السؤال باسم الله الأعظم

وسمع آخر يقول في تشهده أيضا : ( أبو داود والنسائي وأحمد والبخاري في الأدب المفرد ) ( اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت [ وحدك لا شريك لك ] [ المنان ] [ يا ] بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم [ إني أسألك ] [ الجنة وأعوذ بك من النار ] . [ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( تدرون بما دعا ؟ ) قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ( والذي نفسي بيده ] لقد دعا الله باسمه العظيم ( وفي رواية : الأعظم ) الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى}

الثلاثاء، 13 فبراير 2024

6.ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها 8 - من كتاب الجنائز

 

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية 

وعلومها 8 - من كتاب الجنائز

 

1- باب في الغسل من غسل الميت

62- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ غَسَّلَ الْمَيْتَ فَلَيَغْتَسلْ، ومن حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأ".

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ونقل عن الشافعي التوقف عن تصحيحه، وعن أبي داود إعلاله، ثم ذكر للحديث أَحَدَ عَشَرَ طَرِيقَاً، ثم قال: "وهذه الطُّرُقُ تدلُّ على أن الحديث محفوظ"1.

قلت: هذا الحديث يُروى عن أبي هريرة من طرق:

الطريق الأول: عن أبي صالح السَّمَّان، عن أبي هريرة. أخرجه البيهقي في (سننه) 2 من طريق: القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح به.

وأخرجه الترمذي في (جامعه) 3، وابن ماجه في (سننه) 4، والبيهقي5 من طريق: سهيل بن أبي صالح6، عن أبيه7، عن أبي هريرة

__________

1 تهذيب السنن: (4/305-306) .

(1/300) .

(3/309) ح 993 ك الجنائز، باب الغسل من غسل الميت.

(1/470) ح 1463، ك الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت.

(1/300) .

6 أبو يزيد المدني، صدوقٌ تَغَيَّر حِفْظُهُ بآخره، روى له البخاري مقروناً وتعليقاً، من السادسة، مات في خلافة المنصور/ ع. (التقريب 259) .

7 أبو صالح، ذكوان السَّمان الزيَّات، ثقة ثبت ... من الثالثة، مات سنة 101هـ/ ع. (التقريب 203) .

(2/485)

به، ولفظ الترمذي والبيهقي: "مِنْ غُسْلِهِ الغُسْلُ. ومن حَمْلِهِ الوضوءُ" يعني الميت، أما ابن ماجه فلفظه: "مَنْ غَسَّلَ مَيِتاً فليغتسل". رواه عن سهيل هكذا جماعة، منهم: حماد بن سلمة، ووهيب، وزهير بن محمد، وعبد العزيز بن المختار وغيرهم1، وخالفهم سفيان بن عيينة، فرواه عن: سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن إسحاق2 مولى زائدة، عن أبي هريرة به. أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والبيهقي4 كذلك.

"وخالفهم إسماعيل بن جعفر فرواه عن سهيل عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة موقوفاً"5، كما قال الدارقطني رحمه الله.

وهذه الطريق أعلت بالانقطاع، والوقف، والاضطراب.

أما الانقطاع: فقد أشار أبو داود إليه فقال: "أدخل أبو صالح بينه وبين أبي هريرة في هذا الحديث - يعني إسحاق مولى زائدة -". وقال الشافعي: "وإنما لم يقو عندي: أنه يروى عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. ويدخل بعض الحفاظ بين أبي صالح وبين أبي هريرة:

__________

1 انظر: علل الدارقطني: ج 3 (ق 180) ، وسنن البيهقي: (1/301) .

2 والد عمر، قال العِجْلِي: هو إسحاق بن عبد الله، ثقة، من الثالثة / ر م د س. (التقريب 104) .

(3/512) ح 3162 ك الجنائز، باب في الغسل من غسل الميت.

(1/301) .

5 العلل: (ج3 ق180) .

(2/486)

إسحاق مولى زائدة، فيدل على أن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة"1. وأعله ابن دقيق العيد بذلك أيضاً2. وقال ابن حجر: "وهو معلول، لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة"3.

وأما الوقف: فقد مضى أنه يُروى عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق، عن أبي هريرة موقوفاً عليه4. وكأن البخاري - رحمه الله - أعله بذلك، فقال لما سأله عنه الترمذي: "روى بعضهم عن سهيل بن أبي صالح، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة موقوفاً"5. ورجح البيهقي وقفه كما سيأتي من كلامه.

وأما اضطرابه: فقد قال به الدارقطني، فبعد أن حكى أوجه الاختلاف فيه قال: "ويشبه أن يكون سهيل كان يضطرب فيه"6.

وقد يُجاب عن هذه العلل، فيقال: أما انقطاعه: فإنه لا مانع أن يكون أبو صالح سمعه من أبي هريرة، ومن إسحاق عن أبي هريرة، فرواه على الوجهين جميعاً، وقد علق الشافعي - رحمه الله - الحكم بصحته على معرفة حال إسحاق، فقال: "وإنما منعني عن إيجاب الغسل من غسل الميت: أن في إسناده رجلاً لم أقع

__________

1 الجوهر النقي: (1/301) .

2 التلخيص الحبير: (1/137) .

3 فتح الباري: (3/127) .

4 وانظر سنن البيهقي: (1/301) .

5 علل الترمذي: (1/402) .

6 علل الدارقطني: ج 3 (ق180) .

(2/487)

من معرفة من ثَبَّتَ حديثه - إلى يومي - على ما يقنعني، فإن وجدت من يقنعني، فإن وجدت من يقنعني أوجبته ... "1.

قال ابن حجر: "إسحاق مولى زائدة: أخرج له مسلم، فينبغي أن يصحح الحديث"2.

وأما الوقف: فيمكن أن يقال: إن الرفع زيادة من ثقة وهي مقبولة، ولا سيما أن الذين رفعوه أكثر عدداً. ولكن مع ذلك كله يخشى من احتمال كونه مضطرباً كما حكم به الدارقطني رحمه الله، فالله أعلم.

الطريق الثاني: رواه بن أبي ذئب، عن صالح3 مولى التوأمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. أخرجه: أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 4، والخطيب في (موضح أوهام الجمع والتفريق) 5. والبيهقي في (سننه) 6 من طريق الطيالسي.

وقد أَعَلَّ البيهقي7، ثم ابن الجوزي8 هذا الطريق بـ"صالح

__________

1 سنن البيهقي: (1/302) .

2 التلخيص الحبير: (1/137) .

3 ابن نبهان المدني، صدوق اختلط، قال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه: كابن أبي ذئب وابن جريج، من الرابعة ... / د ت ق. (التقريب 274) .

4 حم: (2/433، 454، 472) . طس: (ح2314) .

(2/172) .

(1/303) .

7 السنن: (1/303) .

8 العلل المتناهية: (1/378) .

(2/488)

مولى التوأمة"، فقال البيهقي: "صالح مولى التوأمة ليس بالقوي".

قلت: وصالح هذا فيه ضعف، واختلاط، فقد ضعفه: يحيى القطان1، ومالك2، وابن معين3 في رواية، وأبو زرعة، وأبو حاتم4، والنسائي5. ووثقه أحمد6، وابن معين7 في رواية، والعجلي8. فالرجل بهذه المثابة "صدوق" كما حكم به الذهبي9 وابن حجر.

وأما اختلاطه: فقد مَيَّزَ جماعة من الحفاظ حديثه القديم، وحكموا بصحة رواية من روى عنه قبل الاختلاط، منهم: علي بن المديني، وابن معين، والجوزجاني، وابن عدي10. وابن أبي ذئب ممن سمع منه قديماً، فيكون حديثه عنه صحيحاً، ولذلك ردَّ ابن التركماني على البيهقي تضعيفه11.

__________

1 انظر: تهذيب التهذيب (4/405) .

2 الجرح والتعديل: (2/1/417) .

3 المصدر السابق: (2/1/418) .

4 المصدر السابق.

5 الضعفاء: (ص57) .

6 تهذيب التهذيب: (4/405) .

7 تاريخ الدوري: (2/266) .

8 الثقات بترتيب الهيثمي: (ص227) .

9 المغني: (1/305) .

10 انظر: الكواكب النيرات: (ص261) .

11 الجوهر النقي: (1/302) .

(2/489)

الطريق الثالث: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة به. أخرجه البيهقي في (سننه) 1 من طريق: ابن لهيعة، عن حنين بن أبي حكيم، عن صفوان بن أبي سليم، عن أبي سلمة به. ثم قال: "ابن لهيعة وحنين لا يحتج بهما".

قلت: وهذا قد صَحَّحَ الأئِمَّةُ وَقْفَهُ، فقال أبو حاتم - وقد سئل عنه -: "هو موقوف عن أبي هريرة، لا يرفعه الثقات"2. وقال ابن دقيق العيد: "وأما رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: فإسناد حسن، إلا أن الحفاظ من أصحاب محمد بن عمرو رووه عنه موقوفاً"3. وأخرج البيهقي الرواية الموقوفة من طريق: عبد الوهاب بن عطاء، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة به، ثم قال: "هذا هو الصحيح: موقوفاً على أبي هريرة، كما أشار إليه البخاري"4.

الطريق الرابع: عن عمرو بن عمير5، عن أبي هريرة. أخرجه أبو داود في (سننه) 6 – ومن طريقه البيهقي في (سننه) 7 - من طريق: القاسم بن عباس، عن عمرو بن عمير به.

وهذا الطريق ضعيف؛ فإن عمرو بن عمير "مجهول" كما حكم

__________

(1/302) .

2 علل ابن أبي حاتم: (1/351) .

3 التلخيص الحبير: (1/137) .

4 سنن البيهقي: (1/302) .

5 الحجازي، مجهول، من الثالثة/ د. (التقريب 425) .

(3/511) ح 3161.

(1/303) .

(2/490)

بذلك ابن القطان وابن حجر1 رحمهما الله. وبهذا أعله البيهقي، فقال: "عمرو بن عمير إنما يعرف بهذا الحديث، وليس بالمشهور". قال ذلك في (سننه) .

الطريق الخامس: عن أبي إسحاق، عن أبي هريرة به. أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 2 - ومن طريقه أحمد3 - من طريق: يحيى بن أبي كثير، عن رجل يقال له: أبو إسحاق، عن أبي هريرة به، وليس فيه الوضوء من حمله. وأخرجه أحمد في (مسنده) 4 من طريق: يحيى، عن رجل من بني ليث، عن أبي إسحاق به.

ويروى هذا عن: أبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، أخرجه البيهقي في (سننه) 5، وذكر اختلافاً فيه، ثم قال: "والمشهور: عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب الأسدي، عن علي رضي الله عنه".

وقد روى هذا الحديث من طرق أخرى غير ما ذكرنا، واستوعبها البيهقي في (سننه) 6، ثم قال: "الروايات المرفوعة في هذا الباب عن أبي هريرة غير قوية، لجهالة بعض رواتها وضعف بعضهم، والصحيح: عن أبي هريرة من قوله، موقوفاً غير مرفوع". وقد تقدم معنا ترجيح البخاري

__________

1 انظر: تهذيب التهذيب: (8/84) .

(3/407) ح 6110.

3 المسند: (2/280) .

(2/280) .

(1/304) .

(1/300 - 304) .

(2/491)

وأبي حاتم الوقف في بعض طرقه.

وأكثر العلماء على ضَعْفِ هذا الحديث كما قال الزيلعي1، والمناوي2 وغيرهما، وقال الإمام أحمد، وعلي بن المديني، ومحمد بن يحيى الذُّهَلي، وابن المنذر وغيرهم: إنه لا يثبت في هذا الباب شيء3. وقد تقدم طرف من أقوال العلماء في تضعيف هذا الحديث، وضعفه أيضاً: ابن الجوزي4، والنووي5.

لكن ذهب جماعةٌ إلى صِحَّتِهِ، وآخرون إلى حُسْنِهِ: فَحَسَّنَه الترمذي، وصححه ابن حبان، وابن حزم6، وقال ابن دقيق العيد: "وفي الجملة: هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسناً"7. وقال الذهبي في (مختصر البيهقي) 8: "طرقُ هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء، ولم يُعِلُّوها بالوقف، بل قَدَّمُوا رواية الرفع". وجعله البغوي من قسم الحسن في (مصابيحه) وتبعه التبريزي في (المشكاة) 9 ورجح ابن

__________

1 نصب الراية: (2/282) .

2 فيض القدير: (6/185) .

3 انظر: علل الترمذي: (1/402) ، وسنن البيهقي: (1/301) ، والتلخيص الحبير: (1/137) .

4 العلل المتناهية: (1/378 - 379) .

5 المجموع: (5/138) .

6 المحلى: (2/35) .

7 التلخيص الحبير: (1/137) .

8 التلخيص الحبير: (1/137) .

(1/169) ح 541.

(2/492)

حجر تصحيح بعض طرقه1. وَحَسَّنَهُ الحافظ السيوطي2. وصححه الشيخ الألباني3.

وقد ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى القول بأن الحديث بمجموع طرقه محفوظٌ، ولعلَّ هذا هو ما تطمئن إليه النفس، ولا سيما أن طرق هذا الحديث قد تعدَّدت، مما يجعل الحديث لا يقل عن درجة الحسن.

وقد ذهب أبو داود - رحمه الله - إلى أن هذا الحديث منسوخ، لكنه لم يذكر لنا ناسخه، ولا رأيت من قال بقوله.

وقد ذهب الأكثرون - كما نقل ابن القَيِّم4 - إلى عدم وجوب الغسل من غسل الميت، ونقل الإمام أبو داود عن الإمام أحمد أنه يجزئه الوضوء5. وقال الخطابي: "ويشبه أن يكون الأمر في ذلك على الاستحباب"6. وقال: "وقد يحتمل أن يكون المعني فيه: أن غاسل الميت لا يكاد يأمن أن يصيبه نَضْحٌ من رشاش الغسول، وربما كان على بدن الميت نجاسة. فإذا أصابه نَضْحُهُ - وهو لا يعلم مكانه - كان عليه غسل جميع البدن، ليكون الماء قد أتى على الموضع الذي أصابه النجس من بدنه"7.

__________

1 التلخيص الحبير: (1/137) .

2 كما في فيض القدير مع الجامع الصغير: (6/185) .

3 انظر: إرواء الغليل: (1/173) ، وصحيح ابن ماجه: (ح 1195) ، وصحيح الجامع: (ح6402) ، والتعليق على المشكاة: (1/169) ح 541.

4 تهذيب السنن: (4/306) .

5 سنن أبي داود: (3/512) .

6 معالم السنن: (4/305) .

7 المصدر السابق.

(2/493)

2- باب ما جاء في المشي خلف الجنازة

63- (2) حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "الجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ، لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا".

ذكر ابن القَيِّم هذا الحديث، وقال: "ضعيف"1. وقد أورده - رحمه الله - دليلاً للقائلين بالمشي خلف الجنازة.

قلتُ: الحديث بهذا اللفظ المختصر أخرجه ابن ماجه في (سننه) 2 ولفظه: "الجنازةُ متبوعة وليست بتابعة، ليس معها من تقدمها ".

ولكن أخرجه بأطول من هذا: أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في (جامعه) 4، وأحمد في (مسنده) 5، والبيهقي في (سننه) 6، كلهم من طريق:

يحيى بن عبد الله7 التيمي، عن أبي ماجد8، عن عبد الله بن مسعودرضي الله عنه، أنه قال: سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة؟ فقال: "ما دُوْنَ

__________

1 تهذيب السنن: (4/316) .

(1/476) ح 1484 ك الجنائز، باب المشي أمام الجنازة.

(3/525) ح 3184 ك الجنائز، باب الإسراع بالجنازة.

(3/323) ح 1011، ك الجنائز، باب ما جاء في المشي خلف الجنازة.

(1/394، 415، 419، 432) .

(4/25) .

7 ابن الحارث، الجَابِر - قيل: كان يُجَبِّرُ الأعضاء - أبو الحارث الكوفي، لَيِّنُ الحديث، من السادسة، وروايته عن المقدام مرسلة / د ت ق (التقريب 592) .

8 ويقال: أبو ماجدة، قيل: اسمه عائذ بن نضلة، مجهولٌ، لم يرو عنه غير يحيى الجابر، من الثانية/ د ت ق. (التقريب 670) .

(2/494)

الخبب1، إن يكن خيراً تعجل إليه، وإن يكن غير ذلك فَبُعْدَاً لأهل النار، والجنازة متبوعة ولا تُتْبَعُ، ليس معها من تَقَدَّمَهَا". هذا لفظ أبي داود، ولفظ الباقين نحو، إلا أن الترمذي عنده: "سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن السير خلف الجنازة" وفيه: "وليس منا من تقدمها". والعبارة الأخيرة كذا هي عند أحمد في موضعين2. وأخرجه عبد الرزاق في (المصنف) 3 مختصراً كلفظ ابن ماجه المتقدم، لكن فيه سؤال ابن مسعود النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث ضعيفٌ، ضَعَّفَهُ جماعة من العلماء، فقال الترمذي: "هذا حديث لا يُعْرَف من حديث عبد الله بن مسعود إلا من هذا الوجه. سمعت محمد بن إسماعيل يُضَعِّفُ حديث أبي ماجد لهذا. وقال محمد: قال الحميدي: قال ابن عيينة: قيل ليحيى: من أبو ماجد هذا؟ قال: طائر طار فحدثنا"4. وفي (علله) 5 أنه سأل البخاريَّ عنه؟ فقال: "أبو ماجد منكر الحديث" وضَعَّفَهُ جداً. وقال أبو داود: "وهو ضعيف، هو يحيى بن عبد الله، وهو يحيى الجابر ... أبو ماجدة هذا لا يُعْرف". وقال البيهقي: "أبو ماجد مجهولٌ، ويحيى الجابر: ضَعَّفَهُ جماعة من أهل النقل"6. وَضَعَّفَهُ المنذري - أيضاً - في (مختصر السنن) 7. وقال ابن

__________

1 الخَبَبَ: ضَرْبٌ من العَدْو، وقيل: هو مثل الرَّمَل، وقيل: الخبب السرعة. (لسان العرب ص 1085) .

2 المسند: (1/394، 415) .

(3/446) ح 6265.

4 جامع الترمذي: (3/323) .

(1/407) .

6 السنن: (5/25) .

(4/318 - 319) .

(2/495)

الملقن: "هو حديث واهٍ لأجل يحيى الجابر، وأبي ماجدة"1 ثم نقل كلام أئمة الجرح والتعديل فيهما. وَضَعَّفَهُ الشيخ الألباني2 أيضاً.

فيتلخص: أن هذا الحديث ضعيفٌ كما قال ابن القَيِّم رحمه الله؛ لاتفاقهم على جهالة أبي ماجد، وضَعْفِ يحيى الجابر، والله أعلم.

__________

1 البدر المنير: ج 4 (ق 27/أ) نسخة أحمد الثالث.

2 ضعيف سنن ابن ماجه: (ح 324) .

(2/496)

3- باب ما جاء في القيام للجنازة

64- (3) حديث البراء بن عازب: "خَرَجْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازةِ رجل من الأَنْصَارِ، فانتهينا إلى القبر، وَلَمَّا يُلْحَد بعدُ، فجلسَ النبي صلى الله عليه وسلم، وَجَلَسْنَا مَعَهُ".

قال ابن القَيِّم: "وهو حديث صحيح"1. ثم تَعَرَّضَ له بعد ذلك، ودفع عنه بعض ما رُمِيَ به من علل2. وقال مرة: "وهو صحيح، صححه جماعة من الحفاظ"3.

وقد استَدَلَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذا الحديث على أن السُّنَّة لِمُتَّبِع الجنازة ألاَّ يجلس حتى توضع، وأن المراد: وضعها على الأرض، فقال: "ويدلُّ على أنَّ المراد بالوضع الوضع بالأرض عن الأعناق: حديث البراء ... " فساقه.

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 4، وأحمد والطيالسي في (مسنديهما) 5، والحاكم في (المستدرك) 6، أربعتهم من طريق: الأعمش.

__________

1 تهذيب السنن: (4/311) .

2 المصدر السابق: (4/337) .

3 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص58) .

(3/546) ح 3212 باب الجلوس عند القبر.

5 حم: (4/287) . طس: (ح 753) .

(1/37 - 38) .

(2/497)

وأخرجه النسائي وابن ماجه في (سننيهما) 1، والحاكم - أيضاً - في (مستدركه) 2، ثلاثتهم من طريق: عمرو بن قيس3.

وأخرجه ابن ماجه والحاكم4، من طريق: يونس بن خباب5 كُلُّهم عن:

المنهال بن عمرو6، عن زاذان7، عن البراء بن عازب رضي الله عنه به.

وألفاظهم متفاوتة، وعند بعضهم ما ليس عند الآخر.

قال أبو عبد الله الحاكم عقبه: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعاً بالمنهال بن عمرو، وزاذان أبي عمر الكندي"8.

__________

1 س: (4/78) باب الوقوف للجنائز. جه: (1/494) ح 1549، باب ما جاء في الجلوس في المقابر.

(1/40) .

3 الملائي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة متقن عابد، من السادسة، مات سنة بضع وأربعين/ بخ م 4. (التقريب 426) .

4 جه: (1/494) ح 1548. كم: (1/39) .

5 الأُسَيِّدي مولاهم، الكوفي، صدوقٌ يخطئ وَرُمِيَ بالرفض، من السادسة/بخ4. (التقريب 613) .

6 الأسدي، مولاهم، الكوفي، صدوق رُبَّما وَهِمَ، من الخامسة/خ4. (التقريب547) .

7 أبو عمر، الكندي، البزاز، ويكنى أبا عبد الله أيضاً، صدوق يرسل، وفيه شيعية، من الثانية، مات سنة 82هـ / بخ م 4. (التقريب 213) .

8 المستدرك: (1/39) .

(2/498)

وليس كما قال رحمه الله؛ فإن المنهال احتجَّ به البخاري وحده، وزاذان احتجَّ به مسلم وحده، فكيف يكون على شرطهما؟!

وقد أَعَلَّهُ ابن حبان - رحمه الله - في (صحيحه) 1 فقال: " ... وزاذان لم يسمعه من البراء، فلذلك لم أخرجه".

وقد نقل ابن القَيِّم ذلك عن ابن حبان، ثم قال: "وهذه العلة فاسدة؛ فإن زاذان قال: سمعت البراء بن عازب ... ذكره أبو عوانة في صحيحه".

قلتُ: ورواية الحاكم - أيضاً - فيها التصريح بسماعه منه.

وقد أَعَلَّهُ ابن حزم بعلة أخرى، وهي ضعف المنهال بن عمرو2.

ونقل ابن القَيِّم ذلك عنه، ثم قال: "وهي علة فاسدة؛ فإن المنهال ثقة صدوق"3.

قلتُ: قد وثقه جماعة، وغاية ما قيل فيه: أنهم سمعوا صوت طنبور من بيته، ولم يقبل العلماء جَرْحَهُ بذلك، واحتجَّ به البخاري في (صحيحه) 4.

__________

1 انظر: الإحسان: (5/48) .

2 تهذيب التهذيب: (10/320) .

3 تهذيب السنن: (4/337) .

4 تنظر ترجمته في: الميزان: (4/192) ، وتهذيب التهذيب: (10/319) ، وهدي الساري: (ص446) .

(2/499)

وَدَفَعَ ابن القطان القول بتضعيف الحديث بالمنهال بن عمرو، ونقل عن بعض الأئمة توثيقه، ثم قال - رداً على من ضَعَّفَ المنهال بن عمرو بسماع صوت طنبور من بيته -: "فهذا - كما ترى - التعسف فيه ظاهرٌ، ولا أعلم لهذا الحديث عِلَّةً غير ما ذكرت، فاعلمه"1.

وألزم عبد الحق بقبول هذا الحديث، فقال رحمه الله: "وسكت عنه، ولم يبين أنه من رواية المنهال، فكان هذا منه قبولاً له"2.

فثبت بذلك صحَّةُ هذا الحديث - كما حكم ابن القَيِّم رحمه الله - أو حُسْنُهُ على أقل تقدير، وأن ما ضُعِّفَ به لا ينهض، وحينئذ يَسْلَمُ لابن القَيِّم - رحمه الله - الاستدلال به على جلوس مُتَّبَعِ الجنازة بمجرد وضعها على الأرض، واستدل به ابن حجر على ذلك أيضاً، بعد أن نقل عن أبي عوانة أنه صححه3.

ثم أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - بعد ذلك حديثاً للقائلين بأن المراد: الوضع في اللَّحْدِ، وهو:

65- (4) حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه قال: "كَانَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُومُ فِي الْجنازة حتى تُوضعَ في اللَّحْدِ ".

قال ابن القَيِّم: "لكن في إسناده بشر بن رافع". ثم نقل أقوال الأئمة: الترمذي، والبخاري، وأحمد، وابن معين، والنسائي، وابن

__________

1 بيان الوهم والإيهام: (3/362 - 363) ح 1107.

2 بيان الوهم والإيهام: (3/362) .

3 التلخيص الحبير: (2/112) .

(2/500)

حبان في تضعيف بشر هذا1.

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في (سننهم) 2، والبيهقي في (سننه) 3، والحازمي في (الاعتبار) 4، كلهم من طريق:

بشر بن رافع5، عن عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية6، عن أبيه7، عن جده8، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمرَّ به حبر من اليهود، فقال: هكذا نفعل. فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "اجلسوا، خالفوهم". هذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي وابن ماجه مثله، إلا أنه ليس عندهما قوله: "اجلسوا"، ولفظ البيهقي كأبي داود.

__________

1 زاد المعاد: (1/518 - 519) .

2 د: (3/520) ح 3176. ت: (3/331) ح1020. جه: (1/493) ح 1545. كلهم في ك الجنائز، وعند د، جه: باب القيام للجنازة، وعند ت: باب الجلوس قبل أن توضع.

(4/28) .

(ص 131) باب النهي عن الجلوس حتى توضع الجنازة ...

5 الحارثي، أبو الأسباط النجراني، فقيه ضعيف الحديث، من السابعة/ بخ د ت ق. (التقريب 123) .

6 الأزدي، ضعيف، من السادسة/ د ت ق. (التقريب 306) .

7 هو: سليمان بن جنادة، منكر الحديث، من السادسة/ د ت ق. (التقريب 250) .

8 جنادة بن أبي أمية، يقال: اسم أبيه كبير، مختلف في صحبته، فقال العجلي: "تابعي ثقة"، والحق أنهما اثنان، صحابيُّ وتابعيُّ، متفقان في الاسم وكنية الأب / ع. (التقريب142) .

(2/501)

قلتُ: وهذا الحديث ضعيف، ضَعَّفَهُ غير واحدٍ من العلماء، فقال البخاري: "منكر"1. ونقل عنه العقيلي قوله - في ترجمة سليمان ابن جنادة -: "لم يُتَابَعْ في هذا"2. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، وبشر بن رافع ليس بالقويِّ في الحديث". وقال الحازمي: " ... ولو صحَّ لكان صريحاً في النسخ"3. وقال ابن الملقن: "وإسناد هذا ضعيف، فيه: بشر بن رافع، وليس بحجة، عن: ابن جنادة، وفيه نظر، كما قال البخاري ... "4. وقال ابن حجر: "إسناده ضعيف"5.

والحديث ليس ضعيفاً بسبب بشر بن رافع وحده، كما هو ظاهر كلام ابن القَيِّم السالف، بل شَيْخُهُ، وشيخُ شيخِهِ - أيضاً - ضعيفان.

أما شيخه عبد الله بن سليمان بن جنادة: فقال عنه البخاري: "فيه نظر"6. وسكت ابن أبي حاتم عنه7. أما ابن حبان فقد ذكره في (الثقات) 8 وقال: "يعتبر حديثه من غير رواية بشر عنه".

قلت: والرجلُ في عداد المجهولين؛ فإنه لم يرو عنه أحد غيرُ

__________

1 الضعفاء الصغير: (ص108) ، والتاريخ الكبير: (2/2/6) .

2 ضعفاء العقيلي: (2/122) .

3 الاعتبار: (ص131) .

4 البدر المنير: ج4 (ق 26/ب) . نسخة أحمد الثالث.

5 التلخيص الحبير: (2/112) .

6 التاريخ الكبير: (3/1/108) .

7 الجرح والتعديل: (2/2/75) .

(8/337) .

(2/502)

بشر بن رافع، ولم يوثقه أحد غير ابن حبان، ولذلك فقد قال عنه الذهبي: "لا يُدْرَى من هو"1. وسبق قول ابن حجر فيه: "ضعيف".

وأما شيخ شيخه سليمان بن جنادة، أبو عبد الله الماضي ذكره: فقال أبو حاتم: "منكر الحديث"2. وَضَعَّفَهُ البخاري3، والعقيلي4. وقال ابن حبان: "منكر الحديث، فلست أدري البلية في روايته منه أو من بشر بن رافع؛ لأن بشر بن رافع ليس بشيء في الحديث ... على أنه يجب التَّنَكُّبُ عن روايته على الأحوال"5.

