السؤال باسم الله الأعظم

وسمع آخر يقول في تشهده أيضا : ( أبو داود والنسائي وأحمد والبخاري في الأدب المفرد ) ( اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت [ وحدك لا شريك لك ] [ المنان ] [ يا ] بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم [ إني أسألك ] [ الجنة وأعوذ بك من النار ] . [ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( تدرون بما دعا ؟ ) قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ( والذي نفسي بيده ] لقد دعا الله باسمه العظيم ( وفي رواية : الأعظم ) الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى}

الثلاثاء، 13 فبراير 2024

2.ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها{المبحث الثاني: ذكر مؤلفات ابن القَيِّم}

 

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

المبحث الثاني: ذكر مؤلفات ابن القَيِّم

 

وأحاول في هذا المبحث حصر مؤلفات ابن القَيِّم رحمه الله، مع التعريف ببعضها، وذكر بعض الفوائد المتعلقة بها، وذلك كله على سبيل الاختصار والإيجاز، إلا فيما يحتاج الأمر فيه إلى زيادة بسطٍ وإيضاحٍ.

وقد قام الشيخ بكر أبو زيد - حفظه الله - في هذا الجانب بجهد مشكور، فَحَرَّرَ ذلك تحريراً فائقاً، واستوعب الكلام على مؤلفات ابن القَيِّم رحمه الله، معتمداً في ذلك على المصادر التي ترجمته، وما ظفر به من زيادات على ذلك من خلال مطالعته لكتب ومؤلفات ابن القَيِّم نفسه، فأفاد في ذلك وأجاد1.

وسَأُسَجِّلُ ما وقفت عليه من هذه المؤلفات، منبهاً على ما تدعو إليه الحاجة في أثناء ذلك، مع عدم ذكر الكتب التي لم يظهر عندي دليل صريح على نسبتها لابن القَيِّم رحمه الله، مرتباً ذلك على حروف المعجم:

1- (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية) .

كذا سماه ابن القَيِّم - رحمه الله - في كتاب (الفوائد) 2 له، وسماه أيضاً: (اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية) وذلك في موضعين من كتاب (الصواعق المرسلة) 3.

__________

1 انظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص111 - 198) .

(ص6) .

(4/1254، 1305) .

(1/227)

وسماه ابن رجب: (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية) 1. والأمر في ذلك قريب، فكلها أسماء لكتاب واحد.

وموضوع الكتاب: إثبات علو الله - سبحانه - واستوائه على عرشه، وجمعُ الأدلة على ذلك: من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، والتابعين، ومَنْ بعدهم، وبيانُ منهج أهل السنة في هذا الباب، والرد على من خالفهم من أهل التعطيل والتأويل. والكتاب مطبوع متداول.

2- (الاجتهاد والتقليد) .

وقد أشار ابن القَيِّم في (تهذيب السنن) 2، ولم يذكره أحدٌ من مترجميه.

قال الْمُعَلِّقُ على التهذيب: "لعله الطُّرُق الحُكْمِيَّة ... ". والذي يظهر - والله أعلم - أنه غيره.

ومن الجدير بالتنبيه هنا: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - عَقَد فصلاً في الكلام على التقليد في كتابه (إعلام الموقعين) ، ثم أعقبه بفصل آخر في الكلام على الاجتهاد وعدم جوازه مع وجود النص، وأطال في ذلك وتوسع، بحيث بَلَغَ كلامه في هذين الفصلين - الاجتهاد والتقليد - أكثر من مائة صفحة، مما يجعله يصلح أن يكون كتاباً مستقلاً في هذا الموضوع3، فهل أَفْرَدَهُ ابن القَيِّم من كتابه (إعلام الموقعين) ؟ الله أعلم.

__________

1 ذيل الطبقات: (2/450) .

(6/341) .

3 انظر: إعلام الموقعين: (2/187-294) .

(1/228)

3- (أحكام أهل الذمة) .

وهو مطبوع في مجلدين كبيرين بتحقيق الدكتور/ صبحي الصالح، ولم أر من مترجميه من العلماء السابقين من ذكره، وقد ذكره الشيخ بكر أبو زيد، وَوَثَّقَ نسبته لابن القَيِّم فضيلة المحقق.

4- (أسماء مؤلفات ابن تَيْمِيَّة) .

وهي رسالة مطبوعة بتحقيق الأستاذ/ صلاح الدين الْمُنَجِّد، ولم يذكرها أحدٌ - أيضاً - من مترجميه1.

وقد رتَّبَ فيها كتب شيخه على الفنون، ومع أنه ذكر منها قسماً كبيراً إلا أنه لم يستوعب كل مؤلفاته2.

5- (أصول التفسير) .

أشار إليه - رحمه الله - في (جلاء الأفهام) 3.

6- (الإعلام باتساع طرق الأحكام) .

ذكره ابن القَيِّم في (إغاثة اللهفان) 4 عند الكلام على الأخذ باللَّوثِ5 والعلامات الظاهرة في الحدود6، ولم يذكره أحدٌ من مترجميه.

__________

1 انظر كلام الدكتور بكر أبي زيد حول هذين الكتابين في (ص201، 208) من كتابه: (ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره، موارده) .

2 انظر مقدمة المحقق لهذه الرسالة.

(ص75) .

(2/119) .

5 اللوث: البينة الضعيفة غير الكاملة. (المصباح المنير 2/560) . وقال في (المعجم الوسيط) (مادة: لاث) : "شبه الدلالة على حدث من الأحداث، ولا يكون بينة تامة. يقال: لم يقم على اتهام فلان بالجناية إلا لوث".

6 وانظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 126) .

(1/229)

وفي كتابه (الطرق الحكمية) جملة من هذه الأحكام.

7- (إعلام الْمُوَقِّعِينَ عن رب العالمين) .

وهو من أشهر كتب ابن القَيِّم وَأَنْفَعِهَا، وقد طبع مراراً.

وقد ضمنه ذكر جملة من أعلام المفتين: من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم، مع بيان أحكام كثيرة تتعلق بالقضاة والمفتين، وما يحتاجه الكثير منهم من إرشادات وتوجيهات، كما ذكر فيه جملة من الأصول والقواعد الفقهية، ثم خَتَمَهُ بذكر فتاوى إمام المفتين صلى الله عليه وسلم.

ولم يسم المؤلف كتابه هذا في مقدمته، ووقع عند الصَّفَدِي تسميته: (معالم الموقعين) 1، ولكن المشهور الأول.

وقد اختلف في ضبط همزة (اعلام) هل هي بالكسر أم بالفتح؟ وحاصل الكلام في ذلك: أن كلا الأمرين جائز، فبالكسر بمعنى: الإخبار، وبالفتح جمع (علم) إلا أن الكسر هو الأكثر شهرة2.

8- (إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان) .

هكذا سمى المؤلف هذه الرسالة في (مدارج السالكين) كما أفاده الشيخ بكر أبو زيد3.

وقد طُبعت هذه الرسالة باسم: (إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان) ، وقد يسميها بعضهم (الإغاثة الصغرى) تفرقة بينها وبين كتابه الكبير، وهو:

__________

1 الوافي بالوفيات: (2/271) .

2 انظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (127 - 130) .

3 انظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 134) .

(1/230)

9- (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان) .

وقد نص المؤلف على تسميته بذلك في مقدمته1، وسماه أكثر المترجمين له: (مصائد الشيطان) 2، وقال ابن العمَّاد في شطره الثاني: ( ... من مكايد الشيطان) 3.

وهو من أجَلِّ كتب ابن القَيِّم رحمه الله، بَيَّنَ فيه أقسام القلوب، وأسباب حياتها، وما يكون من أمراضها، وطرق علاجها، ثم ختمه بذكر جملة من المكائد التي يكيد بها الشيطان لابن آدم، وأشار إلى أن ذلك هو مقصود الكتاب الذي وَضَعَهُ من أجله والكتاب مطبوعٌ متداول.

10- (اقتضاء الذكر بحصول الخير ودفع الشر) .

ذكره الصَّفَدِي4، ولم أقف على معرفة شيء من أخباره.

11- (الأمالي المكية) .

ذكره ابن القَيِّم رحمه الله في (بدائع الفوائد) 5، ولم يشر إليه أحدٌ من مترجميه، ولعله من الكتب التي أملاها أثناء مقامه بمكة.

12- (أمثال القرآن) .

ذكره جماعة من مترجميه6.

__________

1 إغاثة اللهفان: (1/6) .

2 انظر: ذيل طبقات ابن رجب: (2/450) ، والدرر الكامنة: (4/22) ، والبدر الطالع: (2/144) .

3 شذرات الذهب: (6/170) .

4 الوافي بالوفيات: (2/272) .

(2/15) .

6 انظر: ذيل طبقات ابن رجب: (2/450) ، والشذرات: (6/170) .

(1/231)

وقد طُبع الكتاب أكثر من طبعة، لعل آخرها تلك التي حققها إبراهيم بن محمد، ونشرت سنة 1406هـ باسم: (الأمثال في القرآن الكريم) ، وقد اعتمدت هذه الطبعة والتي قبلها على أربع نسخ خطية، واعتمد المحقق الأخير كثيراً على الطبعتين السابقتين1.

وقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - ذكر جملة من هذه الأمثال في كتابه (إعلام الموقعين) 2، وعند مقابلتي بين هذه الرسالة المطبوعة وبين ما جاء في (إعلام الموقعين) : وجدت تطابقاً كاملاً بينهما، فعلمت أن هذه الرسالة مُسْتَلَّةٌ من هذا الكتاب، فقد جاء في أولها: "قال شيخنا رحمه الله: وقع في القرآن أمثال…" فيكون قد جَرَّدَها أحد تلاميذ ابن القَيِّم، وربما وقع ذلك في حياته رحمه الله، فالله أعلم.

وفي ذكر قدماء المترجمين لها ضمن مؤلفاته ما يؤكد أنها فُصِلَت قديماً، وأُفْرِدَت عن الأصل.

13- (بدائع الفوائد) .

وهو من كتب ابن القَيِّم المشهورة، وذكره بهذا الاسم عامة من تَرْجَمَ له.

وقال عنه السيوطي: "وهو كثير الفوائد، أكثره مسائل نَحْوِيَّة"3. ومع ذلك فالكتاب يحتوي على جملة كبيرة من الفوائد العامة في سائر الفنون، وقد طُبع الكتاب عدة طبعات.

__________

1 انظر: مقدمة المحقق: (ص5) .

(1 / 150 - 190) .

3 بغية الوعاة: (1/63) .

(1/232)

14- (بطلان الكيمياء من أربعين وجهاً) .

أشار إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - في (مفتاح دار السعادة) ، كما أفاده الشيخ بكر أبو زيد1. وذكره بهذا الاسم: ابن رجب، قال: "مجلد"2.

15- (بيان الاستدلال على بطلانِ اشتراط مُحَلِّلِ السِّبَاقِ والنِّضَالِ) .

ذكره ابن القَيِّم بهذا الاسم في (إعلام الموقعين) 3. وسماه بذلك الصَّفَدِي4 دون كلمة "اشتراط".

وسماه ابن رجب: (بيان الدليل على استغناء المسابقة عن التحليل) 5، وقد وَهِمَ البعض فعدهما كتابين6.

وقد تقدم ذكر ما جرى له من مِحَنٍ بسبب رأيه في هذه المسألة7.

__________

1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 136) .

2 ذيل الطبقات: (2/450) .

(4/22) .

4 الوافي بالوفيات: (2/272) .

5 ذيل الطبقات: (2/449) .

6 انظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 136 - 137) .

7 انظر ص: (128) .

(1/233)

16- (التبيان في أقسام القرآن) .

وقد سماه ابن القَيِّم بهذا الاسم1، وسماه أيضاً: (أَيْمَان القرآن) 2، وبهذا الاسم الأخير ذكره مترجموه3، وهما اسمان لكتاب واحد.

وقد جمع فيه ابن القَيِّم - رحمه الله - ما ورد في القرآن بمعنى القسم والأيمان، مع الكلام عليها4، وقد طُبع الكتاب باسم: (التبيان…) .

17- (التَّحْبِيرُ لِمَا يِحِلُّ وَيحرمُ مِن لِبَاسِ الْحَرِير) .

ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - في (زاد المعاد) في موضعين منه5، ووقع في الموضع الأول منهما تصحيف طباعي؛ إذ جاء فيه: (التخيير…) والصواب الأول، كما ذكره غير واحد من مترجميه.

وقد سماه ابن رجب6 - ومن تبعه-7: (التحرير فيما يحل ويحرم من لباس الحرير) . وسماه الصَّفَدِي: (التحبير فيما يحل ويحرم لبسه من الحرير) 8.

__________

1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 138) .

2 الجواب الكافي: (ص 74) . طبعة/ يوسف بديوي.

3 انظر: ذيل الطبقات: (2/450) ، وطبقات المفسرين: (2/93) .

4 وانظر: كشف الظنون: (ص 341) .

(3/488) ، (4/78) .

6 ذيل الطبقات: (2/450) .

7 انظر: طبقات المفسرين - للداودي: (2/93) .

8 الوافي بالوفيات: (2/272) .

(1/234)

18- (التحفة الْمَكِّيَّة) .

ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - في (بدائع الفوائد) 1 في مواضع منه بهذا الاسم، وذكره أكثر مترجميه2.

وابن القَيِّم - رحمه الله - يعزو كثيراً في (بدائع الفوائد) إلى كتاب آخر باسم: (الفتح المكي) ولعله هو نفسه (التحفة) ؟ وقد عدهما الشيخ بكر أبو زيد كتابين، فالله أعلم.

19- (تُحْفَةُ الْمَوْدُودِ بِأَحكامِ الْمَولُود) .

وقد سماه المؤلف بهذا الاسم في مقدمته3، وهو من كتب ابن القَيِّم المشهورة المفيدة الجامعة في بابها، فقد ضَمَّنَه مسائل وأحكام مهمة تتعلق بالطفل منذ ولادته.

والكتاب مطبوع متداول.

20- (تحفة النازلين بجوار رب العالمين) .

ذكره المؤلف في كتابه (مدارج السالكين) 4، وذكره بهذا الاسم: صِدِّيق حسن5.

ولعله من الكتب التي صنفها أثناء مجاورته بمكة؟

__________

(1/119) ، (2/62، 89، 211)

2 انظر: ذيل طبقات ابن رجب: (2/450) ، وطبقات المفسرين: (2/93) .

3 تحفة المودود: (ص6) .

4 انظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص141) .

5 التاج المكلل: (ص419) .

(1/235)

21- (التعليق على الأحكام) .

ذكره ابن القَيِّم في (جلاء الأفهام) 1 بهذا الاسم، وهل هو تعليق على كتاب بعينه (كأحكام عبد الحق) التي ينقل ابن القَيِّم كثيراً عنها، أم أنه غير مُقَيَّدٍ بكتاب؟ الله أعلم.

22- (تفسير الفاتحة) .

ذكره جماعة من مترجمي ابن القَيِّم2 رحمه الله، قال الصفدي: "مجلد كبير" وقد ذكر الشيخ بكر أبو زيد أن الكتاب بهذا الاسم منتخب من (مدارج السالكين) 3، ولكن ذِكْر الصَّفَدِي له ووصفه بأنه مجلد كبير، يشير إلى أنه ربما كان كتاباً مستقلاً، ولو كان هو نفسه فإنه يكون قد أُفْرِد أو انْتُخِبَ قديماً.

- (تفسير المعوذتين) : انظر ما يأتي باسم: (الرسالة الشافية …) .

23- (تفضيل مكة على المدينة) .

ذكره أكثر المترجمين لابن القَيِّم بهذا الاسم4، قال ابن رجب: "مجلد".

وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن ابن القَيِّم - رحمه الله - تناول

__________

(ص77) .

2 انظر: الوافي بالوفيات: (2/272) ، وبغية الوعاة: (1/63) ، وطبقات المفسرين: (2/93) .

3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص143) .

4 انظر: ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) ، وطبقات المفسرين: (2/93) ، والشذرات: (6/170) .

(1/236)

الكلام على فضل مكة في (زاد المعاد) 1، فذكر وجوهاً كثيرة لتفضيلها على غيرها من الأماكن والبقاع.

24- (تهذيب مختصر سنن أبي داود) .

وستأتي له دراسة مفصلة إن شاء الله2.

25- (الجامع بين السنن والآثار) .

ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - في (بدائع الفوائد) 3، كما أرشد إلى ذلك الشيخ بكر أبو زيد4. ولم يذكره أحدٌ من مترجميه، ولم أقف على شيء من أخباره.

ووصفه ابن القَيِّم - رحمه الله - بأنه كتاب كبير، والظاهر أنه خاص بالأحكام الفقهية مع أدلتها من الأحاديث والآثار، يتضح ذلك من النص الوارد عنه؛ فإنه قال عند الكلام على المسح على الجبيرة: "وقد ذكرت في الكتاب الكبير الجامع بين السنن والآثار من قال بذلك من السلف، وذكرت الآثار عنهم بذلك".

26- (جَلاءُ الأفهامِ في الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلى خَيْرِ الأَنَامِ) .

كذا سماه ابن القَيِّم في المقدمة5، وسماه مرة في (زاد المعاد) 6:

__________

(1 / 46 - 54) .

2 انظر ص: (290 - 299) .

(4/68) .

4 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص145) .

5 جلاء الأفهام: (ص3) .

(1/87) .

(1/237)

(جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام…) . وسماه فيه أيضاً: (كتاب الصلاة والسلام عليه) 1 صلى الله عليه وسلم.

ووقع عند الصَّفَدِي: (حلي الأفهام…) 2. ولعله تصحيف.

وهذا الكتاب من كتب ابن القَيِّم النفيسة في بابها، وقد أثنى عليه في خطبته فقال: "وهو كتاب فردٌ في معناه، لم يسبق إلى مثله في كثرة فوائده، وغَزَارَتِهَا"3.

وقد أثنى عليه الحافظ السخاوي رحمه الله، فإنه قد عدَّ خمسة كتب مصنفة في الباب، خامسها: (جلاء الأفهام) ، ثم قال: "وأما الخامس فهو جليل في معناه… وبالجملة: فأحسنها وأكثرها فوائد خامسها"4.

ولعل مما زاد في قيمة الكتاب: اهتمام المؤلف فيه بالناحية الحديثية، ونقد المرويات، وبيان الصحيح من الضعيف.

27- (جوابات عابدي الصُّلْبَان، وأن ما هم عليه دين الشيطان) .

ذكره جماعة من مترجميه5، ولم أقف على شيء من أخباره، ولعله المشهور بـ (هداية الحيارى) ، أو له به تعلق؛ فإن موضوعهما واحد كما يظهر من التسمية، وإن زاد في (هداية الحيارى) ذكر اليهود.

ولعل ما يؤكد هذه العلاقة بينهما: أن أحداً من مترجميه لم يذكر

__________

1 زاد المعاد: (1/93) .

2 الوافي بالوفيات: (2/272) .

3 جلاء الأفهام: (ص3) .

4 القول البديع: (ص258 - 259) .

5 انظر: ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) ، وطبقات المفسرين: (2/93) ، وغيرهم.

(1/238)

كتاب (هداية الحيارى) وذكروا الآخر كما مرَّ، فلينظر في ذلك؟!

28- (الجواب الكافي لمن سأل عن ثمرة الدعاء إذا كان ما قدر واقع) .

ذكره الشوكاني1.

29- (الجواب عن علل أحاديث الفطر بالحجامة) .

ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - في (تهذيب السنن) 2، فقال: "وقد ذكرت عللها، والأجوبة عنها في مصنف مفرد".

- (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) : انظر ما يأتي باسم: (الداء والدواء) .

30- (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) .

هكذا سماه مؤلفه في مقدمته3، وسماه مرة: (صفة الجنة) 4، وذكره مرة بالاسمين معاً، فقال: (… صفة الجنة حادي الأرواح) 5.

وتسميته بـ (صفة الجنة) تسمية له بموضوعه، وأشار إلى الاسمين ابن رجب - رحمه الله - فقال: (حادي الأرواح إلى…وهو كتاب: صفة الجنة) 6.

__________

1 البدر الطالع: (2/144) .

(3/248) .

3 حادي الأرواح: (ص30) .

4 الصواعق المرسلة: (4/1332) .

5 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (148) .

6 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) .

(1/239)

وهو كتاب نافع ممتع في بابه، "إذا نظر فيه الناظر زاده إيماناً، وجلَّى عليه الجنة حتى كأنه يشاهدها عياناً، فهو مثير ساكن العزمات إلى روضات الجنات، وباعث الهمم العَلِيَّاتِ إلى العيشِ في تلك الغرفات"1.

- (حرمة السماع) : انظر ما يأتي باسم: (كشف الغطاء…) .

31- (الحامل: هل تحيض أم لا؟) .

ذكره ابن القَيِّم في (تهذيب السنن) 2، فقال: "وقد أفردت لمسألة الحامل: هل تحيض أم لا؟ مصنفاً مفرداً".

32- (حكم إغمام هلال رمضان) .

ذكره من مترجميه: ابن رجب3، وعنه: الداودي4، وابن العماد5.

ومن الجدير بالتنبيه هنا: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد بسط الكلام على هذه المسألة في (زاد المعاد) 6.

33- (حكم تارك الصلاة) .

ذكره بهذا الاسم: ابن رجب وقال: "مجلد"7.

__________

1 كذا وصفه مؤلفه رحمه الله، انظره: (ص29 - 30) .

(3/109) .

3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) .

4 طبقات المفسرين: (2/93) .

5 الشذرات: (6/170) .

(2/39 - 49) .

7 ذيل الطبقات: (2/450) .

(1/240)

وقد طُبع الكتاب عدة مرات، ولعل من آخر طبعاته: تلك التي حققها تيسير زعيتر، ونشرت سنة 1405هـ، باسم: (الصلاة وحكم تاركها) .

ولم يشر المؤلف إلى اسم الكتاب في مقدمته، فهو عبارة عن جواب لعشرة أسئلة تتعلق بالصلاة.

34- (حكم تفضيل بعض الأولاد على بعض في العَطِيَّة) .

ذكر في (تهذيب السنن) 1 أنه أفرد في هذه المسألة مُصَنَّفًا.

35- (الداء والدواء) .

ذكره بهذا الاسم جماعة من مترجميه2. قال ابن رجب: "مجلد".

ولم ينص ابن القَيِّم على اسمه في المقدمة، كما هي العادة في الكتب التي تكون جواباً لسؤال أو أسئلة، وقد اشتهر بهذه التسمية التي ربما أُخِذت من موضوع الكتاب؛ فقد سُئِل عن رجل أصيب بداء، ولم يستطع دفعه بكل طريق؟ فأخذ - رحمه الله - في الكلام على: أن لكل داء دواء، وأن ذلك يعم أدواء البدن، والروح، والقلب.

وللكتاب اسم آخر وهو: (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) ، وقد نُشرت بعض طبعات الكتاب بهذا الاسم، ووقفتُ على طبعة للكتاب، بتحقيق الأستاذ/ يوسف بديوي سنة 1410هـ أثبت

__________

(5/193) وانظر: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص151) .

2 انظر: ذيل الطبقات: (2/450) ، وطبقات المفسرين: (2/93) ، والبدر الطالع: (2/144) .

(1/241)

على غلاف الكتاب الاسمين معاً، مع إشارته إلى أن العنوان الذي وجده على غلاف المخطوطة هو: (الداء والدواء) 1.

ثم طُبع الكتاب مؤخراً في عام 1417هـ بتحقيق الأخ الفاضل/ علي بن حسن بن عبد الحميد، واختار له اسم: (الداء والدواء) مشيراً إلى أن الاسمين واردان، وأنهما اسمان لكتاب واحد، إلا أن الذي اختاره هو الأظهر2. فإذا تقرر ذلك، فإن مَنْ عدَّ هذا الكتاب باسميه كتابين، فقد وَهِمَ في ذلك.

والكتاب من أحسن ما كُتب في بيان كثير من أمراض القلوب، وطرق علاجها.

36- (رسالة إلى بعض إخوانه) .

وهو كتاب أرسله ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى بعض إخوانه، قال في أوله: "الله المسؤول المرجو الإجابة: أن يحسن إلى الأخ في الدنيا والآخرة …".

وفي هذه الرسالة توجيهات نافعة، ونصائح غالية تنفع المسلم في دينه ودنياه وآخرته.

وقد طُبعت هذه الرسالة باسم: (الطريق إلى الهداية) ، ثم طُبعت باسم (رسالة إلى كل مسلم) بتعليق الدكتور/ أسامة عبد العظيم

__________

1 الدار والدواء: (ص13) حاشية 1.

2 مقدمة الطبعة المشار إليها: (ص2 - 3) .

(1/242)

سنة1404هـ واعتمد فيها على نسخة خَطِّيَّة محفوظة بدار الكتب المصرية برقم (13مجاميع) 1.

- (رسالة في الأحاديث الموضوعة) . انظر ما يأتي باسم: (فوائد في الكلام على حديث الغمامة …) .

37- (الرِّسَالة التَّبُوكِيَّة) .

وهي بعضُ كِتَابٍ سَيَّرَه من تبوك سنة 733هـ، وتضمن الكلام على تفسير قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} الآية [المائدة: 3] .

وقد طُبعت الرسالة عدة طبعات باسم (الرسالة التبوكية) ، وسميت في إحدى طبعاتها: (تحفة الأحباب في تفسير قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . وطبعت باسم: (زاد المهاجر إلى ربه) .

ولعلها قد أُفردت من الكتاب المذكور، فإنه قد جاء في أولها: "قال الشيخ ... ابن قَيِّم الجوزية ... في كتابه الذي سيَّره من تبوك ... بعد كلام له سبق: أحمد الله بمحامده ... "2.

38- (الرسالة الْحَلَبِيَّة في الطريقة الْمُحَمَّدِيَّة) .

__________

1 رسالة إلى كل مسلم: (ص4) .

2 الرسالة التبوكية: (ص10) .

(1/243)

ذكرها بهذا الاسم جماعة من مترجميه1، وسماها السيوطي2: (نظم الرسالة الحلبية ... ) . وأشار الشيخ بكر أبو زيد إلى أنها نَظْمٌ3.

39- (الرسالة الشافية في أسرار المعوذتين) .

ذكرها بهذا الاسم الصَّفَدِي4، ولعلها المطبوعة باسم (تفسير المعوذتين) .

وهذه الأخيرة هي جزء من كتاب (بدائع الفوائد) 5 وقد جاء في إحدى طبعات الرسالة6: أنها قوبلت على نسختين خطيتين، مما يؤكد أنها رسالة مستقلة من قديم كما ذكر الصَّفَدِي.

40- (رفع اليدين في الصلاة) .

ذكره أكثر المترجمين لابن القَيِّم7، قال الصَّفَدِي: "سِفْرٌ متوسطٌ".

وذكر الشيخ بكر أبو زيد: أن نسخة خطية منه توجد في المكتبة السعودية بالرياض، مخرومة الأول، برقم (82-609) 8.

__________

1 انظر: الوافي بالوفيات: (2/272) ، وطبقات المفسرين: (2/93) .

2 بغية الوعاة: (1/63) .

3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص155) .

4 الوافي بالوفيات: (2/272) .

(2/198 - 276) .

6 تفسير المعوذتين، الطبعة المنيرية بالقاهرة.

7 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل طبقات الحنابلة: (2/450) ، والدرر الكامنة: (4/22) .

8 ابن قَيِّم الجوزية- حياته وآثاره: (ص157) .

(1/244)

41- (روضة الْمُحِبِّين وَنزهةُ الْمُشْتَاقِين) .

وهو من كتب ابن القَيِّم المشهورة السائرة، وقد سماه بهذا في مقدمة الكتاب1.

وهو يشتمل على "ذكر أقسام المحبة، وأحكامها، ومتعلقاتها، وصحيحها، وفاسدها، وآفاتها، وغوائلها، وأسبابها، وموانعها ... "2.

وقد ذكره ضمن مؤلفاته أكثر المترجمين له وسماه ابن رجب: (نزهة المشتاقين وروضة المحبين) 3، وقد طُبع عدة مرات.

42- (الرُّوح) .

وهو من كتبه المشهورة، وقد ذكره عدد ممن ترجم لابن القَيِّم ضمن مؤلفاته4، وذكره ابن حجر في (فتح الباري) 5 ناقلاً عنه.

وقد ثار كلام حول عدم صحة نسبة هذا الكتاب لابن القَيِّم، ولكن الواقع يؤكد صحة هذه النسبة، والأدلة متوافرة على إثبات ذلك، وقد أفاض الشيخ بكر أبو زيد في هذا البحث، وأثبت بأدلة عديدة صحة هذه النسبة، فأفاد وأجاد6.

__________

1 روضة المحبين: (ص28) .

2 روضة المحبين: (ص28 - 29) .

3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) .

4 انظر: الدرر الكامنة: (4/22) ، وبغية الوعاة: (1/63) ، والشذرات: (6/170) .

(3/239) .

6 انظر: ابن قَيِّم الجوزية- حياته وآثاره: (158 - 161) .

(1/245)

43- (الروح والنفس) .

وهو غير الكتاب الماضي ذكره؛ فإنه قد نصَّ عليه في كتابه (الروح) ، فقال عند كلامه على أن الروح ذاتٌ قائمة بنفسها: "وعلى هذا أكثر من مائة دليل، قد ذكرناها في كتابنا الكبير في (معرفة الروح والنفس) ... "1. وهذا ظاهرٌ في أنه كتاب آخر أكبر من الماضي، وأنه أَلَّفَه قبل تأليف (الروح) ، فربما كان أصلاً لكتاب (الروح) ومنه اختصره؟ والله أعلم.

ولم يذكر هذا الكتاب الكبير أحدٌ ممن ترجم له.

44- (زاد المسافرين إلى منازلِ السعداءِ في هَدي خاتم الأنبياء) .

ذكره من مترجميه: ابن رجب2، وتبعه: الداودي3، وابن العماد4، وقال ابن رجب: "مجلد".

ولم أقف على شيء من أخباره، ولكن يبدو عنوانه مطابقاً لعنوان كتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد) وذلك بالمقابلة بين شطري العنوان في كلا الكتابين، فهل يدل ذلك على وجود علاقة بين الكتابين؟ الله أعلم.

45- (زَادُ الْمَعَادِ فِي هَدْيِ خَيْرِ الْعِبَادِ) .

وهو ذاك الكتاب الجليل، الذي ذاع صيتُهُ، وطار ذكره في الآفاق،

__________

1 الروح: (ص51) .

2 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) .

3 طبقات المفسرين: (2/92) .

4 الشذرات: (6/169) .

(1/246)

وانتفع به القاصي والداني، مع الثناء عليه والاعتراف بجلالته من الموافق والمخالف على السواء.

قال الحافظ ابن رجب: "وهو كتاب عظيم جداً"1.

ويشير ابن القَيِّم نفسه إلى أهمية الكتاب فيقول في أوله: "وهذه كلمات يسيرة لا يستغني عن معرفتها من له أدنى هِمَّة إلى معرفة نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم، وسيرته وهَدْيِه"2.

ويعدُّ هذا الكتاب موسوعة شاملة لكثير من علوم الشريعة، وبخاصة: الفقه وأحكامه، والسيرة النبوية ووقائعها.

وقد يسميه بعضهم: (الهدى) 3 اختصاراً، وسماه الحافظ ابن حجر- وهو كثير النقل عنه في شرح البخاري-: (الهدي النبوي) 4، وسماه بذلك السخاوي أيضاً5.

وقد طُبع الكتاب مراراً، ولعل من أحسن طبعاته تلك التي طُبعت أخيراً في خمس مجلدات، بتحقيق عبد القادر وشعيب الأرنؤوط.

46- (شرح أسماءِ الكتابِ العزيزِ) .

كذا سماه ابن رجب، وقال: "مجلد"6. وسماه غيره: (تفسير أسماء القرآن) 7.

__________

1 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) .

2 زاد المعاد: (1/70) .

3 انظر: الدرر الكامنة: (4/22) ، والبدر الطالع: (2/144) .

4 فتح الباري: (11/133) .

5 الإعلان بالتوبيخ: (ص537) .

6 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) .

7 الوافي بالوفيات: (2/272) ، وبغية الوعاة: (1/63) .

(1/247)

47- (شرح الأسماء الحسنى) .

ذكره ضمن مؤلفاته: ابن رجب1، وتبعه: الداودي2، وابن العماد3.

48- (شفاءُ العَلِيلِ في مسائلِ القضاء والقدر والحكمة والتعليل) .

وقد سماه بذلك مؤلفه في مقدمة الكتاب4، وقد تناول فيه: ما ورد في القضاء والقدر، والإيمان والرضى به، والرد على "القَدَرِيَّةَ" الذين يقولون: لا قدر والأمر أُنُفٌ، "والْجَبْرِيَّة" الذين ينفون فعل العبد وقدرته واختياره، كما تناول إثبات حكمة الله سبحانه فيما خَلَق وأمَرَ.

وذكره ابن حجر5، والشوكاني6 باسم: (القضاء والقدر) ، تسميةً له بموضوعه، والكتاب مطبوع متداول.

49- (الصراط المستقيم في أحكام أهل الجحيم) .

ذكره ضمن مؤلفاته: ابن رجب7، والداودي8، وابن العماد9. قال ابن رجب: "مجلدان".

- (الصلاة) : انظر ما تقدم باسم: (حكم تارك الصلاة) .

__________

1 ذيل الطبقات: (2/450) .

2 طبقات المفسرين: (2/93) .

3 الشذرات: (6/170) .

4 شفاء العليل: (ص7) .

5 الدرر الكامنة: (4/22) .

6 البدر الطالع: (2/144) .

7 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) .

8 طبقات المفسرين: (2/93) .

9 الشذرات: (6/170) .

(1/248)

50- (الصَّواعق الْمُرْسلة على الْجَهْمِيَّةِ والْمُعَطِّلة) .

كذا سماه ابن القَيِّم رحمه الله في (مدارج السالكين) 1، وكذا سماه: ابن حجر2، وابن العماد3، والشوكاني4. وقال ابن رجب5، والداودي6: (الصواعق المنزلة ... ) . وورد بغير هذين الاسمين.

وهذا الكتاب يُعَدُّ موسوعة جامعةً في تقرير عقيدة السلف في الأسماء والصفات، والرد على أهل التعطيل والتأويل، وتَظْهَرُ فيه براعة ابن القَيِّم، وسعة علمه، وقُوَّة حُجَّتِهِ، وطُول نَفَسِه، مع حسن الترتيب والتنظيم، وغزارة الفوائد.

وقد كان هذا الكتاب إلى عهد قريب لا يُعرف إلا مختصره، لمحمد ابن نصر الموصلي، حتى منَّ الله - وله الحمد - بإخراج مجلد يمثل ثلث ما وُجد من أصله، وذلك بتحقيق فضيلة شيخنا الدكتور/ علي بن محمد ناصر فقيهي، والدكتور/ أحمد عطية الغامدي، عام 1406هـ. وطبع ذلك بعنوان: (الصواعق المنزلة ... ) . ثم طبع الموجود من الأصل كاملاً بتحقيق الدكتور/ على بن محمد الدخيل الله، سنة 1408هـ في أربعة مجلدات، تمثل النصف الأول من الكتاب تقريباً، إذ إن النصف الثاني من

__________

(3/369) .

2 الدرر الكامنة: (4/22) .

3 الشذرات: (6/169) .

4 البدر الطالع: (2/144) .

5 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) .

6 طبقات المفسرين: (2/93) .

(1/249)

الكتاب يعد في حكم المفقود1، وقد نال به المحقق درجة (الدكتوراه) من كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بالرياض، بالمملكة العربية السعودية، وقد اختار له عنوان: (الصواعق المرسلة ... ) مرجحًا ذلك على غيره2.

51- (الطاعون) .

ذكره ابن رجب، وقال: "مجلد لطيف"3.

وقد عقد المؤلف - رحمه الله - فصلاً في الكلام على الطاعون، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في علاجه والاحتراز منه، وذلك في كتابه (زاد المعاد) 4.

52- (طريقُ الْهِجْرَتَيْنِ وبَابُ السَّعَادَتين) .

هكذا سماه ابن القَيِّم - رحمه الله - في مقدمته5، وأشار إليه في بعض مؤلفاته باسم: (سفر الهجرتين) ، وسماه في بعضها: (سفر الهجرتين وطريق السعادتين) 6. وبهذه الأسماء ذكره مترجموه.

ويُوَضِّحُ ابن القَيِّم في هذا الكتاب النافع: الطريق الذي ينبغي أن يسلكه العبد في كل وقت، والذي يكون له في هجرتان:

__________

1 انظر مقدمة المحقق للكتاب: (ص129) عند الكلام على وصف النسخ الخطية.

2 مقدمة الصواعق: (1/77 - 78) .

3 ذيل الطبقات: (2/450) .

(4/37 - 45) .

5 طريق الهجرتين: (ص9) .

6 انظر: ابن قَيِّم الجوزية- حياته وآثاره: (ص 170 - 171) .

(1/250)

- هجرة إلى الله: بالطلب، والمحبة، والعبودية، والإنابة، والتوكل

- وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: بموافقة شرعه في الحركات والسَّكَنَات.

وأن سلوك هاتين الهجرتين سيأخذ بيد العبد إلى ولوج باب السعادتين: سعادة الدنيا باتِّبَاع هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم، وسعادة الآخرة بدخول جنات النعيم، ففي هاتين الهجرتين: سعادة الدارين.

والكتاب مطبوع متداول.

53- (الطُّرُقُ الْحُكْمِيَّة في السِّياسَة الشَّرعية) .

ذكره ابن رجب مختصراً باسم: (الطرق الحكمية) 1. وقد جاء اسمه على غلاف إحدى مخطوطاته: (الفِرَاسَةُ الْمَرْضِيَّة في أحكامِ السِّيَاسَةِ الشرعية) 2. وهذا العنوان متفق مع ما جاء في مطلع الكتاب من الكلام على الحكم بالفراسة والقرائن، وأحكام ذلك.

وقد وضع الشيخ محمد حامد الفقي الاسمين كليهما على غلاف طبعته للكتاب، فاصلاً بينهما بـ (أو) .

54- (عِدَةُ الصَّابرين وذخيرةُ الشَّاكرين) .

سماه المؤلف بذلك في مقدمته3، وذكره ابن رجب4،

__________

1 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) .

2 مقدمة الشيخ محمد الفقي للكتاب: (ص9 - 10) .

3 عدة الصابرين: (ص26) . طبعة الخشت.

4 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) .

(1/251)

والداودي1، وابن العِمَاد2 مختصراً، فقالوا: (عدة الصابرين) .

تنبيه: ذكر الشيخ بكر أبو زيد ضمن مؤلفات ابن القَيِّم كتاباً بعنوان: (الصبر والسكن) ، وعزاه إلى (كشف الظنون) ، ومحمد الفقي في مقدمة (إغاثة اللهفان) ، وغيرهما3.

وأقول: يظهر لي أن في هذا الكلام خطأً من وجهين:

- الأول: أن صوابه (الصبر والشكر) بالشين المعجمة، والراء المهملة، وليس: (السكن) ، وقد وقع على الصواب في (كشف الظنون) 4 الذي عزاه إليه الشيخ، أما عند الشيخ الفقي: فهو كما نقل الشيخ بكر: (الصبر والسكن) 5.

- الثاني: أن هذا الكتاب - والله أعلم - هو نفسه كتاب (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين) ، الذي يتناول موضوعي: الصبر والشكر، فيكون من سماه (الصبر والشكر) اختصر العنوان الكبير معبراً عنه بموضوعه، كما وقع هذا لكثير من كتب ابن القَيِّم.

ولعل مما يؤكد ذلك: أنه لم يذكر أحدٌ ممن ترجم لابن القَيِّم كتاباً له بعنوان (الصبر والشكر) ؟ فالله أعلم بحقيقة الحال.

__________

1 طبقات المفسرين: (2/93) .

2 الشذرات: (6/170) .

3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص167) .

(ص 1432) .

5 مقدمة إغاثة اللهفان: (1/24) .

(1/252)

55- (عَقدُ مُحْكَمِ الإخاءِ بين الكلمِ الطَّيِّبِ والعملِ الصالحِ المرفوع إلى رب السماء) .

ذكره ضمن كتبه: ابن رجب1، والداودي2، وابن العماد3.

وقد سماه الشيخ بكر أبو زيد: (عقد محكم الأحباء ... ) بالحاء المهملة، بعدها باء موحدة4، ولعله تابع في ذلك ما وقع في (ذيل الطبقات) لابن رجب؛ فإنه جاء عنده هكذا، ووقع عند ابن العماد (عقد محكم الأحقاء …) !

وكلاهما - والله أعلم - تصحيفٌ، والصواب: (الإخاء) كما وقع عند الداودي، من: آخى بين الشيئين، إخاءً، ومؤاخاةً، ويكون المعنى: (عقد أوثق الإخاء ... ) ، والله أعلم.

ثم هل لهذا الكتاب صلة بالآتي باسم: (الكلم الطيب والعمل الصالح) ؟ فإن هذا الكتاب قد عقد إخاءً محكماً بين هذين، فالله أعلم.

56- (الفتحُ القُدْسِيُّ) .

أشار إليه ابن القَيِّم في (بدائع الفوائد) 5 بهذا الاسم، وذكره كذلك: ابن رجب6 ضمن مؤلفاته.

__________

1 ذيل الطبقات: (2/449) .

2 طبقات المفسرين: (2/92) .

3 الشذرات: (6/169) .

4 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص174) .

(2/211) .

6 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) .

(1/253)

57- (الفرق بين الخلة والمحبة ومناظرة الخليل لقومه) .

ذكره ابن رجب، وقال: "مجلد"1.

وله - رحمه الله - كلام في معنى الخلَّة، والفرق بينها وبين المحبة في كتابه: (روضة المحبين) 2.

58- (الفُروسِية الشَّرْعِيَّة) .

أشار إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - في (إعلام الموقعين) 3، ووصفه بأنه كبير، فقال عند كلامه على مسألة محلل السباق: "وقد ذكرناها في كتابنا الكبير في (الفروسية الشرعية) ، وذكرنا فيه وفي (بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال) بيان بطلانه من أكثر من خمسين وجهاً، وبَيَّنَّا ضعف الحديث الذي احتج به من اشترطه…".

وذكره الصَّفَدِي باسم: (الفروسية المحمدية) 4.

وقد طُبع لابن القَيِّم كتاب باسم (الفروسية) من قديم في سنة 1360هـ، ثم طبع أخيراً طبعة أخرى في سنة 1410هـ بتحقيق محمد نظام الدين.

وقد قال ابن القَيِّم في خطبة هذا المطبوع: "… وهذا مختصر في الفروسية الشرعية النبوية"5.

__________

1 ذيل الطبقات: (2/450) .

(ص 63 - 65) .

(4 / 22) .

4 الوافي بالوفيات: (2/272) .

5 الفروسية: (ص2) .

(1/254)

وقد ذهب الشيخ بكر أبو زيد إلى القول بأن هذا المطبوع هو مختصر من المسمى (بالفروسية الشرعية) ، وعَدَّهُمَا كتابين1. وربما استند في ذلك إلى قول ابن القَيِّم في خطبة المطبوع: "هذا مختصر …" وقوله في النص السابق: " ... كتابنا الكبير في الفروسية الشرعية".

والذي يظهر لي - والله أعلم - أن هذا المطبوع هو الكتاب الكبير لابن القَيِّم في الفروسية، وليس مختصراً من غيره، وربما يُسْتَأنس في ذلك ببعض الأدلة، منها:

- أن هذا الكتاب الذي بين أيدينا ليس على طريقة المختصرات والتهذيبات، بل إنه - رحمه الله - تناول فيه أكثر المسائل بنوع بسطٍ واستقصاء، عارضاً أقوال الأئمة في كل مسألة، مع بيان الراجح بالدليل، بل إنه أودعه فوائد شتى في علوم الحديث، والجرح والتعديل، وشروط الأئمة في كتبهم وغير ذلك، ولذلك فقد وقع في طبعته الأخيرة في سبع وعشرين وثلاثمائة صحيفة.

- أنه لم يُشِر في هذا المطبوع - ولو مرة واحدة- إلى هذا الأصل الذي اختصر منه هذا الكتاب، وعادة ابن القَيِّم - كما مرَّ - الإحالة على الكتب المؤلفة في الموضوع نفسه، وبخاصة في القضايا التي فيها بسط أكثر.

وإنني الآن أتساءل: إذا كان بحث المحلل لم يوفه ابن القَيِّم نصيبه من البحث في هذا المطبوع، فلماذا لم يُحِلْ فيه على (الفروسية الكبير) كما أحال في (إعلام الموقعين) ومر نقله قبل قليل؟

__________

1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 176) .

(1/255)

- لم يُشِر أحدٌ من محققي الطبعتين إلى أن هذا مختصر، وأن له أصلاً كبيراً، ومثل هذا لا يفوتهما في الغالب، مع عنايتهما بالكتاب.

- أن التسمية التي نص عليها المؤلف في (إعلام الموقعين) - والتي حملها الشيخ بكر أبو زيد على الكبير - هي بعينها التسمية الواردة في هذا المطبوع، حيث قال في تسميته: (الفروسية الشرعية النبوية) .

- أن قوله فيه: "هذا مختصر ... " لا يلزم منه أنه اختصره من غيره، بل يمكن حَمْلُه على أنه صَنَّفَهُ على هذه الصفة المختصرة ابتداءً، فكأنه يقول: هذا كتاب مختصر جمعته في الفروسية، بل لو كان مختصراً من غيره للزمه التنبيه في هذا المقام على أنه اختصره من كذا.

- ويظهر: أن قوله "… ذَكَرْنَاهَا في كتابنا الكبير" ليس في مقابلة كتاب صغير في الفروسية، بل لعله قصد - والله أعلم - المقابلة بين (الفروسية) ، وبين كتابه (بيان الاستدلال) ؛ بدليل ذكره معه في السياق نفسه كما مضى؛ فإن (بيان الاستدلال) يُمَثِّل فصلاً من فصول كتاب (الفروسية) وهو الفصل الخاص بالكلام على إبطال أدلة المشترطين للتحليل، فصار (الفروسية) بهذا الاعتبار كبيراً بالنسبة لـ (بيان الاستدلال) . وهذا كقوله - رحمه الله - في (إغاثة اللهفان) 1 في الرد على أصحاب النجوم: "وقد أَشْبَعْنا الرد على هؤلاء في كتابنا الكبير المسمى: بالمفتاح". فهل يقول قائل: إنه صَنَّفَ كتابين باسم (مفتاح دار السعادة) أحدهما كبير والآخر صغير؟

__________

(2/125) .

(1/256)

- أن ما أشار إليه في النص السالف: من بيان فساد اشترط المحلل من خمسين وجهاً، موجود في المطبوع الذي بين أيدينا؛ فإنه قد ذكر فيه ما يقرب من أربعين وجهاً في ذلك1، وكذلك بَيَّنَ ضَعْفَ الحديثِ الْمُشَارِ إليه بِتَوَسُّعٍ2.

فهذا ما بدا لي في هذا الموضوع، والأمر - مع ذلك - محل نظر وبحث، فإن وُجد دليل صريح على وجود أصل ومختصر لابن القَيِّم في هذا الموضوع، فإننا لا نملك إلا التسليم والإذعان.

5- (فَضلُ العِلْمِ وأَهْلِهِ)

أشار إليه المؤلف في (طريق الهجرتين) 3 بهذا الاسم، كما أرشد إلى ذلك الشيخ بكر أبو زيد4، ولعله هو نفسه المذكور عند ابن رجب باسم: (فضل العلماء) 5، وقال الداودي (فضل العلم) 6.

60- (فوائدُ في الكلامِ على حديثِ الغَمَامةِ، وحديث الغَزَالةِ، والضَّبِّ، وغيره) .

ستأتي له دراسة مستقلة مع ذكر الأدلة على صحة نسبته لابن القَيِّم إن شاء الله7.

__________

1 الفروسية: (ص21 - 37) .

2 الفروسية: (ص37 - 53) .

(ص 619) .

4 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 178) .

5 ذيل الطبقات: (2/450) .

6 طبقات المفسرين: (2/93) .

7 انظر: (ص 310 - 319) .

(1/257)

61- (الفوائد) .

لم يذكره أحد من مترجمي ابن القَيِّم، والظاهر أنه مجموع على طريقة الأمالي، فلم تُذْكَرْ له مقدمة ولا خطبة.

وهو من كتبه النافعة جداً، حيث اشتمل على جملة من الفوائد المتنوعة: في التوحيد، والتفسير، والزهد والرقاق -وهذا هو الغالب عليه- والمواعظ والحِكَمِ وغير ذلك.

تنبيه: ذكر الدكتور/ عبد الله جار النبي1 - عند ذكره كتاب الفوائد-: أن ابن القَيِّم نصَّ عليه في كتابه: (اجتماع الجيوش الإسلامية) . وهذا وهم، والصوابُ: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد نصَّ على كتابه (اجتماع الجيوش) في كتابه (الفوائد) 2 فانعكست القضية عند الأخ.

62- (قُرَّةُ عيونِ الْمُحِبِّين، وروضةُ قلوبِ العارفين) .

ذكره الشيخ بكر أبو زيد3، وأفاد أن ابن القَيِّم ذكره في (مدارج السالكين) .

63- (الكافية الشافية في النحو) .

ذكره صاحب (كشف الظنون) 4، وأكد الشيخ بكر أبو زيد نِسْبَتَهَا لابن القَيِّم، ورَدَّ على من خَطَّأَ حاجي خليفة في ذلك5.

