السؤال باسم الله الأعظم

وسمع آخر يقول في تشهده أيضا : ( أبو داود والنسائي وأحمد والبخاري في الأدب المفرد ) ( اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت [ وحدك لا شريك لك ] [ المنان ] [ يا ] بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم [ إني أسألك ] [ الجنة وأعوذ بك من النار ] . [ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( تدرون بما دعا ؟ ) قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ( والذي نفسي بيده ] لقد دعا الله باسمه العظيم ( وفي رواية : الأعظم ) الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى}

الأحد، 25 فبراير 2024

ج.النبوة والأنبياء في القرآن والسنة

 

النبوة والأنبياء في القرآن والسنة 

 الباب الأول صفات الأنبياء وصفة دعوتهم وموقف الناس منها النبوة والأنبياء في القرآن والسنة النبوة والأنبياء في القُرآنِ والسنَّةِ إعداد الباحث في القرآن والسنَّة علي بن نايف الشحود (( حقوق الطبع متاحة لجميع الهيئات العلمية والخيرية ))

  بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، القائل في محكم كتابه العزيز : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) } [الشورى/13] والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، القائل : " الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ دِينُهُمْ وَاحِدٌ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ فَإِنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبْطٌ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيُعَطِّلُ الْمِلَلَ حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا غَيْرَ الْإِسْلَامِ وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ الْكَذَّابَ وَتَقَعُ الْأَمَنَةُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الْإِبِلُ مَعَ الْأُسْدِ جَمِيعًا وَالنُّمُورُ مَعَ الْبَقَرِ وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ وَالْغِلْمَانُ بِالْحَيَّاتِ لَا يَضُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُونَهُ"مسند أحمد (9632 ) صحيح لغيره صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا . وبعد : فإن الأنبياء عليهم الصلاة وأتم التسليم هم أكمل البشر وأفضلهم ، وأصلحهم ، وهم المثل الأعلى للناس في كل خير ، قال تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) } [الأنعام/83-90] ومن ثمَّ فقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز صفاتهم ، وتاريخ حياتهم ، ودعوتهم ، وعلاقتهم بالناس ،بشكل مفصل . وسبق لي أن كتبت كتابا مختصراً عن حياة الأنبياء ، فكلاهما يكمل الآخر . وقد كتب العديدون في هذا الموضوع ، منهم الندوي النبوة والأنبياء في ضوء القرآن الكريم . ولكن تركيزنا كان بالدرجة الأولى على القرآن الكريم ، ثم على السنَّة النبوية . وقد قسمته إلى ثلاثة أبواب : الباب الأول - صفات الأنبياء وصفة دعوتهم وموقف الناس منها ، تكلمت عن هذا بالتفصيل من خلال القرآن الكريم . الباب الثاني- عِصمَة الرّسُل عليهم الصلاة والسلام وقد تكلمت عنها باختصار ، وبينت أنواع العصمة ، وما هي الأشياء غير المعصومين منها الباب الثالث ... -خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تحدثت فيه عن أهم خصائصه في القرآن والسنة الباب الرابع- شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تحدثت عن شمائله العامة والخاصة باختصار ، وقد فصلتها في كتابي (( السيرة النبوية دروس وعبر )) وقد شرحت الآيات القرآنية باختصار ، والأحاديث قمت بتخريجها من مظانها باختصار . سائلا المولى جلَّ وعلا أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره في الدارين . الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود في 3 رمضان 1429 هـ الموافق ل 3/9/2008 م - - - - - - - - - - - - - - - الباب الأول صفات الأنبياء وصفة دعوتهم وموقف الناس منها التفاضلُ بين الرسل في الدرجات قال تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) [البقرة/253 ] يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أنَّ الرُّسُلَ الذِينَ ذَكَرَهُم قَدْ فَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي مَرَاتِبِ الكَمَالِ وَالشَّرَفِ ، فَخَصَّ بَعْضَهُمْ بِمَآثِرَ جَلِيلةٍ خَلاَ عَنْها غَيْرُهُ مَعَ اسْتِوائِهِمْ جَمِيعاً فِي اخْتِيارِهِ تَعَالَى لإِبْلاغِ رِسَالَتِهِ ، وَهدايَةِ خَلْقِهِ . فَمِنْهُم مُوسَى الذِي كَلَّمَهُ اللهُ مِنْ غَيْرِ سَفِيرٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَهُ اللهُ مَرَاتِبَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَيُؤَيِّدُهُ السِّيَاقُ أيْضاً . وَمِنْ هذِهِ الدَّرَجَاتِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأخْلاَقِهِ الشَرِيفَةِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِكِتَابِهِ وَشَرِيعَتِهِ { إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } ، وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُؤْتَ مِنَ المُعْجِزَاتِ أَعْظَمَ مِنَ مُعْجِزَةِ القُرآنِ . وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأمَّتِهِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } ( وَرُوِيَ عَن الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْلُهُ : " فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِياءِ بِسِتٍّ : أوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ ، وَأحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ ، وَجُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً ، وَأرْسِلْتُ إلى الخَلْقِ كَافَّةً ، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ " ) . وَفَضَّلَ اللهُ تَعَالَى عَيسَى عَلَيهِ السَّلاَمُ بِأنْ آتَاهُ البَيِّنَاتِ ( وَهِيَ مَا يُتََبَيَّنُ بِهِ الحَقُّ مِنَ الآيَاتِ وَالدَّلاَئِلِ ) ، وَأيَدَّهُ بِرُوحِ القُدْسِ ، ( وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيهِ السَّلاَمُ ) وَقَدْ خَصَّ اللهُ عِيسَى بِإيْتَاءِ البَيِّنَاتِ تَقْبِيحاً لإِفْرَاطِ اليَهُودِ فِي تَكْذِيبِهِ وَانْتِقَاصِهِ ، وَلإِفْراطِ النَّصَارَى فِي تَعْظِيمِهِ حَتَّى أَخْرَجُوهُ مِنْ مَرْتَبَةِ الرِّسَالَةِ إلى مَرْتَبَةِ الأُلُوهِيَّةِ . وَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ أنْ يُؤْمِنَ النَّاسُ جَمِيعاً ، وَألاَّ يَخْتَلِفُوا وَلاَ يَقْتَتِلُوا . وَلَوْ شَاءَ اللهُ أَلاَّ يَقْتتِلَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الرُّسُلُ بِالآيَاتِ الوَاضِحَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الحَقِّ ، لَمَا حَدَثَ اقْتِتَالٌ وَلاَ اخْتِلاَفٌ . وَلَكِنْ لَمْ يَشَأِ اللهُ ذَلِكَ ، وَلِهَذَا اخْتَلَفُوا ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ . وَقَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى المُسْلِمينَ عَنِ الاخْتِلافِ وَالتَّفَرُّقِ ، وَأمَرَهُمْ بِالاتِّحَادِ وَالوِئَامِ ، فَامْتَثَلُوا أمْرَهُ ثُمَّ عَادُوا إلى الاخْتِلاَفِ . وَلَوْ شَاءَ اللهُ جَمْعَهُمْ عَلَى الحَقِّ ، لَفَعَلَ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ لِحِكْمَةٍ لا يُقَدِّرُهَا إلاّ هُوَ . هذه الآية تلخص قصة الرسل والرسالات - كما أنها أفردت جماعة الرسل وميزتها من بين الناس - فهي تقرر أن الله فضل بعض الرسل على بعض؛ وتذكر بعض أمارات التفضيل ومظاهره . ثم تشير إلى اختلاف الذين جاءوا من بعدهم من الأجيال المتعاقبة - من بعد ما جاءتهم البينات - وإلى اقتتالهم بسبب هذا الاختلاف . كما تقرر أن بعضهم آمن وبعضهم كفر . وأن الله قد قدر أن يقع بينهم القتال لدفع الكفر بالإيمان ، ودفع الشر بالخير . . وهذه الحقائق الكثيرة التي تشير إليها هذه الآية تمثل قصة الرسالة وتاريخها الطويل . { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } . .والتفضيل هنا قد يتعلق بالمحيط المقدر للرسول . والذي تشمله دعوته ونشاطه . كأن يكون رسول قبيلة ، أو رسول أمة ، أو رسول جيل . أو رسول الأمم كافة في جميع الأجيال . . كذلك يتعلق بالمزايا التي يوهبها لشخصه أو لأمته . كما يتعلق بطبيعة الرسالة ذاتها ومدى شمولها لجوانب الحياة الإنسانية والكونية ..وقد ذكر النص هنا مثالين في موسى وعيسى - عليهما السلام - وأشار إشارة عامة إلى من سواهما :{ منهم من كلم الله - ورفع بعضهم درجات - وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } . . وحين يذكر تكليم الله لأحد من الرسل ينصرف الذهن إلى موسى - عليه السلام - ومن ثم لم يذكره باسمه . وذكر عيسى بن مريم - عليه السلام - وهكذا يرد اسمه منسوباً إلى أمه في أغلب المواضع القرآنية . والحكمة في هذا واضحة . فقد نزل القرآن وهناك حشد من الأساطير الشائعة حول عيسى - عليه السلام - وبنوته لله - سبحانه وتعالى - أو عن ازدواج طبيعته من اللاهوت والناسوت . أو عن تفرده بطبيعة إلهية ذابت فيها الطبيعة الناسوتية كالقطرة في الكأس! إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي غرقت الكنائس والمجامع في الجدل حولها؛ وجرت حولها الدماء أنهاراً في الدولة الرومانية! ومن ثم كان هذا التوكيد الدائم على بشرية عيسى - عليه السلام - وذكره في معظم المواضع منسوباً إلى أمه مريم . . أما روح القدس فالقرآن يعني به جبريل - عليه السلام - فهو حامل الوحي إلى الرسل . وهذا أعظم تأييد وأكبره . وهو الذي ينقل الإشارة الإلهية إلى الرسل بانتدابهم لهذا الدور الفذ العظيم ، وهو الذي يثبتهم على المضي في الطريق الشاق الطويل؛ وهو الذي يتنزل عليهم بالسكينة والتثبيت والنصر في مواقع الهول والشدة في ثنايا الطريق . . وهذا كله التأييد أما البينات التي آتاها الله عيسى - عليه السلام - فتشمل الإنجيل الذي نزله عليه ، كما تشمل الخوارق التي أجراها على يديه ، والتي ورد ذكرها مفصلة في مواضعها المناسبة من القرآن . تصديقاً لرسالته في مواجهة بني إسرائيل المعاندين! ولم يذكر النص هنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - لأن الخطاب موجه إليه . كما جاء في الآية السابقة في السياق : { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين . . تلك الرسل . . إلخ } . فالسياق سياق إخبار له عن غيره من الرسل . وحين ننظر إلى مقامات الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - من أية ناحية نجد محمداً - - صلى الله عليه وسلم - في القمة العليا . وسواء نظرنا إلى الأمر من ناحية شمول الرسالة وكليتها ، أو من ناحية محيطها وامتدادها ، فإن النتيجة لا تتغير . . إن الإسلام هو أكمل تصور لحقيقة الوحدة - وهي أضخم الحقائق على الإطلاق - وحدة الخالق الذي ليس كمثله شيء . ووحدة الإرادة التي يصدر عنها الوجود كله بكلمة : « كن » . ووحدة الوجود الصادر عن تلك الإرادة . ووحدة الناموس الذي يحكم هذا الوجود . ووحدة الحياة من الخلية الساذجة إلى الإنسان الناطق . ووحدة البشرية من آدم - عليه السلام - إلى آخر أبنائه في الأرض . ووحدة الدين الصادر من الله الواحد إلى البشرية الواحدة . ووحدة جماعة الرسل المبلغة لهذه الدعوة . ووحدة الأمة المؤمنة التي لبت هذه الدعوة . ووحدة النشاط البشري المتجه إلى الله وإعطائه كله اسم « العبادة » . ووحدة الدنيا والآخرة داري العمل والجزاء . ووحدة المنهج الذي شرعه الله للناس فلا يقبل منهم سواه . ووحدة المصدر الذي يتلقون عنه تصوراتهم كلها ومنهجهم في الحياة . . . ومحمد - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أطاقت روحه التجاوب المطلق مع حقيقة الوحدة الكبرى؛ كما أطاق عقله تصور هذه الوحدة وتمثلها؛ كما أطاق كيانه تمثيل هذه الوحدة في حياته الواقعة المعروضة للناس كذلك هو الرسول الذي أرسل إلى البشر كافة ، من يوم مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ والذي اعتمدت رسالته على الإدراك الإنساني الواعي دون ضغط حتى من معجزة مادية قاهرة ، ليعلن بذلك عهد الرشد الإنساني . ومن ثم كان هو خاتم الرسل . وكانت رسالته خاتمة الرسالات . ومن ثم انقطع الوحي بعده؛ وارتسمت للبشرية في رسالته تلك الوحدة الكبرى؛ وأعلن المنهج الواسع الشامل الذي يسع نشاط البشرية المقبل في إطاره؛ ولم تعد إلا التفصيلات والتفسيرات التي يستقل بها العقل البشري - في حدود المنهج الرباني - ولا تستدعي رسالة إلهية جديدة . وقد علم الله - سبحانه - وهو الذي خلق البشر؛ وهو الذي يعلم ما هم ومن هم؛ ويعلم ما كان من أمرهم وما هو كائن . . قد علم الله - سبحانه - أن هذه الرسالة الأخيرة ، وما ينبثق عنها من منهج للحياة شامل ، هي خير ما يكفل للحياة النمو والتجدد والانطلاق . فأيما إنسان زعم لنفسه أنه أعلم من الله بمصلحة عباده؛ أو زعم أن هذا المنهج الرباني لم يعد يصلح للحياة المتجددة النامية في الأرض؛ أو زعم أنه يملك ابتداع منهج أمثل من المنهج الذي أراده الله . . أيما إنسان زعم واحدة من هذه الدعاوى أو زعمها جميعاً فقد كفر كفراً صراحاً لا مراء فيه؛ وأراد لنفسه وللبشرية شر ما يريده إنسان بنفسه وبالبشرية؛ واختار لنفسه موقف العداء الصريح لله ، والعداء الصريح للبشرية التي رحمها الله بهذه الرسالة ، وأراد لها الخير بالمنهج الرباني المنبثق منها ليحكم الحياة البشرية إلى آخر الزمان . وبعد فقد اقتتل أتباع { تلك الرسل } . ولم تغن وحدة جماعة الرسل في طبيعتهم ، ووحدة الرسالة التي جاءوا بها كلهم . . لم تغن هذه الوحدة عن اختلاف اتباع الرسل حتى ليقتتلون من خلاف : { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم - من بعد ما جاءتهم البينات - ولكن اختلفوا : فمنهم من آمن ومنهم من كفر . ولو شاء الله ما اقتتلوا .ولكن الله يفعل ما يريد } . . إن هذا الاقتتال لم يقع مخالفاً لمشيئة الله . فما يمكن أن يقع في هذا الكون ما يخالف مشيئته - سبحانه - فمن مشيئته أن يكون هذا الكائن البشري كما هو . بتكوينه هذا واستعداداته للهدى وللضلال . وأن يكون موكولاً إلى نفسه في اختيار طريقه إلى الهدى أو إلى الضلال . ومن ثم فكل ما ينشأ عن هذا التكوين وإفرازاته واتجاهاته داخل في إطار المشيئة؛ وواقع وفق هذه المشيئة . كذلك فإن اختلاف الاستعدادات بين فرد وفرد من هذا الجنس سنة من سنن الخالق ، لتنويع الخلق - مع وحدة الأصل والنشأة - لتقابل هذه الاستعدادات المختلفة وظائف الخلافة المختلفة المتعددة المتنوعة . وما كان الله ليجعل الناس جميعاً نسخاً مكررة كأنما طبعت على ورق « الكربون » على حين أن الوظائف اللازمة للخلافة في الأرض وتنمية الحياة وتطويرها منوعة متباينة متعددة . . أما وقد مضت مشيئة الله بتنويع الوظائف فقد مضت كذلك بتنويع الاستعدادات ليكون الاختلاف فيها وسيلة للتكامل . وكلف كل إنسان أن يتحرى لنفسه الهدى والرشاد والإيمان . وفيه الاستعداد الكامن لهذا ، وأمامه دلائل الهدى في الكون ، وعنده هدى الرسالات والرسل على مدار الزمان . وفي نطاق الهدى والإيمان يمكن أن يظل التنوع الخير الذي لا يحشر نماذج الناس كلهم في قالب جامد! { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر } . .وحين يصل الاختلاف إلى هذا المدى ، فيكون اختلاف كفر وإيمان ، يتعين القتال . يتعين لدفع الناس بعضهم ببعض . دفع الكفر بالإيمان . والضلال بالهدى ، والشر بالخير . فالأرض لا تصلح بالكفر والضلال والشر . ولا يكفي أن يقول قوم : إنهم أتباع أنبياء إذا وصل الاختلاف بينهم إلى حد الكفر والإيمان . وهذه هي الحالة التي كانت تواجهها الجماعة المسلمة في المدينة يوم نزل هذا النص . . كان المشركون في مكة يزعمون أنهم على ملة إبراهيم! وكان اليهود في المدينة يزعمون أنهم على دين موسى . كما كان النصارى يزعمون أنهم على دين عيسى . . ولكن كل فرقة من هؤلاء كانت قد بعدت بعداً كبيراً عن أصل دينها ، وعن رسالة نبيها . وانحرفت إلى المدى الذي ينطبق عليه وصف الكفر . وكان المسلمون عند نزول هذا النص يقاتلون المشركين من العرب . كما كانوا على وشك أن يوجهوا إلى قتال الكفار من أهل الكتاب . ومن ثم جاء هذا النص يقرر أن الاقتتال بين المختلفين على العقيدة إلى هذا الحد ، هو من مشيئة الله وبإذنه : { ولو شاء الله ما اقتتلوا } . .