قلت: فإذا كان هذا هو حال هذا الإسناد، فإن الاقتصار على تضعيفه بـ"بشر بن رافع" وحده فيه نظر.

ومع ضعف هذا الحديث الظاهر، فإن الشيخ الألباني -رحمه الله- قد حَسَّنَهُ6، ولا أدري ما وجه تحسينه له؟

فتلخص من ذلك: أنَّ الصَّواب فِي قوله صلى الله عليه وسلم: "حَتَّى تُوضَعَ " أي: بالأرض. وأنَّ مَا جَاء من أن المراد: الوضع في اللَّحد: ضَعِيف لا يثبت، وهذا ما قرره ابن القَيِّم - رحمه الله - في دراسته هذه، فأصاب.

__________

1 الميزان: (2/432) .

2 الجرح والتعديل: (2/1/105) .

3 الضعفاء الصغير: (ص108) .

4 الضعفاء: (2/122) .

5 المجروحين: (1/329) .

6 صحيح سنن ابن ماجه: (ح 1256) .

(2/503)

4- باب الصلاة على الجنازة في المسجد

66- (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلا شَيْءَ لَهُ".

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ونقل أن الإمام أحمد ضَعَّفَهُ: بأنه مما تفرد به صالح مولى التوأمة، وكذا البيهقي، وأنه قَدَّمَ عليه حديث عائشة رضي الله عنها في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد، حيث إنها احتجت عليهم بذلك لما أنكروا عليها إدخالها جنازة سعد بن أبي وقاص إلى المسجد للصلاة عليها.

ثم قرَّرَ ابن القَيِّم أن صالحاً ثقة في نفسه، إلا أنه اختلطَ أخيراً، فمن سَمِعَ منه قبل الاختلاط فهو حُجَّةٌ، وابن أبي ذئب - راوي الحديث عنه - ممن سَمِعَ منه قبل اختلاطه، ولذلك فإن هذا الحديث حسن، ولا معنى لتضعيفه ما دام من رواية ابن أبي ذئب1.

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 2 من طريق: يحيى وابن ماجه في (سننه) 3، وأحمد في (المسند) 4، والبيهقي في (السنن) 5 من طريق: وكيع. وأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 6 من طريق: معمر،

__________

1 زاد المعاد: (1/500 - 501) . وانظر: تهذيب السنن: (4/325) .

(3/531) ح 3191 ك الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد.

(1/486) ح 1517.

(2/444) .

(4/52) .

(3/527) ح 6579.

(2/504)

والثوري كليهما، ومن طريقه أخرجه البيهقي1. وأخرجه الطيالسي في (مسنده) 2. وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) 3 من طريق: الثوري وحده، وأخرجه ابن حبان في (المجروحين) 4، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 5 من طريق: علي بن الجعد، كلهم عن:

ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه به.

وقد اختلفت ألفاظهم في هذا الحديث: ففي رواية أبي داود التي بين أيدينا: "فلا شيء عليه". ونقل ابن القَيِّم عن الخطيب أنه قال في روايته لكتاب السنن: "في الأصل: فلا شيء عليه، وغيره يرويه: فلا شيء له". ولفظ ابن ماجه وأحمد: "فليس له شيء" وأما رواية الباقين فلفظها: "فلا شيء له ".

وعند الطيالسي زيادة وهي: "قال صالح: وأدركتُ رجالاً ممن أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر إذا جاءوا فلم يجدوا إلا أن يُصَلُّوا في المسجد، رجعوا فلم يصلوا". وهي عند البيهقي لكن لفظها: "فرأيت الجنازة توضع في المسجد، فرأيت أبا هريرة إذا لم يجد موضعاً إلا في المسجد، انصرف ولم يصل عليها".

وقد ضَعَّفَ جماعة هذا الحديث: فقال ابن ماجه عقب إخراجه:

__________

1 السنن: (4/52) .

(ح 2310) .

(7/93) .

(1/366) .

(1/414) ح 696.

(2/505)

"حديث عائشة أقوى" يعني: في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد. وقال ابن حبان: "هذا خبرٌ باطلٌ، كيف يخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمُصَلِّي في المسجد على الجنازة لا شيء له من الأجر، ثم يُصَلِّي هو على سهيل بن بيضاء في المسجد؟ "1.

وقال البيهقي: "وهو مِمَّا يُعَدُّ في أَفراد صالح، وحديث عائشة رضي الله عنها أصحُّ منه، وصالح مولى التوأمة مختلف في عدالته، كان مالك بن أنس يجرحه"2. وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصحُّ، وصالح قد كَذَّبَه مالك ... "3. وقال النووي: "ضعيف باتفاق الحُفَّاظِ، وممن نصَّ على ضعفه: الإمام أحمد، وأبو بكر بن المنذر، والبيهقي وآخرون ... "4.

قلت: وبالنظر إلى كلام الْمُضَعِّفِينَ لهذا الحديث نجدُ أنهم اعتمدوا في تضعيفه على أمرين:

الأول: ضعفُ صالح مولى التوأمة، وقد تَفَرَّدَ بذلك.

الثاني: مخالفةُ هذه الرواية لما ثبت في (صحيح مسلم) من حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على ابن بيضاء في المسجد".

__________

1 المجروحين: (1/366) .

2 السنن: (4/52) .

3 العلل المتناهية: (1/414) .

4 المجموع: (5/162) .

(2/506)

فأما صالح: فإنه قد وثقه جماعة، وضَعَّفَهُ آخرون1. وغاية ما رَمَوهُ به: أنه اختلط قبل موته، لكن مَيَّزَ الأئمة النُّقَّادُ بين سماع من سمع منه قبل الاختلاط وبعده، فقال علي بن المديني: "صالح ثقة، إلا أنه خَرِفَ وكَبِرَ، فَسَمِعَ منه قومٌ وهو خرف كبير، فكان سَمَاعهم ليس بصحيح، سفيان الثوري ممن سمع منه بعد ما خرف، وكان ابن أبي ذئب قد سمع منه قبل أن يخرف"2. وقال أحمد بن أبي مريم عن يحيى بن معين: "ثقة حجة. فقلت له: إن مالكاً تركه. فقال: إن مالكاً إنما أدركه بعد أن خرف ... لكنَّ ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف"3. وقال الجوزجاني: "تَغَيَّرَ أخيراً، فحديث ابن أبي ذئب عنه مقبول لِسِنِّه وسماعه القديم، وأما الثوري فَجَالَسَهُ بعد التغير"4.

فهذا كلام هؤلاء الأئمة في أنَّ ابن أبي ذئب ممن سمع منه قديماً قبل الاختلاط، وقال ابن عديّ - بعد أن ذكر قدم سماع ابن أبي ذئب منه -: "ولا أعرف له حديثاً منكراً إذا روى عنه ثقة، وإنما البلاء ممن دون ابن أبي ذئب ... وصالح مولى التوأمة: لا بأس برواياته وحديثه"5.

قلت: وهذا الحديث من رواية ابن أبي ذئب عن صالح، فلا مجال حينئذ للطعن فيه باختلاط صالح، ولذلك فقد ساق الذهبي هذا

__________

1 انظر: تهذيب التهذيب: (4/405 - 407) .

2 سؤالات ابن أبي شيبة لعلي بن المديني: (ص86) .

3 الميزان: (2/303) .

4 أحوال الرجال: (ص 144) .

5 الكامل: (4/1375 - 1376) .

(2/507)

الحديث وغيره في ترجمة صالح من طريق ابن أبي ذئب عنه، ثم قال: "فهذه الأحاديث صحاح عند ابن معين على ما قال"1.

وأما معارضة هذا الحديث لحديث عائشة السابق: فيمكن الجواب عن ذلك بأجوبة:

- منها: أن نُسَخَ أبي داود المعتمدة فيها: "فلا شيء عليه"، وبعضهم: "فليس له شيء "، وبعضهم: " فليس به شيء "، وعلى هذا: لا دلالة فيه على كراهية ذلك. أجاب بذلك النووي2.

قلت: لكن كيف برواية الجماعة الباقين، وهي: "فلا شيء له"، وفي رواية: "فليس له شيء "، فهذا يعكر على هذا الجواب. ويعكر عليه أيضاً: قول صالح عقب روايته هذا الحديث: "فرأيت الجنازة توضع في المسجد، فرأيت أبا هريرة إذا لم يجد موضعاً إلا في المسجد، انصرف ولم يصل عليها". وقد سبق ذلك في رواية البيهقي، وأبي داود الطيالسي، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه راوي هذا الحديث يفعل ذلك، فلا بدَّ أنه قد ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم كراهة ذلك، وحينئذ فلا وجه لردِّ رواية: "فلا شيء له".

- ومن هذه الأجوبة: أن لفظة: "لا شيء له" يجب حملها على: "فلا شيء عليه" جمعاً بين الروايات، وقد جاء مثل ذلك في القرآن، كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7] أي: فعليها. قاله النووي3.

__________

1 الميزان: (2/304) .

2 المجموع: (5/162) .

3 المجموع: (5/162) .

(2/508)

- وأجاب الخطابي بجواب آخر، فقال: "وقد يكون معناه - إن ثبت الحديث - متأولاً على نقصان الأجر؛ وذلك أن من صلى عليها في المسجد، فإن الغالب أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه، وأن من سعى إلى الجَبَّان فَصَلَّى عليها بحضرة المقابر شهد دفنه، فأحرز أجر القيراطين ... فصار الذي يصلي عليها في المسجد منقوص الأجر بالإضافة إلى من صَلَّى عليها براً"1. وقال مثله النووي رحمه الله، وزاد: "فيكون التقدير: فلا أجر كامل له"2.

قلتُ: ولعلَّ هذا الجواب الأخير هو أَقْرَبُهَا، فيكون الأصل في الصلاة على الجنازة أن تكون خارج المسجد، وأنه الأفضل، وأن الصلاة عليها في المسجد جائزة، وإن كانت دون الأولى، وقد أشار إلى شيء من ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله، فإنه عند شرحه لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا، فأمر بهما فرجما قريباً من موضع الجنائز عند المسجد" قال رحمه الله: "دلَّ حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان مُعَدٌّ للصلاة عليها، فقد يستفاد منه: أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز في المسجد كان لأمرٍ عارض، أو لبيان الجواز"3. وفي إنكار الصحابة - رضوان الله عليهم - على عائشة إدخالها جنازة سعد بن أبي وقاص إلى المسجد للصلاة عليها، دليل على عدم وقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، وإلا لما خفي عليهم.

__________

1 معالم السنن: (4/325) .

2 المجموع: (5/162) .

3 فتح الباري: (3/199) .

(2/509)

فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديث أبي هريرة هذا - من رواية صالح مولى التوأمة - حديث حسن على أقل أحواله، كما حكم عليه بذلك ابن القَيِّم رحمه الله، وأن القول بضعفه مَبْنِيٌّ على الطعنِ في صالح، وقد عُلِمَ ما فيه.

على أنه لا تنافي بينه وبين جواز الصلاة على الجنازة في المسجد على الوجه المتقدم، والله أعلم.

(2/510)

5 - باب ما جاء في الصلاة على الطفل

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الصلاة على الطفل، فصحَّ عنه أنه قال: 67- (6) "الطِّفْلُ يُصَلَّى عليه" 1.

قلت: هذا جزء من حديثٍ يُروى عن: زياد بن جبير بن حَيَّة2، عن أبيه3، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، واختلف فيه على زياد بن جبير:

فأخرجه: الترمذي والنسائي وابن ماجه في (سننهم) 4، وأحمد في (مسنده) 5 والطبراني في (الكبير) 6، وابن حبان في (صحيحه) 7، والحاكم في (المستدرك) 8، كلهم من طريق:

__________

1 زاد المعاد: (1/513) .

2 ابن مسعود بن مُعَتِّب الثفي، البصري، ثقةٌ وكان يُرْسِل، من الثالثة/ ع. (التقريب 218) .

3 جبير بن حية بن مسعود الثقفي، ابن أخي عروة بن مسعود، ثقةٌ جليل، من الثالثة، مات في خلافة عبد الملك بن مروان/ خ 4. (التقريب 138) .

4 ت: (3/340) ح 1031، باب الصلاة على الأطفال. س: (4/56) ، باب مكان الماشي من الجنازة. جه: (1/483) ح 1507، باب الصلاة على الطفل. ثلاثتهم في كتاب الجنائز.

(4/247، 252) .

(20/430) ح 1045.

7 الإحسان: (5/22) ح 3038.

(1/355، 363) .

(2/511)

سعيد بن عبيد الله1، عن عمه زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الراكب خَلْفَ الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفلُ يُصَلَّى عليه". هذا لفظ الترمذي، ومثله: أحمد والنسائي، والطبراني، وابن حبان، وأما لفظ ابن ماجه فمختصر، وهو الذي ساقه ابن القَيِّم رحمه الله، وأما لفظ الحاكم: "الماشي أمام الجنازة، والراكب خلفها، والطفل يصلى عليه".

وأخرجه النسائي2 مرة عن: سعيد بن عبيد الله وأخيه المغيرة بن عبيد الله3، كلاهما عن: زياد بن جبير به، ولفظه كلفظه الماضي.

هكذا رواه هؤلاء من طريق سعيد بن عبيد الله - وأخيه في رواية النسائي - عن زياد بن جبير مجزوماً برفعه.

وأخرجه: أبو داود في (سننه) 4، والطبراني في (الكبير) 5، والحاكم في (المستدرك) 6، والبيهقي في (سننه) 7 كلهم من طريق:

__________

1 ابن جبير بن حَيَّة، الثقفي، الجبيري، بصري، صدوق رُبَّمَا وهم، من السادسة/ خ ت س ق. (التقريب 239) .

2 السنن: (4/55) .

3 ابن جبير بن حية/ الثقفي، مقبولٌ، من السابعة/ س. (التقريب 543) .

(3/522) ح 3180، باب المشي أمام الجنازة.

(20/430) ح 1042.

(1/363) .

(4/8) .

(2/512)

يونس بن عبيد1، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة- قال يونس: وأحسب أن أهل زياد أخبروني أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها، والسِّقْط2 يُصَلَّى عليه، ويُدْعَى لوالديه بالمغفرة والرحمة". هذا سياق أبي داود ومثله سياق الطبراني إسناداً ومتناً. وأما الحاكم فلفظه مثل أبي داود لكن فيه: " ... ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة". وأما إسناده، ففيه قول يونس: "وحدثني بعض أهله أنه رفعه" هكذا بدون شك. قال إبراهيم بن أبي طالب - شيخ شيخ الحاكم في هذا الإسناد -: "قول يونس بن عبيد: حدثني بعض أهله أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: رواية ليونس بن عبيد، عن سعيد بن عبيد الله بن جبير ... ".

ورواية يونس بن عبيد هذه: أخرجها الطبراني في (الكبير) 3 من غير شك في رفعها، وذلك من طريق: عبد الله بن بكر4، ثنا يونس بن عبيد، عن زياد، عن أبيه، عن المغيرة مرفوعاً: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء، والطفل يُصَلَّى عليه".

ورواه الثوري عن يونس بن عبيد فلم يرفعه، أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 5.

__________

1 ابن دينار العبدي، أبو عبيد البصري، ثقة ثبت فاضل ورع، من الخامسة، مات سنة 139 هـ / ع. (التقريب 613) .

2 بالكسر والفتح والضم - والكسر أكثرها -: الولد الذي يسقط من بطن أمه قبل تمامه. (النهاية 2/378) .

(20/430) ح 1044.

4 ابن عبد الله، الْمُزَنِي، البصري، صدوقٌ، من السابعة/ د س ق. (التقريب297) .

(3/531) ح 6602.

(2/513)

وأخرجه: أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 1 من طريق: المبارك بن فضالة2، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة مرفوعاً، ووقع عند الطيالسي قول المبارك: "ولا أراه إلا مرفوعاً" أما عند أحمد فقد جزم برفعه.

وقد صحح هذا الحديث جماعة؛ فقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وقال الإمام أحمد بن حنبل - فيما رواه أحمد بن أبي عبدة عنه -: "صحيح مرفوع"3. وقال أبو عبد الله الحاكم: "صحيح على شرط البخاريِّ، ولم يُخَرِّجَاهُ". ووافقه الذهبي رحمه الله. وصححه ابن دقيق العيد؛ فإنه أورده في كتابه (الاقتراح) 4 في القسم الخاص بالأحاديث التي رواها قومٌ خَرَّجَ عنهم البخاري دون مسلم. هذا مع تصحيح ابن حبان له؛ إذ أخرجه في (صحيحه) كما مرَّ، وصححه - أيضاً - الشيخ الألباني5 رحمه الله.

وأما ما وقع في بعض طرقه من الشكِّ في رفعه: فإن ذلك لا يَضُرُّهُ؛ إذ إن ذلك وقع في رواية يونس بن عبيد وحده، ومع هذا فقد اخْتُلِفَ عليه في ذلك، فقد رواه عنه عبد الله بن بكر بدون شك، كما مضى عند الطبراني.

__________

1 حم: (4/248) . طس: (ح702) .

2 أبو فضالة البصري، صدوق يُدَلِّسُ ويُسَوِّي، من السادسة، مت سنة 136هـ على الصحيح/ خت د ت ق. (التقريب 519) .

3 زاد المعاد: (1/513) .

(ص 479) ح 27 من القسم المذكور.

5 صحيح ابن ماجه: (ح 1224) .

(2/514)

وأما رواية الثوري له موقوفاً: فقد خالفه جماعة عن يونس بن عبيد، منهم: عبد الله بن بكر المزني الماضي ذكره، وذكر الدارقطني: أن ابن عُلَيَّةَ، وعنبسة بن عبد الواحد روياه عن يونس مرفوعاً1. هذا مع اتفاق سعيد بن عبيد الله الثقفي، وأخيه المغيرة، والمبارك بن فضالة على رفعه كما مرَّ في تخريج الحديث، فهذا العدد الكثير أولى أن تكون روايتهم محفوظة، هذا إذا لم نقل: إن الرفع زيادة، وقد أتى بها ثقات، فهي مقبولة.

وبهذا يتبين أن ترجيح الإمام الدارقطني في (علله) 2 رواية الوقف، الراجح خلافه.

ويَتَلَخَّصَ من ذلك: أن الحديث صحيح ثابت، وأنه لا مَطْعَنَ فيه، وبذلك يكون ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أصاب في تصحيحه إياه، والاستدلال به على مشروعية الصلاة على الطفل.

68- (7) عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أنه قال: صَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، ومات وهو ابن ستة عشر شهراً، وقال: "إِنَّ في الجَنَّة مُرْضِعَاً تُتِمُّ رِضَاعَهُ، وهو صِدِّيقٌ ".

قال ابن القَيِّم: "هذا حديث لا يثبت؛ لأنه من رواية جابر الجُعْفِي، ولا يحتجُّ بحديثه، ولكن هذا الحديث مع مرسل البَهيّ،

__________

1 علل الدارقطني: ج2 (ق 104) .

2 ج2 (ق 104) .

(2/515)

وعطاء، والشعبي، يُقَوِّي بعضها بعضاً"1.

قلت: هذا الحديث أخرجه أحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3 من طريق:

إسرائيل، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، عن البراء بن عازب رضي الله عنه به.

وهذا الإسناد ضعيف بجابر الجعفي كما قال ابن القَيِّم رحمه الله، وضَعَّفَهُ به المنذري4 أيضاً، ثم نقل كلام البيهقي في اعتضاد هذا الحديث بالمراسيل السابقة، قال: "وفيه نظر".

قلت: وقد رُوي مسنداً من غير طريق البراء، فَرُوِيَ عن: ابن عباس، وأنس، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم، ذكر ذلك الزيلعي في (نصب الراية) 5.

أما حديث ابن عباس: فأخرجه ابن ماجه في (سننه) 6 من

__________

1 تحفة المودود: (ص 108) . وقد ذكر - رحمه الله - هذه المراسيل، ونقل عن البيهقي قوله: "هذه الآثار وإن كانت مراسيل، فهي تشبه الموصول، ويشد بعضها بعضاً". وانظر كلام البيهقي هذا في (سننه) (4/9) .

(4/283) .

(4/9) .

4 مختصر السنن: (4/323-324) .

(2/279-280) .

(1/484) ح1511 ك الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ...

(2/516)

طريق: إبراهيم بن عثمان1، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صَلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "إن له مرضعاً في الجنة، ولو عاش لكان صِدِّيقَاً نَبِيَّاً، ولو عاش لَعُتِقَتْ أخواله القبط، وما اسْتُرِقَّ قبطيُّ".

قال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف لضعف إبراهيم بن عثمان، أبو شيبة"2. وقال الحافظ ابن حجر: "أخرجه ابن ماجه ... بسند ضعيف"3.

وأما حديث أنس: فرواه أبو يعلى في (مسنده) 4 من طريق: يونس بن بكير، عن محمد بن عبيد الله5، عن عطاء، عن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على إبراهيم، فَكَبَّرَ عليه أربعاً". وَضَعَّفَهُ الهيثمي بمحمد بن عبيد الله العَرْزَمي6.

وأما حديث أبي سعيد: فأخرجه البزار في (مسنده) 7 من طريق:

__________

1 العبسي، أبو شيبة الكوفي، قاضي واسط، متروكُ الحديث، من السابعة، مات سنة 169 هـ / ت ق. (التقريب 92) .

2 مصباح الزجاجة: (2/33) .

3 الدراية: (1/235) ، وانظر الإصابة: (1/94) .

(6/335) ح 3660.

5 ابن أبي سليمان العرزمي، الفَزَاري، أبو عبد الرحمن الكوفي، متروك، من السادسة، مات سنة بضع وخمسين/ ت ق. (التقريب 494) .

6 مجمع الزوائد: (3/35) .

7 المصدر السابق.

(2/517)

عبد الرحمن بن مالك بن مغول1، عن الجُرَيرِي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ حديث أنس الماضي. وَضَعَّفَهُ الهيثمي2 بعبد الرحمن بن مالك، فإنه متروك الحديث. وَضَعَّفَهُ به ابن حجر أيضاً3.

قلتُ: فهذه المسانيد الثلاثة شديدة الضَّعْفِ؛ فإن إسناد كلِّ واحد منها لا يخلو من متروك، فيكون الاعتماد في ذلك على تلك المراسيل التي مضى ذكرها، فإنها - كما قال البيهقي وابن القَيِّم - إذا انضمت إلى مسند البراء بن عازب رضي الله عنه، قَوَّى كل منهما الآخر.

ومما يقوي ذلك أيضاً: أن الجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى على ابنه إبراهيم، قال ابن عبد البر: "وصَلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكَبَّرَ أربعاً. هذا قول جمهور أهل العلم، وهو الصحيح" 4. وقال النووي: "الذي ذهب إليه الجمهور: أنه صَلَّى عليه، وكبر عليه أربع تكبيرات" 5.

وقال الخطابي - عقب ذكره مرسل عطاء -: "وهذا أولى الأمرين"6. وقال البيهقي: "وقد أثبتوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه

__________

1 قال أحمد والدارقطني: "متروك". وكَذَّبَه أبو داود. وقال النسائي: ليس بثقة. (الميزان 2/584) .

2 مجمع الزوائد: (3/35) .

3 الإصابة: (1/94) .

4 الاستيعاب: (1/45) .

5 الإصابة: (1/94) .

6 معالم السنن: (4/323) .

(2/518)

إبراهيم، وذلك أولى من رواية من روى: أنه لم يُصَلِّ عليه"1.

فَتَلَخَّصَ من ذلك: ثبوت صلاته صلى الله عليه وسلم على الأطفال، وأن ذلك كان هديه، وكذلك ثبوت صلاته على ابنه إبراهيم عليه السلام، وهذا هو الذي اختاره ابن القَيِّم رحمه الله، والله أعلم.

__________

1 سنن البيهقي: (4/9) .

(2/519)

6- باب ما جاء في الصلاة على الشهداء

تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - قضية الصلاة على الشهيد، وقَرَّرَ أَنَّ أَصحَّ الأقوال في ذلك: التخيير بين الصلاة على الشهداء وتركها، وذلك لمجيء الأخبار بكل واحد من الأمرين.

ومن هذه الأحاديث التي بحثها في هذا الموضوع:

69 - (8) حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى حَمْزَة، فَكَبَّرَ سَبعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَلَم يُؤت بقتيل إلا صَلَّى عليه معه، حتى صَلَّى عليه اثنتين وسبعين صلاةً".

ساق ابن القَيِّم هذا الحديث من رواية: ابن إسحاق، عن رجل من أصحابه، عن مقسم، عن ابن عباس به، ثم قال: "ولكنَّ هذا الحديث له ثلاث عللٍ:

- إحداها: أن ابن إسحاق عنعنه، ولم يذكر فيه سماعاً.

- الثانية: أنه رواه عمن لم يُسَمِّه.

- الثالثة: أن هذا قد رُوِيَ من حديث الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، والحسن لا يحتجُّ به ... "1.

قلت: حديثُ ابن إسحاق هذا أورده ابن هشام في (السيرة

__________

1 تهذيب السنن: (4/295) .

(2/520)

النبوية) 1 فقال: "وقال ابن إسحاق: وَحَدَّثَنِي من لا أَتَّهِمُ، عن مِقْسم مولى عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال: " أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزةَ فَسُجِّي2 ببردةٍ، ثم صلى عليه ... " الحديث.

وأخرجه البيهقي في (سننه) 3 من طريق ابن إسحاق قال: حدثني رجلٌ من أصحابي ... الحديث.

وإلى مناقشة العلل التي ذكرها ابن القَيِّم رحمه الله:

أما قوله:"إن ابن إسحاق عنعنه ... " فليس كذلك، بل صَرَّحَ فيه ابن إسحاق بالتحديث كما في (السيرة) ، وكذا الرواية عند البيهقي مُصَرَّحٌ فيها بالتحديث، وروايته هي التي ساقها ابن القَيِّم، وحينئذ تنتفي عنه شبهة التدليس.

وأما قوله:"إنه رواه عمن لم يسمعه": فنعم، قال البيهقي عقب إخراجه: "وهذا ضعيف، ومحمد بن إسحاق بن يسار إذا لم يذكر اسم من حَدَّثَ عنه لم يُفْرَحْ به"4.

وأما العلة الثالثة، وهي قوله: "إن هذا رُوِيَ من حديث الحسن ابن عمارة ... " إلخ: فقد أشار البيهقي إلى هذه العلة أيضاً5.

__________

(2/97) .

2 أي: غُطِّي.

(4/13) .

4 السنن: (4/13) .

5 المصدر السابق.

(2/521)

ولعلَّ هناك وجهاً للربط بين رواية ابن إسحاق، وبين رواية الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، وهو ما ذكره السهيلي في (الروض الأنف) 1 - مُعَقِّبَاً على رواية ابن إسحاق - فقال: "قول ابن إسحاق في هذا الحديث: حَدَّثَنِي من لا أَتَّهِم. إن كان هو الحسن بن عمارة - كما قاله بعضهم - فهو ضعيف بإجماع أهل الحديث، وإن كان غيره، فهو مجهول ... ".

وقال الحافظ ابن حجر: "والحامل للسهيلي على ذلك: ما وقع في مقدمة مسلم2، عن شعبة: أن الحسن بن عمارة حَدَّثَهُ عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على قتلى أحد. فسألت الحكم؟ فقال: لم يصلِّ عليهم"3.

ولكن على كلام السهيلي هذا يكون ابن إسحاق قد أَبْهَمَ الحسن ابن عمارة، وأسقط من الإسناد "الحكم بن عتيبة".

ولكن لحديث ابن عباس هذا طرقاً أخرى قد يَتَقَوَّى بها، من هذه الطرق:

1- ما أخرجه ابن ماجه في (سننه) 4، والحاكم في (المستدرك) 5، والبيهقي في (سننه) 6 من طريق: أبي بكر بن عياش7،

__________

(6/43) .

2 صحيح مسلم: (1/23 - 24) والقصة فيه بأطول من هذا.

3 التلخيص الحبير: (2/117) .

(1/485) ح 1513 ك الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم.

(3/197 - 198) .

(4/12) .

7 ابن سالم الأسدي، الكوفي، المقري، الحنَّاط، مشهور بكنيته، والأصحُّ: أنها اسمه، ثقة عابد إلا أنه لما كَبِرَ ساءَ حفظه، وكِتَابُهُ صحيحٌ، من السابعة، مات سنة194هـ/ع. (التقريب624) .

(2/522)

عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أُتِيَ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فَجَعَلَ يُصَلِّي على عشرة عشرة، وحمزة هو كما هو، يُرفَعُونَ وهو كما هو موضوع". هذا لفظ ابن ماجه، وهو عند الحاكم والبيهقي بأطول من هذا، وفيه قصة صفية وبحثها يوم أحد عن حمزة رضي الله عنه.

وأورد ابن القَيِّم هذا الطريق قبل طريق ابن إسحاق السابق، وعزاه إلى البيهقي، ثم نقل قوله في أبي بكر ويزيد، فقال: "لا يحفظ إلا من حديثهما، وكانا غير حافظين". وسكت عنه الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله: "ليسا بمعتمدين" وقال ابن حجر في (التلخيص) 1: "ويزيد فيه ضعف يسير".