__________

1 ابن القَيِّم وجهوده في الدفاع عن عقيدة السلف: (ص111) .

2 انظره: (ص6) .

3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص179) .

(ص1369) .

5 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 180) .

(1/258)

64- (الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية) . نظم.

وبهذا الاسم ذكرها المؤلف في مقدمتها، وكذا سماها الصَّفَدِي1. واكتفى السيوطي بقوله: (الكافية الشافية) 2.

أما ابن رجب3، والداودي4: فَسَمَّيَاهَا: (الشافية الكافية في الانتصار …) قال ابن رجب: "وهي القصيدة النونية في السنة، مجلد". وقد اشتهرت بين أهل العلم وطلابه: (بالقصيدة النونية) .

ووقع عند ابن حجر: (الكافية في الانتصار ... ) 5. قال: "تبلغ ستة آلاف بيت". قال الشيخ بكر أبو زيد: "وقد قمت بعدِّ أبياتها فتحرر لي: أن عدد أبياتها هي (5949) ، أي: ستة آلاف إلا واحداً وخمسين بيتاً"6.

وقد نَظَمَ ابن القَيِّم هذه القصيدة في الدفاع عن عقيدة السلف، والرد على أهل الزيغ والانحراف: من الْمُعَطِّلَة، والْجَهْمِيَّةِ، والرافضة، وغيرهم، ببراهين قويَّة وأدلة ساطعة، وهي مطبوعة منتشرة.

65- (الكبائر) .

ذكره ابن رجب، وقال: "مجلد"7.

__________

1 الوافي بالوفيات: (2/272) .

2 بغية الوعاة: (1/63) .

3 ذيل الطبقات: (2/450) .

4 طبقات المفسرين: (2/93) .

5 الدرر الكامنة: (4/22) .

6 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 182) .

7 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) .

(1/259)

66- (كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء) .

ذكره الصَّفَدِي بهذا الاسم1، وذكر له حاجي خليفة كتاباً باسم: (حرمة السماع) 2.

وقد طُبع أخيراً كتاب لابن القَيِّم باسم: (الكلام على مسألة السماع) في مجلد كبير، بتحقيق/راشد بن عبد العزيز الحمد سنة 1409هـ، وهو عبارة عن سؤال حول السماع، أجاب عنه ابن القَيِّم رحمه الله.

والذي يظهر أن هذا هو كتاب ابن القَيِّم في السماع، الذي أشار إليه مرة في (إغاثة اللهفان) 3 بقوله: "وقد ذكرنا شُبَهَ الْمُغَنِّين والْمَفْتُونِين بالسماع الشيطاني، ونَقَضْنَاها… في كتابنا الكبير في السماع". ويكون هو نفسه المسمى بـ (كشف الغطاء…) .

أما تسميته بـ (الكلام على مسألة السماع) ، فلعلها من وضع المحقق، وذلك بالنظر إلى ما جاء في أول جوابه من قوله: "الحمد لله، الكلام في هذه المسألة …".

67- (الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصَّالِحُ) .

ذكره ابن القَيِّم بهذا الاسم في (طريق الهجرتين) 4، فقال: "وقد

__________

1 الوافي بالوفيات: (2/272) .

2 كشف الظنون: (ص650) . وتوجد منه نسخة بقسم المخطوطات، بالجامعة الإسلامية برقم (1263) ، مصورة عن الأسكوريال بأسبانيا، تقع في (78) ورقة.

(1/267) .

(ص 73) .

(1/260)

ذكرنا في كتاب (الكلم الطيب والعمل الصالح) من فوائد الذكر: استجلاب ذكر الله سبحانه لعبده، وذكرنا قريباً من مائة فائدة تتعلق بالذكر…".

وسماه بذلك ابن رجب، وقال: "مجلد لطيف"1.

وهذا الكتاب هو نفسه المطبوع المشهور باسم: (الوَابِلُ الصَّيِّبُ من الكَلِمِ الطَّيِّبِ) . وقد نصَّ المؤلف على هذه التسمية أيضاً، فقال في (مدارج السالكين) 2 - عند كلامه على فوائد الذكر-: "وقد ذكرنا في الذكر نحو مائة فائدة في كتابنا (الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب) وذكرنا هناك أسرار الذكر…". وهي عَيْنُهُا عبارته الماضية قبل قليل عن (الكلم الطيب ... ) .

68- (اللَّمْحَة في الرَّدِّ على ابن طلحة) .

ذكره الشيخ بكر أبو زيد3 تبعاً للمناوي في (فيض القدير) 4.

ولم أرَ من ذكره ممن ترجم لابن القَيِّم رحمه الله.

69- (مَدَارِجُ السَّالِكِين بين مَنَازِلِ إيَّاك نَعْبدُ وإياك نَسْتَعِين) .

وقد طُبع هذا الكتاب مراراً واشتهر بهذا الاسم، ولم يُشِر ابن القَيِّم إلى تسميته في المقدمة.

__________

1 ذيل طبقات الحنابلة: (2/450) .

(2/448) .

3 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 187) .

(1/116) .

(1/261)

وذكره ابن رجب باسم: (مراحل السائرين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين) 1. ثم قال: "وهو شرح (منازل السائرين) لشيخ الإسلام الأنصاري2، كتاب جليل القدر".

وسماه ابن حجر3، والشوكاني4 بموضوعه، فقالا: (شرح منازل السائرين) فكلها أسماء لكتاب واحد.

وهو - رحمه الله - في هذا الكتاب يرد على جميع طوائف أهل البدع والضلال، وذلك من خلال الكلام على (فاتحة الكتاب) ، ومَاتَضَمَّنَتْهُ من منازل السائرين، ومقامات العارفين5. وهو مع ذلك كثيراً ما يَتَعَقَّبُ الهروي أثناء شرحه، حيث كان يرى أن الهروي له طريقة في السلوك مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة؛ إذ إنه "لا يُقَدِّمُ على الفَنَاء شيئاً، ويراه الغاية التي يشعر بها السالكون"6.

70- (المسائل الطرابلسية) .

ذكرها ابن رجب، وقال: "ثلاث مجلدات"7.

__________

1 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) .

2 هو: أبو إسماعيل، عبد الله بن محمد بن علي بن محمد الأنصاري الهروي، من ذرية أبي أيوب الأنصاري، صاحب (ذم الكلام) وغيره، توفي سنة 481هـ.

له ترجمة في: سير أعلام النبلاء: (18/503) ، والتذكرة: (3/1183) .

3 الدرر الكامنة: (4/22) .

4 البدر الطالع: (2/144) .

5 انظر: مدارج السالكين: (1/12) .

6 انظر: ابن القَيِّم وجهوده في الدفاع عن عقيدة السلف: (ص117 - 118) .

7 ذيل الطبقات: (2/450) .

(1/262)

71- (معاني الأدوات والحروف) .

ذكره الصَّفَدِي1، والسيوطي2 وغيرهما.

72- (مفتاحُ دارِ السَّعادة، ومنشورُ ولاية أهل العِلْمِ والإرادة) .

كذا سماه مؤلفه في مقدمته3، وسماه مرة: (المفتاح) 4.

وذكر جماعة من المترجمين لابن القَيِّم الشطر الأول من اسمه، وهو (مفتاح دار السعادة) 5.

وقد خَتَمَهُ المؤلف - رحمه الله - بذكر ما احتواه واشتمل عليه من فوائد وموضوعات6. والكتاب مطبوع عدة طبعات7.

73- (الْمَنَارُ الْمُنِيفُ في الصَّحِيحِ والضَّعِيفِ) .

ستأتي له دراسة مستقلة إن شاء الله8.

74- (الْمَوْرِدُ الصَّافِي والظِّلُّ الضَّافِي) .

أشار إليه ابن القَيِّم بهذا الاسم في (طريق الهجرتين) 9، وذكر أنه

__________

1 الوافي بالوفيات: (2/272) .

2 بغية الوعاة: (1/63) .

3 مفتاح دار السعادة: (1/47) .

4 الصواعق المرسلة: (4/1450) .

5 انظر: الوافي بالوفيات: (2/271) ، وذيل الطبقات: (2/450) ، والدرر الكامنة: (4/22) .

6 مفتاح دار السعادة: (2/273) .

7 أحسنها طبعة بتحقيق الأخ الفاضل/ علي بن حسن بن علي، في ثلاثة مجلدات سنة 1416هـ.

8 انظر ص: (300) .

(ص 103) .

(1/263)

كتاب كبير في المحبة. وهذا الكتاب الكبير في المحبة: أشار إليه مرة في (مدارج السالكين) 1 دون أن يُسَمِّيه.

وسماه الشيخ بكر أبو زيد: (المورد الصافي والظل الوافي) 2 تبعاً لصاحب (هدية العارفين) ، فلعله تصحيف، والله أعلم.

75- (مولد النبي صلى الله عليه وسلم) .

ذكره الشوكاني3، وصِدِّيق حسن4.

76- (نَقْدُ الْمُنْقُول، والمحكُّ الْمُمَيِّزُ بين المقبول والمردود) .

ذكره ابن رجب بهذا الاسم، وقال: "مجلد"5.

ولعل لهذا الكتاب علاقة بـ (المنار المنيف) والله أعلم.

77- (نِكَاحُ الْمُحْرِم) .

ذكره ابن رجب، وقال: "مجلد"6.

78- (نورُ الْمُؤْمِنِ وَحَيَاتُهُ) .

ذكره ابن رجب، وقال: "مجلد"7.

__________

(3/20) .

2 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص194) .

3 البدر الطالع: (2/144) .

4 التاج المكلل: (ص419) .

5 ذيل الطبقات: (2/449) .

6 ذيل الطبقات: (2/450) .

7 ذيل الطبقات: (2/450) .

(1/264)

- (الوابل الصيب من الكلم الطيب) : انظر ما تقدم باسم: (الكلم الطيب والعمل الصالح) .

79- (هِدَايَة الْحَيَارَى فِي أجْوِبَة اليهودِ والنَّصارى) .

كذا سماه المؤلف في مقدمته1، وانظر ما تقدم باسم: (جوابات عابدي الصُّلْبان) .

وبعد، فهذا ما وقفت عليه من مؤلفات لابن القَيِّم رحمه الله، ويحسنُ التنبيه على أمر مهم، يلحظه الناظر الْمُدَقِّقُ في هذه القائمة، وهو: وقوع شيء من التكرار في بعض مؤلفات ابن القَيِّم، وذلك نتيجة لعدِّ الكتاب الواحد كتابين كما مرت أمثلة لذلك، ولعل ذلك يرجع لأمور أهمها:

- تسمية ابن القَيِّم الكتاب الواحد باسمين، أو يذكره مرة باسمه ومرة بموضوعه، ووقع ذلك من بعض المترجمين له أيضاً.

- إفراد بعض البحوث من مؤلفات ابن القَيِّم - إما قديماً أو حديثاً - ثم تطبع هذه المفردات مستقلة بأسماء خاصة بها، فيأتي بعض الناس فيعدُّ هذا المفرد كتاباً آخر.

وقد نَبَّه الشيخ بكر أبو زيد إلى أسباب أخرى وراء ذلك، فلتراجع2.

__________

(ص 11) .

2 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص 111 - 112) .

(1/265)

المبحث الثالث

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

المبحث الثالث: مَصَادِرُ ابن القَيِّم في مؤلفاته

من المهم - عند تناول مؤلفات ابن القَيِّم - أن نتعرف على المصادر التي اعتمدها في كتبه، ونقل عنها في بحوثه؛ فإن نظرةً فاحصةً في قائمة مصادره تبرز لنا أهم الخصائص التي تميز حياة ابن القَيِّم العلمية وكتاباته.

ويمكننا أن نتناول في هذا المبحث المتعلق بالمصادر المسائل الآتية:

المسألة الأولى: منهجه في النقل عن المصادر، وأهم الخصائص المميزة لمصادره.

يمكن تحديد المعالم الأساسية لمنهج ابن القَيِّم في تعامله مع المصادر، وأهم السمات التي تميزت بها مصادره فيما يلي:

أولاً: وفرة مصادره وكثرتها، إذ بلغت مصادره في كتاب واحد- وهو (زاد المعاد) -: ثمانين ومائة مصدر تقريباً1، أما عدد المصادر التي وردت في مجلد واحد من (الصواعق المرسلة) فقد بلغت حوالي مائة كتاب2.

ثانياً: تنوع مصادره رحمه الله، وشمولها فنون عديدة، وما ذلك إلا لتنوع معارفه، وتصنيفه في أكثر من فنٍّ كما مضى.

__________

1 استفدت ذلك من خلال حصر الكتب الواردة في فهرس المصادر الذي صنعه الأستاذ/ محمد أديب الجادر لزاد المعاد. (انظر ص 455 - 471) .

2 انظر مقدمة محقق (الصواعق المرسلة) : (1/84) .

(1/267)

ثالثاً: اعتماده في كل فن على أشهر وأهم وأجود ما كُتِبَ وصُنِّفَ فيه، يلحظ ذلك كل من تعامل مع كتبه، أو طالع قائمة مصادره.

رابعاً: لم يكتف ابن القَيِّم - رحمه الله - في نقل مادته العلمية بالمصادر المكتوبة فقط، بل رُبَّمَا دَوَّنَ بعض المعلومات بطريق المشافهة والسماع.

فيقول مرة: "سألت شيخنا عن سماع يزيد بن عبد الله عن أبي هريرة؟ "1. ويقول مرة أخرى: "قُرئَ على شيخنا أبي الحجاج الحافظ في (التهذيب) وأنا أسمع"2.

خامساً: من المصادر التي اعتمد عليها ابن القَيِّم في تسجيل معلوماته أيضاً: المشاهدة والملاحظة والتجارب الشخصية، كما مضت الإشارة إلى شيء من ذلك عند الكلام على منهجِهِ في التأليف3.

سادساً: حِرْصُهُ - رحمه الله - على توثيق ما يَنْقُلُه من معلومات من هذه المصادر، حتى إنه ليراجع للكتاب الواحد عدة نسخ عندما يقتضي الأمر ذلك.

قال مرة في حديث: "وهذا في جميع نسخ كتاب النسائي هكذا"4. ويقول في حديث آخر: "هذا الذي في رواية اللؤلؤي عن أبي داود، وفي رواية ابن داسة عنه ... "5.

__________

1 جلاء الأفهام: (ص 18) .

2 زاد المعاد: (5/709) .

3 انظر ص: (218) .

4 زاد المعاد: (5/511) .

5 الصلاة: (ص161) .

(1/268)

سابعاً: قد يُسَمِّى بعض المصادر بغير ما اشتهرت وعُرِفَت به، فيقول في (سنن أبي داود) : "وقال أبو داود في مسنده"1. ومرة يقول: "رواه أبو داود في صحيحه"2. وكذا قال للدارمي مرة: "قال الدارمي في صحيحه"3. وقال مرة: "رواه ابن الجارود في مسنده"4. وقال عن كتاب (تأويل مختلف الحديث) لابن قتيبة: "اختلاف الحديث"5.

وهذا وإن كان قليلاً في كلام ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أن فيه نظراً؛ وذلك من الناحية الفَنِّيَّة الصناعية، وكذا من ناحية احتمال وقوع بعض اللبس للناظر في ذلك، وإن كان قد دَرَجَ عليه كثير من أهل العلم في مؤلفاتهم.

ثامناً: يختصر ابن القَيِّم - رحمه الله - في كثير من الأحيان اسم المصدر، أو يشير إليه بموضوعه، الأمر الذي يحتاج من الناظر في كتبه إلى دراية بالكتب ومؤلفيها وموضوعاتها؛ وذلك ليمكنه معرفة الكتاب المقصود.

ومن الأمثلة لما جاء عنه في ذلك: قوله: "روى الدارمي في النقض"6 ويقصد به كتاب (النقض على بشر المريسي) . وقال مرة:

__________

1 حادي الأرواح: (ص 125) .

2 حادي الأرواح: (ص361) .

3 إعلام الموقعين: (1/379) .

4 تهذيب السنن: (4/374) .

5 زاد المعاد: (4/150) .

6 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص133) .

(1/269)

"قول الإمام أبي القاسم الطبري اللالكائي… في كتابه في السنة"1. واسم كتابه كاملاً: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) . وقال مرة: "وقال أبو حاتم البُسْتِي في كتاب الضعفاء"2 واسم الكتاب كاملاً: (المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين) ، وهذا الصنيع اشتهر - أيضاً - عند كثير من الأئمة، يفعلونه اختصاراً.

تاسعاً: لم يلتزم ابن القَيِّم بذكر اسم المصدر الذي ينقل عنه دائماً، بل إنه كثيراً ما يُسَمِّي الشخص الذي ينقل عنه دون تعيين اسم كتابه، وسيأتي ذكر طرف من ذلك عند الكلام على منهجه في التخريج.

ومن أمثلة ذلك أيضاً: قوله: "قال محمد بن عثمان الحافظ"3. وقوله مرة: "قال الحازمي"4. وقوله: "قال الرازي"5. وهذا كثير منه، ومعلوم أن هذا قد يؤدي إلى صعوبة الوصول إلى المصدر المقصود، وبخاصة إذا كان الْمُؤَلِّفُ المشار إليه له أكثر من كتاب في الفن، كالذهبي مثلاً؛ فإن له عدة كتب في الرجال.

كما أنه - رحمه الله - رُبَّمَا نقل بعض الفوائد دون تعيين اسم المصدر أو المؤلف.

على أن ابن القَيِّم قد يكون معذوراً في ذلك؛ إذا قد عُرِفَ بالدقة

__________

1 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص 121) .

2 الفروسية: (ص44) .

3 جلاء الأفهام: (ص18) .

4 تهذيب السنن: (1/134) .

5 زاد المعاد: (2/145) .

(1/270)

في النقل، مع بسط مسائله وشدة تحريرها، بحيث إنه - رحمه الله - لم يُبْقِ للقارئ والمطالع حاجةً للرجوع إلى أصوله التي نقل عنها، على أن هذا الصنيع - أيضاً - عُرِف عن كثير من الأئمة الأعلام في مصنفاتهم وتواليفهم.

عاشراً: عِنَايَتُه - رحمه الله - بالمصادر التي تَتَّصِلَ بموضوعه اتصالاً مباشراً، وإِكْثَارُهُ من النقل عنها، بحيث تكون هي المصادر الأساسية لذلك الموضوع.

فتجده في (جلاء الأفهام) - الذي يتناول فيه موضوع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ من النقل عن كتاب: (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) 1 لإسماعيل بن إسحاق، حتى إنه قد ينقل عنه باباً بكامله2. وينقل فيه أيضاً عن كتاب: (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) لأبي الشيخ3، ولابن أبي عاصم أيضاً4، وغيرهم.

وكذا الحال في سائر كتبه، فإنه يُعنى في المقام الأول بالمصادر المصنفة في موضوع كتابه، أو التي لها به صلة مباشرة.

حادي عشر: ربما يلجأُ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى تقويم بعض المصادر التي ينقل منها، وإبداء رأيه فيها، وسيأتي الكلام على ذلك بأوسع من هذا.

__________

1 انظر مثلاً: جلاء الأفهام: (ص205، 213، 232، 243، 245، 258، 260) .

2 جلاء الأفهام: (ص 57 - 63) .

3 جلاء الأفهام: (ص 229، 237، 244) .

4 جلاء الأفهام: (ص234) .

(1/271)

تلك أبرز الملاحظات حولَ منهج ابن القَيِّم في الاستفادة من المصادر والنقل عنها، وبيان بعض الخصائص المميزة لبعض هذه المصادر.

المسألة الثانية: تقويم ابن القَيِّم لبعض مصادره، وإبداء رأيه فيها.

لم يكن ابن القَيِّم - رحمه الله - وهو يستفيد من هذا العدد الهائل من المصادر المتنوعة، مُجَرَّدَ ناقلٍ فحسب، وإنما بَرَزَتْ في بعض الأحيان شخصيته المتميزة وهو يُبْدي رأيه في بعض هذه المصادر: بمدحها والثناء عليها تارةً، وتارةً أخرى ببيانِ عيوبها وبعض المآخذ عليها، وتارةً ثالثة بالتعريف بها أو ذكر بعض المعلومات التوضيحية عنها، أو الفوائد المتعلقة بها.

فمن الكتب التي مَدَحها وأَثْنَى عليها:

1- (سنن أبي داود) :

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "لما كان سنن أبي داود ... من الإسلام بالموضع الذي خصه الله به، بحيث صار حَكَمَاً بين أهل الإسلام ... فإنه جَمَعَ شَمْلَ أحاديث الأحكام، وَرَتَّبَهَا أحسن ترتيب ونظمها أحسن نظام، مع انتقائها أحسن انتقاء، واطِّرَاحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء"1.

ولعل قوله رحمه الله باطراح أبي داود أحاديث المجروحين والضعفاء، يُحْمل على الغالب؛ فقد وُجِدَ بَعْضُهُم في كتابه.

__________

1 تهذيب السنن: (1/8) .

(1/272)

2- (الأحاديث الجِيَادُ الْمُخْتَارَة) : للضياء المقدسي (ت643هـ) .

قال ابن القَيِّم: "… التي هي أصح من صحيح الحاكم"1.

3- (المعرفة والتاريخ) ليعقوب بن سفيان الفسوي (ت277هـ) .

قال ابن القَيِّم: "وهو كتاب جليل، غزير العلم، جمُّ الفوائد"2.

4- (تفسير البغوي) للحسن بن مسعود البغوي (ت516هـ) .

قال ابن القَيِّم: "… الذي هو شَجَىً3 في حُلُوق الْجَهْمِيَّة والْمُعَطِّلَة"4. وقال أيضاً: "… الذي اجتمعت الأمة على تلقِّي تفسيره بالقبول، وقراءته على رؤوس الأشهاد من غير نكير"5.

5- (غريب الحديث) لأبي عبيد القاسم بن سلاَّم (ت224هـ) .

قال ابن القَيِّم: "الذي هو لمن بعده من كتب الغريب إمام"6.

6- (السنة) : وهو (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) . لأبي القاسم اللالكائي.

__________

1 الصواعق المرسلة: (2/626) ، وإغاثة اللهفان: (1/287) .

2 إعلام الموقعين: (3/83) .

3 الشَّجَا: ما اعترض في حَلْق الإنسان والدابة من عظم أو عود أو غيرهما، وقد شَجِيَ، يَشْجَى، شجاً. (لسان العرب ص: 2203) .

4 إجتماع الجيوش الإسلامية: (ص122) .

5 المصدر السابق: (ص165) .

6 أحكام أهل الذمة: (2/524) .

(1/273)

قال ابن القَيِّم: "وهو من أجلِّ الكتب"1.

7- (الرد على الجهمية) :

8- (النقض على بشر المريسي) : كلاهما لعثمان بن سعيد الدارمي.

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وكتاباه من أَجَلِّ الكتب الْمَصَنَّفَةِ في السنة وَأَنْفَعِهَا، وينبغي لكل طالب سُنَّةٍ مراده الوقوفُ على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة أن يقرأ كِتَابَيْهِ، وكان شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة -رحمه الله- يُوصي بهذين الكتابين أشد الوصية، ويعظمهما جداً"2.

9- (فرع الصفات في تقريع نفاة الصفات) : لأبي العباس المظفري.

قال ابن القَيِّم: "وهو - على صِغَرِ حجمه - كتابٌ جليلٌ، غزير العلم"3.

10- (أقسام اللَّذَّات) : لفخر الدين الرازي.

قال ابن القَيِّم: "وهو كتاب مفيد"4.

__________

1 اجتماع الجيوش الإسلامية: (ص121) .

2 المصدر السابق: (ص143) .

3 المصدر السابق: (ص196) .

4 المصدر السابق: (ص194) .

(1/274)

ومن الكتب التي انتقدها وبيَّنَ بعض المآخذ عليها:

1- (سنن ابن ماجه) :

قال ابن القَيِّم في حديث: «من مات مريضاً مات شهيداً": "من أفراد ابن ماجه، وفي أفرادِهِ غَرَائبُ ومُنْكَراتٌ"1. ونقل كلاماً في هذا المعنى عن شيخيه: ابن تَيْمِيَّة، والمزي2.

2- (المستدرك) : للحاكم.

قال يرد على الحاكم في حكمه على حديث بأنه على شرط سلم وليس هو كذلك: "وهذا وأمثاله هو الذي شَانَ كِتَابَهُ وَوَضَعَهُ، وجعل تَصْحِيحَهُ دون تحسين غيره"3.

3- (حقائق التفسير) : لأبي عبد الرحمن السُّلمي (ت 412هـ) .

قال ابن القَيِّم: "… التفاسير المستنكرة المستكرهة، التي قُصِدَ بها الإغراب والإتيان بخلاف ما يَتَعَارَفُهُ النَّاس؛ كَحَقَائِق السُّلَمي وغيره، مما لو تُتُبِّعَ وبُيِّنَ بُطلانه، لجاءَ عِدَّة أسفار كِبَار"4.

ومن المصادر التي ذكر معلومات تعريفية إيضاحية عنها:

1- (مسند الإمام أحمد) :

قال رحمه الله: "الإمام أحمد لم يشترط في مسنده الصحيح ولا

__________

1 الروح: (ص110) .

2 زاد المعاد: (1/435) .

3 المنار المنيف: (ص21) .

4 الصواعق المرسلة: (2/696) .

(1/275)

التزمه، وفي مسنده عِدَّة أحاديث سُئِل هو عنها، فَضَعَّفَهَا بعينها وأَنْكَرَهَا"1.

2- (الكامل في ضعفاء الرجال) : لأبي أحمد بن عَدِيّ (ت365هـ) .

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وهو إنما يذكر فيه غالباً الأحاديث التي أُنْكِرَت على من يذكر ترجمته"2.

3- (خصائص المسند) : لأبي موسى المديني.

قال: "وقد صَنَّفَ الحافظ أبو موسى المديني كتاباً ذكر فيه فضائل المسند وخَصَائِصَهُ"3.

4- (جامع الأصول) : لابن الأثير الجزري (ت606هـ) .

قال ابن القَيِّم: "رزين بن معاوية صاحب (تجريد الصحاح) … وعلى كتابه التجريد اعتمد صاحب (جامع الأصول") 4.

وبعد، فهذه أمثلة لِمَا جاء عن ابن القَيِّم - رحمه الله - من كلام في تقويم مصادره والتعريف بها، وفي هذه الأمثلة تظهر شخصيته المتميزة، وأثرها في نقد مصادره - سلباً أو إيجاباً - نقداً مفيداً بنَّاءً، مما يجعل لهذه الأقوال وزنها في التعريف بهذه المصادر، والوقوف على مكانتها وقيمتها.

__________

1 الفروسية: (ص46) .

2 الفروسية: (ص51) .

3 الفروسية: (ص49) .

4 مختصر الصواعق: (2/368) .

(1/276)

ويؤكد هذا النقد - في الوقت ذاته - حقيقة أخرى، وهي: يقظة ابن القَيِّم وهو يستفيد من هذه المصادر، ومعرفته بأحوالها، وتمييزه بين غَثِّهَا وسمينها.

المسألة الثالثة: في ذكر مصادر ابن القَيِّم الحديثية.

وبعد أن استعرضنا منهج ابن القَيِّم في الاستفادة من مصادره، والنقل عنها، رأيت أن أسوق جملة من هذه المصادر، مع الإشارة إلى أبرز استفادته منها في مؤلفاته ما أمكن، وذلك لتكون أمثلة واقعيةً وتطبيقاً عملياً لما تقدم من الكلام على مصادره وسماتها.

وقد كنت جمعت كل ما رأيته من ذلك في كتب ابن القَيِّم المختلفة، إلا أنني لَمَّا وقفت على كتاب الشيخ بكر أبي زيد -حفظه الله-: (موارد ابن القَيِّم في كتبه) التي بلغت عنده (569) كتاباً، رأيت أن اقتصر من ذلك على ذكر أهم مصادره وأبرزها في الحديث وعلومه فقط؛ إذ إن ذلك ألصق بموضوع هذا البحث، ومن أراد الزيادة على ذلك فعليه بكتاب الشيخ بكر آنف الذكر.

وقد شجَّعني على المضي في ذكر ذلك أنني وجدت بعض المصادر التي وقفت عليها غير موجودة في قائمة الشيخ بكر أبي زيد.

وسأُعْرِضُ في هذه القائمة عن ذكر الكتب التي يكثر ورودها عند ابن القَيِّم؛ كالكتب الستة وغيرها من الدواوين المشهورة؛ وذلك تجنباً للإطالة؛ إذ ليس القصد من ذلك الاستقصاء والحصر، وإنما القصد عرض نماذج تكون أمثلة لما وراءها، ومنبئة عن مثيلاتها، وأسوق ذلك كله مرتباً على حروف الهجاء.

(1/277)

1- (الأحاديث الجِيَادُ المختارةُ) للضياء المقدسي:

إغاثة اللهفان: (1/287) ، تهذيب السنن: (7/337) ، مختصر الصواعق: (2/404) . وذكرها باسم: (المختارة) .

2- (اختلاف الحديث) للشافعي:

زاد المعاد: (1/379) ، (2/156) .

3- (الأدب المفرد) للبخاري:

تحفة المودود: (132) ، مدارج السالكين: (2/167) .

4- (الأذكار) للنووي:

جلاء الأفهام: (260) .

5- (الإرشاد) للخليلي:

المنار المنيف: (116) .

6- (الاستيعاب) لابن عبد البر:

اجتماع الجيوش: (64) ، جلاء الأفهام: (244) - وسماه فيه: الصحابة - تحفة المودود: (104) .

7- (الأطراف) لأبي القاسم ابن عساكر: وهو أطراف السنن الأربعة.

زاد المعاد: (5/276، 627) ، تهذيب السنن: (3/313) .

8- (الأفراد) للدارقطني:

زاد المعاد: (1/383) ، (4/60) .

9- (بيان الوهم والإيهام) لابن القطان:

زاد المعاد: (2/276) ، تهذيب السنن: (1/356) .

(1/278)

10- (تأويل مختلف الحديث) لابن قتيبة: ذكره باسم: (اختلاف الحديث) .

زاد المعاد: (4/150) ، مفتاح دار السعادة: (2/264) .

11- (التاريخ) لابن أبي خيثمة:

زاد المعاد: (5/15) ، تهذيب السنن: (3/401) ، (7/114) ، الفروسية: (41) .

12- (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي:

اجتماع الجيوش الإسلامية: (209) ، شفاء العليل: (428) ، الجواب الكافي: (335) ، مفتاح دار السعادة: (1/165) .

13- (التاريخ الكبير) للبخاري:

تهذيب السنن: (1/136، 363) ، (2/292، 376) ، (3/134) ، زاد المعاد: (3/508) ، (5/626) ، جلاء الأفهام: (12) ، المنار المنيف: (85) ، تحفة المودود: (120، 225) ، الطرق الحكمية: (234) .

14- (تجريد الصحاح) لرزين بن معاوية العبدري:

زاد المعاد: (1/491) .

15- (الترغيب والترهيب) لأبي موسى المديني:

الروح: (110) .

16- (التقاسيم والأنواع) : وهو (صحيح ابن حبان) :

ذكره بهذا الاسم في: عدة الصابرين: (166) . ونقل عنه في غيره كثيراً.

(1/279)

17- (التمهيد) لابن عبد البر:

اجتماع الجيوش الإسلامية: (75، 76) ، زاد المعاد: (5/360) ، الروح: (112) ، الفروسية: (11/42) ، جلاء الأفهام: (180) ، مختصر الصواعق: (2/310) ، تهذيب السنن: (7/102، 116) .

18- (التمييز) للإمام مسلم:

تهذيب السنن: (2/284) .

19- (تهذيب الآثار) لابن جرير الطبري:

زاد المعاد: (4/368) ، الفروسية: (70) .

20- (تهذيب الكمال) : للمزي:

زاد المعاد: (5/709، 722) ، جلاء الأفهام: (12، 34) ، الفروسية: (3) .

21- (الثقات) لابن حبان:

جلاء الأفهام: (12، 20) ، زاد المعاد: (5/680، 681) ، مختصر الصواعق: (2/404) .

22- (الثَّقَفِيَّات) لأبي العباس الثقفي:

اجتماع الجيوش: (60) ، جلاء الأفهام: (36) ، هداية الحيارى: (127) .

23- (الجامع) لابن وهب:

مفتاح دار السعادة: (2/236) .

24- (الجامع) لسفيان الثوري:

زاد المعاد: (2/311) ، تهذيب السنن: (6/324) .

(1/280)

25- (الجامع) لمعمر:

زاد المعاد: (3/21) .

26- (الجامعُ لذكرِ أَئِمَّةِ الأمصار الْمُزَكِّين لرواة الأخبار) للحاكم:

بدائع الفوائد: (3/195) .

27- (جزء الحسن بن أحمد بن نفيل) :

جلاء الأفهام: (17) .

28- (الجمع بين الصحيحين) لعبد الحق:

حادي الأرواح: (358) .

29- (حديث الحسن بن علي الجوهري) :

زاد المعاد: (4/258) .

30- (حلية الأولياء) لأبي نعيم:

الجواب الكافي: (68) .

31- (الخلافيات) للبيهقي:

المنار المنيف: (138) .

32- (الدعوات الكبير) للبيهقي:

الوابل الصيب: (192، 202) .

33- (الذكر) للفريابي:

الوابل الصيب: (202) .

34- (السنن) لابن أبي حاتم1:

الصلاة: (25، 47) .

__________

1 ذُكِرَ أنه صنف (مسنداً) في ألف جزء.

(1/281)

35- (السنن) للأثرم:

زاد المعاد: (1/227) ، (2/170، 188، 194) ، إعلام الموقعين: (3/55) ، إغاثة اللهفان: (1/140، 141، 270) .

36- (السنن الكبرى) للنسائي:

زاد المعاد: (1/303) ، (2/331، 389) ، (5/677) ، الوابل الصيب: (143) ، بدائع الفوائد: (4/101) .

37- (سنن حرملة) :

زاد المعاد: (1/510) .

38- (الشمائل) للترمذي:

زاد المعاد: (4/307) .

39- (صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) :

عدة الصابرين: (64، 98) .

40- (الضعفاء) للعقيلي:

عدة الصابرين: (204) .

41- (الضعفاء) لابن الجوزي:

الجواب الكافي: (367) .

42- (الضعفاء) للذهبي:

زاد المعاد: (2/131) .

43- (الطبقات الكبرى) لابن سعد:

زاد المعاد: (3/28، 409) ، جلاء الأفهام: (6، 264) ، الفوائد: (150) ، هداية الحيارى: (89) .

(1/282)

44- (طبقات أصحاب الشافعي) للعباداني:

زاد المعاد: (5/182) .

45- (علل حديث الزهري) : للذهلي، المعروف بالزهريات:

تهذيب السنن: (1/107، 392) .

46- (العلل) لعبد الله بن الإمام أحمد:

تهذيب السنن: (1/124) ، مفتاح دار السعادة: (1/169) .

47- (العلل) للخلاَّل:

مفتاح دار السعادة: (1/164) .

48- (العلل) للترمذي:

زاد المعاد: (2/385) ، تهذيب السنن: (1/80، 137) ، (3/134) ، (5/232) ، إعلام الموقعين: (2/352) ، الصلاة: (108) ، إغاثة اللهفان: (1/270) وغير ذلك.

49- (علل الحديث) لابن أبي حاتم:

جلاء الأفهام: (34) ، تهذيب السنن: (1/110، 368) ، بدائع الفوائد: (3/197) ، الفروسية: (41) .

50- (العلل) للدارقطني:

جلاء الأفهام: (6، 187) ، تهذيب السنن: (1/26، 184) ، الفروسية: (50) .

51- (العلل المتناهية) لابن الجوزي:

إغاثة اللهفان: (1/315) .

52- (علوم الحديث) للحاكم. وهو: (معرفة علوم الحديث) :

زاد المعاد: (5/434) ، تهذيب السنن: (7/107، 294) ، اجتماع الجيوش الإسلامية: (117) .

(1/283)

53- (علوم الحديث) لابن الصلاح:

رسالة الموضوعات: (ق 47/أ) .

54- (غرائب مالك) للدارقطني:

روضة المحبين: (100) .

55- (غريب الحديث) لأبي عبيد القاسم بن سلاَّم:

تهذيب السنن: (3/426) ، أحكام أهل الذمة: (2/524) .

56- (غريب الحديث) للخطَّابي:

زاد المعاد: (4/173) .

57- (الغَيْلانِيَّاتِ) وهو (الفوائد المنتخبة العوالي عن الشيوخ الثقات) لأبي بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي:

زاد المعاد: (4/339، 404) ، اجتماع الجيوش الإسلامية: (210) ، إعلام الموقعين: (2/334) .

58- (الفصلُ للوَصْلِ الْمُدْرِجِ في النقل) للخطيب البغدادي:

تهذيب السنن: (5/399) ، جلاء الأفهام: (188) .

59- (فوائد أبي بكر بن عاصم) :

تهذيب السنن: (6/21) .

60- (فوائد أبي سعيد القاص) :

جلاء الأفهام: (18) .

61- (فوائد أبي الفرج الثقفي) لأبي الخير بن حمدان:

مختصر الصواعق: (2/380) .

62- (الفوائد) لِتَمَّام:

مختصر الصواعق: (2/405) .

(1/284)

63- (الكامل في ضعفاء الرجال) لابن عدي:

زاد المعاد: (2/415) ، (4/258، 277) ، (5/754) ، الجواب الكافي: (366) ، روضة المحبين: (121) ، الفروسية: (51) ، إعلام الموقعين: (4/167) .

64- (الكفاية في علم الرواية) للخطيب البغدادي:

اجتماع الجيوش الإسلامية: (95) .

65- (المترجم) لأبي إسحاق الجوزجاني:

الفروسية: (20، 39) .

66- (المراسيل) لأبي داود:

زاد المعاد: (1/232) ، (2/332) ، (4/300، 333) ، تهذيب السنن: (3/437) ، الفروسية: (33) ، الطرق الحكمية: (325) ، مختصر الصواعق: (1/89) .

67- (المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين) لابن حبان:

الفروسية: (44) وسماه: الضعفاء.

68- (المستخرج) للبرقاني:

أحكام أهل الذمة: (2/633) ، حادي الأرواح: (427) ، طريق الهجرتين: (681) .

69- (مسند إسحاق بن راهويه) :

شفاء العليل: (18) ، طريق الهجرتين: (690) .

70- (مسند بقي بن مخلد) :

المنار المنيف: (122) ، زاد المعاد: (1/446) ، (2/388) .

(1/285)

71- (مسند الحارث بن أبي أسامة) :

زاد المعاد: (1/411) ، (4/260) ، عدة الصابرين: (166) ، روضة المحبين: (428) ، المنار المنيف: (147) .

72- (مسند الحسن بن سفيان) :

تهذيب السنن: (7/110) ، زاد المعاد: (1/369) .

73- (مسند الحمَّاني) يحيى بن عبد الحميد الحماني:

المنار المنيف: (147) .

74- (مسند الروياني) :

جلاء الأفهام: (47) .

75- (مسند السَرَّاج) محمد بن إسحاق:

روضة المحبين: (113) .

76- (مسند ابن أبي شيبة) :

زاد المعاد: (4/180) ، جلاء الأفهام: (15) .

77- (مسند عبد بن حميد) :

الروح: (108) ، جلاء الأفهام: (6) .

78- (مسند علي) للنسائي:

جلاء الأفهام: (12) .

79- (مسند عمر) للإسماعيلي:

جلاء الأفهام: (27، 28) ، الطرق الحكمية: (17) .

80- (مسند ابن منيع) :

جلاء الأفهام: (53) .

(1/286)

81- (مسند يعقوب بن سفيان) :

روضة المحبين: (431) ، الطرق الحكمية: (67، 68) .

82- (مسند أبي مسلم الليثي) :

روضة المحبين: (374) .

83- (مصنف وكيع) :

زاد المعاد: (4/257) ، (5/440، 602) .

84- (المعجم) لأبي نعيم:

مفتاح دار السعادة: (1/120) .

85- (معرفة السنن والآثار) للبيهقي:

الروح: (187) ، زاد المعاد: (1/379) .

86- (معرفة الصحابة) لأبي نعيم:

زاد المعاد (3/672) .

87- (معرفة الصحابة) لابن منده:

جلاء الأفهام: (11) ، تهذيب السنن: (1/361) .

88- (المعرفة والتاريخ) ليعقوب بن سفيان الفَسَوِي:

إعلام الموقعين: (3/83) ، الطرق الحكمية: (64) .

89- (المغني في الضعفاء) للذهبي:

رسالة الموضوعات: (ق51/أ) .

90- (الموضوعات) لابن الجوزي:

المنار المنيف: (63) ، عدة الصابرين: (204) ، زاد المعاد: (4/277) .

91- (موطأ القعنبي) :

الفروسية: (29) .

(1/287)

92- (موطأ يحيى بن بكير) :

جلاء الأفهام: (205) .

93- (الناسخ والمنسوخ) لأبي جعفر النَّحَّاس:

زاد المعاد: (5/670) ، إعلام الموقعين: (2/70) .

94- (الناسخ والمنسوخ) : لابن العربي المعافري المالكي:

تهذيب السنن: (3/128) .

95- (الناسخ والمنسوخ) : للأثرم:

إغاثة اللهفان: (1/189) .

96- (الناسخ والمنسوخ) لأبي عبيد:

الطرق الحكمية: (192) .

97- (الناسخ والمنسوخ) : لأبي داود:

بدائع الفوائد: (4/170) .

98- (النهاية في غريب الحديث) لابن الأثير:

زاد المعاد: (1/161) .

وبعد، فهذه أهم المصادر الحديثية التي وقفت عليها، مما أودعه ابن القيم - رحمه الله - في كتبه، مستفيداً منها وناقلاً عنها.

(1/288)

المبحث الرااااابع

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

المبحث الرابع: دراسةُ بعض مؤلفات ابن القَيِّم

لقد وقع اختياري على بعض كتبه الحديثية لتقديم صورة واقعية عن منهج ابن القَيِّم في مؤلفاته الحديثية بصورة خاصة، بعد أن استعرضت منهجه في مؤلفاته على وجه العموم.

والكتب التي تشملها هذه الدراسة هي:

1- (تهذيب سنن أبي داود) .

2- (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) .

3- (رسالة فيها فوائد حديثية) .

(1/289)

أولاً: (تهذيب سنن أبي داود)

1- تسمية الكتاب:

لم ينص ابن القَيِّم - رحمه الله - في مقدمة الكتاب على تسميته كما هو الحال في بعض كتبه، ولكنه سماه في كتابه: (زاد المعاد) 1، فقال عند كلامه على نوم الجُنُب دون أن يمس ماءً: "وقد أشبعنا الكلام عليه في كتاب: تهذيب سنن أبي داود، وإيضاح علله ومشكلاته".

وقد وافق ابن القَيِّم على هذه التسمية من مترجميه: الصَّفَدِي رحمه الله، فذكر هذا الاسم بحروفه2.

أما ابن رجب رحمه الله، فقد سَمَّاه: (تهذيب سنن أبي داود، وإيضاح مشكلاته، والكلام على ما فيه من الأحاديث المعلولة) 3. وتبعه على ذلك: الداودي4، وابن العماد5.

وهذه التسمية وإن اختلفت عن تسمية المؤلف، إلا أنها لا تبعد عنها كثيراً، وقد راعى ابن رجب في إطلاقها موضوع الكتاب، كما نصَّ عليه ابن القَيِّم في خطبته.

وقد سَمَّاه ابن القَيِّم في مناسبة أخرى تسمية مختصرة، فقال:

__________

(1/154) .

2 الوافي بالوفيات: (2/271) .

3 ذيل طبقات الحنابلة: (2/449) .

4 طبقات المفسرين: (2/92) .

5 الشذرات: (6/169) .

(1/290)

(تهذيب السنن) 1، وبهذه التسمية عُرِف الكتاب واشتهر.

ومما سبق يتبين: أن ما ذكره الشيخ بكر أبو زيد2 من اتفاق جميع المترجمين لابن القَيِّم على اسم واحد للكتاب- وهو ما ذكره ابن رجب - غير صحيح، فقد تقدم أن الصَّفَدِي خالف في ذلك، وجاءت تسميته موافقة لتسمية ابن القَيِّم.

2- موضوع الكتاب:

الكتاب في الأصل: تهذيب لمختصر المنذري لسنن أبي داود، وإلى هذا أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - في خطبته، فقال: "وكان الإمام ... المنذري - رحمه الله تعالى - قد أحسن في اختصاره وتهذيبه، وعزوِ أحاديثه، وإيضاح علله وتقريبه … جعلتُ كتابَهُ أفضلَ الزادِ، واتخذته ذخيرةً ليوم المعاد، فَهَذَّبْتُهُ نحو ما هَذَّبَ هو به الأصل"3.

ولكن: هل كان كتاب ابن القَيِّم مجرد اختصار وتهذيب لكتاب المنذري؟

إن الدارس لحياة ابن القَيِّم العلمية، والباحث في أعماله التأليفية، لا يجد للمهذبات والمختصرات مكاناً بين كتبه؛ إذ إن ابن القَيِّم كان عنده الجديد الذي يرغب في تقديمه، فقد كان - رحمه الله - بحراً لا ساحل له، ولانهاية لعطائه وفوائده الغزيرة، فَلِمَ يشتغل مثله بالمختصرات والتهذيبات؟

__________

1 بدائع الفوائد: (2/177) .

2 ابن قيم الجوزية - حياته وآثاره: (ص144) .

3 تهذيب السنن: (1/9) .

(1/291)

فالناظر في كتابه (تهذيب السنن) يدرك لأول وهلة: أنه وإن كان يصدق عليه وصف الاختصار، إلا أنه في الحقيقة ليس إلا موسوعة من موسوعات ابن القَيِّم العلمية: في الحديث وعلومه، والفقه وأحكامه، وقد أشار - رحمه الله - في خطبته إلى ذلك، فقال: " ... وزدت عليه - يعني كتاب المنذري - من: الكلام على عللٍ سكت عنها أو لم يكملها، والتعرض إلى تصحيح أحاديث لم يُصَحِّحْها، والكلام على متون مُشْكِلَةٍ لم يفتح مُقْفَلَهَا، وزيادة أحاديث صالحة في الباب لم يُشر إليها، وبسطت الكلام على مواضع جليلة لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتاب سواه، فهي جديرة بأن تُثْنَى عليها الخناصر، ويُعَضُّ عليها بالنواجذ"1.

فهكذا يُحَدِّدُ ابن القَيِّم موضوع كتابه، ويصف ما أودعه من علوم بين طيَّاته، وعلى هذا فإنَّ تسمية المؤلف للكتاب - التي مر ذكرها عنه - مطابقةٌ تماماً لموضوع كتابه، فهو: تهذيب، وشرح، وبيانٌ، وتعقب، واستدراك، وغير ذلك.

3- منهج المؤلف في الكتاب:

إن الحديث عن منهج ابن القَيِّم في هذا الكتاب قد تقدم ذكره عند الكلام على المنهج التأليفي العام لابن القَيِّم في كتبه، كما سيأتي شيء من ذلك - أيضاً - عند الحديث على منهجه في شرح الحديث والاستنباط منه، إلا أنه - مع ذلك - يمكن الإشارة إلى بعض الملاحظات التي يَتَمَيَّزُ بها هذا الكتاب عن غيره من مؤلفاته، مع إبراز النقاط التي نصَّ عليها في خطبة كتابه، فمن ذلك:

__________

1 تهذيب السنن: (1/9 - 10) .

(1/292)

أولاً: الحكم على الحديث وبيان علله التي سَكَتَ عنها المنذري أو لم يُكَمِّلها.

فتارةً يحكم على الحديث الذي سكت المنذري عن الحكم عليه وبيان علته، فقد سكتَ المنذري عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أنَّ السِّجل كاتب كان للنبي صلى الله عليه وسلم ". فقال ابن القَيِّم: "سمعت شيخنا أبا العباس بن تيمية يقول: هذا الحديث موضوع ... "1.

وتارةً يُورِدُ ما أُعلَّ به الحديث الذي سَكَتَ عنه المنذري، للجواب عن هذه العلل وإثبات صحة الحديث، وهذا كثير في كتابه؛ فقد سكت المنذري عن حديث أنس رضي الله عنه في تخليل اللحية، فنقل ابنُ القَيِّم إعلال ابن حزم وابن القطَّان له، ثم رد عليهما بقوله: "وفي هذا التعليل نظر"2. ثم أخذ في الجواب عن ذلك.

وذكر إعلالَ ابن حزم لحديث عائشة - رضي الله عنها - في اعتزال النبي لهن وهن حُيّض - وقد سكت عنه المنذري - ثم قال: "وما ذكره ضعيف ... فالحديث غير ساقط"3.

وذكر إعلالَ ابن القطان حديث زينب بنت أبي سلمة في المرأة ترى ما يَرِيبُهَا بعد الطهر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "إنما هو عِرْقٌ". ثم قال: "وهذا تعليل فاسد …"4.

__________

1 تهذيب السنن: (4/196) .

2 تهذيب السنن: (3/107) .

3 تهذيب السنن: (1/177) .

4 تهذيب السنن: (1/189) .

(1/293)

والأمثلة على ذلك كثيرة، فحين يكون الحديث مُتَكَلَّماً فيه ويسكت المنذري عن بيان ذلك، نجده يذكر ما أُعِلَّ به الحديث، والجواب عنه وردَّ عِلَّتِهِ، هذا بالإضافة إلى ما سكت عنه المنذري وهو معلول حقاً، كما تقدم مثاله.

