلك سماه الحافظ ابن عساكر. وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة سليمان بن موسى الزهري: "وحكى ابن عساكر أن أبا زرعة ذكره في الضعفاء" (3) .
وأشار إليه شمس الدين السخاوي في شرح الألفية، وفي الإعلان بالتوبيخ (4) .
ويبدو أن كتاب الضعفاء، رواه غير البرذعي أيضا فقد قال الحافظ الذهبي في ترجمة جبر بن أيوب "ذكره أبو زرعة في الضعفاء، نقله النباتي والبرذعي، وغيره. وما أحسبه إلا تصحف بجرير بن أيوب، وهو واه ويشهد لذلك بأن جبيرا ماله ذكر في رواية البرذعي، عن أبي زرعة".
وأشار المزي في ترجمة عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد أنه قد وقف على نسختين من أجوبة أبي زرعة المتضمنة لكتاب الضعفاء فنقل النص المتعلق بكاتب الليث وفي آخره "كان يكتب لليث والله أعلم" ثم قال:- أي المزي "وفي نسخة وأثنى عليه بدل والله أعلم" (5) .
__________
(1) انظر: تهذيب التهذيب ج 10 ص 226.
(2) انظر: ميزان الاعتدال ج 1 / 289. وكذلك ج 1 / 389، ج 2 /129.
(3) انظر: تهذيب التهذيب ج 4 ص 228.
(4) انظر: فتح المغيث ج 3 ص 314، والإعلان بالتوبيخ لمن ذم التأريخ ص 109.
(5) انظر: تهذيب التهذيب ج 5 ص 258.
(2/273)
2- أهم الأسئلة المدونة
إن مجالس الحفاظ من المحدثين لم تقتصر على رواية الحديث، والسماع، وتمييز الأحاديث الضعيفة، وبيان درجتها فقط، بل كان يبحث فيها كل ما يتعلق بالسنة النبوية، وخاصة في علم الرجال حيث بينوا لتلاميذهم ومن روى عنهم درجة الرواة، وفرقوا بين الثقات والضعفاء، وكشفوا عن أحوالهم ومروياتهم، وكثيراً ما كان تلامذتهم يتوجهون بالأسئلة إليهم، وهم يتولون الإجابة عنها. ولأهميتها، وفائدتها، كانوا ينسخونها، ويروونها لمن يأخذ عنهم، ولقد حفظت لنا هذه الأسئلة المدونة علما غزيراً وكشفت عن أحوال الكثير من الرواة - وصفاتهم، مروياتهم، شيوخهم، وغير ذلك- مما قد لا نجده في كتب علم الرجال الأخرى، وهذه الأسئلة قد تكون خاصة بالرجال الضعفاء والكذابين كأسئلة البرذعي، وغيره، وقد تتعلق بالثقات والضعفاء معاً أو تبين أحوال الرواة من خلال تعليل الأحاديث. وهذه أهم الأسئلة التي وقفت عليها، والتي سبق معظمها أسئلة البرذعي، أذكرها لأهميتها:
1- مسائل عباس الدوري (1) في الرجال والعلل للإمام يحيى بن معين المعروف بـ (التأريخ والعلل) (2) .
2- سؤالات أبي خلف مرثد بن الهيثم بن طهمان الناقد ليحيى بن معين أيضاً (3) .
__________
(1) عباس بن محمد بن حاتم بن واقد الدوري أبو الفضل البغدادي مولى بني هاشم خوارزمي الأصل. قال ابن أبي حاتم: "صدوق سمعت منه مع أبي وسئل عنه أبي؟ فقال: صدوق"، وذكره ابن معين فقال: "صديقنا وصاحبنا" توفي سنة 271 هـ. انظر: تهذيب التهذيب ج 5 ص 129.
(2) مخطوط نسخة منه في المكتبة الظاهرية مجموع (112) وقد طبع الكتاب بتحقيق الدكتور أحمد محمد نور سيف.
(3) مخطوط نسخة منه في مكتبة السلطان أحمد الثالث مجموع (624) .
(2/274)
3- سؤالات أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد الختلي له أيضاً (1) .
4-