ولكنه شاء . شاء ليدفع الكفر بالإيمان؛ وليقر في الأرض حقيقة العقيدة الصحيحة الواحدة التي جاء بها الرسل جميعاً فانحرف عنها المنحرفون . وقد علم الله أن الضلال لا يقف سلبياً جامداً ، إنما هو ذو طبيعة شريرة . فلا بد أن يعتدي ، ولا بد أن يحاول إضلال المهتدين ، ولا بد أن يريد العوج ويحارب الاستقامة . فلا بد من قتاله لتستقيم الأمور . { ولكن الله يفعل ما يريد } . .مشيئة مطلقة . ومعها القدرة الفاعلة . وقد قدر أن يكون الناس مختلفين في تكوينهم . وقدر أن يكونوا موكولين إلى أنفسهم في اختيار طريقهم . وقدر أن من لا يهتدي منهم يضل . وقدر أن الشر لا بد أن يعتدي ويريد العوج . وقدر أن يقع القتال بين الهدى والضلال . وقدر أن يجاهد أصحاب الإيمان لإقرار حقيقته الواحدة الواضحة المستقيمة؛ وأنه لا عبرة بالانتساب إلى الرسل من اتباعهم ، إنما العبرة بحقيقة ما يعتقدون وحقيقة ما يعملون . وأنه لا يعصمهم من مجاهدة المؤمنين لهم أن يكونوا ورثة عقيدة وهم عنها منحرفون . . وهذه الحقيقة التي قررها الله للجماعة المسلمة في المدينة حقيقة مطلقة لا تتقيد بزمان . إنما هي طريقة القرآن في اتخاذ الحادثة المفردة المقيدة مناسبة لتقرير الحقيقة المطردة المطلقة . ـــــــــــــ (1/1) صلة الرسل الأموات بالأحياء من الناس 1-أنهم أحياء في قبورهم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ "(1) ـــــــــــــ __________ (1) - مسند أبي يعلى الموصلي (3425) ومسند البزار (6888) والصحيحة (621) وصحيح الجامع (2790) صحيح (1/2) 2- لا تأكل الأرض أجسادهم عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ فَأَكْثِرُوا عَلَىَّ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَىَّ ». قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ يَقُولُونَ بَلِيتَ. فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ ».(1) ـــــــــــــ __________ (1) - سنن أبى داود(1049 ) صحيح -أَرَمَ : بلى -أرمت : بليت (1/3) عرض أعمالنا عليه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَبْدِ اللهِ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلامَ قَالَ : وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَنُحَدِّثُ لَكُمْ ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ ، فَمَا رَأَيْتُ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ ، وَمَا رَأَيْتُ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ.(1) وقد حاول الشيخ ناصر الألباني رحمه الله تضعيف هذا الحديث بحجة أنه روي عن غير عبد العزيز بن أبى رواد المكي دون الزيادة فاعتبرها شاذة أو منكرة(2). وجود العراقي سنده(3)،وقال السيوطي صحيحٌ إسناده(4). قلت:والصواب أنه حسن على الأقل لأمور: الأول- أن الأكثر على توثيق عبد العزيز بن أبى رواد المكى.(5) الثاني - هنا عندنا حديثان بسند واحد ليس إلا،فلا علاقة له بزيادة الثقات،إذ زيادة الثقات تكون عادة في الحديث نفسه زيادة ونقصاً،وليس في حديثين مختلفين لفظاً ومعنى . الثالث- أنه لم ينصَّ عالم من علماء الجرح والتعديل على تضعيف هذه الرواية،فدلَّ على قبولها عندهم،بل نصوا على تقويتها. الرابع - هناك حديث صحيح مرسل روي عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَيُحَدَّثُ لَكُمْ وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا كَانَ مِنْ حَسَنٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا كَانَ مِنْ سَيِّئٍ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ "(6) وَأَخْرَجَ اِبْن الْمُبَارَك فِي الزُّهْد مِنْ طَرِيق عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ:" لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ إِلَّا يُعْرَضُ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُمَّتُهُ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً،فَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ،لِيَشْهَدَ عَلَيْهِمْ،يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا "(7) ويقويه أيضاً حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:« مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَىَّ إِلاَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَىَّ رُوحِى حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ »(8). ـــــــــــــ __________ (1) - مسند البزار 1-14 - (ج 2 / ص 458) برقم(1925) والإتحاف 9/176 و177 ومطالب (3853) وإتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (ج 7 / ص 30) برقم(6412) وهو حديث حسن (2) السلسلة الضعيفة (ج 2 / ص 474) ، رقم(975)، الحويني، الفتاوى الحديثية ،(ج 2 / ص 16). (3) - طرح التثريب، (ج 4 / ص 308) و(3/297). (4) -الخصائص، (2/491) (5) - انظر تهذيب الكمال[ ج18 - ص 136 ] برقم(3447 ). (6) - أخرجه في بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث - (ج 2 / ص 884) برقم(953) وفي فضل الصلاة على النبي لإسماعيل بن إسحاق - (ج 1 / ص 25) برقم (24و25) من طرق عنه وهو صحيح مرسل مما يقوي بيقين حديث عبد المجيد ويردُّ الوهم عنه (7) - فتح الباري لابن حجر - (ج 14 / ص 279) وعمدة القاري شرح صحيح البخاري - (ج 21 / ص 160و162 ) وتحفة الأحوذي - (ج 7 / ص 345) وسكتوا عليه . والزُّهْدُ وَالرَّقَائِقُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ(1778) وفيه رجل من الأنصار لم يسمََّ . (8) - سنن أبى داود(2043 ) وهو حديث صحيح لغيره . (1/4) صلاة الأنبياء عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَتَيْتُ - وَفِى رِوَايَةِ هَدَّابٍ مَرَرْتُ - عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِى عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى قَبْرِهِ ».(1) وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ.(2) قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ ، رُبَّمَا يَعِدُ الشَّيْءَ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ ، ثُمَّ يَقْضِي كَوْنَ بَعْضِ ذَلِكَ الشَّيْءِ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، كَوَعْدِهِ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجَعْلِهِ مَحْدُودًا ، ثُمَّ قَضَى كَوْنَ مِثْلِهِ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ ، مِثْلَ مَنْ ذَكَرَهُ اللَّهُ وَجَعَلَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ فِي كِتَابِهِ ، حَيْثُ يَقُولُ : {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ ، وَكَإِحْيَاءِ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ بَعْضَ الأَمْوَاتِ. فَلَمَّا صَحَّ وجودُ كَوْنِ هَذِهِ الْحَالَةِ فِي الْبَشَرِ ، إِذَا أَرَادَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لَمْ يُنْكَرْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ أَحْيَا مُوسَى فِي قَبْرِهِ حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ ، وَذَاكَ أَنَّ قَبْرَ مُوسَى بِمُدَّيْنِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَرَآهُ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو فِي قَبْرِهِ إِذِ الصَّلاَةُ دُعَاءٌ ، فَلَمَّا دَخَلَ - صلى الله عليه وسلم - بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأُسْرِيَ بِهِ ، أُسْرِيَ بِمُوسَى حَتَّى رَآهُ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ ، وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنَ الْكَلاَمِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ ، وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُهُ سَائِرَ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ فِي خَبَرِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ. فَأَمَّا قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي خَبَرِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ : بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ إِذْ أَتَانِي آتٍ ، فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ لَهُ فَضِيلَةٌ فُضِّلَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ ، وَأَنَّهُ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ ، إِذِ الْبَشَرُ إِذَا شُقَّ عَنْ مَوْضِعِ الْقَلْبِ مِنْهُمْ ، ثُمَّ اسْتُخْرِجَ قُلُوبُهُمْ مَاتُوا. وَقَوْلُهُ : ثُمَّ حُشِيَ يُرِيدُ : أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ حَشَا قَلْبَهُ الْيَقِينَ وَالْمَعْرِفَةَ ، الَّذِي كَانَ اسْتِقْرَارُهُ فِي طَسْتِ الذَّهَبِ ، فَنُقِلَ إِلَى قَلْبِهِ. ثُمَّ أُتِيَ بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا : الْبُرَاقُ ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَطِيمِ أَوِ الْحِجْرِ ، وَهُمَا جَمِيعًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَانْطَلَقَ بِهِ جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى بِهِ عَلَى قَبْرِ مُوسَى عَلَى حَسَبِ مَا وَصَفْنَاهُ ، ثُمَّ دَخَلَ مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَخَرَقَ جِبْرِيلُ الصَّخْرَةَ بِإِصْبَعِهِ ، وَشَدَّ بِهَا الْبُرَاقَ ، ثُمَّ صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. ذِكْرُ شَدِّ الْبُرَاقِ بِالصَّخْرَةِ فِي خَبَرِ بُرَيْدَةَ ، وَرُؤْيَتِهِ مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ لَيْسَا جَمِيعًا فِي خَبَرِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ. فَلَمَّا صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، اسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ، قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ يُرِيدُ بِهِ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ لِيُسْرَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ ، لاَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِرِسَالَتِهِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ ، لأَنَّ الإِسْرَاءَ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ بِسَبْعِ سِنِينَ ، فَلَمَّا فُتِحَ لَهُ فَرَأَى آدَمَ عَلَى حَسَبِ مَا وَصَفْنَا قَبْلُ. وَكَذَلِكَ رُؤْيَتُهُ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا ، وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، وَفِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ ، وَفِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ إِدْرِيسَ ، ثُمَّ فِي السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ هَارُونَ ، ثُمَّ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ مُوسَى ، ثُمَّ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِبْرَاهِيمَ ، إِذْ جَائِزٌ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ أَحْيَاهُمْ لأَنْ يَرَاهُمُ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ آيَةً مُعْجِزَةً يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى نُبُوَّتِهِ عَلَى حَسَبِ مَا أَصَّلْنَا قَبْلُ. ثُمَّ رُفِعَ لَهُ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى ، فَرَآهَا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي وَصَفَ. ثُمَّ فُرِضَ عَلَيْهِ خَمْسُونَ صَلاَةً ، وَهَذَا أَمْرُ ابْتِلاَءٍ أَرَادَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ ابْتِلاَءَ صَفِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - حَيْثُ فَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلاَةً ، إِذْ كَانَ فِي عِلْمِ اللهِ السَّابِقِ أَنَّهُ لاَ يَفْرِضُ عَلَى أُمَّتِهِ إِلاَّ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فَقَطْ ، فَأَمَرَهُ بِخَمْسِينَ صَلاَةً أَمْرَ ابْتِلاَءٍ ، وَهَذَا كَمَا نَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ قَدْ يَأْمُرُ بِالأَمْرِ يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ الْمَأْمُورُ بِهِ إِلَى أَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرِيدَ وُجُودَ كَوْنِهِ ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ ، أَمَرَهُ بِهَذَا الأَمْرِ أَرَادَ بِهِ الاِنْتِهَاءَ إِلَى أَمْرِهِ دُونَ وُجُودِ كَوْنِهِ ، فَلَمَّا أَسْلَمَا ، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، فَدَاهُ بِالذِّبْحِ الْعَظِيمِ ، إِذْ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ كَوْنَ مَا أَمَرَ ، لَوَجَدَ ابْنَهُ مَذْبُوحًا ، فَكَذَلِكَ فَرَضَ الصَّلاَةَ خَمْسِينَ أَرَادَ بِهِ الاِنْتِهَاءَ إِلَى أَمْرِهِ دُونَ وُجُودِ كَوْنِهِ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مُوسَى ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ أُمِرَ بِخَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ ، أَلْهَمَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَسْأَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ بِسُؤَالِ رَبِّهِ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِهِ ، فَجَعَلَ جَلَّ وَعَلاَ قَوْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَهُ سَبَبًا لِبَيَانِ الْوُجُودِ لِصِحَّةِ مَا قُلْنَا : إِنَّ الْفَرْضَ مِنَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ أَرَادَ إِتْيَانَهُ خَمْسًا لاَ خَمْسِينَ. فَرَجَعَ إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلاَ فَسَأَلَهُ ، فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرًا ، وَهَذَا أَيْضًا أَمْرُ ابْتِلاَءٍ أُرِيدَ بِهِ الاِنْتِهَاءُ إِلَيْهِ دُونَ وُجُودِ كَوْنِهِ ، ثُمَّ جَعَلَ سُؤَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِيَّاهُ سَبَبًا لِنَفَاذِ قَضَاءِ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ ، أَنَّ الصَّلاَةَ تُفْرَضَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ خَمْسًا لاَ خَمْسِينَ ، حَتَّى رَجَعَ فِي التَّخْفِيفِ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ. ثُمَّ أَلْهَمَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ صَفِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ حَتَّى قَالَ لِمُوسَى : قَدْ سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ ، لَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ ، فَلَمَّا جَاوَزَ نَادَاهُ مُنَادٍ : أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي ، أَرَادَ بِهِ الْخَمْسَ صَلَوَاتٍ ، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي ، يُرِيدُ : عَنْ عِبَادِي مِنْ أَمْرِ الاِبْتِلاَءِ الَّذِي أَمَرْتُهُمْ بِهِ مِنْ خَمْسِينَ صَلاَةٍ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَجُمْلَةُ هَذِهِ الأَشْيَاءِ فِي الإِسْرَاءِ رَآهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِجِسْمِهِ عِيَانًا دُونَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رُؤْيَا أَوْ تَصْوِيرًا صُوِّرَ لَهُ ، إِذْ لَوْ كَانَ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ وَمَا رَأَى فِيهَا نَوْمًا دُونَ الْيَقَظَةِ ، لاَسْتَحَالَ ذَلِكَ ، لأَنَّ الْبَشَرَ قَدْ يَرَوْنَ فِي الْمَنَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْمَلاَئِكَةَ وَالأَنْبِيَاءَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الأَشْيَاءَ ، فَلَوْ كَانَ رُؤْيَةُ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - مَا وَصَفَ فِي لَيْلَةِ الإِسْرَاءِ فِي النَّوْمِ دُونَ الْيَقَظَةِ ، لَكَانَتْ هَذِهِ حَالَةٌ يَسْتَوِي فِيهَا مَعَهُ الْبَشَرُ ، إِذْ هُمْ يَرَوْنَ فِي مَنَامَاتِهِمْ مِثْلَهَا ، وَاسْتَحَالَ فَضْلُهُ ، وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ حَالَةً مُعْجِزَةً يُفَضَّلُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ ، ضِدَّ قَوْلِ مَنْ أَبْطَلَ هَذِهِ الأَخْبَارَ ، وَأَنْكَرَ قُدْرَةَ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ وَإِمْضَاءَ حُكْمِهِ لِمَا يُحِبُّ كَمَا يُحِبُّ ، جَلَّ رَبُّنَا وَتَعَالَى عَنْ مِثْلِ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ.(3) ـــــــــــــ __________ (1) - صحيح مسلم (6306) (2) - صحيح ابن حبان - (ج 1 / ص 241) (49) صحيح (3) - صحيح ابن حبان - (ج 1 / ص 242) (1/5) الصلاة بالأنبياء عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: أُتِيتُ بِدَابَّةٍ فَوْقَ الْحِمَارِ ، وَدُونَ الْبَغْلِ ، خَطْوُهَا عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهَا ، فَرَكِبْتُ ، وَمَعِي جِبْرِيلُ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَسِرْتُ ، فَقَالَ : انْزِلْ فَصَلِّ ، فَفَعَلْتُ ، فَقَالَ : أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ ؟ صَلَّيْتَ بِطَيْبَةَ ، وَإِلَيْهَا الْمُهَاجَرُ ، ثُمَّ قَالَ : انْزِلْ فَصَلِّ ، فَصَلَّيْتُ ، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ ؟ صَلَّيْتَ بِطُورِ سَيْنَاءَ ، حَيْثُ كَلَّمَ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، مُوسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ قَالَ : انْزِلْ فَصَلِّ ، فَنَزَلْتُ فَصَلَّيْتُ ، فَقَالَ : أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ ؟ صَلَّيْتَ بِبَيْتِ لَحْمٍ ، حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ دَخَلْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، فَجُمِعَ لِيَ الأَنْبِيَاءُ ، عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ ، فَقَدَّمَنِى جِبْرِيلُ حَتَّى أَمَمْتُهُمْ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ ، فَإِذَا فِيهَا ابْنَا الْخَالَةِ عِيسَى وَيَحْيَى ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ ، فَإِذَا فِيهَا يُوسُفُ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ ، فَإِذَا فِيهَا هَارُونُ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ ، فَإِذَا فِيهَا إِدْرِيسُ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ ، فَإِذَا فِيهَا مُوسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، فَإِذَا فِيهَا إِبْرَاهِيمُ ،عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، ثُمَّ صُعِدَ بِي فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ ، فَأَتَيْنَا سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى ، فَغَشِيَتْنِي ضَبَابَةٌ ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا ، فَقِيلَ لِي : إِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فَرَضْتُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ خَمْسِينَ صَلاَةً ، فَقُمْ بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُكَ ، فَرَجَعْتُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ، فَلَمْ يَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ ، ثُمَّ أَتَيْتُ عَلَى مُوسَى ، فَقَالَ : كَمْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ ؟ قُلْتُ : خَمْسِينَ صَلاَةً ، قَالَ : فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ بِهَا أَنْتَ وَلاَ أُمَّتُكَ ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي ، فَخَفَّفَ عَنِّي عَشْرًا ، ثُمَّ أَتَيْتُ مُوسَى ، فَأَمَرَنِى بِالرُّجُوعِ ، فَرَجَعْتُ ، فَخَفَّفَ عَنِّي عَشْرًا ، ثُمَّ رُدَّتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ ، قَالَ : فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ ، فَإِنَّهُ فَرَضَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ صَلاَتَيْنِ ، فَمَا قَامُوا بِهِمَا ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي ، عَزَّ وَجَلَّ ، فَسَأَلْتُهُ التَّخْفِيفَ ، فَقَالَ : إِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فَرَضْتُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ خَمْسِينَ صَلاَةً ، فَخَمْسٌ بِخَمْسِينَ ، فَقُمْ بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُكَ ، فَعَرَفْتُ أَنَّهَا مِنَ اللهِ ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، صِرَّى ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَقَالَ : ارْجِعْ ، فَعَرَفْتُ أَنَّهَا مِنَ اللهِ صِرَّى - أَيْ حَتْمٌ - فَلَمْ أَرْجِعْ.(1) ـــــــــــــ __________ (1) - سنن النسائى(454 ) حسن - الصرى : الحتم (1/6) من هم أعداء الرسل ؟ قال تعالى :{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) [الفرقان/31 ] وكَمَا جَعَلْنَا لَكَ أعْدَاءً من المُشْرِكينَ يَتَقَوَّلُونَ عليكَ الترّهَاتِ والأبَاطِيلَ ، كذلكَ جعَلْنَا لكلِّ نَبيٍّ من الأنبياءِ السَّابِقِينَ أعداءً لهُمْ من شَياطينِ الإِنسِ والجنِّ ، يُقَاوِمُون دعْوَتَهم ، ويُزْعِجُونَهم ، وَيُكَذِّبُونَهُمْ ، فلا تَحْوَنْ يَا مُحَمَّدُ عَلَيهِمْ ، فَهَذا دَأْبُ الأنبياءِ قَبْلَكَ ، فاصبِرْ كما صَبَرُوا . وحَسْبُكَ بِرَبِّكَ هادِياً لَكَ إلى مَصَالِح الدين والدُّنْيَا ، وسينصُرُك على أعدائِكَ ، ويُبَلِّغُكَ غايةَ ما تَطْلُبُ ، ولا يَهُولَنَّكَ كَثْرَةُ عَدَدِهِم فإِنَّه تعالى جَاعلٌ كلمَتَه هي العُلْيا لا مَحَالَة . ولله الحكمة البالغة . فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها؛ ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها . وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذي يتصدون لها مهما كلفهم من مشقة وكلف الدعوات من تعويق هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة؛ وهو الذي يمحص القائمين عليها ، ويطرد الزائفين منهم؛ فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة ، التي لا تبتغي مغانم قريبة . ولا تريد إلا الدعوة خالصة ، تبتغي بها وجه الله تعالى . ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة ، تسلك طرقاً ممهدة مفروشة بالأزهار ، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون ، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون ، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة ، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل ، ووقعت البلبة والفتنة . ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات ، هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتماً مقضياً ، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقوداً . فلا يكافح ويناضل ، ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون ، الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع ، وأعراض الحياة الدنيا . بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها . ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عوداً ، وأشدهم إيماناً ، وأكثرهم تطلعاً إلى ما عند الله واستهانة بما عند الناس . . عندئذ تتميز دعوة الحق من دعاوى الباطل . وعندئذ تمحص الصفوف فيتميز الأقوياء من الضعفاء . وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها ، واجتازوا امتحانها وبلاءها . أولئك هم الأمناء عليها الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته . وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي ، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين . وقد علمتهم التجارب والابتلاءات كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور . وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم ، فنما رصيدهم من القوة وذخيرتهم من المعرفة . فيكون هذا كله رصيداً للدعوة التي يحملون رايتها على السراء والضراء . والذي يقع غالباً أن كثرة الناس تقف متفرجة على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات؛ حتى إذا تضخم رصيد التضحيات والآلام في صف أصحاب الدعوات ، وهم ثابتون على دعوتهم ، ماضون في طريقهم ، قالت الكثرة المتفرجة أو شعرت أنه لا يمسك أصحاب الدعوة على دعوتهم على الرغم من التضحيات والآلام ، إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن . . وعندئذ تتقدم الكثرة المتفرجة