وأما ما ذكر المنذري بعض علله ولم يكمل باقيها، فمثاله: أن المنذري ذَكَرَ بعض ما أُعِلَّ به حديث ميراثِ ابن الملاعنة، وترك بعضها، فقال ابن القَيِّم: "وأُعِلَّ أيضاً: بعبد الواحد بن عبد الله بن بسر النَّصْرِيِّ، راويه عن واثلة، قال ابن أبي حاتم: … لا يُحْتَجُّ به"1.

ثانياً: الكلام على المتون الْمُشْكِلَةِ.

فكثيراً ما كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يَعْمَدُ إلى بعض الأحاديث الْمُشْكِلَةِ، فيحاول دفع إِشْكَالاتِهَا، وإزالة غُمُوضِهَا وإِبْهَامِهَا.

فمن ذلك: ما جاء في حديث عليّ رضي الله عنه في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه رشَّ رجليه بالماء وهما في النعلين، قال ابن القَيِّم: "هذا من الأحاديث الْمُشْكِلَةِ جِداً، وقد اختلفتْ مَسَالك الناس في دفع إِشْكَالِه…". ثم ذكر سبعة من هذه المسالك، وبين رأيه هو2.

ثالثاً: زيادة أحاديث في الباب لم يُشر المنذري إليها.

وقد فَعَلَ ابن القَيِّم رحمه الله هذا كثيراً، فيقول: وفي الباب حديث فلان. وقد يتوسع في ذلك فيذكر كل من روى أحاديث الباب، مع

__________

1 تهذيب السنن: (4/177) .

2 تهذيب السنن: (1/95 - 98) ، وانظر أمثلة أخرى في: (3/179) ، (4/102) .

(1/294)

قيامه- في بعض الأحيان - بتخريجها، والكلام على طرقها1.

وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك - أيضاً - عند الكلام على منهجه في التخريج.

رابعاً: زيادة بعض الأبواب مما لم يرد في (سنن أبي داود) .

ولم يكتف ابن القَيِّم - رحمه الله - بزيادة أحاديث في بعض الأبواب، بل قام بزيادة بعض الأبواب التي لم ترد في (سنن أبي دود) ، مما رأى أن الأمر يستدعي إثباتها، مع إدخالها في المكان الملائم لها، وإيراد جملة من الأحاديث تحتها، فمن ذلك:

أنه زاد في كتاب "الديات" - بعد قول أبي داود: باب فيمن تَطَبَّبَ بغير علم - بابين:

- أحدهما: باب لا يُقْتَصُّ من الجرح قبل الاندمال.

- والثاني: باب من اطلع في بيت قومٍ بغير إذنهم.

ثم قال رحمه الله: "ولم يَذْكُرْ أبو داود هذا الباب ولا الذي قبله، ولا أَحَادِيْثَهُمَا، فذكرناهما للحاجة، والله أعلم"2.

خامساً: بسط الكلام على بعض المسائل، والتوسع في بحثها.

ففي كثير من المواطن نجد أن ابن القَيِّم يتوسع في الكلام: إما

__________

1 انظر أمثلة لذلك في تهذيب السنن: (1/133) ، (5/99، 229، 317) ، (7/3، 60، 135) .

2 تهذيب السنن: (6/379 - 380) .

(1/295)

بشرح حديث وبيان معانيه، كما في حديث تلبية النبي صلى الله عليه وسلم 1، أو مناقشة علله، كما في حديث القلتين2، أو ذكر مذاهب العلماء في مسألة، وأدلة كل فريق، وبيان الراجح من ذلك، وهذا كثير جداً في كتابه3، أو ذكر ما تَضَمَّنَتْهُ أحاديثُ الباب من أحكام، وما اشتملت عليه من فوائد4.

سادساً: تَعَقُّبُ المنذري في بعض المسائل.

وأكثر هذه التعقبات إنما وَقَعَتْ في القضايا الحديثية، وما يتعلق بها:

- فتارةً يرد إعلال المنذري حديثاً، ويجيب عن ذلك مُبَيِّنَاً ثبوت الحديث، وعدم صحة ما أُعِلَّ به5.

- وتارةً يُعِلُّ المنذري حديثاً، فيرى ابن القَيِّم أنَّ له عِلَّةً أقوى من التي ذكر المنذري6.

- وتارةً يردُّ عليه وهْمَهُ في تخريج بعض الأحاديث7.

- وتارة يتعقب المنذري في تعقبه لأبي داود8.

__________

1 تهذيب السنن: (2/335 - 340) .

2 تهذيب السنن: (1/56 - 74) .

3 انظر: تهذيب السنن: (2/308، 320، 345، 382) ، (4/96، 138) ، (5/111، 297) ، (6/336) .

4 تهذيب السنن: (2/344) ، (5/144) .

5 انظر: تهذيب السنن: (1/128، 148) ، (4/170، 315) ، (5/222) ، (7/94) .

6 تهذيب السنن: (2/316) .

7 تهذيب السنن: (5/419 - 420) .

8 تهذيب السنن: (3/134) .

(1/296)

- ويشتد تعقبه للمنذري إذا رآه يسكت عما لا ينبغي السكوت على مثله، ففي حديث عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم - اعتمر عمرتين: عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال «قال ابن القَيِّم رحمه الله: "لم يتكلم المنذري على هذا الحديث، وهو وهم ... "1.

إلى غير ذلك من الأمور التي تعقب فيها المنذري.

4- قيمة الكتاب:

من خلال ما تقدم من عرض لموضوع الكتاب، وبيان لمنهج ابن القَيِّم فيه، يمكن لنا أن نقول: إن هذا الكتاب يعد موسوعة حديثية جامعة، يجد المطالع فيها:

1- شرح الأحاديث وتوضيح معانيها.

2- استنباط أحكامها واستخراج فقهها.

3- حلَّ مُشْكِلاتِها وفتح مُقْفَلاتها.

4- التوفيق بين ما ظاهره التعارض منها.

5- الكلام على عللها، وبيان صحيحها وضعيفها.

6- مع جمع أحاديث بعض الأبواب واستيفاء ما ورد فيها.

إلى غير ذلك من الفوائد التي يجدها الناظر منثورة في ثنايا هذا الكتاب وبين صفحاته.

5- طبعات الكتاب:

اشتهر الكتاب بتلك الطبعة التي وقعت في ثمانية مجلدات، حيث

__________

1 تهذيب السنن: (2/423) .

(1/297)

طُبعَ معه في هذه المجلدات: (مختصر سنن أبي داود) للمنذري و (معالم السنن) للخطابي، وجاء (تهذيب) ابن القَيِّم في ذيل الصفحة.

وقد حقق هذه الطبعة الشيخ/ محمد حامد الفقي، وشَارَكَهُ في الأجزاء الثلاثة الأولى منها: العلامة المحدث/ أحمد محمد شاكر رحمه الله، وكان الفراغ من طبعه في سنة 1369هـ.

وهذه الطبعة - مع ما بُذِلَ فيها من جهد - فإنها مليئة بالأخطاء والتصحيفات، مع شيء من السقط لبعض الكلمات في بعض الأحيان القليلة، ولذلك فإن على المراجع لهذا الكتاب أن يكون يقظاً لمثل ذلك:

ومن الأمثلة لتلك الأخطاء والتصحيفات:

- ابن خزيمة (1/183) صوابه: ابن حزم.

- يحيى بن سعيد (1/29) صوابه: بجير بن سعيد.

- أخيه عبد ربه (3/309) صوابه: أخيه يحيى.

- عن سعيد (3/312) صوابه: عن شعبة.

- المقبري (3/312) صوابه: المقرئ.

- الخزاعي (3/309) صوابه: الحراني.

- محمد المنكدر (3/313) صوابه: محمد بن المنكدر.

- حسين بن عبد الله (4/30) صوابه: حيي بن عبد الله.

والأمثلة على ذلك كثيرة جداً.

كما أن من الأمور التي ينبغي التنبيهُ عليها: أن كتاب ابن القَيِّم لم يكن منفصلاً بالشكل الذي هو عليه الآن، وإنما كان على شكل تعليقات

(1/298)

على كلام المنذري مختلطة معه، ولا يمكن تمييزها عنها وفصلها إلا بالمقابلة الدقيقة بين كتاب ابن القَيِّم ومختصر المنذري لتمييز الزيادات.

وقد قام بتجريد كلام ابن القَيِّم: محمد بن أحمد المسعودي، وتَرَكَ بعضاً من كلام ابن القَيِّم، حيث يقول: "ولست أدَّعي الإحاطة بجميع ما كتبه، بل الغالب والأكثر، وقد سقط منه القليل جداً لتعذركتابته، فعساه زاد لفظة أو لفظات في أثناء الكلام، فلم يُمْكِنُنِي إفرادها لاتصالها بكلام كتبه المنذري"1.

وجاء في آخر النسخة - أيضاً - قول ابن القَيِّم رحمه الله: "وَقَعَ الفراغ منه في الحِجْر - حجر إسماعيل شرَّفَه الله تعالى - تحت الْمِيْزَاب - ميزابِ الرَّحمة في بيت الله - آخر شوال، سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة (732هـ) وكان ابتداؤه في رجب من السنة المذكورة"2. فيكون قد عَلَّقَه في مدة أربعة أشهر.

كما أن للكتاب طبعة قديمة في دهلي بالهند، سنة 1891هـ، في (154) صفحة3. والظاهر أن هذه الطبعة اقتصر فيها على تهذيب ابن القيم وحده، ولم أتمكن من الوقوف عليها.

__________

1 انظر ما جاء في آخر (تهذيب السنن) : (8/119 - 120) .

2 تهذيب السنن: (8/122) .

3 معجم ما طبع من كتب السنة (ص 94 - 95) .

(1/299)

ثانياً: (الْمَنَارُ الْمُنِيفُ في الصَّحِيح والضَّعِيفِ) :

1- تسمية الكتاب:

لم ينص ابن القَيِّم على اسم لهذا الكتاب في مقدمته، كعادته فيما يؤلفه إجابة على سؤال أو فتوى، ولم أر - أيضاً - تَسْمِيَتَهُ له ولا إشارته إليه في شيء من كتبه الأخرى.

أما الذين ترجموا لابن القَيِّم وسردوا مؤلفاته: فلم يذكر أحدٌ منهم كتاباً له باسم: (المنار المنيف) ، ولكن ذكر بعضهم كتاباً له باسم: (نَقْدُ الْمَنْقُول والْمَحَكُّ المميز بين المردُودِ والْمَقْبُولِ) كما تقدم الكلام على ذلك عند سرد مؤلفاته، وذكرت هناك: أن هذا الكتاب لعله هو نفسه (المنار المنيف) ؛ وذلك لمطابقة هذه التسمية- (نقد المنقول…) - للمادة الموجودة في (المنار) .

فلعل هذا الاسم هو الذي عُرفَ به قديماً، ثم عُرفَ بعد باسم (المنار المنيف) ، وبخاصة أنه قد طُبع مرةً باسم: (نقد المنقول أو المنار ... ) مما يؤكد وجود تلك العلاقة بين الكتابين، فالله أعلم.

وآخر طبعة للكتاب نشرت باسم: (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) بتحقيق الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني، وإعداد وإخراج الأخ منصور السِّماري وذلك سنة 1419هـ. وبهذا الاسم ذكره السيوطي ونقل عنه في رسالة له باسم (الأوج في خبر عوج) 1، مما

__________

1 انظر: (الحاوي في الفتاوى) للسيوطي: (2/341) .

(1/300)

يؤكد أن هذا الاسم هو الذي اشتهر به الكتاب وعُرِفَ أخيراً1.

2- موضوع الكتاب:

يشتمل هذا الكتاب على إجابة ابن القَيِّم - رحمه الله - على ثلاثة أسئلة سُئل عنها، وهذه الأسئلة على ترتيب ورودها في الكتاب على النحو التالي:

السؤال الأول: ويشتمل على أربع مسائل، وهي:

1- السؤال عن حديث "صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك" وكيف يكون هذا التَّضْعِيفُ؟

2- وقوله في حديث جويرية: "لقد قلتُ بَعْدَكِ أربعَ كلمات، لو وُزِنَت بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن".

3- وحديث "صيام ثلاثة أيام من كل شهر يقوم مقام صيام الشهر".

4- وحديث: "من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله ... ".

وقد قام ابن القَيِّم - رحمه الله - بالجواب عن هذا السؤال بمسائله الأربع، فبين حال هذه الأحاديث، مع ذكر جملة من الفوائد المتعلقة بها، وبخاصة: الكلام على تفاضل الأعمال وتفاوت درجاتها، وتفاوت قبولها تبعاً لذلك2.

__________

1 وينظر حول تسمية الكتاب: ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (192 - 194) ، ومقدمة المنار المنيف: (ص15 من طبعة أبي غدة) .

2 انظر: المنار المنيف: (ص19 - 43) .

(1/301)

السؤال الثاني: وهو لبُّ الكتاب، فقد سُئل ابن القَيِّم رحمه الله: هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن يُنْظَرَ في إسناده؟

وقد أخذ ابن القَيِّم - رحمه الله - في الجواب عن هذا السؤال - بعد أن بَيَّنَ أَهَمِّيَتَه وعظمَ شأنه - فذكر جملة من الضوابط والقواعد التي يمكن من خلالها معرفة ذلك، مع إيراد جملة من الأمثلة من الأحاديث الموضوعة تحت كل قاعدة. وقد ذَكَرَ ضمن ذلك جملةً من الأحكام الكُلِّيَّةِ الجامعة، كقوله: الأحاديث الواردة في ذلك كلها كذب، أو: لا يصح منها شيء، ونحو ذلك.

وهذا هو أهم أبواب الكتاب وأكبرها، وأكثرها فوائد1.

السؤال الثالث: عن حديث "لا مهدي إلا عيسى بن مريم"، وكيف يأتلف مع أحاديث المهدي وخروجه؟ وما وجه الجمع بينهما؟ وهل في المهدي حديث أم لا؟

فأخذ في الجواب عن ذلك، وذكر الأحاديث المتواترة في ذكر المهدي وأخباره، وقَسَّمَ الأحاديث الواردة في المهدي أربعة أقسام: صحاحٌ، وحسانٌ، وغرائب، وموضوعة. وأقوال العلماء في المهدي، وذكَرَ من خَرَجَ من الكَذَّابِيْن ممن ادَّعى أنه المهدي.

ومن هذا العرض يتضح لنا: أن هذا الكتاب يتضمن الكلام على جملة من الأحاديث، وبيان صحيحها من ضعيفها، وإزالة الإشكالات عن بعضها، والتوفيق بين ما يبدو متعارضاً منها، مع اشتماله بصورة أكبر على

__________

1 انظر: المنار المنيف: (ص43 - 141) .

(1/302)

مباحث مهمة في الأحاديث الموضوعة، وجملة من القواعد والضوابط لمعرفة الحديث الموضوع بالنظر إلى متنه دون إسناده.

ولا يخلو الكتاب - مع ذلك كُلِّهِ - من جملة من الفوائد والتعليقات، والشروح والإيضاحات، التي لا يخلو منها كتابٌ من كتب ابن القَيِّم رحمه الله.

3- سبب تأليف الكتاب:

ذكر الشيخ أبو غدة في سبب تأليف هذا الكتاب: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - أَلَّفَهُ إجابةً لسائل سأله: (هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط …؟) فجاء هذا الكتاب جواباً على هذا السؤال، وأنه أضاف إلى هذا الجواب جوابين لسؤالين آخرين1.

ولا أدري ما وجه هذا الكلام من الشيخ أبي غدة؟ وما وجه حصره سبب تأليف الكتاب في أنه جواب هذا السؤال بالذات؟ وما دليله على ذلك؟

فالذي أمامنا: أن الكتاب جوابٌ للأسئلة الثلاثة السابقة مجتمعة، وعلى الترتيب الذي بَيَّنَّا، فما وجه تخصيص السؤال الثاني من بينها بأنه سبب تأليف الكتاب؟ لا سيما وقد توسط هذا السؤال الكتاب، وجاء معطوفاً على السؤال الأول بقوله: "وسُئِلْتُ…"؟!.

4- منهج المؤلف في الكتاب:

لا يختلف المنهج العام لابن القَيِّم في هذا الكتاب كثيراً عن منهجه

__________

1 مقدمة المحقق للمنار المنيف: (ص10 - 11) .

(1/303)

في بقية مؤلفاته، من حيث طريقة تناوله للمسائل الحديثية والفقهية وغيرها، ومع ذلك: فإن الفصل الخاص بالأحاديث الموضوعة وضوابط تمييزها هو الذي يحتاج إلى تسجيل بعض الملاحظات حول منهجه فيه، فمن ذلك:

أولاً: يذكرُ ابن القَيِّم - رحمه الله - الضابطَ أو الْمِعْيَار الذي يُعْرَفُ به كون الحديث موضوعاً، ثم يذكر أمثلة لذلك من الأحاديث الموضوعة.

وقد أدخلَ ابن القَيِّم ضمن هذه الضوابط: أحكاماً كُلِّيَّةً جامعةً، كقوله أثناء سرد هذه الضوابط: "ومنها: أحاديثُ العقل، كُلُّهَا كَذِبٌ…"1 وقوله: "ومنها: الأحاديث التي يُذْكر فيها الخَضِرُ وحياته، كلها كذب ... "2. وقوله: "ومنها: أحاديث صلوات الأيام والليالي…كل أحاديثها كذب"3. وغير ذلك.

فهل هذه الأحكام الكُلِّيَّة الجامعة تدخل ضمن تلك القواعد التي يُسْتَدلُّ بها على وضع الحديث؟ الذي أراه أن بينهما فرقاً، فهذه قواعدُ تعينُ الناظر على معرفة كون الحديث ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أحسن تطبيقها، أما هذه الأحكام الكلية على أحاديثِ أبوابٍ بعينها: فإنها من تطبيقاتِ هذه القواعدِ، ولا يصلُ إليها الشخصُ إلا بعدَ بحثٍ ودرسٍ لأحاديث ذلك الباب وجمعها.

__________

1 المنار المنيف: (ص66) .

2 المنار المنيف: (ص67) .

3 المنار المنيف: (ص95) .

(1/304)

ولذلك أرى - والله أعلم - أن هذه الأحكام والضوابط الجامعة لا مكان لها بين هذه القواعد التي يُعرف بها كون الحديث موضوعاً.

ويدلُّ على ذلك: أنه بعد سرده لهذه القواعد والضوابط قال: "فصل في ذكر جوامع وضوابط كلية في هذا الباب…"1 ثم أخذ في إصدار تلك الأحكام الكلية على أبواب بعينها: أنه لا يصح فيها شيء، فبدأ بأحاديث الحَمَام، ثم أحاديث اتخاذ الدجاج، ثم أحاديث ذم الأولاد ... إلى آخر هذه الأحكام الكلية؛ لذا أرى أن ما ذكره من هذه الأحكام الجامعة أثناء ذكر القواعد: مكانه الصحيح ضمن هذه الفصول التي عقدها لهذا الغرض، والله أعلم.

ثانياً: قد يذكرُ ابن القَيِّم أثناء سرده الأحاديث الموضوعة: الشخص الْمُتَّهَمَ بوضعه، مع بيان حاله، وكلام العلماء فيه. وقد يذكر فِرْقَةً أو طائفة متهمة بوضع حديث ما، كقوله في حديث فضل العدس: "ويشبه أن يكون هذا الحديث من وضع الذين اختاروه على الْمَنِّ والسلوى، أو أشباههم"2. وقوله في بعض الأحاديث الموضوعة في فضائل علي: "كما يَزْعُمُ أَكْذَبُ الطوائف…"3 يعني الرافضة.

ثالثاً: قد يُبَيِّنُ - رحمه الله - أثناء سرد أحاديث الباب: أن أمثل شيء جاء فيه كذا، ولا يعني بذلك صحة هذا الأمثل دائماً، ولكنَّ ذلك قد يكون من باب: أصح الضعيفين، فمن ذلك:

__________

1 المنار المنيف: (ص 106) .

2 المنار المنيف: (ص 52) .

3 المنار المنيف: (ص 57) .

(1/305)

- قوله في الأحاديث الواردة في الصخرة ببيت المقدس - بعد أن حكمَ بوضعها-: "وأرفع شيء في الصخرة: أنها كانت قِبْلَةَ اليهود، وهي في المكان كيوم السبت في الزمان، أبدل الله بها هذه الأمة الْمُحَمَّدِيَّةَ الكعبة البيت الحرام"1.

- وقال في الأحاديث الواردة في يوم عاشوراء: "وأمثل ما فيها: مَنْ وسَّعَ على عياله يوم عاشوراء، وسَّعَ الله عليه سائر سَنَتِهِ. قال الإمام أحمد: "لا يصح هذا الحديث"2.

- وقال في أحاديث الأَبْدَالِ والأقطابِ والأَغْواثِ: "وأقرب ما فيها: لا تَسُبُّوا أهل الشام؛ فإن فيهم البدلاء… ذكره أحمد، ولا يصح أيضاً؛ فإنه منقطع"3.

رابعاً: يُصْدِرُ ابن القَيِّم - كما سبق بيانه - أحكاماً كلية جامعة في بعض الأبواب، فيقول: "كلُّ حديثٍ في الصخرة فهو كذب مفترى"4. ونحو ذلك من الأمثلة الكثيرة التي احتلت جزءاً كبيراً من كتابه.

وقد يستثني من هذه الأحكام الكلية بعض الأحاديث، كقوله: "أحاديث فضائل الدِّيكِ كُلُّهَا كذب، إلا حديثاً واحداً: إذا سمعتم صياح الدِّيكة فاسألوا الله فصله"5.

__________

1 المنار المنيف: (ص 88) .

2 المنار المنيف: (ص 112) .

3 المنار المنيف: (ص 136) .

4 المنار المنيف: (ص 87) .

5 المنار المنيف: (ص 130) .

(1/306)

ولكنَّ بعض هذه الأحكام التي أصدرها ابن القَيِّم - رحمه الله - لا تُسَلَّم له؛ إذ إن بعض الأبواب التي أطلق القول بعدمِ صحة أيِّ حديثٍ فيها، قد وُجِدَ فيها بعض الأحاديث على خلاف ذلك، وأنها تُستثنى من الحكم بالكذب أو الوضع. وقد نبَّه محقق الكتاب على شيء من ذلك1، ولكن تلك الملاحظات الطفيفة لا تُقَلِّلُ من شأن الكتاب بحال، وبخاصة إذا قُورنت بغزارة الفوائد التي احتواها هذا الكتاب.

5- أصل الكتاب:

ذهب الشيخ أبو غدة في مقدمة تحقيقه للكتاب إلى أن (المنار المنيف) مختصر من كتاب (الموضوعات) لابن الجوزي، فقال: "وهذا الكتاب اللطيف الحجم، الغزير العلم… اختصر فيه الإمام ابن القَيِّم كتابَ الإمام أبي الفرج بن الجوزي المسمى: (الموضوعات) ، وأحسن الاختصار وأجاده…"! 2.

كذا قال الشيخ، وأرى أنَّ هذه دعوى لا دليل عليها، وذلك لما يلي:

- أن كتاب (المنار المنيف) ليس كتاباً مصنفاً في الأحاديث الموضوعة فحسب، ولكنه اشتمل - إلى جانب ذلك - على فصول أخرى في بيان الصحيح والضعيف، وغير ذلك كما مضى، ولذلك فإن هذا الكتاب لا يمكنُ إدراجه بجملته ضمنَ الكتب المصنفة في جمع الأحاديث الموضوعة، فضلاً عن عَدِّهِ اختصاراً لكتاب ابن الجوزي.

__________

1 انظر مثلاً: (ص56، 60، 65، 87) .

2 المنار المنيف: (ص 11 - 12) .

(1/307)

- أنَّ الكتاب جوابٌ لأسئلة طُرحت على ابن القَيِّم كما تقدم، مما يجعله بعيداً عن أن يكون متعلقاً بكتاب آخر.

- لم ينص ابن القَيِّم على اختصاره هذه الفوائد والأجوبة من كتاب ما، وما يمنعُ ابن القَيِّم - رحمه الله - من النص على ذلك إن كان واقعاً.

- لم أقف على من ذكر ذلك غير أبي غدة، بل ذكروا من مختصري كتاب ابن الجوزي: السفاريني، والسيوطي، وعلي بن أحمد الفاسي1.

- يوجد تفاوتٌ كبيرٌ بين الكتابين: في المنهج والأسلوب، والمادة والمحتوى، وفي الترتيب والعرض.

- لابن القَيِّم في (المنار المنيف) مصادره الخاصة به، التي أضاف منها مادةً لا يمكن وجودها في (موضوعات) ابن الجوزي، كالنقل عن شيخيه: ابن تَيْمِيَّة، والمزي، وغير ذلك من المصادر.

- كما أن لابن القَيِّم في الكتاب أسلوبه المتميز المعروف، الذي تَظْهرُ فيه شخصيته النقدية واضحةً، مع الشرح والتحليل لبعض القضايا، التي لا يُوجد منها شيء في (الموضوعات) .

فهذا ما ظهر لي في هذه القضية، وأنه لا يوجد دليلٌ - صريح أو غير صريحٍ - على أن ابن القَيِّم قد اختصر (الموضوعات) لابن الجوزي في كتابه هذا، فإن كان الشيخ يقصد بذلك: أن ابن القَيِّم استفاد من كتاب

__________

1 انظر: الرسالة المستطرفة: (ص 112-113) .

(1/308)

ابن الجوزي كثيراً في باب الموضوعات، وأنه - كما عَبَّر الشيخ - "قد استخلص من الأبواب التي ساقها ابن الجوزي ضوابط وأمارات تدل على الحديث الموضوع"1: فإن الأمر قد يكونُ مقبولاً شيئاً ما، أما أن يكون مجرد اختصار له: فلا، والله أعلم.

6- قيمة الكتاب:

من خِلال العَرْضِ المتقدم يَتَبَيَّنُ لنا: أن هذا الكتاب يُعَدُّ مرجعاً مهماً في مجال نقد المتن، وذلك بما اشتمل عليه من ضوابط وقواعد تعين على تمييز الحديث الموضوع من خلال النظر إلى متنه دون إسناده.

هذا بالإضافة إلى ما تضمنه من أحكام حديثية: بالصحة، والحسن، والضعف، والكلام على الكثير من الرواة جرحاً وتعديلاً، إلى غير ذلك من الفوائد التي لا يُستغنى عنها، والتي لا يخلو منها كتاب من كتب العلامة ابن القَيِّم رحمه الله.

__________

1 المنار المنيف: (ص 12) .

(1/309)

ثالثاً: (فوائد في الكلام على حديث الغَمَامَةِ وحديث الغَزالةِ والضَّبِّ وغيره)

1- اسم هذه الرسالة:

وردت هذه الرسالة بهذه التسمية في (فهرس مخطوطات المكتبة الظاهرية) 1 للشيخ الألباني، وأفاد أنها من محفوظات المكتبة الظاهرية، تحت رقم عام 5485 (ق100/1 - 117/2) .

وهذه التسمية: لعلَّ الشيخ الألباني أخَذَها من موضوع الرسالة؛ فإنها تبدأ بالكلام على أحاديث الغمامة، والغزالة، والضب، والناقة، وغيرها.

ووقفت على نسخة منها مصورة عن النسخة الظاهرية، ومحفوظة بمكتبة المخطوطات، بالجامعة الإسلامية، بالمدينة النبوية، ضمن مجموع برقم (1010) م 148. وجاء عنوانها في هذه المصورة: (فائدةُ على بعض الأحاديثِ الْمُشْتَهِرَة) .

ووقفت على صورة منها - أيضاً - في مكتبة فضيلة شيخنا العلامة حماد الأنصاري رحمه الله، وكُتِبَ عليها -ولعله خط الشيخ حماد-: (رسالة لابن القَيِّم في الموضوعات) .

ومن هذا العرض يتبين: أن هذه الرسالة لم يسمها مؤلفها، ولا أحد ممن ذكر مؤلفاته من مترجميه، وقد وَضَعَ لها بعض الواقفين عليها

__________

(ص100) .

(1/310)

أسماء بحسب ما رأى كل واحدٍ منهم أنه يناسب موضوعها، ولعل أقرب الأسماء إلى موضوعها: تسميتها بأنها (رسالة في الموضوعات) لما سيأتي بيانه.

2- وصف الرسالة:

تقع الرسالة في حوالي تسع عشرة (19) ورقة ذات صفحتين. وقد كُتِبَتْ بخط نسخي واضح وجيد، وهي مصححة، ومقابلة كما يتضح من بعض التعليقات والتصحيحات في حواشيها.

ويبدو أنها جاءت ضمن مجموعة من الفوائد جمعها شخص في الأحاديث الموضوعة خاصة؛ فقد جاء فيها - في الورقة الأولى وبالخط نفسه -: "فائدة أخرى من غير مختصر الأباطيل". ثم قال بعد ذلك:

"فائدة أخرى من كلام الشيخ الإمام العالم، مفتي المسلمين، ناصر السنة المحمدية، أبي عبد الله، شمس الدين، محمد بن أبي بكر بن أيوب، الزرعي الحنبلي تغمده الله برحمته آمين، قال: الحمد لله، أما حديث الغمامة…"1.

3- موضوع الرسالة:

الرسالة - كما يظهرُ من كلام ابن القَيِّم في أولها - عبارةٌ عن جواب عن جملة من الأحاديث، سُئِل عنها فأخذ في الكلام عليها، وبيان حالها. وأغلبها من الأحاديث المنكرة والموضوعة كما سيأتي.

__________

(ق1/أ)

(1/311)

- فقد بدأها بالكلام على حديث الغمامة التي أَظَلَّتْ النبي صلى الله عليه وسلم في سفره إلى الشام مع عمه أبي طالب وهو صغير.

- ثم حديث الغزالة التي كَلَّمَتْ النبي صلى الله عليه وسلم.

- ثم حديث الضَّبِّ الذي نطق بالوحدانية بين يديه صلى الله عليه وسلم.

- ثم حديث الناقة التي نَطَقَتْ عنده.

- وكذا حماره يعفور وتكليمه إياه، مع بيان نكارة بعض هذه الأحاديث وكذب بعضها الآخر.

ويُلاحظُ وحدة الموضوع الذي يجمع هذه الأحاديث الخمسة، وهو إثبات بعضِ المعجزات للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أفاض ابن القَيِّم في الكلام عليها، فاستغرق ذلك قريباً من نصف الرسالة.

- ثم ذكر بعد ذلك جملةً من الأحاديث الموضوعة: كأحاديث حياة الخضر، وحديث عوج بن عنق، وأحاديث فضائل السور، وصلوات الأيام والليالي والأسبوع وغير ذلك، وهذه يقرب تناوله لها وكلامه عليها من كلامه في (المنار المنيف) .

- ثم انتقل إلى الكلام على جملة من الأحاديث المتعلقة بالمساجد، فذكر تحت ذلك عدة فصول، منها:

- فصل في تعاهد النعل عند دخول المسجد.

- فصل أنه لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.

- فصل في الامتناع عن حضور المسجد لأجل البرد.

- فصل في اتخاذ المسجد بيتاً.

(1/312)

إلى آخر هذه الفصول المتعلقة بالمساجد، ثم عقد بعد ذلك فصلاً في الصلاة في السفينة.

وقد بَيَّن في كلِّ فصلٍ من هذه الفصول نكارةَ بعضِ الأحاديثِ الواردة فيها، وكَذِبِ بعضها، مع بيانِ ثبوتِ أصلٍ لأكثر هذه الأحاديث من جهات أخرى صحيحة.

ومن هذا الْعَرْضِ يتضح أنَّ موضوعَ الرسالة: هو الكلامُ على جملة من الأحاديث الضعيفة، والمنكرة، والموضوعة، وبيان حالها تفصيلاً.

4- نسبة هذه الرسالة لابن القَيِّم:

سبقت الإشارة إلى أن هذه الرسالة لم يَذْكُرْهَا أحدٌ من الذين ترجموا لابن القَيِّم، ولم أقف - كذلك - على أَيَّةِ إشارة من ابن القَيِّم إليها.

وقد تَوَقَّفَ الشيخ بكر أبو زيد في نسبة هذه الرسالة لابن القَيِّم، وكان سبب ذلك عنده:

- أن ابن القَيِّم كثير النقل فيها عن الذهبي، ووصفه مرةً بأنه شيخه، مع أن الذهبي - كما يرى الشيخ بكر - تلميذ لابن القَيِّم، ومن ثمَّ فإنَّ نَمَطَ الرسالة غريب على مسلك ابن القَيِّم في التأليف.

- وأنه لم ينكشف له من أسباب التوثيق ما يقضي بنسبتها لابن القَيِّم1.

__________

1 ابن قَيِّم الجوزية - حياته وآثاره: (ص178 - 179) .

(1/313)

وأقول وبالله التوفيق:

أما القول بأن الذهبي تلميذ لابن القَيِّم: فقد تقدم الجواب عن ذلك وبيانه عند الكلام على شيوخ ابن القَيِّم، وأن الأدلة تثبت تلمذة ابن القَيِّم للذهبي1.

وأما أسباب التوثيق التي تؤكد نسبة هذه الرسالة لابن القَيِّم: فقد انكشف لي بعض ذلك، فمن هذه الأدلة:

أولاً: نقل ابن القَيِّم كثيراً في أثناء هذه الرسالة عن شيخه ابن تَيْمِيَّة رحمه الله، وبأسلوبه المعهود في ذلك، فمن ذلك:

قوله: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة…"2.

وقوله: "سمعت شيخنا أبا العباس بن تَيْمِيَّة …"3.

وقوله: "سمعت شيخنا ابن تَيْمِيَّة - رحمه الله - يقول…"4.

إلى غير ذلك من المواضع العديدة التي نَقَلَ فيها عن شيخه شيخ الإسلام5.

ثانياً: وجود تطابق كبير بين هذه الرسالة وبين سائر كتب ابن القَيِّم من حيث: أسلوبه في الكتابة والتعبير، ومنهجه في البحث والمناقشة للقضايا، وطريقة عرضها وتحليلها.

__________

1 انظر ص: (155) .

2 رسالة الموضوعات: (ق9/أ) .

3 رسالة الموضوعات: (ق9/ب) .

4 رسالة الموضوعات: (ق12/ب) .

5 انظر من ذلك: (ق8/أ، 10/ب، 13/أ) .

(1/314)

يلمس ذلك كله من له خبرة ومعرفة بأسلوب ابن القَيِّم وطريقته في الكتابة والتأليف، وقد وافقني على ذلك بعض من طالَعَ الرسالة واستفاد منها.

ثالثاً: وجودُ تطابقٍ كامل بين كلامه على بعض القضايا التي تناولها في هذه الرسالة، وكلامه على القضايا نفسها في كتبه الأخرى، ومن أمثلة ذلك:

1- أنه تناول في هذه الرسالة قضية وقوع الغلط والوهم من الثقة أحياناً، وأن إخراج أصحاب الصحيح لهذا الثقة فيما لم يخطئ فيه، لا يجعل ما أخطأ فيه على شرطهما1.

وقد تناول القضية بعينها في كتابه (الفروسية) 2، فتطابق كلامُهُ في الكتابين إلى حدٍّ كبير.

2- أنه تناوَلَ - عند كلامه على حديث الغمامة - قضية ردِّ أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة لَمَّا نصحه بذلك بحيرى الراهب، وما جاء في الترمذي في هذه القصة: وأرسل معه أبو بكر بلالاً رضي الله عنه، وأنَّ ذلك من الغَلَطِ الظَّاهِرِ في هذه القصة3.

وقد تناول القضية بعينها ونَبِّهَ على هذا الغلط في كتابه (زاد المعاد) 4، وبالطريقة نفسها، بشيء من الاختصار.

__________

1 رسالة الموضوعات: (ق4/أ) .

(ص45) .

3 رسالة الموضوعات: (ق2/أ) .

(1/76) .

(1/315)

رابعاً: يُلاحظُ - أيضاً - وجودُ تطابقٍ كبيرٍ بين مَصَادِرِ ابنِ القَيِّم في هذه الرسالة، وطريقة نقله منها، وتعامله معها، وبين مصادره في سائر كتبه، وليُنْظَرْ - على سبيل المثال - قوله في هذه الرسالة: "روينا في الغيلانيات"1، وقد استعمل الطريقة نفسها في النقل عن هذا الكتاب في (اجتماع الجيوش الإسلامية) 2 فقد وجدت فيه العبارة بحروفها.

خامساً: وجودُ تطابقٍ تَامٍّ بين كلام ابن القَيِّم وطريقة معالجته لجملة من الأحاديث الموضوعة في هذه الرسالة، وكلامه على الأحاديث نفسها في كتابه (المنار المنيف) ، فمن ذلك:

1- الكلام على الأحاديث الواردة في حياة الخضر، فقد تطابق كلامه في الكتابين في عدة نقاط، منها على سبيل المثال:

- قوله: "قال شيخ الإسلام: لو كان الخَضِرُ حياً لوجب عليه أن يَتَّبِعَ النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون معه، ويجاهد الكفار معه، ولا يتخلف عنه…"3.

- وقوله: "سُئِلَ محمد بن إسماعيل البخاري عن الخضر وإلياس، هل هما في الأحياء؟ فقال: وكيف يكون هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على ظهر الأرض أحد" "4.

2- الكلام على حديث عوج بن عنق الطويل، فقد تطابق كلامه في الكتابين في عدة نقاط، منها:

__________

1 رسالة الموضوعات: (ق16/أ) .

(ص 210) .

3 رسالة الموضوعات: (ق9/أ) ، وقارن مع (المنار المنيف) : (ص68) .

4 رسالة الموضوعات: (ق8/ب) ، وقارن مع (المنار المنيف) : (ص67 - 68) .

(1/316)

- قوله: "وأظنه من وضع زنادقة اليهود الذين غَرَضُهم السخرية من أتباع الرسل"1.

- وقوله: "والعجب ممن يخفى عليه كذبُ هذا الحديث وبطلانه، كيف يرويه ويذكره في تفسيره أصدق الكلام، حتى قال الثعلبي ... "2.

3- أحاديث فضائل السور، فقد تطابق كثير من كلامه عنها في الكتابين فمن ذلك:

- قوله: "والذي صحَّ في فضائل القرآن من السور: حديث فضل الفاتحة، وسورة البقرة، وآل عمران، وسورة الإخلاص، والمعوذتين"3.

وبالجملة، فالتشابه كبير بين الكتابين: في المادة، وفي الأسلوب وطريقة العرض، يتضح ذلك بأدنى مقارنة بينهما، الأمر الذي يؤكد - بدون شك - صحة نسبة هذه الرسالة لابن القَيِّم.

سادساً: ما جاء في مطلع الرسالة من التصريح بذكر ابن القَيِّم، ونسبة هذه الفوائد إليه، فإن ذلك إذا ضُمَّتْ إليه الأدلة السابقة: أكدت صدقه وثبوته.

تلك بعض الأدلة التي ظهرت لي، مما يُسْتأنس به في تأكيد صحة نسبة هذه الرسالة لابن القَيِّم رحمه الله.

__________

1 رسالة الموضوعات: (ق9/ب) ، وقارن مع (المنار المنيف) : (ص 78) .

2 رسالة الموضوعات: (ق9/ب) ، وقارن مع (المنار المنيف) : (ص77) .

3 رسالة الموضوعات: (ق12/أ) ، وقارن مع (المنار المنيف) : (ص 113) .

(1/317)

5- منهجه في هذه الرسالة:

لا يكاد يختلف منهج ابن القَيِّم - كما سبق التنبيه - في هذه الرسالة، عن منهجه العام في كتبه الأخرى، وبخاصة الكتب ذات الطابع الحديثي، وكذا كتبه الأخرى التي تخللتها بعض المباحث الحديثية.

وقد تَمَيَّزَ منهجه في هذه الرسالة: بالتوسع في دراسة بعض الأحاديث، وتفصيل القول في بيان عللها، ومناقشتها، وذكر أقوال العلماء في ذلك كله، وبخاصة الأحاديث الخمسة التي وقعت في أول الرسالة.

6- قيمة هذه الرسالة:

تُعَدُّ هذه الرسالة دُرَّةً من دُرَرِ ابن القَيِّم النفيسة، فهي تحوي جملة من الأحكام الحديثية: بالضعف، والنكارة، والوضع، وفي بعض الأحيان: بالصحة، سواء ما كان من كلامه، أو من كلامٍ نَقَلَهُ عن غيره من علماء أعلام.

وتظهر فيها شخصية ابن القَيِّم المتميزة في تعليقات له قَيِّمَةٍ ومفيدةٍ في خلال أبحاثه، وكما هي عَادَتُهُ في سائر كتبه.

وبذلك تنضمُّ هذه الرسالة إلى قائمة مؤلفات ابن القَيِّم وبحوثه النافعة في خدمة الحديث النبوي وعلومه، وتَمْيِيز صحيحه من سقيمه، وسليمه من معلوله، وصدقه من مكذوبه1.

__________

1 وقد طُبِعَت هذه الرسالة مؤخراً بعد تقديم أطروحتي هذه، وكتابتي هذه السطور، بتحقيق الأخوين الفاضلين: مشهور بن حسن آل سلمان، وإياد بن عبد اللطيف القيسي، في سنة 1416هـ، وصدرت عن دار ابن الجوزي، بالمملكة العربية السعودية، وهي طبعة جيدة معتنىً بها.

(1/318)

وبعدُ، فهذه أهم مؤلفات ابن القَيِّم الحديثية التي رأيت أن أُبْرِزَها وأتوسع في الكلام عليها وأنا أتحدث عن حياة ابن القَيِّم التأليفية، ومنهجه في ذلك، وما تَرَكَهُ من مؤلفات، وبالله التوفيق.

(1/319)

المبحث

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

الباب الثاني: آراء ابن القيم ومنهجه في الحديث وعلومه

الفصل الأول: آراء ابن القيم وإفاداته في مسائل مصطلح الحديث

المبحث الأول: أقسام الخبر

...

تمهيد

في ذكر إضاءات وقبسات من دُرَرِ كلام العلامة ابن القَيِّم رحمه الله، جعلتها توطئة وتقدمة بين يدي هذا الباب، وأجملها في النقاط التالية:

أ - بيان حفظ الله - سبحانه - لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

لقد بعث الله - عزوجل - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهُدَى ودين الحق، وأنزل عليه كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأمره بتبليغه إلى الناس كافة، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] .

وتَكَفَّلَ - سبحانه - بحفظ هذا الكتاب، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .

وقد وَكَلَ إلي نبيه صلى الله عليه وسلم مهمة البيان للقرآن، فقال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] .

وقال سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] .

فَقَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك خير قيام: يُفَصِّلُ مُجْمَلَهُ، ويُقَيِّدُ مطلقه، ويشرح ألفاظه، ويُوَضِّحُ أَحْكامه ومعانيه، فكان هذا البيان منه صلى الله عليه وسلم هو سُنَّتَه التي بين أيدينا.

(1/325)

ولما كان هذا البيان منه صلى الله عليه وسلم بياناً لكتاب الله، فإنه كان مؤيداً في ذلك من الله عزوجل، وكانت سُنَّتُه وحياً من عند الله سبحانه، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] .

وقال عزوجل آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] .

وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيتُ الكِتَاَب ومثله معه" 1.

قال أبو محمد بن حزم رحمه الله: "والذِّكْرُ اسم واقعٌ على كل ما أَنزلَ الله على نَبِيِّهِ: من قرآنٍ، أو سُنَّةٍ وحيٍّ يبيِّنُ بها القرآن"2.

وفيما يلي نصوص فريدة عن العلامة ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الموضوع:

تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا المعنى بالتوضيح والبيان، فقال مرة - بعد أن ذكر جملة من الآيات الدالة على أن السنة وحي من الله - قال: "فَعُلِمَ أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين كله وحي من عند الله، وكل وحي من عند الله فهو ذكر أنزله الله.

__________

1 أخرجه أحمد في المسند (4/131) ، وأبو داود (5/10) ح 4604 ك السنة، باب في لزوم السنة، وابن حبان في صحيحه - الإحسان (1/107) ح 12. قال الشيخ الألباني: "صحيح". (صحيح الجامع ح 2643) .

2 الإحكام في أصول الأحكام: (1/36) .

(1/326)

وقد قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] ، فالكتاب: القرآن، والحكمة: السنة.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإني أُوتِيتُ الكتاب ومثله معه"، فأخبَر أنه أُوتي السُّنَّة كما أُوتي الكتاب"1.

وقال - رحمه الله - في موضع آخر: "إن كلَّ ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما أنزل الله وهو ذكرٌ من الله أنزله على رسوله"2.

فإذا تبين أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذكر الذي أنزله الله عليه، فإنها بذلك تكون داخلة في الوعد الذي قطعه - سبحانه - على نفسه بحفظ هذا الذكر حين قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فتكون السنة محفوظة - بحفظ الله عزوجل لها - من طعنِ الطاعنين، وعبث العابثين، وكذب الكاذبين.

* وقد عبَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - عن هذا الحفظ الإلهي للسنة النبوية، فقال: "وقد تكفل الله سبحانه بحفظه - يعني الذكر - فلو جاز على حُكْمِهِ - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - الكذبُ والغلطُ والسّهوُ من الرواة، ولم يقم

__________

1 مختصر الصواعق المرسلة: (2/371 - 372) . طبعة / دار الفكر.

2 المصدر السابق: (2/481) .

(1/327)

دليلٌ على غَلَطِهِ وسهوِ نَاقِلِه، لَسَقَطَ حُكْمُ ضَمَانِ الله وكفالَتِهِ لحفظه، وهذا من أعظم الباطل ... "1.

وقال رحمه الله: "والله تعالى قد ضَمِنَ حفظ ما أوحاه إليه وأنزل عليه، ليقيم به حُجَّتَهُ على العباد إلى آخر الدهر ... فلو جاز على هذه الأخبار أن تكون كذباً، لم تكن من عند الله، ولا كانت مما أنزل الله على رسوله وآتاه إياه، تفسيراً لكتابه وتبييناً له.

وكيف تقوم حجته على خلقه بما يجوز أن يكون كذباً في نفس الآمر؟ فإن السنة تجري مجرى تفسير الكتاب وبيان المراد، فهي التي تُعَرِّفُنا مراد الله من كتابه، فلو جاز أن تكون كذباً وغلطاً، لبطلت حجة الله على العباد ... "2.

وهذا ظاهر في أن الله - عزوجل - قد تكفل بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ إذ هي بيان لكتابه الكريم، ولو لم يكن هذا الْمُبَيِّن محفوظاً، بحيث لم يُدْرَ صَحِيحهُ من خطئه، ولا صِدْقُهُ من كذبه، لعدم الانتفاع به والاعتماد عليه في معرفة مراد الله من كتابه، وهذا من أبطل الباطل، بل هو محال.

وإن من مظاهر هذا الحفظ لسنته صلى الله عليه وسلم: ما قام به علماء الإسلام وجهابذته من جهد ظاهر، وعمل دؤوب مُضْنٍ، في سبيل جمع هذه السنة وتدوينها، ووضع القواعد التي تضبط روايتها، وتحدد قبولها من ردها، وتمحص أحوال نقلتها ورواتها.

__________

1 مختصر الصواعق المرسلة: (2/481) .

2 مختصر الصواعق المرسلة: (2/372) .

(1/328)

ولأجل ذلك، لَمَّا سُئل عبد الله بن المبارك - رحمه الله - عن هذه الأحاديث المصنوعة الموضوعة؟ أجاب قائلاً: "يعيش لها الجهابذة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} "1.

فعدَّ - رحمه الله - جهود هؤلاء الجهابذة في تنقيتها وتمحيصها، من تمام حفظ الله - عز وجل - لدينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وقد نوَّه ابن القَيِّم - رحمه الله - بجهد هذه الطائفة المنصورة المؤيدة، واعتبر ذلك من تمام حفظ الله لهذا الدين، فقال: "والله - عزوجل - يؤيد من ينافح عن رسوله صلى الله عليه وسلم تأييداً خاصاً، ويفتح له في معرفة نقد الحق من الباطل فتحاً مبيناً، وذلك من تمام حفظه لدينه، فإنه لا يزال من عباده طائفة قائمة بنصرته إلى أن يأتي أمر الله"2.

فَتَخَلَّصَ من ذلك: تأكيد ابن القيم رحمه الله أن هذه السنة النبوية المطهرة لما كانت من وحي الله - عزوجل - الْمُنَزَّلِ، فإنه - سبحانه - قد ضَمِنَ حفظها وصيانتها، وتأييد من يقوم بنصرتها.

ب - بيان وجوب اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمها:

لما كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنزلة التي قدمنا، وعلى الأهمية التي وصفنا، فقد وجب على كل من أراد معرفة الله - عزوجل -

__________

1 الجرح والتعديل: (1/18) ، وتدريب الراوي: (1/282) .

2 رسالة الموضوعات: (ق43/ب) .

(1/329)

وعبادته على بصيرة أن يتخذ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم طريقاً إلى تحقيق ذلك، وأن يعبده سبحانه على وفق ما جاء به صلى الله عليه وسلم عن ربه.

ولقد حَذَّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ تَرْكِ سنته والإعراض عنها، بدعوى أنه لا نظير لها في القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا أُلْفِيَنَّ أحدكم مُتَّكِئَاً على أَرِيكَتِهِ، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرتُ به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" 1.

ومن كان على هذه الشاكلة - والعياذ بالله - فهو على خطر عظيم، وشرٍّ جسيم، إذ يُفَرِّق بين كتاب الله عزوجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، مع أن الكلَّ من عنده سبحانه.