وقال الحافظ البوصيري: "هذا إسناد صحيح"2. كذا قال!

والذي يظهر عند النظر في هذا الإسناد: أن رَدَّهُ بأبي بكر بن عياش غير سائغ؛ فإن الرجل ثقة، إلا أنه قد ساء حفظه لما كَبِرَ، ولعلَّ القول فيه ما قاله ابن حبان رحمه الله: "والصواب في أمره: مُجَانَبةُ ما عُلِمَ أنه أخطأ فيه، والاحتجاج بما يرويه سواء وافق الثقات أو خالفهم؛ لأنه داخل في جملة أهل العدالة ... "3.

قلت: وأما القول بالاحتجاج بما خالف فيه الثقات: فغير مقبول؛ لأنه حينئذٍ يكون من قبيل الشاذ.

__________

(2/117) .

2 مصباح الزجاجة: (2/34) .

3 الثقات: (7/670) .

(2/523)

وأما يزيد بن أبي زياد: فإنه ضعيف، ولكن لا يصلُ به الضعف إلى مرتبة من يُطْرَحُ حديثه بالكلية؛ لأن ضَعْفَهُ يسير كما قال ابن حجر1. ولذلك قال ابن عبد الهادي - في معرض رده على ابن الجوزي في تضعيفه هذا الحديث -: "وهو ممن يُكْتَبُ حديثه على لينه، وقد روى له مسلم مقروناً بغيره ... وقال أبو داود: لا أعلم أحداً ترك حديثه"2.

فإذا تَبَيَّنَ ذلك، فإن هذا الإسناد مما يَصْلُحُ في المتابعات، ويعتضد بانضمام غيره إليه، وأما قول البوصيري: "صحيح" فإنه لا يخفى ما فيه.

2- ما أخرجه الدارقطني في (سننه) 3 من طريق: إسماعيل بن عياش، عن عبد الملك بن أبي عتيبة أو غيره، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما به، وفيه: "أَنَّه صَلَّى عليه سبعين صلاة، وأَنه كَبَّرَ عليه عشراً". قال الدارقطني عقبه: "لم يروه غير إسماعيل بن عياش، وهو مضطرب الحديث عن غير الشاميين".

وقد روي من وجه آخر عن: الحكم، عن مجاهد. أشار إلى ذلك الزيلعي في (نصب الراية) 4 فقال: "رواه الإمام أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي في (سننه) عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس به، ولفظه كلفظ رواية الدارقطني الماضية.

__________

1 التلخيص الحبير: (2/117) .

2 نصب الراية: (2/311) .

(4/118) ح 47.

(2/311) .

(2/524)

وفي إسناده "الحسن بن عمارة" وهو ضعيف بالاتفاق.

3- ما أخرجه الدارقطني - أيضاً - في (سننه) 1 من حديث: عبد العزيز بن عمران2، عن أفلح بن سعيد، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس به.

قال الدارقطني عقبة: "عبد العزيز بن عمران ضعيف".

فهذه الطرق الثلاث: أحسنها الطريق الأول، من رواية أبي بكر ابن عَيَّاش، فيكون مقوياً لطريق ابن إسحاق المتقدم.

وهناك شاهدٌ مرسل لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو:

70- (9) حديث أبي مالك الغفاري، أنه قال: "كَانَ قَتْلَى أُحُد يؤتى منهم بتسعةٍ وعاشرهم حمزة، فَيُصَلِّي عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يُحْمَلُون، ثم يُؤْتَى بتسعةٍ فَيُصَلِّي عليهم وحمزة مكانه، حتى صَلَّى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ثم قال: " هذا مرسل صحيح"3. ثم نقل عن البيهقي قوله: "هو أصحُ ما في الباب".

__________

(4/116) ح 42.

2 المدني، الأعرج، يُعرف: بابن أبي ثابت، متروكٌ، احْتَرَقَتْ كُتبه فَحَدَّثَ من حِفِظهِ فاشتَدَّ غَلَطُهُ، من الثامنة، مات سنة 197 هـ / ت. (التقريب 358) .

3 تهذيب السنن: (4/295) .

(2/525)

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (المراسيل) 1 من طريق: سليمان بن كثير، عن حصين بن عبد الرحمن2، عن أبي مالك3، وفيه: "فَصَلَّى عليهم سبع صلوات، حتى صَلَّى على سبعين رجلاً، منهم حمزة في كل صلاة صَلاّها".

وأخرجه الدارقطني في (سننه) 4 من طريق: شعبة، عن حصين به. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "رجاله ثقات"5. وتقدم قول البيهقي6 فيه، وتصحيح ابن القَيِّم - رحمه الله - إياه.

وفي مقابلة هذه الأحاديث يأتي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ عليهم7. وظاهر صنيع ابن القَيِّم أنه يذهب إلى هذا الحديث ويقول به، وأما الأحاديث التي مَرَّتْ في الصلاة على حمزة وسائر شهداء أحد: فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - لا يثبتها، بل يختار ضعفها، وذلك أنه قال: "والذي يظهر من أمر شهداء أحد: أنه لم يصلِّ عليهم عند الدَّفْن، وقد قُتِلَ معه بأحدٍ سبعون نفساً، فلا يجوز أن تَخْفَى الصلاة عليهم،

__________

(ص 306) ح 427، (ص 310) ح 435.

2 السُّلَمي، أبو الهذيل الكوفي.

3 واسمه: غزوان، مشهور بكنيته، ثقةٌ، من الثالثة/ خت د ت س. (التقريب 442) .

(2/78) ح9.

5 التلخيص الحبير: (2/117) .

6 انظر: السنن: (4/12) .

7 أخرجه البخاري في صحيحه: ك الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، ح 1343. (فتح الباري 3/209) ، وانظر بعده: ح 1347.

(2/526)

وحديث جابر في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح، وأبوه عبد الله أحد القتلى يومئذ، فله من الخبرة ما ليس لغيره"1.

وقال مرة: " ... شهيد المعركة لا يُصَلَّى عليه؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ على شهداء أُحُد ... فإن قيل: فقد ثبت في (الصحيحين) 2 من حديث عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يوماً، فَصَلَّى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر ... قيل: أما صلاته عليهم، فكانت بعد ثمان سنين من قتلهم قرب موته، كَالْمُوَدِّعِ لهم ... فهذه كانت توديعاً منه لهم، لا أنها سُنَّة الصلاة على الميت، ولو كان ذلك كذلك لم يؤخرها ثمان سنين"3.

لكن كيف يستقيم هذا مع اختياره الذي صَدَّرَنَا به هذا البحث إذ يقول: "فأصح الأقوال: أنهم لا يُغَسَّلُون، ويُخَيَّرُ في الصلاة عليهم، وبهذا تتفق جميع الأحاديث"4. فلعله - رحمه الله - يرى الصلاة عليهم بعد دفنهم كما هو ظاهر حديث عقبة بن عامر الماضي قبل قليل؟

وحيث اختلفت الأحاديث الواردة في هذا الباب؛ فوردت

__________

1 تهذيب السنن: (4/296) .

2 خ: ك المغازي، باب أحد جبل يحبنا ونحبه (فتح الباري 7/377) ح 4085. م: (4/1795) ح 2296، ك الفضائل، باب إثبات حوض نبينا عليه الصلاة والسلام.

3 زاد المعاد: (3/217) .

4 تهذيب السنن: (4/296) .

(2/527)

أحاديث تثبت الصلاة على الشهداء، وأخرى تنفي ذلك، فإن الروايات المثبتة تقدم على الروايات النافية؛ لأن الحجة للمثبت على النافي، حيث إن معه زيادة علم، فالذي تطمئن إليه النفس بعد هذا: جواز الصلاة على الشهداء لورود النصوص بذلك، فإذا لم يُصَلّ عليهم فلا حرج، والله أعلم.

(2/528)

7- باب ما جاء في تلقين الميت بعد دفنه

71- (10) عن أبي أمامة مرفوعاً: "إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ إِخْوَانِكُم فَسَوَّيْتُم التَّرَابَ عَلَى قَبْرِهِ، فَلَيْقُم أحدُكُم عَلَى رَأْسِ قَبْرِهِ ثم لْيَقُلْ: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّه يَسْمَعُهُ ولا يُجِيبُ، ثُمَّ يقول: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّهُ يَسْتَوي قَاعِدَاً، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّه يقول: أَرْشِدْنَا رَحِمَكَ الله. وَلَكِن لا تَشْعُرُون، فَلْيَقُل: اذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيه من الدنيا: شَهادةَ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهَ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُه، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِالله رَبَّاً، وبِالإسْلام دِيْنَاً، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالقرآن إِمَامَاً، فَإِن مُنْكَرَاً وَنَكِيراً يَأْخُذُ كلُّ واحدٍ منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا، ما نَقْعُدُ عند من قد لُقِّنَ حُجَّته، فيكونُ الله حجيجه دونهما". فقال رجل: يا رسول الله! فإن لم يعرف أُمَّهُ؟ قال: "ينسبه إلى حواءَ: يا فلان بن حواء ".

قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... فهذا حديث لا يصحُّ رفعه، ولكن قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: فهذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت ... ؟ فقال: ما رأيت أحداً فعل هذا إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذلك، وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم، عن أشياخهم، أنهم كانوا يفعلونه، وكان ابن عياش يروي فيه. قلت: يريد حديث إسماعيل بن عياش هذا الذي رواه الطبراني عن أي أمامة"1.

__________

1 زاد المعاد: (1/522 - 523) .

(2/529)

وقال مرةً: "حديث ضعيف"1.

وقال مرةً: "ضعيف باتِّفَاقِ أهل العلم بالحديث"2.

وقال مَرةً: " ... لا تقوم به حُجَّة"3.

قلت: هذا الحديث أخرجه الطبراني في (أكبر معاجمه) 4، وفي (الدعاء) 5 له من طريق:

محمد بن إبراهيم بن العلاء، عن إسماعيل بن عيَّاش6، عن عبد الله ابن محمد القرشي، عن يحيى بن أبي كثير، عن سعيد بن عبد الله الأودي، أنه قال: شهدت أبا أمامة رضي الله عنه وهو في النَّزْع قال: إذا أنا متٌُّ فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله: "إذا مات أحدٌ ... " الحديث.

وهذا الإسناد ضعيف، وفيه مجاهيل؛ فإنَّ محمد بن إبراهيم بن العلاء: هو الحمصي الزبيدي، ذكره الذهبي في (الميزان) 7 وقال: "قال محمد بن عوف: كان يَسْرِقُ الحديث". وعبد الله بن محمد القرشي لم أقف له على ترجمة.

__________

1 الروح: (ص 16) .

2 تحفة المودود: (ص149) .

3 تهذيب السنن: (7/250) .

(8/298) ح 7979.

(3/1367) ح 1214.

6 أبو عتبة الحمصي، صدوق في روايته عن أهل بلده، مُخَلِّطٌ في غيرهم، من الثامنة، مات سنة 181هـ أو 182هـ/ ي 4. (التقريب 109) .

(3/447) .

(2/530)

وأما سعيد بن عبد الله الأودي: فهكذا وقع عند الطبراني في كتابيه، وقال بعضهم: سعيد الأزدي1، وأشار المنذري إلى الخلاف في اسمه، فقال في الجزء الذي صَنَّفَهُ في التلقين - ونقل عنه ابن الملقن في (البدر المنير) 2-: "قال أبو نعيم الحدَّاد: هذا حديث غريب من حديث حماد بن زيد، ولم أكتبه إلا من حديث سعيد الأزدي، وقال ابن أبي حاتم3: سعيد الأزدي، عن أبي أمامة الباهلي ... ". وقال المنذري: "هكذا قال: الأزدي، ووقع في روايتنا: الأودي، وهو في معنى المجهول".

فإن كان هو الأزدي: فقد بَيَّضَ له ابن أبي حاتم، وإن كان الأودي: فإنه أيضاً لا يُعْرَف، ولذلك قال الهيثمي رحمه الله - ووقع عنده: الأودي -: "رواه الطبراني في الكبير، وف إسناده جماعة لم أعرفهم"4.

وأورده الشيخ الألباني في (السلسلة الضعيفة) 5 من طريق آخر، فقال: "أخرجه القاضي الخُلعي في الفوائد (55/2) عن: أبي الدرداء هاشم بن محمد الأنصاري، ثنا عتبة بن السكن، عن أبي زكريا، عن جابر بن سعيد الأزدي، قال: دخلت على أبي أمامة وهو في النَّزْع ... " الحديث.

فهذا قولٌ ثالت في اسم الراوي عن أبي أمامة، وأخشى أن يكون

__________

1 انظر: التلخيص الحبير: (2/136) .

2 ج 4 (ق 50/ب) .

3 انظر: الجرح والتعديل: (2/1/76) .

4 مجمع الزوائد: (3/45) .

5 ح (599) .

(2/531)

حصل تصحيف في إسناد الخُلعي هذا، ويكون صوابه: جابر عن سعيد الأزدي، فيكون هو نفسه "سعيد الأزدي" المذكور سابقاً؟ فالله أعلم.

قال الشيخ الألباني عقب سياقه هذا الإسناد: "وهذا إسناد ضعيف جداً، لم أعرف أحداً منهم غير عتبة بن السكن، قال الدارقطني: متروكُ الحديث. وقال البيهقي: واهٍ، منسوب إلى الوضع. ثم أورد كلام الهيثمي السالف وقال: فاختلف في اسم الراوي عن أبي أمامة ... ".

وقد ضَعَّفَ هذا الحديث جماعة من الأئمة: فتقدم قول أبي نعيم الحداد أنه حديث غريب. وقال ابن الصلاح وقد سئل عنه: "ليس إسناده بالقائم"1. وقال النووي: "إسناده ضعيف"2. وقال الحافظ العراقيُّ في تخريج الإحياء3:" ... الطبراني هكذا بإسناد ضعيف". ونقل ابن علان في شرح الأذكار4 عن ابن حجر أنه قال: "حديث غريب، وسند الحديث من الطريقين ضعيف جداً". وقال رحمه الله في فتح الباري5:"سنده ضعيفٌ جداً". وقال الصَنْعَانِي: "ويَتَحَصَّل من كلام أئمة التحقيق: أنه حديث ضعيفٌ، والعملُ به بدعةٌ، ولا يُغْتَرُّ بكثرة من يفعله"6. وقال الشيخ الألباني: "وجملة القول: أن الحديث منكرٌ عندي، إن لم يكن موضوعاً"7.

__________

1 الأذكار للنووي: (ص138) .

2 المجموع: (5/257) .

(4/420) .

(4/196) .

(10/563) .

6 سبل السلام: (2/157) .

7 السلسلة الضعيفة: (2/65) .

(2/532)

ومع ذلك فقد حاول جماعة تقوية هذا الحديث، فقال ابن الملقن: "إسناده لا أعلم به بأساً"1. ثم ذكر له جملة من الشواهد "يعتضد بها" - ولم أر في واحدٍ منها ما يصلح شاهداً لهذا الحديث، وسأشير إلى شيء منها- وقال الحافظ ابن حجر: "إسناده صالح، وقد قَوَّاهُ الضياء في أحكامه ... "2 ولا أدري ما هذا من الحافظ رحمه الله؟ فقد نقلنا قبل قليل تضعيفه إياه في تخريجه لأذكار النووي، فلعله هنا تبع صاحب الأصل (البدر المنير) فنقل تصحيحه إسناده دون أن يتعقبه؟ فالله أعلم.

وأما ابن الصلاح رحمه الله، فإنه مع تضعيفه إياه قال: "ولكن اعتضد بشواهد، وبعمل أهل الشام به قديماً"3. وقال النووي: "فهذا وإن كان ضعيفاً فيستأنس به، وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم على المسامحة في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب، وقد اعتضد بشواهد من الأحاديث ... "4. فذكر بعضها.

أما عن الشواهد التي ذكروها لهذا الحديث:

- فمنها: حديث " ... واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل".

- ومنها: حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه قال: "إذا دفنتموني أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم،

__________

1 البدر المنير: ج 4 (ق50/ب) .

2 التلخيص الحبير: (2/135 - 136) .

3 الأذكار للنووي: (ص138) .

4 المجموع: (5/257 - 258) .

(2/533)

وأعلم ماذا أراجع رسل ربي". أخرجه مسلم في (صحيحه) 1.

- ومنها: ما رواه سعيد بن منصور من طريق: راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب وغيرهما، قالوا: "إذا سُوِّي على الميت قبره وانصرف الناس عنه، كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره: يا فلان قل: لا إله إلا الله، قل: أشهد أن لا إله إلا الله. ثلاث مرات، قل: ربي الله، وديني الإسلام، ونَبِيِّ محمد، ثُمَّ يَنْصَرِف"2. إلى غير ذلك من الشواهد التي ساقوها.

وهذه الشواهد كما نرى كلها موقوفات، والمرفوع منها ليس فيه سوى الدعاء للميت بالتثبيت والمغفرة، وهذا لا علاقة له بالتلقين المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة، قال الشيخ الألباني: "واعلم أنه ليس للحديث ما يَشْهَدُ له، وكلُّ ما ذكره البعض إنما هو أثرٌ موقوفٌ على بعض التابعين الشاميين، لا يصلح شاهداً للمرفوع، بل هو يُعِلُّه، وينزل به من الرفع إلى الوقف ... على أنه شاهد قاصر"3. يشير إلى أثر سعيد بن منصور السابق.

قلت: فإذا كان هذا هو حال هذا الأثر، الذي هو أقرب ما يكون إلى حديث أبي أمامة، فكيف ببقية هذه الشواهد التي لا صلة لها بلفظ الحديث؟

__________

(1/112) ح 192 (121) وهو جزء من حديث طويل.

2 التلخيص الحبير: (2/136) .

3 السلسلة الضعيفة: (2/65) .

(2/534)

وأما قول النوويِّ: إن ذلك من فضائل الأعمال التي يُتَسَامَحُ فيها: فإنه مردود، قال الشيخ الألباني: "ولا يرد هنا ما اشتهر من القول بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؛ فإن هذا محله فيما ثبت مشروعيته بالكتاب أو السنة الصحيحة، وأما ما ليس كذلك فلا يجوز العمل فيه بالحديث الضعيف؛ لأنه تشريع، ولا يجوز ذلك بالحديث الضعيف، لأنه لا يفيد إلا الظن المرجوح اتفاقاً، فكيف يجوز العمل بمثله"1.

وأما الذين قَوَّوه بعمل الناس إلى يومنا هذا، كقول ابن الصلاح: "ولكن اعتضد بشواهد، وبعمل أهل الشام قديماً": فلا شكَّ أن العمل الذي يُعَوَّلَ عليه، ويُجعل الحديث بمقتضاه مقبولاً، هو عمل العلماء، وليس عمل كل أحد. ثم إنَّ أهل الشام وحدهم لا يمثلون الأمة كلها - أو علماء الأمة - حَتَّى يُجعل عملهم حجةً على الأمة. هذا بالإضافة إلى شِدَّة ضعفِ هذا الحديث، وجهالة رواته، وإنكار أكثر العلماء له، حتى قال الشيخ الألباني: "منكر ... إن لم يكن موضوعاً". وكم من حديث ضعيف لا يثبت قد عمل به عاملون، فهل يلزم من هذا أن تُتَّخَذَ البدع ديناً بحجة أن الناس يعملونها؟؟ كلاَّ، ففيما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم كفايةٌ.

ثم إن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد قال نحواً من ذلك!! فإنه وإن ضَعَّفَ الحديث كما مضى، إلا أنه قال في كتابه (الروح) 2: "فهذا الحديث وإن لم يثبت، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار: كافٍ في العمل به ... "!

__________

1 السلسلة الضعيفة: (2/65) .

(ص 16) .

(2/535)

كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، مع أنه يَنْفِي أن يكون ذلك من هَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول في (زاد المعاد) 1: "ولم يكن - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - يجلس عند القبر، ولا يُلَقِّنُ الميت كما يفعله الناس اليوم". مع ما تقدم من تضعيفه لهذا الحديث، فلعله كان يقول به أولاً ثم رجع عنه، فالله أعلم.

فالخير كل الخير في اتِّبَاع هَدْيِه صلى الله عليه وسلم في الفِعْلِ والتَّرْكِ، وما أحسن ما قال الصنعاني رحمه الله: "ويَتَحَصَّل من كلام أئمة التحقيق: أنه حديث ضعيف، والعملُ به بدعة، ولا يُغْتَرُّ بكثرة من يفعله"2. والله أعلم.

__________

(1/522) .

2 سبل السلام: (2/157) .

(2/536)

8 - من كتاب الجنائز

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

8 - من كتاب الجنائز

1- باب في الغسل من غسل الميت

62- (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ غَسَّلَ الْمَيْتَ فَلَيَغْتَسلْ، ومن حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأ".

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ونقل عن الشافعي التوقف عن تصحيحه، وعن أبي داود إعلاله، ثم ذكر للحديث أَحَدَ عَشَرَ طَرِيقَاً، ثم قال: "وهذه الطُّرُقُ تدلُّ على أن الحديث محفوظ"1.

قلت: هذا الحديث يُروى عن أبي هريرة من طرق:

الطريق الأول: عن أبي صالح السَّمَّان، عن أبي هريرة. أخرجه البيهقي في (سننه) 2 من طريق: القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح به.

وأخرجه الترمذي في (جامعه) 3، وابن ماجه في (سننه) 4، والبيهقي5 من طريق: سهيل بن أبي صالح6، عن أبيه7، عن أبي هريرة

__________

1 تهذيب السنن: (4/305-306) .

(1/300) .

(3/309) ح 993 ك الجنائز، باب الغسل من غسل الميت.

(1/470) ح 1463، ك الجنائز، باب ما جاء في غسل الميت.

(1/300) .

6 أبو يزيد المدني، صدوقٌ تَغَيَّر حِفْظُهُ بآخره، روى له البخاري مقروناً وتعليقاً، من السادسة، مات في خلافة المنصور/ ع. (التقريب 259) .

7 أبو صالح، ذكوان السَّمان الزيَّات، ثقة ثبت ... من الثالثة، مات سنة 101هـ/ ع. (التقريب 203) .

(2/485)

به، ولفظ الترمذي والبيهقي: "مِنْ غُسْلِهِ الغُسْلُ. ومن حَمْلِهِ الوضوءُ" يعني الميت، أما ابن ماجه فلفظه: "مَنْ غَسَّلَ مَيِتاً فليغتسل". رواه عن سهيل هكذا جماعة، منهم: حماد بن سلمة، ووهيب، وزهير بن محمد، وعبد العزيز بن المختار وغيرهم1، وخالفهم سفيان بن عيينة، فرواه عن: سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن إسحاق2 مولى زائدة، عن أبي هريرة به. أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والبيهقي4 كذلك.

"وخالفهم إسماعيل بن جعفر فرواه عن سهيل عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة موقوفاً"5، كما قال الدارقطني رحمه الله.

وهذه الطريق أعلت بالانقطاع، والوقف، والاضطراب.

أما الانقطاع: فقد أشار أبو داود إليه فقال: "أدخل أبو صالح بينه وبين أبي هريرة في هذا الحديث - يعني إسحاق مولى زائدة -". وقال الشافعي: "وإنما لم يقو عندي: أنه يروى عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. ويدخل بعض الحفاظ بين أبي صالح وبين أبي هريرة:

__________

1 انظر: علل الدارقطني: ج 3 (ق 180) ، وسنن البيهقي: (1/301) .

2 والد عمر، قال العِجْلِي: هو إسحاق بن عبد الله، ثقة، من الثالثة / ر م د س. (التقريب 104) .

(3/512) ح 3162 ك الجنائز، باب في الغسل من غسل الميت.

(1/301) .

5 العلل: (ج3 ق180) .

(2/486)

إسحاق مولى زائدة، فيدل على أن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة"1. وأعله ابن دقيق العيد بذلك أيضاً2. وقال ابن حجر: "وهو معلول، لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة"3.

وأما الوقف: فقد مضى أنه يُروى عن سهيل، عن أبيه، عن إسحاق، عن أبي هريرة موقوفاً عليه4. وكأن البخاري - رحمه الله - أعله بذلك، فقال لما سأله عنه الترمذي: "روى بعضهم عن سهيل بن أبي صالح، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة موقوفاً"5. ورجح البيهقي وقفه كما سيأتي من كلامه.

وأما اضطرابه: فقد قال به الدارقطني، فبعد أن حكى أوجه الاختلاف فيه قال: "ويشبه أن يكون سهيل كان يضطرب فيه"6.

وقد يُجاب عن هذه العلل، فيقال: أما انقطاعه: فإنه لا مانع أن يكون أبو صالح سمعه من أبي هريرة، ومن إسحاق عن أبي هريرة، فرواه على الوجهين جميعاً، وقد علق الشافعي - رحمه الله - الحكم بصحته على معرفة حال إسحاق، فقال: "وإنما منعني عن إيجاب الغسل من غسل الميت: أن في إسناده رجلاً لم أقع

__________

1 الجوهر النقي: (1/301) .

2 التلخيص الحبير: (1/137) .

3 فتح الباري: (3/127) .

4 وانظر سنن البيهقي: (1/301) .

5 علل الترمذي: (1/402) .

6 علل الدارقطني: ج 3 (ق180) .

(2/487)

من معرفة من ثَبَّتَ حديثه - إلى يومي - على ما يقنعني، فإن وجدت من يقنعني، فإن وجدت من يقنعني أوجبته ... "1.

قال ابن حجر: "إسحاق مولى زائدة: أخرج له مسلم، فينبغي أن يصحح الحديث"2.

وأما الوقف: فيمكن أن يقال: إن الرفع زيادة من ثقة وهي مقبولة، ولا سيما أن الذين رفعوه أكثر عدداً. ولكن مع ذلك كله يخشى من احتمال كونه مضطرباً كما حكم به الدارقطني رحمه الله، فالله أعلم.

الطريق الثاني: رواه بن أبي ذئب، عن صالح3 مولى التوأمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. أخرجه: أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 4، والخطيب في (موضح أوهام الجمع والتفريق) 5. والبيهقي في (سننه) 6 من طريق الطيالسي.

وقد أَعَلَّ البيهقي7، ثم ابن الجوزي8 هذا الطريق بـ"صالح

__________

1 سنن البيهقي: (1/302) .

2 التلخيص الحبير: (1/137) .

3 ابن نبهان المدني، صدوق اختلط، قال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه: كابن أبي ذئب وابن جريج، من الرابعة ... / د ت ق. (التقريب 274) .

4 حم: (2/433، 454، 472) . طس: (ح2314) .

(2/172) .

(1/303) .

7 السنن: (1/303) .

8 العلل المتناهية: (1/378) .

(2/488)

مولى التوأمة"، فقال البيهقي: "صالح مولى التوأمة ليس بالقوي".

قلت: وصالح هذا فيه ضعف، واختلاط، فقد ضعفه: يحيى القطان1، ومالك2، وابن معين3 في رواية، وأبو زرعة، وأبو حاتم4، والنسائي5. ووثقه أحمد6، وابن معين7 في رواية، والعجلي8. فالرجل بهذه المثابة "صدوق" كما حكم به الذهبي9 وابن حجر.

وأما اختلاطه: فقد مَيَّزَ جماعة من الحفاظ حديثه القديم، وحكموا بصحة رواية من روى عنه قبل الاختلاط، منهم: علي بن المديني، وابن معين، والجوزجاني، وابن عدي10. وابن أبي ذئب ممن سمع منه قديماً، فيكون حديثه عنه صحيحاً، ولذلك ردَّ ابن التركماني على البيهقي تضعيفه11.

__________

1 انظر: تهذيب التهذيب (4/405) .

2 الجرح والتعديل: (2/1/417) .

3 المصدر السابق: (2/1/418) .

4 المصدر السابق.

5 الضعفاء: (ص57) .

6 تهذيب التهذيب: (4/405) .

7 تاريخ الدوري: (2/266) .

8 الثقات بترتيب الهيثمي: (ص227) .

9 المغني: (1/305) .

10 انظر: الكواكب النيرات: (ص261) .

11 الجوهر النقي: (1/302) .

(2/489)

الطريق الثالث: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة به. أخرجه البيهقي في (سننه) 1 من طريق: ابن لهيعة، عن حنين بن أبي حكيم، عن صفوان بن أبي سليم، عن أبي سلمة به. ثم قال: "ابن لهيعة وحنين لا يحتج بهما".

قلت: وهذا قد صَحَّحَ الأئِمَّةُ وَقْفَهُ، فقال أبو حاتم - وقد سئل عنه -: "هو موقوف عن أبي هريرة، لا يرفعه الثقات"2. وقال ابن دقيق العيد: "وأما رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: فإسناد حسن، إلا أن الحفاظ من أصحاب محمد بن عمرو رووه عنه موقوفاً"3. وأخرج البيهقي الرواية الموقوفة من طريق: عبد الوهاب بن عطاء، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة به، ثم قال: "هذا هو الصحيح: موقوفاً على أبي هريرة، كما أشار إليه البخاري"4.