لترى ما هو هذا العنصر الغالي الثمين الذي يرجح كل أعراض الحياة ، ويرجح الحياة ذاتها عند أصحاب الدعوة . وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجاً في هذه العقيدة بعد طول التفرج بالصراع! من أجل هذا كله جعل الله لكل نبي عدواً من المجرمين؛ وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق ، وحملة الدعوة يكافحون المجرمين ، فيصيبهم ما يصيبهم وهم ماضون في الطريق ، والنهاية مقدرة من قبل ، ومعروفة لا يخطئها الواثقون بالله . إنها الهداية إلى الحق ، والانتهاء إلى النصر :{ وكفى بربك هادياً ونصيراً } وبروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر طبيعي . فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشرية . فساد في القلوب ، وفساد في النظم ، وفساد في الأوضاع . ووراء هذا الفساد يكمن المجرمون ، الذين ينشئون الفساد من ناحية ، ويستغلونه من ناحية . والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد ، وتتنفس شهواتهم في جوه الوبيء . والذين يجدون فيه سنداً للقيم الزائفة التي يستندون هم في وجودهم إليها . . فطبيعي إذن أن يبرزوا للأنبياء وللدعوات دفاعاً عن وجودهم ، واستبقاء للجو الذي يملكون أن يتنفسوا فيه . وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة ، ولا يستطيع الحياة إلا في المقاذر ، وبعض الديدان يموت في الماء الطاهر الجاري ، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن . وكذلك المجرمون . . فطبيعي إذن أن يكونوا أعداء لدعوة الحق ، يستميتون في كفاحها . وطبيعي أن تنتصر دعوة الحق في النهاية ، لأنها تسير مع خط الحياة ، وتتجه إلى الأفق الكريم الوضيء الذي تتصل فيه بالله ، والذي تبلغ عنده الكمال المقدر لها كما أراد الله . .{ وكفى بربك هادياً ونصيراً } . . إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية . . ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر؛ والتأكيد من أن هذا باطل محض وشر خالص؛ وأن ذلك حق ممحض وخير خالص . . كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل . . وأنه يسلك سبيل المجرمين؛ الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدواً منهم { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } . ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين ، أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون؛ عن ثقة ، وفي وضوح ، وعن يقين . إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح . واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات . ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم . فهما صفحتان ، متقابلتان وطريقان مفترقتان . . ولا بد من وضوح الألوان والخطوط . . ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . يجب إن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين؛ ووضع العنوان المميز للمؤمنين . والعنوان المميز للمجرمين ، في عالم الواقع لا في عالم النظريات . فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون . بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم ، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم . بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان ، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين . . وهذا التحديد كان قائماً ، وهذا الوضوح كان كاملاً ، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية . فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه . وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين . . ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله - سبحانه - يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين! وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدّلتها وأفسدتها التحريفات البشرية . . حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة ، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك . . لا يجدي معها التلبيس! ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا . . إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين ، في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام ، يسيطر عليها دين الله ، وتحكم بشريعته . . ثم إذا هذه الأرض ، وإذا هذه الأقوام ، تهجر الإسلام حقيقة ، وتعلنه اسماً . وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً . وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقاداً! فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله . . وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه . وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله . وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله . . وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد . كائناً ما كان اسمه ولقبه ونسبه . وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فهي أرض لم تدن بدين الله ، ولم تدخل في الإسلام بعد وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين؛ وهم من سلالات المسلمين . وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام . . ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول . . وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام! أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله ، ومدلول الإسلام في جانب؛ وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر . . أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين ، وطريق المشركين المجرمين؛ واختلاط الشارات والعناوين؛ والتباس الأسماء والصفات؛ والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق! ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة . فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً . حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام! . . تهمة تكفير « المسلمين »!!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم ، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله! هذه هي المشقة الكبرى . . وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل! يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . . ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة . وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف؛ وألا تقعدهم عنها لومة لائم ، ولا صيحة صائح : انظروا! إنهم يكفرون المسلمين! إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون! إن الإسلام بيّن والكفر بين . . الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - فمن لم يشهدها على هذا النحو؛ ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو ، فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين . . المجرمين . . { وكذلك نفصّل الآيات ، ولتستبين سبيل المجرمين } . .أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة؛ وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة؛ كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة ، ولا يعوّقها غبش ، ولا يميعها لبس . فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم « المسلمون » وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم « المجرمون » . . كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان . وأنهم وقومهم على مفرق الطريق ، وأنهم على ملة وقومهم على ملة . وأنهم في دين وقومهم في دين : { وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } . .. . وصدق الله العظيم . . ـــــــــــــ (1/7) موحى إليهم من الله تعالى قال تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) [النساء/163-164] قَالَ رَجُلٌ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا مُحَمَّدُ مَا نَعْلَمُ أنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ بَعْدَ مُوسَى ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَالآيَاتِ التِي تَلِيهَا . ثُمَّ ذَكَرَ فَضَائِحَ المُكَذِّبِينَ وَمَعَايِبَهُمْ ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الكَذِبِ ، وَمَا هُمْ عَلَيهِ مِنَ الافْتِرَاءِ وَالتَّعَنُّتِ ، وَذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ أَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا أَوْحَى إلَى غَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ المُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ . وَقَالَ تَعَالَى : إنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى دَاوُدَ كِتَاباً هُوَ الزَّبُورُ. يَقُولُ تَعَالَى : إنَّهُ أَوْحَى إلَى رُسُلٍ قَصَّهُمْ عَلَى نَبِيِّهِ فِي الآيَاتِ السَّابِقَاتِ ، وَذَكَرَ لَهُ أَسْمَاءَهُمْ ، وَإنَّهُ أَوْحَى أَيْضاً إلَى رُسُلٍ لَمْ يَقْصُصْهُمْ عَلَيهِ ، وَلَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُمْ فِي القُرْآنِ . وَفِي حَدِيثٍ يَرويه أبو ذر : " إنَّ عَدَدَ الأَنْبِيَاءِ مِئَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفاً وَإنَّ عَدَدَ الرُّسُلِ مِنْهُمْ ثَلاَثُمِئَةٍ وَثَلاثَةَ عَشَرَ أو خَمْسَةَ عَشَرَ "( حديث حسن) وَيَقُولُ تَعَالَى : إنَّهُ شَرَّفَ مُوسَى بِأَنْ كَلَّمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، بِدُونِ وَاسِطَةٍ ( وَالوَحْيُ لِلرُّسُلِ يُسَمَّى تَكْلِيماً ) . فهو إذن موكب واحد يتراءى على طريق التاريخ البشري الموصول ، ورسالة واحدة بهدى واحد للإنذار والتبشير . . موكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من بين البشر : نوح . وإبراهيم . وإسماعيل . وإسحاق . ويعقوب . والأسباط . وعيسى . وأيوب . ويونس . وهارون . وسليمان . وداود . وموسى . . . وغيرهم ممن قصهم الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - في القرآن ، وممن لم يقصصهم عليه . . موكب من شتى الأقوام والأجناس ، وشتى البقاع والأرضين . في شتى الآونة والأزمان . لا يفرقهم نسب ولا جنس ، ولا أرض ولا وطن . ولا زمن ولا بيئة . كلهم آت من ذلك المصدر الكريم . وكلهم يحمل ذلك النور الهادي . وكلهم يؤدي الإنذار والتبشير . وكلهم يحاول أن يأخذ بزمام القافلة البشرية إلى ذلك النور . . سواء منهم من جاء لعشيرة . ومن جاء لقوم . ومن جاء لمدينة ومن جاء لقطر . . ثم من جاء للناس أجمعين : محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين . كلهم تلقى الوحي من الله . فما جاء بشيء من عنده . وإذا كان الله قد كلم موسى تكليماً فهو لون من الوحي لا يعرف أحد كيف كان يتم . لأن القرآن - وهو المصدر الوحيد الصحيح الذي لا يرقى الشك إلى صحته - لم يفصل لنا في ذلك شيئاً . فلا نعلم إلا أنه كان كلاماً . ولكن ما طبيعته؟ كيف تم؟ بأية حاسة أو قوة كان موسى يتلقاه؟ . . . كل ذلك غيب من الغيب لم يحدثنا عنه القرآن . وليس وراء القرآن - في هذا الباب - إلا أساطير لا تستند إلى برهان . أولئك الرسل - من قص الله على رسوله منهم ومن لم يقصص - اقتضت عدالة الله ورحمته أن يبعث بهم إلى عباده يبشرونهم بما أعده الله للمؤمنين الطائعين من نعيم ورضوان؛ وينذرونهم ما أعده الله للكافرين العصاة من جحيم وغضب . . كل ذلك : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ولله الحجة البالغة في الأنفس والآفاق؛ وقد أعطى الله البشر من العقل ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق . ولكنه - سبحانه - رحمة منه بعباده ، وتقديراً لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها لهم - أداة العقل - اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل { مبشرين ومنذرين } يذكرونهم ويبصرونهم؛ ويحاولون استنقاذ فطرتهم وتحرير عقولهم من ركام الشهوات ، التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق . { وكان الله عزيزاً حكيماً } . .عزيزاً : قادراً على أخذ العباد بما كسبوا . حكيماً : يدبر الأمر كله بالحكمة ويضع كل أمر في نصابه . . والقدرة والحكمة لهما عملهما فيما قدره الله في هذا الأمر وارتضاه . . ------------- وقال تعالى :{ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) [البقرة/87] يَصِفُ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالعُتُوِّ والعِنَادِ وَالاسْتِكْبَارِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ ، وَيَقُولُ تَعَالَى : إِنَّهُم يَتَبِعُونَ فِي ذلِكَ أَهْوَاءَهُمْ . وَيُذَكِّرهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ آتى مُوسَى التَّوراةَ فَحرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ ، وَخَالَفُوا أَوَامِرَهُ وَأَوَّلُوها . ثُمَّ أَرْسَلَ مِنْ بَعْدِهِ النَّبِيِّينَ وَالرُّسُلَ ، يَحْكُمُونَ بِشَرِيعَتِهِ ، وَيُذَكِّرُونَ النَّاسَ بِمَا فِي كِتَابِهِمْ ، وَيَأْمُرُونَ بِالالتِزَامِ بِأَحْكَامِهِ ، وَلِذلِكَ لَمْ يَكُنْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عُذْرٌ فِي نِسْيَانِ الشَرَائِعِ وَتَحْرِيفِهَا . وَخَتَمَ اللهُ تَعَالَى أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ، فَجَاءَ بِمُخَالَفَةِ بَعْضِ أَحْكَامِ التَّورَاةِ ، وَلِهذَا أَيَّدَهُ اللهُ بِالبَيِّنَاتِ وَالمُعْجِزَاتِ ، تَأْكِيداً لِنُبُوَّتِهِ ، وَلِمَا أَتَى بِهِ ، وَأَيَّدَهُ بِجِبْرِيلَ عَلِيهِ السَّلاَمُ . وَكَان بَنُو إِسْرَائِيلَ يُعَامِلُونَ الأَنْبِيَاءَ أَسْوَأَ مُعَامَلَةٍ ، فَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بَعْضَهُمْ كَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ ، وَيَقْتُلُونَ بَعْضاً آخَرَ كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى ، وَكُلُّ ذلِكَ لأَنَّ هؤُلاءِ الأَنْبِيَاءَ والرُّسُلَ كَانُوا يُطَالِبُونَهُمْ بِالالْتِزَامِ بِأَحْكَامِ التَّوْرَاةِ ، وَكَانُوا يَأْتُونَ بِمَا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ ، وَلِذلِكَ فَلاَ عَجََبَ إِنْ هُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ وَرِسَالَتِهِ ، لأَنَّ العِنَادَ وَالجُحُودَ مِنْ صِفَتِهِمْ . ولقد كانت حجة بني إسرائيل في إعراضهم عن الإسلام ، وإبائهم الدخول فيه ، أن عندهم الكفاية من تعاليم أنبيائهم ، وأنهم ماضون على شريعتهم ووصاياهم . . فهنا يفضحهم القرآن ويكشف عن حقيقة موقفهم من أنبيائهم وشرائعهم ووصاياهم . ويثبت أنهم هم هم كلما واجهوا الحق ، الذي لا يخضع لأهوائهم . وفيما تقدم واجههم بالكثير من مواقفهم مع نبيهم موسى - عليه السلام - وقد آتاه الله الكتاب . ويزيد هنا أن رسلهم توالت تترى ، يقفو بعضهم بعضاً؛ وكان آخرهم عيسى بن مريم . وقد آتاه الله المعجزات البينات ، وأيده بروح القدس جبريل - عليه السلام - فكيف كان استقبالهم لذلك الحشد من الرسل ولآخرهم عيسى عليه السلام؟ كان هذا الذي يستنكره عليهم؛ والذي لا يملكون هم إنكاره ، وكتبهم ذاتها تقرره وتشهد به : { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم : ففريقاً كذبتم وفريقا تقتلون! } ! ومحاولة إخضاع الهداة والشرائع للهوى الطارىء والنزوة المتقلبة . ظاهرة تبدو كلما فسدت الفطرة ، وانطمست فيها عدالة المنطق الإنساني ذاته . المنطق الذي يقتضي أن ترجع الشريعة إلى مصدر ثابت - غير المصدر الإنساني المتقلب - مصدر لا يميل مع الهوى ، ولا تغلبه النزوة . وأن يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت الذي لا يتأرجح مع الرضى والغضب ، والصحة والمرض ، والنزوة والهوى ، لا أن يخضعوا الميزان ذاته للنزوة والهوى! ولقد قص الله على المسلمين من أنباء بني إسرائيل في هذا ما يحذرهم من الوقوع في مثله ، حتى لا تسلب منهم الخلافة في الأرض والأمانة التي ناطها بهم الله ، فلما وقعوا في مثل ما وقع فيه بنو إسرائيل ، وطرحوا منهج الله وشريعته ، وحكموا أهواءهم وشهواتهم ، وقتلوا فريقاً من الهداة وكذبوا فريقاً . ضربهم الله بما ضرب به بني إسرائيل من قبل ، من الفرقة والضعف ، والذلة والهوان ، والشقاء والتعاسة . . إلا أن يستجيبوا لله ورسله ، وإلا أن يخضعوا أهواءهم لشريعته وكتابه ، وإلا أن يفوا بعهد الله معهم ومع أسلافهم ، وإلا أن يأخذوه بقوة ، ويذكروا