هذا، مع مخالفة أمره - سبحانه - باتباع نبيه في كل ما جاء به، والأخذ عنه؛ إذ قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .

وقد وقفت على كلمات رائعة لابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الخصوص، فمنها:

قال رحمه الله - في بيان خطر هؤلاء الذين يتركون السنن إذا لم يكن لها نظير في القرآن، وذلك عند رَدِّهِ على من نازع في اعتداد المتوفى عنها زوجها في بيتها -:

__________

1 أخرجه: أبو داود في سننه: (5/12) ؛ 4605 ك السنة، باب في لزوم السنة، وابن ماجه في المقدمة: (1/6) ح13، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصححه الشيخ الألباني كما في (تخريج المشكاة) : (ح 162) .

(1/330)

"بل غايتها - يعني هذه السنة - أن تكون بياناً لحكم سَكَتَ عنه الكتابُ، ومثل هذا لا تُردُّ به السنن، وهذا الذي حَذَّرَ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه: أن تُتْرَك السنة إذا لم يكن لها نَظِيْرُ حُكْمِهَا في القرآنِ"1.

يشير - رحمه الله - بذلك إلى الحديث الماضي ذكره.

ويقول - رحمه الله - في مناسبة أخرى - مؤكداً وجوبَ التسليم لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو خالفه من خالفه، وذلك عند رَدِّهِ على من عارض حديث الصيام عن الميت -: "ولا سبيل إلى مقابلته - يعني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلا بالسمع والطاعة والإذعان والقبول، وليس لنا بعده الخيرة، بل الخيرة كلُّ الخيرة في التسليم له والقولِ به، ولو خالفه مَنْ بين المشرقِ والمغرب"2.

وقال - رحمه الله - في خطبة (تهذيب السنن) 3 محذراً من ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم لآراء الرجال: "فما ظَنُّ من اتَّخَذَ غير الرسول إمَامَه، ونَبَذَ سُنَّتَهُ وراء ظهرهِ وجعل خواطر الرجال وآراءها بين عينيه وأَمَامَهُ، فسيعلمُ يوم العرض: أي بضاعة أضاع، وعند الوزن: ماذا أحضر من الجواهر أو خُرْثِيِّ4 المتاع".

__________

1 زاد المعاد (5/692) .

2 الروح: (ص183) .

(1/7) .

4 الخُرْثِي: أردأ المتاع والغنائم، وهي سَقَطُ البيت من المتاع. (لسان العرب: ص1124 مادة: خرث) .

(1/331)

ونبَّه ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى ضرورة العمل بما صحَّ من حديثه صلى الله عليه وسلم، وإن كثر المخالفون، فقال - في الرد على من قدم عمل أهل المدينة على السنن الثابتة -: "وإذا اختلف علماء المسلمين لم يكن عمل بعضهم حُجَّةً على بعض، وإنما الْحُجَّةُ اتباع السُّنَّةِ، ولا تترك السنة لكون عمل بعض المسلمين على خِلافِهَا، أو عمل بها غيرهم، ولو ساغ ترك السنة لعمل بعض الأمة على خلافها، لَتُرِكَتْ السنن وصارت تبعاً لغيرها.

والسنة هي العيار على العمل، وليس العمل عياراً على السنة، ولم تُضْمن لنا العصمة - قط - في عمل مصر من الأمصار دون سائرها ... فمن كانت السنة معه فَعَمَلُهُ هو العمل المعتبر حقاً، فكيف تترك السنة المعصومة لعمل غير معصوم؟ "1.

وقال - رحمه الله - في مدح أهل السنة، وبيان صفتهم: "والسنة أجَلُّ في صدورهم من أن يقدموا عليها: رأيا فقهياً، أو بحثاً جدلياً، أو خيالاً صوفياً، أو تناقضاً كلامياً، أو قياساً فلسفياً، أو حكماً سياسياً".

ثم يقول: "فمن قَدَّم عليها شيئاً من ذلك: فبابُ الصواب عليه مسدود، وهو عن طريق الرشاد مصدودٌ"2.

__________

1 إعلام الموقعين: (2/380 - 381) .

2 حادي الأرواح: (ص30) .

(1/332)

فهكذا يؤكد ابن القَيِّم - رحمه الله - ضرورة التمسك بالسنة، وتقديمها على ما سواها، والتحاكم إليها عند التنازع لا إلى آراء الرجال. ويُحَذِّرُ كل التحذير من الإعراض عنها بدعوى عدم وجود حكمها في القرآن.

جـ - بَيَانُ فَضِيْلَةِ الإسنادِ، وأَهَمِّيَتِه فِي نَقْل الأحكامِ الشَّرعِيَّة وتوثيقها.

لقد اختص الله - سبحانه - أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الخصِّيصة الفاضلة- وهي الإسناد - ومَيَّزَهَا بذلك على سائر الأمم.

روى الخطيب في (شرف أصحاب الحديث) 1 بسنده إلى محمد ابن حاتم بن المظفر، أنه قال: "إِنَّ اللهَ أَكْرَمَ هذه الأمة وشَرَّفَهَا وفَضَّلَهَا بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها - قديمهم وحديثهم - إسنادٌ، وإنما هي صحفٌ في أيديهم، وقد خَلَطُوا بكتبهم أَخْبَارَهُم ... ".

وقال أبو علي الجياني: "خصَّ اللهُ هذه الأمةَ بثلاثةِ أشياء لم يُعطها مَنْ قبلها: الإسناد، والأنساب، والإعراب"2.

وما هذه الفضيلة الغالية إلا من تمام نعمته - سبحانه - على هذه الأمة: حفظاً للرسالة الخاتمة، وصوناً لها عن عبث العابثين، لتقوم بها حجة الله على خلقه إلى قيام الساعة.

__________

(ص40) .

2 قواعد التحديث: (ص201) .

(1/333)

إن الإسناد هو الطريق إلى تلقي الأحكام الشرعية عن سيد المرسلين، وقد أكد الأئمة - رحمهم الله - هذا المعنى، فكان مما نُقِلَ عنهم في ذلك:

ما رواه مسلم في مقدمة (صحيحه) 1، والترمذي في (العلل المفرد) 2، والخطيب في (شرف أصحاب الحديث) 3 بأسانيدهم إلى عبد الله بن المبارك رحمه الله، أنه قال: "الإسناد عندي من الدين، ولولا الإسناد لَقَالَ من شاء ما شاء".

وروى مسلم بإسناده إلى ابن المبارك - أيضاً - أنه قال: "بيننا وبين القوم القوائمُ"4. يعني الإسناد.

وروى الخطيب بسنده إلى سفيان بن عيينة رحمه الله، أنه قال: "الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل؟ "5.

وقال الزهري - رحمه الله - لإسحاق بن أبي فروة - وقد حَدَّثَ عنده بأحاديث لم يسندها -: "قَاتَلَكَ الله يا ابن أبي فروة، ما أجرأكَ على الله، لا تُسْنِدُ حديثك؟ تُحَدِّثُنا بأحاديث ليس لها خُطُمٌ ولا أَزِمَّةٌ"6.

والأقوال في هذا المعنى كثيرة مشهورة.

__________

(1/5) .

(5/740) من جامع الترمذي.

(ص41) .

4 مقدمة صحيح مسلم: (1/5) .

5 شرف أصحاب الحديث: (ص42) .

6 معرفة علوم الحديث: (ص6) .

(1/334)

وتظهر أهمية الإسناد، والحرصُ على طلبه والسؤال عنه: في أنه وسيلة تمييز الأخبار، وتمحيص الآثار، فعن طريق النظر في الإسناد يُعْرَف الصحيح من الضعيف، ويُنفى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال أبو عبد الله الحاكم: "فلولا الإسناد، وطلب هذه الطائفة له، وكثرة مواظبتهم على حفظه: لَدَرَسَ1 منار الإسلام، ولَتَمَكَّنَ أهلُ الإلْحَادِ والبدع فيه بوضع الأحاديث، وقلب الأسانيد؛ فإنَّ الأخبارَ إذا تَعَرَّت عن وجودِ الأسانيد فيها كانت بُتْراً"2.

وقد دلَّ صنيع ابن القَيِّم - رحمه الله - وأقواله في أكثر من مناسبة على الاهتمام بأمر الإسناد، والتوقف عن قبول ما ليس له إسناد، فمن الأمثلة على ذلك:

قوله - رحمه الله - في حديث مالك بن يَخامِر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً: " اللهم صَلِّ على أبي بكر فإنه يحب الله ورسوله ... ": "لا عِلْمَ لنا بصحة هذا الحديث، ولم تذكروا إسنادَهُ لننظر فيه"3.

وقال مرة في حديثٍ: "لم يُذكر لهذا الحديث إسناد فيُنْظَرَ فيه، وحديث لا يُعْلَمُ حالُهُ لا يُحْتَجُّ به"4.

__________

1 دَرَسَ المنزل دُرُوساً: عَفَا وخفيت آثاره. (المصباح المنير: 1/192) .

2 معرفة علوم الحديث: (ص6) . والبُتْرُ: جمع أبتر، وهو المنقطع.

3 جلاء الأفهام: (ص269) .

4 عدة الصابرين: (ص148) .

(1/335)

وقال في حديث صفية في ولادته صلى الله عليه وسلم مختوناً: "ليس له إسناد يُعرف به"1.

وقال - أيضاً - متعقباً ابن عبد البر في حديث ذكره: "ولم يذكر له إسناداً فينظر في إسناده"2.

فهذه بعض أقوال ابن القَيِّم - رحمه الله - في تأكيد أهمية الإسناد، وعدمِ قبولِ الحديث ما لم يُذكر إسناده؛ إذ إن قبوله متوقف على النظر في حال رواته كما تقدم.

وأما ما جاء عنه - رحمه الله - من قوله في قصة إسلام غيلان بن سلمة وتحته عشر نسوة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بإمساكٍ أربع منهن: "فشهرةُ القصةِ تُغني عن إسنادها"3.

وقوله في الآثار المرويَّة عن عمر، وعلي، وعثمان - رضي الله عنهم - في جلد الشارب ثمانين: "وشهرتها تغني عن إسنادها"4.

وقوله عن الشروط العُمَرِيَّة التي كتب بها إلى نصارى أهل الشام: "وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها: فإن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها"5: فإن

__________

1 تحفة المودود: (ص203) .

2 أحكام أهل الذمة: (2/640) .

3 المصدر السابق: (1/348) .

4 إعلام الموقعين: (1/211) .

5 أحكام أهل الذمة: (2/363 - 364) .

(1/336)

مراده - رحمه الله - بذلك: أن هذه الأحاديث والآثار وإن تكلم في أسانيدها، فإن شهرتها، وتلقى الأمة لها بالقبول، والعمل بمقتضاها يقتضي صحتها ولو كان إسنادها فيه ضعف.

وقد قرَّرَ ذلك كثير من أهل الشأن؛ فقال الحافظ ابن عبد البر - عند كلامه على حديث "البحر هو الطهور ماؤه" -: "وهذا الحديث لا يحتجُّ أهل الحديث بمثل إسناده، وهو عندي صحيحٌ؛ لأن العلماء تَلَقَّوهُ بالقبولِ له والعمل به، ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء"1.

وقال أيضاً في حديث جابر مرفوعاً: "الدينار أربعة وعشرون قيراطاً": "وفي قول جماعة العلماء، وإجماع الناس على معناه غنىً عن الإسناد فيه"2.

وقال أبو إسحاق الإسفراييني: "تُعرف صحة الحديث: إذا اشتهر عند أئمة الحديث، بغير نكير منهم"3.

وقال السيوطي: "قال بعضهم: يُحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول، وإن لم يكن له إسناد صحيح"4.

فهذا الذي عناه ابن القَيِّم - رحمه الله - بما قال، والله تعالى أعلم.

__________

1 التمهيد: (16/218 - 219) . وانظر: الاستذكار: (1/198) .

2 تدريب الراوي: (1/67) .

3 المصدر السابق.

4 المصدر السابق.

(1/337)

الفصل الأول: آراء ابن القَيِّم وإفاداته في مسائل مصطلح الحديث

لقد تتبعت من كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - جملاً كثيرةً وحروفاً بارزة يظهر من مجموعها أنه معدود بحق من الأئمة المعنيين بهذا الشأن الْمُبَرِّزَين فيه.

وقد صنفت تلك النصوص بحيث تدخل تحت سبعة عشر باباً من أبواب علوم الحديث، وسأذكرها مرتبة ضمن مباحث هذا الفصل.

على أنه تجدر الإشارة هنا إلى أن العلاَّمة ابن القَيِّم رحمه الله في حديثه عن هذه الأنواع لم يكن بصدد وضع حدود وتعريفات في هذا الفن، إنما كانت الشواهد في ذلك والنصوص تأتي عرضاً:

إما ضمن مناقشة لخصم، أو ردٍّ على مخالف، أو تأييد اختيار له، فيأتي كلامه في ذلك حسبما يقتضيه الحال ويستدعيه المقام، ولا يعدم الناظر فيها أن يراها نُكَتاً نفيسةً وتعليقات طريفة، وإن كانت لم يُقصد بها الإحاطة بما يتصل بها ولا التقصي له.

وفيما يلي تعداد هذه الأنواع، كل نوع في مبحث، ثم كلامه - رحمه الله - في كل نوع منها، يتخلل ذلك تعليقات مختصرة، وبيان لآراء الأئمة وأقوالهم في كل نوع منها:

(1/341)

المبحث الأول: أقسام الخبر.

المبحث الثاني: الحديث الصحيح.

المبحث الثالث: الحديث الحسن.

المبحث الرابع: المرفوع والموقوف.

المبحث الخامس: المرسل.

المبحث السادس: تعارض الوصل والإرسال، أو الوقف والرفع.

المبحث السابع: المنقطع

المبحث الثامن: التدليس وحكم المدلس.

المبحث التاسع: الشاذ.

المبحث العاشر: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد.

المبحث الحادي عشر: الموضوع.

المبحث الثاني عشر: معرفة صفة من تقبل روايته من تردُّ.

المبحث الثالث عشر: رواية المجهول.

المبحث الرابع عشر: كيفية سماع الحديث وتحمله.

المبحث الخامس عشر: ناسخ الحديث ومنسوخه.

المبحث السادس عشر: مختلف الحديث.

المبحث السابع عشر: معرفة من اختلط من الرواة الثقات.

(1/342)

المبحث الأول: أقسام الخبر

الخبر: عند علماء هذا الفن مرادف للحديث.

وقيل: الحديث ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والخبر ما جاء عن غيره.

وقيل: بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل حديث خبر من غير عكس1.

وعلى هذا القول الأخير: فإن الخبر أعمُّ من الحديث، من جهة شمول الخبر للمرفوع والموقوف، واختصاص الحديث بالمرفوع فقط.

أقسام الخبر باعتبار وصوله إلينا:

ينقسم الخبر باعتبار وصوله ونقله إلينا إلى قسمين:

1- متواتر.

2- وآحاد.

فالمتواتر:

"هو ما نقله من يحصلُ العلمُ بصدقهم ضرورةً، عن مثلهم، من أوله إلى آخره". قاله النووي2 رحمه الله.

وله شروط أربعة، ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله، وهي:

1- أن يرويه عدد كثير، ولا تنحصر هذه الكثرة في عدد معين على الصحيح، وإنما يُشترط أن تبلغ هذه الكثرة مبلغاً بحيث:

__________

1 نزهة النظر: (ص18 - 19) .

2 التقريب: (ص31) .

(1/343)

2- تُحيل العادة تواطؤهم على الكذب، وأن يقع ذلك منهم اتفاقاً من غير قصد.

3- وأن يستوي الأمر في هذه الكثرة من ابتدائه إلى انتهائه، فتكون الكثرة في جميع طبقات السند.

4- وأن يكون مستند إخبارهم الحسُّ: كمشاهدة أو سماع، لا ما يثبت بقضية العقل الصرف.

فمتى توافرت في الخبر هذه الشروط، وانضاف إلى ذلك: أن يصحبَ خبرهم إفادة العلم لسامعه، كان الخبر متواتراً1.

واتفقوا على إفادة المتواتر العلم اليقيني إذا اجتمعت فيه هذه الشروط، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في صفة المتواتر: " ... المفيد للعلم اليقيني بشروطه"2. وقال الشيخ أحمد شاكر: "أما الحديث المتواتر ... : فإنه قطعي الثبوت، لا خلاف في هذا بين أهل العلم"3.

رأي ابن القَيِّم وإفادته في هذه المسألة:

تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه المسألة على النحو التالي:

أما الحديث المتواتر:

فقد ذكر أن المتواتر ينقسم إلى قسمين:

__________

1 نزهة النظر: (ص19 - 21) .

2 نخبة الفكر: (ص18) .

3 الباعث الحثيث: (ص35) .

(1/344)

1- متواتر لفظاً ومعنىً.

2- متواتر معنى، وإن لم يتواتر لفظه1.

وبيان ذلك: أن الأخبار إذا اتفقت على معنى كُلِّي مشترك بينها، دون اتفاق ألفاظها، سُمّيَ ذلك: تواتراً معنوياً، كوقائع عمر رضي الله عنه في عدله، وعلي في حروبه، وأبي ذر في زهده؛ فإنها اتفقت على معنى كُلِّي، وهو القدر المشترك بين تلك الوقائع، وهو: شجاعة علي، وعدل عمر، وزهد أبي ذر رضي الله عنهم.

فإن اتفقت - مع ذلك - ألفاظُ هذه الأخبار: كان متواتراً لفظاً ومعنىً2.

هذا فيما يتعلق بتقسيم الخبر المتواتر.

وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى الشروط التي يحكم للخبر بمقتضاها بأنه متواتر، فقال:

"كالأخبار الواردة في عذاب القبر، والشفاعة، والحوض، ورؤية الرب تعالى، وتكليمه عباده يوم القيامة ... ونحو ذلك:

- مما يُعلم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها ... فإنه ما من باب من هذه الأبواب، إلا وقد تواتر فيها المعنى المقصود عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً معنوياً:

__________

1 مختصر الصواعق: (2/355، 356) . طبعة / دار الفكر.

2 انظر: نظم المتناثر: (ص9) .

(1/345)

-لنقل ذلك عنه بعبارات متنوعة، من وجوه متعددة.

- يمتنع في مثلها - في العادة - التواطؤ على الكذب عمداً أو سهواً"1.

فأشار بذلك - رحمه الله - إلى أنه:

1- يرويه جمع كثير (من وجوه متعددة) .

2- تحيل العادة تواطؤهم على الكذب.

3- ويحصل به - مع ذلك - العلم الضروري لسامعه.

وقد نصَّ في أثناء كلامه على أن هذا من قبيل التواتر المعنوي، وذلك منطبق على الأمثلة التي ساقها.

ثم انتقل - رحمه الله - إلى الكلام عن إفادة هذه الأخبار العلم اليقيني، فقال:

"وإذا كانت العادة العامة والخاصة المعهودة من حال سلف الأمة وخلفها، تمنع التواطؤ على الاتفاق على الكذب ... وتمنع العادة وقوع الغلط فيها: أفادت العلم اليقيني"2.

هذا فيما يتعلق بالمتواتر.

وأما خبر الآحاد:

لغة: ما يرويه شخص واحد.

__________

1 مختصر الصواعق: (2/356) .

2 مختصر الصواعق: (2/356) .

(1/346)

واصطلاحاً: ما لم يجمع شروط المتواتر1.

وينقسم الآحاد إلى: مشهور، وعزيز، وغريب.

- فالمشهور: هو ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين، وهو "المستفيض" على رأي.

- والعزيز: هو ما رواه اثنان عن اثنين في كل طبقة من طبقاته، وسمي بذلك: إما لقلة وجوده، وإما لقوته بمجيئه من طريق أخرى.

- والغريب: هو ما انفرد بروايته شخص واحد، في أي موضع وقع التفرد من السند2.

وخبر الآحاد يقع فيه المقبول والمردود، بخلاف المتواتر فإنه مقبول كله، لإفادة القطع بصدق مخبره3.

إفادة أخبار الآحاد العلم:

جمهور أهل الحديث، وجمهور أهل الظاهر، وغيرهم: على أن خبر الآحاد يفيد العلم.

وخالف في ذلك: أهل الكلام، وأكثر المتأخرين من الفقهاء، وجماعة من أهل الحديث، فقالوا: لا يوجب العلم.

وقد نقل ابن القَيِّم - رحمه الله - عن جماعة كثيرين - منهم:

__________

1 نزهة النظر: (25– 26) .

2 نزهة النظر: (ص 23– 25) .

3 نزهة النظر: (ص 26) .

(1/347)

الشافعي، وابن حزم، وأبو المظفر السمعاني، وشيخ الإسلام بن تَيْمِيَّة - كلاماً طويلاً نافعاً في إثبات إفادة خبر الواحد للعلم1.

وانحصر كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الصدد على إفادة خبر الواحد العلم إذا:

- كان صحيحاً، ورواه الثقات العدول، دون المردود.

- وكان مما تلقته الأمة بالقبول.

قال رحمه الله - عند تناوله أقسام الخبر-: " ... أخبار آحاد مروية بنقل العدل الضابط، عن العدل الضابط، عن مثله، حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.

وقال مرة: "وكلامنا في أخبار:

- تلقيت بالقبول،

- واشتهرت في الأمة،

- وصرَّح بها الواحد بحضرة الجمع ولم ينكره منهم واحد"3.

وقال رحمه الله - عقب نقله كلام ابن حزم في إفادة خبر الواحد العلم -: "وهذا الذي قاله أبو محمد حقٌّ في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول: عملاً واعتقاداً، دون الغريب الذي لم يُعرف تلقي الأمة له بالقبول"4.

__________

1 مختصر الصواعق: (2/360 - 412) .

2 المصدر السابق: (2/356) .

3 المصدر السابق: (2/365) .

4 المصدر السابق: (2/389) .

(1/348)

فابن القَيِّم - رحمه الله - يرى أن تلقي الأمة للخبر بالقبول: من أقوى القرائن التي تدل على إفادته العلم1.

ولقد سبق ابنُ الصلاح ابنَ القَيِّم إلى القول بذلك فيما تلقته الأمة بالقبول، لكنه خصَّ ذلك بأحاديث الصحيحين2.

ويُنَبِّه ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى أنه: ليس كل خبر من أخبار الآحاد يفيد العلم، كما لا يجوز القطع بأن أخبار الآحاد كلها لا تفيد علماً، وإنما ذلك بحسب الدليل القائم بكل خبر:

- فإن قام دليل كذب الخبر، جُزِمَ بكذبه.

- وإن كان دليل كذبه ظَنِّيًّا، فإنه يُظَن كذبه.

- وإذا لم يقم دليل أحدهما، تُوقف في الخبر.

- وإن قام دليل صدقه جُزِم بصدقه.

- وقد يترجحُ صدقه دون جزم بذلك.

ويرتكز ابن القَيِّم - رحمه الله - في القول بوجوب إفادة خبر الآحاد العلم على حقيقة ثابتة، وهي: أنه إذا حَدَثَ وهمٌ أو خطأٌ أو كذب في الخبر، فلابد من قيام الدليل على ذلك، فيقول: "وسر المسألة: أن خبر العدول الثقات، الذي أوجب الله تعالى على المسلمين العمل به: هل يجوز أن يكون في نفس الأمر كذباً أو خطأً ولا يَنْصِبُ الله - تعالى - دليلاً على ذلك؟

__________

1 مختصر الصواعق المرسلة: (2/394) .

2 مقدمة ابن الصلاح: (ص 14– 15) .

(1/349)

فمن قال إنه يوجب العلم يقول: لا يجوز ذلك، بل متى وُجدت الشروط الموجبة للعمل به، وجب ثبوت صدق مخبره في نفس الأمر"1.

وقد تقدم بيان أن من تمام حفظ الله - سبحانه - لهذا الدين: أن يقَيِّم الدليل على الخطأ والكذب إذا وقعا في الخبر.

الأدلة على إفادة خبر الواحد العلم:

ثم عقد ابن القَيِّم - رحمه الله - فصلاً في سياق الأدلة على إفادة خبر الواحد العلم، فسرد من ذلك جملة كبيرة، فمن ذلك:

1- أن المسلمين لما أخبرهم مُخْبِرٌ - وهم بقباء في صلاة الصبح - أن القبلة قد حُوِّلت إلى الكعبة، قَبِلُوا خبره، وعملوا به، ولم يُنْكِر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلولا حصول العلم لهم بخبر الواحد لم يتركوا المقطوع به - وهو قبلتهم الأولى - لخبر لا يفيد العلم.

2- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . وفي قراءة: (فتثبتوا) . فهذه الآية دليل على الجزم بقبول خبر الواحد العدل، وأنه لا يحتاج إلى التثبت.

3- أن الله - سبحانه - قد أمر نبيه بالبلاغ، فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] . فلو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم، لم يقع به التبليغ الذي تقوم به الحجة على

__________

1 مختصر الصواعق: (2/370) .

(1/350)

العباد؛ إذ إن إرسال عدد التواتر إلى الناس جميعاً متعذر، وكذلك مشافهة النبي صلى الله عليه وسلم لكل أحد.

فقد قامت حجة الله على العباد بما بلَّغَ الثقات من أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم.

4- أن هؤلاء المُنْكرين لإفادة خبر الواحد العلم يشهدون شهادة قاطعة على أئمتهم بمذاهبهم وأقوالهم، ومعلوم أن تلك المذاهب لم يَرْوِها عنهم عدد التواتر بحال، فكيف يحصل لهم العلم بأقوال أئمتهم بخبر الواحد، ولا يحصل لهم ذلك بما أخبر به الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع انتشاره في الأمة وتعدد طرقه؟

5- ما تقدمت الإشارة إليه: من أنَّ كلَّ ما حَكَمَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَهُ، فهو من الذكر الذي تَكَفَّلَ الله - سبحانه - بحفظه، فلو جاز على حُكمه الغلط والسهو والكذب من الرواة، ولم يقم دليل على ذلك، لسقطَ حكم ضمان الله وحفظه لهذا الذكر، وهذا من أعظم الباطل.

إلى غير ذلك من الأدلة القوية المفحمة التي ساقها - رحمه الله - في هذا المقام، والتي أوصلها إلى واحد وعشرين دليلاً1.

حُجِّية خبر الواحد في العقائد والأحكام:

إن الذين قالوا بأن أخبار الآحاد لا تفيد علماً، رَتَّبوا على ذلك أموراً، منها قولهم: إن هذا النوع من الأخبار يُحْتَجُّ به في الأحكام دون العقائد؛ إذ إنها لا تفيد عندهم إلا الظن.

__________

1 تنظر هذه الأدلة في "مختصر الصواعق": (2/394 - 405) .

(1/351)

قال ابن القَيِّم رحمه الله مخبراً عن هؤلاء: "وطائفة أخرى ردت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت في باب الصِّفَات، وقَبِلَتْهَا إذا كانت في باب الأحكام والزهد والرقائق ونحوها.

وهؤلاء طوائفُ من أهلِ الكلامِ الْمُبْتَدعِ المذموم ... "1.

ثم بَيَّنَ - رحمه الله - صواب اعتقاد أهل السنة في هذا الباب، وفساد مذهب من سواهم: فقال: "وأهلُ الحديثِ والسُّنَّة يَحْتَجُّون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقَدَرِ، والأسماء، والأحكام، ولم ينقل عن أحدٍ منهم البتة أنه جوَّزَ الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته، فأين سلفُ الْمُفَرِّقِين بين البابين؟ نعم، سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه ... فهم الذين يُعْرَفُ عنهم التفريق بين الأمرين، فإنهم قَسَّمُوا الدين إلى مسائل علمية، وعملية، وسموها: أصولاً، وفروعاً ... "2.

وقال مرة: "فإن الذين نقلوا هذه - يعني أحاديث الأحكام - هم الذين نقلوا أحاديث الصفات، فإن جازَ عليهم الخطأ والكذب في نقلها، جاز عليهم ذلك في نقل غيرها مما ذكرناه، وحينئذ: لا وثوق لنا

__________

1 مختصر الصواعق: (2/444) .

2 المصدر السابق: (2/412- 413) .

(1/352)

بشيء نُقِلَ لنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا انسلاخ من الدين والعلم والعقل"1.

فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أقام الأدلة الواضحةَ القوية على زيف قول من قال: إن أخبار الآحاد لا تفيد علماً، كما بين فساد قولهم بأن أخبار الآحاد لا يُحْتَجُّ بها في العقيدة؛ إذ لا فرق بين العقيدة وغيرها من أمور الدين في ذلك كما هي عقيدة أهل السنة في هذا الباب، والله أعلم.

__________

1 مختصر الصواعق: (2/433 - 434) .

(1/353)

المبحث الثاني: الحديث الصحيح

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في تعريف الحديث الصحيح، وضابطه، وشروطه:

الحديث الصحيح عند أهل الحديث: هو ما اتصل سنده، بنقل العدل الضابط عن مثله، إلى منتهاه، ولم يكن شاذاً ولا معللاً1.

فهذا هو الحديث المحكوم له بالصحة بلا خلاف عند أهل الحديث، وهو ما جمع شروطاً خمسة، وهي:

1- اتصال سنده: بأن يكون إسناده سالماً من سقوط فيه، بحيث يكون كل راوٍ من رواته سَمِعَهُ ممن فوقه.

2- عدالة رواته: والعدل: من له ملكةٌ تحمله على مُلازَمَةِ التقوى والمروءة.

3- ضبط رواته: والضبط نوعان:

أ- ضبط صدر: وهو أن يُثبت ما سمعه، بحيث يستحضره متى شاء.

ب- ضبط كتاب: وهو صيانته لكتابه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه. وقيَّد ابن حجر الضبط بـ "التام" إشارة إلى الرتبة العليا من ذلك.

__________

1 مقدمة ابن الصلاح: (ص7 - 8) ، وتدريب الراوي: (1/63) .

(1/355)

4- عدم الشذوذ: والشاذ هو ما خالف فيه الثقة من هو أوثق منه.

5- عدم العلة: بأن لا يكون فيه علة خفية تقدح فيه1.

وقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - أكثر شروط الحديث الصحيح في عدة مناسبات، وبين أن الحديث لا يصح إلا بتوافر هذه الأمور، فكان مما قال في ذلك:

"فإن الحديث إنما يصح بمجموع أمورٍ، منها:

1- صحة سنده،

2- وانتفاء عِلَّتِهِ،

3- وعدم شذوذه ونكارته، وأن لا يكون راويه قد خالف الثقات أو شَذَّ عنهم"2.

ومقصوده - رحمه الله - بصحة السند هنا: كون رواته عدولاً ضابطين؛ فإنه قال ذلك في معرض رَدِّه على الحاكم، إذ صحَّحَ حديثاً بالاستناد إلى ظاهر سنده، وأن رواته ثقات، فقال: "صحيح الإسناد". فرد عليه ابن القَيِّم - رحمه الله - بأن صحة السند - وهي ثقة الرواة - شرطٌ من شروط صحة الحديث، وليست وحدها الموجبة لصحة الحديث، بل لا بد أن ينضم إليها شروط أخرى.

ثم بَيَّنَ هذه الشروط وَوَضَّحَهَا في موضع آخر، فقال:

__________

1 انظر تفصيل ذلك في: نزهة النظر مع النخبة: (ص29) .

2 الفروسية: (ص46) .

(1/356)

"ثقة الراوي: هي كونه صادقاً لا يتعمد الكذب، ولا يستحل تدليس ما يعلم أنه كذب باطل، وهذا أحدُ الأوصاف المعتبرة في قبول قول الراوي".

فأشار - رحمه الله - بذلك إلى وصف العدالة، وبين المقصود بها. ثم قال: "لكن بقي وصفُ الضبط والتحفظ، بحيث لا يُعرف بالتغفيل، وكثرة الغلط".

وهذا بيان منه - رحمه الله - للمقصود بشرط الضبط وزيادة تفصيل فيه.

ثم قال: "ووصف آخر: وهو أن لا يشذَّ عن الناس، فيروي ما يخالفه فيه من هو أوثق منه وأكبر، أو يروي ما لا يُتابعُ عليه، وليس ممن يُحْتَمَلُ ذلك منه"1. وهذا إشارة إلى اشتراط نفي الشذوذ.

وأشار مرة إلى شَرْطَي العدالة والضبط، مع بيان معناهما، فقال: "فلم يُشترط فيها - أي الرواية - عددٌ، ولا ذكوريةٌ، بل اشْتُرِطَ فيها: ما يكون مُغَلِّباً على الظنِّ صدقَ الْمُخْبرِ، وهو: العدالة المانعة من الكذب، واليقظة المانعة من غلبة السهو والتخليط"2.

__________

1 الفروسية: (ص53) .

2 بدائع الفوائد: (1/5) .

(1/357)

وقد أكَّد - رحمه الله - أهمية توافر الضبط والعدالة في الراوي، وأنهما أساس الراوية، فقال في ابن إسحاق: "وثَّقَهُ كبار الأئمة، وأثنوا عليه بالحفاظ والعدالة اللذَيْن هما ركنا الرواية"1.

ومن أحكام العدالة التي ذكرها ابن القَيِّم:

أنَّ وقوع الراوي في بعض الذنوب لا يُنافي العدالة، فقاله رحمه الله: "قد يُغلط في مسمى العدالة، فَيُظَن أن المراد بالعدل: من لا ذنب له. وليس كذلك، بل هو عدلٌ مؤتمن على الدين، وإن كان منه ما يتوب إلى الله منه، فإن هذا لا ينافي العدالة، كما لا يُنافي الإيمان والولاية"2.

وهذا المعنى قد أكدَّه الأئمة - رحمهم الله - قبل ابن القَيِّم، فروى الخطيب في (الكفاية) 3 بسنده إلى سعيد بن المسيب - رحمه الله - أنه قال: "ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيبٌ لابدَّ، ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه، من كان فضله أكثر من نقصه، وُهِبَ نَقْصُهُ لِفَضْلِهِ".

وروى بسنده أيضاً إلى الشافعي - رحمه الله - أنه قال كلاماً قريباً من ذلك4.

فهذه أبرز شروط الحديث الصحيح كما قررها ابن القَيِّم رحمه الله، وقد وافق بذلك ما ذهب إليه أئمة الشأن في كلامهم على الصحيح وشروطه وضوابطه.

__________

1 جلاء الأفهام: (ص6) .

2 مفتاح دار السعادة: (1/163) .

(ص: 137 - 138) .

4 الكفاية: (ص 138) .

(1/358)

المسألة الثانية: في الفرق بين قولهم: "حديث صحيح"، وقولهم: "إسناده صحيح".

تقدَّم في المسألة التي قبل هذه: بيانُ ابن القَيِّم - رحمه الله - لعدم التلازم بين ثقة الرواة وصحة الإسناد، وبين صحة الحديث نفسه.

فإذا تقرر ذلك، فإنه ينبغي التفريق بين قولهم لحديث: "حديث صحيح"، وقولهم: "إسناده صحيح".

وقد نَبَّه على هذه المسألة ابن الصلاح رحمه الله، فقال في "مقدمته"1: "قولهم: هذا حديث صحيح الإسناد أو حسن الإسناد، دون قولهم: هذا حديث صحيح أو حسن، لأنه قد يُقال: هذا حديث صحيح الإسناد. ولا يصح، لكونه شاذاً أو معللاً".

وقد أَكَّدَ ابن القَيِّم هذا المعنى في أكثر من موضع من كتبه، وفي عدة مناسبات، فقال مرة: "ومن له خبرة بالحديث يُفَرِّقُ بين قول أحدهم: هذا حديث صحيح، وبين قوله: إسناده صحيح. فالأول: جَزْمٌ بصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: شهادة بصحة سنده، وقد يكون فيه علةٌ أو شذوذ، فيكون سنده صحيحاً، ولا يحكمون أنه صحيح في نفسه"2.

ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - مُطَبِّقَاً لهذا المبدأ في تعامله مع النصوص الحديثية وحكمه عليها، فمن ذلك:

قوله في حديث رواه عبد الرزق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حَلَفَ على يمين،

__________

(ص19) .

2 مختصر الصواعق: (2/478) .

(1/359)

فقال: إن شاء الله، لم يحنث" قال رحمه الله: "وهذا الإسناد متفق على الاحتجاج به، إلا أن الحديث معلول"1.

وقال في حديث وقوع الفأرة في السمن، وما جاء في رواية: معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة من التفرقة بين الجامد والمائع، قال: "ولَمَّا كان ظاهر هذا الإسناد في غاية الصحة، صحح الحديث جماعة، وقالوا: هو على شرط الشيخين، وحُكِيَ عن محمد بن يحيى الذُّهَلِي تصحيحه، ولكن أئمة الحديث طعنوا فيه، ولم يروه صحيحاً، بل رأوه خطأ محضاً"2.

فهذه بعضُ أمثلة من كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - تُوَضِّحَ تفرقته بين صحة السند وصحة المتن، وأن الحديث الذي يصح سنده ويكون فيه علة لا يقال له: حديث صحيح، وإن قيل له: صحيح الإسناد.

المسألة الثالثة: حول (الصحيحين) البخاري ومسلم:

وتحت هذه المسألة فروع:

الفرع الأول: في أن (صحيح البخاريِّ) أصحُّ الكتب الْمُصَنَّفَةِ في الصحيح.

قال الإمام النووي - رحمه الله - في معرض كلامه على

__________

1 تهذيب السنن: (4/360) .

2 تهذيب السنن: (5/340) .

(1/360)

(الصحيحين) : " ... وصحيح البخاري أَصَحُّهُما، وأكثرهما فوائد ... "1.

وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى تقديم البخاري في ذلك، فقال عنه: "أجَلُّ من صَنَّفَ في الحديث الصحيح"2.

وقد أفاد رحمه الله: أن تقديم البخاري وترجيح كتابه راجعٌ إلى دقة نظره، وشدة انتقائه، فقال في حديث أبي هريرة في الرجل الذي رأى رؤيا وقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله فيها: "وأرى سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض، فأراك يا رسول الله أخذت به فعلوتَ، ثم أخذ به رجلٌ آخر فعلا ... ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل، فعلا به ... "3. قال رحمه الله:

"فلفظة: (ثم وصل له) فلم يذكر هذا البخاري، ولفظ حديثه: ... (ثم وصل) فقط، وهذا لا يقتضي أن يوصل له بعد انقطاعه به ... وهذا مما يبينُ فضلَ صدق معرفة البخاري، وغور علمه في إعراضه عن لفظة (له) ... وإنما انفرد بها مسلم"4.

الفرع الثاني: في أنهما - رحمهما الله - لم يستوعبا الصحيح في كتابيهما:

فإنه قد جاء عنهما التصريح بعدم استيعابه، قال ابن الصلاح: "روينا عن البخاري أنه قال: ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صحَّ، وتركت من الصحاح لملال الطول"5.

__________

1 شرح مسلم: (1/14) .

2 زاد المعاد: (1/303) .

3 انظر: صحيح البخاري: ك التعبير، باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب ح 7046، ومسلم: (4/1777) ح 17 (2269) .

4 تهذيب السنن: (7/20) .

5 مقدمة ابن الصلاح: (ص10) .

(1/361)

وسئل الإمام مسلم - رحمه الله - عن حديث؟ فقال: "هو عندي صحيح". فقيل له: لِمَ لَمْ تَضَعْهُ ههنا؟ قال: "ليس كلُّ شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه"1.

وقد نَبَّهَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على هذا الأمر مراراً، وردَّ بذلك على من يُعِلُّ حديثاً بعدم إخراج البخاري ومسلم له، فكان مما قال في ذلك: "وتَرْكُ إخراج أصحاب الصحيح له - يعني حديث: " من أدخل فرساً بين فرسين ... " - لا يدل على ضعفه، كغيره من الأحاديث الصحيحة التي تركا إخراجها"2.

وقال مرة رداً على من أعلَّ حديثاً بذلك: "وتَرْكُ رواية البخاري له لا يوهنه، وله حكمُ أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه؛ فإنه سماه: الجامع المختصر الصحيح"3.

وقال عن حديث: "من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال ... ": "فإن قيل: فَلِمَ لا أخْرَجَهُ البخاري؟ قيل: هذا لا يلزم؛ لأنه - رحمه الله - لم يستوعب الصحيح"4.

__________

1 صحيح مسلم: (1/304) ح 63.

2 الفروسية: (ص38) .

3 إغاثة اللهفان: (1/294) .

4 تهذيب السنن: (3/312) .

(1/362)

الفرع الثالث: في رواية البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن بعض من تُكُلِّمَ فيه.

تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه القضية، فبين أن من أخرجا له ممن تُكُلِّمَ في حفظه، فإنهما لم يخرجا له اعتماداً، وإنما أخرجا له ما عَلِمَا أنه قد تُوبعَ عليه.

قال - رحمه الله - في حديث أبي أيوب مرفوعاً: " من صام رمضان، ثم أتبعه بستِّ من شوال ... " - وقد أخرجه مسلم1 من حديث سعد بن سعيد الأنصاري، وقد تُكُلِّمَ فيه بسببه –:

"سَلَّمنا ضعفه، لكنَّ مسلماً إنما احتج بحديثه لأنه ظَهَرَ له أنه لم يخطئ فيه بقرائن ومتابعات، ولشواهد دَلَّتْهُ على ذلك، وإن كان قد عُرِفَ خطؤه في غيره، فكون الرجل يخطئ في شيء لا يمنع الاحتجاج به فيما ظهر أنه لم يخطئ فيه، وهكذا حُكْمُ كثير من الأحاديث التي خَرَّجَاها وفي إسنادها من تُكُلِّمَ فيه من قِبَلِ حفظه، فإنهما لم يخرجاها إلا وقد وجدا لها متابعاً"2.

وقد تناول ابن حجر هذه القضية، وأكد أن من أخرجا له ممن وُصِفَ بالغلط وسوء الحفظ، فإن ذلك يكون في المتابعات لا الأصول3.

__________

1 صحيح مسلم: (2/822) ح 204، (1164) ك الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال....

2 تهذيب السنن: (3/312) .

3 هدي الساري: (ص384) .

(1/363)

المسألة الرابعة: في الصحيح الزائد على الصحيحين، ومن أين يُتَلَقَّى؟

تَقَدَّم أن أصحاب الصحيحين لم يستوعبا الصحيح ولا التزما ذلك، ومن ثَمَّ فقد بقي خارج الصحيحين كثير من الأحاديث الصحيحة.

ومن الكتب التي هي مَظِنَّةُ وجود الصحيح غير الصحيحين، مما كان لابن القَيِّم كلام عليها:

أولاً: (المستدرك) للحاكم: وفيه بعض المسائل:

المسألة الأولى: مراد الحاكم بقوله: "على شرط الشيخين".

أبان الحاكم عن مراده بذلك حين قال في خطبة كتابه: "وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات، قد احتج بمثلها الشيخان - رضي الله عنهما - أو أحَدُهُمَا"1.

وهذا الكلام صريحٌ في أن مراده: أن يكونا قد احتجا بمثل هذا الإسناد، ولكن تصرفه - رحمه الله - يخالف هذا الذي صرَّح به، ويدل على أن مراده: أن يكون رواة هذا الحديث الذي يستدركه عليهما قد خُرِّجَ عنهم بأعيانهم في "الصحيحين".

فإنه - رحمه الله - إذا كان الحديث قد أَخَرَجَا أو أحدهما لرواته، قال: "صحيح على شرط الشيخين، أو أحدهما". وإذا كان بعض رواته لم يخرجا له قال: "صحيح الإسناد" حسب.

__________

1 المستدرك: (1/3) .

(1/364)

ويُؤَكِّد هذا المعنى ويوضحه: أنه - رحمه الله - حَكَمَ على حديث من طريق أبي عثمان بأنه صحيح الإسناد، ثم قال: "وأبو عثمان هو مولى المغيرة، وليس هو بالنهديّ، ولو كان النهدي لحكمتُ بصحته على شرطهما"1.

ولأجل ذلك، فقد ذهب ابن الصلاح، والنووي، وابن دقيق العيد، والذهبي إلى أن مراده بقوله: "على شرطهما": أن يكون رجال الإسناد المحكوم عليه بأعيانهم في كتابيهما2.

وخالف في ذلك العراقي3، فحمل كلامه على المعنى الأول الذي أشار إليه في خطبة كتابه، ولكن رده الحافظ ابن حجر مؤيداً ما ذهب إليه الجماعة المتقدمون بأمثلة وبيان4.

وقد ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - في فهمه لكلام الحاكم إلى ما ذهب إليه الأكثرون، ومن ثَمَّ كان كثيراً ما يتعقبه عندما يخالف في أحكامه هذا الاصطلاح، ومن الأمثلة في هذا الصدد:

أن الحاكم قد صحح حديثاً على شرط مسلم، فتعقبه ابن القَيِّم بقوله:

"في إسناده حسين بن عبد الله، ولم يخرج له في الصحيحين"5.

__________

1 المستدرك: (4/249) . وانظر: نكت ابن حجر على ابن الصلاح: (1/320) .

2 تنظر أقوالهم في: مقدمة ابن الصلاح: (ص11) ، وتدريب الراوي: (1/127) ، وفتح المغيث: (1/44) .

3 التقييد والإيضاح: (ص30) .

4 النكت على ابن الصلاح: (1/319 - 321) .

5 تهذيب السنن: (4/30) .

(1/365)

كما أن الحاكم - رحمه الله - في حكمه على الحديث بأنه على شرطهما: لم يراع حالهما وتصرفهما مع بعض الرواة، بل جعل ذلك أمراً مطلقاً في كل راوٍ رآه في كتابيهما.

فمن ذلك: أنهما قد يخرجا للشخص في المتابعات دون الأصول، فيطلق الحاكم القول في هذا الراوي: أنه على شرطهما.

ومن تعقبات ابن القَيِّم عليه في ذلك: أنه روى حديثاً من طريق: الزهري، عن ابن إسحاق، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - في فضل السواك، ثم قال: "صحيح على شرط مسلم" فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "ولم يصنع الحاكم شيئاً؛ فإن مسلماً لم يروِ في كتابه بهذا الإسناد حديثاً واحداً، ولا احتج بابن إسحاق، وإنما أخرج له في المتابعات والشواهد"1.

وقال في حديث من رواية ابن إسحاق صححه الحاكم على شرط مسلم: "وفي هذا نوع مساهلة منه؛ فإن مسلماً لم يحتجَّ بابن إسحاق في الأصول، وإنما أخرج له في المتابعات والشواهد"2.

ومن ذلك أيضاً: أن البخاري ومسلماً قد يحتجان براوٍ وشيخه كل على انفراد، ولا يحتجان بهذين الراويين إذا اجتمعا وكانت رواية هذا

__________

1 المنار المنيف: (ص21) .

2 جلاء الأفهام: (ص5) .

(1/366)

التلميذ عن ذلك الشيخ؛ وذلك: لضعفه فيه، أو عدم سماعه منه أو غير ذلك من الأسباب. فيأتي الحاكم فيحكمُ على حديث من رواية هذا الراوي عن هذا الشيخ بأنه على شرطهما، وذلك لمجرد وجود هذين الراويين في كتابيهما.

ومن تعقبات ابن القَيِّم عليه في ذلك: أن الحاكم قال في حديث تضمين العارية من رواية الحسن عن سمرة: "على شرط البخاري"، فرد عليه ابن القَيِّم قائلاً:

"وفيما قاله نظر؛ فإن البخاري لم يخرج حديث العقيقة في كتابه من طريق الحسن عن سمرة ... "1.

يعني على القول بأنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة.

ومن ذلك أيضاً: أن صاحب الصحيح قد يَطَّرِحُ من حديث الثقة ما يعلم أنه قد غلط فيه، فيأتي الحاكم فيستدرك عليه جميعَ حديث هذا الثقة، دون نظرٍ إلى طريقة صاحب الصحيح في استبعاد بعض حديثه.

وفي هذا المعنى يقول ابن القَيِّم رحمه الله: " ... فغلط في هذا المقام من استدرك عليه جميع حديث الثقة - يعني الحاكم - "2.

فهذه الأمثلة كلها من تصرف الحاكم تؤكد مراده بقوله على شرطهما، وأنه يقصد وجود هؤلاء الرواة أنفسهم في الصحيحين، وتعقبات ابن القَيِّم عليه - كما مضى - تؤكد حمله اصطلاحه على هذا المعنى.

__________

1 تهذيب السنن: (5/197-198) .

2 زاد المعاد: (1/364) .

(1/367)

المسألة الثانية: تساهل الحاكم:

قضى الأئمة على الحاكم بأنه متساهل في شرط الصحيح، فقال ابن الصلاح: "وهو واسع الخطو في شرط الصحيح، متساهل في القضاء به"1. وَوَصَفَهُ بذلك النووي2 - أيضاً - وغيره.

وقد وَضَعَهُ ابن القَيِّم - أيضاً - في مرتبة المتساهلين في التصحيح: فقال مرة - وهو يتكلم على حديث: "من عشق فعفَّ ... " - "وأنكره أبو عبد الله الحاكم على تساهله"3.

وقال مرة: " ... مع فرط تساهله فيما استدركه عليهما"4.

ولذلك كان ابن القَيِّم - رحمه الله - كثيراً ما يتعقبه في تصحيحاته، فمن ذلك:

أن الحاكم صحَّحَ حديثاً في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد من رواية: يحيى بن السباق، عن رجل من آل الحارث، عن ابن مسعود مرفوعاً، فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "وفي تصحيح الحاكم لهذا نظرٌ ظاهرٌ؛ فإن يحيى بن السباق وشيخه غير معروفين بعدالة ولا جرح"5.