الطريق الرابع: عن عمرو بن عمير5، عن أبي هريرة. أخرجه أبو داود في (سننه) 6 – ومن طريقه البيهقي في (سننه) 7 - من طريق: القاسم بن عباس، عن عمرو بن عمير به.

وهذا الطريق ضعيف؛ فإن عمرو بن عمير "مجهول" كما حكم

__________

(1/302) .

2 علل ابن أبي حاتم: (1/351) .

3 التلخيص الحبير: (1/137) .

4 سنن البيهقي: (1/302) .

5 الحجازي، مجهول، من الثالثة/ د. (التقريب 425) .

(3/511) ح 3161.

(1/303) .

(2/490)

بذلك ابن القطان وابن حجر1 رحمهما الله. وبهذا أعله البيهقي، فقال: "عمرو بن عمير إنما يعرف بهذا الحديث، وليس بالمشهور". قال ذلك في (سننه) .

الطريق الخامس: عن أبي إسحاق، عن أبي هريرة به. أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 2 - ومن طريقه أحمد3 - من طريق: يحيى بن أبي كثير، عن رجل يقال له: أبو إسحاق، عن أبي هريرة به، وليس فيه الوضوء من حمله. وأخرجه أحمد في (مسنده) 4 من طريق: يحيى، عن رجل من بني ليث، عن أبي إسحاق به.

ويروى هذا عن: أبي إسحاق، عن أبيه، عن حذيفة، أخرجه البيهقي في (سننه) 5، وذكر اختلافاً فيه، ثم قال: "والمشهور: عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب الأسدي، عن علي رضي الله عنه".

وقد روى هذا الحديث من طرق أخرى غير ما ذكرنا، واستوعبها البيهقي في (سننه) 6، ثم قال: "الروايات المرفوعة في هذا الباب عن أبي هريرة غير قوية، لجهالة بعض رواتها وضعف بعضهم، والصحيح: عن أبي هريرة من قوله، موقوفاً غير مرفوع". وقد تقدم معنا ترجيح البخاري

__________

1 انظر: تهذيب التهذيب: (8/84) .

(3/407) ح 6110.

3 المسند: (2/280) .

(2/280) .

(1/304) .

(1/300 - 304) .

(2/491)

وأبي حاتم الوقف في بعض طرقه.

وأكثر العلماء على ضَعْفِ هذا الحديث كما قال الزيلعي1، والمناوي2 وغيرهما، وقال الإمام أحمد، وعلي بن المديني، ومحمد بن يحيى الذُّهَلي، وابن المنذر وغيرهم: إنه لا يثبت في هذا الباب شيء3. وقد تقدم طرف من أقوال العلماء في تضعيف هذا الحديث، وضعفه أيضاً: ابن الجوزي4، والنووي5.

لكن ذهب جماعةٌ إلى صِحَّتِهِ، وآخرون إلى حُسْنِهِ: فَحَسَّنَه الترمذي، وصححه ابن حبان، وابن حزم6، وقال ابن دقيق العيد: "وفي الجملة: هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسناً"7. وقال الذهبي في (مختصر البيهقي) 8: "طرقُ هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء، ولم يُعِلُّوها بالوقف، بل قَدَّمُوا رواية الرفع". وجعله البغوي من قسم الحسن في (مصابيحه) وتبعه التبريزي في (المشكاة) 9 ورجح ابن

__________

1 نصب الراية: (2/282) .

2 فيض القدير: (6/185) .

3 انظر: علل الترمذي: (1/402) ، وسنن البيهقي: (1/301) ، والتلخيص الحبير: (1/137) .

4 العلل المتناهية: (1/378 - 379) .

5 المجموع: (5/138) .

6 المحلى: (2/35) .

7 التلخيص الحبير: (1/137) .

8 التلخيص الحبير: (1/137) .

(1/169) ح 541.

(2/492)

حجر تصحيح بعض طرقه1. وَحَسَّنَهُ الحافظ السيوطي2. وصححه الشيخ الألباني3.

وقد ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى القول بأن الحديث بمجموع طرقه محفوظٌ، ولعلَّ هذا هو ما تطمئن إليه النفس، ولا سيما أن طرق هذا الحديث قد تعدَّدت، مما يجعل الحديث لا يقل عن درجة الحسن.

وقد ذهب أبو داود - رحمه الله - إلى أن هذا الحديث منسوخ، لكنه لم يذكر لنا ناسخه، ولا رأيت من قال بقوله.

وقد ذهب الأكثرون - كما نقل ابن القَيِّم4 - إلى عدم وجوب الغسل من غسل الميت، ونقل الإمام أبو داود عن الإمام أحمد أنه يجزئه الوضوء5. وقال الخطابي: "ويشبه أن يكون الأمر في ذلك على الاستحباب"6. وقال: "وقد يحتمل أن يكون المعني فيه: أن غاسل الميت لا يكاد يأمن أن يصيبه نَضْحٌ من رشاش الغسول، وربما كان على بدن الميت نجاسة. فإذا أصابه نَضْحُهُ - وهو لا يعلم مكانه - كان عليه غسل جميع البدن، ليكون الماء قد أتى على الموضع الذي أصابه النجس من بدنه"7.

__________

1 التلخيص الحبير: (1/137) .

2 كما في فيض القدير مع الجامع الصغير: (6/185) .

3 انظر: إرواء الغليل: (1/173) ، وصحيح ابن ماجه: (ح 1195) ، وصحيح الجامع: (ح6402) ، والتعليق على المشكاة: (1/169) ح 541.

4 تهذيب السنن: (4/306) .

5 سنن أبي داود: (3/512) .

6 معالم السنن: (4/305) .

7 المصدر السابق.

(2/493)

2- باب ما جاء في المشي خلف الجنازة

63- (2) حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "الجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ، لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا".

ذكر ابن القَيِّم هذا الحديث، وقال: "ضعيف"1. وقد أورده - رحمه الله - دليلاً للقائلين بالمشي خلف الجنازة.

قلتُ: الحديث بهذا اللفظ المختصر أخرجه ابن ماجه في (سننه) 2 ولفظه: "الجنازةُ متبوعة وليست بتابعة، ليس معها من تقدمها ".

ولكن أخرجه بأطول من هذا: أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في (جامعه) 4، وأحمد في (مسنده) 5، والبيهقي في (سننه) 6، كلهم من طريق:

يحيى بن عبد الله7 التيمي، عن أبي ماجد8، عن عبد الله بن مسعودرضي الله عنه، أنه قال: سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة؟ فقال: "ما دُوْنَ

__________

1 تهذيب السنن: (4/316) .

(1/476) ح 1484 ك الجنائز، باب المشي أمام الجنازة.

(3/525) ح 3184 ك الجنائز، باب الإسراع بالجنازة.

(3/323) ح 1011، ك الجنائز، باب ما جاء في المشي خلف الجنازة.

(1/394، 415، 419، 432) .

(4/25) .

7 ابن الحارث، الجَابِر - قيل: كان يُجَبِّرُ الأعضاء - أبو الحارث الكوفي، لَيِّنُ الحديث، من السادسة، وروايته عن المقدام مرسلة / د ت ق (التقريب 592) .

8 ويقال: أبو ماجدة، قيل: اسمه عائذ بن نضلة، مجهولٌ، لم يرو عنه غير يحيى الجابر، من الثانية/ د ت ق. (التقريب 670) .

(2/494)

الخبب1، إن يكن خيراً تعجل إليه، وإن يكن غير ذلك فَبُعْدَاً لأهل النار، والجنازة متبوعة ولا تُتْبَعُ، ليس معها من تَقَدَّمَهَا". هذا لفظ أبي داود، ولفظ الباقين نحو، إلا أن الترمذي عنده: "سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن السير خلف الجنازة" وفيه: "وليس منا من تقدمها". والعبارة الأخيرة كذا هي عند أحمد في موضعين2. وأخرجه عبد الرزاق في (المصنف) 3 مختصراً كلفظ ابن ماجه المتقدم، لكن فيه سؤال ابن مسعود النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث ضعيفٌ، ضَعَّفَهُ جماعة من العلماء، فقال الترمذي: "هذا حديث لا يُعْرَف من حديث عبد الله بن مسعود إلا من هذا الوجه. سمعت محمد بن إسماعيل يُضَعِّفُ حديث أبي ماجد لهذا. وقال محمد: قال الحميدي: قال ابن عيينة: قيل ليحيى: من أبو ماجد هذا؟ قال: طائر طار فحدثنا"4. وفي (علله) 5 أنه سأل البخاريَّ عنه؟ فقال: "أبو ماجد منكر الحديث" وضَعَّفَهُ جداً. وقال أبو داود: "وهو ضعيف، هو يحيى بن عبد الله، وهو يحيى الجابر ... أبو ماجدة هذا لا يُعْرف". وقال البيهقي: "أبو ماجد مجهولٌ، ويحيى الجابر: ضَعَّفَهُ جماعة من أهل النقل"6. وَضَعَّفَهُ المنذري - أيضاً - في (مختصر السنن) 7. وقال ابن

__________

1 الخَبَبَ: ضَرْبٌ من العَدْو، وقيل: هو مثل الرَّمَل، وقيل: الخبب السرعة. (لسان العرب ص 1085) .

2 المسند: (1/394، 415) .

(3/446) ح 6265.

4 جامع الترمذي: (3/323) .

(1/407) .

6 السنن: (5/25) .

(4/318 - 319) .

(2/495)

الملقن: "هو حديث واهٍ لأجل يحيى الجابر، وأبي ماجدة"1 ثم نقل كلام أئمة الجرح والتعديل فيهما. وَضَعَّفَهُ الشيخ الألباني2 أيضاً.

فيتلخص: أن هذا الحديث ضعيفٌ كما قال ابن القَيِّم رحمه الله؛ لاتفاقهم على جهالة أبي ماجد، وضَعْفِ يحيى الجابر، والله أعلم.

__________

1 البدر المنير: ج 4 (ق 27/أ) نسخة أحمد الثالث.

2 ضعيف سنن ابن ماجه: (ح 324) .

(2/496)

3- باب ما جاء في القيام للجنازة

64- (3) حديث البراء بن عازب: "خَرَجْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازةِ رجل من الأَنْصَارِ، فانتهينا إلى القبر، وَلَمَّا يُلْحَد بعدُ، فجلسَ النبي صلى الله عليه وسلم، وَجَلَسْنَا مَعَهُ".

قال ابن القَيِّم: "وهو حديث صحيح"1. ثم تَعَرَّضَ له بعد ذلك، ودفع عنه بعض ما رُمِيَ به من علل2. وقال مرة: "وهو صحيح، صححه جماعة من الحفاظ"3.

وقد استَدَلَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذا الحديث على أن السُّنَّة لِمُتَّبِع الجنازة ألاَّ يجلس حتى توضع، وأن المراد: وضعها على الأرض، فقال: "ويدلُّ على أنَّ المراد بالوضع الوضع بالأرض عن الأعناق: حديث البراء ... " فساقه.

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 4، وأحمد والطيالسي في (مسنديهما) 5، والحاكم في (المستدرك) 6، أربعتهم من طريق: الأعمش.

__________

1 تهذيب السنن: (4/311) .

2 المصدر السابق: (4/337) .

3 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص58) .

(3/546) ح 3212 باب الجلوس عند القبر.

5 حم: (4/287) . طس: (ح 753) .

(1/37 - 38) .

(2/497)

وأخرجه النسائي وابن ماجه في (سننيهما) 1، والحاكم - أيضاً - في (مستدركه) 2، ثلاثتهم من طريق: عمرو بن قيس3.

وأخرجه ابن ماجه والحاكم4، من طريق: يونس بن خباب5 كُلُّهم عن:

المنهال بن عمرو6، عن زاذان7، عن البراء بن عازب رضي الله عنه به.

وألفاظهم متفاوتة، وعند بعضهم ما ليس عند الآخر.

قال أبو عبد الله الحاكم عقبه: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعاً بالمنهال بن عمرو، وزاذان أبي عمر الكندي"8.

__________

1 س: (4/78) باب الوقوف للجنائز. جه: (1/494) ح 1549، باب ما جاء في الجلوس في المقابر.

(1/40) .

3 الملائي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة متقن عابد، من السادسة، مات سنة بضع وأربعين/ بخ م 4. (التقريب 426) .

4 جه: (1/494) ح 1548. كم: (1/39) .

5 الأُسَيِّدي مولاهم، الكوفي، صدوقٌ يخطئ وَرُمِيَ بالرفض، من السادسة/بخ4. (التقريب 613) .

6 الأسدي، مولاهم، الكوفي، صدوق رُبَّما وَهِمَ، من الخامسة/خ4. (التقريب547) .

7 أبو عمر، الكندي، البزاز، ويكنى أبا عبد الله أيضاً، صدوق يرسل، وفيه شيعية، من الثانية، مات سنة 82هـ / بخ م 4. (التقريب 213) .

8 المستدرك: (1/39) .

(2/498)

وليس كما قال رحمه الله؛ فإن المنهال احتجَّ به البخاري وحده، وزاذان احتجَّ به مسلم وحده، فكيف يكون على شرطهما؟!

وقد أَعَلَّهُ ابن حبان - رحمه الله - في (صحيحه) 1 فقال: " ... وزاذان لم يسمعه من البراء، فلذلك لم أخرجه".

وقد نقل ابن القَيِّم ذلك عن ابن حبان، ثم قال: "وهذه العلة فاسدة؛ فإن زاذان قال: سمعت البراء بن عازب ... ذكره أبو عوانة في صحيحه".

قلتُ: ورواية الحاكم - أيضاً - فيها التصريح بسماعه منه.

وقد أَعَلَّهُ ابن حزم بعلة أخرى، وهي ضعف المنهال بن عمرو2.

ونقل ابن القَيِّم ذلك عنه، ثم قال: "وهي علة فاسدة؛ فإن المنهال ثقة صدوق"3.

قلتُ: قد وثقه جماعة، وغاية ما قيل فيه: أنهم سمعوا صوت طنبور من بيته، ولم يقبل العلماء جَرْحَهُ بذلك، واحتجَّ به البخاري في (صحيحه) 4.

__________

1 انظر: الإحسان: (5/48) .

2 تهذيب التهذيب: (10/320) .

3 تهذيب السنن: (4/337) .

4 تنظر ترجمته في: الميزان: (4/192) ، وتهذيب التهذيب: (10/319) ، وهدي الساري: (ص446) .

(2/499)

وَدَفَعَ ابن القطان القول بتضعيف الحديث بالمنهال بن عمرو، ونقل عن بعض الأئمة توثيقه، ثم قال - رداً على من ضَعَّفَ المنهال بن عمرو بسماع صوت طنبور من بيته -: "فهذا - كما ترى - التعسف فيه ظاهرٌ، ولا أعلم لهذا الحديث عِلَّةً غير ما ذكرت، فاعلمه"1.

وألزم عبد الحق بقبول هذا الحديث، فقال رحمه الله: "وسكت عنه، ولم يبين أنه من رواية المنهال، فكان هذا منه قبولاً له"2.

فثبت بذلك صحَّةُ هذا الحديث - كما حكم ابن القَيِّم رحمه الله - أو حُسْنُهُ على أقل تقدير، وأن ما ضُعِّفَ به لا ينهض، وحينئذ يَسْلَمُ لابن القَيِّم - رحمه الله - الاستدلال به على جلوس مُتَّبَعِ الجنازة بمجرد وضعها على الأرض، واستدل به ابن حجر على ذلك أيضاً، بعد أن نقل عن أبي عوانة أنه صححه3.

ثم أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - بعد ذلك حديثاً للقائلين بأن المراد: الوضع في اللَّحْدِ، وهو:

65- (4) حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه قال: "كَانَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُومُ فِي الْجنازة حتى تُوضعَ في اللَّحْدِ ".

قال ابن القَيِّم: "لكن في إسناده بشر بن رافع". ثم نقل أقوال الأئمة: الترمذي، والبخاري، وأحمد، وابن معين، والنسائي، وابن

__________

1 بيان الوهم والإيهام: (3/362 - 363) ح 1107.

2 بيان الوهم والإيهام: (3/362) .

3 التلخيص الحبير: (2/112) .

(2/500)

حبان في تضعيف بشر هذا1.

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في (سننهم) 2، والبيهقي في (سننه) 3، والحازمي في (الاعتبار) 4، كلهم من طريق:

بشر بن رافع5، عن عبد الله بن سليمان بن جنادة بن أبي أمية6، عن أبيه7، عن جده8، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمرَّ به حبر من اليهود، فقال: هكذا نفعل. فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "اجلسوا، خالفوهم". هذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي وابن ماجه مثله، إلا أنه ليس عندهما قوله: "اجلسوا"، ولفظ البيهقي كأبي داود.

__________

1 زاد المعاد: (1/518 - 519) .

2 د: (3/520) ح 3176. ت: (3/331) ح1020. جه: (1/493) ح 1545. كلهم في ك الجنائز، وعند د، جه: باب القيام للجنازة، وعند ت: باب الجلوس قبل أن توضع.

(4/28) .

(ص 131) باب النهي عن الجلوس حتى توضع الجنازة ...

5 الحارثي، أبو الأسباط النجراني، فقيه ضعيف الحديث، من السابعة/ بخ د ت ق. (التقريب 123) .

6 الأزدي، ضعيف، من السادسة/ د ت ق. (التقريب 306) .

7 هو: سليمان بن جنادة، منكر الحديث، من السادسة/ د ت ق. (التقريب 250) .

8 جنادة بن أبي أمية، يقال: اسم أبيه كبير، مختلف في صحبته، فقال العجلي: "تابعي ثقة"، والحق أنهما اثنان، صحابيُّ وتابعيُّ، متفقان في الاسم وكنية الأب / ع. (التقريب142) .

(2/501)

قلتُ: وهذا الحديث ضعيف، ضَعَّفَهُ غير واحدٍ من العلماء، فقال البخاري: "منكر"1. ونقل عنه العقيلي قوله - في ترجمة سليمان ابن جنادة -: "لم يُتَابَعْ في هذا"2. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، وبشر بن رافع ليس بالقويِّ في الحديث". وقال الحازمي: " ... ولو صحَّ لكان صريحاً في النسخ"3. وقال ابن الملقن: "وإسناد هذا ضعيف، فيه: بشر بن رافع، وليس بحجة، عن: ابن جنادة، وفيه نظر، كما قال البخاري ... "4. وقال ابن حجر: "إسناده ضعيف"5.

والحديث ليس ضعيفاً بسبب بشر بن رافع وحده، كما هو ظاهر كلام ابن القَيِّم السالف، بل شَيْخُهُ، وشيخُ شيخِهِ - أيضاً - ضعيفان.

أما شيخه عبد الله بن سليمان بن جنادة: فقال عنه البخاري: "فيه نظر"6. وسكت ابن أبي حاتم عنه7. أما ابن حبان فقد ذكره في (الثقات) 8 وقال: "يعتبر حديثه من غير رواية بشر عنه".

قلت: والرجلُ في عداد المجهولين؛ فإنه لم يرو عنه أحد غيرُ

__________

1 الضعفاء الصغير: (ص108) ، والتاريخ الكبير: (2/2/6) .

2 ضعفاء العقيلي: (2/122) .

3 الاعتبار: (ص131) .

4 البدر المنير: ج4 (ق 26/ب) . نسخة أحمد الثالث.

5 التلخيص الحبير: (2/112) .

6 التاريخ الكبير: (3/1/108) .

7 الجرح والتعديل: (2/2/75) .

(8/337) .

(2/502)

بشر بن رافع، ولم يوثقه أحد غير ابن حبان، ولذلك فقد قال عنه الذهبي: "لا يُدْرَى من هو"1. وسبق قول ابن حجر فيه: "ضعيف".

وأما شيخ شيخه سليمان بن جنادة، أبو عبد الله الماضي ذكره: فقال أبو حاتم: "منكر الحديث"2. وَضَعَّفَهُ البخاري3، والعقيلي4. وقال ابن حبان: "منكر الحديث، فلست أدري البلية في روايته منه أو من بشر بن رافع؛ لأن بشر بن رافع ليس بشيء في الحديث ... على أنه يجب التَّنَكُّبُ عن روايته على الأحوال"5.

قلت: فإذا كان هذا هو حال هذا الإسناد، فإن الاقتصار على تضعيفه بـ"بشر بن رافع" وحده فيه نظر.

ومع ضعف هذا الحديث الظاهر، فإن الشيخ الألباني -رحمه الله- قد حَسَّنَهُ6، ولا أدري ما وجه تحسينه له؟

فتلخص من ذلك: أنَّ الصَّواب فِي قوله صلى الله عليه وسلم: "حَتَّى تُوضَعَ " أي: بالأرض. وأنَّ مَا جَاء من أن المراد: الوضع في اللَّحد: ضَعِيف لا يثبت، وهذا ما قرره ابن القَيِّم - رحمه الله - في دراسته هذه، فأصاب.

__________

1 الميزان: (2/432) .

2 الجرح والتعديل: (2/1/105) .

3 الضعفاء الصغير: (ص108) .

4 الضعفاء: (2/122) .

5 المجروحين: (1/329) .

6 صحيح سنن ابن ماجه: (ح 1256) .

(2/503)

4- باب الصلاة على الجنازة في المسجد

66- (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلا شَيْءَ لَهُ".

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ونقل أن الإمام أحمد ضَعَّفَهُ: بأنه مما تفرد به صالح مولى التوأمة، وكذا البيهقي، وأنه قَدَّمَ عليه حديث عائشة رضي الله عنها في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد، حيث إنها احتجت عليهم بذلك لما أنكروا عليها إدخالها جنازة سعد بن أبي وقاص إلى المسجد للصلاة عليها.

ثم قرَّرَ ابن القَيِّم أن صالحاً ثقة في نفسه، إلا أنه اختلطَ أخيراً، فمن سَمِعَ منه قبل الاختلاط فهو حُجَّةٌ، وابن أبي ذئب - راوي الحديث عنه - ممن سَمِعَ منه قبل اختلاطه، ولذلك فإن هذا الحديث حسن، ولا معنى لتضعيفه ما دام من رواية ابن أبي ذئب1.

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 2 من طريق: يحيى وابن ماجه في (سننه) 3، وأحمد في (المسند) 4، والبيهقي في (السنن) 5 من طريق: وكيع. وأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 6 من طريق: معمر،

__________

1 زاد المعاد: (1/500 - 501) . وانظر: تهذيب السنن: (4/325) .

(3/531) ح 3191 ك الجنائز، باب الصلاة على الجنازة في المسجد.

(1/486) ح 1517.

(2/444) .

(4/52) .

(3/527) ح 6579.

(2/504)

والثوري كليهما، ومن طريقه أخرجه البيهقي1. وأخرجه الطيالسي في (مسنده) 2. وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) 3 من طريق: الثوري وحده، وأخرجه ابن حبان في (المجروحين) 4، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 5 من طريق: علي بن الجعد، كلهم عن:

ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه به.

وقد اختلفت ألفاظهم في هذا الحديث: ففي رواية أبي داود التي بين أيدينا: "فلا شيء عليه". ونقل ابن القَيِّم عن الخطيب أنه قال في روايته لكتاب السنن: "في الأصل: فلا شيء عليه، وغيره يرويه: فلا شيء له". ولفظ ابن ماجه وأحمد: "فليس له شيء" وأما رواية الباقين فلفظها: "فلا شيء له ".

وعند الطيالسي زيادة وهي: "قال صالح: وأدركتُ رجالاً ممن أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر إذا جاءوا فلم يجدوا إلا أن يُصَلُّوا في المسجد، رجعوا فلم يصلوا". وهي عند البيهقي لكن لفظها: "فرأيت الجنازة توضع في المسجد، فرأيت أبا هريرة إذا لم يجد موضعاً إلا في المسجد، انصرف ولم يصل عليها".

وقد ضَعَّفَ جماعة هذا الحديث: فقال ابن ماجه عقب إخراجه:

__________

1 السنن: (4/52) .

(ح 2310) .

(7/93) .

(1/366) .

(1/414) ح 696.

(2/505)

"حديث عائشة أقوى" يعني: في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد. وقال ابن حبان: "هذا خبرٌ باطلٌ، كيف يخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمُصَلِّي في المسجد على الجنازة لا شيء له من الأجر، ثم يُصَلِّي هو على سهيل بن بيضاء في المسجد؟ "1.

وقال البيهقي: "وهو مِمَّا يُعَدُّ في أَفراد صالح، وحديث عائشة رضي الله عنها أصحُّ منه، وصالح مولى التوأمة مختلف في عدالته، كان مالك بن أنس يجرحه"2. وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصحُّ، وصالح قد كَذَّبَه مالك ... "3. وقال النووي: "ضعيف باتفاق الحُفَّاظِ، وممن نصَّ على ضعفه: الإمام أحمد، وأبو بكر بن المنذر، والبيهقي وآخرون ... "4.

قلت: وبالنظر إلى كلام الْمُضَعِّفِينَ لهذا الحديث نجدُ أنهم اعتمدوا في تضعيفه على أمرين:

الأول: ضعفُ صالح مولى التوأمة، وقد تَفَرَّدَ بذلك.

الثاني: مخالفةُ هذه الرواية لما ثبت في (صحيح مسلم) من حديث عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على ابن بيضاء في المسجد".

__________

1 المجروحين: (1/366) .

2 السنن: (4/52) .

3 العلل المتناهية: (1/414) .

4 المجموع: (5/162) .

(2/506)

فأما صالح: فإنه قد وثقه جماعة، وضَعَّفَهُ آخرون1. وغاية ما رَمَوهُ به: أنه اختلط قبل موته، لكن مَيَّزَ الأئمة النُّقَّادُ بين سماع من سمع منه قبل الاختلاط وبعده، فقال علي بن المديني: "صالح ثقة، إلا أنه خَرِفَ وكَبِرَ، فَسَمِعَ منه قومٌ وهو خرف كبير، فكان سَمَاعهم ليس بصحيح، سفيان الثوري ممن سمع منه بعد ما خرف، وكان ابن أبي ذئب قد سمع منه قبل أن يخرف"2. وقال أحمد بن أبي مريم عن يحيى بن معين: "ثقة حجة. فقلت له: إن مالكاً تركه. فقال: إن مالكاً إنما أدركه بعد أن خرف ... لكنَّ ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف"3. وقال الجوزجاني: "تَغَيَّرَ أخيراً، فحديث ابن أبي ذئب عنه مقبول لِسِنِّه وسماعه القديم، وأما الثوري فَجَالَسَهُ بعد التغير"4.

فهذا كلام هؤلاء الأئمة في أنَّ ابن أبي ذئب ممن سمع منه قديماً قبل الاختلاط، وقال ابن عديّ - بعد أن ذكر قدم سماع ابن أبي ذئب منه -: "ولا أعرف له حديثاً منكراً إذا روى عنه ثقة، وإنما البلاء ممن دون ابن أبي ذئب ... وصالح مولى التوأمة: لا بأس برواياته وحديثه"5.

قلت: وهذا الحديث من رواية ابن أبي ذئب عن صالح، فلا مجال حينئذ للطعن فيه باختلاط صالح، ولذلك فقد ساق الذهبي هذا

__________

1 انظر: تهذيب التهذيب: (4/405 - 407) .

2 سؤالات ابن أبي شيبة لعلي بن المديني: (ص86) .

3 الميزان: (2/303) .

4 أحوال الرجال: (ص 144) .

5 الكامل: (4/1375 - 1376) .

(2/507)

الحديث وغيره في ترجمة صالح من طريق ابن أبي ذئب عنه، ثم قال: "فهذه الأحاديث صحاح عند ابن معين على ما قال"1.

وأما معارضة هذا الحديث لحديث عائشة السابق: فيمكن الجواب عن ذلك بأجوبة:

- منها: أن نُسَخَ أبي داود المعتمدة فيها: "فلا شيء عليه"، وبعضهم: "فليس له شيء "، وبعضهم: " فليس به شيء "، وعلى هذا: لا دلالة فيه على كراهية ذلك. أجاب بذلك النووي2.

قلت: لكن كيف برواية الجماعة الباقين، وهي: "فلا شيء له"، وفي رواية: "فليس له شيء "، فهذا يعكر على هذا الجواب. ويعكر عليه أيضاً: قول صالح عقب روايته هذا الحديث: "فرأيت الجنازة توضع في المسجد، فرأيت أبا هريرة إذا لم يجد موضعاً إلا في المسجد، انصرف ولم يصل عليها". وقد سبق ذلك في رواية البيهقي، وأبي داود الطيالسي، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه راوي هذا الحديث يفعل ذلك، فلا بدَّ أنه قد ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم كراهة ذلك، وحينئذ فلا وجه لردِّ رواية: "فلا شيء له".

- ومن هذه الأجوبة: أن لفظة: "لا شيء له" يجب حملها على: "فلا شيء عليه" جمعاً بين الروايات، وقد جاء مثل ذلك في القرآن، كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7] أي: فعليها. قاله النووي3.

__________

1 الميزان: (2/304) .

2 المجموع: (5/162) .

3 المجموع: (5/162) .