وصَحَّحَ الحاكم حديثاً في المسح على الخفين وفيه مجهولون، فقال

__________

1 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) .

2 انظر: تدريب الراوي: (1/105) .

3 الجواب الكافي: (ص366) .

4 الفروسية: (ص58) .

5 جلاء الأفهام: (ص20) .

(1/368)

ابن القَيِّم: "والعجب من الحاكم، كيف يكون هذا مُسْتَدركاً على الصحيحين، ورواته لا يُعْرَفون بجرح ولا تعديل؟! "1.

المسألة الثالثة: بيان مرتبة تصحيح الحاكم:

أما عن مرتبة ما يصححه الحاكم ودرجته، فقد قال ابن الصلاح- بعد أن حكى تساهل الحاكم-: "فالأولى أن نتوسط في أمره، فنقول: ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة: إن لم يكن من قبيل الصحيح، فهو من قبيل الحسن، يُحْتَجُّ به ويُعمل به، إلا أن تظهر عِلَّةٌ توجب ضعفه"2. ووافق النوويُّ ابنَ الصلاح على ذلك، ولكنه حَصَرَهُ في الحسن فقط3.

وتعقبهما البدر ابن جماعة، فقال: "والصواب: أن يُتتبع ويحكم عليه بما يليق بحاله من الحسن أو الصحة أو الضعف". نقله عنه العراقي وصَوَّبَهُ4.

وإذا كان ما ذهب إليه ابن الصلاح والنووي في ذلك يُعَدُّ نوعاً من التساهل - إذ من شأنه أن يؤدي إلى تصحيح الضعيف - فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد تّشَدَّدَ جداً في مرتبة ما يصححه الحاكم ودرجته:

فقال مرةً - وقد صحح الحاكم على شرط مسلم حديث

__________

1 تهذيب السنن: (1/118) .

2 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) .

3 انظر: تدريب الراوي: (1/107) .

4 التقييد والإيضاح: (ص30) .

(1/369)

عائشة - رضي الله عنها - في تفضيل الصلاة بسواك على الصلاة بغير سواك-: "لم يصنع الحاكم شيئاً ... وهذا وأمثاله هو الذي شان كتابه وَوَضَعَهُ، وجعل تصحيحه دون تحسين غيره"1.

وقال مرة - يرد على الحاكم تصحيحه إسناد حديث المُحَلِّل -: " ... ولا يَعْبَأُ الحُفَّاظ - أطباء الحديث - بتصحيح الحاكم شيئاً، ولا يرفعون به رأساً ألبتة، بل لا يدل تصحيحه على حُسْنِ الحديث، بل يُصحح أشياء موضوعة بلا شك عند أهل العلم بالحديث ... والرجل يصحح ما أجمع أهل الحديث على ضعفه"2.

وقال مرة في كلامه على الحديث نفسه: " ... وبالجملة: فتصحيح الحاكم لا يستفاد منه حسن الحديث ألبتة، فضلاً عن صحته"3.

وهذا منه - رحمه الله - مبالغة وتشدد، والأولى والأليق في ذلك ما سبق في كلام ابن جماعة رحمه الله: من تتبع ما حكم عليه، ووضع كل حديث منها - بعد دراسته - في المرتبة اللائقة به؛ ذلك أن (المستدرك) فيه "شيء كثير على شرطهما، وشيء كثير على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب، بل أقل ... وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد، وذلك نحو ربعه، وباقي الكتاب مناكير وعجائب، وفي غضون ذلك أحاديث - نحو المائة - يشهد القلب ببطلانها" كما قال الذهبي4.

__________

1 المنار المنيف: (ص21) .

2 الفروسية: (ص46) .

3 الفروسية: (ص52) .

4 سير أعلام النبلاء: (17- 175) .

(1/370)

ومن مظان وجود الصحيح الزائد على الصحيحين أيضاً:

ثانياً: "جامع الترمذي":

قال ابن الصلاح: "ثم إن الزيادة في الصحيح على ما في الكتابين يتلقاها طالبها مما اشتمل عليه أحد المصنفات المعتمدة ... كأبي داود السجستاني وأبي عيسى الترمذي"1.

وقد وَصَفَ ابن القَيِّم - رحمه الله - الترمذي بشيء من التساهل في التصحيح، فقال مرةً في حديث عليٍّ رضي الله عنه في ترخيص النبي في الجمع بين اسمه وكنيته بعد وفاته، وقول الترمذي عنه: "حسن صحيح":

"وحديث عليٍّ رضي الله عنه في صحته نظرٌ، والترمذي فيه نوع تساهل في التصحيح"2.

وقال مرةً: "مع أن الترمذيَّ يُصَحِّحُ أحاديثَ لم يُتَابعْهُ غيرهُ على تصحيحها، بل يصحح ما يُضَعِّفُهُ غيره أو يُنْكِرُهُ"3.

وقد حَكَمَ بتساهل الترمذي أيضاً: الحافظ الذهبي، ولكنه أسرف في ذلك وبالغ، فقال في ترجمة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف:

"وأما الترمذي: فقد روى من حديثه: الصلح جائز بين المسلمين، وصححه؛ فلهذا لا يَعْتَمِدُ العلماء على تصحيح الترمذي"4.

__________

1 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) .

2 زاد المعاد: (2/348) .

3 الفروسية: (ص45) .

4 الميزان: (3/ 407) .

(1/371)

وقال مرة أخرى: " ... فلا يُغْتَرُّ بتحسين الترمذي، فعند الْمُحَاقَقَةِ: غَالِبُهَا ضِعَافٌ"1.ولا شكَّ أن هذا غير مقبول من الذهبي رحمه الله، ولذلك فقد رَدَّهُ الحافظ العراقي بقوله: "وما نقله عن العلماء من أنهم لا يعتمدون تصحيح الترمذي: ليس بجيد، وما زال الناس يعتمدون تصحيحه"2.ولذلك فإن ما قاله ابن القَيِّم أقرب إلى الواقع، وأليقُ بحال الترمذي ومكانة (جامعه) ؛ فإنه لم يجعل التساهل عاماً في أحكام الترمذي، شاملاً لكل كتابه، وإنما قال: "فيه نوع تساهل في التصحيح" وقال: "يصحح أحاديث لم يتابعه غيره على تصحيحها". فهو يخالف في تصحيح بعض الأحاديث، وهذا - لا شك - أولى من إطلاق القول بتساهله، وعدم الاعتماد على أحكامه.ومما يدل على تحفظ ابن القَيِّم نفسه في ذلك الحكم، وعدم إهداره أحكام الترمذي - كما قال غيره -: أنه يعتمد كثيراً أحكام الترمذي، وينقلها محتجاً بها ساكتاً عليها، يعرفُ ذلك كلُّ من طالع كتب ابن القَيِّم.وعلى كل حال، فإن هذا الكلام لا يقلل من مكانة الإمام الترمذي وكتابه.__________1 الميزان: (4/416) .2 الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين: (ص241) نقلاً عن (شرح الترمذي) للعراقي.

(1/372)

ثالثاً: "صحيح ابن حبان":وهو من الكتب التي يُعتمد عليها في معرفة الصحيح أيضاً؛ فقد التزم فيه مؤلفه الصحة، وهو وإن كان خيراً من المستدرك بكثير1، إلا أنه قد وقع له نوع تساهل أيضاً، وجعله ابن الصلاح مقارباً للحاكم في التساهل2.وابن القَيِّم - رحمه الله - يعتمد تصحيح ابن حبان في الكثير الغالب، مما جعله يحتج أحياناً ببعض الضعيف من "صحيحه"3.ومع ذلك، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد انتقد ابن حبان من جهة أخرى؛ وذلك أنه قال في حقه: "وابن حبان كثيراً ما يرفع في كتابه ما يعلم أئمة الحديث أنه موقوف"4.وقد استشهد ابن القَيِّم على هذه الدعوى بمثالين، وتبين بعد الدراسة: أن أحدهما قد صحَّ مرفوعاً، رواه كذلك غير واحد ولم ينفرد برفعه ابن حبان5. والحديث الآخر: الصواب فيه الوقف، ولكن شارك ابن حبان في روايته مرفوعاً جماعة؛ منهم: أحمد، وأبو يعلى وغيرهما6، ولم ينفرد ابن حبان بروايته مرفوعاً.__________1 اختصار علوم الحديث - ابن كثير: (ص27) .2 مقدمة ابن الصلاح: (ص11) .3 ينظر على سبيل المثال: زاد المعاد: (1/43 –44) ، (3/204-205) .4 أحكام أهل الذمة: (2/622) .5 انظر حديث رقم: (128) من قسم الأحاديث.6 انظر حديث رقم: (123) من قسم الأحاديث.

(1/373)

وعلى كل حال، فإن هذا الحكم من ابن القَيِّم - رحمه الله - لم أر من أطلقه على ابن حبان غيره، ولو وقع في (صحيح ابن حبان) شيء من ذلك، فهل يكون بالكثرة التي وصف ابن القَيِّم؟؟ الأمر يحتاج إذن إلى دراسة وتتبع لما انفرد ابن حبان بروايته مرفوعاً والناس يروونه موقوفاً، وحينئذٍ يمكن معرفة صحة دعوى ابن القَيِّم من عدمها.المسألة الخامسة: في فوائد متفرقة تتعلق بالحديث الصحيح.الفائدة الأولى: في قولهم لحديثين: "هذا أصح من هذا".إذا قيل لحديث: إنه أصح من حديث، فهل يلزم من ذلك صحة هذا الحديث الْمُرَجَّحِ مطلقاً؟نَبَّهَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على ذلك، وبين أن ذلك قد يكون من باب "التصحيح الْمُقَيَّدِ"، أو "التصحيح النسبي".فقد قال أبو داود في حديث ركانة: أنه طَلَّقَ امرأته ألبتة، وأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال: والله ما أردت إلا واحدة ... فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "وهذا أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثاً ... "1. فاعترضه المنذري قائلاً: "وفيما قاله نظر"2. فرد ابن القَيِّم على المنذري بقوله: " ... فإن أبا دود لم يَحْكُمْ بصحته، وإنما قال بعد روايته: هذا أصحُّ من حديث ابن جريج ... وهذا لا يدل على أن الحديث عنده__________1 سنن أبي داود: (2/657) ك الطلاق، باب في البتة.2 مختصر السنن: (3/134) .

(1/374)

صحيح، فإن حديث ابن جريج ضعيف، وهذا صعيف أيضاً، فهو أصح الضعيفين عنده.وكثيراً ما يُطلق أهل الحديث هذه العبارة على أرجح الحديثين الضعيفين، وهو كثير في كلام المتقدمين، ولو لم يكن اصطلاحاً لهم، لم تدل اللغة على إطلاق الصحة عليه؛ فإنك تقول لأحد المريضين: هذا أصح من هذا، ولا يدل على أنه صحيح مطلقاً، والله أعلم"1.الفائدة الثانية: في معنى قولهم: "صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في معنى هذه العبارة: "إن أهل العلم بالحديث لم يزالوا يقولون: صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك جَزْمٌ منهم بأنه قاله، ولم يكن مرادهم ما قاله بعض المتأخرين: إن المراد بالصحة: صحة السند، لا صحة المتن. بل هذا مراد من زعم أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفيد العلم، وإنما كان مرادهم: صحة الإضافة إليه، وأنه قاله"2.ثم بَيَّن - رحمه الله - أن بين "صحة السند"، و" صحة الحديث" فرقاً، فلذلك لا يصح حمل قولهم: "صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" على صحة السند. وقد تقدم الكلام على الفرق بين صحة السند، وصحة الحديث3.__________1 تهذيب السنن: (3/134) .2 مختصر الصواعق: (2/478) .3 انظر ص: (359) .

(1/375)

الفائدة الثالثة: عدم جواز الجزم بنسبة ما لا يُعلم صحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.قال ابن القَيِّم - رحمه الله - عند كلامه على عدم جواز إطلاق حكم الله على ما لا يعلم الشخص يقيناً أنه حكم الله: "وهكذا لا يَسُوغُ أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. لما لا يُعلَمُ صحته، ولا ثقة رواته، بل إذا رأى أي حديث كان، في أي كتاب، يقول: لقوله صلى الله عليه وسلم. أو: لنا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم، وهذا خطر عظيم، وشهادة على الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يَعْلَم الشاهد"1.قلت: وهذا من باب الاحتياط والتَّثَبُّتِ فيما يُنْسَبُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من يَنْسُبُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يَعْلَمُ صحته مُعَرَّضٌ للوقوع في الكذب عليهصلى الله عليه وسلم.وقد حَذَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، ونبه عليه، فقال - فيما رواه عنه المغيرة بن شعبة وغيره -: "من حدَّثَ عني بحديث يُرَى أنه كَذِبٌ، فهو أحد الكاذبين" 2.__________1 أحكام أهل الذمة: (1/20) ، فهو - رحمه الله - يعيبُ من لا يعلم عن ثبوت الحديث شيئاً ومع هذا يورده للاحتجاج فيقول: "لقوله صلى الله عليه وسلم" يعني الحجة والدليل قوله صلى الله عليه وسلم، أو: "لنا قوله" أي: دليلنا.2 أخرجه مسلم في (صحيحه) في المقدمة (1/9) باب وجوب الرواية عن الثقات، وترك الكذابين. وابن ماجه في المقدمة أيضاً: (1/14) ح38 - 41. باب من حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً وهو يرى أنه كذب.وأحمد في مسنده: (4/250) ، وابن عبد البر في التمهيد - المقدمة - (1/41) ، والبغوي في شرح السنة (1/266) ح 123. قال البغوي: "حديث صحيح".ورمز له السيوطي بالصحة. (الجامع الصغير مع فيض القدير 6/116 ح 8631) ، وصححه الشيخ الألباني (صحيح الجامع ح 6199) .

(1/376)

وذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - في مناسبة أخرى ما كان عليه أهل العلم بالحديث من الجزم بنسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند تَأَكُّدِهِم من صحته، وتعبيرهم عن ذلك بصيغة التمريض عند عدم تأكدهم من صحته أو شكهم في ذلك، فقال:"كما كانوا يجْزِمُون بقولهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر، ونهى، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحيث كان يقع لهم الوهم في ذلك، يقولون: يُذكرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى عنه، ونحو ذلك"1.ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - ملتزماً هذا المبدأ في تعامله مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكمه عليه، فمن ذلك:أنه - رحمه الله - ذكر حديثين في فضل الفَاغِيَة2، ولم يكن متأكداً من صحتهما، ولا عارفاً بحالهما، فَصَدَّرَهُمَا بصيغة التمريض: (رُوِيَ) ، ثم قال: "والله أعلم بحال هذين الحديثين، فلا نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا نعلم صحته"3.__________1 مختصر الصواعق: (2/478) .2 هي نَوْرُ الحناء. وقيل: نور الريحان ... وقيل: فَاغِيَةُ كلُّ نَبْتٍ: نوره. والنَّوْرُ: زهر الشجرة. (النهاية: 3/461، ومختار الصحاح: ن ور) .3 زاد المعاد: (4/348) .

(1/377)

المبحث الثالث: الحديث الحسنوفيه مسائل:المسألة الأولى: في تعريف الحسن، وشروطه:اختُلِفَ في تعريف الحديث الحسن على أوجه كثيرة، ومن أشهر تعريفاته:- تعريف الإمام الخطابي رحمه الله، إذ عرفه بأنه: "ما عُرِفَ مخرجه، واشتهر رجاله"، قال: "وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء"1.- وقد اعترض على تعريف الخطابي هذا: بأنه أدخل الصحيح في حد الحسن؛ فإن الصحيح - أيضاً - قد عُرِفَ مخرجه، واشتهر رجاله2.- وعرَّفَه الإمام الترمذي بقوله: "كل حديث يُروى: لا يكون في إسناده مَنْ يُتَّهَم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً، ويروى من غيره وجه نحو ذاك: فهو عندنا حديث حسن"3.ولكن اعْتُرِضَ عليه أيضاً4.__________1 معالم السنن: (1/11) .2 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص15) ، والاقتراح: (ص163 - 164) .3 علل الترمذي المطبوعة في آخر "جامعه": (5/758) .4 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص15) ، وتدريب الراوي: (1/155) .

(1/379)

وتعريف الترمذي - على هذا - يدخل فيه: رواية المستور، والضعيف بسبب سوء الحفظ، والموصوفُ بالغلط والخطأ، وحديث المختلط بعد اختلاطه، والمدلس إذا عَنْعَنَ، وما في إسناده انقطاع خفيف، فكل ذلك عند الترمذي من قبيل الحسن بالشروط الثلاثة الماضية في تعريفه. كما أفاد ذلك الحافظ ابن حجر، وذكر لكل نوع من هذه الأنواع مثالاً مما حَسَّنَه الترمذي في كتابه1.وقد حَمَلَ ابن الصلاح تعريف الترمذي على أنه منصرف إلى الحسن لغيره، وهو ما اعتضد بمجيئه من غير وجه، وحَمَلَ تعريف الخطابي على الحسن لذاته، فكأن كل واحد منهما قد عَرَّفَ أحد نوعي الحسن2.وقد عرَّفَه الحافظ ابن حجر رحمه الله: بأنه الحديث الذي جمع شروط الحديث الصحيح، إلا أنه خفَّ - أي قلَّ - ضبط راويه. وهو الحسن لذاته، لا الحسن لغيره الذي حُسْنُهُ بسبب اعتضاده بغيره3.وقد تعرض ابن القَيِّم - رحمه الله - في بعض المناسبات لحدِّ الحسن، وبيان بعض ضوابطه، وذلك أثناء دراسته لحديث ميراث الخال، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ... والخالُ وارث من لا وارث له". حيث حَكَمَ عليه بعضهم بالضعف، فقالوا: إن أحاديثه - يعني ميراث الخال - ضعاف.فردَّ ابن القَيِّم ذلك بقوله:__________1 النكت على ابن الصلاح: (1/387 - 399) .2 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص15 - 16) .3 النكت على نزهة النظر: (ص91 - 92) .

(1/380)

"وأما قولهم: إن أحاديثه ضعاف: فكلام فيه إجمال، فإن أُرِيدَ بها أنها ليست في درجة الصحاح التي لا علة لها: فصحيح، ولكن هذا لا يمنع الاحتجاج بها، ولا يوجب انحطاطها عن درجة الحسن، بل هذه الأحاديث وأمثالها هي الأحاديث الحِسَانُ؛ فإنها قد تَعَدَّدَت طُرُقُهَا، وَرُوِيَت من جوه مختلفة، وعُرِفَت مخارجها، ورواتها ليسوا بمجروحين ولا مُتَّهَمِين ... وليس في أحاديث الأصول ما يُعَارِضُها"1.وبالنظر إلى كلام ابن القَيِّم هذا: نجد أنه قد ضَبَطَ الحديث الحسن وحدَّهُ بما حدَّه به الترمذي والخطابيُّ معاً، وكأنه أراد أن يقول: إن أحاديث توريث الخال ينطبق عليها وصفُ الحسن بقسميه، وأنها لا تخرجُ عمَّا ضُبِطَ به الحسن بحالٍ.المسألة الثانية: مراتب الحديث الحسن.تتفاوت مراتب الحديث الحسن في القوة كتفاوت الصحيح، وقد أشارَ إلى هذا التفاوت الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عند كلامه عن الحسن لذاته، فقال: "وهذا القسم من الحسن مشاركٌ للصحيح في الاحتجاج به - وإن كان دونه - ومشابهٌ له في انقسامه إلى مراتب__________1 تهذيب السنن: (4/171) .

(1/381)

بعضها فوق بعض"1. وقال السيوطي: "الحسن - أيضاً - على مراتب كالصحيح"2.وقد ألمح ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى هذا التفاوت في مراتب الحديث الحسن، بل حدَّدَ - رحمه الله - هذه المراتب في ثلاث: عليا، ووسطى، ودنيا، ومن كلامه في ذلك:أن حديث عامر بن ربيعة في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، قد رُويَ من طريقين، في أحدهما: عاصم بن عبيد الله العمري، وفي الآخر: عبد الله ابن عمر العمري، فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "وإن كان حديثهما فيه بعض الضعف، فرواية هذا الحديث من هذين الوجهين المختلفين يدل على أن له أصلاً، وهذا لا ينزل عن وسط درجات الحسن"3.وأما المرتبة الثالثة للحديث الحسن عند ابن القيم - وهي أدنى مراتبه - فقد قال - رحمه الله - في حديث تميم الداري في الرجل يُسْلِمُ على يديه الرجل، وأنه أولى الناس بمحياه ومماته، قال:"وحديث تميم وإن لم يكن في رتبة الصحيح، فلا ينحط عن أدنى درجات الحسن"4.فتخلص من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يرى أن الحديث__________1 نزهة النظر: (ص33) .2 تدريب الراوي: (1/160) .3 جلاء الأفهام: (ص29) .4 تهذيب السنن: (4/186) .

(1/382)

الحسنَ على مراتب متفاوتة في القوة، وأنه ذكر من ذلك: أوسط درجات الحسن، وأدنى درجاته.ويؤخذ من كلامه هذا - والله أعلم -: أن هناك درجة عليا للحسن، هي فوق الوسطى، ودون أدنى درجات الصحيح.

(1/383)

المبحث الرابع: المرفوع والموقوفالمرفوع:هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصةً: قولاً، أو فعلاً، أو تقريراً، لا يقع مطلقه على غيره، متصلاً كان أو منقطعاً1.والموقوف:قال النووي: "هو المروي عن الصحابة: قولاً لهم، أو فعلاً أو نحوه، متصلاً كان أو منقطعاً. ويستعمل في غيرهم مقيداً، فيقال: وَقَفَهُ فلانٌ على الزهري ونحوه"2.ومن المسائل التي تناولها ابن القَيِّم - رحمه الله - مما يتعلق بالمرفوع والموقوف:المسألة الأولى: إذا قيل عند ذكر الصحابي: يرفعه، أو: يبلغ به.إذا قيل عند ذكر الصحابي: يرفعه، أو يَنْمِيهِ3، أو: يَبْلُغُ به، أو: روايةً ونحو ذلك: فإنه مرفوع عند أهل العلم4.قال ابن الصلاح: "فكل ذلك وأمثاله: كناية عن رفع الصحابي__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص22) ، وتدريب الراوي: (1/183 - 184) .2 التقريب: (ص6) .3 نَمَى الحديث إلى فلان: أسنده له ورفعه. (مختار الصحاح: ص681) .4 انظر: فتح المغيث: (1/122) .

(1/385)

الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكمُ ذلك عند أهل العلم حكم المرفوع صريحاً"1.وكذا إذا قال الراوي عن التابعي: يرفع الحديث، أو: يبلغ به، ونحو ذلك مما تقدم، فإنه مرفوعٌ أيضاً، قال ابن الصلاح: "ولكنه مرفوع مرسل"2.وقد نَقَلَ السخاوي - رحمه الله - عن ابن القَيِّم كلاماً في مسألة: قول الراوي عن التابعي: يرفعه أو يبلغ به، فقال في ذلك: " ... مرسل مرفوع بلا خلاف، ولذا قال ابن القَيِّم: جزماً"3.فالسخاوي - رحمه الله - يستند إلى ما قرره ابن القَيِّم في نفي الخلاف بين أهل العلم في تحديد اصطلاح "مرسل مرفوع"، وعزا ذلك كالإجماع إلى أهل العلم مستدلاً على ذلك بكلام ابن القَيِّم في المسألة.المسألة الثانية: في قول الصحابي: أَمَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أو حَرَّمَ كذا، أو: أوجب كذا.قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقول الصحابي: حرَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو: أَمَرَ بكذا، وقضى بكذا، وأوجب كذا: في حكم المرفوع اتفاقاً عند أهل العلم، إلا خلافاً شاذّاً لا يُعْتدُّ به، ولا يُؤْبَهُ له".__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص24 - 25) .2 مقدمة ابن الصلاح: (ص25) .3 فتح المغيث: (1/122) .

(1/386)

ثم بَيَّن - رحمه الله - الشبهة التي تعلق بها المخالف في ذلك، فقال: "وشبهة المخالف: أنه لعله رواه بالمعنى، فظن ما ليس بأمر ولا تحريم كذلك".ثم رد ذلك بقوله: "وهذا فاسدٌ جداً؛ فإن الصحابة أعلم بمعاني النصوص، وقد تَلَقَّوْها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يُظَنُّ بأحد منهم أن يُقْدِمَ على قوله: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: حرَّم، أو: فَرَضَ. إلا بعد سماع ذلك، ودلالة اللفظ عليه.واحتمال خلاف هذا كاحتمال الغلط والسهو في الرواية، بل دونه1؛ فإن رُدَّ قوله: أمر، ونحوه بهذا الاحتمال، وَجَبَ ردُّ روايته لاحتمال السهو والغلط، وإن قبلت روايته: وجب قبول الآخر"2.وهذا كلام بديع محكم من ابن القَيِّم في رد هذه الشبهة.وهذه الشبهة نقلها ابن الأثير عن أهل الظاهر، وأجاب عنها بنحو جواب ابن القيم3.__________1 أي: أحطَُ منه منزلة، وأراد بذلك تعنيف صاحب الشبهة؛ لأن وصفه للصحابي بسوء الفهم أشد من وصفه له بالغلط والسهو.2 تهذيب السنن: (5/101) .3 مقدمة جامع الأصول: (1/92) .وثَمَّة شبهة أخرى تعلق بها المانعون، وهي: احتمال كون الصحابي سمع ذلك من غير النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون رواية عن غيره عنه.وقد رد الخطيب ذلك في (الكفاية) (ص 590 - 591) مرجحاً رأي الجمهور في ذلك، وأنه ينبغي حمله على أن الصحابي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1/387)

فتلخص من ذلك: أن ما اختاره ابن القَيِّم - رحمه الله - في إثبات حكم الرفع لما هذه صفته، هو الصواب الذي عليه الجمهور، وأن ما تَمَسَّك به المخالفون من شبه ضعيف لا يُقَاوِمُ رأي الجمهور، والله أعلم.المسألة الثالثة: في حكم ما يقوله الصحابي مما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد.إذا قال الصحابي قولاً مما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد، فهل يثبت لذلك حكم الرفع؟قَرَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - أن ذلك له حكم الرفع؛ فإنه قال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في امتحان أهل الفترة، والمعتوه ونحوهما1 - وقد رُوِيَ عنه مرفوعاً وموقوفاً - قال: "غاية ما يُقَدَّرُ فيه: أنه موقوف على الصحابي، ومثل هذا لا يُقْدِمُ عليه الصحابي بالرأي والاجتهاد، بل يُجْزَمُ بأن ذلك توقيف لا عن رأي"2.وقرر ذلك أيضاً: الحافظ ابن حجر رحمه الله، وذهب إلى أنه من باب المرفوع حكماً لا تصريحاً، ولكن قَيَّدَهُ بمن لم يُعرف بالأخذ عن الإسرائيليات والكتب القديمة، فإذا قال الصحابي ما "لا مجال للاجتهاد فيه، ولا له تعلق ببيان لغة أو شرح غريب، كالإخبار عن الأمور الماضية: من بدء الخلق، وأخبار الأنبياء. أو الآتية: كالملاحم والفتن، وأحوال يوم__________1 انظر: أحكام أهل الذمة: (2/650 - 651) .2 أحكام أهل الذمة: (2/654) .

(1/388)

القيامة، وكذا الإخبار عمَّا يحصل بفعله ثوابٌ مخصوص أو عقاب مخصوص"1. فإن ذلك له حكم الرفع.وقد نَبَّهَ الشيخ أحمد شاكر على ضرورة الاحتياط في ذلك، وعدم إطلاق القول بالرفع في كل ما يَرِدُ من ذلك، وأشار إلى أن مما يجب مراعاته في ذلك: بعض فتاوى الصحابة واجتهاداتهم في بعض المسائل، التي بنوها على عمومات وأصول الشريعة، فقد يظَنُّ البعض أن هذا مما لا مجال فيه للرأي2.فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم يذهب إلى إثبات حكم الرفع لما قاله الصحابي مما لا مجال للرأي فيه، ولكنه لم يقيد ذلك ببعض القيود الضرورية التي مرَّ ذكرها. وسبب عدم تقييد ابن القَيِّم كلامه: أنه جاء مرتبطاً بقضية معينة، وحديث بعينه، والله أعلم.المسألة الرابعة: فيما يَنْسِبُ الصحابي فاعِلَهُ إلى العِصْيَان.ما يَنْسِبُ الصحابي فاعله إلى الكفر أو العصيان: هل يثبت له حكم الرفع، أم يكون موقوفاً على الصحابي؟اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة القول: بأن ذلك موقوفٌ على الصحابي، فقال عند كلامه على حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه: "من صام هذا اليوم - يعني يوم الشك - فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ": "وذكر جماعة أنه موقوف، ونظير هذا قول أبي هريرة: "من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله".__________1 نزهة النظر: (ص53) .2 الباعث الحثيث: (ص47) .

(1/389)

والحكم على الحديث بأنه مرفوع بمجرد هذا اللفظ لا يصح، وإنما هو لفظ الصحابي قطعاً.ولعل الصحابي فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين": أن صيام يوم الشك تَقَدُّمٌ، فهو معصية، كما فهم أبو هريرة من قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا أحَدَكم أخاه فليجبه ": أن ترك الإجابة معصية لله ورسوله. ولا يجوز أن يُقَوَّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله.والصحابي إنما يقول ذلك استناداً منه إلى دليل فَهِمَ منه أن مخالفة مقتضاه معصية، ولعله لو ذكر ذلك الدليل لكان له محمل غير ما ظنه، فقد كان الصحابة يخالف بعضهم بعضاً في كثير من وجوه دلالة النصوص"1.كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أن جمعاً من الأئمة ذهبوا إلى إثبات حكم الرفع لذلك، فجزم به الحاكم في (علوم الحديث) 2، والفخر الرازي3، والزركشي4، وأيَّدَه الحافظ العراقي5.وقال الحافظ ابن حجر: "فهذا ظاهره أن له حكم الرفع، ويحتمل أن يكون موقوفاً لجواز إحالة الإثم على ما ظهر من القواعد.__________1 تهذيب السنن: (3/321 - 322) .(ص 21 - 22) .3 النكت على ابن الصلاح - لابن حجر: (2/530) .4 تدريب الراوي: (1/191) .5 شرح الألفية: (1/140) .

(1/390)

والأول أظهر، بل حكى ابن عبد البر الإجماع على أنه مسند"1.وأما ما قاله ابن القَيِّم - رحمه الله - من أن الصحابي إنما يقول ذلك استناداً إلى دليل يفهم منه أن مخالفة مقتضاه تكون معصية: فإنه لا يخلو من نظر، ويُجاب عما رآه ابن القَيِّم في هذه المسألة بما أجاب به هو عن المسألة المتقدمة، وهي: قول الصحابي: حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو: أمر بكذا، فيقال: إن الصحابة أعلم بمعاني النصوص، فلا يُظَنُّ بأحدهم أن يُقدِمَ على الحكم بالكفر أو المعصية على أحدٍ إلا وقد سمع ذلك، مع دلالة اللفظ عليه، فالصحابة هم أفهم الناس لدلالة النصوص على الكفر والمعصية من عدم دلالتها على ذلك.فتخلص من ذلك: أن الراجح في هذه المسألة هو الحكم في ذلك بالرفع، وأن ما ذهب إليه ابن القَيِّم من الحكم لذلك بالوقف: هو خلاف الأظهر من قولي أهل العلم في المسألة، وخلاف الراجح، والله أعلم.المسألة الخامسة: في حكم تفسير الصحابي للقرآن.هل ما يُفَسِّرُه الصحابي من آي القرآن يُعَدُّ حديثاً مرفوعاً؟اشتهر عن الحاكم القول بذلك، بل نسبه إلى البخاري ومسلم، فقد قال في (المستدرك) 2: "وقد اتفقا على أن تفسير الصحابيّ حديث مسند".__________1 النكت على ابن الصلاح: (2/530) .(1/542) .

(1/391)

وقد قيده ابن الصلاح1 - وتبعه عليه النووي2، والعراقي3- بما يتعلق من ذلك بسبب النزول، وسبق هؤلاء جميعاً إلى التقييد بذلك: الخطيب البغدادي، وأبو منصور البغدادي، كما أفاده الحافظ ابن حجر4.على أنه قد جاء عن الحاكم التقييد بذلك أيضاً، فقال - بعد أن ذكر حديث جابر رضي الله عنه في سبب نزول قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]-: "هذا الحديث وأشباهه مسندة عن آخرها وليست بموقوفة، فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل، فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا، فإنه حديث مسند"5.وقد اعتمد ابن القَيِّم - رحمه الله - رأي الحاكم في "المستدرك"، ونقله عنه في كثير من المواضع، محتجاً به على إثبات حكم الرفع لما يقوله الصحابي من التفسير.فقد نقل عنه كثيراً قوله: "تفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع"6.__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص24) .2 التقريب: (ص6) .3 شرح الألفية: (1/132) .4 النكت على ابن الصلاح: (2/530) .5 معرفة علوم الحديث: (ص20) . وانظر: تدريب الراوي: (1/193) .6 انظر: تهذيب السنن: (3/77) ، وتحفة المودود: (ص17) ، وإعلام الموقعين: (4/153) ، وحادي الأرواح: (ص366) .

(1/392)

ولكن: هل يَحْمِلُ ابن القَيِّم هذا الكلام من الحاكم على إطلاقه فَيُثْبِتُ لتفسير الصحابي حكم الرفع مطلقاً؟والجواب عن ذلك يظهر من شرح ابن القَيِّم لمراد الحاكم بمقالته؛ إذ قال رحمه الله: "ومراده - أي الحاكم -: أنه في حكمه في الاستدلال به والاحتجاج، لا أنه إذا قال الصحابي في آية قولاً، فلنا أن نقول: هذا القول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.وله وجه آخر: وهو أن يكون في حكم المرفوع، بمعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لهم معاني القرآن، وفسره لهم، كما وصفه تعالى بقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} " [النحل: 44] .فَبَيَّن لهم القرآن بياناً شافياً كافياً، وكان إذا أشكل على أحد منهم معنىً، سأله عنه، فأوضحه له، كما سأله الصديق عن قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} 1 [النساء: 123] فبين له المراد، ... وكما سألته أم__________1 وحديث أبي بكر الصديق أخرجه أحمد في المسند (1/11) ، والحاكم في المستدرك (3/74 - 75) ، والبيهقي في السنن (3/373) ، وغيرهم، عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله! كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فكل سوء عملنا جزينا به! فقال صلى الله عليه وسلم: "يرحمك الله يا أبا بكر، ألست تنصب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء؟ فهذا ما تجزون به". (وانظر: مرويات الإمام أحمد في التفسير رقم 878) .

(1/393)

سلمة عن قوله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} 1؟ [الانشقاق: 8] فبين لها أنه العرض ... وهذا كثير جداً.فإذا نقلوا لنا تفسير القرآن، فتارة ينقلونه عنه بلفظه، وتارة بمعناه، فيكون ما فسروا بألفاظهم من باب الرواية بالمعنى، كما يروون عنه السنة تارة بلفظها، وتارة بمعناها. وهذا أحسن الوجهين، والله أعلم"2.فابن القَيِّم - رحمه الله - ينفي أن يكون المراد بأن له حكم الرفع: نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قاله، ولكنه يؤكد كونه حجة كالمرفوع، كما مضى في كلامه، بل ويصرح بذلك في مناسبة أخرى، فيقول: "تفسير الصحابة حجة"3.ويُقيِّدُ ابن القَيِّم - رحمه الله - الاحتجاج بتفسير الصحابي__________1 وهذا الحديث الذي أشار إليه ابن القَيِّم أخرجه البخاري في صحيحه: ك العلم، ب من سمع شيئاً فراجع حتى يعرفه، برقم 103، وفي غير ذلك من المواضع، من حديث عائشة رضي الله عنها "أنها لما سمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نوقش الحساب عذب" قالت: أو ليس يقول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحاسب يهلك".وكذا وقع عند ابن القَيِّم هنا في "إعلام الموقعين ": (أم سلمة) ! والمشهور عن عائشة رضي الله عنها، فلعله وهم من النساخ أو الطابعين؟! فقد أورده على الصواب في الصواعق (3/1053) .2 إعلام الموقعين: (4/153 - 154) .3 زاد المعاد: (5/243) .

(1/394)

بقيدين، وهما:1- أن لا يعارضه نصٌّ في المسألة.2- أن لا يعارضه قول غيره من الصحابة.فإذا توافر لتفسيره هذان الشرطان عُلِمَ أن الصواب في قوله؛ إذ يمتنع أن يكون قول أحدهم في كتاب الله خطأ محضاً ويُمسكُ الباقون عن الصواب فلا يتكلمون به؛ فإنه من المحال خلوّ عصرهم عن ناطق بالصواب واشتماله على ناطق بالخطأ فقط1.فهذا حاصل كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في تفسير الصحابي، وبيان مراد الحاكم بقوله: إنه في حكم المرفوع، وأن تفسيره في الحجية كحجية المرفوع سواء، ولكن بشرطين مهمين.ومما يحسن التنبيه عليه هنا: أن الحافظ ابن حجر - رحمه الله - ذَكَرَ ضابطاً آخر لما يفسره الصحابي، فقال: "والحق: أن ضابط ما يفسره الصحابي رضي الله عنه:- إن كان مما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا منقولاً عن لسان العرب: فحكمه الرفع، وإلا: فلا، كالإخبار عن الأمور الماضية: من بدء الخلق، وقصص الأنبياء. وعن الأمور الآتية: كالملاحم والفتن، والبعث، وصفة الجنة والنار، والإخبار عن عمل يحصل به ثواب أو عقاب مخصوص. فهذه الأشياء لا مجال للاجتهاد فيها، فيحكم لها بالرفع ...__________1 إعلام الموقعين: (4/155) .

(1/395)

- وأما إذا فسر آية تتعلق بحكم شرعي، فيحتمل أن يكون ذلك مستفاداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن القواعد، فلا يُجْزَم برفعه. وكذا إذا فَسَّرَ مفرداً، فهذا نقل عن اللسان خاصة، فلا يجزم برفعه.وهذا التحرير الذي حررناه هو معتمد خلق كثير من كبار الأئمة: كصاحبي الصحيح، والإمام الشافعي، وأبي جعفر الطبري، وأبي جعفر الطحاوي، وأبي بكر بن مردويه في تفسيره المسند، والبيهقي، وابن عبد البر في آخرين"1.وهذا القيد لم يتعرض له ابن القَيِّم رحمه الله، مع أنه قد تَقَدَّم عنه - في المسألة الثالثة - القول: بأن ما يقوله الصحابي مما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد يثبت له حكم الرفع؛ وذلك بناءً على ما تقدم عنه من إطلاق كون تفسير الصحابي مسنداً مرفوعاً بشرط عدم معارضة نصٍّ له أو تفسير لصحابي آخر، فيكون من مختلف الحديث، فكأنه لم يقيده بكونه مما لا مجال للرأي فيه في خصوص التفسير وحده، والله أعلم.__________1 النكت على ابن الصلاح: (2/531 - 532) .

(1/396)

المبحث الخامس: الْمُرْسَلحدُّ الحديث المرسل وصورته.اختلفت عبارات الأئمة في حدَّ الحديث المرسل على وجوه، أشهرها:ما قاله الحافظ ابن حجر: "هو ما سقط من آخره من بعد التابعي". قال: "وصورته: أن يقول التابعيُّ - سواء كان كبيراً أو صغيراً-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل كذا، أو فُعِلَ بحضرته كذا، أو نحو ذلك"1. قال: "وهذا الذي عليه جمهور الْمُحَدِّثِين"2.ويمكن أن نتناول بعض المسائل المتعلقة بالمرسل، مما بحث فيها ابن القَيِّم رحمه الله، فمن ذلك:المسألة الأولى: في حكم الحديث المرسل، والقول في قبوله أو رده.فقد اختلفوا في الاحتجاج بالمرسل على أقوال:- أحدها: قبول مراسيل الصحابة فقط، ورد ما عداها مطلقاً3. وهذا الذي عليه عمل أئمة الحديث4.__________1 نزهة النظر: (ص41) .2 النكت على ابن الصلاح: (2/543) .3 جامع التحصيل: (ص 47) .4 نكت ابن حجر على ابن الصلاح: (2/548) .

(1/397)

- الثاني: ردُّ المرسل مطلقاً، حتى مراسيل الصحابة رضي الله عنهم، وهو قول أبي إسحاق الإسفراييني1.- الثالث: القبول مطلقاً في جميع الأعصار والأمصار. قال العلائي: "وهو توسُّعٌ بعيدٌ جداً غير مرضي"2.- الرابع: قبول مرسل الصحابة وكبار التابعين فقط، وهو مذهب الشافعي وجماعة من المتقدمين.ولكن لقبوله شروط عند الشافعي رحمه الله، بعضها في الخبر الْمُرْسَل نفسه، وبعضها في نفس الراوي الْمُرْسِل.فأما شروط الخبر المرسل، فهي أن يتوافر له أحد أربعة أشياء تعضده، وهي:1- أن يُروى هذا المرسل من وجهٍ آخر مسنداً، فيدلُّ ذلك على صحة الحديث.2- أو يروى مرسلاً، أرسله من أخذ العلم عن غير شيوخ المرسل الأول؛ فإنه يتقوى بذلك أيضاً، وإن كان أضعف في التقوية من الذي قبله.3- أو يوجد ما يوافقه من كلام بعض الصحابة فيُسْتَدَلُّ بذلك على أن لهذا المرسل أصلاً صحيحاً؛ لأن الصحابي إنما أخذ قوله عن النبيصلى الله عليه وسلم.4- فإن لم يوجد من ذلك شيء، وَوُجِدَ أكثر أهل العلم يقولون به، فإن ذلك يدل على صحة هذا المرسل أيضاً، وأن له أصلاً، وأنهم قد استندوا في فتواهم إلى ذلك الأصل.__________1 النكت على ابن الصلاح: (2/546) .2 جامع التحصيل: (ص48) .

(1/398)

وأما شروط الْمُرْسِل نفسه، فهي:1- أن يكون من كبار التابعين، فإنهم لا يروون في الغالب إلا عن صحابي أو تابعي كبير.2- أن يكون الْمُرْسِل إذا سَمَّى من روى عنه سمى ثقة مقبولاً، ولم يسم ضعيفاً ولا مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه.3- ألا يخالف الحفاظ إذا شارَكَهم فيما أسندوه، فإن كان ممن يخالف لم يقبل مرسله.فهذه جملة الشروط التي ذكرها الشافعي - رحمه الله - لقبول المرسل1.فإذا توافرت في حديث مرسل قُبِلَ، وقال الحافظ العلائي: "المرسل الذي حصلت فيه هذه الشواهد أو بعضها يسوغ الاحتجاج به"2.- الخامس: قبول مرسل من عُرِفَ من عادته أو صريح عبارته أنه لا يُرْسِلُ إلا عن ثقة، فإن كان كذلك قُبِلَ، وإلا فلا.قال الحافظ العلائي: "فهذا القول أرجح الأقوال في هذه المسألة وأَعْدَلُهَا"3. وقال مرة عن هذا المذهب ومذهب الشافعي الذي قبله: "وهذا القول والذي قبله أعدلُ المذاهب، وبه يحصل الجمع بين الأدلة المتقدمة من الطرفين"4.__________1 الرسالة: (ص461 - 464) .2 جامع التحصيل: (ص43) .3 جامع التحصيل: (ص34) .4 جامع التحصيل: (ص96) .

(1/399)

وأيَّدَهُ في ترجيح ذلك: الحافظ ابن حجر - رحمه الله - ونقل أقوالاً عدة في تأييده، ثم قال:"وبهذا المذهب يحصلُ الجمع بين الأدلة لطرفي القبول والرد"1.وفي المسألة أقوالٌ أخرى غير ما ذكرنا.فتحَصَّلَ من ذلك أن أقوال العلماء في الاحتجاج بالمرسل تدور على ثلاثة مذاهب، وهي:1- القبول مطلقاً.2- الرد مطلقاً.3- التفصيل في المسألة، أو: قبوله بشروط.وبالنظر إلى تَصَرُّف ابن القَيِّم - رحمه الله - في الاحتجاج بالمرسل، واختياره في ذلك: فقد ذهب - رحمه الله - إلى قبول المرسل إذا توافرت فيه تلك الشروط التي ذكرها الشافعي رحمه الله، وأضاف إلى ذلك مُعَضِّداً - لعله أخذه من الأصوليين- وهو: اعتضاد المرسل بالقياس، وسيأتي نقل ذلك عنه.فمن أقواله التي يُقَرِّرُ فيها شروط الاحتجاج بالمرسل:قوله في حديث أبي قتادة في عدم كراهية الصلاة يوم الجمعة وقت الزوال - وقد أُعِلَّ بالإرسال -:__________1 النكت على ابن الصلاح: (2/552 - 555) .

(1/400)

"الْمُرْسَلُ: إذا اتصَّل به عملٌ، وعضده قياسٌ، أو قول صحابي، أو كان مُرْسِلُه معروفاً باختيار الشيوخ، ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين، ونحو ذلك مما يقتضي قوته: عُمِلَ به وأيضاً: فقد عضده شواهد أخر"1.ثم أخذ في سياق بعض الشواهد المسندة لهذا الحديث.وبالنظر إلى كلام ابن القَيِّم هذا، نجد أنه قد أعمل شروط المذهبين الراجحين السالف ذكرهما.فكون المرسل: تعضده شواهد مسندة.أو يَعْمَلُ به أكثر أهل العلم.أو يوافقه قول صحابي.فإن هذه من شروط قبول المرسل عند الإمام الشافعي رحمه الله.وكون مُرْسِلهُ: ممن عرف بالرواية عن الثقات، وتجنب الضعفاء والمتروكين، فإن هذا مقتضى المذهب الذي تقدم ترجيحه آنفاً، وأضاف إلى ذلك كله: كونه مما يعضده القياس، وهذا مما زاده الأصوليون في__________1 زاد المعاد: (1/379) .

(1/401)

الاعتضاد، كما نصَّ عليه السيوطي1 رحمه الله.وقال - رحمه الله - في حديث ميراث المرأة، وأنها "تحوز ميراث: عتيقها، ولقيطها، والذي لاعنت عليه" - وقد أورد عدة آثار مرسلة ومسندة في ميراثها ولد الملاعنة خاصة - قال: "وهذه الآثار يشد بعضها بعضاً، وقد قال الشافعي: إن المرسل إذا رُوِيَ من وجهين مختلفين، أو رُوِيَ مسنداً، أو اعتضد بعمل بعض الصحابة: فهو حجة".قال: "وهذا قد رُوِيَ من وجوه متعددة، وعمل به من ذكرنا من الصحابة، والقياس معه ... "2.وقد لاحظنا في هذا المثال ذكر شرط آخر من شروط الاعتضاد، وهو: أن يوافق هذا المرسل مرسل آخر يُروى من وجه آخر.وأورد مرسل سعيد بن المسيب في القضاء بين رجلين بالقرعة، ثم ساق له شاهداً مرسلاً - أيضاً - من رواية سليمان بن يسار، ثم قال: "فهذا مرسل: قد روى من وجهين مختلفين،__________1 تدريب الراوي: (1/201) .2 تهذيب السنن: (4/177 - 178) .

(1/402)

وهو من مراسيل ابن المسيب، وتشهد له الأصول التي ذكرناها في القرعة"1.وقوله هنا بأنه "من مراسيل سعيد بن المسيب" يعني: أنه عُرِفَ من حاله أنه لا يُرْسِل إلا عن ثقة، وتقدم بيان هذا الشرط، والكلام عليه.فقد قَبِلَ الشافعي - رحمه الله - مراسيل ابن المسيب خاصة، فإنه قال: " ... ليس المنقطع بشيء، ما عدا منقطع ابن المسيب"2. وقد ذهب آخرون إلى تقديم مراسيل ابن المسيب، والقول بأنها أصح المراسيل3. أما الشافعي رحمه الله: فقالوا إنه كَشَفَ عن مراسيل ابن المسيب، فوجده لا يَروِي إلا عن ثقة، وأن مراسيله مسندة متصلة من جهات أخرى4.وقد أخذ بذلك ابن القَيِّم رحمه الله - كما ستأتي الإشارة إليه - ومن ثم فإن قوله - رحمه الله - في هذا الحديث: إنه من رواية ابن المسيب. هو بمثابة قوله في غيره: أرسله من لا يُرْسِلُ إلا عن ثقة متقن.ومن هذا العرض يتبين لنا: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد اختار في قبول المُرْسَلِ أعدل المذاهب، وهو المذهب المتوسط بين طرفي القبول والرد، والذي يقبل المرسل بشروط وضوابط، إذا توافرت في المرسل دَلَّتْ في الغالب على صحته وثوبته.__________1 الطرق الحكمية: (ص325) .2 "المراسيل" لابن أبي حاتم: (ص6) ، و"آداب الشافعي" له: (ص232) .3 انظر "جامع التحصيل": (ص45 - 46) ، (ص99) .4 جامع التحصيل: (ص34) .

(1/403)

ومع ذلك، فقد وَجَدتُ كلاماً لابن القَيِّم - رحمه الله - يؤخذ منه: أنه يذهب إلى قبول الْمُرْسَل مطلقاً بلا قيد ولا شرط، فقد قال - في مرسل مجاهد - رحمه الله - في اعتداد المتوفَّى عنها زوجها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للنسوة اللاتي سألنه: "تحدَّثْنَ عند إحداكن ما بدا لكن، فإذا أردتن النوم فلتؤب كل امرأة إلى بيتها" - قال:"وهذا وإن كان مرسلاً، فالظاهر أن مجاهداً: إما أن يكون سمعه من تابعي ثقة، أو من صحابي.والتابعون لم يكن الكذب معروفاً فيهم، وهم ثاني القرون المفضلة، وقد شاهدوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا العلم عنهم، وهم خير الأمة بعدهم، فلا يُظَنُّ بهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الرواية عن الكذابين، ولا سيما العَالِمُ منهم إذا جَزَمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرواية، وشهد له بالحديث، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر ونهى، فيبعد كلَّ البعد أن يُقْدِمَ على ذلك مع كون الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كَذَّاباً أو مجهولاً.وهذا بخلاف مراسيل من بعدهم، فكلما تأخرت القرون، ساءَ الظن بالمراسيل، ولم يُشْهَدْ بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم"1.وقد تضمن هذا الكلام من ابن القَيِّم - رحمه الله - أموراً تحتاج إلى مناقشة:- فأما القول بأن مجاهداً أخذه عن صحابي، أو تابعي ثقة: فكلُّ__________1 زاد المعاد: (5/692 - 693) .

(1/404)

ما فيه هو تحسين الظن به، إلا أنهم لم يذكروا مجاهداً بأنه كان لا يأخذ إلا عن ثقة، كما قالوا في حق سعيد بن المسيب مثلاً.وقد بَيَّنَ الحافظ العلائي - رحمه الله - أن احتمال كونِ الساقط ضعيفاً أو مجهولاً، قد يرجح في بعض المواضع على احتمال كونه صحابياً أو تابعياً ثقة، قال: "ولا أقل من أن تتساوى الاحتمالات، وحينئذٍ فلا يصح الاحتجاج به"1.- وأما قوله: إن الكذب لم يكن معروفاً في هذا العصر: فقد أجاب عن ذلك الحافظ العلائي أيضاً، وقال بأن ذلك "ممنوع؛ بل إن الواقع خلافه"2. ثم أخذ - رحمه الله - في ذكر بعض الوقائع التي تثبت عكس ذلك، وأن جماعة قد أرسلوا عن ضعفاء ومجاهيل3.بل حكى ابن عبد البر: أن محمود بن لبيد حكى عن جماعة أنهم حدَّثُوه عن عبد الله بن جعفر بما أنكره ابن جعفر، قال: "وهذا في زمن فيه الصحابة، فما ظنك بمن بعدهم؟ "4.- وأما القول بأن الواحد منهم لا يجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم كذاب أو مجهول: يعني أن الراوي لا يرسل الحديث إلا بعد جزمه بعدالة من أرسل عنه، وهذه "دعوى لا دليل عليها" كما قال الحافظ العلائي.__________1 جامع التحصيل: (ص88) .2 جامع التحصيل: (ص82) .3 جامع التحصيل: (ص86) .4 التمهيد: (1/54) .

(1/405)

والذي حملهم على هذا هو القول: بأنه لو لم يكن عدلاً عنده، لكان بجزمه بالرواية عنه فاسقاً؛ لإثباته الخبر وهو لا يغلب على ظنه ثبوته، مع تعديله من ليس عدلاً.وأجاب عن ذلك الحافظ العلائي - رحمه الله - فقال: "لا يلزم ذلك؛ لأنه لم يُكَلَّفْ إلا بما ظهر له، وقد يظهر لغيره خلاف ذلك، ويترجح على تعديل هذا، كما قد وقع للزهري - مع إمامته - في إرساله عن سليمان بن أرقم لظنه تعديله، وهو ضعيف متروك لا يُحْتَجُّ به، ومثل هذا كثير جداً، فلا تَلازُمَ بين الأمرين كما قالوا"1.ومن هذا يتبين لنا: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - بإطلاقه القول بقبول مراسيل التابعين - بناء على قوله هذا - قد تساهل كثيراً، وتوسَّعَ توسعاً لا يتفق مع ما قدمنا عنه: من أن المرسل لا يُقْبَلُ إلا بالشروط المذكورة، وأنه قد قَرَّرَ ذلك في غير مناسبة.ولذلك، فإنه لا ينبغي أن يُفهمَ أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يرتضي هذا المذهب ويعتمده في مسألة الاحتجاج بالمرسل، ولعل ما نقلناه عنه في القول بقبول المرسل بشروطه قد بلغ من الكثرة بحيث لا يُعارضُ بهذا القول الواحد، ولعله كان يرى الإطلاق ثم استقرَّ رأيه على ما هو المذهب المعتمد في ذلك، ولا سيما أنه لم ينظر إلى مراسيل التابعين نظرةً واحدة، بل كان يرى التفاوت بينها قبولاً ورداً؛ كما سيأتي في المسألة الثالثة. فهذا - من جهة أخرى - يؤكد استقرار رأيه على قبوله بشروط، والله أعلم.__________1 جامع التحصيل: (ص 81) .

(1/406)

المسألة الثانية: في حكم مراسيل الصحابة.إذا قال الصحابي الصغير: كابن عباس، وابن الزبير ونحوهما، وكذا الصحابي الكبير فيما ثَبَتَ أنه لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا بواسطة، إذا قال أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يُحْكَمُ لذلك بالاتصال؟الصحيح الذي عليه جمهور أهل الحديث وغيرهم: أن ذلك صحيح متصل محتج به.قال ابن الصلاح في ختام كلامه على المرسل: "ثم إنَّا لَمْ نَعُدَّ في أنواع المرسل ونحوه ما يُسَمَّى في أصول الفقه: مرسل الصحابي، مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند؛ لأن روايتهم عن الصحابة1، والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأن الصحابة كلهم عدول"2.وقَرَّرَ النووي: أن الحكم بصحة مرسل الصحابي هو المذهب الصحيح3.وحجة من ردَّ مرسل الصحابي: احتمال كون الصحابي سمعه من تابعي، وإذا كان كذلك، فيُحْتَمَلُ أن يكون هذا التابعي ضعيفاً.__________1 قال العراقي: "الصواب أن يقال: لأن أكثر رواياتهم عن الصحابة؛ إذ قد سمع جماعة من الصحابة من بعض التابعين" (التقييد والإيضاح: ص75) .2 مقدمة ابن الصلاح: (ص26) .3 التقريب: (ص7) .

(1/407)

وأجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: "والانفصال عن ذلك أن يُقال: قول الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ظاهر في أنه سمعه منه أومن صحابي آخر، فالاحتمال أن يكون سمعه من تابعي ضعيف نادر جداَّ لا يؤثر في الظاهر، بل حيث رووا عن من هذا سبيله، بينوه وأوضحوه"1.وقد تَعَرَّضَ ابن القَيِّم - رحمه الله - لهذه المسألة أثناء مناقشته لابن القطان في حديث أَعَلَّهُ بأنه مرسل صحابي، ففي الحديث الذي رواه أبو بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، وأن النبي صلى الله عليه وسلم "صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات، ثم انصرف، وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات، وكانت له ست ركعات، وللقوم ثلاث ركعات" قال ابن القطان - عن هذا الحديث، وحديث آخر لأبي بكرة -: "وعندي أن الحديثين غير متصلين؛ فإن أبا بكرة لم يُصَلِّ معه صلاة الخوف؛ لأنه بلا ريب أسلمَ في حصار الطائف ... وهذا كان بعد فراغه صلى الله عليه وسلم من هوازن، ثم لم يلق صلى الله عليه وسلم كيداً إلى أن قبضه الله".فرد ابن القَيِّم - رحمه الله - ذلك عليه قائلاً: "وهذا الذي قاله لا ريب فيه، لكن مثل هذا ليس بعلة ولا انقطاع عند جميع أئمة الحديث والفقه، فإن أبا بكرة وإن لم يشهد القصة، فإنه إنما سمعها من صحابي غيره، وقد اتفقت الأمة على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من الصحابة، مع أن عامتها مرسلة عن__________1 النكت على ابن الصلاح: (2/570) .

(1/408)

النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينازع في ذلك اثنان من السلف وأهل الحديث والفقهاء، فالتعليل على هذا باطل"1.فوافق ابن القَيِّم - رحمه الله - الجمهور في القول بصحة مراسيل الصحابة، والحكم لها بالاتصال.المسألة الثالثة: في حكم بعض المراسيل، وبيان منزلتها.تَكَلَّمَ الأئمة - رحمهم الله - على حكم مراسيل بعض التابعين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبينوا درجتها ومنزلتها، وما يُقْبَلُ منها وما يُرَدُّ.وقد كانت هذه الأحكام نتيجة بحثهم وتَحَرِّيهِم، واعتبارهم بمرسلات كل واحد من الرواة، وعادته فيما يرسله، ومن ثمَّ حكموا على مرسل كل شخص بما يناسب حاله.وقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - أثناء بحوثه بعض هؤلاء الْمُرْسِلِين، وَتَكَلَّم عن حالهم، وبين درجة مراسيلهم من حيث القبول والرد، والقوة والضعف.وأنا أذكر ما وقفت عليه من كلامه في هذا الباب، مُقَارِناً ذلك بكلام الأئمة أهل هذا الشأن، فمن هؤلاء:1- سعيد بن المسيب:ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى صحة مراسيل ابن المسيب، وأن ما قال فيه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" فهو حُجَّةٌ، حتى عند من لم يقبل المرسل.__________1 تهذيب السنن: (2/71 - 72) .

(1/409)

ومن أقواله في هذا المعنى:قال رحمه الله: " ... فإن ابن المسيب إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو حجة"1.وقال: "وسعيد بن المسيب إذا أرسَلَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبلَ مُرْسَلُهُ"2.وقال: " ... ومن لم يقبل المرسل قَبلَ مرسل سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم"3.وقال في حديث مرسل يريد أن يُقَوِّيهُ ويعضده: "وهو من مراسيل ابن المسيب"4.فهكذا كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يرى حُجِّيَّةَ مراسيل ابن المسيب، وصحتها على الإطلاق، وهو بذلك موافق للجمهور من أئمة الحديث؛ فقد قال الحافظ العلائي رحمه الله: "وقد اتفقت كلمتهم على سعيد بن المسيب، وأن جميعَ مراسيله صحيحة، وأنه كان لا يُرسلُ إلا عن ثقة من كبار التابعين، أو صحابي معروف. قال معنى ذلك بعبارات مختلفة جماعة من الأئمة، منهم: مالك، ويحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، وعلى بن المديني، ويحيى بن معين، وغيرهم"5.__________1 تهذيب السنن: (2/316) .2 تهذيب السنن: (4/364) .3 تهذيب السنن: (7/294) .4 الطرق الحكمية: (ص 325) .5 جامع التحصيل: (ص99) .

(1/410)

وقد تَقَدَّم أن الشافعي - رحمه الله - استثنى من المراسيل كلها مراسيل ابن المسيب، فجعلها حجة مطلقاً، وعبارته: " ... ليس المنقطع بشيء، ما عدا منقطع ابن المسيب"1.وممن صرَّحَ بتقديمها أيضاً: الحاكم في (علوم الحديث) 2. وجعله الحافظ الذهبي - رحمه الله - من أصح المراسيل3.فتبين من ذلك: أن ابن المسيب من أصح الناس مرسلاً، والجمهور على قبول مراسيله مطلقاً، وهو الذي اختاره ابن القَيِّم - رحمه الله - ومشى عليه في كتبه.2- الزُّهْرِي:ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى ضعف مراسيل الزهري، وعدم الاحتجاج بها، بل ذهب إلى أنها من أضعف المراسيل، فقال: "مراسيل الزهري عندهم ضعيفة، لا يحتجُّ بها"4.وقال مرة: "مراسيل الزهري عندهم من أضعف المراسيل، لا تصلح للاحتجاج؛ قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان قال: كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، ويقول: هو بمنزلة الريح. وقُرئ على عباس الدوري، عن ابن معين قال: مراسيل الزهري ليست بشيء"5.__________1 المراسيل - لابن أبي حاتم: (ص6) .(ص 25 - 26) .3 الموقظة: (ص38 - 39) .4 زاد المعاد: (5/364) .5 تحفة المودود: (ص170 - 171) . وانظر "المراسيل": (ص3) .

(1/411)

وقال العلائي: "اختلف في مراسيل الزهري، لكن الأكثر على تضعيفها"1 ثم نقل عن الشافعي قوله: "يقولون: نُحَابي، ولو حابينا أحداً لحابينا الزهري، وإرسال الزهري ليس بشيء، وذلك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم".ثم قال العلائي رحمه الله: "والظاهر: أن قولَ الأكثر أولى بالاعتماد"2.وقال الحافظ الذهبي رحمه الله: "ومن أوهى المراسيل عندهم: مراسيل الحسن، وأوهى من ذلك: مراسيل الزهري، وقتادة، وحميد الطويل من صغار التابعين. وغالب المحققين يَعُدُّون مراسيل هؤلاء معضلات ومنقطعات، فإن غالب روايات هؤلاء عن تابعي كبير، عن صحابي، فالظن بِمُرْسِلِه أنه أسقط من إسناده اثنين"3.فظهر من أقوال هؤلاء الأئمة - رحمهم الله - أن المختار: ضعف مراسيل الزهري، وعدم الاعتماد عليها بحال. وهو ما قَرَّرَهُ ابن القَيِّم رحمه الله.3- الشَّعْبِي:قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في قول الشعبي: " إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَرُدَّها - يعني زينب ابنته - إلا بنكاح جديد" قال:__________1 جامع التحصيل: (ص101) .2 جامع التحصيل: (ص 101 - 102) .3 الموقظة: (ص40) .

(1/412)

"إن صحَّ عن الشعبي: فإن كان قاله برأيه فلا حجة فيه، وإن كان قاله رواية فهو منقطع لا تقوم به حجة، فَبَيْنَ الشعبي وبَيْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَفَازَةٌ1 لا يُدْرى حالها"2.هكذا جزم ابن القَيِّم برد مرسل الشعبي، وأنه لا تقوم به حجةٌ! ولننظر أقوال الأئمة في ذلك:قال العجلي: "مرسل الشعبي صحيح، لا يُرْسِل إلا صحيحاً صحيحاً"3. وقال أبو داود: "مرسل الشعبي أحبُّ إليّ من مرسل النخعي"4.وقَدَّم ابن معين مراسيل إبراهيم النخعي عليها5.وقال الحافظ الذهبي رحمه الله: " ... مراسيل مجاهد، وإبراهيم، والشعبي: فهو مرسل جيد، لا بأس به، يقبله قوم ويرده آخرون"6.وجعل السخاوي مراسيله في مرتبة من كان يَتَحَرَّى في شيوخه7.قلت: فغاية مراسيل الشعبي أنه مختلف فيها، وإن كان ظاهرُ كلام__________1 الْمَفَازَةُ: الموضع المهلك، مأخوذة من فَوَّزَ إذا مات، لأنها مظنة الموت. (المصباح المنير: 2/483) .2 أحكام أهل الذمة: (1/336) .3 تاريخ الثقات (ترتيب الهيثمي) : (ص244) .4 تهذيب التهذيب: (5/68) .5 تاريخ ابن معين - الدوري: (2/18) .6 الموقطة: (ص40) .7 فتح المغيث: (1/152) .

(1/413)

الأئمة احتمالها، ولم أقف على تسمية من حكم بردِّهَا كما ذهب إليه ابن القَيِّم - وإن كان الذهبي أشار إلى جماعة قالت بردها - فهي إلى القبول أقرب منها إلى الردِّ، والله أعلم.

(1/414)

المبحث السادس: تَعَارُض الوصل والإرسال، أو الرفع والوقفإذا روى بعض الثقات الحديث مُرْسَلاً وبعضهم مُتَّصِلاً، فهل يُحكمُ في ذلك للوصل أم للإرسال؟ اختلفَ أهل العلم في ذلك على أقوال:الأول: أن الحكم في ذلك لمن وصله، سواء كان المخالف له مثله أو أكثر، أحفظ منه أم لا.وهذا القول صححه: الخطيب1، والنووي2، والعراقي3.قال ابن الصلاح: "وما صححه - يعني الخطيب - هو الصحيح في الفقه وأصوله"4.القول الثاني: أن الحكم في ذلك لمن أرسل.عزاه الخطيبُ لأكثر أصحاب الحديث5.قال السخاوي - رحمه الله - في توجيه هذا القول: "فسلوك غير الجادة دال على مزيد التحفظ، كما أشار إليه النسائي ... "6.__________1 الكفاية: (ص 580 - 581) .2 التقريب: (ص 8) .3 شرح الألفية: (1/175) .4 مقدمة ابن الصلاح: (ص 34) .5 الكفاية: (ص580) .6 فتح المغيث: (1/170) .

(1/415)

القول الثالث: أن الحكم للأكثر؛ فإن كان من أرسله أكثر ممن وصله، فالحكم للإرسال، وإن كان من وصله أكثر، فالحكم للوصل.قال السخاوي: "لأن تطرق السهو والخطأ إلى الأكثر أبعد"1.القول الرابع: أن الحكم في ذلك للأحفظ.والذي اختاره الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: هو أن الْمُحَدِّثِين- رحمهم الله - ليس لهم في ذلك قانونٌ ثابت؛ فإنهم لا يحكمون في مثل ذلك بحكم مطرد، وإنما يرجحون في مثل ذلك بالقرائن2.ولكن عملهم هذا، وترجيحهم بالقرائن إنما هو فيما يَظْهَرُ فيه الترجيح، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وهذا ... إنما هو فيما يظهر لهم فيه الترجيح، وأما ما لا يظهر فيه الترجيح: فالظاهر أنه المفروض في أصل المسألة"3. يعني أنه هو الذي تجري فيه الأقوال الأربعة الماضية.وقد ذكر ابن القَيِّم - عند تعرضه لهذه القضية - بعض المذاهب في المسألة، فمن ذلك:أنه - رحمه الله - قال في حديث تخيير البكر الكارهة في الزواج - وقد رُوي مرسلاً ومسنداً-:"وليس رواية هذا الحديث مرسلة بعلة فيه، فإنه قد روى مسنداً ومرسلاً، فإن قلنا بقول الفقهاء: إن الاتصال زيادةٌ، ومن وصله مُقَدَّم__________1 فتح المغيث: (1/171) .2 انظر: النكت على ابن الصلاح (2/605) .3 النكت على ابن الصلاح: (2/605) .

(1/416)

على من أرسله: فظاهرٌ، وهذا تصرفهم في غالب الأحاديث ... وإن حكمنا بالإرسال - كقول كثير من المحدثين -: فهذا مرسل قويٌ قد عضدته الآثار الصحيحة الصريحة ... "1.ثم يبالغُ - رحمه الله - في الرد على من ضَعَّفَهُ بالإرسال، فيقول: "وعلى طريقة البيهقي وأكثر الفقهاء، وجميع أهل الأصول: هذا حديث صحيحٌ؛ لأن جرير بن حازم ثقة ثبت، وقد وصله، وهم يقولون: زيادة الثقة مقبولة، فما بالها تقبل في موضع - بل في أكثر المواضع التي توافقُ مذهب المقلد - وترد في موضع يخالف مذهبه؟! "2.وبغَضِّ النظر عن تقديم الوصل أو الإرسال في هذا الحديث، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - يُقَرِّر: أن مذهب الفقهاء والأصوليين: تقديمُ الوصل والحكم للزيادة دائماً إذا كانت من ثقة، وأن مذهب كثير من المحدثين: تقديم الإرسال.وقال - أيضاً - موضحاً طريقة الفقهاء والأصوليين عند كلامه على أحاديث الفطر بالحجامة: "وعلى قول جمهور الفقهاء والأصوليين: لا يُلتفت إلى شيء من تلك العلل، وأنها ما بين تعليل بوقف بعض الرواة وقد رفعها آخرون، أو إرسالها وقد وصلها آخرون، وهم ثقات، والزيادة من الثقة مقبولة"3.__________1 زاد المعاد: (5/96- 97) .2 تهذيب السنن: (3/40) .3 تهذيب السنن: (3/248) .

(1/417)

وأما اختيار ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة: فقد كان يرى عدم لزوم حكم ثابت مُطَّرِد دائماً، وإنما يدور الحكم لأحد الجانبين مع القرائن والمُرَجِّحات، فمن أقواله في هذا الصدد: ما قاله في حديث: "من دخل حائطاً فليأكل ولا يَتَّخِذُ خُبْنَةً": "ولكن لو حَاكَمْنَا منازعينا من الفقهاء إلى أصولهم، لكان هذا الحديث حجةً على قولهم؛ لأن يحيى بن سليم من رجال الصحيحين، وهو لو انفرد بلفظةٍ، أو رفعٍ، أو اتصالٍ، وخَالَفَه غيره فيه لحكموا له، ولم يلتفتوا إلى من خالفه، ولو كان أوثق وأكثر ... ولكنَّا لا نرضى بهذه الطريقة، فالحديثُ عندنا معلول"1.فابن القَيِّم - رحمه الله - ينتقد طريقة الفقهاء عند وقوع ذلك، وأنهم يحكمون دائماً لمن زاد، دون مراعاة للاعتبارات الأخرى التي قد ترجح الجانب الآخر: كالكثرةِ، وكونِ المخالف أوثق، وغير ذلك من المرجحات.ويؤكد - رحمه الله - في مناسبة أخرى فسادَ طريقة من يحكم بحكمٍ ثابتٍ عند تعارض الوصل والإرسال، فيقول - رحمه الله - في حديث ابن عباس رضي الله عنه في القضاء باليمين مع الشاهد: "وقد أَعَلَّه طائفةٌ بالإرسال بأن عمرو بن دينار رواه عن محمد ابن عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وهذا أيضاً تعليلٌ فاسدٌ لا يؤثر في الحديث؛ لأن راويه عن عمرو إنسانٌ ضعيفٌ، لا يُعترض بروايته على الثقات ...__________1 تهذيب السنن: (3/426) .

(1/418)

وهذه الطريق في مقابلها طريق الأصوليين، وأكثر الفقهاء: أنهم لا يلتفتون إلى علة للحديث إذا سلمت طريق من الطرق منها، فإذا وصله ثقةٌ أو رفعه، لا يبالون بخلاف من خالفه ولو كثروا"1.فأشار - رحمه الله - بذلك إلى أن من يُقَدِّم الوصلَ دائماً، وكذا من يُقَدَّم الإرسال على الوصل دائماً، كلاهما على طرفي نقيض.ثم يُقَرِّرُ - رحمه الله - الصواب في ذلك، فيقول: "والصواب في ذلك: طريقةُ أئمةِ هذا الشأن العَالِمِين به وبعلله، وهو: النظر والتَّمَهُّرُ في العلل، والنظرُ في الواقِفِين والرَّافِعِين، والمُرْسِلين والواصلين: أَيُّهم أكثرُ، وأَوْثَقُ، وأخصُّ بالشيخ، وأعرف بحديثه، إلى غير ذلك من الأمور التي يَجْزِمون معها بالعِلَّة المُؤَثِّرة في موضع، وبانتفائِها في موضعٍ آخر، ولا يرتضون طريقَ هؤلاء، ولا طريقَ هؤلاء"2.فهذا بيانُُ منه - رحمه الله - للطريقةِ المعتبرة في مثل ذلك، وهي: الترجيحُ بالقرائنِ والاعتباراتِ المحيطة بكل خبرِ على حدة.وقد ذكر في ضمن كلامه هذا بعض المُرَجِّحَاتِ والقرائنِ التي يُلْجَأُ إليها في مثل ذلك، ومنها:1 - الترجيحُ بالكثرة.2- الترجيحُ بالثقةِ والإتقانِ والحفظ، بكون أحد الجانبين أوثق وأحفظ من الآخر.__________1 تهذيب السنن: (5/228- 229) .2 تهذيب السنن: (5/229) .

(1/419)

3 - الترجيحُ باختصاصِ أحدِ الجانبين بالشيخ، وملازمتِهِ له، ومعرفته بحديثه.ويشير - رحمه الله - إلى وجه رابع من وجوه الترجيح، وهو:4 –كون أحد الجانبين قد سمعوا الحديث من الشيخ في أوقات مختلفة، والآخرون سمعوه منه في مجلس واحد عرضاً1.نقل ذلك عن الترمذي في ترجيحه الوصلَ على الإرسال في حديث أبي موسى مرفوعاً: "لا نكاح إلا بولي".قال الحافظُ ابن حجر-رحمه الله- "ولا يخفى رُجْحَان ما أُخِذَ من لفظِ المُحَدِّث في مجالس متعددة، على ما أُخِذَ عنه عرضاً في محل واحد"2.ويؤكد ابن القَيِّم الترجيحَ بالملازمة للشيخ، والاختصاص به، فيقول في حديث أبي موسى الماضي -عند ذكره وجوه ترجيح الوصل-: "ترجيحُ إسرائيل في حفظه وإتقانه لحديثِ أبي إسحاق ... وإن كان شعبةُ والثوري أجلُّ منه، لكِنَّه لحديثِ أبي إسحاقَ أتقن، وبه أعرف"3.ومن أمثلة استعماله القرائن في الترجيحِ، وعدم لزومه حالة واحدة:قوله في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في مسح أعلى الخف وأسفله:__________1 تهذيب السنن: (3/31) .2 النكت على ابن الصلاح: (2/607) .3 تهذيب السنن: (3/31) .

(1/420)

"وقد تَفَرَّدَ الوليدُ بن مسلم بإسناده ووصله، وخَالَفَهُ مَنْ هو أحفظ منه وأجلُّ - وهو الإمام الثبت: عبد الله بن المبارك - فرواه عن: ثور، عن رجاء، قال حُدِّثْتُ عن كاتب المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.وإذا اختلف عبد الله بن المبارك والوليد بن مسلم، فالقول ما قال عبد الله"1.فقد رجح الإرسال هنا: لكون راويه أتقن وأحفظ من الآخر.أما حينما يكون الذي وصل الحديث أو رفعه ثقة متقن، ولا يقلُّ عن الذي أرسله حفظاً وإتقاناً، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - يحكم بتقديم زيادة الثقة؛ فإنه قال في حديث: " لا نكاح إلا بولي " الماضي: "وَصْلُه زيادةٌ من ثقة ليس دون من أرسله، والزيادةُ إذا كان هذا حالها، فهي مقبولة"2.فاتَّضَحَ من ذلك طريقةُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب، واختياره في ذلك، حيث إنَّه اختارَ طريقة أئمة الشأن في تعاملهم مع تعارض الوصل والإرسال؛ وذلك أنهم يدورون مع القرائن التي تُرَجِّح عندهم أحد الجانبين على الآخر، ولا يلتزمون في ذلك حكماً ثابتاً يطبقونه على كل حالة من هذه الحالات.وقد قَرَّرَ ابنُ القَيِّم في أكثر من مناسبة - كما مضى - أن هذه الطريقة هي الصواب، وكان -رحمه الله- مُطَبِّقاً لذلك في كلِّ الأحاديث التي بحثها من هذا القبيل.__________1 تهذيب السنن: (1/126) .2 تهذيب السنن: (3/31) .

(1/421)

وهكذا كان موقفه - رحمه الله - فيما يتعارض فيه الوقف والرفع: فيقدم الرفع تارة إذا كان مَنْ رَفَعَهُ ثقة متقن، فيكون من باب زيادة الثقة1. وتارة يرجح الوقف إذا كانت هناك مرجحات، ككثرة الواقفين، وكونهم أشهر وأعلم بحديث الشيخ2، إلى غير ذلك من المرجحات، والله أعلم.__________1 انظر مثلاً: تهذيب السنن: (4/96) .2 انظر مثلاً: تهذيب السنن: (3/252) .

(1/422)

المبحث السابع: الْمُنْقَطِعُتعريفه: هو ما سقط من إسناده راوِِ واحد قبل الصحابي، من أي موضع كان السقط1. وكذا لو سقط من إسناده اثنان، لكن لا على التوالي2.وهذا هو الأكثر في استعمالهم، كما صَرَّح به الخطيب وغيره3.ومن المسائل المتفرعة عن نوع المنقطع:العَنْعَنَةُ، أو: الإسناد الْمُعَنْعَن:إذا قال الراوي في حديثه: عن فلان، من غير بيان للتحديث والإخبار والسماع، فما حكم هذا الإسناد؟ اختلف في ذلك:- فقال بعضهم: هو من قبيل المنقطع والمرسل حتى يتبين اتصاله.- والصحيح الذي عليه العمل: أنه من قبيل الإسناد المتصل، هذا الذي ذهب إليه الجمهور من أئمة الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم، بل ذهب البعض إلى إجماع أهل النقل على ذلك4، وذلك بشرطين:__________1 فتح المغيث: (1/153) .2 تدريب الراوي: (1/208) .3 فتح المغيث: (1/155) .4 مقدمة ابن الصلاح: (ص 29) .

(1/423)

أحدهما: أن يكون الْمُعَنْعِنُ غير معروف بالتدليس.الثاني: أن يثبت اللقاء بين الراوي المعنعن وشيخه، ولو مرة واحدة، كما ذهب إلى ذلك: البخاري، وشيخه علي بن المديني، وغيرهما من النقاد1.واكتفى الإمام مسلم في الحكم لذلك بالاتصال: بأن يكون الراوي المعنعن وشيخه متعاصرين، مع إمكان اللقاء، وبالغ في خطبة "صحيحه"2 في الرد على من قال باشتراط ثبوت اللقاء، وأنه قول مخترعٌ لم يُسْبَق قائله إليه.وقد أخذ ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة بمذهب الإمام مسلم رحمه الله، فكان يحكم على الإسناد المعنعن بالاتصال بمجرد تحقق المعاصرة بين الراوي وشيخه، وإمكان لقائهما، ولم ير أنه يلزم في ذلك ثبوت اللقاء بينهما، يتضح ذلك من كلامه في مناسبات عدة، فمن ذلك:أن الطحاوي أعل حديث ابن عباس رضي الله عنه في القضاء باليمين مع الشاهد: بأن قيس بن سعد لا يُعْلَم حدث عن عمرو بن دينار بشيء، فقال ابن القَيِّم رحمه الله:"هذه عِلَّة ٌباطلة؛ لأن قيساً ثقة ثبت، غير معروف بتدليس. وقيسٌ وعمرو مكِّيَّان في زمان واحد، وإن كان عمرو أسن وأقدم وفاة منه. وقد روى قيس عن عطاء ومجاهد، وهما أكبر وأقدم موتاً من عمرو ابن دينار"3.__________1 نزهة النظر: (ص 64) .(1/29- 35) .3 تهذيب السنن: (5/227) .

(1/424)

فابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا المثال يكتفي - للحكم باتصال هذا السند - بكون قيس وعمرو عاشا في زمان واحد، وأن لقاءهما ممكن غير مستبعد، هذا مع كون قيس بن سعد ثقة ثبت ولا يُعرف بتدليس.وما قاله ابن القَيِّم هنا من أن قيساً غير معروف بتدليس: غير كافِِ للحكم بالاتصال؛ إذ قد يكون المعاصر غير مُدَلِّس، ولكنه يرسلُ إرسالاً خفياً، ولذلك قال الحافظ ابن حجر: "وقيل: يُشترط في حمل عنعنة المعاصر على السماع: ثبوت لقائهما ... ولو مرة واحدة، ليحصل الأمن في باقي العنعنة عن كونه من المرسل الخفي، وهو المختار"1.ولما أعلَّ البخاري - رحمه الله - حديث عقبة بن عامر في: " لَعْن الْمُحَلِّل والْمُحَلَّل له"، بأن الليث بن سعد لم يسمعه من مشرح بن هاعان، وكذا أعلَّه أبو زرعة بقوله:"لم يسمع الليث من مشرح شيئاً ... "، ردَّ ذلك ابن القَيِّم بقوله: "فإن الليث كان معاصراً لمشرح، وهو في بلده، وطلب الليث العلم وجمعه لم يمنعه أن لا يسمع من مشرح حديثه عن عقبة بن عامر وهو معه في البلد"2.فهكذا كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يذهب في هذه المسألة إلى الحكم للسند بالاتصال بمجرد المعاصرة مع إمكان اللقاء.والذي يظهر - والله أعلم - أن ما ذهب إليه البخاري، وشيخه__________1 نزهة النظر: (ص 64) .2 إعلام الموقعين: (3/46) .

(1/425)

ابن المديني هو الراجح، وما ذهب إليه مسلم - رحمه الله - من انعقاد الإجماع على خلافه: غير مُسَلّمٍِ له، بل عمل أكثر الأئمة المتقدمين على مذهب البخاري.وقد أشار ابن رجب - رحمه الله - إلى أن مذهب البخاري هذا هو مقتضى كلام الإمام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وغيرهم من أعيان الحفاظ، قال: "بل كلامهم يدل على اشتراط ثبوت السماع، كما تقدم عن الشافعي رضي الله عنه ... "1. ثم قال - بعد أن نقل أمثلة كثيرة من كلام هؤلاء الأئمة تدل على اشتراطهم اللقيّ-:"فإذا كان هذا قول هؤلاء الأئمة الأعلام - وهم أعلم أهل زمانهم بالحديث وعلله وصحيحه وسقيمه، مع موافقة البخاري وغيره - فكيف يصح لمسلم - رحمه الله - دعوى الإجماع على خلاف قولهم، بل اتفاق هؤلاء الأئمة على قولهم هذا، يقتضي حكاية إجماع الحُفَّاظِ الْمُعْتَدِّ بهم على هذا القول، وأن القول بخلاف قولهم لا يُعْرَفُ عن أحد من نظرائهم، ولا عَمّن قبلهم ممن هو في درجتهم وحفظهم ... "2.وسبق ابنَ رجب إلى الاعتراض على مسلم في ذلك: ابنُ الصلاح رحمه الله؛ إذ قال: "وفيما قاله مسلم نظرٌ، وقد قيل: إن القول الذي رَدَّهُ مسلمٌ هو الذي عليه أئمة هذا العلم: عليّ بن المديني والبخاري وغيرهما"3.__________1 شرح علل الترمذي: (ص272) .2 شرح علل الترمذي: (ص278) .3 مقدمة ابن الصلاح: (ص 31) .

(1/426)

وقد نقل الإجماع على مذهب البخاري حافظا المشرق والمغرب: الخطيب1 وابن عبد البر2.وبَيَّنَ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في عِدَّة مناسبات رُجحانَ مذهب البخاري، فقال: "وهو المختار، تبعاً لعلي بن المديني، والبخاري، وغيرهما من النقاد"3. وقال في مكان آخر - بعد أن بَيّن الباعث للبخاري على اشتراط ذلك -: "فتبيّن رجحان مذهبه"4. ونقل عنه السيوطي - رحمه الله - قوله:"من حَكَمَ بالانقطاع مطلقاً: شَدَّدَ، ويليه من شَرَطَ طول الصحبة، ومن اكتفى بالمعاصرة: سَهَّل، والوسطُ - الذي ليس بعده إلا التعنت -: مذهب البخاري ومن وافقه ... "5.فَتَبَيّنَ من ذلك: أن ما ذهبَ إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من الحكم بالاتصال بمجرد المعاصرة: مرجوحٌ، وأنَّ الراجح هو اختيار البخاري ومن وافقه: من اشتراط ثبوت اللقاء؛ إذ إن ذلك مقتضى الاحتياط، والله تعالى أعلم.__________1 انظر: فتح المغيث: (1/160) .2 التمهيد: (1/12 - 13) .3 نزهة النظر: (ص 64) .4 النكت على ابن الصلاح: (2/596) .5 تدريب الراوي: (1/216) .

(1/427)

المبحث الثامن: التدليس وحكم المدلسوينقسم إلى قسمين: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ.أولاً: تدليس الإسناد: وهو "أن يروي المحدث عمّن قد سمع منه ما لم يسمعه منه، من غير أن يذكر أنه سمعه منه". قاله ابن القطان1.وعَرَّفَهُ ابن حجر بقوله: "أن يروي عمن لقيه شيئاً لم يسمعه منه بصيغة مُحْتَمِلة، ويلتحق به: من رآه ولم يجالسه"2.وهذا النوع هو الذي غلبت تسميته بـ "تدليس الإسناد" وسماه بعضهم: "تدليس السماع"3.ويلحق بهذا النوع ما يسمى بـ "تدليس التسوية"، وصورته - كما قال الحافظ العراقي -: "أن يجيء المدلس إلى حديث سمعه من شيخ ثقة، وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف، وذلك الشيخ الضعيف يرويه عن شيخ ثقة، فيعمد الْمُدَلِّس - الذي سمع الحديث من الثقة الأول - فَيُسْقِطُ منه شيخ شيخه الضعيف، ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني، بلفظ محتمل كالعنعنة ونحوها، فيصير الإسناد كله ثقات، ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه، لأنه قد سمعه منه، فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل"4.__________1 انظر (نكت ابن حجر على ابن الصلاح) : (2/614) .2 طبقات المدلسين: (ص25) .3 انظر: جامع التحصيل: (ص 110) .4 التقييد والإيضاح: (ص96) ، وانظر: إتحاف النبيل: (2/31- 42) .

(1/429)

ولتدليس الإسناد صور أخرى ذكرها الحافظ ابن حجر1.ثانياً: تدليس الشيوخ: وهو: "أن يصف شيخه بما لم يشتهر به من اسم أو لقب أو كنية أو نسبة"2.قال الحافظ العلائي: " ... فهو يختلف باختلاف الأغراض:فمنهم من يُدَلِّس شيخه لكونه ضعيفاً أو متروكاً حتى لا يُعْرَف ضعفه إذا صَرَّح باسمه.ومنهم من يفعلُ ذلك لكونه كثير الرواية عنه كي لا يتكرر ذكره كثيراً ... "3.قال ابن حجر فيمن يفعل ذلك لإخفاء ضعف شيخه: "وهو خيانةٌ ممن تعمّده"4.ومن المسائل التي تعرض لها ابن القَيِّم - رحمه الله - فيما يتعلق بالتدليس:المسألة الأولى: في حكم حديث المُدَلِّس.اختلف أهل العلم في قبول خبر من عُرف بالتدليس - وبخاصة ما يتعلق بتدليس الإسناد - على أقوال:__________1 انظر: طبقات المدلسين: (ص25) .2 طبقات المدلسين: (ص 26)3 جامع التحصيل: (ص118- 119) .4 طبقات المدلسين: (ص26) .

(1/430)

أحدها: أن خبره مردود مطلقاً غير مقبول. عزاه الخطيبُ لفريق من الفقهاء وأصحاب الحديث1.الثاني: القبول مطلقاً. عزاه الخطيب - أيضاً- إلى خلقِِ كثير من أهل العلم.وذلك أنهم لم يروا التدليس من باب الكذب، ولا أنه ينقض عدالته2.الثالث: التفصيل: فمن كان لا يُدَلِّس إلا عن ثقة قُبِلَ تدليسه، وإلا فلا. عزاه ابن عبد البر لأكثر أئمة الحديث3.الرابع: يُقبل ممن كان وقوعه منه نادراً، وأما من غَلَبَ ذلك على حديثه: فلا4.الخامس: التفصيل أيضاً، فيُقبَل من المُدَلِّس الثقة إذا صرَّح فيه بالسماع، وأما ما رواه بلفظ محتمل فلا، وهذا هو المعتمد.قال السخاوي: "وممن ذهب إلى هذا التفصيل: الشافعي، وابن معين، وابن المديني"5. وقَرَّرَ العلائي: أنه "الصحيح الذي عليه جمهور أئمة الحديث والفقه والأصول"6. وصححه الحافظ الخطيب7، وكذا__________1 الكفاية: (ص515) .2 الكفاية: (ص515) .3 التمهيد: (1/17) .4 فتح المغيث: (1/181- 182) .5 فتح المغيث: (1/182) .6 جامع التحصيل: (ص111) .7 الكفاية: (ص515) .

(1/431)

صححه ابن الصلاح1.ونفى ابن القطان الخلاف في ذلك، فقال: "إذا صَرَّحَ المُدَلِّس الثقة بالسماع: قُبِلَ بلا خلاف، وإن عنعن: ففيه الخلاف"2.وقد كان ابن القَيِّم يذهب إلى هذا التفصيل في حقِّ المدلسين، وجاءت عباراته صريحة في هذا المعنى في أكثر من مناسبة، فمن ذلك:قوله في حق محمد بن إسحاق: "إن ابن إسحاق ثقة لم يُجْرَح بما يوجب ترك الاحتجاج به ... إنما يُخَاف من تدليسه، وهنا قد صرح بسماعه للحديث من محمد بن إبراهيم التيمي، فزالت تهمة تدليسه"3. قال ذلك في حديث أبي مسعود في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة.وقال في حديث ابن إسحاق - أيضاً-:حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة طلاق ركانة بن عبد يزيد: "وقد زالت تهمة تدليس ابن إسحاق بقوله: حدثني"4. وقال عنه مرة:"والذي يُخاف من ابن إسحاق: التدليس، وقد قال: حدثني"5.__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص35) .2 فتح المغيث: (1/182) .3 جلاء الأفهام: (ص6) .4 إغاثة اللهفان: (1/287) .5 إعلام الموقعين: (4/350) .

(1/432)

وقال - رحمه الله - في حديث عَنْعَنَ فيه بقية بن الوليد - وهو حديث ذمِّ القدرية وأنهم مجوس هذه الأمة -: "لو قال بقيةُ: حدثنا الأوزاعي. مشى حال الحديث، ولكن عَنْعَنَهُ مع كثرة تدليسه"1. وقال عنه مرة: "وإنما نُقِمَ عليه التدليس، مع كثرة روايته عن الضعفاء والمجهولين، وأما إذا صرح بالسماع: فهو حجة"2.ومع تقرير ابن القَيِّم - رحمه الله - لمذهب الجمهور، وعمله بمقتضاه في عدة مناسبات - كما سبق نقل أمثلة لذلك - فإنه يذهب إلى استثناء بعض المدلسين من هذه القاعدة، فيرى: أن من كان لا يدلس إلا عن ثقة، فإنه تقبل عنعنته، ولا يطالب بإظهار السماع والتحديث.وقد مضى معنا أن هذا أحد المذاهب في المسألة، وأن ابن عبد البر حكاه عن أكثر أئمة الحديث، وجزم به الذهبي رحمه الله3.فكأن ابن القَيِّم - رحمه الله - جمع بين هذين المذهبين في العمل، فيرى: أن حديث المدلس لا يقبل منه إلا ما صَرَّحَ فيه بالسماع، إلا فيمن كان لا يُدَلِّس عن الضعفاء، وكان لا يُدَلِّسُ إلا عن ثقة.ومما قاله في هذا الصدد:"وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس، فليس معروفاً بالتدليس عن الضعفاء، بل تدليسه من جنس تدليس السلف، لم يكونوا يدلسون عن متهم ولا مجروح، وإنما كثر هذا النوع من التدليس في المتأخرين"4.__________1 تهذيب السنن: (7/60) .2 تهذيب السنن: (1/129) .3 الموقظة: (ص 45) .4 زاد المعاد: (5/457) .

(1/433)

ويؤكد - رحمه الله - هذا المعنى في حق أبي الزبير، فيقول في مناسبة أخرى: "وأكثرُ أهلِ الحديث يَحْتَجُّونَ به إذا قال: عن، ولم يُصَرِّح بالسماع، ومسلم يُصَحِّح ذلك من حديثه ... "1.ولكن، لعل ابن القَيِّم - رحمه الله - أراد بعبارته الأولى أن ينفي عن أبي الزبير تدليس اسم شيخه الضعيف تغطية لحاله، وهو ما يعرف: "بتدليس الشيوخ" كما مرّ، فإن مناسبة كلام ابن القَيِّم هذا: أن أبا الزبير قال في إسناد الحديث الذي ذكره ابن القَيِّم: "عن رجل صالح من أهل المدينة". فقال ابن القَيِّم ما قال دفعاً لتوهم قيام أبي الزبير بذلك في حق شيخه المذكور.وأما قوله - رحمه الله - عن السلف: "لم يكونوا يدلسون عن متهم ولا مجروح": فلعله يشير بالسلف هنا إلى التابعين خاصة، وأبو الزبير منهم، فهل يسلم له أن التابعين لم يقع منهم التدليس عن الضعفاء؟؟فقد ذهب إلى ذلك أيضاً: الحاكم رحمه الله، فرأى أن التابعين بأسرهم لم يكونوا يدلسون إلا عن ثقة، نقل ذلك عنه العلائي2، ثم اعترضه بقوله:"وهذا لا يتم إلا بعد ثبوت أن من دَلَّسَ من التابعين لم يكن__________1 زاد المعاد: (5/226) .2 جامع التحصيل: (ص115- 116) .

(1/434)

وعلى هذا، فإنَّ إطلاق ابن القَيِّم القول بذلك في حق التابعين غير مُسَلّم، ويَرِدُ عليه ما أورده العلائي على أبي عبد الله الحاكم.فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يذهب إلى أن خبر المدلس لا يحتج به إلا إذا صرح بالسماع، وقد يُستثنى من ذلك عنده: من عُرِفَ بأنه لا يدلس إلا عن ثقة.المسألة الثانية: حكم ما وجد في "الصحيحين" من عنعنة المدلسين.تَعَرَّضَ ابن القَيِّم - رحمه الله - لهذه المسألة، فقال في حديث أطيط العرش، وما أُعِلَّ به من عنعنة ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة: " ... فإنه قد لقي يعقوب وسمع منه، وفي الصحيح قطعة من الاحتجاج بعنعنة المدلس: كأبي الزبير عن جابر، وسفيان عن عمرو بن دينار، ونظائر كثيرة لذلك"2.فظاهرُ كلام ابن القَيِّم: الحكم بالاتصال لعنعنة الْمُدَلِّس إذا كان لقي من عنعن عنه، وسمع منه. ويستدل لذلك بما وجد في "الصحيحين" من الاحتجاج بعنعنة المدلسين.أما الحكم على عنعنة الشخص بالاتصال لكونه لقي من__________1 جامع التحصيل: (ص 116) .2 تهذيب السنن: (7/98) .

(1/435)

عنعن عنه وسمع منه: فهذا في غير المدلسين باتفاق العلماء، وقد مضى معنا البحث في ذلك.وأما المدلس إذا عنعن: فالصحيح - كما مضى قبل قليل - أنه لا يحتج به إلا إذا صرح بالتحديث، بل إن ابن القَيِّم - رحمه الله - يذهب إلى ذلك، كما سبق نقله عنه.أما أن يكون ثبوت اللقاء سبباً للحكم بالاتصال فيما عنعنه المدلس: فلا.وأما ما وجد في "الصحيحين" من عنعنة المدلسين، وإخراجهما ذلك على سبيل الاحتجاج، واستناد ابن القَيِّم - رحمه الله - على ذلك في الحكم لما وُجِدَ في غيرهما بالاتصال: فقد قال غير واحد من أهل العلم بأن ذلك محمول على ثبوت السماع عندهما في هذا المعنعن من جهة أخرى، "ولو لم نقف نحن على ذلك: لا في المستخرجات - التي هي مظنة لكثير منه - ولا في غيرها" كما قال السخاوي1.وممن صَرَّح بذلك من الأئمة: ابن الصلاح2، وتبعه النووي - رحمه الله - فقال: "وما كان في الصحيحين وشبههما3 عن المدلسين بـ "عن": محمول على ثبوت السماع من جهة أخرى"4. ووافقهما الحافظ ابن حجر رحمه الله، لكنه أشار إلى تقييد ذلك بما كان عندهما على__________1 فتح المغيث: (1/183) .2 كما في (النكت) لابن حجر: (2/635) .3 يعني: من الكتب التي اشترط أصحابها الصحة.4 التقريب: (ص9) .

(1/436)

سبيل الاحتجاج، أما ما أخرجاه من عنعنة المدلسين في المتابعات، فقد يحصل في مثله نوع من التساهل1.وأما ما مَثَّل به ابن القَيِّم رحمه الله:فأما أبو الزبير عن جابر: فلابد من تقييد ذلك"بصحيح مسلم"؛ لأن البخاري لم يخرج له إلا متابعة.ثم إن الأئمة قد احتملوا عنعنة أبي الزبير عن جابر إذا كانت من رواية الليث بن سعد عنه؛لأنه أعلم له على الأحاديث التي سمعها من جابر2.وأما ما كان في "صحيح مسلم" من ذلك، وليس من رواية الليث عنه: فقد قال الحافظ العلائي رحمه الله: "كأن مسلماً- رحمه الله - اطلع على أنها مما رواه الليث عنه، وإن لم يروها من طريقه"3.وأما سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار: فإن ابن عيينة لم يكن يدلس إلا عن ثقة، وقال ابن حبان: "وهذا شيء ليس في الدنيا إلا لسفيان ابن عيينة"4.وعلى كل حال، فلابد من حمل ما وقع في "الصحيحين"من ذلك على ما تقدم من كلام الأئمة، تحسيناً للظن بكتابيهما، ولإجماع الأمة على صحة ما وقع فيهما.__________1 النكت على ابن الصلاح: (2/635- 636) .2 انظر (الميزان) : (4/37) .3 جامع التحصيل: (ص 126) .4 جامع التحصيل: (ص 116) .

(1/437)

فهذا ما يجاب به عن تخريج أصحاب "الصحيحين" لعنعنة المدلس في مقام الاحتجاج، وأما إجراء هذا الحكم على ما وقع من ذلك خارج كتابيهما - كما هو ظاهر كلام ابن القَيِّم رحمه الله - قياساً عليهما: فغير مسلّم؛ لما تقدم من أن "للصحيحين" في ذلك خصيصة ليست لغيرهما، لتقدم كتابيهما على غيرهما، ولتلقي الأمة لهما بالقبول.