(2/508)

- وأجاب الخطابي بجواب آخر، فقال: "وقد يكون معناه - إن ثبت الحديث - متأولاً على نقصان الأجر؛ وذلك أن من صلى عليها في المسجد، فإن الغالب أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه، وأن من سعى إلى الجَبَّان فَصَلَّى عليها بحضرة المقابر شهد دفنه، فأحرز أجر القيراطين ... فصار الذي يصلي عليها في المسجد منقوص الأجر بالإضافة إلى من صَلَّى عليها براً"1. وقال مثله النووي رحمه الله، وزاد: "فيكون التقدير: فلا أجر كامل له"2.

قلتُ: ولعلَّ هذا الجواب الأخير هو أَقْرَبُهَا، فيكون الأصل في الصلاة على الجنازة أن تكون خارج المسجد، وأنه الأفضل، وأن الصلاة عليها في المسجد جائزة، وإن كانت دون الأولى، وقد أشار إلى شيء من ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله، فإنه عند شرحه لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا، فأمر بهما فرجما قريباً من موضع الجنائز عند المسجد" قال رحمه الله: "دلَّ حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان مُعَدٌّ للصلاة عليها، فقد يستفاد منه: أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز في المسجد كان لأمرٍ عارض، أو لبيان الجواز"3. وفي إنكار الصحابة - رضوان الله عليهم - على عائشة إدخالها جنازة سعد بن أبي وقاص إلى المسجد للصلاة عليها، دليل على عدم وقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، وإلا لما خفي عليهم.

__________

1 معالم السنن: (4/325) .

2 المجموع: (5/162) .

3 فتح الباري: (3/199) .

(2/509)

فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديث أبي هريرة هذا - من رواية صالح مولى التوأمة - حديث حسن على أقل أحواله، كما حكم عليه بذلك ابن القَيِّم رحمه الله، وأن القول بضعفه مَبْنِيٌّ على الطعنِ في صالح، وقد عُلِمَ ما فيه.

على أنه لا تنافي بينه وبين جواز الصلاة على الجنازة في المسجد على الوجه المتقدم، والله أعلم.

(2/510)

5 - باب ما جاء في الصلاة على الطفل

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الصلاة على الطفل، فصحَّ عنه أنه قال: 67- (6) "الطِّفْلُ يُصَلَّى عليه" 1.

قلت: هذا جزء من حديثٍ يُروى عن: زياد بن جبير بن حَيَّة2، عن أبيه3، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، واختلف فيه على زياد بن جبير:

فأخرجه: الترمذي والنسائي وابن ماجه في (سننهم) 4، وأحمد في (مسنده) 5 والطبراني في (الكبير) 6، وابن حبان في (صحيحه) 7، والحاكم في (المستدرك) 8، كلهم من طريق:

__________

1 زاد المعاد: (1/513) .

2 ابن مسعود بن مُعَتِّب الثفي، البصري، ثقةٌ وكان يُرْسِل، من الثالثة/ ع. (التقريب 218) .

3 جبير بن حية بن مسعود الثقفي، ابن أخي عروة بن مسعود، ثقةٌ جليل، من الثالثة، مات في خلافة عبد الملك بن مروان/ خ 4. (التقريب 138) .

4 ت: (3/340) ح 1031، باب الصلاة على الأطفال. س: (4/56) ، باب مكان الماشي من الجنازة. جه: (1/483) ح 1507، باب الصلاة على الطفل. ثلاثتهم في كتاب الجنائز.

(4/247، 252) .

(20/430) ح 1045.

7 الإحسان: (5/22) ح 3038.

(1/355، 363) .

(2/511)

سعيد بن عبيد الله1، عن عمه زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الراكب خَلْفَ الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفلُ يُصَلَّى عليه". هذا لفظ الترمذي، ومثله: أحمد والنسائي، والطبراني، وابن حبان، وأما لفظ ابن ماجه فمختصر، وهو الذي ساقه ابن القَيِّم رحمه الله، وأما لفظ الحاكم: "الماشي أمام الجنازة، والراكب خلفها، والطفل يصلى عليه".

وأخرجه النسائي2 مرة عن: سعيد بن عبيد الله وأخيه المغيرة بن عبيد الله3، كلاهما عن: زياد بن جبير به، ولفظه كلفظه الماضي.

هكذا رواه هؤلاء من طريق سعيد بن عبيد الله - وأخيه في رواية النسائي - عن زياد بن جبير مجزوماً برفعه.

وأخرجه: أبو داود في (سننه) 4، والطبراني في (الكبير) 5، والحاكم في (المستدرك) 6، والبيهقي في (سننه) 7 كلهم من طريق:

__________

1 ابن جبير بن حَيَّة، الثقفي، الجبيري، بصري، صدوق رُبَّمَا وهم، من السادسة/ خ ت س ق. (التقريب 239) .

2 السنن: (4/55) .

3 ابن جبير بن حية/ الثقفي، مقبولٌ، من السابعة/ س. (التقريب 543) .

(3/522) ح 3180، باب المشي أمام الجنازة.

(20/430) ح 1042.

(1/363) .

(4/8) .

(2/512)

يونس بن عبيد1، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة- قال يونس: وأحسب أن أهل زياد أخبروني أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن يسارها قريباً منها، والسِّقْط2 يُصَلَّى عليه، ويُدْعَى لوالديه بالمغفرة والرحمة". هذا سياق أبي داود ومثله سياق الطبراني إسناداً ومتناً. وأما الحاكم فلفظه مثل أبي داود لكن فيه: " ... ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة". وأما إسناده، ففيه قول يونس: "وحدثني بعض أهله أنه رفعه" هكذا بدون شك. قال إبراهيم بن أبي طالب - شيخ شيخ الحاكم في هذا الإسناد -: "قول يونس بن عبيد: حدثني بعض أهله أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: رواية ليونس بن عبيد، عن سعيد بن عبيد الله بن جبير ... ".

ورواية يونس بن عبيد هذه: أخرجها الطبراني في (الكبير) 3 من غير شك في رفعها، وذلك من طريق: عبد الله بن بكر4، ثنا يونس بن عبيد، عن زياد، عن أبيه، عن المغيرة مرفوعاً: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء، والطفل يُصَلَّى عليه".

ورواه الثوري عن يونس بن عبيد فلم يرفعه، أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 5.

__________

1 ابن دينار العبدي، أبو عبيد البصري، ثقة ثبت فاضل ورع، من الخامسة، مات سنة 139 هـ / ع. (التقريب 613) .

2 بالكسر والفتح والضم - والكسر أكثرها -: الولد الذي يسقط من بطن أمه قبل تمامه. (النهاية 2/378) .

(20/430) ح 1044.

4 ابن عبد الله، الْمُزَنِي، البصري، صدوقٌ، من السابعة/ د س ق. (التقريب297) .

(3/531) ح 6602.

(2/513)

وأخرجه: أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 1 من طريق: المبارك بن فضالة2، عن زياد بن جبير، عن أبيه، عن المغيرة مرفوعاً، ووقع عند الطيالسي قول المبارك: "ولا أراه إلا مرفوعاً" أما عند أحمد فقد جزم برفعه.

وقد صحح هذا الحديث جماعة؛ فقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وقال الإمام أحمد بن حنبل - فيما رواه أحمد بن أبي عبدة عنه -: "صحيح مرفوع"3. وقال أبو عبد الله الحاكم: "صحيح على شرط البخاريِّ، ولم يُخَرِّجَاهُ". ووافقه الذهبي رحمه الله. وصححه ابن دقيق العيد؛ فإنه أورده في كتابه (الاقتراح) 4 في القسم الخاص بالأحاديث التي رواها قومٌ خَرَّجَ عنهم البخاري دون مسلم. هذا مع تصحيح ابن حبان له؛ إذ أخرجه في (صحيحه) كما مرَّ، وصححه - أيضاً - الشيخ الألباني5 رحمه الله.

وأما ما وقع في بعض طرقه من الشكِّ في رفعه: فإن ذلك لا يَضُرُّهُ؛ إذ إن ذلك وقع في رواية يونس بن عبيد وحده، ومع هذا فقد اخْتُلِفَ عليه في ذلك، فقد رواه عنه عبد الله بن بكر بدون شك، كما مضى عند الطبراني.

__________

1 حم: (4/248) . طس: (ح702) .

2 أبو فضالة البصري، صدوق يُدَلِّسُ ويُسَوِّي، من السادسة، مت سنة 136هـ على الصحيح/ خت د ت ق. (التقريب 519) .

3 زاد المعاد: (1/513) .

(ص 479) ح 27 من القسم المذكور.

5 صحيح ابن ماجه: (ح 1224) .

(2/514)

وأما رواية الثوري له موقوفاً: فقد خالفه جماعة عن يونس بن عبيد، منهم: عبد الله بن بكر المزني الماضي ذكره، وذكر الدارقطني: أن ابن عُلَيَّةَ، وعنبسة بن عبد الواحد روياه عن يونس مرفوعاً1. هذا مع اتفاق سعيد بن عبيد الله الثقفي، وأخيه المغيرة، والمبارك بن فضالة على رفعه كما مرَّ في تخريج الحديث، فهذا العدد الكثير أولى أن تكون روايتهم محفوظة، هذا إذا لم نقل: إن الرفع زيادة، وقد أتى بها ثقات، فهي مقبولة.

وبهذا يتبين أن ترجيح الإمام الدارقطني في (علله) 2 رواية الوقف، الراجح خلافه.

ويَتَلَخَّصَ من ذلك: أن الحديث صحيح ثابت، وأنه لا مَطْعَنَ فيه، وبذلك يكون ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أصاب في تصحيحه إياه، والاستدلال به على مشروعية الصلاة على الطفل.

68- (7) عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أنه قال: صَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، ومات وهو ابن ستة عشر شهراً، وقال: "إِنَّ في الجَنَّة مُرْضِعَاً تُتِمُّ رِضَاعَهُ، وهو صِدِّيقٌ ".

قال ابن القَيِّم: "هذا حديث لا يثبت؛ لأنه من رواية جابر الجُعْفِي، ولا يحتجُّ بحديثه، ولكن هذا الحديث مع مرسل البَهيّ،

__________

1 علل الدارقطني: ج2 (ق 104) .

2 ج2 (ق 104) .

(2/515)

وعطاء، والشعبي، يُقَوِّي بعضها بعضاً"1.

قلت: هذا الحديث أخرجه أحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3 من طريق:

إسرائيل، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، عن البراء بن عازب رضي الله عنه به.

وهذا الإسناد ضعيف بجابر الجعفي كما قال ابن القَيِّم رحمه الله، وضَعَّفَهُ به المنذري4 أيضاً، ثم نقل كلام البيهقي في اعتضاد هذا الحديث بالمراسيل السابقة، قال: "وفيه نظر".

قلت: وقد رُوي مسنداً من غير طريق البراء، فَرُوِيَ عن: ابن عباس، وأنس، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم، ذكر ذلك الزيلعي في (نصب الراية) 5.

أما حديث ابن عباس: فأخرجه ابن ماجه في (سننه) 6 من

__________

1 تحفة المودود: (ص 108) . وقد ذكر - رحمه الله - هذه المراسيل، ونقل عن البيهقي قوله: "هذه الآثار وإن كانت مراسيل، فهي تشبه الموصول، ويشد بعضها بعضاً". وانظر كلام البيهقي هذا في (سننه) (4/9) .

(4/283) .

(4/9) .

4 مختصر السنن: (4/323-324) .

(2/279-280) .

(1/484) ح1511 ك الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ...

(2/516)

طريق: إبراهيم بن عثمان1، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صَلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "إن له مرضعاً في الجنة، ولو عاش لكان صِدِّيقَاً نَبِيَّاً، ولو عاش لَعُتِقَتْ أخواله القبط، وما اسْتُرِقَّ قبطيُّ".

قال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف لضعف إبراهيم بن عثمان، أبو شيبة"2. وقال الحافظ ابن حجر: "أخرجه ابن ماجه ... بسند ضعيف"3.

وأما حديث أنس: فرواه أبو يعلى في (مسنده) 4 من طريق: يونس بن بكير، عن محمد بن عبيد الله5، عن عطاء، عن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على إبراهيم، فَكَبَّرَ عليه أربعاً". وَضَعَّفَهُ الهيثمي بمحمد بن عبيد الله العَرْزَمي6.

وأما حديث أبي سعيد: فأخرجه البزار في (مسنده) 7 من طريق:

__________

1 العبسي، أبو شيبة الكوفي، قاضي واسط، متروكُ الحديث، من السابعة، مات سنة 169 هـ / ت ق. (التقريب 92) .

2 مصباح الزجاجة: (2/33) .

3 الدراية: (1/235) ، وانظر الإصابة: (1/94) .

(6/335) ح 3660.

5 ابن أبي سليمان العرزمي، الفَزَاري، أبو عبد الرحمن الكوفي، متروك، من السادسة، مات سنة بضع وخمسين/ ت ق. (التقريب 494) .

6 مجمع الزوائد: (3/35) .

7 المصدر السابق.

(2/517)

عبد الرحمن بن مالك بن مغول1، عن الجُرَيرِي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ حديث أنس الماضي. وَضَعَّفَهُ الهيثمي2 بعبد الرحمن بن مالك، فإنه متروك الحديث. وَضَعَّفَهُ به ابن حجر أيضاً3.

قلتُ: فهذه المسانيد الثلاثة شديدة الضَّعْفِ؛ فإن إسناد كلِّ واحد منها لا يخلو من متروك، فيكون الاعتماد في ذلك على تلك المراسيل التي مضى ذكرها، فإنها - كما قال البيهقي وابن القَيِّم - إذا انضمت إلى مسند البراء بن عازب رضي الله عنه، قَوَّى كل منهما الآخر.

ومما يقوي ذلك أيضاً: أن الجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى على ابنه إبراهيم، قال ابن عبد البر: "وصَلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكَبَّرَ أربعاً. هذا قول جمهور أهل العلم، وهو الصحيح" 4. وقال النووي: "الذي ذهب إليه الجمهور: أنه صَلَّى عليه، وكبر عليه أربع تكبيرات" 5.

وقال الخطابي - عقب ذكره مرسل عطاء -: "وهذا أولى الأمرين"6. وقال البيهقي: "وقد أثبتوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه

__________

1 قال أحمد والدارقطني: "متروك". وكَذَّبَه أبو داود. وقال النسائي: ليس بثقة. (الميزان 2/584) .

2 مجمع الزوائد: (3/35) .

3 الإصابة: (1/94) .

4 الاستيعاب: (1/45) .

5 الإصابة: (1/94) .

6 معالم السنن: (4/323) .

(2/518)

إبراهيم، وذلك أولى من رواية من روى: أنه لم يُصَلِّ عليه"1.

فَتَلَخَّصَ من ذلك: ثبوت صلاته صلى الله عليه وسلم على الأطفال، وأن ذلك كان هديه، وكذلك ثبوت صلاته على ابنه إبراهيم عليه السلام، وهذا هو الذي اختاره ابن القَيِّم رحمه الله، والله أعلم.

__________

1 سنن البيهقي: (4/9) .

(2/519)

6- باب ما جاء في الصلاة على الشهداء

تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - قضية الصلاة على الشهيد، وقَرَّرَ أَنَّ أَصحَّ الأقوال في ذلك: التخيير بين الصلاة على الشهداء وتركها، وذلك لمجيء الأخبار بكل واحد من الأمرين.

ومن هذه الأحاديث التي بحثها في هذا الموضوع:

69 - (8) حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى حَمْزَة، فَكَبَّرَ سَبعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَلَم يُؤت بقتيل إلا صَلَّى عليه معه، حتى صَلَّى عليه اثنتين وسبعين صلاةً".

ساق ابن القَيِّم هذا الحديث من رواية: ابن إسحاق، عن رجل من أصحابه، عن مقسم، عن ابن عباس به، ثم قال: "ولكنَّ هذا الحديث له ثلاث عللٍ:

- إحداها: أن ابن إسحاق عنعنه، ولم يذكر فيه سماعاً.

- الثانية: أنه رواه عمن لم يُسَمِّه.

- الثالثة: أن هذا قد رُوِيَ من حديث الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، والحسن لا يحتجُّ به ... "1.

قلت: حديثُ ابن إسحاق هذا أورده ابن هشام في (السيرة

__________

1 تهذيب السنن: (4/295) .

(2/520)

النبوية) 1 فقال: "وقال ابن إسحاق: وَحَدَّثَنِي من لا أَتَّهِمُ، عن مِقْسم مولى عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال: " أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزةَ فَسُجِّي2 ببردةٍ، ثم صلى عليه ... " الحديث.

وأخرجه البيهقي في (سننه) 3 من طريق ابن إسحاق قال: حدثني رجلٌ من أصحابي ... الحديث.

وإلى مناقشة العلل التي ذكرها ابن القَيِّم رحمه الله:

أما قوله:"إن ابن إسحاق عنعنه ... " فليس كذلك، بل صَرَّحَ فيه ابن إسحاق بالتحديث كما في (السيرة) ، وكذا الرواية عند البيهقي مُصَرَّحٌ فيها بالتحديث، وروايته هي التي ساقها ابن القَيِّم، وحينئذ تنتفي عنه شبهة التدليس.

وأما قوله:"إنه رواه عمن لم يسمعه": فنعم، قال البيهقي عقب إخراجه: "وهذا ضعيف، ومحمد بن إسحاق بن يسار إذا لم يذكر اسم من حَدَّثَ عنه لم يُفْرَحْ به"4.

وأما العلة الثالثة، وهي قوله: "إن هذا رُوِيَ من حديث الحسن ابن عمارة ... " إلخ: فقد أشار البيهقي إلى هذه العلة أيضاً5.

__________

(2/97) .

2 أي: غُطِّي.

(4/13) .

4 السنن: (4/13) .

5 المصدر السابق.

(2/521)

ولعلَّ هناك وجهاً للربط بين رواية ابن إسحاق، وبين رواية الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مقسم، وهو ما ذكره السهيلي في (الروض الأنف) 1 - مُعَقِّبَاً على رواية ابن إسحاق - فقال: "قول ابن إسحاق في هذا الحديث: حَدَّثَنِي من لا أَتَّهِم. إن كان هو الحسن بن عمارة - كما قاله بعضهم - فهو ضعيف بإجماع أهل الحديث، وإن كان غيره، فهو مجهول ... ".

وقال الحافظ ابن حجر: "والحامل للسهيلي على ذلك: ما وقع في مقدمة مسلم2، عن شعبة: أن الحسن بن عمارة حَدَّثَهُ عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى على قتلى أحد. فسألت الحكم؟ فقال: لم يصلِّ عليهم"3.

ولكن على كلام السهيلي هذا يكون ابن إسحاق قد أَبْهَمَ الحسن ابن عمارة، وأسقط من الإسناد "الحكم بن عتيبة".

ولكن لحديث ابن عباس هذا طرقاً أخرى قد يَتَقَوَّى بها، من هذه الطرق:

1- ما أخرجه ابن ماجه في (سننه) 4، والحاكم في (المستدرك) 5، والبيهقي في (سننه) 6 من طريق: أبي بكر بن عياش7،

__________

(6/43) .

2 صحيح مسلم: (1/23 - 24) والقصة فيه بأطول من هذا.

3 التلخيص الحبير: (2/117) .

(1/485) ح 1513 ك الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم.

(3/197 - 198) .

(4/12) .

7 ابن سالم الأسدي، الكوفي، المقري، الحنَّاط، مشهور بكنيته، والأصحُّ: أنها اسمه، ثقة عابد إلا أنه لما كَبِرَ ساءَ حفظه، وكِتَابُهُ صحيحٌ، من السابعة، مات سنة194هـ/ع. (التقريب624) .

(2/522)

عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أُتِيَ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فَجَعَلَ يُصَلِّي على عشرة عشرة، وحمزة هو كما هو، يُرفَعُونَ وهو كما هو موضوع". هذا لفظ ابن ماجه، وهو عند الحاكم والبيهقي بأطول من هذا، وفيه قصة صفية وبحثها يوم أحد عن حمزة رضي الله عنه.

وأورد ابن القَيِّم هذا الطريق قبل طريق ابن إسحاق السابق، وعزاه إلى البيهقي، ثم نقل قوله في أبي بكر ويزيد، فقال: "لا يحفظ إلا من حديثهما، وكانا غير حافظين". وسكت عنه الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله: "ليسا بمعتمدين" وقال ابن حجر في (التلخيص) 1: "ويزيد فيه ضعف يسير".

وقال الحافظ البوصيري: "هذا إسناد صحيح"2. كذا قال!

والذي يظهر عند النظر في هذا الإسناد: أن رَدَّهُ بأبي بكر بن عياش غير سائغ؛ فإن الرجل ثقة، إلا أنه قد ساء حفظه لما كَبِرَ، ولعلَّ القول فيه ما قاله ابن حبان رحمه الله: "والصواب في أمره: مُجَانَبةُ ما عُلِمَ أنه أخطأ فيه، والاحتجاج بما يرويه سواء وافق الثقات أو خالفهم؛ لأنه داخل في جملة أهل العدالة ... "3.

قلت: وأما القول بالاحتجاج بما خالف فيه الثقات: فغير مقبول؛ لأنه حينئذٍ يكون من قبيل الشاذ.

__________

(2/117) .

2 مصباح الزجاجة: (2/34) .

3 الثقات: (7/670) .

(2/523)

وأما يزيد بن أبي زياد: فإنه ضعيف، ولكن لا يصلُ به الضعف إلى مرتبة من يُطْرَحُ حديثه بالكلية؛ لأن ضَعْفَهُ يسير كما قال ابن حجر1. ولذلك قال ابن عبد الهادي - في معرض رده على ابن الجوزي في تضعيفه هذا الحديث -: "وهو ممن يُكْتَبُ حديثه على لينه، وقد روى له مسلم مقروناً بغيره ... وقال أبو داود: لا أعلم أحداً ترك حديثه"2.

فإذا تَبَيَّنَ ذلك، فإن هذا الإسناد مما يَصْلُحُ في المتابعات، ويعتضد بانضمام غيره إليه، وأما قول البوصيري: "صحيح" فإنه لا يخفى ما فيه.

2- ما أخرجه الدارقطني في (سننه) 3 من طريق: إسماعيل بن عياش، عن عبد الملك بن أبي عتيبة أو غيره، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما به، وفيه: "أَنَّه صَلَّى عليه سبعين صلاة، وأَنه كَبَّرَ عليه عشراً". قال الدارقطني عقبه: "لم يروه غير إسماعيل بن عياش، وهو مضطرب الحديث عن غير الشاميين".

وقد روي من وجه آخر عن: الحكم، عن مجاهد. أشار إلى ذلك الزيلعي في (نصب الراية) 4 فقال: "رواه الإمام أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي في (سننه) عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس به، ولفظه كلفظ رواية الدارقطني الماضية.

__________

1 التلخيص الحبير: (2/117) .

2 نصب الراية: (2/311) .

(4/118) ح 47.

(2/311) .

(2/524)

وفي إسناده "الحسن بن عمارة" وهو ضعيف بالاتفاق.

3- ما أخرجه الدارقطني - أيضاً - في (سننه) 1 من حديث: عبد العزيز بن عمران2، عن أفلح بن سعيد، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس به.

قال الدارقطني عقبة: "عبد العزيز بن عمران ضعيف".

فهذه الطرق الثلاث: أحسنها الطريق الأول، من رواية أبي بكر ابن عَيَّاش، فيكون مقوياً لطريق ابن إسحاق المتقدم.

وهناك شاهدٌ مرسل لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو:

70- (9) حديث أبي مالك الغفاري، أنه قال: "كَانَ قَتْلَى أُحُد يؤتى منهم بتسعةٍ وعاشرهم حمزة، فَيُصَلِّي عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يُحْمَلُون، ثم يُؤْتَى بتسعةٍ فَيُصَلِّي عليهم وحمزة مكانه، حتى صَلَّى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ثم قال: " هذا مرسل صحيح"3. ثم نقل عن البيهقي قوله: "هو أصحُ ما في الباب".

__________

(4/116) ح 42.

2 المدني، الأعرج، يُعرف: بابن أبي ثابت، متروكٌ، احْتَرَقَتْ كُتبه فَحَدَّثَ من حِفِظهِ فاشتَدَّ غَلَطُهُ، من الثامنة، مات سنة 197 هـ / ت. (التقريب 358) .

3 تهذيب السنن: (4/295) .

(2/525)

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (المراسيل) 1 من طريق: سليمان بن كثير، عن حصين بن عبد الرحمن2، عن أبي مالك3، وفيه: "فَصَلَّى عليهم سبع صلوات، حتى صَلَّى على سبعين رجلاً، منهم حمزة في كل صلاة صَلاّها".

وأخرجه الدارقطني في (سننه) 4 من طريق: شعبة، عن حصين به. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "رجاله ثقات"5. وتقدم قول البيهقي6 فيه، وتصحيح ابن القَيِّم - رحمه الله - إياه.

وفي مقابلة هذه الأحاديث يأتي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ عليهم7. وظاهر صنيع ابن القَيِّم أنه يذهب إلى هذا الحديث ويقول به، وأما الأحاديث التي مَرَّتْ في الصلاة على حمزة وسائر شهداء أحد: فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - لا يثبتها، بل يختار ضعفها، وذلك أنه قال: "والذي يظهر من أمر شهداء أحد: أنه لم يصلِّ عليهم عند الدَّفْن، وقد قُتِلَ معه بأحدٍ سبعون نفساً، فلا يجوز أن تَخْفَى الصلاة عليهم،

__________

(ص 306) ح 427، (ص 310) ح 435.

2 السُّلَمي، أبو الهذيل الكوفي.

3 واسمه: غزوان، مشهور بكنيته، ثقةٌ، من الثالثة/ خت د ت س. (التقريب 442) .

(2/78) ح9.

5 التلخيص الحبير: (2/117) .

6 انظر: السنن: (4/12) .

7 أخرجه البخاري في صحيحه: ك الجنائز، باب الصلاة على الشهيد، ح 1343. (فتح الباري 3/209) ، وانظر بعده: ح 1347.

(2/526)

وحديث جابر في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح، وأبوه عبد الله أحد القتلى يومئذ، فله من الخبرة ما ليس لغيره"1.

وقال مرة: " ... شهيد المعركة لا يُصَلَّى عليه؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ على شهداء أُحُد ... فإن قيل: فقد ثبت في (الصحيحين) 2 من حديث عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يوماً، فَصَلَّى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر ... قيل: أما صلاته عليهم، فكانت بعد ثمان سنين من قتلهم قرب موته، كَالْمُوَدِّعِ لهم ... فهذه كانت توديعاً منه لهم، لا أنها سُنَّة الصلاة على الميت، ولو كان ذلك كذلك لم يؤخرها ثمان سنين"3.

لكن كيف يستقيم هذا مع اختياره الذي صَدَّرَنَا به هذا البحث إذ يقول: "فأصح الأقوال: أنهم لا يُغَسَّلُون، ويُخَيَّرُ في الصلاة عليهم، وبهذا تتفق جميع الأحاديث"4. فلعله - رحمه الله - يرى الصلاة عليهم بعد دفنهم كما هو ظاهر حديث عقبة بن عامر الماضي قبل قليل؟

وحيث اختلفت الأحاديث الواردة في هذا الباب؛ فوردت

__________

1 تهذيب السنن: (4/296) .

2 خ: ك المغازي، باب أحد جبل يحبنا ونحبه (فتح الباري 7/377) ح 4085. م: (4/1795) ح 2296، ك الفضائل، باب إثبات حوض نبينا عليه الصلاة والسلام.

3 زاد المعاد: (3/217) .

4 تهذيب السنن: (4/296) .

(2/527)

أحاديث تثبت الصلاة على الشهداء، وأخرى تنفي ذلك، فإن الروايات المثبتة تقدم على الروايات النافية؛ لأن الحجة للمثبت على النافي، حيث إن معه زيادة علم، فالذي تطمئن إليه النفس بعد هذا: جواز الصلاة على الشهداء لورود النصوص بذلك، فإذا لم يُصَلّ عليهم فلا حرج، والله أعلم.

(2/528)

7- باب ما جاء في تلقين الميت بعد دفنه

71- (10) عن أبي أمامة مرفوعاً: "إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ إِخْوَانِكُم فَسَوَّيْتُم التَّرَابَ عَلَى قَبْرِهِ، فَلَيْقُم أحدُكُم عَلَى رَأْسِ قَبْرِهِ ثم لْيَقُلْ: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّه يَسْمَعُهُ ولا يُجِيبُ، ثُمَّ يقول: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّهُ يَسْتَوي قَاعِدَاً، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فَإِنَّه يقول: أَرْشِدْنَا رَحِمَكَ الله. وَلَكِن لا تَشْعُرُون، فَلْيَقُل: اذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيه من الدنيا: شَهادةَ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهَ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُه، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِالله رَبَّاً، وبِالإسْلام دِيْنَاً، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالقرآن إِمَامَاً، فَإِن مُنْكَرَاً وَنَكِيراً يَأْخُذُ كلُّ واحدٍ منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا، ما نَقْعُدُ عند من قد لُقِّنَ حُجَّته، فيكونُ الله حجيجه دونهما". فقال رجل: يا رسول الله! فإن لم يعرف أُمَّهُ؟ قال: "ينسبه إلى حواءَ: يا فلان بن حواء ".

قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... فهذا حديث لا يصحُّ رفعه، ولكن قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: فهذا الذي يصنعونه إذا دفن الميت ... ؟ فقال: ما رأيت أحداً فعل هذا إلا أهل الشام، حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذلك، وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم، عن أشياخهم، أنهم كانوا يفعلونه، وكان ابن عياش يروي فيه. قلت: يريد حديث إسماعيل بن عياش هذا الذي رواه الطبراني عن أي أمامة"1.

__________

1 زاد المعاد: (1/522 - 523) .

(2/529)

وقال مرةً: "حديث ضعيف"1.

وقال مرةً: "ضعيف باتِّفَاقِ أهل العلم بالحديث"2.

وقال مَرةً: " ... لا تقوم به حُجَّة"3.

قلت: هذا الحديث أخرجه الطبراني في (أكبر معاجمه) 4، وفي (الدعاء) 5 له من طريق:

محمد بن إبراهيم بن العلاء، عن إسماعيل بن عيَّاش6، عن عبد الله ابن محمد القرشي، عن يحيى بن أبي كثير، عن سعيد بن عبد الله الأودي، أنه قال: شهدت أبا أمامة رضي الله عنه وهو في النَّزْع قال: إذا أنا متٌُّ فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله: "إذا مات أحدٌ ... " الحديث.

وهذا الإسناد ضعيف، وفيه مجاهيل؛ فإنَّ محمد بن إبراهيم بن العلاء: هو الحمصي الزبيدي، ذكره الذهبي في (الميزان) 7 وقال: "قال محمد بن عوف: كان يَسْرِقُ الحديث". وعبد الله بن محمد القرشي لم أقف له على ترجمة.

__________

1 الروح: (ص 16) .

2 تحفة المودود: (ص149) .

3 تهذيب السنن: (7/250) .

(8/298) ح 7979.

(3/1367) ح 1214.

6 أبو عتبة الحمصي، صدوق في روايته عن أهل بلده، مُخَلِّطٌ في غيرهم، من الثامنة، مات سنة 181هـ أو 182هـ/ ي 4. (التقريب 109) .

(3/447) .

(2/530)

وأما سعيد بن عبد الله الأودي: فهكذا وقع عند الطبراني في كتابيه، وقال بعضهم: سعيد الأزدي1، وأشار المنذري إلى الخلاف في اسمه، فقال في الجزء الذي صَنَّفَهُ في التلقين - ونقل عنه ابن الملقن في (البدر المنير) 2-: "قال أبو نعيم الحدَّاد: هذا حديث غريب من حديث حماد بن زيد، ولم أكتبه إلا من حديث سعيد الأزدي، وقال ابن أبي حاتم3: سعيد الأزدي، عن أبي أمامة الباهلي ... ". وقال المنذري: "هكذا قال: الأزدي، ووقع في روايتنا: الأودي، وهو في معنى المجهول".

فإن كان هو الأزدي: فقد بَيَّضَ له ابن أبي حاتم، وإن كان الأودي: فإنه أيضاً لا يُعْرَف، ولذلك قال الهيثمي رحمه الله - ووقع عنده: الأودي -: "رواه الطبراني في الكبير، وف إسناده جماعة لم أعرفهم"4.

وأورده الشيخ الألباني في (السلسلة الضعيفة) 5 من طريق آخر، فقال: "أخرجه القاضي الخُلعي في الفوائد (55/2) عن: أبي الدرداء هاشم بن محمد الأنصاري، ثنا عتبة بن السكن، عن أبي زكريا، عن جابر بن سعيد الأزدي، قال: دخلت على أبي أمامة وهو في النَّزْع ... " الحديث.

فهذا قولٌ ثالت في اسم الراوي عن أبي أمامة، وأخشى أن يكون

__________

1 انظر: التلخيص الحبير: (2/136) .

2 ج 4 (ق 50/ب) .

3 انظر: الجرح والتعديل: (2/1/76) .

4 مجمع الزوائد: (3/45) .

5 ح (599) .

(2/531)

حصل تصحيف في إسناد الخُلعي هذا، ويكون صوابه: جابر عن سعيد الأزدي، فيكون هو نفسه "سعيد الأزدي" المذكور سابقاً؟ فالله أعلم.

قال الشيخ الألباني عقب سياقه هذا الإسناد: "وهذا إسناد ضعيف جداً، لم أعرف أحداً منهم غير عتبة بن السكن، قال الدارقطني: متروكُ الحديث. وقال البيهقي: واهٍ، منسوب إلى الوضع. ثم أورد كلام الهيثمي السالف وقال: فاختلف في اسم الراوي عن أبي أمامة ... ".

وقد ضَعَّفَ هذا الحديث جماعة من الأئمة: فتقدم قول أبي نعيم الحداد أنه حديث غريب. وقال ابن الصلاح وقد سئل عنه: "ليس إسناده بالقائم"1. وقال النووي: "إسناده ضعيف"2. وقال الحافظ العراقيُّ في تخريج الإحياء3:" ... الطبراني هكذا بإسناد ضعيف". ونقل ابن علان في شرح الأذكار4 عن ابن حجر أنه قال: "حديث غريب، وسند الحديث من الطريقين ضعيف جداً". وقال رحمه الله في فتح الباري5:"سنده ضعيفٌ جداً". وقال الصَنْعَانِي: "ويَتَحَصَّل من كلام أئمة التحقيق: أنه حديث ضعيفٌ، والعملُ به بدعةٌ، ولا يُغْتَرُّ بكثرة من يفعله"6. وقال الشيخ الألباني: "وجملة القول: أن الحديث منكرٌ عندي، إن لم يكن موضوعاً"7.

__________

1 الأذكار للنووي: (ص138) .

2 المجموع: (5/257) .

(4/420) .

(4/196) .

(10/563) .

6 سبل السلام: (2/157) .

7 السلسلة الضعيفة: (2/65) .

(2/532)

ومع ذلك فقد حاول جماعة تقوية هذا الحديث، فقال ابن الملقن: "إسناده لا أعلم به بأساً"1. ثم ذكر له جملة من الشواهد "يعتضد بها" - ولم أر في واحدٍ منها ما يصلح شاهداً لهذا الحديث، وسأشير إلى شيء منها- وقال الحافظ ابن حجر: "إسناده صالح، وقد قَوَّاهُ الضياء في أحكامه ... "2 ولا أدري ما هذا من الحافظ رحمه الله؟ فقد نقلنا قبل قليل تضعيفه إياه في تخريجه لأذكار النووي، فلعله هنا تبع صاحب الأصل (البدر المنير) فنقل تصحيحه إسناده دون أن يتعقبه؟ فالله أعلم.

وأما ابن الصلاح رحمه الله، فإنه مع تضعيفه إياه قال: "ولكن اعتضد بشواهد، وبعمل أهل الشام به قديماً"3. وقال النووي: "فهذا وإن كان ضعيفاً فيستأنس به، وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم على المسامحة في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب، وقد اعتضد بشواهد من الأحاديث ... "4. فذكر بعضها.

أما عن الشواهد التي ذكروها لهذا الحديث:

- فمنها: حديث " ... واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يُسأل".

- ومنها: حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه قال: "إذا دفنتموني أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم،

__________

1 البدر المنير: ج 4 (ق50/ب) .

2 التلخيص الحبير: (2/135 - 136) .

3 الأذكار للنووي: (ص138) .

4 المجموع: (5/257 - 258) .

(2/533)

وأعلم ماذا أراجع رسل ربي". أخرجه مسلم في (صحيحه) 1.

- ومنها: ما رواه سعيد بن منصور من طريق: راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب وغيرهما، قالوا: "إذا سُوِّي على الميت قبره وانصرف الناس عنه، كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره: يا فلان قل: لا إله إلا الله، قل: أشهد أن لا إله إلا الله. ثلاث مرات، قل: ربي الله، وديني الإسلام، ونَبِيِّ محمد، ثُمَّ يَنْصَرِف"2. إلى غير ذلك من الشواهد التي ساقوها.

وهذه الشواهد كما نرى كلها موقوفات، والمرفوع منها ليس فيه سوى الدعاء للميت بالتثبيت والمغفرة، وهذا لا علاقة له بالتلقين المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامة، قال الشيخ الألباني: "واعلم أنه ليس للحديث ما يَشْهَدُ له، وكلُّ ما ذكره البعض إنما هو أثرٌ موقوفٌ على بعض التابعين الشاميين، لا يصلح شاهداً للمرفوع، بل هو يُعِلُّه، وينزل به من الرفع إلى الوقف ... على أنه شاهد قاصر"3. يشير إلى أثر سعيد بن منصور السابق.

قلت: فإذا كان هذا هو حال هذا الأثر، الذي هو أقرب ما يكون إلى حديث أبي أمامة، فكيف ببقية هذه الشواهد التي لا صلة لها بلفظ الحديث؟

__________

(1/112) ح 192 (121) وهو جزء من حديث طويل.

2 التلخيص الحبير: (2/136) .

3 السلسلة الضعيفة: (2/65) .

(2/534)

وأما قول النوويِّ: إن ذلك من فضائل الأعمال التي يُتَسَامَحُ فيها: فإنه مردود، قال الشيخ الألباني: "ولا يرد هنا ما اشتهر من القول بالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؛ فإن هذا محله فيما ثبت مشروعيته بالكتاب أو السنة الصحيحة، وأما ما ليس كذلك فلا يجوز العمل فيه بالحديث الضعيف؛ لأنه تشريع، ولا يجوز ذلك بالحديث الضعيف، لأنه لا يفيد إلا الظن المرجوح اتفاقاً، فكيف يجوز العمل بمثله"1.

وأما الذين قَوَّوه بعمل الناس إلى يومنا هذا، كقول ابن الصلاح: "ولكن اعتضد بشواهد، وبعمل أهل الشام قديماً": فلا شكَّ أن العمل الذي يُعَوَّلَ عليه، ويُجعل الحديث بمقتضاه مقبولاً، هو عمل العلماء، وليس عمل كل أحد. ثم إنَّ أهل الشام وحدهم لا يمثلون الأمة كلها - أو علماء الأمة - حَتَّى يُجعل عملهم حجةً على الأمة. هذا بالإضافة إلى شِدَّة ضعفِ هذا الحديث، وجهالة رواته، وإنكار أكثر العلماء له، حتى قال الشيخ الألباني: "منكر ... إن لم يكن موضوعاً". وكم من حديث ضعيف لا يثبت قد عمل به عاملون، فهل يلزم من هذا أن تُتَّخَذَ البدع ديناً بحجة أن الناس يعملونها؟؟ كلاَّ، ففيما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم كفايةٌ.

ثم إن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد قال نحواً من ذلك!! فإنه وإن ضَعَّفَ الحديث كما مضى، إلا أنه قال في كتابه (الروح) 2: "فهذا الحديث وإن لم يثبت، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار: كافٍ في العمل به ... "!

__________

1 السلسلة الضعيفة: (2/65) .

(ص 16) .

(2/535)

كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، مع أنه يَنْفِي أن يكون ذلك من هَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول في (زاد المعاد) 1: "ولم يكن - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - يجلس عند القبر، ولا يُلَقِّنُ الميت كما يفعله الناس اليوم". مع ما تقدم من تضعيفه لهذا الحديث، فلعله كان يقول به أولاً ثم رجع عنه، فالله أعلم.

فالخير كل الخير في اتِّبَاع هَدْيِه صلى الله عليه وسلم في الفِعْلِ والتَّرْكِ، وما أحسن ما قال الصنعاني رحمه الله: "ويَتَحَصَّل من كلام أئمة التحقيق: أنه حديث ضعيف، والعملُ به بدعة، ولا يُغْتَرُّ بكثرة من يفعله"2. والله أعلم.

__________

(1/522) .

2 سبل السلام: (2/157) .

(2/536)

من كتاااااب النكاااااح

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

9- من كتاب النكاح

1- باب في البكر لا تزوج إلا برضاها

72- (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ جَاريةً بِكْرَاً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وِهِي كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النبي صلى الله عليه وسلم".

أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث مستدلاً به على أن البكر البالغ لا تجبر على النكاح، ولا تُزَوَّج إلا برضاها.

وقد ردَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - على من أَعَلَّ هذا الحديث بالإرسال، فقال: "وليس رواية هذا الحديث مرسلة بعِلَّةٍ فيه؛ فإنه قد رُوِيَ مسنداً ومرسلاً، فإن قلنا بقول الفقهاء: إن الاتصال زيادة، ومن وصله مُقَدَّمٌ على من أرسله: فظاهر، وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث، فما بال هذا خرج عن حكم أمثاله؟

وإِنْ حَكَمْنَا بالإرسال - كقول كثير من الْمُحَدِّثِين - فهذا مرسل قويٌّ قد عَضَّدَتْهُ الآثار الصحيحة الصريحة، والقياس، وقواعد الشرع ... فَيَتَعَيَّنُ القول به"1.

وفد فَصَّلَ القول فيه بأكثر من ذلك في (تهذيب السنن) 2، وسيأتي ذكر كلامه في ذلك إن شاء الله.

__________

1 زاد المعاد: (5/96 - 97) .

(3/40 - 42) .

(2/539)

والحديث المذكور أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه في (سننهم) 1، وأحمد في (مسنده) 2، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3، كُلُّهم من طريق:

حسين بن محمد4، عن جرير بن حازم، عن أيوب5، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما به، باللفظ الذي تَقَدَّمَ. وفي رواية للدارقطني: "أَنَّ جَارِيَةً بِكْرَاً أَنْكَحَهَا أبوهَا وهي كارهة، فَخَيَّرَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وقد خُولِفَ جرير بن حازم في إسناد هذا الحديث، خالفه: حماد ابن زيد، وابن علية، فروياه عن: أيوب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.

أخرج حديث حماد: أبو داود في (سننه) 6 - ومن طريقه البيهقي7-:

__________

1 د: (2/576) ك النكاح، باب في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها. س: في الكبرى: (5/176) ح 5366 ك النكاح. جه: (1/603) ح 1875 ك النكاح، باب من زَوَّجَ ابنته وهي كارهة.

(1/273) .

3 قط: (3/234) ح 56. هق: (7/117) .

4 ابن بهرام، التميمي، أبو أحمد - أو أبو عليُّ - المَرُّوذي، نزيل بغداد، ثقةٌ، من التاسعة، مات سنة 213هـ / ع. (التقريب 168) .

5 هو السختياني.

(2/577) ح 2097.

(7/117) .

(2/540)

حدثنا محمد بن عبيد1، حدثنا حماد بن زيد به.

وأما رواية ابن علية: فقد أشار إليها أبو حاتم2 رحمه الله.

وقد رَجَّحَ الأئمة رواية الإرسال، وحكموا على الرواية المتصلة بالخطأ، فسأل ابن أبي حاتم أباه عنه؟ فقال: "هذا خطأ، إنما هو كما رواه الثقات: عن أيوب، عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلٌ - منهم: ابن عُلَيَّة، وحماد بن زيد - أن رجلاً تزوج، وهو الصحيح. قلت: الوَهْمُ ممن هو؟ قال: من حسين ينبغي أن يكون، فإنه لم يرو عن جرير غيره"3. وقال أبو زرعة: "حديث أيوب ليس هو بصحيح"4.

وكأنَّ أبا داود - رحمه الله - يُرَجِّحُ إرساله أيضاً؛ فإنه بعد أن أخرج الموصول، أعقبه الرواية المرسلة من طريق حماد، ثم قال: "وكذلك رواه الناس: مرسلاً، معروف". وقال البيهقي: "أخطأ فيه جرير بن حازم على أيوب السختياني، والمحفوظ: عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً".

لكن هل يُسَلَّمُ الحكم للمرسل، وتكون بذلك الرواية الْمُتَّصِلَةُ معلولة؟ نَازَعَ في ذلك جماعة - منهم ابن القَيِّم رحمه الله، كما تقدم - فحكموا بصحة رواية من وصله، وسيأتي كلامهم.

__________

1 ابن حَسَّاب، الغبري، البصري، ثقةٌ، من العاشرة، مات سنة 238هـ / م د س. (التقريب 495) .

2 علل ابن أبي حاتم: (1/417) .

3 المصدر السابق.

4 المصدر السابق.

(2/541)

وكان من جواب ابن القَيِّم - رحمه الله - على هذا القول - وبخاصة مقالة البيهقي - أن قال: "وعلى طريقة البيهقي، وأكثر الفقهاء، وجميع أهل الأصول: هذا حديث صحيح؛ لأن جرير بن حازم ثقة ثبت، وقد وَصَلَهُ، وهم يقولون: زيادة الثقة مقبولة. فما بالها تُقْبَلُ في موضع - بل في أكثر المواضع التي توافقُ مذهب المقلد - وَتُرَدُّ في موضع يخالفه؟! وقد قَبلُوا زيادة الثقة في أكثر من مائتين من الأحاديث: رفعاً ووصلاً، وزيادة لفظ ونحوه".

قال: "هذا لو انفرد به جرير، فكيف وقد تابعه على رفعه عن أيوب: زيد بن حبان، ذكره ابن ماجه في سننه"1.

قلت: أما متابعة زيد بن حبان2 هذه: فقد أخرجها النسائي، وابن ماجه في (سننيهما) 3، كلاهما من طريق: مُعَمَّر بن سليمان الرَّقِي4، عن زيد بن حبان به، وقد أشار إلى هذه الرواية: الدارقطني - رحمه الله - في (سننه) 5.

__________

1 تهذيب السنن: (3/40) .

2 الرَّقِي، كوفي الأصل، مولى ربيعة، صدوق كثير الخطأ، وتَغَيَّر بآخره، من السابعة، مات سنة 158 هـ / س ق. (التقريب 222) .

3 س: في الكبرى: (5/177) ح 5367. جه: (1/603) ح 1875 مكرر.

4 أبو عبد الله، ثقة فاضل، أخطأ الأزدي في تليينه، وأخطأ من زعم أن البخاري أخرج له، من التاسعة، مات سنة 191هـ / ت س ق. (التقريب 541) .

(3/235) ح 57.

(2/542)

وزيد بن حبان هذا: قد اختلف الأئمة فيه، فقال الإمام أحمد: "تركنا حديثه"1. وقال ابن معين: "لا شيء"2. ومرة قال: "ثقة"3. وقال أبو حاتم: "تركنا حديثه"4. وضعفه الدارقطني5. وقال ابن عدي: "لا أرى برواياته بأساً، يحمل بعضها بعضهاً"6. وقال ابن حبان: "كان ممن يخطئ كثيراً، حتى خرج عن حدِّ الاحتجاج به إذا انفرد"7. ومع ذلك فقد ذكره في (الثقات) ! 8.

وإضافة إلى ذلك، فإنه قد تَغَيَّرَ بآخره، لكنَّ معمراً الرقي - راوي هذا الحديث عنه - قال: "حدثنا زيد بن حبان قبل أن يفسد"9.

وعلى كل حال، فإن الذي يظهر: ترجيح جانب الجرح في حقه، وقد أورد ابن حبان هذا الحديث في ترجمته من (المجروحين) ، بعد أن حكم بعدم قبول ما انفرد به.

وقد رُوِيَ هذا الحديث عن زيد بن حبان، عن أيوب على وجه آخر، فأخرجه الدارقطني في (سننه) 10 من طريق: معمر بن سليمان

__________

1 تهذيب التهذيب: (3/405) .

2 الجرح والتعديل: (1/2/561) .

3 عزاه في الميزان: (2/101) ، والتهذيب: (3/405) لرواية الدارمي عن، يحيى، ولم أجده فيه.

4 الجرح والتعديل: (1/2/561) .

5 تهذيب التهذيب: (3/405) .

6 الكامل: (3/205) .

7 المجروحين: (1/311) .

(6/317) .

9 الجرح والتعديل: (1/2/561) .

10 (3/235) ح 57.

(2/543)

الرقي، عن زيد بن حبان، عن أيوب، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة قال: "أَنْكَحَ رَجُلٌ من بني المنذر ابنته وهي كارهة، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فردَّ نكاحها". فجعل فيه "يحيى بن أبي كثير" مكان "عكرمة"، و"وأبا سلمة" مكان "ابن عباس". وليس فيه أن المرأة كانت بكراً. فَيُخْشَى أن يكون هذا من الاضطراب في حديث حبان، وإذا كان كذلك، فإنه لا يصلح متابعاً لجرير بن حازم في هذا الحديث؛ لأنه - مع كونه كثير الخطأ - قد يكون اضطرب فيه، فالله أعلم.

وثمة متابعة أخرى لجرير بن حازم، إذ تابعه الثوري عن أيوب، أخرج ذلك الدارقطني في (سننه) 1، من طريق: أيوب بن سويد2، عن سفيان الثوري، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رجلاً زَوَّجَ ابنته وهي كارهة، ففرق بينهما".

وأيوب بن سويد: ضَعَّفَه الجمهور3، وتكلموا في حفظه، ومع ضعفه: فقد خولف - أيضاً - في هذا الحديث، قال الدارقطني: "وغيره يرسله عن الثوري، عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح مرسل"4.

وقد رُوِيَ عن الثوري من وجه آخر موصولاً، ولا يصحُّ أيضاً؛

__________

(3/235) ح 58.

2 الرملي، أبو مسعود الحِمْيَرِي، السَّيباني، صدوق يخطئ، من التاسعة، مات سنة 293هـ / د ت ق. (التقريب 118) .

3 انظر: تهذيب التهذيب: (1/405 - 406) .

4 سنن الدارقطني: (3/235) .

(2/544)

فأخرجه الدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 1 من طريق: عبد الملك بن عبد الرحمن2 الذماري، عن الثوري، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ نكاح بكرٍ وثيبٍ، أنكحهما أبوهما وهما كارهتان، فردَّ النبي صلى الله عليه وسلم نكاحهما".

قال الدارقطني عقبه: "هذا وهمٌ من الذماري، وتَفَرَّدَ بهذا الإسناد، والصواب: عن يحيى بن أبي كثير، عن المهاجر، عن عكرمة مرسلٌ، وَهِمَ فيه الذماري عن الثوري، وليس بقويٍّ". ثم ساقه بإسناده إلى محمد بن كثير3، عن سفيان، عن هشام الدستوائي، عن يحيى، عن المهاجر، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء4.

قال البيهقي في (سننه) 5 - بعد نقله كلام الدارقطني -: "هو في جامع الثوري: عن الثوري - كما ذكره أبو الحسن الدارقطني رحمه الله - مرسلاً، وكذلك رواه عامة أصحابه عنه، وكذلك رواه غير الثوري عن هشام".

__________

1 قط: (3/234) ح 53. هق: (7/117) .

2 ابن هشام، أبو هشام الذَّماري، الأبْنَاوي، صدوقٌ كان يُصَحِّفُ، من التاسعة/د س. (التقريب 363) .

3 العبدي، البصري، ثقة لم يُصِبْ من ضَعَّفَهُ، من كبار العاشرة، مات سنة 223هـ/ع. (التقريب 504) .

4 سنن الدارقطني: (3/234) ح 55.

(7/117) .

(2/545)

قلت: فهذا محمد بن كثير العبدي - وهو ثقة - قد خالف الذماري عن سفيان، فجاء به مرسلاً، وهكذا يرويه أصحاب الثوري عنه، كما قال البيهقي رحمه الله - والدارقطني قبله - وإذا كان كذلك: فإن رواية الثوري هذه لا تَصْلُحُ لمتابعة رواية جرير بن حازم أيضاً؛ إذ إن الصواب عن الثوري فيها: مرسلٌ، فتوافق رواية الجماعة الذين جاءوا به عن أيوب، عن عكرمة مرسلاً.

وأما ما تقدم في كلام أبي حاتم - رحمه الله - من أن الوهم فيه من حسين بن محمد: فقد رَدَّهُ الخطيب البغدادي رحمه الله، فنقل عنه ابن عبد الهادي قوله:"قد رواه سليمان بن حرب، عن جرير بن حازم -أيضاً- كما رواه حسين، فبرئت عهدته، وزالت تبعته"1. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا يمتنع أن يكون الوهم فيه من جرير بن حازم، وأن يكون قد أخطأ فيه، كما تقدم في كلام البيهقي رحمه الله.

فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث لا يصحُّ متصلاً، وأن إرساله هو الصواب، كما قال: أبو داود، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والدارقطني، والبيهقي رحمهم الله تعالى.

وقد ذهب بعض الأئمة إلى صحة الحديث، فقال ابن القطان: "حديث صحيح"2. وذهب ابن التركماني إلى أن وصله زيادة من ثقة، فلا يضرُّ إرسال من أرسله، هذا مع المتابعات التي وُجِدَتْ له3. وقال

__________

1 نصب الراية: (3/190) .

2 المصدر السابق.

3 الجوهر النقي: (7/117) .

(2/546)

الحافظ ابن حجر: "رجاله ثقات ... وأما الطَّعْنُ في الحديث فلا معنى له؛ فإن طرقه يُقَوِّي بعضها بعضاً"1. وقال في (عون المعبود) 2: "الحديث قويٌّ حسنٌ".

وقد ذهب البيهقي رحمه الله - على فرض صحة الحديث - إلى تأويله، فقال: "وإن صحَّ ذلك، فكأنه كان وَضَعَهَا في غير كفوٍ، فَخَيَّرَهَ النبي صلى الله عليه وسلم"3. وأَيَّدَه ابن حجر، فقال: "وهذا الجواب هو المعتمد، فإنها واقعة عين، فلا يثبت الحكم فيها تعميماً"4.

لكن ردَّ الصنعاني هذا التأويل، فقال: "كلام هذين الإمامين محاماة عن كلام الشافعي ومذهبهم، وإلا فتأويل البيهقي لا دليل عليه، فلو كان كما قال لذكرته المرأة ... وقول المصنف - يعني ابن حجر - إنها واقعة عين: كلام غير صحيح، بل حُكْمٌ عامٌ لعموم عِلَّتِه، فأينما وُجِدت الكراهية ثبت الحكم"5. وقال صاحب (عون المعبود) 6: "ما قاله البيهقي هو تأويل فاسد".

وإذ قد آل الأمر إلى ثبوت المرسل في ذلك دون سواه، فإنه كما قال ابن القَيِّم رحمه الله:" ... مرسلٌ قويٌّ، قد عضدته الآثار

__________

1 فتح الباري: (9/196) ، وانظر: التلخيص الحبير: (3/161) .

(6/223) .

3 سنن البيهقي: (7/118) .

4 فتح الباري: (9/196) .

5 سبل السلام: (3/160) .

(6/223) .

(2/547)

الصحيحة الصريحة، والقياس، وقواعد الشَّرْع ... فيتعين القول به"1.

ثم أخذ - رحمه الله - في تقرير ذلك وبيانه، وأن هذا الحُكْمَ2 موافق لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في قول: " ... والبكر تُسْتَأَذَنُ في نفسها" 3. قال رحمه الله: "وهذا أمرٌ مُؤَكَّدٌ؛ لأنه وَرَدَ بصيغة الخبر الدال على تحقق المُخْبَرِ به، وثبوته ولزومه".

قلت: وعلى هذا يُحْمَل كلام من صححه من الأئمة.

ثم بَيَّنَ أن هذا الحكم موافق - أيضاً - لنهيه صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "لا تنكحُ البكْرُ حَتَّى تُستأذن" 4. قال رحمه الله: "فأمرٌ، ونَهْيٌ، وحكمٌ بالتخيير، وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطُّرقِ"5.

ثم أخذ في تقرير كون هذا الحكم موافق لقواعد الشريعة، فأجاد وأفاد رحمه الله.

ومع هذا فإنَّ المسلك الذي سلكه ابن القَيِّم - رحمه الله - من القول بصِحَّةِ هذا الحديث متصلاً، فيه نظر؛ لضعف طرقه، ورجحان

__________

1 زاد المعاد: (5/97) .

2 وهو: تخييرُ البِكْرِ التي زَوَّجَهَا وليها وهي كارهة.

3 أخرجه مسلم في الصحيح: (2/1037) ح 1421 ك النكاح، باب استئذان الثيب ... والبكر بالسكوت.

4 أخرجه البخاري في الصحيح: ك النكاح، باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما، ح 5136، (فتح الباري: 9/191) ، ومسلم: (ح1419) .

5 زاد المعاد: (5/97) .

(2/548)

المرسل عليه، ولذا فإنَّ المصير إلى اختياره الآخر هو المتعين، وهو: الأخذُ بالمرسل بعد اعتضاده بنصوص أخرى صحيحة، وبقواعد الشريعة، والله أعلم.

(2/549)

2- باب ما جاء في العزل

73- (2) عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رجلاً قال: يا رسول الله، إِنَّ لِيَ جَارِيَة وَأَنَا أَعْزِلُ1 عَنْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أن تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرْيدُ ما يريد الرِّجَال، وإِنَّ اليهودَ تُحَدِّثُ أنَّ العَزْلَ الْمُوْؤُدَةُ الصَّغْرَى؟ قال: "كَذَبَتِ يهودُ، لو أراد اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ".

أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (زاد المعاد) 2 محتجاً به على جواز العزل، وقد ساقه بإسناد أبي داود إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ثم قال:"وَحَسْبُكَ بهذا الإسناد صحَّةً، فَكُلُّهم ثقات حُفَّاظٌ".

ثم ذكر - رحمه الله - أن بعضهم أَعَلَّهُ بالاضطراب، وأخذ في الجواب عن ذلك بما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.

قلت: هذا الحديث مداره على يحيى بن أبي كثير، واخْتُلِفَ عليه على أوجه:

الوجه الأول: أخرجه أبو داود في (سننه) 3 من طريق: أبان بن

__________

1 عَزَلَ الْمُجَاِمُع: إذا قَارَبَ من الإنزال، فَنَزَعَ وأَمْنَى خارج الفَرْجِ. (المصباح المنير 2/408) .

(5/144) .

(2/623) ح 2171. ك النكاح، باب ما جاء في العزل.

(2/550)

يزيد1. وأحمد في (مسنده) 2، والنسائي في (عشرة النساء) 3 كلاهما من طريق: هشام الدستوائي.

وأخرجاه أيضاً - أعني أحمد4 والنسائي5 - في الكتابين المذكورين: من طريق: علي بن المبارك6. وأخرجه النسائي - وحده – في (عشرة النساء) 7 - أيضاً - من طريق: أبي إسماعيل القَنَّاد8، كلهم عن: يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان9، عن رفاعة10 - وقيل: عن أبي رفاعة، وقيل: عن أبي مُطيع بن رفاعة، وقيل: عن أبي مُطيع بن عوف أحد بني رفاعة بن الحارث، وقيل: عن أبي مُطيع

__________

1 العطار البصري، أبو يزيد، ثقة له أفراد، من السابعة، مات في حدود سنة160هـ/ خ م د ت س. (التقريب 87) .

(3/51، 53) .

(ص 171) ح 194 باب العزل.

4 المسند: (3/33) .

5 عشرة النساء: (ح 195، 196) .

6 الهُنائي، ثقة، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان، أحدهما سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء، من كبار السابعة/ ع. (التقريب 404) .

(ح197) .

8 هو: إبراهيم بن عبد الملك البصري، صدوق في حفظه شيء، من السابعة/ ت س. (التقريب 91) .

9 العَامِرِي - عامر قريش - المدني، ثقة، من الثالثة/ ع. (التقريب 492) .

10 مقبول، من الثالثة/ د. (التقريب 210) .

(2/551)

فقط - عن أبي سعيد - رضي الله عنه به. واللفظ المثبت هو لفظ أبي داود، وألفاظ الباقين نحوه، وعند بعضهم: "لو أراد الله خَلْقَهُ، لم تستطعْ رَدَّهُ".

وهذا الإسناد صَحَّحَّه ابن القَيِّم كما تقدَّم، وقال عن رواته: "كلهم ثقات حفاظ". وقال الحافظ ابن حجر: "رجاله ثقات"! 1 وصَحَّحَّه الشيخ الألباني أيضاً!! 2.

وفي تصحيحهم له نظر؛ لأن رفاعة - أو أبا رفاعة - المذكور في إسناده مجهول؛ فإنه لم يرو عنه أحدٌ إلا محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، ولم أجدْ فيه توثيقاً لأحدٍ بعد البحث، وقد ذكره ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 3، فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وكذا البخاري في (التاريخ الكبير) 4، فلم يزيدوا على أن ذكروا الاختلاف الواقع في اسمه، ولذلك قال الذهبي رحمه الله: "لا يُعْرَفْ"5. وتقدم فيه قول ابن حجر: "مقبول". يعني حيث يُتابع، ولم يتابعه أحدٌ هنا، فيكون لَيِّن الحديث على هذا.

هذا فيما يتعلق بحال رفاعة، وأما ما وقع من الاختلاف في اسمه، فقال ابن القَيِّم: "ويبقى الاختلاف في اسم أبي رفاعة ... وهذا لا يَضُرُّ مع العلم بحال رفاعة"6 ولكن رَجَّحَ البخاري - رحمه الله - أنه

__________

1 بلوغ المرام مع شرحه سبل السلام: (3/191) ح 12.

2 آداب الزفاف: (ص 131) .

3 كتاب الكنى: (4/2/31) .

(4/2/31) .

5 الميزان: (4/574) ، والمغني: (2/808) .

6 زاد المعاد: (5/144) .

(2/552)

"أبو مطيع"، قال: "وهذا أصحُّ"1.

فقد تَبَيَّنَ لنا مما سبق أن جهالة رفاعة هذا تمنع من تصحيح هذا الإسناد.

وأما الوجه الثاني من وجوه اختلاف على يحيى بن أبي كثير: فأخرجه الترمذي في (جامعه) 2، والنسائي في (عشرة النساء) 3، وعبد الرزاق في (المصنف) 4، كلهم عن: معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر رضي الله عنه بنحو حديث أبي سعيد المتقدم.

قال أبو عيسى الترمذي: "حديث جابر حديث حسن صحيح، وقد رُوِيَ عنه من غير وجه". وسُئِلَ أبو حاتم - رحمه الله - عن حديث جابر هذا من رواية معمر، وعن حديث أبي سعيد المتقدم من رواية هشام الدستوائي وغيره؟ فقال: "حديث هشام الدستوائي أشبه من حديث معمر"5.

وهناك وجهٌ ثالث عن يحيى بن أبي كثير أيضاً: أخرجه النسائي في (عشرة النساء) 6 من طريق: المعتمر بن سليمان، عن أبي عامر7، عن

__________

1 التاريخ الكبير (كتاب الكنى) : (4/2/31) .

(3/433) ح 1136. ك النكاح، باب ما جاء في العزل.

(ح193) .

(7/140) ح 12550.

5 علل ابن أبي حاتم: (1/437) ح 1314.

(ح 198) .

7 هو: صالح بن رستم المُزَني مولاهم، الخَزَّاز، البصري، صدوقٌ كثيرُ الخطأِ، من السادسة، مات سنة 152هـ / خت م 4. (التقريب 272) .

(2/553)

يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن اليهود تقول: إن العزل هو الموؤدة الصغرى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبتْ يهود، لو أردَ الله خَلْقَهَا، لَمْ تستطعْ عزلها".

وأبو عامر المذكور في إسناد هذا الحديث تَكَلَّمَ فيه جماعةٌ، وَوَثقَهُ آخرون1، لكن تابعه في شيخ شيخه: أبو بدر شجاع بن الوليد2، فرواه عن: محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مختصراً، أخرجه البيهقي في (سننه) 3.

وهذا الإسناد لا بأس به في المتابعات، وقد حَسَّنَهُ الشيخ الألباني4 رحمه الله.

وقد أعلَّ بعضهم هذا الحديث بالاضطراب، كما أشار إلى ذلك ابن القَيِّم رحمه الله، ولعل المقصود هو المنذري رحمه الله، فإنه قال: "اختلف على يحيى بن أبي كثير فيه: فقيل فيه: عنه، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر بن عبد الله ... ، وقيل فيه: عن رفاعة ... ، وقيل: عن أبي مطيع به رفاعة، وقيل فيه: عن أبي رفاعة"5.

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وهذا لا يَقْدَحُ في الحديث؛ فإنه

__________

1 انظر: تهذيب التهذيب: (4/391) .

2 ابن قيس السَّكُوني، الكوفي، صدوق وَرِعٌ له أوهامٌ، من التاسعة، مات سنة 204هـ/ ع. (التقريب 264) .

(7/230) .

4 آداب الزفاف: (ص131) .

5 مختصر السنن: (3/86) .

(2/554)

يكون عند يحيى: عن محمد بن عبد الرحمن عن جابر. وعنده: عن ابن ثوبان، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - كذا قال ابن القَيِّم - وعنده: عن ابن ثوبان عن رفاعة، عن أبي سعيد، ويبقى الاختلاف في اسم أبي رفاعة ... "1.

والذي يظهر - والله أعلم - رجحان ما ذهب إليه أبو حاتم من تقديم رواية هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير بسنده إلى أبي سعيد؛ فقد تابع هشاماً على هذه الرواية ثلاثة، وخالفهم جميعاً معمر فجعله عن جابر. ولكن يبقى هذا الإسناد معلولاً بجهالة رفاعة كما تقدم.

وكأنَّ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - مال إلى اختيار أبي حاتم، فإنه أجاب عن القائلين باضطرابه قائلاً: "وَرُدَّ بأن الاختلاف إنما يقدح حيث لا يقوى بعض الوجوه، فمتى قَوِيَ بعضها عُمِلَ به، وهو هنا كذلك"2.

فيكون الاعتماد إذن على حديث أبي سعيد هذا، وما فيه من ضَعْفٍ في إسناده: فإنه يَتَقَوَّى بحديث أبي هريرة السالف - وهو الوجه الثالث من وجوه رواية الحديث عن يحيى بن أبي كثير -، فهو شاهدٌ قويٌّ له، وقد تقدم أن إسناده حسنٌ. ويتقوى كذلك بسائر الأحاديث الواردة في جواز العزل، وعدم النهي عنه.

__________

1 زاد المعاد: (5/144) .

2 فتح الباري: (9/309) .

(2/555)

فَيَتَلَخَّصُ من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يُصبْ في تصحيحه إسناد حديث أبي سعيد، لِمَا تََقَدَّمَ، وما ذهب إليه من التوفيق والجمع بين الروايات المختلفة عن يحيى بن أبي كثير فيه نظرٌ؛ إذ تبين رُجْحَانُ رواية أبي سعيد على غيرها، والله أعلم.

(2/556)

المحلد الثالث

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

المجلد الثالث

الباب الثالث: دراسة جملة من الأحاديث المختارة مما تكلم عليه ابن القيم

من كتاب الطلاق

1 ـ باب ما جاء في المحلل والمحلل له

...

10- من كتاب الطلاق

1 - باب ما جاء في المحلّل والمحلّل له

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله – حديث لعن الْمُحَلِّلَ والْمُحَلَّلَ لَهُ عن جماعة من الصحابة، منهم:

74 - (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَعَنَ الله الْمُحَلِّلَ والْمُحَلَّلَ لَهُ".

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "رواه الإمام أحمد بإسناد رجاله كلهم ثقات"1. وقال مرة: "إسناده حسن"2. ومرة قال: "إسناد جيد"3ونقل عن البخاري أنه حكم بحُسْنِهِ.

قلت: هذا الحديث أخرجه أحمد في (مسنده) 4، وابن أبي شيبة في (مصنفه) 5، وابن الجارود في (المنتقى) 6، والبيهقي في (سننه) 7، والترمذي في (العلل) 8، كلهم من طريق:

__________

1 إغاثة اللهفان: (1/270) .

2 زاد المعاد: (5/109) .

3 إعلاء الموقعين: (3/44) .

(2/323) .

(4/296) ك النكاح، باب الرجل يطلق امرأته، فيتزوجها رجل ليحلها له.

(ح 684) .

(7/208) .

(1/437) ، باب ما جاء في الْمُحَلِّلَ والْمُحَلَّلَ لَهُ.

(3/7)

عبد الله بن جعفر1، عن عثمان بن محمد2، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه به. وقد وقع عند أحمد والترمذي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لَعَنَ"، أما ابن الجارود والبيهقي فعندهما: "لعن الله ... ".

قال الترمذي: "سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث؟ فقال: هو حديث حسنٌ، وعبد الله بن جعفر المخرمي صدوق ثقةٌ، وعثمان بن محمد الأخنس ثقة"3. وقال الزيلعي: "عبد الله بن جعفر: وَثَّقَهُ أحمد، وابن المديني، وابن معين، وغيرهم، وأخرج له مسلم في صحيحه. وعثمان بن محمد الأخنس: وثقه ابن معين، وسعيد المقبري: متفق عليه، فالحديث صحيح"4. وقال الحافظ ابن حجر: "رجاله مُوَثَّقُون"5.

وقد نقل ابن القَيِّم عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: "إسناد جيد"6.

قلت: وعثمان بن الأخنس هذا وثقه أيضاً: ابن حبان7، لكن قال

__________

1 ابن عبد الرحمن بن المِسْوَر بن مخرمة، أبو محمد المدني، الْمَخْرَمِي، ليس به بأسٌ، من الثامنة، مات سنة 170هـ/ خت م 4. (التقريب 298) .

2 هو: الثقفي الأخنسي.

3 علل الترمذي: (1/437) .

4 نصب الراية: (3/240) .

5 الدراية: (2/73) ح 577.

6 إعلام الموقعين: (3/45) .

7 الثقات: (7/203) .

(3/8)

عليُّ بن المديني: "روى عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أحاديث مناكير"1. وليس هذا من روايته عن ابن المسيب، وقد تَقَدَّمَ توثيق ابن معين، والبخاري له، فحديثه صالح إن شاء الله.

وأما قول ابن حبان: "يُعتبر حديثه من غير رواية المخرمي عنه؛ لأنًَّ المخرمي ليس بشيء في الحديث"2: فإنه قول عجيب، فإن عبد الله ابن جعفر المخرمي وَثَّقَهُ جماعةٌ وأثنوا عليه، منهم: أحمد، والنسائي، وأبو حاتم، وابن معين، وابن المديني، والعجلي، وابن خراش، والترمذي، والبرقي، والحاكم، مع ما تقدم من توثيق البخاري - رحمه الله - له. وانفرد ابن حبان بمقالته هذه، وزاد فقال: "كان كثير الوَهْمِ في الأخبار، حتى يروي عن الثقات ما لا يُشْبِه حديث الأثبات ... "3. كذا قال رحمه الله! ولذلك قال ابن حجر مُعَقِّباً على مقالته هذه: "وكأنه أراد غيره فالتبس عليه"4.

فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث حسنٌ على أقل أحواله، وأن إسناده جَيِّدٌ لا غبار عليه، كما حكم بذلك ابن القَيِّم رحمه الله.

وقد رُوِيَ هذا الحديث على وجه آخر، ذكره ابن أبي حاتم في

__________

1 تهذيب التهذيب: (7/152) .

2 الثقات: (7/203) .

3 المجروحين: (2/27) .

4 تهذيب التهذيب: (5/173) .

(3/9)

(علله) 1من طريق: مروان الطَّاطري، عن عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن سعيد المقبري به، قال أبو حاتم: "إنما هو: عبد الله بن جعفر، عن عثمان الأخنسي". يعني الإسناد الماضي.

ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - حديثاً آخر:

75 - (2) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا أُخْبِرُكُم بالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "هُو الْمُحَلِّلَ. لعن الله الْمُحَلِّلَ والْمُحَلَّلَ لَهُ".

ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - أن هذا الحديث أُعِلَّ بثلاث عللٍ، وهي:

1- ضَعْفُ مِشْرَح بن هاعان، ضَعَّفَهُ ابن حبان.

2- عدمُ سماع اللَّيْثِ بن سعد هذا الحديث من مِشْرَح بن هاعان.

3- إنكارهم هذا الحديث على عثمان بن صالح، راويه عن الليث بن سعد.

ثم أخذ ابن القَيِّم - رحمه الله - في الجواب عن هذه العلل واحدةً واحدةً، حتى أتى عليها2.

وقال مرة: "رواه ابن ماجه بإسناد رجاله كُلُّهم موثوقون، لم يُجْرَح واحدٌ منهم"3.

__________

(1/413) ح 1237.

2 إعلام الموقعين: (3/45 - 46) .

3 إغاثة اللهفان: (1/270) .

(3/10)

وهناك علة رابعة أُعِلَّ بها حديث عقبة هذا، ولم يذكرها ابن القَيِّم رحمه الله، وسيأتي التنبيه عليها إن شاء الله.

قلت: هذا الحديث أخرجه: ابن ماجه في (سننه) 1، والحاكم في (المستدرك) 2، والبيهقي في (سننه) 3، من طريق: عثمان بن صالح4.

وأخرجه: الطبراني في (معجمه الكبير) 5، والدارقطني في (سننه) 6، والحاكم في (المستدرك) 7 - وعنه البيهقي8- من طريق: أبي صالح9كاتب الليث، كلاهما عن:

الليث بن سعد، عن مشرح بن هاعان10، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعاً باللفظ المتقدم.

__________

(1/623) ح 1936 ك النكاح، باب المحلل والمحلل له.

(2/198) .

(7/208) .

4 ابن صفوان السَّهْمي مولاهم، أبو يحيى المصري، صدوق، من كبار العاشرة، وقد ثَبَتَ عنه أنه قال: رأيت صحابياً من الجِنِّ، مات سنة 219هـ/ خ س ق. (التقريب 384) .

(17/299) ح 825.

(3/251) ح 28.

(2/199) .

8 السنن: (7/208) .

9 هو: عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني، أبو صالح المصري، صدوقٌ كثيرُ الغلط، ثَبْتٌ في كتابه، وكانت فيه غَفْلَةٌ، من العاشرة، مات سنة 222هـ / خت د ت ق. (التقريب 308) .

10 المعافري، المصري، أبو مصعب، مقبولٌ، من الرابعة، مات سنة 128هـ / عخ د ت ق. (التقريب 532) .

(3/11)

وإلى مناقشة العلل التي أُعلَّ بها هذا الحديث:

أما ضَعْفُ مِشْرَح بن هاعان: فقد أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك بقوله:

"قال محمد بن عبد الواحد المقدسي: مشرح قد وَثَّقَهُ يحيى بن معين ... وابن معين أعلم بالرِّجَال من ابن حبان". ثم قال: "وهو صدوق عند الحفاظ، لم يتهمه أحدٌ ألبتة، ولا أَطْلَقَ عليه أحدٌ من أهل الحديث - قطُّ - أنه ضعيفٌ، ولا ضَعَّفَهُ ابن حبان، وإنما قال: يَروي عن عقبة بن عامر مناكير لا يتابعُ عليها، فالصَّواب ترك ما انفردَ به1. وانفرد ابن حبان من بين أهل الحديث بهذا القول فيه"2.

قلت: وإضافة إلى توثيق ابن معين3له: فقد وَثَّقَهُ العجلي، فقال: "مصري تابعي ثقة"4. وقال الإمام أحمد: "معروف"5ولم يزد. وقال ابن عديّ: "لا بأس به"6. وقال عثمان الدارمي: "صدوق"7. وَوَثَّقَهُ ابن القطان8. وقال الذهبي: "ثقة"9. ومرة قال: "صدوق"10. وَوَثَّقَهُ

__________

1 المجروحين: (3/28) .

2 إعلام الموقعين: (3/45) .

3 تاريخ الدارمي عن يحيى: (ص204) رقم 755.

4 تاريخ الثقات: (ص429) .

5 الجرح والتعديل: (4/1/431 - 432) .

6 الكامل: (6/470) .

7 تاريخ الدارمي عن يحيى: (ص 204) رقم 755.

8 بيان الوهم والإيهام: (3/504) .

9 الكاشف: (3/129) .

10 الميزان: (4/117) .، والمغني: (2/659) .

(3/12)

الحافظ ابن حجر1رحمه الله. وقال الشيخ الألباني: "والمتقرر فيه: أنه حسن الحديث"2.

وقد تَكَلَّمَ فيه: عثمان الدارمي، فقال - عقب نقله توثيق ابن معين له -: "ومشرح ليس بذاك"3. وقد سبق قوله فيه: "صدوق".

فظهر بذلك أنَّ مِشْرحاً هذا لم يضعفه أحدٌ من أهل الشأن، بل الأمر على خلاف ذلك، وانفراد ابن حبان بالكلام فيه لا يوهنه، بل هو صدوق عند الأكثرين، نعم: ليس هو في الدرجة العليا من التوثيق، ومع ذلك فإن حديثه لا يقلُّ عن درجة الحسن، كما قَرَّرَهُ الشيخ الألباني.

وأما العلة الثانية: وهي عدم سماع الليث هذا الحديث من مشرح: فقد أعله بذلك البخاري، ويحيى بن عبد الله بن بكير. أما كلام البخاري فقد نقله ابن القَيِّم، وهو في (علل الترمذي) 4، إذا سأله عنه الترمذي؟، فقال: "عبد الله بن صالح - أحدُ رواته عن الليث - لم يكن أخرجه في أيامنا، ما أرى الليث سمعه من مشرح بن هاعان؛ لأن حيوة روى عن: بكر بن عمرو، عن مشرح". وأما ابن بكير، فإنه لَمَّا ذكره له أبو زرعة قال: "لم يسمعْ الليث من مشرح شيئاً، ولا روى عنه شيئاً"5.

__________

1 فإنه قال عنه: "رواته موثوقون". (الدراية 2/73) .

2 إرواء الغليل: (6/310) .

3 تاريخ الدارمي: (ص 204) رقم 755.

(1/438) .

5 علل ابن أبي حاتم: (1/411) .

(3/13)

وقد أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن كلام البخاري، فقال: "فعبد الله بن صالح قد صَرَّحَ بأنه سمعه من الليث، وكونه لم يخرجه وقتَ اجتماع البخاري به لا يَضُرُّهُ شَيئاً"1.

وأما قول البخاري: إن حيوة بروي عن بكر بن عمرو، عن مشرح: فقال ابن القَيِّم: "يريد به أن حيوة من أقران الليث أو أكبر منه، وإنما روى عن بكر بن عمرو عن مشرح، وهذا تعليل قوي، ويؤكده أن الليث قال: قال مشرح، ولم يقل: حدثنا". قال: "وليس بلازم؛ فإن الليث كان معاصراً لمشرح، وهو في بلده، وطلبُ الليثِ العلمَ وجمعهُ لم يمنعه ألا يسمع من مشرح حديثه عن عقبة بن عامر، وهو معه في البلد"2.

كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، وفاته أن الليث صَرَّحَ بسماعه من مشرح، وبتحديث مشرح له، ففي رواية ابن ماجه قوله: "قال لي مشرح". وفي رواية الحاكم: "سمعت مشرح بن هاعان"، وقول الراوي: (قال لي) في منزلة قوله: (حدثنا) .

وقد أجاب الأئمة بذلك، وأولهم الحاكم: فإنه بعد أن أخرج رواية عثمان بن صالح، عن الليث، قال: "وقد ذكر أبو صالح - كاتب الليث - عن ليث سماعه من مشرح بن هاعان". فساقه بإسناده. وقال

__________

1 إعلام الموقعين: (3/45 - 46) .

2 المصدر السابق: (3/46) .

(3/14)

الزيلعي - رداً على ما نقله أبو زرعة عن ابن بكير -: "قوله في الإسناد: قال لي أبو مصعب: يردُّ ذلك"1. وقال ابن حجر: "ووقع التصريح بسماعه في رواية الحاكم، وفي رواية ابن ماجه عن الليث: قال لي مشرح"2.

وأما العلة الثالثة، وهي إنكارهم هذا الحديث على عثمان بن صالح: فقد أجاب عنه ابن القَيِّم بما نقله عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله، حيث قال: "وإنكار من أنكر هذا الحديث على عثمان غير جيد، وإنما هو لِتَوَهُّمِ انفراده به عن الليث، وظنهم أنه لعله أخطأ فيه، حيث لم يبلغهم عن غيره من أصحاب الليث، كما قد يتوهم بعض من يكتب الحديث: أن الحديث إذا انفرد به عن الرجل من ليس بالمشهور من أصحابه، كان ذلك شذوذاً فيه وعلة قادحة، وهذا لا يَتَوَجَّهُ هاهنا لوجهين:

أحدهما: أنه قد تَابَعَهُ عليه أبو صالح - كاتب الليث - عنه ...

الثاني: أن عثمان بن صالح هذا المصري نفسه روى عنه البخاري في (صحيحه) ، وروى عنه ابن معين، وأبو حاتم الرازي، وقال: هو شيخ صالحٌ سليمٌ التَأْدِيَةِ. قيل له: كان يُلَقَّن؟ قال: لا. ومن كان بهذه

__________

1 نصب الراية: (3/239) .

2 التلخيص الحبير: (3/ 171) .

(3/15)

المثابة، كان ما ينفرد به حُجَّةً، وإنما الشاذ ما خالف به الثقات، لا ما انفرد به عنهم، فكيف إذا تابعه مثل أبي صالح، وهو كاتب الليث، وأكثر الناس حديثاً عنه؟ وهو ثقة أيضاً، وإن كان قد وقع في بعض حديثه غلط"1.

فهذا فيما يتعلق بجواب ابن القَيِّم وغيره من الأئمة على هذه العلل.

وأما العلة التي لم يتعرض لها ابن القَيِّم: فهي ما نقله أبو زرعة الرازي، عن يحيى بن عبد الله بن بكير، أنه قال: " ... لم يسمع الليث من مشرح شيئاً ... وإنما حدثني الليث بن سعد بهذا الحديث: عن سليمان بن عبد الرحمن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم". يعني مرسلاً، قال أبو زرعة: "والصواب عندي: حديث يحيى"2. يعني ابن بكير.

قلت: أما القول بعدم سماع الليث من مشرح شيئاً، فقد تقدم ما فيه، وأن الليث صَرَّحَ بتحديث مشرح له، وسماعه منه.

وأما هذه الرواية المرسلة: فابن بكير أثبت من غيره في الليث، بل قال ابن عدي: "أثبت الناس فيه"3. ومع ذلك فإن رواية عثمان بن صالح له عن: الليث، عن مشرح، عن عقبة. ومتابعة أبي صالح له على هذه الرواية، يجعل من الصعب الحكم على روايتهما - وقد تتابعا - بالخطأ،

__________

1 إعلام الموقعين: (3/46) .

2 علل ابن أبي حاتم: (1/411) .

3 كما في تهذيب التهذيب: (11/238) .

(3/16)

وعلى ذلك: فيحتمل أنه يُروى عن الليث على الوجهين:

وقد يُقال أيضاً: لعل عثمان بن صالح، وأبا صالح كاتب الليث قد وقع لهما خطأ في هذا الحديث.

فإن صحَّ هذا الاحتمال الأخير، وقيل: إن الصواب في هذا الحديث الإرسال، فإن ذلك لا يضرُّ، ويعتضد - حينئذ - بما تقدم من مسند أبي هريرة وغيره من الأحاديث الواردة في هذا المعني.

ولذلك فقد صححه بعض الأئمة، وحَسَّنَهُ آخرون، قال الحاكم: "حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وصححه الزيلعي من طريق ابن ماجه1. وقال عبد الحق: "إسناده حسن"2. ووافقه ابن القطان، لكن قال: "ولم يبينْ المانع من صِحَّتِهِ"3. وقال ابن تيمية رحمه الله: "حديث جيد، وإسناده حسن"4. وحَسَّنَهُ ابن الملقن5.

فالذي يطمئن إليه القلب: أن هذا الحديث حسنٌ إن سَلِمَ من علة الإرسال، فإن التصقت به هذه العلة، فإنه يعتضد بشواهد عديدة في هذا الباب، وبذلك يكون ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أصاب في تقوية هذا الحديث ودفع العلل عنه، والله أعلم.

__________

1 نصب الراية: (3/239) .

2 المصدر السابق.

3 بيان الوهم والإيهام: (3/504) .

4 إعلام الموقعين: (3/46) .

5 البدر المنير: ج 5 (ق 220/أ) .

(3/17)

2- باب المبتوتة: هل تجب لها السكنى والنفقة؟

76 - (3) قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "إِنَّمَا النَّفَقَةُ والسُّكْنَى لِلْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ".

ذهب ابن القَيِّم إلى أن المبتوتة لا نفقة لها ولا سُكْنى، مُسْتَدِلاً بهذا الحديث، فقال: "وروى النسائي في سننه هذا الحديثَ بطرقه وألفاظه، وفي بعضها - بإسناد صحيح لا مَطْعَنَ فيه -: فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما النفقة والسُّكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة". ورواه الدارقطني، وقال: فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، قالت: فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وقال: "إنما السُّكنى والنفقة لمن يملك الرجعة". وروى النسائي - أيضاً - هذا اللفظ، وإسنادهما صحيح"1.

قلت: هذا الحديث الذي ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - مداره على الشعبي، عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.

ويرويه عن الشعبي جماعةٌ:

فأخرجه الدارقطني في (سننه) 2، والخطيب في (الفصل للوصل

__________

1 زاد المعاد: (5/525 - 526) .

(4/23) ح 67.

(3/18)

المدرج في النقل) 1، كلاهما من طريق: يعقوب بن إبراهيم2.

وأخرجه الطبراني في (الكبير) 3من طريق: أبي عبيد القاسم بن سلاَّم4. كلاهما عن:

هشيم بن بشير5، عن: سَيَّار6، وحصين7، ومغيرة8، وأشعث9، وداود10، ومجالد، وإسماعيل بن أبي خالد11، كُلُّهم عن:

__________

(2/860) ح 110.

2 ابن كثير بن زيد بن أفلح العَبْدِي مولاهم، أبو سيف الدَّوْرَقي، ثقة، من العاشرة، مات سنة 252هـ، وكان من الحفاظ/ ع. (التقريب 607) .

(24/379) ح 938.

4 البغدادي، ثقةٌ فاضلٌ، مُصَنِّفٌ، من العاشرة، مات سنة 224هـ / خت د ت. (التقريب 450) .

5 ابن القاسم بن دينار السُّلَمِي، أبو معاوية، الواسطي، ثِقَةٌ ثَبْتٌ كثير التدليس والإرسال الخفيِّ، من السابعة، مات سنة 183هـ/ ع. (التقريب 574) .

6 ابن أبي سَيَّار العنزي، ثقةٌ، وليس هو الذي يروي عن طارق بن شهاب، من السادسة، مات سنة 122هـ/ ع. (التقريب 262) .

7 ابن عبد الرحمن السلمي، أبو الهذيل الكوفي.

8 ابن مقسم الضَّبيّ مولاهم، أبو هشام الكوفي، الأعمى، ثقةٌ متقن، إلا أنه كان يُدَلِّس، ولاسيما عن إبراهيم، من السادسة، مات سنة 136هـ/ع. (التقريب 543) .

9 ابن سوَّار الكندي، النجار، الأفرق، الأثرم، صاحب التوابيت، قاضي الأهواز، ضعيف، من السادسة، مات سنة 136هـ/ بخ م ت س ق. (التقريب 113) .

10 هو: ابن أبي هند القشيري.

11 الأحمسي مولاهم، البجلي، ثقةٌ ثبت، من الرابعة، مات سنة 146هـ/ ع. (التقريب 107) .

(3/19)

الشعبيِّ قال: دخلت على فاطمة بنت قيس، فسألتها عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: طَلَّقَهَا زوجها ألبتة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قالت: فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وقال: "إِنَّمَا السّكْنَى والنَّفَقَة لِمَن يَمْلِكُ الرَّجعة". هذا سياق الدارقطني، ولفظ الباقين بنحوه.

وقد ضَعَّفَ الأئمة هذه الزيادة، وَوَهَّمُوا فيها مجالد بن سعيد، وأنه انفرد بها دون هؤلاء الجماعة الذين رووه عن الشعبي، وإن شاركوا مجالداً في روايته للحديث كما مضى.

قال الخطيب البغدادي: "أدرج يعقوب بن إبراهيم الدورقي رواية هذا الحديث، أو أدرجه هشيم له لما حَدَّثَ به، وذلك أن قوله: "إِنَّمَا السُّكْنَى والنَّفَقة لِمَن يَمْلِكُ الرَّجعة" لم يَذْكُرْهُ واحد من الجماعة الْمُسَمَّين عن الشعبي، إلا مجالد بن سعيد وحده"1

ومما استدلوا به على انفراد مجالد بذلك:

أولاً: أنَّ هذا الحديث يُروى عن هشيم بالإسناد السابق بعينه، وليس فيه هذه الزيادة. أخرج ذلك: مسلم في (صحيحه) 2: حدثني زهير ابن حرب، وأحمد في (مسنده) 3، كلاهما عن: هشيم، عن الجماعة الْمُسَمَّين قبل، عن الشعبي، عن فاطمة بالحديث السابق.

__________

1 الفصل للوصل المدرج في النقل: (2/860) ح 110 - 1.

(2/1117) ح 1480 (42) . ك الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها.

(6/416) .

(3/20)

ثانياً: أنَّ الحسن بن عرفة1رواه عن هشيم، عن هؤلاء النفر، عن الشعبي، عن فاطمة به، فَمَيَّزَ هذه الكلمات، وبَيَّنَ أنها عن مجالد وحده دون باقي الجماعة، أخرج ذلك ونبه عليه: الدارقطني في (سننه) 2، والخطيب في (الفصل) 3. فقال الدارقطني - عقب إخراجه رواية يعقوب بن إبراهيم المتقدم ذكرها -: "خالفه الحسن بن عرفة، جَعَل آخر الحديث عن مجالد وحده، عن الشعبي". ثم ساقه بإسناده إلى الحسن بن عرفة، بالإسناد السابق، وفي آخره: "قال هشيم: قال مجالد في حديثه: إنما السكنى والنفقة لمن كان لها على زوجها الرجعة".

ثالثاً: وُجدت هذه الرواية بهذه الزيادة عن مجالد وحده، غير مقرون مع الجماعة الماضي ذكرهم، وذلك من رواية جماعة عنه، منهم: شعبة، ويحيى القطان، وحماد بن زيد، وابن عيينة، وعبدة بن سليمان، وسعيد بن يزيد البجلي، ثم هشيم نفسه.

أخرج الحميدي في (مسنده) 4 رواية ابن عيينة، وأخرج الإمام أحمد في (مسنده) 5 رواية هشيم، وأخرج هو6والخطيب في (الفصل)

__________

1 ابن يزيد العبدي، أبو علي البغدادي، صدوق، من العاشرة، مات سنة 257هـ/ ت س ق. (التقريب 162) .

(4/24) ح 68.

(ص 816) .

(1/176) ح 363.

(6/415) .

6 مسند أحمد: (6/416) .

(ص 815) .

(3/21)

رواية عبدة بن سليمان، وأخرج الطبراني في (الكبير) 1 رواية حماد بن زيد، ورواية شعبة، وأخرج كذلك رواية سعيد البجلي2، وأخرج الإمام أحمد رواية يحيى القطان3، كلهم عن: مجالد بن سعيد، عن الشعبي، فذكر الحديث بطوله، وفي بعض ألفاظه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "انظري يا ابنة آل قيس: إنما النفقة السكنى ... " 4.

قال ابن القطان رحمه الله - بعد أن ساق روايتي سفيان بن عيينة، وعبدة بن سليمان -: "فهذه رواية مجالد، وإذا قُرِنَ بالجماعة تَوَّهم من يراه أن الزيادة المذكورة من رواية جميعهم، وقد تَبَيَّنَ أنهم لم يرووها، ولهشيم في التدليس صنعة محذورة في مثل هذا ... "5.

ثم قال رحمه الله: "وإذا قد تَبَيَّنَتْ رواية الجماعة دون الزيادة، ورواية مجالد دونهم بالزيادة: تَحَقَّقَ فيها الرَّيْب، ووجب لها الضَّعْفُ بضعفِ مجالد المنفرد بها"6.

ومع ذلك فقد وُجدت لمجالد متابعات على روايته الحديث بهذه الزيادة، فمن هذه المتابعات:

__________

(24/379) ح 936، 937.

2 المعجم الكبير: (24/382) ح 948.

3 المسند: (6/373، 416 - 417) .

4 لفظ رواية يحيى عند أحمد.

5 بيان الوهم والإيهام: (4/476) .

6 بيان الوهم والإيهام: (4/477) .

(3/22)

1- ما أخرجه النسائي في (سننه) 1من طريق: سعيد بن يزيد2الأحمسي، حدثنا الشعبي، حدثتني فاطمة بنت قيس به.

وهذه الرواية هي التي أشار إليها ابن القَيِّم رحمه الله، وصحح إسنادها، وسبق نقل كلامه أول البحث.

ورواه قاسم بن أصبغ بالإسناد نفسه، كما نقل ذلك عنه ابن القطان3.

وسعيد بن يزيد هذا: قال فيه أبو حاتم: "شيخ، يروى عنه"4. وقال ابن معين: "ثقة"5. وذكره ابن حبان في (الثقات) 6. وَضَعَّفَهُ ابن القطان، فقال: "لم تثبت عدالته"7. وَأَقَرَّهُ الذهبي8على ذلك، ولم ينقل فيه توثيق ابن معين، ونقل عن أبي حاتم كلمة "شيخ"فقط، فكأنه يختار ضعفه؟ وقال الحافظ ابن حجر: "وقد تابع بعض الرواة ... مجالداً، لكنه أضعف منه"9. فلا أدري: هل يقصد سعيد بن يزيد هذا، أم غيره؟

__________

(6/144) ك الطلاق، باب الرخصة في التطليق بثلاث مجتمعة.

2 البَّجَلي، ثم الأحمسي، الكوفي، صدوق، من السابعة/ س. (التقريب 242) .

3 بيان الوهم والإيهام: (4/477) .

4 الجرح والتعديل: (2/1/74) .

5 تاريخ الدوري عن يحيى: (2/209) .

(6/373) .

7 بيان الوهم والإيهام: (4/477) .

8 الميزان: (2/163) .

9 فتح الباري: (9/480) .

(3/23)

وعلى كل حال، فالذي يظهر من حال الرجل أنه إلى التوثيق أقرب منه إلى التضعيف، نعم ليس هو الدرجة العليا من التوثيق، كما يُشعر به كلام أبي حاتم، ولكنه - مع ذلك - لا يخرج عن كونه صدوقاً يُعتبر بحديثه ويستشهد به.

لكن أشار الحافظ الذهبي إلى إعلال هذه المتابعة، فقال في ترجمته: " ... عن الشعبي بحديث فاطمة في المبتوتة ... أتى في الحديث بألفاظ قد اختلف في ثبوتها"1. وتقدم كلام ابن حجر قبل قليل في غَمْزِ هذه المتابعة - إن كان يعنيها -.

2- ما أخرجه الطبراني في (الكبير) 2من طريق: أبي نعيم، عن زكريا ابن أبي زائدة3، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس بنحو ما تقدم.

وزكريا هذا وإن كان ثقة، فإنه مدلس، وقد أكثر منه عن الشعبي خاصةً، كما قال أبو زرعة: "صويلح، يُدَلِّس كثيراً عن الشعبي"4. وقال أبو حاتم: "لين الحديث، كان يُدَلِّس ... ويقال: إن المسائل التي يرويها زكريا لم يسمعها من عامر - يعني الشعبي - إنما أخذها من أبي حريز"5.

__________

1 الميزان: (2/163) .

(24/378) ح 935.

3 ابن ميمون بن فيروز الهمداني الوادعي، أبو يحيى الكوفي، ثقة، وكان يُدَلِّس، وسماعه من أبي إسحاق بآخرة، من السادسة، مات سنة 147هـ أو غيرها/ ع. (التقريب 216) .

4 الجرح والتعديل: (1/2/594) .

5 المصدر السابق.

(3/24)

ورماه بالتدليس غير هؤلاء1.

قلت: وقد عَنْعَنَ زكريا في هذا الإسناد، فاحتمال تدليسه قويٌّ، وبخاصة أن روايته هنا عن الشعبي.

فهذا هو حال هذه المتابعة، ولكنها إذا ضُمَّتْ إلى طرق هذا الحديث، فإنها تصلح لتقويته.

3- وثمة متابعة ثالثة، وهي من رواية: جابر الجعفي، عن الشعبي به، أخرجه الدارقطني في (سننه) 2. وجابر مكشوف الحال، لا يحتجُّ بمثله.

فيبقى من هذه المتابعات: رواية سعيد الأحمسي، ورواية زكريا ابن أبي زائدة، وهما وإن كانتا لا تخلوان من ضعف، فإنهما قد تصلحان لتقوية حديث مجالد في إثبات هذه الزيادة، فينتفي بذلك القول بتفرد مجالد برفع هذه الزيادة.

ولعلَّ ذلك ما يوضح وجه تصحيح ابن القَيِّم - رحمه الله - للحديث بهذه الزيادة، ولو جُعل من قبيل الحسنِ لكان أنسب، والله أعلم.

__________

1 انظر: طبقات المدلسين: (ص62) ، وتهذيب التهذيب: (3/330) .

(4/22) ح 62.

(3/25)

3- باب من قال: إن لها السكنى والنفقة

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - حديث عمر رضي الله عنه في الإنكار على فاطمة بنت قيس، وهو:

77- (4) عن عمر رضي الله عنه، أنه قال - لما ذُكِرَ له قول فاطمة -: "لا نترك كتاب الله، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عزوجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] .

قال ابن القَيِّم: "قد أعَاذَ الله أمير المؤمنين من هذا الكلام الباطل، الذي لا يصحُّ عنه أبداً. قال الإمام أحمد: لا يصحُّ ذلك عن عمر"1.

وقال مرة: "ولم يصح عن عمر أنه قال: لا ندعُ كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة؛ فإن أحمد أنكره، وقال: أما هذا فلا، ولكن قال: لا نقبل في ديننا قول امرأة"2.

قلت: هذا الحديث يُروى من حديث: الأسود بن يزيد3، عن

__________

1 زاد المعاد: (5/539) .

2 تهذيب السنن: (3/191) .

3 ابن قيس النخعي، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن، ومخضرم، ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ، من الثانية، مات سنة 74 أو 75هـ / ع. (التقريب 111) .

(3/26)

عمر رضي الله عنه، ورواه عن الأسود جماعة:

فأخرجه مسلم في (صحيحه) 1، وأبو داود في (سننه) 2، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3 من طريق: أبي أحمد الزبيري4عن عَمَّار بن رُزَيق5، عن أبي إسحاق6، عن الأسود بن يزيد به. وفيه قول أبي إسحاق: كنت مع الأسود بن يزيد جالساً في المسجد الأعظم، فَحَدَّثَ الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة. ثم أخذ الأسود كَفّاً من حصى فحصبه به، فقال: ويلك! تُحَدِّثُ بمثل هذا؟! قال عمر ... فذكره. هذا سياق مسلم.

وخالف أبا أحمد الزبيري: يحيى بن آدم، فرواه عن عمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن الأسود به، فلم يذكر فيه: "وَسُنَّةَ نَبيِّنَا". أخرجه

__________

(2/1118) ح 1480 (46) . ك الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها.

(2/717) ح 2291. ك الطلاق، باب من أنكر ذلك على فاطمة.

3 قط: (4/25) ح 70. هق: (7/475) .

4 هو: محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الأسدي، الكوفي، ثقة ثبت إلا أنه قد يخطئ في حديث الثوري، من التاسعة، مات سنة 203هـ/ ع. (التقريب 487) .

5 الضَّبّي، أو التميمي، أبو الأحوص الكوفي، لا بأس به، من الثامنة، مات سنة 159هـ/ م د س ق. (التقريب 407) .

6 هو السَّبِيعي.

(3/27)

الدارقطني في (سننه) 1من طريق يحيى، وقال عقبه: " ... وهذا أصحُّ من الذي قبله؛ لأنَّ هذا الكلام لا يثبت، ويحيى بن آدم أحفظ من أبي أحمد الزبيري وأثبت منه، والله أعلم". وقال - رحمه الله - في (العلل) 2: "وكذلك رواه يحيى بن آدم - وهو أحفظ من أبي أحمد الزبيري وأثبت منه - عن عمار بن رزيق ... لم يقل فيه: "وَسُنَّةَ نَبيِّنَا". وهو الصواب".

وذكر الدارقطني أيضاً: أَنَّ قبيصة3 قد تابع يحيى بن آدم على روايته، ثم ساقه بإسناده إلى قبيصة بمثل قول يحيى بن آدم سواء.

هذا ما يتعلق برواية أبي إسحاق السبيعي عن الأسود.

وقد روى من حديث: الأعمش، عن إبراهيم4، عن الأسود به. رواه عن الأعمش جماعة، منهم: أسباط بن محمد، ومحمد بن فضيل5، وحفص بن غياث6.

__________

(4/25) ح 71.

(2/141) .

3 ابن عقبة بن محمد بن سفيان السوائي.

4 هو: النخعي.

5 ابن غزوان، الضبي مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفي، صدوق عارف، رُمي بالتشيع، مات سنة 195هـ/ ع. (التقريب 502) .

6 ابن طلق بن معاوية النخعي، أبو عمر الكوفي، ثقةٌ فقيه تَغَيَّرَ حفظه قليلاً في الآخر، مات سنة 194 أو 195هـ/ ع. التقريب (173) .

(3/28)

فأخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) 1من طريق: حفص بن غياث، ومحمد بن فضيل، كلاهما عن: الأعمش به، ولفظه عن عمر: "لا نُجِيز قول المرأة في دين الله، المطلقة ثلاثاً لها السكنى والنفقة".

وأخرجه الدارقطني في (سننه) 2 - ومن طريقه البيهقي3- من طريق: محمد بن فضيل، عن الأعمش به، ولفظه عن عمر رضي الله عنه: "لا نَدَعُ كتاب الله لقول امرأة لعلها نَسِيَتْ".

وأخرجه الدارقطني - أيضاً - في (سننه) 4من طريق: أسباط بن محمد ومحمد بن فضيل، كلاهما عن الأعمش به، ولفظه كالذي قبله.

هكذا رواه هؤلاء عن الأعمش، عن إبراهيم بدون زيادة قوله: "وَسُنَّةَ نَبيِّنَا".

وذكر الدارقطني - رحمه الله - أنه اخْتُلِفَ فيه على حفص بن غياث عن الأعمش، فرواه طلق بن غنام عن حفص، عن الأعمش، فقال فيه: "وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا". فَوَهِمَ على حفص في ذلك؛ لأن الذين رووه عن حفص بدون هذه الزيادة أثبت منه وأحفظ5.

__________

(5/146) .

(4/24) ح 69.

(7/475) .

(4/27) ح 75.

5 علل الدارقطني: (2/141) .

(3/29)

وقد رُوِيَ عن إبراهيم، عن الأسود من غير طريق الأعمش، فأخرجه الدارقطني في (سننه) 1 من طريق: أشعث بن سَوَّار، عن الحكم وحماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر رضي الله عنه به، وفيه الزيادة المذكورة.

قال الدارقطني - رحمه الله - عقبه: "أشعث بن سَوَّار ضعيف الحديث، ورواه الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، ولم يقل: "وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا" ... والأعمش أثبت من أشعث وأحفظ منه".

وقال في (علله) 2: "وليست هذه اللفظة التي ذكرت فيه محفوظة، وهي قوله: "وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا"؛ لأن جماعة من الثقات رووه عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، أن عمر قال: لا نجيز في ديننا قول امرأة. ولم يقولوا فيه: وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا".

فهذه طرق هذا الحديث إلى الأسود بن يزيد، وقد بَيَّنَ الدارقطني - رحمه الله - أن الصواب فيها عدم ذكر قوله "وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا"، وكذا لم يصححه الإمام أحمد رحمه الله، فقد سأله عنه أبو داود فقال: "قلت: يصحُّ هذا عن عمر رضي الله عنه؟ قال: لا"3. وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى كلام الإمام أحمد هذا، كما تقدم نقله عنه أول البحث.

فتلخص من ذلك: أن الصواب ما اختاره ابن القَيِّم - رحمه الله -

__________

(4/27) ح 74.

(2/141) .

3 مسائل أبي داود للإمام أحمد: (ص 184) .

(3/30)

من عدم صحَّة ذلك عن عمر رضي الله عنه، وأن الصواب في ذلك عن عمر قوله: "لا نجيز قول المرأة في دين الله". وعلى فرض ثبوت اللفظ الأول عن عمر رضي الله عنه، فإن الصواب فيه: "لا ندع كتاب ربنا" وأما قوله: "وسنة نَبيِّنَا" فلم يثبت ذلك عنه، والله أعلم.

(3/31)

4- باب في عدة أم الولد

78- (5) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه قال: "لا تَلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّة نَبِيِّنَا، عِدَّةُ المتوفى عنها: أَرْبَعَة أَشْهُرٍ وَعَشْرَاً" يعني أم الولد.

استدل بهذا الحديث من ذهب إلى أن عدة أم الولد هي عدة الحُرَّة، وقد استعرض ابن القَيِّم - رحمه الله - الأقوال في المسألة، ثم بَيَّنَ أن الصواب من ذلك: أنها تعتد بحيضة واحدةٍ؛ فإن هذا إنما هو لمجرد الاستبراء لزوال الملك عن الرقبة، فلذلك كان كسائر استبراءات المعتقات، والمسبيات، والمملوكات، ثُمَّ أَخَذَ في بيان ضَعْفِ حديث عمرو بن العاص، فَذَكَرَ أن فيه عللاً:

أحدها: انقطاعه بين قبيصة بن ذؤيب وعمرو بن العاص؛ فإنه لم يسمع منه.

ثانيها: أن الصواب فيه الوقف على عمرو بن العاص.

ثالثها: اضطرابه، فقد رُوِيَ عن عمرو بن العاص على ثلاثة أوجه1.

قلت: هذا الحديث أخرجه: أبو داود، وابن ماجه في (سننيهما) 2، وابن أبي شيبة في (مصنفه) 3- ومن طريقه: ابن حبان في

__________

1 زاد المعاد: (5/721 - 723) ، وانظر تهذيب السنن: (3/203 - 204) .

2 د: (2/730) ح 2308. جه: (1/673) ح 2083، كلاهما في: ك الطلاق، باب عدة أم الولد.

(5/162) ك الطلاق، باب ما قالوا في عدة أم الولد.

(3/32)

(صحيحه) 1، وابن الجارود في (المنتقى) 2 - والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3، والحاكم في (المستدرك) 4، كلهم من طريق:

سعيد بن أبي عروبة، عن مطر بن طهمان5، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب6، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه به. واللفظ المتقدم لفظ أبي داود، ولفظ ابن أبي شيبة، وابن حبان، وابن الجارود: "لا تلبسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد عدة المتوفى عنها زوجها". وليس عند ابن الجارود كلمة: "زوجها". ووقع عند ابن ماجه: "لا تُفْسِدُوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد أربعة أشهر وعشراً".

وقد ضُعِّفَ هذا الإسناد من أجل مطر بن طهمان، فقال المنذري: "وفي إسناده مطر بن طهمان أو رجاء الورَّاق، وقد ضعفه غير واحد"7.

__________

1 الإحسان: (6/250) ح 4286.

2 ح (769) .

3 قط: (3/309) ح 246. هق: (7/447 - 448) .

(2/209) .

5 الوَرَّاق، أبو رجاء السُّلَمِي مولاهم، الخراساني، سكن البصرة، صدوقٌ كثيرُ الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف، من السادسة، مات سنة 125هـ، ويقال: 129هـ/ خت م 4. (التقريب 534) .

6 ابن حلحلة الخُزَاعي، أبو سعيد أو أبو إسحاق، المدني، نزيل دمشق، من أولاد الصحابة، وله رؤية، مات سنة بضع وثمانين/ ع. (التقريب 453) .

7 مختصر السنن: (3/205) .

(3/33)

ولم يوافق ابن القَيِّم - رحمه الله - على تضعيف الحديث به، فإنه نقل أقوال بعض العلماء في تضعيفه، ثم قال: "وبعد، فهو ثقة، قال أبو حاتم الرازي: صالح الحديث. وذكره ابن حبان في كتاب (الثقات) ، واحتجَّ به مسلم، فلا وجه لِضَعْفِ الحديثِ به"1.

والحقُّ: أن مطراً هذا قد ضَعَّفَهُ الأكثرون، واحتمله بعضهم، ولا يصل بحالٍ إلى رتبة الثقة، كما قال ابن القَيِّم، فقد شَبَّهَهُ يحيى القطان بابن أبي ليلى في سوء الحفظ، ووافقه على ذلك الإمام أحمد2. وضَعَّفَهُ غير واحد من الأئمة في عطاء خاصة3. وقال ابن سعد: "كان فيه ضَعفٌ في الحديث"4. وقال النسائي: "ليس بالقويّ"5. وقال أبو داود: "ليس هو عندي بحجة، ولا يُقْطَعُ به في حديث إذا اختلف"6. وسئل عنه أبو زرعة، فقال: "صالح". قال ابن أبي حاتم: "كأنه لَيَّنَ أمره"7. وقال ابن حبان: "ربما أخطأ"8.

__________

1 زاد المعاد: (5/722) .

2 تهذيب التهذيب: (10/168) .

3 تهذيب التهذيب: (10/168) .

4 تهذيب التهذيب: (10/169) .

5 الضعفاء والمتروكين: (ص98) .

6 تهذيب التهذيب: (10/169) .

7 الجرح والتعديل: (4/1/288) .

8 الثقات: (5/435) .

(3/34)

فهذه أقوال مُضَعِّفِيهِ، وقد وَثَّقَهُ آخرون: فقال ابن معين1، وأبو زرعة2: "صالح". وقال أبو حاتم: "صالح الحديث"3. وقال العجلي: "صدوق"4. وقال مرة: "لا بأس به"5. وقال البزار: "ليس به بأس ... ولا نعلم أحداً ترك حديثه"6. وقال السَّاجي: "صدوق يهم"7. وقال الذهبي: "ثقة تابعيّ"8. وقال مرة: " ... من رجال مسلم، حسن الحديث"9.

فَتَبَيَّنَ من هذه الأقوال: أن الرَّجُل وإن ضَعَّفَهُ جماعة، إلا أن مثله تُحْتَمَلُ روايته، وبخاصة إذا تابعه غيره، ممن هو مثله أو أعلى رتبة، أما إذا خالف وانفرد: فالتوقف فيه أولى، كما ذهب أبو داود - رحمه الله - إلى ذلك؛ فإنه كان كثير الخطأ والوهم، سيئ الحفظ، يَتَّضِحُ ذلك من وضع يحيى القطان، والإمام أحمد له في مرتبة ابن أبي ليلى، وهو سيئ الحفظ جداً. وأما كونه من رجال مسلم: فقد جعله الحاكم ممن أخرج لهم مسلم

__________

1 تهذيب التهذيب: (10/168) .

2 الجرح والتعديل: (4/1/288) .

3 المصدر السابق.

4 تاريخ الثقات - ترتيب الهيثمي: (ص430) .

5 تاريخ الثقات - ترتيب الهيثمي: (ص430) .

6 تهذيب التهذيب: (10/168 - 169) .

7 المصدر السابق: (10/169) .

8 المغني: (2/662) .

9 الميزان: (4/127) .

(3/35)

في المتابعات دون الأصول1.

ولم ينفرد به مطرٌ هذا، وإنما تابعه قتادة، فأخرجه الإمام أحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3 من طريق: سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن رجاء بن حيوة بالإسناد الماضي، ولفظه بنحو ما تقدم.

وأخرجه الدارقطني في (سننه) 4 من طريق: سعيد، عن قتادة ومطر بن طهمان، كلاهما عن رجاء به. قال ابن حبان: "سمع هذا الخبر ابن أبي عروبة، عن قتادة ومطر الوراق، عن رجاء بن حيوة، فمرةً يُحَدِّثُ عن هذا، وأخرى عن ذلك"5.

وهذه المتابعة - لاشك - تُقَوِّي روايته وتشدها؛ ولذلك فإن إعلال الحديث بمطر غير مقبول، من جهة عدم انفراده به، لا أنه ثقة كما ذهب ابن القَيِّم رحمه الله.

لكن ماذا عن العلل الأخرى التي ذكرها ابن القَيِّم - رحمه الله - لهذا الحديث، ورأى أنها المؤثرة دون الكلام في مطر؟

أما انقطاعه بين قبيصة بن ذؤيب، وعمرو بن العاص: فقد أَعَلَّهُ

__________

1 تهذيب التهذيب: (10/168) .

(4/203) .

(7/447 - 448) .

(3/309) ح 244.

5 الإحسان: (6/250) .

(3/36)

بذلك الدارقطني رحمه الله، فإنه قال: "وهو مرسل؛ لأنَّ قبيصة لم يسمع من عمرو"1 يعني أنه منقطع. ولم أر أحداً قال ذلك غير الدارقطني، - وتابعه ابن القَيِّم - بل روايته عن عمرو بن العاص مذكورة في (التهذيب) وغيره، وإنما تكلموا في روايته عن عمر بن الخطاب، ومع ذلك لم يجزموا بعدم سماعه منه، ففي (تهذيب الكمال) 2: "روى عن عمر بن الخطاب، ويقال: مرسل". فإذا كان سماعه من عمر بن الخطاب محتملاً - وقد تأخرت وفاته عن عمرو بن العاص بنحو عشرين سنة - فإمكان سماعه من عمرو من باب أولى. ولكن على القول باشتراط ثبوت اللقاء - وهو الأحوط - فإنه قد يتوجه الحكم بالانقطاع.

وأما القول بأن الصواب فيه الوقف: فقد قال به الدارقطني أيضاً، فإنه أخرجه في (سننه) 3 من طريق: حفص بن غيلان4، عن سليمان بن موسى، أن رجاء بن حيوة حَدّثه، أن قبيصة حدثه، أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "عِدَّة أُمِّ الولد إذا تُوفي عنها سيدها: أربعة أشهر وعشراً، وإذا أُعْتِقَت: فعدتها ثلاثُ حِيَض". قال الدارقطني: "موقوف، وهو الصواب".

وأخرجه مرة أخرى من طريق: الوليد بن مسلم، عن سعيد بن

__________

1 سنن الدارقطني: (3/310) . وانظر: (ص 309) .

(23/477) .

(3/310) ح 248.

4 أبو معيد - مُصَغَّر - وهو بها أشهر.

ساقطة

فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث لا يصحُّ رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وغايته أن يكون من كلام عمرو بن العاص رضي الله عنه، وقد اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - إعلاله فأصاب، والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قائمة العلل والسؤلات الواقعة في كتاب صحيح البخاري لابن المبرد، جمال الدين يوسف بن عبد الهادي الحنبلي (ت ٩٠٩ هـ)

قائمة العلل والسؤلات الواقعة في كتاب صحيح البخاري لابن المبرد، جمال الدين يوسف بن عبد الهادي الحنبلي (ت ٩٠٩ هـ ) الرابط...