(1/438)

المبحث التاسع: الشَّاذتعريفه: اخْتُلِفَ في تعريف الحديث الشاذ على أقوال، أرجحها: أنه: مخالفة الثقة لمن هو أرجح منه. قال الحافظ ابن حجر: "وهذا هو المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح"1. وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله، وجماعة من أهل الحجاز2.وعلى هذا المذهب: لابد أن يتوافر للحكم بالشذوذ شرطان:الأول: أن يكون الْمُتَفَرِّد ثقة.الثاني: أن يكون هذا المتفرد مخالفاً لمن هو أرجح منه: لمزيد ضبط، أو كثرة عدد، أو غير ذلك من المرجحات.وقد حَدَّ الخليلي الشاذ: بمطلق التفرد، ولم يقيده بالمخالفة، ولا بكون المتفرد ثقة3.وذهب الحاكم إلى تقييد الشاذ: بتفرد الثقة، ولكنه لم يشترط فيه المخالفة4.والراجح هو التعريف المتقدم أولاً، كما مضى في كلام ابن حجر، ورجحه أيضاً ابن كثير5.__________1 انظر: (نخبة الفكر مع نزهة النظر) : (ص35) .2 مقدمة ابن الصلاح: (ص36) ، ونكت ابن حجر على ابن الصلاح: (2/653) .3 مقدمة ابن الصلاح: (ص36) .4 معرفة علوم الحديث: (ص119) .5 اختصار علوم الحديث: (ص58) .

(1/439)

وقد حَرَّرَ ابن الصلاح أن الشاذ المردود على قسمين:أحدهما: الحديث الفرد الذي خالف راويه من هو أولى منه في الحفظ والضبط.الثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يكون جابراً لما يوجبه التفرد من النكارة والضعف1.وهذا الذي حرره ابن الصلاح في حد الشاذ وصفته قال به ابن القَيِّم رحمه الله؛ فإنه قال - عند كلامه على صفة الراوي المقبول وشروط قبول خبره -: "أن لا يشذ عن الناس: فيروي ما يخالفه فيه من هو أوثق منه وأكبر، أو يروي ما لا يتابع عليه، وليس ممن يُحتمل ذلك منه: كالزهري، وعمرو بن دينار، وسعيد بن المسيب، ومالك، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة ونحوهم؛ فإن الناس إنما احتملوا تفرد أمثال هؤلاء الأئمة بما لا يتابعون عليه للمحل الذي أحلهم الله به من الإمامة والإتقان والضبط.فأما مثل: سفيان بن حسين، وسعيد بن بشير، وجعفر بن برقان، وصالح بن أبي الأخضر ونحوهم: فإذا انفرد أحدهم بما لا يتابع عليه فإن أئمة الحديث لا يرفعون به رأساً. وأما إذا روى أحدهم ما يخالف الثقات فيه، فإنه يزداد وهناً على وهن"2.__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص37) .2 الفروسية: (ص 53 - 54) .

(1/440)

وهذا الكلام من ابن القَيِّم - رحمه الله - يُحَدِّدُ بوضوحٍ صفة الحديث الشاذ بقسميه المتقدم بيانهما عند ابن الصلاح، فقد بيّن - رحمه الله - أن الشاذ هو:1- أن يروي الثقة ما يخالفه فيه من هو أوثق وأكبر.2- أو: ينفرد بما لا يتابع عليه، وليس هو ممن يحتمل تفرده، وذلك لقلة ضبطه، وعدم تمام حفظه. وهذا بخلاف تفرد الثقة الضابط، فإنه مقبول محتج به.ويؤكد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا المعنى ويزيده وضوحاً، فيذكر أن التفرد أنواع، وأنه ليس كل تفرد يكون الحديث بموجبه شاذاً، فيقول رحمه الله:"التفرد نوعان:1- تفرد لم يُخَالَف فيه من تفرد به؛ كتفرد مالك وعبد الله بن دينار بهذين الحديثين1، وأشباه ذلك.2- وتفردٌ خُولِفَ فيه المتفرد، كتفرد همام بهذا المتن2 على هذا الإسناد؛ فإن الناس خالفوه فيه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من وَرِق. فهذا هو المعروف عن ابن جريج عن الزهري، فلولم يرو هذا عن ابن جريج، وتفرد همام بحديثه، لكان نظير حديث عبد الله بن دينار ونحوه.__________1 يشير إلى تفرد مالك بحديث: " دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر". وتفرد عبد الله بن دينار بحديث: "النهي عن بيع الولاء وهبته".2 وهو حديث: "وضع النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه إذا دخل الخلاء".

(1/441)

فينبغي مراعاة هذا الفرق وعدم إهماله"1.ففي هذا الكلام منه - رحمه الله - بيان للفرق بين تَفَرُّدِ الثقة بما لم يروه غيره - مع كونه ممن يحتمل تفرده -: فهذا مقبول، وبين تفرد الثقة بما يخالفه فيه الثقات: فهذا الذي يكون شاذاً مردوداً، وهذا الفرق سبق بيانه واضحاً في كلام ابن الصلاح وغيره.ويؤكد هذا المعنى في مناسبة أخرى، فيقول رحمه الله: "والتَّفَرُّدُ الذي يُعَلَّلُ به: هو تفرد الرجل عن الناس بوصل ما أرسلوه، أو رفع ما وقفوه، أو زيادة لفظة لم يذكروها.وأما الثقة العدل: إذا روى حديثاً وتفرد به، لم يكن تفرده علة، فكم قد تفرد الثقات بسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم عملت بها الأمة"2.ويشير مرة إلى أن تفرد الثقة - إذا لم يخالف - لا يضر، فيقول في حديث السعاية، وما قيل من تفرد ابن أبي عروبة به: "ثم لو قدر تفرد سعيد به لم يضره"3.فتخلص من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد حرر بكلامه هذا: معنى الشاذ، وصورته الصحيحة، وبيّن الفرق بين التفرد الذي يعد شذوذاً وما لا يكون كذلك.__________1 تهذيب السنن: (1/29- 30) .2 تهذيب السنن: (3/224) .3 تهذيب السنن: (5/399) .

(1/442)

ومع ذلك، فكأنه - رحمه الله - أراد التنزل مع من يسمي تفرد الثقة غير المخالف "شاذاً"، فذهب إلى القول: بأن ذلك وإن سمي شاذاً، فإنه ليس بمردود بل هو محتج به.وقد سبق أن هذا المعنى وقع في تعريف الحاكم - رحمه الله - للشاذ، فهو عنده: تفرد الثقة دون متابع.قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... فأما إذا روى الثقة حديثاً منفرداً به، لم يرو الثقات خلافه: فإن ذلك لا يُسمى شاذاً، وإن اصطلح على تسميته شاذاً بهذا المعنى، لم يكن هذا الاصطلاح مُوجباً لرده، ولا مُسوِّغاً له".1وقال مرة في حديث صيام ست شوال: "فإن قيل: مداره على عمر بن ثابت الأنصاري، لم يروه عن أبي أيوب غيره، فهو شاذ، فلا يحتجُّ به.قيل: ليس هذا من الشاذ الذي لا يحتج به، وكثير من أحاديث الصحيحين بهذه المثابة، كحديث الأعمال بالنيات"2.وذلك محمول - كما تَقَدَّمَ - على التنزل منه - رحمه الله - مع المخالفين، وإلا فقد سبق تأكيده على أن هذا ليس شاذاً، ونقلنا كلامه في ذلك، والله أعلم.__________1 إغاثة اللهفان: (1/296) .2 تهذيب السنن: (3/313) .

(1/443)

المبحث العاشر: معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهدالاعتبار: "هو الهيئة الحاصلة في الكشف عن المتابعة والشاهد". قاله الحافظ ابن حجر1.ذلك أن الأئمة يأتون إلى الحديث الذي يُظن كونه فرداً، فينظرون: هل وافق راويه أحد غيره على روايته أم لا؟ وذلك بالبحث والتفتيش في: الصِّحَاح، والجوامع، والمسانيد، والمعاجم، والفوائد، والمشيخات وغيرها. فهذا النظر والتفتيش يسمى "اعتباراً".فإن وُجِدَ أحد شارك هذا الراوي فرواه عن شيخه، أولم يوجد ولكن وُجد من رواه عن شيخ شيخه، وهكذا حتى الصحابي، فعند ذلك يُسمى حديث هذا المُشارك: "متابعة". وكلما بَعدت المشاركة عن ذلك الراوي الذي اعتبرت روايته، كلما كانت المتابعة أنقص وأقصر.فإن فُقِدَت المتابعة بهذا المعنى، ولكن وُجِدَت رواية هذا الحديث أو معناه عن صحابي آخر، فهو: "الشاهد".فعُلِمَ بذلك أن الاعتبار: هو عملية البحث والتفتيش عن متابع أو شاهد للحديث الذي يُظن أنه فردٌ، فإن فُقِدَتْ المتابعاتُ والشواهدُ فالحديث بذلك يكون فرداً2.__________1 النكت على ابن الصلاح: (2/681) .2 انظر: التقييد والإيضاح: (ص109- 111) ، وتدريب الراوي: (1/241- 245) .

(1/445)

ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب:المسألة الأولى: هل يتقوَّى الحديث الضعيف بتعدد طرقه؟جمهور أئمة الحديث على أن الحديث الضعيف يَتَقَوَّى بمجيئه من طرق أخرى، قال الإمام الزركشى: "وَشَذَّ ابنُ حزم عن الجمهور، فقال: ولو بلغت طرق الضعيف ألفاً لايقوى ... "1.وقال ابن دقيق العيد: "قد عُلِمَ أن تَضَافَرُ الرواةِ على شيء، ومتابعة بعضهم لبعض في حديث: مِمَّا يَشُدُّهُ ويقويه، وربما التحق بالحسن وما يحتجُّ به"2.ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - موافقاً للجمهور في القول بتقوية الضعيف بتعدد طرقه.ومن أقواله - رحمه الله - في ذلك:أنه قال في أحاديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء فيها من أمرهصلى الله عليه وسلم بما يفيد الوجوب، قال: "الدليل الرابع - يعني من أدلة الوجوب -:ثلاثة أحاديث كل منها لا تقوم به الحجة عند انفراده، وقد يقوي بعضها بعضاً عند الاجتماع"3.__________1 البحر الذي زخر: (3/1075) .2 المصدر السابق: (3/1080) .3 جلاء الأفهام: (ص199) .

(1/446)

وقال - رحمه الله - عند كلامه على مقدار زكاة الفطر: "وفيه عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار مرسلة ومسندة يقوي بعضها بعضاً"1.وقال في حديث اعتداد أم سلمة رضي الله عنه وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها في الصَّبِر: "لا تجعليه إلا بالليل، وتنزعيه بالنهار" قال:"وَذَكَرَ أبو عمر في "التمهيد" له طرقاً يشدُّ بعضها بعضاً"2.فهذه بعض الأقوال لابن القَيِّم فيما يتعلق بتقوية الضعيف واعتضاده بتعدد الطرق.المسألة الثانية: كتابة الحديث الضعيف للاعتبار به، دون اعتماد عليه.كثير من الأئمة يكتبون الحديث الضعيف ويخرجونه في كتبهم في باب المتابعات والشواهد، دون أن يكون الاعتماد عليه.قال الإمام أحمد رحمه الله: "ابن لهيعة ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، إنما قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشده، لا أنه حجة إذا انفرد"3.وقال النووي رحمه الله: "وإنما يفعلون هذا - يعني إدخال الضعفاء في المتابعات والشواهد - لكون التابع لا اعتماد عليه، وإنما__________1 زاد المعاد: (2/19) .2 زاد المعاد: (5/703) .3 شرح علل الترمذي: (ص112) .

(1/447)

الاعتماد على من قبْله"1.قال السخاوي - عقب نقله كلام النووي هذا -: "ولا انحصار له في هذا، بل قد يكون كل من المُتابِعِ والمتابَع لا اعتماد عليه، فباجتماعهما تحصل القوة"2.فالحاصل: أن الأئمة - رحمهم الله - يكتبون حديث الضعيف - ضعفاً قريباً- متابعةً واستشهاداً، ويكون اعتمادهم على الرواية الأصلية إن كانت مما يصلح لذلك، أو يكون الاعتماد على مجموع الروايتين معاً إذا كان كل منهما لا ينتهض للحجة بانفراده.وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى جواز كتابة الحديث الضعيف وذكره في المتابعات والشواهد، دون أن يكون الاعتماد عليه وحده، فمن ذلك:ما جاء عنه في حديث بلال بن الحارث، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: "إنه من أحيا سنةً من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل من عمل بها ... ". وقد رُوِيَ من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، وضَعَّفَهُ بعضهم،فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "لكن هذا الأصل ثابت من وجوه: كحديث: " من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه" ...__________1 شرح صحيح مسلم: (1/34) .2 فتح المغيث: (1/205) .

(1/448)

وحديث: " من دل على خير، فله مثل أجر فاعله" وهو حديث حسن".قال: "فهذا الأصل محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث الضعيف فيه بمنزلة الشواهد والمتابعات، فلا يَضُرُّ ذكره"1.وقال أيضاً - عند ذكره أحاديث الفطر بالحجامة -: "إن الأئمة العارفين بهذا الشأن قد تظاهرت أقوالهم بتصحيح بعضها ... والباقي إما حسن يصلح للاحتجاج به وحده، وإما ضعيف فهو يصلح للشواهد والمتابعات، وليس العمدة عليه"2.فظهر بذلك: موافقةُ ابن القَيِّم - رحمه الله - لأئمة هذا الشأن في جواز ذكر الضعيف في المتابعات والشواهد، دون الاعتماد عليه.__________1 مفتاح دار السعادة: (1/76) .2 تهذيب السنن: (3/247 - 248) .

(1/449)

المبحث الحادي عشر: الموضوعالخبر الموضوع: هو الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم المُختلق، المصنوع1. أي: أن واضعه اختلقه وصنعه2.والموضوع شرُّ أنواعِ الضعيف، كما قال الخطَّابي3، وتبعه ابن الصلاح4رحمهما الله تعالى.ولقد كان لابن القَيِّم - رحمه الله - اهتمام خاص بما يتعلق بالحديث الموضوع، والكشف عنه، وبيان خطره، والتحذير منه، ويتضح ذلك جليًّا في كتابه النافع (المنار المنيف) ، إذ ضمَّنه جملة من الضوابط التي يعرف بها كون الحديث موضوعاً، مع التنبيه على الكثير من الأحاديث الموضوعة، وبيان حالها، وذكر المتَّهم بها، وقد مضى بيان ذلك واضحاً5.ومن المسائل المتعلقة بالحديث الموضوع مما تناوله ابن القَيِّم رحمه الله:المسألة الأولى: حكم رواية الحديث الموضوع أو الاستشهاد به.لا يجوز - عند أهل العلم بالحديث وغيرهم - ذكر الحديث الموضوع - برواية وغيرها - لمن عَلِمَ حاله، إلا مقروناً ببيان أمره6.__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص47) ، وفتح المغيث: (1/248) .2 شرح ألفية العراقي: (1/261) .3 معالم السنن: (1/11) .4 مقدمة ابن الصلاح: (ص47) .(ص 300 - 309) . وانظر ما يأتي في (ص 460 - 469) .6 فتح المغيث: (1/249- 250) .

(1/451)

قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "يجب على المحدث أن لا يروي شيئاً من الأخبار المصنوعة، والأحاديث الباطلة الموضوعة، فمن فعل ذلك بَاء بالإثم المُبين، ودخل في جملة الكذّابين"1.وأما من رواه مبيناً حاله، وذكره منبِّهاً على وضعه: فإن ذلك جائز، قال الخطيب رحمه الله: "ومن روى حديثاً موضوعاً على سبيل البيان لحال واضعه، والاستشهاد على عظيم ما جاء به، والتعجب منه، والتنفير عنه: ساغ له ذلك، وكان بمثابة إظهار جرح الشاهد في الحاجة إلى كشفه والإبانة عنه"2.وقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه المسألة المهمة، فأكد عدم جواز ذكر الحديث الموضوع إلا مع بيان حاله.فقال عن حديث عوج بن عنق الطويل: "وليس العجب من جُرْأَةِ مثل هذا الكَذَّاب على الله، إنما العجبُ ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم: من التفسير وغيره، ولا يبيِّن أمره"3.وقد أَوْرَدَ مرة حديثين موضوعين باطلين في فضل "الأرز" ومدحه، ثم قال: "ذكرناهما تنبيهاً وتحذيراً من نسبتهما إليه صلى الله عليه وسلم"4.__________1 فتح المغيث: (1/250) .2 فتح المغيث: (1/250- 251) .3 المنار المنيف: (ص77) .4 زاد المعاد: (4/285) .

(1/452)

فَنَبَّهَ بذلك على ما يلزم العالم من واجب البيان للحديث الموضوع والتحذير منه.المسألة الثانية: بيان عظم جناية الوضاعين على الإسلام.لا شك أن خطر الوضاعين على شريعة الإسلام عظيم، وهل هناك جناية أعظم من الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؟وقد نَبَّهَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على عظم جناية هؤلاء الوضاعين، وكبير جرمهم، فقد أورد - رحمه الله - حديث تكليم حمار النبي - صلى الله عليه وسلم - يعفور له، وبيّن أنه باطل موضوع، ثم ذكر أن مثل هذه الأحاديث قد فتحت باباً عظيماً للزنادقة للطعن في الدين، فقال: "هذه الأحاديث وأمثالها هي التي جرأت الزنادقة والملاحدة على الطعن في الإسلام، والقدح في الدين.فالجناية على الإسلام بالوضاعين والكذابين، تضاهي الجناية عليه من الزنادقة والطاعنين"1.المسألة الثالثة: بيان الشبهة التي يتعلق بها بعض الوضاعين، والرد عليها.والمقصود في هذا المقام خاصة: أولئك الذين حملهم التدين الناشيء عن الجهل على وضع الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم، يحتسبون بذلك بزعمهم، ويتقربون إلى الله بجهلهم.__________1 الموضوعات: (ق 43/ب) .

(1/453)

وقد اعتنى هؤلاء بوضع أحاديث في الفضائل، والترغيب والترهيب، وكان من الشُّبه التي تعلق بها بعضهم في ذلك قولهم: إن الكذب في الترغيب والترهيب كذب للنبي صلى الله عليه وسلم، لا كذب عليه!!قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وهذا من كمال جهلهم، وقلة عقلهم، وكثرة فجورهم وافترائهم؛ فإنه - عليه السلام - لا يحتاج - في كمال شريعته وفضلها- إلى غيره"1.وقد ألمح ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى شبهتهم هذه، ورد عليها - وذلك عندما أورد بعض الأحاديث التي وضعوها في فضائل سور القرآن- فقال: "وقال بعض جهلاء الوضاعين في هذا النوع: نحن نكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نكذب عليه.ولم يعلم هذا الجاهل: أنه من قال عليه ما لم يقل، فقد كذب عليه، واستحق الوعيد الشديد"2.المسألة الرابعة: بيان أنه من المحال وقوع الكذب والغلط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دون كشفه.إن من تمام حفظ الله - عز وجل - لهذا الدين: أن هيأ جهابذةً نقاداً، وأئمة أفذاذاً، مَحَّصُوا هذه الأحاديث، وميزوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم من كلام غيره من الكذابين.__________1 اختصار علوم الحديث: (ص 79) .2 المنار المنيف: (ص114- 115) .

(1/454)

قيل لعبد الله بن المبارك رحمه الله: هذه الأحاديث المصنوعة؟ فقال: "يعيش لها الجهابذة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] "1.وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى هذا المعنى، وأن الله - عز وجل - لابد وأن يُقِيمَ في هذه الأمة من ينافح عن دينه، ويذبُّ الكذب عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: " ... ونحن لا نَدَّعي عصمة الرواة، بل نقول: إن الراوي إذا كذب، أو غلط، أو سها، فلا بد أن يقوم دليل على ذلك، ولا بد أن يكون في الأمة من يعرف كذبه وغلطه، ليتم حفظه لحججه وأدلته، ولا تلتبس بما ليس منها"2.ثم بيّن - رحمه الله - أن لهذه الطائفة تأييداً خاصاً، وتوفيقاً من الله عز وجل، فقال: "والله - عز وجل - يؤيد من ينافحُ عن رسوله تأييداً خاصاً، ويفتحُ له - في معرفة نقد الحق من الباطل - فتحاً مبيناً، وذلك من تمام حفظه لدينه، وأنه لا يزال من عباده طائفة قائمة بنصرة الحق إلى أن يأتي أمر الله، جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه"3.__________1 الجرح والتعديل: (1/1/18) .2 مختصر الصواعق: (2/481) .3 الموضوعات: (ق43/ب) .

(1/455)

المسألة الخامسة: في بيان الأغراض الحاملة للوضاعين على وضع الحديث.تختلف الأغراض الباعِثَةُ للوضَّاعين على وضع الحديث وتتنوع، ومن ثَمَّ فهم ينقسمون إلى فرق وطوائف عديدة، وذلك بحسب الغرض الحامل لكل طائفة منهم على الكذب.ومن الأسباب التي ذكرها ابن القَيِّم - رحمه الله - مما كان باعثاً للوضاعين على وضع الحديث:1- قوم حملهم على ذلك: الاستخفاف بالدين والطعن فيه، والتنقص للرسول صلى الله عليه وسلم والإضلال للناس، وهم الزنادقة: المبطنون للكفر المظهرون للإسلام، أو: الذين لا يتدينون بدين1.وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى هذه الطائفة - عند ذكره: أن الحديث الموضوع يشتمل على مجازفات لا يصدر مثلها عن النبي صلى الله عليه وسلم - فقال:"وأمثال هذه المجازفات الباردة لا يخلو حال واضعها من أحد أمرين:إما أن يكون في غاية الجهل والحمق، وإما أن يكون زنديقاً قصد التنقيص بالرسول صلى الله عليه وسلم بإضافة مثل هذه الكلمات إليه"2.__________1 فتح المغيث: (1/253) .2 المنار المنيف: (ص 51) .

(1/456)

2- وصنف آخر، كان قصدهم من وضع الحديث: شغل الناس بالخير وصرفهم عن الشر بزعمهم، فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب، والفضائل: كفضائل سور القرآن سورة سورة، وغير ذلك.وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى هذه الطائفة وصنيعها، فذكر ما قاموا به من وضع أحاديث فضائل السور، ثم قال: "وقد اعترف بوضعها واضعها، وقال: قصدت أن أشغل الناس بالقرآن عن غيره. وقال بعض جهلاء الوضاعين في هذا النوع: نحن نكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نكذب عليه. ولم يعلم هذا الجاهل: أنه من قال عليه ما لم يقل، فقد كذب عليه واستحق الوعيد الشديد"1. وهذه الطائفة غالباً ما ينسبون إلى الزهد والصلاح، ولذا فهم أعظم هذه الطوائف خطراً؛ لثقة الناس بهم2.وقد أشار بعض الأئمة - رحمهم الله - إلى حال هؤلاء القوم وسوء صنيعهم وكذبهم في الحديث النبوي، من ذلك قول يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: "ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث"3.3- وطائفة ثالثة من أصحاب الأهواء والبدع، وضعوا الحديث نصرةً لمذاهبهم، وتعصباً لِنِحَلِهم، وتأييداً لبدعهم: كالروافض، والخوارج، وغيرهم.__________1 المنار المنيف: (ص114 - 115) .2 انظر: ألفية الحديث وشرحها - للعراقي: (1/266)3 الجامع للخطيب البغدادي: (2/199) . وانظر أيضاً: مقدمة صحيح مسلم مع شرح النووي: (1/94) ، والتمهيد: (1/52) .

(1/457)

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأما ما وضعه الرافضة في فضائل علي: فأكثر من أن يعد". ثم نقل عن الخليلي قوله: إنهم وضعوا ثلثمائة ألف حديث، ثم قال: "ولا تستبعد هذا؛ فإنك لو تتبعت ما عندهم من ذلك لوجدت الأمر كما قال"1.ومن ذلك أيضاً: ما أشار إليه - رحمه الله - من وضع أهل البدع أحاديث في الاكتحال والتطيب يوم عاشوراء، وذكر أن ذلك كله كذب من وضع المبتدعة، تأييداً لبدعهم2.4- وطائفة من هؤلاء كانوا من أصحاب المصالح الدنيوية، والأغراض الشخصية، فوضعوا أحاديث لتحقيق تلك المصالح، وتحصيل تلك الأغراض.قال ابن القَيِّم - رحمه الله - يصف بعض هذه الطوائف: "وكل حديث في الصخرة فهو كذب مفترى، والقدم الذي فيها كذب موضوع، مما عملته أيدي الْمُزَوِّرين، الذين يُرَوِّجُون لها ليكثر سواد الزائرين"3.ويشير بذلك إلى الأحاديث التي وُضعت في فضل الصخرة ببيت المقدس.وبعد، فهذه بعض الأغراض التي ذكرها ابن القَيِّم - رحمه الله - مما حمل بعض الناس على وضع الحديث.__________1 المنار المنيف: (ص116) .2 المنار المنيف: (ص111- 113) .3 المنار المنيف: (ص87) .

(1/458)

المسألة السادسة: العلامات التي يُعرف بها كون الحديث موضوعاً.تناول الأئمة رحمهم الله - عند كلامهم على الحديث الموضوع - بعض العلامات التي تدل على كون الحديث موضوعاً، وذلك مما يقع في متنه دون إسناده، بحيث ترشد هذه العلامات الناظرَ فيه إلى أنه ليس من كلام النبيصلى الله عليه وسلم.ولكن ليس ذلك بمقدور كل أحد، وإنما تميزت بذلك طائفة معينة من الأئمة، هيأهم الله لذلك، واختصهم بخصائص ليست لغيرهم، أولئك: هم جهابذةُ الحديث وأطباؤه، وصيارفته ونقاده.قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في بيان صفة هذه الطائفة، والأسباب التي أوصلتهم إلى هذه المرتبة:"وإنما يعلم ذلك - يعني كون الحديث موضوعاً -: من تَضَلَّع1 في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة، بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم كواحد من أصحابه"2.__________1 تَضَلَّعَ الرجل: امتلأ ما بين أضلاعه شبعاً ورياً. (لسان العرب: ص2599، مادة: ضلع) .فمراد ابن القَيِّم هنا: من تَشَبَّعَ بمعرفة السنن حتى امتلأ من هذه المعرفة، وصار له فيها شأن.2 المنار المنيف: (ص44) .

(1/459)

ولقد أسهم ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الجانب إسهاماً فَعَّالاً، وشارك بجهد نافع؛ذلك أنه - رحمه الله - قد سئل عن إمكان معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير نظر في إسناده.فأجاب - بعد أن بين أهمية هذا السؤال وعظم قدره - بجملة من الضوابط والدلائل التي يعرف بها ذلك1فجاءت كلماته نافعة في بابها، مفيدة لمن طالعها ونظرها.فمن هذه الضوابط والعلامات التي ذكرها ابن القَيِّم رحمه الله:1- اشتمال الحديث على مجازفات باردة لا يمكن أن يقول مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم.والْمُجَازَفَة: هي إرسال الكلام إرسالاً من غير قانون. ويُقَالُ لمن كان هذا شأنه: جازف في كلامه2.فقصد ابن القَيِّم بذلك: أن يكون الحديث مشتملاً على كلام مبالغ فيه، وتهويلات لا ضابط لها.ويكثر هذا النوع من المجازفات الفارغة في أحاديث الترغيب والترهيب، وقد مثَّل ابن القَيِّم لذلك بأحاديث، منها:- حديث: " من صلى الضحى كذا وكذا ركعة، أعطي ثواب سبعين نبياً".__________1 انظر: المنار المنيف: (ص50 - 102) .2 المصباح المنير: (1/99) .

(1/460)

قال ابن القَيِّم: "وكأن هذا الكذاب الخبيث لم يعلم أن غير النبي لو صَلَّى عُمْرَ نوحٍ - عليه السلام - لم يعط ثواب نبيٍّ واحد".1- وحديث: " من صلى بعد المغرب ست ركعات، لم يتكلم بينهن بشيء عدلن له عبادة اثنتي عشرة سنة " 2.إلى غير ذلك من المبالغات الكثيرة التي نسجها الكذابون على هذا المنوال3.2- أن يكون الحديث مما يكذبه الحس.كأن يكون الحديث مشتملاً على أمر يشهد الواقع المحسوس المشاهد بكذبه، ومن أمثلة ما وضع من هذا القبيل:- حديث: " الباذنجان شفاء من كل داء " 4.- وحديث: " الباذنجان لما أكل له " 5.__________1 المنار المنيف: (ص50) ، وانظر (الموضوعات) لابن الجوزي (2/416- 417) ح992، فقد ذكر حديثاً طويلاً في ثواب من صلى الضحى يوم الجمعة، وفيه: "والذي بعثني بالحق إن له من الثواب كثواب إبراهيم، وموسى ويحيى وعيسى ... ". ثم حكم بوضعه. أما اللفظ الذي ذكره ابن القَيِّم رحمه الله: فلم أقف عليه.2 المنار المنيف: (ص47) ، وأورده ابن طاهر في (معرفة التذكرة في الأحاديث الموضوعة) : (ص219ح824) . ورواه ابن حبان في (المجروحين) (2/83) في ترجمة عمر بن راشد اليمامي، قال: "كان ممن يروي الموضوعات عن ثقات أئمة…". ثم قال: "وهو الذي روى عن يحيى بن أبي كثير ... " فساق هذا الحديث.3 المنار المنيف: (ص44- 51) .4 انظر: الفوائد المجموعة (ص167) ح36 من كتاب الأطعمة والأشربة، وتذكرة الموضوعات (ص148) .5 انظر: تذكرة الموضوعات: (ص148) ، والمصنوع: (ص73ح75) ، وكشف الخفاء (ح874) .

(1/461)

قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... ولو أكل الباذنجان للحمى والسوداء الغالبة، وكثير من الأمراض لم يزدها إلا شِدَّة، ولو أكله فقيرٌ ليستغني لم يفده الغنى، أو جاهلٌ ليتعلم لم يفده العلم"1.فهذه الأحاديث وأمثالها مما يكذبها الواقع، وتدل المشاهدة والحقائق المقررة على خلافها.3- سماجة الحديث، وكونه مما يُسْخَرُ منه.والسَّمَاجُة: نقيض الملاحة، وسَمُجَ الشيء، فهو سَمْجٌ، وَسَمِجٌ: قَبُحَ2.ومن الأمثلة التي أوردها ابن القَيِّم - رحمه الله - على هذا الأمر:- حديث: " لو كان الأرز رجلاً لكان حليماً ... " 3.- حديث: " لا تسبوا الديك؛ فإنه صديقي ... " 4.4- مخالفة الحديث لصريح القرآن.- كحديث مقدار الدنيا، " وأنها سبعة آلاف سنة، ونحن في الألف السابعة" 5.__________1 المنار المنيف: (ص51) .2 لسان العرب: (ص2087. مادة: سمج) ، والمصباح المنير: (1/287) .3 المنار المنيف: (ص54) ، وانظر المصنوع (148ح252) ، وتذكرة الموضوعات (ص148) ، وتمييز الطيب من الخبيث (ص 135) .4 المنار المنيف: (ص55) ، وانظر: الموضوعات لابن الجوزي (3/133ح1347) ، وتنزيه الشريعة (2/249ح60) .5 المنار المنيف: (ص80) .

(1/462)

فهذا الحديث يناقض نصوص القرآن الكثيرة التي فيها أن الله عز وجل قد اختص بعلم الساعة، ولم يطلع على ذلك أحداً، كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاّ هُوَ} [الأعراف: 187] .5- مناقضة الحديث لما جاءت به السُّنة الصريحة مناقضةً بَيِّنة.قال ابن القَيِّم رحمه الله: "فكل حديث يشتمل على فساد، أو ظلم، أو عبث، أو مدح باطل، أو ذم حق، أو نحو ذلك: فرسول الله صلى الله عليه وسلم منه بريء"1.ومن أمثلة ذلك مما ساقه ابن القَيِّم رحمه الله: الأحاديث الواردة في مدح من اسمه محمد أو أحمد، وأنه من تسمى بذلك لا يدخل النار2.قال ابن القَيِّم: "وهذا مناقض لما هو معلوم من دينه صلى الله عليه وسلم: أن النار__________1 المنار المنيف: (ص57) .2 من أمثلة ذلك: ما يروى عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: "يُوقف عبدان بين يدي الله عزوجل فيأمر بهما إلى الجنة، فيقولان: ربنا بما نستأهل الجنة ولم نعمل عملاً تجازينا؟! فيقول الله لهما: عبديّ ادخلا الجنة، فإني آليت على نفسي أن لا يدخل النار من اسمه أحمد أو محمد".أخرجه ابن الجوزي في (الموضوعات) : (1/240- 241ح326) . أخرجه ابن الجوزي، وأورده ابن عراق في (تنزيه الشريعة) : (1/173ح13) . وينظر جملة من الأحاديث الواردة في ذلك في موضوعات ابن الجوزي - المصدر السابق - الأحاديث رقم (320 - 328) .

(1/463)

لا يجار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجاة منها بالإيمان والأعمال الصالحة"1.6- أن يُدَّعى أن النبي صلى الله عليه وسلم فَعَلَ أمراً ظاهراً بمحضر من الصحابة كلهم، وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه.فإن العادة قد جرت على أن مثل ذلك ينقله العدد الكثير، أما أن يطبق الجميع على كتمان ذلك وعدم نقله، أو ينفرد واحد من دون هذا الجمع بنقل ذلك: فإنه لا يكاد يقع.وقد مَثَّل ابن القَيِّم - رحمه الله - لذلك بما ادَّعته الرافضة: من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي رضي الله عنه بمحضر من الصحابة كلهم وهم راجعون من حجة الوداع، فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع، ثم قال: " هذا وَصِيّ وأخي، والخليفة من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا ". ثم اتفقوا جميعاً على كتمان ذلك ومخالفته2.7- أن يكون الحديث باطلاً في نفسه، فَيَدُلُّ بطلانه على أنه ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.ومن أمثلة ذلك:__________1 المنار المنيف: (ص57) .2 المنار المنيف: (ص57) ، وأخرج حديث الوصية لعلي: الجورقاني في (الأباطيل) : (2/148) ح543 - 544. ثم قال في الأول منهما: "هذا حديث باطل، لا أصل له". وقال في الثاني: "هذا حديث باطل، وفي إسناده ظلمات" وأخرج ابن الجوزي في (موضوعاته) (2/147) عدة أحاديث في الوصية لعلي، برقم (702 - 709) . وحكم عليها كلها بالضعف والوضع.

(1/464)

- حديث: "الحجامة على القفا تورث النسيان" 1.- وحديث: " إذا غضب الله أنزل الوحي بالفارسية، وإذا رضي أنزله بالعربية" 2.- وحديث: " الْمَجَرَّةُ التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش" 3.8 - أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء، فضلاً عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو وحي.وقد ساق ابن القَيِّم - رحمه الله - أمثلة كثيرة لذلك، أغلبها من الأحاديث الواردة في حسان الوجوه، وأن النظر إليهم يجلو البصر، أو أنه عبادة، أو أنهم لا يعذبون، وغير ذلك4.9- أن يكون الحديث مشتملاً على ذكر تاريخ حوادث مستقبلة.نحو: "إذا كان سنة كذا وكذا وقع كيت وكيت، وإذا كان شهر كذا وكذا وقع كيت وكيت". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأحاديث هذا__________1 المنار المنيف: (ص59) .وانظر: كشف الخفاء (ح1106) ، وتمييز الطيب من الخبيث (ص68) ، والأسرار المرفوعة (ح168) . وعزوه جميعاً للديلمي من طريق عمر بن واصل، وابن واصل اتهمه الخطيب بالوضع. وهو عندهم بلفظ " الحجامة في نقرة الرأس ... ". ونقرة القفا: حفرة في آخر الدماغ. (كما في المعجم الوسيط: نقر) .2 المنار المنيف: (ص59) .3 النار المنيف: (ص59) .4 المنار المنيف: (ص61 - 63) . وانظر: الموضوعات لابن الجوزي (1/252) ح337، 338، باب: النظر إلى الوجه الحسن.

(1/465)

الباب كلها كذب مفترى"1.وهذا الحكم - لا شك - مبني على استقراءٍ لأحاديث الباب كلها، فإنه قد قرر أن هذه الأحاديث - مع اشتمالها على معان باطلة - لم يصح منها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء.10- أن يكون الحديث بوصف الأطباء والطُّرُقِيَّة أشبه وأليق.ومن الأمثلة التي ذكرها ابن القَيِّم - رحمه الله - لذلك:- حديث: "الهريسة تشد الظهر" 2.- وحديث: "أكل السمك يوهن الجسد" 3.- وحديث: "من أخذ لقمة من مجرى الغائط أو البول، فغسلها ثم أكلها غفر له" 4.11- أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه.والظاهر أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قصد بذلك: مخالفة الحديث للشواهد الصحيحة من الكتاب والسنة.__________1 المنار المنيف: (ص64) ، وانظر ص (110 - 111) . وينظر حول ذلك: الموضوعات لابن الجوزي (3/460 - 476) .2 المنار المنيف: (ص64) . وانظر: الأسرار المرفوعة (ص418) .3 المنار المنيف: (ص64) . وانظر: الموضوعات لابن الجوزي (3/155) ح1368، واللآلئ (2/233) ، وتنزيه الشريعة (2/239) ح17. ولفظه عند هؤلاء الثلاثة: "يذهب الجسد". قال ابن الجوزي عقبه: "هذا حديث ليس بشيء لا في إسناده، ولا في معناه، ولعله "يذيب الجسد" فقد اختلط على الراوي وفسره على الغلط، والسمك لا يذيب الجسد، ولا يذهب الحسد"، ثم بين شدة ضعف إسناده، ثم قال: "وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يُتحاشى عن مثل هذا".4 المنار المنيف: (ص65) ح117. وانظر: الأسرار المرفوعة (ص420) .

(1/466)

وقد مثَّل - رحمه الله - لذلك بحديث عُوج بن عُنُق، وما جاء من: أن طوله كان ثلاثة آلاف ذراع وثلاث مائة وثلاثة ثلاثين وثلثاً، وأن نوحاً لما خَوَّفَهُ الغَرَقَ، قال له: احملني في قصعتك هذه ... إلى آخر ما جاء في الحديث.ثم بين ابن القَيِّم - رحمه الله - قيام شواهد عديدة من الكتاب والسنة على بطلانه1.12- ركاكةُ ألفاظِ الحديثِ وسَمَاجَتُهَا، بحيث يَمُجُّهَا السَّمع، ويدفعها الطبع ويسمج معناها للفطن2.13- ما يقترن بالحديث من القرائن التي يعلم بها أنه باطل.وقد مثل ابن القَيِّم لهذا الضابط بحديث: " وضع الجزية عن أهل خيبر". ثم بين أنه يشتمل على قرائن عديدة تدل على بطلانه3.فمن القرائن التي جاءت في هذا الخبر، وهي تدل على كذبه:- أن فيه "شهادة سعد بن معاذ"، وسعد توفي قبل ذلك في غزوة الخندق.- وفيه: "وكتب معاوية بن أبي سفيان". ومعاوية إنما أسلم زمن الفتح. إلى غير ذلك من القرائن الدالة على كذبه.__________1 المنار المنيف: (ص76 - 77) . وانظر: الأسرار المرفوعة (ص425 - 427) ، وتعليق محقق الكتاب على هذا الحديث.2 المنار المنيف: (ص90) .3 المنار المنيف: (ص102 - 105) . وانظر: الأسرار المرفوعة (ص444) ، وتعليق المحقق على الحديث.

(1/467)

14- أن يكون الحديث مما لم يوقف عليه في المصنفات الحديثية.قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في حديث عمر رضي الله عنه في قصة فاطمة بنت قيس، وقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة":" ... فنحن نشهد بالله شهادة نُسأل عنها إذا لقيناه: أن هذا كذب على عمر رضي الله عنه، وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فلو يكون هذا عند عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ... لما فات هذا الحديث أئمة الحديث والمصنفين في السنن والأحكام"1.وقد ذهب الفخر الرازي - رحمه الله - إلى أن الخبر إذا روي في زمان استقرت فيه الأخبار، فَفُتِّشَ عنه فلم يوجد في بطون الكتب، ولا في صدور الرجال، عُلِمَ بطلانه، وذلك فيما بعد عصر الصحابة؛ فإنَّ الأخبار في عصرهم لم تكن استقرت2.ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه، بحيث يَتَسَنَّى لكل شخص الحكم ببطلان الحديث لمجرد أنه لم يقف عليه في كتب السنن، بل لابد من قيد وضابط لهذه المسألة، وقد ذكر الحافظ العلائي - رحمه الله - لذلك قيداً حسناً، فقال: "وهذا إنما يقوم به - يعني التفتيش عن الحديث - الحافظ الكبير، الذي قد أحاط حفظه بجميع الحديث أو بمعظمه؛ كالإمام أحمد، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، ومن بعدهم: كالبخاري، وأبي__________1 زاد المعاد: (5/539) .2 نكت ابن حجر على ابن الصلاح: (2/847) .

(1/468)

حاتم، وأبي زرعة، ومن دونهم: كالنسائي ثم الدارقطنى؛ لأن المأخذ الذي يحكم به - غالباً - على الحديث بأنه موضوع: إنما هي الملكة النفسانية الناشئة عن جمع الطرق، والاطلاع على غالب المرويِّ في البلدان المتنائية، بحيث يعرف بذلك ما هو من حديث الرواة مما ليس من حديثهم.وأما من لم يصل إلى هذه المرتبة، فكيف يَقْضِي بعدم وُجْدَانِهِ للحديث بأنه موضوع؟! هذا ما يأباه تصرفهم، فالله أعلم"1.فلابد من تقييد كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - بمثل ذلك.وبعد، فهذه هي الأمارات والضوابط التي وضعها ابن القَيِّم - رحمه الله - لمعرفة الحديث الموضوع بمجرد النظر في متنه، دون البحث في إسناده.ويحسنُ في هذا المقام التنبيه على أن بعض الأئمة قد ذكر بعضاً من هذه الضوابط2، إلا أن ابن القَيِّم قد انفرد بزيادات عنهم3، مع حُسْنِ عرضها وتنسيقها، وجمع أمثلة وشواهد عديدة تحت كل ضابط منها، بحيث تكون مرجعاً مهماً في هذا الباب.__________1 نكت ابن حجر: (2/847) .2 انظر الكفاية: (ص 50 - 51) ، ونكت ابن حجر على ابن الصلاح: (2/844- 847) ، وفتح المغيث: (1/264 - 265) .3 انظر مثلاً العلامات والضوابط رقم: (1، 3، 5، 8، 9، 10) .

(1/469)

المبجث الثاني عشر: معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد...المبحث الثاني عشر: معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترداشتراط العدالة والضبط في الراوي:قال ابن الصلاح رحمه الله: "أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه: على أنه يُشْتَرط فيمن يحتجُّ بروايته أن يكون عدلاً، ضابطاً لما يرويه ... "1.فَبَيَّنَ - رحمه الله - بذلك: أن رُكْنَي القبول للراوي هما: العدالة، والضبط. وقد سَبَقَ ضمن مباحث الحديث الصحيح الكلام عن هذين الشرطين.وقد عَبَّرَ ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ضرورة توافر هذين الشرطين فيمن تقبل روايته، فقال: " ... اشْتُرِطَ فيها - أي الرواية - ما يكون مُغَلِّباً على الظن صدقَ الْمُخْبر، وهو: العدالةُ المانعةُ من الكذب واليقظة المانعة من غلبة السهو والتخليط"2.فالشطرُ الأولُ من كلامِهِ يشيرُ إلى شرطِ العدالة، والشطرُ الثاني يشير إلى شرطِ الضبطِ.ومن المسائل التي تتعلق بالكلام على صفة من تُقْبَل روايته ومن ترد:__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص 50)2 بدائع الفوائد: (1/5) .

(1/471)

إنكار الأصل تحديث الفرع:إذا روى ثقة عن شيخ ثقة - أيضا ً- حديثاً، فأنكر الشيخ هذا الحديث ونفاه، فإن لذلك صورتين:الصورة الأولى: أن يكون الشيخ جَازِمَاً بِرَدِّهِ، فيقول: "ما رويته"، أو: "كذب عليّ". فعند ذلك يتعارض الجزمان، والشيخُ هو الأصل، فيجبُ رَدّ حديثِ فَرْعِهِ تبعاً لذلك1.وإنِّمَا رُدَّ الخبر لكذبِ واحدٍ منهما لا بعينه، كما قال ابن حجر رحمه الله2.وفي هذه الحالة - حالة جزم الشيخ بالنفي - سَوَّى ابن الصلاح رحمه الله - وتبعه الحافظ ابن حجر3- بين تصريح الشيخ بكذب الراوي، وبين مجرد الإنكار. إلا أن السخاوي - رحمه الله - حكى خلافاً بين المحدثين في الصورة الثانية خاصة - وهي إنكار الشيخ الرواية دون تكذيب - وأن بعضهم قال بقبول الرواية في هذه الحالة4.الصورة الثانية: ألا يجزم الشيخ برد ذلك المروي، كأن يقول: "لا أذكره"، أو: "لا أعرفه" أو نحو ذلك من الألفاظ التي تقتضي نسيانه، فإن ذلك لا يوجب رد رواية الراوي، بل تقبل عند الجمهور من المحدثين، ومعظم الفقهاء5.__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص 55) .2 نزهة النظر: (ص61) .3 نزهة النظر: (ص61) .4 فتح المغيث: (1/340 - 341) .5 مقدمة ابن الصلاح: (ص55) .

(1/472)

وَحُكِيَ عن قوم من الحنفية القول بإسقاط المروي في هذه الحالة، وعدم قبوله.وَرَدَّ ذلك الحافظ ابن حجر بقوله: "وهذا مُتَعِقَّبٌ بأن عدالةَ الفرع تقتضي صدقه، وعدم علم الأصل لا ينافيه، فَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النافي"1.وقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه القضية وبيّن رأيه فيها، فإنه لمّا تكلم على حديث: ربيعة، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه في القضاء باليمين مع الشاهد، وأن سُهَيلاً لما عرض عليه قال: "لا أحفظه"، ثم إنه - يعني سُهيلاً- رواه عن ربيعة - راويه عنه - فقال: "أخبرني ربيعة - وهو عندي ثقة - أني حدثته إياه"، وقد طعن قوم في الحديث بسبب ذلك، فأجاب ابن القَيِّم عن ذلك - مصححاً الحديث - بقوله: " ... إنَّ هذا يدل على صدق الحديث؛ فإن سُهيلاً صَدَّقَ ربيعة، وكان يرويه عنه عن نفسه، ولكنه نسيه، وليس نسيان الراوي حجة على من حفظ.الثالث: أن ربيعة من أوثق الناس، وقد أخبر أنه سمعه من سهيل، فلا وجه لرد حديثه ولو أنكره سهيل، فكيف ولم ينكره، وإنما نسيه للعلة التي أصابته؟ وقد سمعه منه ربيعة قبل أن تصيبه تلك العلة"2.فتضمن كلامه - رحمه الله - أموراً، وهي:__________1 نزهة النظر: (ص62) .2 تهذيب السنن: (5/226) .

(1/473)

1- أن الأصل قد صَدَّقَ الفرع، وكان يرويه عنه، مما يؤكد صدق الفرع، وهذا صريح في كلامه رحمه الله.2- أن الأصل نَسِيَ الحديث لِعِلَّة أصابته، والنسيان لا يوجب رد الحديث، فمن حفظ حجة على من نسي.3- أن الفرع إذا كان ثقة وأخبر أنه سمعه، فلا وجه لرد الحديث وإن أنكره الأصل، وهذا مفهوم من قوله عن سهيل: "فكيف ولم ينكره؟ ".وهذا الكلام منه - رحمه الله - لا غبار عليه، وهو متفقٌ مع ما تَقَدَّمَ تقريره في هذه المسألة، إلا أنه لم يتعرض لحالة انضمام التكذيب إلى الإنكار.فيمكن أن يُحْمَلَ كلامُ ابن القَيِّم - رحمه الله - على القبول في حالة إنكار الشيخ دون تكذيب، أو يكون قد اختار من الخلاف في هذه الصورة - حتى مع التكذيب -: القول بعدم الرد، والله أعلم.

(1/474)

المبحث الثالث عشر: رواية المجهولالمجهول عند أهل الفن على قسمين: مجهول العين، ومجهول الحال.أما مجهول العين: فهو: "من لم يرو عنه إلا واحد، ولم يوثق".وأما مجهول الحال: فهو: "من روى عنه أكثر من واحد، ولم يوثق". ويقال له أيضاً: المستور1.ومن المسائل المتعلقة بالمجهول:المسألة الأولى: تعديل الْمُبْهَم.ذهب ابن القَيِّم إلى أن المبهم تثبت عدالته: إذا عدّله الراوي عنه الثقة؛ فقد أعلَّ ابن حزم حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن - في سقوط الحضانة بالتزويج - بالجهالة، حيث قال فيه أبو الزبير: "عن رجل صالح من أهل المدينة". فرد ابن القَيِّم ذلك عليه قائلاً: "وعنى بالمجهول: الرجل الصالح الذي شهد له أبو الزبير بالصلاح، ولا ريب أن هذه الشهادة لا تُعَرِّفُ به، ولكنَّ المجهول إذا عَدَّلَهُ الراوي عنه الثقة: ثبتت عدالته؛ وإن كان واحداً على أصح القولين ... هذا مع أن أحد القولين: أن مجرد رواية العدل عن غيره تعديل له وإن لم يصرح بالتعديل ... وأما إذا روى عنه وصَرَّحَ بتعديله: فقد__________1 نزهة النظر: (ص50) .

(1/475)

خَرَجَ عن الجهالة التي تُرَدُّ لأجلها روايته، ولا سيما إذا لم يكن معروفاً بالرواية عن الضعفاء والمتهمين"1.وهذا الذي ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - هو الراجح بالنسبة للراوي الذي سُمِّيَ، إذا كان الْمُعَدِّلُ متأهلاً لذلك2.وأما الراوي المبهم الذي لم يسم - كما في المثال الذي معنا - ففيه قولان للعلماء:الأول: أن ذلك لا يكفي في توثيق الراوي. قاله الخطيب البغدادي، وابن الصباغ، والصيرفي وغيرهم.الثاني: أن ذلك يكفي في توثيقه، قاله أبو حنيفة.والصحيح من ذلك القول الأول، قال السخاوي رحمه الله: "لأنه لا يلزم من تعديله أن يكون عند غيره كذلك، فلعله إذا سَمَّاهُ يعرف بخلافها، وربما يكون قد انفرد بتوثيقه ... بل إضراب المحدث عن تسميته ريبة توقع تردداً في القلب"3.ثم إنه لو ووفق ابن القَيِّم على ثبوت التوثيق للراوي المبهم، وزوال الجهالة عنه بمجرد ذلك، فإن ذلك لا ينطبق على المثال الذي توجه إليه كلام ابن القَيِّم رحمه الله؛فقد جاء فيه: "عن رجل صالح ". فما المراد بالصلاح هنا؟__________1 زاد المعاد: (5/456 - 457) .2 انظر: نزهة النظر (ص50) .3 فتح المغيث: (1/308) .

(1/476)

ظاهر الكلام: أن المقصود الصلاح في الدين، لا الصلاح في باب الرواية، قال السخاوي - عقب قول الخليلي في رجل: شيخ صالح -: "أراد صلاحيته في دينه، جرياً على عادتهم في إطلاق الصلاحية حيث يريدون بها الديانة، أما حيث أريد: في الحديث، فيقيدونها"1. يعني بقولهم: صالح الحديث.فإذا تبين ذلك، فإن الوصف بهذا لا يؤخذ منه تعديل، فقد يكون الرجل صالحاً في دينه ولكنه ضعيف في الرواية2.فتلخص من ذلك: أن ما ذهب إليه ابن القَيِّم من ثبوت عدالة المجهول بتوثيق الراوي عنه له: مع كونه صواباً في المجهول المُسَمَّى إذا كان الموثق له متأهلاً لذلك، إلا أنه ليس بصواب في الراوي المبهم.المسألة الثانية: بمَ ترتفعُ جهالةُ الحالِ عن الراوي؟وأما مجهول الحال: فقد ذَهَبَ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى أن الجهالة تزول عنه، ويحتج بحديثه:1- إذا روى عنه ثقتان فأكثر.2- ولم يُعلم فيه جرحٌ ولا قدحٌ.ففي حديث سلمة بن المحبق في قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقع على جارية امرأته - وقد أعل بجهالة خالد بن عرفطة - قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... فإن الحديث حسن؛ وخالد بن عرفطة قد روى عنه__________1 فتح المغيث: (1/200) .2 انظر الكلام على هذه المسألة فيما يأتي: (ص 570) .

(1/477)

ثقتان: قتادة، وأبو بشر. ولم يعرف فيه قدح، والجهالة ترتفع عنه برواية ثقتين ... "1.وخالد هذا: جَهَّلَه أبو حاتم الرازي2، والبزار3، وقال الذهبي: "لا يعرف"4. ولم يوثقه غير ابن حبان على مذهبه.وقال في حق الوليد بن زوران - وقد أعل ابن القطان حديثاً له بجهالة حاله -: "وفي هذا التعليل نظرٌ؛ فإن الوليد هذا روى عنه جعفر بن بُرْقان، وحجاج بن منهال، وأبو الْمَلِيح الحسن بن عمر الرقي وغيرهم. ولم يعلم فيه جرح"5.وقال في حق العالية بنت أنفع - وقد حَكَمَ الشافعي والدارقطني بجهالتها -: "هذا الحديث - يعني حديث النهي عن العينة - حسن، ويحتج بمثله؛ لأنه قد رواه عن العالية ثقتان ثبتان: أبو إسحاق زوجها، ويونس ابنها، ولم يعلم فيها جرح، والجهالة ترتفع عن الراوي بمثل ذلك"6.فهكذا يذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى ارتفاع جهالة الحال عن الراوي والاحتجاج بخبره: برواية ثقتين عنه، ما لم يعلم فيه جرح.__________1 زاد المعاد: (5/38) .2 الجرح والتعديل: (1/2/340) .3 تهذيب التهذيب: (3/107) .4 المغني: (1/204) .5 تهذيب السنن: (1/107) .6 تهذيب السنن: (5/100) .

(1/478)

وقد نصَّ الخطيب البغدادي وغيره على أن: رواية الاثنين عن المجهول ترفع عنه جهالة العين، ولا تُثْبِت له عدالة ولا توثيقاً، وأنه لابد من التصريح بثقته والنص على ذلك1. وهذا مذهب الجمهور من الأئمة والمحققين2.على أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد سُبِقَ إلى مثل ذلك أيضاً، فقد نُسِبَ إلى البزار والدارقطني القول بارتفاع جهالته والعمل بروايته، وعبارة الدارقطني - كما نقلها السخاوي رحمه الله -: "من روى عنه ثقتان فقد ارتفعت جهالته، وثبتت عدالته"3.وكذا اكتفى بروايتهما: ابن حبان كما نص عليه السخاوي أيضاً4.فَتَلَخَّصَ من ذلك أن في قبول رواية مجهول الحال أقوالاً:1- رَدُّ روايته مطلقاً. وهو مذهب الجمهور، وذلك بناءً على أنه لابد من التصريح بتوثيقه.2- قبولها مطلقاً. وهو منسوب إلى البزار والدارقطني كما مضى، وبه يقول ابن حبان أيضاً.وقد مضى بيان هذين المذهبين، وهناك مذهب ثالث، وهو:__________1 انظر: الكفاية: (ص150) .2 فتح المغيث: (1/320) .3 فتح المغيث: (1/320) .4 فتح المغيث: (1/320) .

(1/479)

3- التوقف فيها، فلا تقبل ولا ترد حتى يتبين حاله، وهو مذهب إمام الحرمين الجويني، وأيده الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: "والتحقيق: أن رواية المستور - ونحوه مما فيه الاحتمال - لا يطلق القول بردها ولا بقبولها، بل هي موقوفة إلى استبانة حاله، كما جزم به إمام الحرمين"1.وبذلك يتضح أن ما اختاره ابن القَيِّم من ارتفاع جهالة الحال عن الراوي بمجرد رواية اثنين عنه، مع عدم العلم بجرحه، ومن ثم الاحتجاج بخبره: مذهب مرجوح، وأن جمهور أهل العلم على خلافه، وأنه لابد في مجهول الحال من التوثيق الصريح، حتى تزول جهالته ويعمل بخبره.المسألة الثالثة: جهالةُ الصحَابي.إن توقفَ الأئمة في رواية المجهول وعدم قبولها: إنما هو للجهل بحال الراوي من العدالة.إذ إن عدالة الرواة شرط من شروط قبول الخبر، ولما كان عدم العلم بعدالة المجهول ينافي تحقق شرط العدالة، لزم - لأجل ذلك - التوقف عن قبول خبره حتى يعلم حاله.ولكن، هل يقال ذلك - أيضاً - في حق الصحابة رضوان الله عليهم؟؟ بمعنى: أنه إذا جاء الخبر عن صحابي غير مسمى مثلاً، فهل يتوقف عن قبول خبره بدعوى الجهل بحاله؟الْمُتَقَرِّرُ عند أئمة هذا الشأن: أن ذلك يجري فيمن دون الصحابة، أما الصحابة - رضي الله عنهم - فإنهم جميعاً عدول بتعديل الله - عزوجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم.__________1 نزهة النظر: (ص50) .

(1/480)

قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم، سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن". ثم ساق - رحمه الله - جملة من آيات القرآن في مدحهم والثناء عليهم، ثم قال: "ووصفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصحابة مثل ذلك، وأطنب في تعظيمهم، وأحسن الثناء عليهم"1. ثم ساق جملة من الأحاديث في هذا المعنى.وقال ابن الصلاح رحمه الله: "للصحابة بأسرهم خِصِّيصَة، وهي: أنه لا يُسْئَلُ عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكونهم - على الإطلاق - معدلين بنصوص الكتاب، والسنة، وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة"2.وقد أَكَّد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا المعنى في أكثر من مناسبة، مبيناً أنه لا ينبغي إعلال حديث بدعوى الجهل بحال صَحَابيِّهِ، ومن أقواله في ذلك:أن ابن حزم - رحمه الله - أعل حديث أبي الزبير، عن بعض__________1 الكفاية: (ص 93- 94) .2 مقدمة ابن الصلاح: (ص146 - 147) . وانظر في ذلك أيضاً: معرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد: (ص46) ، والإصابة: (1/9) .

(1/481)

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لُمْعَةٌ قدر الدرهم، لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة".فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأما العلة الثانية: فباطلة على أصل ابن حزم وأصل سائر أهل الحديث؛ فإن عندهم جهالة الصحابي لا تقدح في الحديث؛لثبوت عدالة جميعهم ... "1.وقال - رحمه الله - في حديث لأبي أمامة بن سهل رضي الله عنه في صفة صلاة الجنازة - وقد وقع في بعض طرقه: عن أبي أمامة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -: "وليس هذا بعِلَّةٍ قادحة فيه؛ فإنَّ جهالةَ الصحابي لا تَضُرُّ"2.المسألة الرابعة: هل تتقوى رواية المجهول بالمتابعات والشواهد؟إذا بَقِيَ مجهول العين على جهالته، فهل تتقوى روايته برواية غيره، ويُقْبَلُ خبره في المتابعات والشواهد؟أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك، فقال في حديث ميمونة رضي الله عنها في مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في الحيض وهن مُتَّزِرَات - وقد أعله ابن حزم بأن نُدْبة - راويته عن ميمونة - مجهولةٌ لا تعرف - فقال ابن القَيِّم - رحمه الله - يرد عليه: "فأما تعليله حديث ندبة بكونها مجهولة: فإنها مدنية، روت عن مولاتها ميمونة، وروى عنها حبيب، ولم يعلم أحد جرحها.__________1 تهذيب السنن: (1/129) .2 جلاء الأفهام: (ص48) .

(1/482)

والراوي إذا كانت هذه حالهُ، إنما يُخشى من تَفَرُّدِهِ بما لا يُتَابع عليه. فأما إذا رَوَى ما رواه الناس، وكانت لروايته شواهد ومتابعات، فإن أئمة الحديث يقبلون حديث مثل هذا، ولا يردونه ولا يعللونه بالجهالة. فإذا صاروا إلى معارضة ما رواه بما هو أثبت منه وأشهر: عللوه بمثل هذه الجهالة، وبالتفرد.ومن تأمل كلام الأئمة رأى فيه ذلك، فيظن أن ذلك تناقض منهم، وهو بمحض العلم والذوق والوزن المستقيم. فيجب التنبه لهذه النكتة، فكثيراً ما تمر بك في الأحاديث، ويقع الغلط بسببها"1.فابن القَيِّم - رحمه الله - يقرر: أن رواية مجهول العين تتقوى بغيرها من المتابعات والشواهد، وتكون مقبولة؛ حيث لم ينفرد. وأما إذا انفرد هذا المجهول بهذه الرواية، أو خالف من هو أوثق منه وأشهر: فإن خبره حينئذ يكون مردوداً؛لأنه - والحالة هذه - يكون من قبيل المنكر.وقد أشار الحافظ الدارقطني - رحمه الله - إلى مثل ذلك، فقال: " ... فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد، وانفرد بخبر، وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه غيره"2.وقد نصَّ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - على ذلك أيضاً، لكنه خصه برواية مجهول الحال - المستور - فقال: "ومتى توبع السيئ الحفظ بِمُعْتَبَرٍ، وكذا: المستور، والمرسل، والمدلس: صار حديثهم حسناً، لا لذاته بل بالمجموع"3.__________1 تهذيب السنن: (1/176) .2 سنن الدارقطني: (3/174) .3 نخبة الفكر: (ص51 - 52) .

(1/483)

وجعل الحافظُ السخاوي - رحمه الله - روايةَ المجهول مما يصلحُ في المتابعات والشواهد، وأنها تُكْتَبُ روايته للاعتبار، وذلك عند كلامه على مراتبِ الجرح والتعديل، وحكم رواية أصحاب كل مرتبة منها.فقد جعل "المجهول" في آخر مراتب الجرح - المرتبة السادسة - ثم حَكَمَ بأن أصحاب هذه المرتبة والتي قبلها ممن يُخَرَّجُ حديثهم في المتابعات والشواهد، قال: "لإشعار هذه الصِيَغِ بصلاحيةِ الْمُتَّصِفِ بها لذلك، وعدمِ منافاتها لها"1.فَتَبَيَّنَ من ذلك: صحة ما ذهبَ إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من: أن رواية مجهول العين - وبالأحرى مجهول الحال - تَتَقَوَّى بالمتابعات والشواهد، وأن جماعة من أئمة هذا الشأن قد ذهبوا إلى ذلك.__________1 فتح المغيث: (1/375) .

(1/484)

المبحث الرابع عشر: كيفية سماع الحديث وتحملهمن المسائل التي تتعلق بكيفية التحمل والأداء مما تعرض له ابن القَيِّم رحمه الله:المسألة الأولى: في تحمل الحديث قبل وجود الأهلية لذلك.هل يصحُّ تحمل الصَّبِي والكافر الحديث، بحيث يُقْبَلُ منهما مَا أَدَّيَاه بعد البلوغ والإسلام؟أما صِحَّةُ تحمل الكافر: فمتفق عليها بين أهل هذا الشأن1.وأما تحمل الصغير الذي لم يبلغ: فإنه يصح على المذهب الصحيح الذي جزم به غير واحد من العلماء، منهم: ابن الصلاح2، والنووي3، وابن كثير4، والعراقي5 وغيرهم.ومَنَعَ من ذلك آخرون، ولم يُجَوِّزُوه، قالوا: لأنَّ الصبيَّ مَظِنَّةُ عدمِ الضبط6.وقد رَدَّ الأئمةُ ذلك عليهم، فقال ابن الصلاح: "وَمَنَعَ من ذلك قومٌ فأخطؤوا"7.__________1 انظر: فتح المغيث: (1/380) .2 مقدمة ابن الصلاح: (ص60) .3 التقريب: (ص15) .4 اختصار علوم الحديث: (ص 108) .5 شرح الألفية: (2/15) .6 انظر: فتح المغيث: (1/381 - 382) .7 مقدمة ابن الصلاح: (ص60) .

(1/485)

وقال العراقي: "وهو خطأ مردود عليهم"1.ومما يُقَوِّي جانب القبول: أن الأئمة - رحمهم الله - أجمعوا على قبول حديث جماعة من الصحابة مما تحملوه حال الصغر: كالحسن، والحسين، وابن عباس وغيرهم. فلم يروا فرقاً بين ما تحملوه قبل البلوغ وبعده2.ولقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يذهب هذا المذهب الراجح في هذه المسألة، فقد أعل قوم حديث محمد بن عمرو بن عطاء المدني، عن أبي حميد الساعدي في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله فيه: سمعت أبا حميد الساعدي، بعدم سماع محمد بن عمرو من أبي حميد. فَرَدَّ عليهم ابن القَيِّم ذلك، وقال - بعد أن أثبت إمكان لقاء محمد بن عمرو لأبي حميد، وسماعه منه -: "ولو امتنع أن يكون رجلاً - لتقاصر سِنِّهِ عن ذلك - لم يمتنع أن يكون صبياً مميزاً، وقد شاهد القصة في صغره، ثم أداها بعد بلوغه، وذلك لا يقدح في روايته وتحمله اتفاقاً، وهو أسوة أمثاله في ذلك.فَرَدُّ الأحاديث الصحيحة بمثل هذه الخيالات الفاسدة: مما يرغب عن مثله أئمة العلم"3.فهذا اختيار ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة، وهو__________1 شرح الألفية: (2/15) .2 انظر: فتح المغيث: (1/383 - 384) .3 تهذيب السنن: (1/363) .

(1/486)

الصحيح كما تقدم، ولعل نقله الاتفاق على ذلك إشارة إلى أن من خالف في هذه المسألة لا يعتد بخلافه، والله أعلم.المسألة الثانية: متى يصحُّ سَمَاع الصَّغِير؟اختلف أهل العلم في ضابط سماع الصغير على أقوال عدة، الصحيح المعتبر منها: اعتبار تمييز كلِّ صبيٍّ وفهمه، دون اعتبار لسن معينة في ذلك؛ فَإنْ فَهِمَ الخطاب ورد الجواب: كان سماعه صحيحاً، وإن كان سِنُّهُ أقلَّ من خمس سنين، وإن لم يكن كذلك: لم يصح سماعه، وإن زاد عن الخمس.هذا ما صححه الأئمة: ابن الصلاح1، والنووي2، والعراقي3، وابن حجر4.وقد جاء عن ابن القَيِّم - رحمه الله - ما يفيد اعتباره للتمييز في صحة السماع.فقد تَقَدَّم قوله في المسألة التي قبل هذه في حق محمد بن عمرو بن عطاء: "ولو امتنع أن يكون رجلاً ... لم يمتنع أن يكون صبياً مميزاً، وقد شاهد القصة في صغره ... وذلك لا يقدح في روايته وتحمله اتفاقاً".وقال في حق فاطمة بنت المنذر - وقد أعل قوم حديثاً بأنها روته عن أم سلمة، وقد لقيتها صغيرة -:__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص62) .2 التقريب: (ص15) .3 شرح الألفية: (2/20 - 21) .4 فتح الباري: (1/173) .

(1/487)

" ... فلا يلزم انقطاع الحديث من أجل أن فاطمة بنت المنذر لقيت أم سلمة صغيرة؛فقد يَعْقِلُ الصغيرجداً أشياء ويحفظها، وقد عقل محمود بن الربيع الْمَجَّةَ وهو ابن سبع سنين1، ويعقل أصغر منه"2.فجعل - رحمه الله - عَقْلَ الصغير وتمييزه - دون مراعاة لسن معينة - أساساً للحكم بصحة سماعه من عدمه، وهذا هو القول المعتبر كما تقدم.المسألة الثالثة: هل يصح السماع ممن وراء حجاب؟هل يصح سماع من سمع من شخص دون أن يراه؟الجمهور على صحة ذلك وجوازه إن ثبت عنده أنه صوته: إما بعلمه وخبرته، أو بإخبار ثقة عدل بأن هذا صوته3.ومن الأدلة على صحة ذلك: حديث أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فقد كن يحدثن من وراء حجاب، ونقل ذلك عنهن، واحْتُجَّ به في الدواوين المعتمدة4.ومنع من ذلك شعبة رحمه الله، فقال: "إذا حَدَّثَكَ المحدثُ فلم تر__________1 كذا وقع في (زاد المعاد) ، والمشهور أنه "خمس سنين" كما في (صحيح البخاري) . انظر: فتح الباري: (1/172) ح77، ك العلم. والْمَجَّة: الماء أو الشراب يرمي به من فيه.2 زاد المعاد: (5/590) .3 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص71) ، وفتح المغيث: (1/434) .4 شرح ألفية العراقي - له: (2/58) .

(1/488)

وَجْهَه، فلا ترو عنه، فلعله شيطان قد تَصَوَّرَ في صورته يقول: حدثنا، وأخبرنا"1.وردَّ الأئمة هذا القول منه رحمه الله، فقال النووي: "وهو خلاف الصواب وقول الجمهور"2. وقال ابن كثير: "وهذا عجيب وغريب جداً"3.وقد بين ابن القَيِّم - رحمه الله - أن عدم رؤية الراوي المحدث لا يقدح في سماعه منه، وأن عدم الرؤية لا ينافي السماع.فقد كَذَّبَ هشام بن عروة محمد بن إسحاق في قوله: إنه حَدَّث عن زوجته فاطمة بنت المنذر، واعتمد في ذلك على أنه لم يرها أحد من الرجال منذ تزوجها، فقال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... إن هشاماً إنما نفى الرؤية، ولم ينف سماعه منها، ومعلوم أنه لا يلزم من انتفاء الرؤية انتفاء السماع.قال الإمام أحمد: لَعَلَّه سمع منها في المسجد، أو دخل عليها فحدثته من وراء حجاب، فأي شيء في هذا؟! فقد كانت امرأة كبرت وأَسَنَّت"4.فابن القَيِّم - رحمه الله - يؤكد أنه لا تلازم بين السماع والرؤية، بل قد يحصل سماع لفظ الْمُحَدِّث دون رؤيته، ومع ذلك يكون سماعه صحيحاً معتبراً، والله أعلم.__________1 شرح ألفية العراقي - له: (2/58) .2 التقريب: (ص17) .3 اختصار علوم الحديث: (ص118) .4 تهذيب السنن: (7/97) .

(1/489)

المسألة الرابعة: الوجادة، وحكم العمل بها.تعريفها: قال الحافظ العراقي: "أن تجد بخطِّ من عَاصَرْتَهُ - لقيته أو لم تلقه - أو لم تعاصره - بل كان قبلك - أحاديث يرويها، أو غير ذلك مما لم تسمعه منه ولم يُجِزْهُ لك"1.ويلحق بذلك: ما يجده الشخص من كتب المصنفين ممن عاصره كذلك، أولم يعاصره2.أما حكم الوجادة: فإنها منقطعة غير متصلة، ولكنها تأخذ نوعاً من الاتصال في حالة وثوقه بأنه خط من وجد ذلك عنه، وذلك لقوله: "وجدت بخط فلان"3.ولا يجوز أن يقول فيها: "عن فلان" أو: "قال فلان"، فضلاً عن قوله: "حدثنا وأخبرنا"4.هذا من ناحية الراوية بالوجادة، فالرواية بها لا تكون متصلة.وأما جواز العمل بالوجادة: ففيه أقوال ثلاثة:الأول: المنع من العمل بها. قال بذلك معظم المحدثين والفقهاء من المالكية وغيرهم.__________1 شرح الألفية - للعراقي: (2/112) .2 فتح المغيث: (1/536) .3 شرح الألفية - للعراقي: (2/113- 114) .4 انظر: (مقدمة ابن الصلاح) : (ص86) .

(1/490)

الثاني: جواز العمل بها. وذلك مَحْكِي عن الإمام الشافعي رحمه الله، وطائفة من نظار أصحابه.الثالث: وجوب العمل بها عند حصول الثقة به. جزم بذلك بعض المحققين من أصحاب الشافعي في أصول الفقه1.واختار ابن الصلاح - رحمه الله - القولَ بالوجوب، فقال: "وما قَطَعَ به هو الذي لا يَتَّجِه غيره في الأعصار المتأخرة؛ فإنه لو تَوَقَّف العمل فيها على الرواية لانسَدَّ باب العمل بالمنقول، لتعذر شرط الرواية فيها"2.ووافق ابنَ الصلاح على ذلك: النووي3، وابن كثير4، والعراقي5.وقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - قضية النُّسَخ والكتب التي أُخِذَت عن طريق الوجادة، وأكد أن الأخذ عنها، والعمل بمقتضاها متعين، وأن ذلك هو دأب علماء هذه الأمة قديماً وحديثاً.قال - رحمه الله - في الرد على من طعن في سماع الحسن من سمرة: "وغاية هذا أنه كتاب6، ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديماً__________1 ينظر حول العمل بالوجادة: مقدمة ابن الصلاح: (ص87) ، وتدريب الراوي: (2/63) ، وفتح المغيث: (1/534 - 535) .2 مقدمة ابن الصلاح: (ص87) .3 التقريب: (ص21) .4 اختصار علوم الحديث: (ص128) .5 شرح الألفية للعراقي: (2/114- 115) .6 فقد قال بهز بن أسد: إن اعتماده على كتب سمرة. (المراسيل - لابن أبي حاتم: ص32) .

(1/491)

وحديثاً، وأجمع الصحابة على العمل بالكتب، وكذلك الخلفاء بعدهم ... وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب كتبه إلى الآفاق والنواحي، فيعمل بها من تصل إليه، ولا يقول: هذا كتاب. وكذلك خلفاؤه بعده، والناس إلى اليوم.فَرَدُّ السنن بهذا الخيال البارد الفاسد من أبطل الباطل، والحفظ يخون، والكتاب لا يخون"1.ويؤكد في مناسبة أخرى حُجِّيَّة هذه الكتب، مشيراً إلى ضابط العمل بها، وشرط ذلك، فيقول - في الرد على من طعن في رواية مخرمة ابن بكير عن أبيه بأنها كتاب -: "إن كتاب أبيه كان عنده محفوظاً مضبوطاً، فلا فَرْقَ في قيام الحجة بالحديث بين ما حدثه به، أو رآه في كتابه، بل الأخذ عن النسخة أحوط إذا تَيَقَّنَ الراوي أنها نسخة الشيخ بعينها. وهذه طريقة الصحابة والسلف ... ولو بَطَلَ الاحتجاجُ بالكتب، لم يبق بأيدي الأمة إلا أيسر اليسير؛ فإنَّ الاعتماد على النُّسَخِ لا على الحفظ، والحفظ خَوَّان، والنسخة لا تخونُ، ولا يُحْفظُ في زمنٍ من الأزمان المتقدمة أن أحداً من أهل العلم رَدَّ الاحتجاج بالكتاب، وقال: لم يُشَافِهْني به الكاتب، فلا أقبله. بل كُلُّهُم مجمعون على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عنده أنه كتابه"2.__________1 إعلام الموقعين: (2/144) .2 زاد المعاد: (5/242) .

(1/492)

فابن القَيِّم - رحمه الله - يؤكد صحة العمل بما وُجدَ من تلك الكتب، وبخاصة ما كان منها موثوقاً به، ومتأكداً من صحة نسبته إلى صاحبه ومؤلفه.وهو بذلك يوافق ما رَجَّحَهُ أكثرُ الأئمة المتقدم كلامهم.

(1/493)

المبحث الخامس عشر: ناسخ الحديث ومنسوخهالنسخ: هو "عبارة عن رفع الشارع حكماً منه متقدماً بحكم منه متأخر".ذكر ذلك ابن الصلاح رحمه الله، ثم قال: "وهذا حد وقع لنا سالم من اعتراضات وردت على غيره"1.طرق معرفة النسخ: ويعرف ذلك بأمور، وهي:أولاً: تصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو أصرحها، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه بريدة رضي الله عنه: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها".ثانياً: أن يجزمَ الصحابيُّ بأن ذلك الخبر متأخر، كقول جابر رضي الله عنه: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار".ثالثاً: يُعرف ذلك - أيضاً - بالتاريخ، وهو كثير.رابعاً: أن يقعَ الإجماع على ترك العمل بحديث، وأنه منسوخ. والإجماع لا يَنْسَخ ولا يُنْسخ، وإنما يدل على وجود ناسخ2.وقد ورد في كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - استعماله لبعض الطرق التي يستدل بها على النسخ، فمن ذلك:__________1 مقدمة ابن الصلاح: (ص 139) .2 ينظر تفصيل ذلك في: مقدمة ابن الصلاح: (ص139 - 140) ، وتدريب الراوي: (2/190 - 192) ، ونزهة النظر: (ص 38 - 39) .

(1/495)

1- استدلاله على النسخ بمعرفة التاريخ.قال - رحمه الله - في حديث طلق في الرُّخصة في ترك الوضوء من مَسَّ الذكر، ومعارضته بحديث أبي هريرة وغيره: "أن حديث طلق لو صح، لكان حديث أبي هريرة ومن معه مُقَدَّماً عليه؛لأن طَلْقاً قَدِم المدينة وهم يبنون المسجد، فذكر الحديث، وفيه قصة مس الذكر، وأبو هريرة أسلم عام خيبر بعد ذلك بست سنين، وإنما يُؤْخَذُ بالأحدث فالأحدثِ من أمره صلى الله عليه وسلم"1.2- وجود قرائن تدل على تأخر أحد الخَبَرين.فقد استدلَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - على نسخ حديث أبي هريرة مرفوعاً: " من أَدْرَكَه الفجر جنباً فلا يصوم ". بما رواه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من " أنه كان يصبح جنباً ويصوم "، فقال في تأييد القول بنسخ حديث أبي هريرة: "لا يصح أن يكون آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبطال الصوم بذلك؛ لأن أزواجه أعلم الأمة بهذا الحكم، وقد أخبرن بعد وفاته: أنه كان يصبح جنباً ويصوم. ولو كان هذا هو المتقدم لكان المعروف عند أزواجه مثل حديث أبي هريرة، ولم يحتج أزواجه بفعله الذي كان يفعله ثم نسخ، ومحال أن يخفى هذا عليهن؛ فإنه كان يقسم بينهن إلى أن مات في الصوم والفطر"2.__________1 تهذيب السنن: (1/135) .2 تهذيب السنن: (3/266 - 267) .

(1/496)

شروط تحقق النسخ:لابد للحكم بالنسخ في الخبرين المتعارضين من توافر بعض الشروط، وقد وَقَعَ في كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - ذكر شيء من هذه الشروط، فمن ذلك:قوله - رحمه الله - في الرد على من ادعى أن التمتع في الحج منسوخ: "أما العذر الأول، وهو النسخ، فيحتاج إلى أربعة أمور ... يحتاج إلى:- نصوص أخر،- تكون تلك النصوص معارِضَة لهذه،- ثم تكون - مع هذه المعارضة - مُقَاوِمة لها،- ثم يثبتُ تأخرها عنها"1.وأشار مرة إلى بعض هذه الشروط، فقال في حديث عبد الله بن حمار في ترك قتل شارب الخمر في الرابعة، وأنه ناسخ للأمر بقتله في الرابعة:"وأما ادعاء نسخه بحديث عبد الله بن حمار، فإنما يتم بـ:- ثبوت تأخره،- والإتيان به بعد الرابعة،- ومنافاته للأمر بقتله"2.__________1 زاد المعاد: (2/187) .2 تهذيب السنن: (6/237) .

(1/497)

ففي هذا تصريح منه - رحمه الله - بضرورة أن يكون الناسخ متأخراً، وأن يعارض المنسوخ معارضة لا يمكن معها الجمع بينهما.وعَبَّر - رحمه الله - عن ذلك مرة بقوله:"لا يمكن إثباته - يعني النسخ - إلا بعد أمرين:أحدهما: ثبوت معارضته المقاوم له.والثاني: تأخره عنه"1.وقال - رحمه الله - في الردِّ على من ذهب إلى أن القيام للجنازة- قيام تابعها، ومن مرت به، والمشيع عند القبر - منسوخ، رد على ذلك بقوله: "وهذا المذهب ضعيف من ثلاثة أوجه: أحدها: أن شرطَ النسخ: المعارضةُ، والتأخرُ. وكلاهما منتف في القيام على القبر بعد الدفن، وفي استمرار قيام المشيعين حتى توضع ... "2.ويؤكد ابن القَيِّم - رحمه الله - ضرورة مقاومة الناسخ - في الصحة والقوة - للمنسوخ، فيقول في حديث بريدة رضي الله عنه مرفوعاً في الإذن في الإقران بين التمرتين، وأنه ناسخ لحديث ابن عمر رضي الله عنه في النهي عن ذلك: "وهذا الذي قالوه - يعني ادعاء النسخ - إنما يصح لو ثبت حديث بريدة، ولا يثبت مثله ... "3.__________1 تهذيب السنن: (4/173) .2 تهذيب السنن: (4/312) .3 تهذيب السنن: (5/332) .

(1/498)

فتلخص من ذلك: أن الشروط التي قررها ابن القَيِّم - رحمه الله - للحكم بالنسخ، هي:1- عدمُ إمكان الجمع بين الخَبَرَين.2- صَلاحِية كلٍّ منهما للحُجَّة.3 - معرفةُ الْمُتَأَخِّرِ.أما عدم إمكان الجمع بينهما: فلأن الجمع أولى من المصير إلى النسخ، قال الحازمي رحمه الله: " ... فَإِنْ أَمْكن الجمع جمع ... ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجه يكون أعم للفائدة كان أولى؛ صوناً لكلامه - بأبي هو وأمي - عن سمات النقص"1.وأما اشتراط صلاحية كل من الخبرين للحجة: فلأن القويَّ لا تُؤَثِّر فيه مخالفة الضعيف2، فضلاً عن أن يقاومه فينسخه.وأما اشتراط ثبوت تأخر أحد الخبرين: فقد أشار إليه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بقوله: "فإن عرف - يعني التاريخ - وثبت المتأخر به أو بأصرح منه: فهو الناسخ والآخر المنسوخ"3.__________1 الاعتبار: (ص 9) .2 انظر: نزهة النظر: (ص37) .3 نزهة النظر: (ص 38) .

(1/499)

المبحث السادس عشر: مُخْتَلِفُ الحديثتعريفه: قال النووي رحمه الله: "هو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهراً، فَيُوَفَّقُ بينهما أو يرجَّح أحدهما"1.أقسامه: ينقسم مختلف الحديث إلى قسمين:أحدهما: أن يمكن الجمع بين الحديثين، فَيَتَعَيَّن حينئذ المصير إلى ذلك، والقول بهما جميعاً.الثاني: أن يتضادا بحيث لا يمكن الجمعُ بينهما، وهذا يكون على ضربين:1- أن يظهر كون أحدهما ناسخاً والآخر منسوخاً، فَيُعْمَلُ بالناسخ ويَتْرَكُ المنسوخ.2- أن لا تقوم دلالة على النسخ، فَيُصَارُ إلى ترجيحِ أحدهما على الآخرِ بوجه من وجوه الترجيح2.فَتَبَيَّنَ من ذلك: الخطوات التي ينبغي أن تسلك فيما ظاهره التعارض، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "فصار ما ظاهره التعارض واقعاً على هذا الترتيب:__________1 التقريب: (ص33) .2 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص 143) ، والتدريب: (2/196- 198) .

(1/501)

- الجمع إن أمكن،- فاعتبار الناسخ والمنسوخ،- فالترجيح إن تعين،- ثم التوقف عن العمل بأحد الحديثين"1.وقد بَيَّنَ ابن القَيِّم - رحمه الله - أنَّ الأحاديث التي ظاهرها التعارض لا تخرج عن أحد ثلاث حالات، فقال: "فإذا وقع التعارض:- فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتاً، فالثقة يغلط.- أو يكون أحد الحديثين ناسخاً للآخر إذا كان مما يقبل النسخ.- أو يكون التعارض في فهم السامع، لا في نفس كلامه صلى الله عليه وسلم.فلابد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة"2.فقد بَيَّنَ ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذه القسمة العقلية أن الحديثين إذا وقع بينهما تعارض: فإما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قالهما، أو أن أحدهما لا يكون من كلامه، ويكون أحد الرواة غلط فجعله من كلامه، كمن يرفع الموقوف أو يزيد لفظة ليست من كلامه صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك.__________1 نزهة النظر: (ص 39) .2 زاد المعاد: (4/149) .

(1/502)

فإذا ثبت أن أحد الخبرين ليس من كلامه فلا إشكال، فإن الضعيف لا يُعَارَضُ به الثابت الصحيح.وأما إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قالهما جميعاً: فإنه ينظر في نسخ أحدهما بالآخر إذا ثبت تأخر أحدهما. فإن لم نجد سبيلاً إلى نسخ أحدهما بالآخر، فإنه يتعين الجمع بينهما، وحينئذ لا يكون هناك تعارض في واقع الأمر، وإنما التعارض في فهم السامع.شرط وقوع التعارض:لابد للحكم على حديثين بالتعارض، وجعلهما من باب مختلف الحديث: أن يكون كل منهما مُحْتَجًّا به، أما إن كان أحدهما لا يُقْبَلُ بحال، فإنه لا يُعَارَضُ به القوي؛ إذ إنه - والحالة هذه - لا أَثَر له.وقد بين ابن القَيِّم - رحمه الله - ذلك وأكده، فقال: "لا يجوز معارضة الأحاديث الثابتة بحديث من قد أجمع علماء الحديث على ترك الاحتجاج به"1.وقال: "ومعارضة الأحاديث الباطلة للأحاديث الصحيحة لا توجب سقوط الحكم بالصحيحة، والأحاديث الصحيحة يصدق بعضها بعضاً"2.__________1 تهذيب السنن: (6/324) .2 أحكام أهل الذمة: (2/641) .

(1/503)

ذِكْرُ بعض وجوه الترجيح التي استعملها ابن القَيِّم رحمه الله:فمن وجوه الترجيح التي استعملها عند التعارض، أو أشار إليها:1- أن يكون رواة أحد الخبرين من أهل الرجل - صاحب القصة - وخاصته، فإنهم أعلم به من غيرهم، فيقدم خبرهم.قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في قصة توبة كعب بن مالك وانخلاعه من ماله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: "أمسك عليك بعض مالك" من غير تعيين لقدره، وما عارض ذلك من أنه عَيَّنَ له الثلث، قال مُقَدِّماً رواية عدم التعيين:"فإن الصحيح ... ما رواه أصحاب الصحيح من حديث الزهري، عن ولد كعب بن مالك، عنه ... وهم أعلمُ بالقصةِ من غيرهم؛ فإنهم وَلَدُهُ، وعنه نقلوها"1.وقال في حديث جابر رضي الله عنه في قصة الصلاة على شهداء أحد: "وحديث جابر بن عبد الله في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح، وأبوه عبد الله أحد القتلى يومئذ، فله من الخبرة ما ليس لغيره"2.2- أن يكون عمل الصحابة أو أكثرهم - ولاسيما الخلفاء__________1 زاد المعاد: (3/586 - 587) .2 تهذيب السنن: (4/296) .

(1/504)

الراشدين - موافقاً لأحد الخبرين، فيقدم على ما لم يكن كذلك.قال أبو داود رحمه الله: "إذا تنازع الخبران عن النبي صلى الله عليه وسلم، ينظر بما أخذ به أصحابه"1.قال ابن القَيِّم في ترجيحه أحاديث المزارعة على غيرها: "الأحاديث إذا اختلفت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ينظر إلى ما عمل به أصحابه من بعده، وقد تقدم ذكر عمل الخلفاء الراشدين، وأهليهم، وغيرهم من الصحابة بالمزارعة"2.وقال عند الكلام على أحاديث نقض الوضوء بمس الذَّكَر: "لو قُدِّر تعارض الخبرين من كل وجه، لكان الترجيح لحديث النقض؛ لقول أكثر الصحابة به: منهم: عمر بن الخطاب، وابنه، وأبو أيوب الأنصاري، وزيد بن خالد، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وعائشة، وأم حبيبة، وبسرة بنت صفوان رضي الله عنهم ... "3.قال الحازمي - رحمه الله - في وجه الترجيح بعمل الصحابة والخلفاء: " ... فيكون إلى الصحة أقرب، والأخذ به أصوب"4.__________1 السنن: (2/428) .2 تهذيب السنن: (5/60) .3 تهذيب السنن: (1/135) .4 الاعتبار: (ص19) .

(1/505)

3- أن يكون أحد الخبرين جاء بالشك، والآخر مجزوماً به، فَتُقَدَّم روايةُ الجازم على رواية الشاكِّ.قال ابن القَيِّم في حديث تعريف اللُّقَطَة، وتقديم الرواية التي فيها التعريف سَنَة، على حديث أُبَيٍّ الذي فيه: أن التعريف ثلاث سنين: "ووقع الشك في رواية حديث أُبَيِّ بن كعب أيضاً: هل ذلك في سنة أو في ثلاث سنين؟ وفي الأخرى: عامين أو ثلاثة؟ فلم يجزم، والجازم مَقَدَّمٌ"1.وقال عند الكلام على رمي الجمرة، وقول ابن عباس رضي الله عنه: "ما أدري أَرَمَاهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم بست أو بسبع؟: "قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رمى الجمرة بسبع حصيات من رواية: ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر. وشكُّ الشاكِّ لا يُؤَثِّرُ في جَزْمِ الجازم"2.4- تقديم ما أخرجاه في "الصحيحين" أو أحدهما على ما لم يُخَرَّجْ فيهما3.قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في قصة صلاة معاذ بقومه وتطويله عليهم:__________1 تهذيب السنن: (2/268) .2 تهذيب السنن: (2/417 - 418) .3 وقد ذكر العراقي ذلك من المرجحات، التقييد والإيضاح: (ص 289) .

(1/506)

"الذي في الصحيحين: أنه قرأ سورة البقرة ... وقصة قراءته بـ (اقتربت) لم تُذْكَر في الصحيح، والذي في الصحيح أولى بالصحة منها"1.5- تقديم خبر الْمُثْبتِ على خبرِ النَّافي؛ لأن المثبت معه زيادة علم خَفِيَتْ على النافي.قال ابن القَيِّم في حديث جابر في الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد وإقامتين، وما جاء في حديث أسامة بن زيد من قوله: "أُقِيْمت الصلاة فصلَّى المغرب ... ثم أقَيِّمت العشاء فصلاها" قال في حديث أسامة هذا: " ... وسكت عن الأذان ... بل لو نفاه جملة، لَقُدِّمَ عليه حديث من أَثْبَتَهُ؛ لِتَضَمُّنِهِ زيادة خفيت على النافي"2.وقال - رحمه الله - في الأحاديث التي تثبت سجوده صلى الله عليه وسلم في المفصل، والأحاديث التي تنفي ذلك: "فلو تعارض الحديثان من كل وجه، وتقاوما في الصحة، لَتَعَيَّنَ تقديم حديث أبي هريرة؛ لأنه مثبتٌ معه زيادةُ علمٍ خفيت على ابن عباس"3.6- أن يكون أحد الحديثين قد اختلفت الرواية فيه، والآخر لم__________1 الصلاة: (ص 191 - 192) .2 تهذيب السنن: (2/402) .3 زاد المعاد: (1/364) .

(1/507)

تختلف، فَيُقَدَّمُ الذي لم يختلف على غيره1.قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في ترجيح حديث بُسْرَة في نقض الوضوء بِمَسِّ الذَّكَر على حديث طَلْق في عدم النقض:"أن طلقاً قد اختلفت الرواية عنه، فروي عنه: "هل هو إلا بضعة منك؟ " وروى أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه مرفوعاً: "من مسَّ فرجه فليتوضأ"" 27- الترجيح بكثرة عدد الرواة لأحد الخبرين.قال الحازمي: "وهي مؤثرة في باب الرواية؛ لأنها تقرب مما يوجب العلم، وهو التواتر"3. وقال السيوطي: "لأن احتمال الكذب والوهم على الأكثر أبعد من احتماله على الأقل"4.وقد رَجَّحَ ابن القَيِّم - رحمه الله - بالكثرة، فقال في أحاديث النقض بمس الذكر أيضاً: "أن رواة النقض أكثر ... فإنه من رواية: بسرة، وأم حبيبة، وأبي هريرة، وأبي أيوب، وزيد بن خالد"5.وبعد، فهذه أبرز الْمُرَجِّحَات التي وقفتُ عليها في كلامِ ابن القَيِّم وأبحاثه في الترجيح بين الأخبار.__________1 وانظر: الاعتبار: (ص15) .2 تهذيب السنن: (1/135) .3 الاعتبار: (ص11) .4 تدريب الراوي: (2/198) .5 تهذيب السنن: (1/135) .

(1/508)

المبحث السابع عشر: معرفة من اختلط من الرواة الثقاتالْمُخْتَلِطِ:هو سيء الحفظ الذي يكون سوء الحفظ طارئاً عليه؛ لكبره، أو لذهاب بصره، أو لاحتراق كتبه، أو عَدَمِها: بأن كان يعتمدها فَرَجَعَ إلى حفظه فساء1.وحقيقة الاختلاط:"فساد العقل، وعدمُ انتظام الأقوالِ والأفعال: إما بِخِرَف أو ضرر، أو مرض، أوعرض: من موتِ ابن أو سرقة مالٍ كالمسعودي، أو ذهاب كتب: كابن لهيعة، أو احتراقها: كابن الملقن". قاله السخاوي2.حكم رواية الْمُخْتَلِطِ:الحكم في ذلك يكون باعتبار الرواة عن الْمُخْتَلِطِ:- فمن أخذ عنه قبل الاختلاط: قُبِلَ حديثه.- ومن أخذ عنه بعد الاختلاط، أو أشكل أمره، فلم يُدْرَ أخذ عنه بعد الاختلاط أو قبله: لم يُقْبل حديثه.__________1 نزهة النظر: (ص51) .2 فتح المغيث: (3/331) .

(1/509)

كذا قال غير واحد من أهل العلم1.ولكن إذا تُوبِع الْمُخْتَلِطِ - فيما روي عنه بعد الاختلاط - أو فيما لم يتميز من حديثه - فَوُجِدَ لروايته أصلٌ من غير طريقه: بأن وَافَقَهُ ثقة، أو مَنْ يَصْلُحُ حديثه للاعتبار: قُبِلَتْ روايته2.وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى أن الْمُخْتَلِطَ يُقْبَل حديثه إذا كان الراوي له أَخَذَ عنه قبل الاختلاط، فقال - في حديث لسعيد الجُريري من رواية يزيد بن هارون عنه - وقد أخذ عنه بعد الاختلاط -:"إن حماد بن سلمة قد تابع يزيد بن هارون على روايته ... وسماع حماد منه قديم"3. يعني: فيكون مقبولاً.وقال في حديث أبي هريرة مرفوعاً: " من صَلَّى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه" - وقد روى من طريق: ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة -:"وهذا الحديث حسن؛ فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه، وسماعُهُ منه قديمٌ قبل اختلاطِهِ، فلا يكون اختلاطه موجباً لرد ما حَدَّثَ به قبل الاختلاط"4.__________1 انظر: مقدمة ابن الصلاح: (ص195) ، وتدريب الراوي: (2/372) .2 انظر: نزهة النظر: (ص 51 - 52) .3 تهذيب السنن: (3/426) .4 زاد المعاد: (1/501) . وانظر: تهذيب السنن: (4/325) .

(1/510)

وقال في حديث السِّعَاية - وقد روى من طريق سعيد بن أبي عروبة -:"وسعيدٌ وإن كان قد اختلط في آخر عمره، فهذا الحديث من رواية: يزيد بن زريع، وعبدة، وإسماعيل، والجِلَّة عن سعيد، وهؤلاء أعلم بحديثه، ولم يرووا عنه إلا ما كان قبل اختلاطه؛ ولهذا أخرج أصحاب الصحيح حديثهم عنه"1.فهكذا نجدُ ابن القَيِّم - رحمه الله - يُقَرِّرُ ما ذهبَ إليه أئمة هذا الشأن: من قبول رواية الْمُخْتَلِطِ إذا كانت من رواية من أَخَذَ عنه قبل اختلاطه، ويؤكد أن ما وُجِدَ من ذلك في "الصحيحين" فإنه محمول على هذا2.وأما إذا كانت رواية الْمُخْتَلِطِ لم تأت إلا من طريق من أخذ عنه بعد اختلاطه، فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يرَ رَدَّ ذلك مطلقاً، ولا جعله عِلَّةً دائماً، بل يرى أنه لابد من ضبطه بضابطٍ، فقال مرة في رواية يزيد بن هارون، عن سعيد الجريري، وقد روى عنه بعد الاختلاط: "هذا إنما يكون علة إذا كان الراوي ممن لا يُمَيِّزُ حديث الشيخ صحيحه من سقِيمه. وأما يزيد بن هارون وأمثاله إذا رووا عن رجل قد وقع في حديثه بعض الاختلاط، فإنهم يميزون حديثه وينتقونه"3.__________1 تهذيب السنن: (5/399) .2 وانظر: تدريب الراوي: (2/380) .3 تهذيب السنن: (3/426 - 427) .

(1/511)

وهذا الكلام منه - رحمه الله - فيه إطلاق لابد من ضبطه وتقييده، فَيُقَالُ: يُقبل حديث من روى عن الْمُخْتَلِطِ في الاختلاط: إذا كان ممن يَنْتَقِي من حديثه، ويميزُ بين الصحيح والسقَيِّم، بتصريحه أو نحو ذلك، كما كان من حال وكيع بن الجراح مع سعيد بن أبي عروبة، فقد قال له يحيى بن معين: تُحَدِّثُ عن سعيد بن أبي عروبة، وإِنَّمَا سمعت منه في الاختلاط؟ قال: رأيتني حدثت عنه إلا بحديث مُسْتَوٍ؟ 1. فهذا التصريح من وكيع - رحمه الله - يدل على أنه ينتقي من حديثه، وأما من لم يصرِّح بذلك، ولم يأت عنه دليل آخر يفيد ذلك: فإن الأمر بالنسبة له محل توقف، والله أعلم.__________1 الكفاية: (ص 217) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج2. باقي صحيح السيرة النبوية تحقيق الشيخ الألباني مراجع ومدقق {من 130. الي234.}

  ج2. صحيح السيرة {ج2. باقي صحيح السيرة النبوية  تحقيق  الشيخ الألباني مراجع ومدقق {من 130. الي234.} صفحة رقم -130 - قال : قلت : من غف...