ما فيه لعلهم يهتدون . ------------------- وقال تعالى { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) [الرعد/30 ] وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ ، يَا مُحَمَّدُ ، فِي هَذِهِ الأُمَّةِ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ مَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ، وَلِتُبَلِّغَهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ إِلَيْهِمْ ، كَذَلِكَ أَرْسَلْنَا رُسُلاً فِي الأُمَمِ المَاضِيَةِ الكَافِرَةِ بِاللهِ ، وَقَدْ كُذِّبَ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِكَ ، فَلَكَ أُسْوَةٌ بِهِمْ . وَكَمَا أَنْزَلْنَا بَأْسَنَا وَنَقْمَتَنَا بِأُولئِكَ فَلْيَحْذَرْ هؤُلاَءِ مِنْ حُلُولِ النِّقَمِ بِهِمْ . وَقُلْ لِقَوْمِكَ الذِينَ يُكَذِّبُونَ بِالرَّحْمَنِ ، وَلاَ يُقِرُّونَ بِهِ : إِنَّ الذِي تَكْفُرُونَ بِهِ هُوَ اللهُ رَبِّي ، وَأَنَا مُؤْمِنٌ بِهِ ، مُعْتَرِفٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ . عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فِي جَمِيعِ أُمُورِي ، وَإِلَيْهِ أَرْجِعُ وَأَتُوبُ ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ . ( لَمَّا صَالَحَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - قُرَيْشاً ، يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ ، كَتَبَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ أَمَّا الرَّحْمَنُ فَلاَ نَعْرِفُهُ ، وَكَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَكْتُبُونَ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ ) . ---------------------- وقال تعالى :{ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) [فاطر/31 ] وَهذَا القُرآنُ الذِي أَوْحَاهُ اللهُ إِليكَ ، يَا مُحَمَّدُ ، هُوَ الحَقُّ ، وَهُوَ يُصَدِّقُ الكُتُبَ السَّابِقَةَ فِيما جَاءَتْ بِهِ ، وَهِيَ بَشَّرَتْ بِهِ ، وَنَوَّهَتْ بِذِكْرِهِ فَعَلى المُؤمِنينَ أَنْ يَعْمَلُوا بِما جَاءَ فِي القُرآنِ لِيَفُوزُوا وَيَنْجُوا مِنَ العَذَاب الأََلِيمِ ، وَاللهُ خَبِيرٌ بأَحْوَالِ العِبَادِ ، بَصِيرٌ بِما يَصْلُحُ لَهُمْ مِنْ شَرْعٍ وَأَحْكَامٍ . ودلائل الحق في هذا الكتاب واضحة في صلبه؛ فهو الترجمة الصحيحة لهذا الكون في حقيقته ، أو هو الصفحة المقروءة والكون هو الصفحة الصامتة . وهو مصدق لما قبله من الكتب الصادرة من مصدره . والحق واحد لا يتعدد فيها وفيه . ومنزله نزله للناس وهو على علم بهم ، وخبرة بما يصلح لهم ويصلحهم : { إن الله بعباده لخبير بصير } . . --------------------- وقال تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) [الشورى/7] وَكَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ ، وَأَرْسَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى قَوْمِهِ لِيَسْتَطِيعَ دَعْوَتَهُمْ إِلَى اللهِ بِلُغَتِهِمْ وَلِسَانِهِمْ ، وَلِيَفْهَمُوا مِنْهُ مَعَانِي مَا يُرِيدُ إِبْلاَغَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، كَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً وَاضِحاً جَلِيّاً مُنَزَّلاً بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ ، لُغَةِ قَوْمِكَ لِتُنْذِرَ أَهْلَ مَكَةَ ( أُمَّ القُرَى ) ، وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ النَّاسِ ، وَتُحَذِّرَهُمْ عِقَابَ اللهِ ، يَوْمَ القِيَامَةِ ، يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الخَلاَئِقَ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ ، وَهُوَ يَوْمٌ وَاقِعٌ لاَ شَكَّ فِيهِ وَلاَ رَيْبَ ، فَيجْزِي الكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ بِمَا اجْتَرَحُوا مِنَ الإِثْمِ والسَّيِّئَاتِ ، وَيَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَيُقْذَفُونَ فِيهَا قَذْفاً ، وَيَجْزِي المُحْسِنِينَ بِالجَنَّةِ . وأم القرى مكة المكرمة . المكرمة ببيت الله العتيق فيها . وقد اختار الله أن تكون هي وما حولها من القرى موضع هذه الرسالة الأخيرة؛ وأنزل القرآن بلغتها العربية لأمر يعلمه ويريده . و { الله أعلم حيث يجعل رسالته } وحين ننظر اليوم من وراء الحوادث واستقرائها ، ومن وراء الظروف ومقتضياتها ، وبعد ما سارت هذه الدعوة في الخط الذي سارت فيه ، وأنتجت فيه نتاجها . . حين ننظر اليوم هذه النظرة ندرك طرفاً من حكمة الله في اختيار هذه البقعة من الأرض ، في ذلك الوقت من الزمان ، لتكون مقر الرسالة الأخيرة ، التي جاءت للبشرية جميعاً . والتي تتضح عالميتها منذ أيامها الأولى . كانت الأرض المعمورة عند مولد هذه الرسالة الأخيرة تكاد تتقسمها امبراطوريات أربع : الامبراطورية الرومانية في أوربا وطرف من آسيا وإفريقية . والامبراطورية الفارسية وتمد سلطانها على قسم كبير من آسيا وإفريقية . والامبراطورية الهندية . ثم الامبراطورية الصينية . وتكادان تكونان مغلقتين على أنفسهما ومعزولتين بعقائدهما واتصالاتهما السياسية وغيرها وهذه العزلة كانت تجعل الإمبراطوريتين الأوليين هما ذواتا الأثر الحقيقي في الحياة البشرية وتطوراتها . وكانت الديانتان السماويتان قبل الإسلام اليهودية والنصرانية قد انتهتا إلى أن تقعا في صورة من الصور تحت نفوذ هاتين الإمبراطوريتين ، حيث تسيطر عليهما الدولة في الحقيقة ، ولا تسيطران على الدولة! فضلا على ما أصابهما من انحراف وفساد . ولقد وقعت اليهودية فريسة لاضطهاد الرومان تارة ، ولاضطهاد الفرس تارة ، ولم تعد تسيطر في هذه الأرض على شيء يذكر على كل حال؛ وانتهت بسبب عوامل شتى إلى أن تكون ديانة مغلقة على بني إسرائيل ، لا مطمع لها ولا رغبة في أن تضم تحت جناحها شعوبا أخرى . وأما المسيحية فقد ولدت في ظل الدولة الرومانية . التي كانت تسيطر حين الميلاد على فلسطين وسورية ومصر وبقية المناطق التي انتشرت فيها المسيحية سرا؛ وهي تتخفى من مطاردة الإمبراطورية الرومانية التي اضطهدت العقيدة الجديدة اضطهاداً فظيعاً ، تخللته مذابح شملت عشرات الألوف في قسوة ظاهرة . فلما انقضى عهد الاضطهاد الروماني ، ودخل الإمبراطور الروماني في المسيحية ، دخلت معه أساطير الرومان الوثنية ، ومباحث الفلسفة الإغريقية الوثنية كذلك؛ وطبعت المسيحية بطابع غريب عليها؛ فلم تعد هي المسيحية السماوية الأولى . كما أن الدولة ظلت في طبيعتها لا تتأثر كثيراً بالديانة؛ وظلت هي المهيمنة ، ولم تهيمن العقيدة عليها أصلا . وذلك كله فضلاً على ما انتهت إليه المذاهب المسيحية المتعددة من تطاحن شامل فيما بينها مزق الكنيسة ، وكاد يمزق الدولة كلها تمزيقاً . وأوقع في الاضطهاد البشع المخالفين للمذهب الرسمي للدولة . وهؤلاء وهؤلاء كانوا في الانحراف عن حقيقة المسيحية سواء! وفي هذا الوقت جاء الإسلام . جاء لينقذ البشرية كلها مما انتهت إليه من انحلال وفساد واضطهاد وجاهلية عمياء في كل مكان معمور . وجاء ليهيمن على حياة البشرية ويقودها في الطريق إلى الله على هدى وعلى نور . ولم يكن هنالك بد من أن يسيطر الإسلام لتحقيق هذه النقلة الضخمة في حياة البشر . فلم يكن هنالك بد من أن يبدأ رحلته من أرض حرة لا سلطان فيها لإمبراطورية من تلك الإمبراطوريات؛ وأن ينشأ قبل ذلك نشأة حرة لا تسيطر عليه فيها قوة خارجة على طبيعته؛ بل يكون فيها هو المسيطر على نفسه وعلى من حوله . وكانت الجزيرة العربية ، وأم القرى وما حولها بالذات ، هي أصلح مكان على وجه الأرض لنشأة الإسلام يومئذ ، وأصلح نقطة يبدأ منها رحلته العالمية التي جاء من أجلها منذ اللحظة الأولى . لم تكن هناك حكومة منظمة ذات قوانين وتشريعات وجيوش وشرطة وسلطان شامل في الجزيرة . تقف للعقيدة الجديدة . بسلطانها المنظم ، وتخضع لها الجماهير خضوعا دقيقاً ، كما هو الحال في الإمبراطوريات الأربع . ولم تكن هنالك ديانة ثابتة كذلك ذات معالم واضحة؛ فقد كانت الوثنية الجاهلية ممزقة ، ومعتقداتها وعباداتها شتى . وكان للعرب آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب والأصنام . ومع أنه كان للكعبة وقريش سلطان ديني عام في الجزيرة ، فإنه لم يكن ذلك السلطان المحكم الذي يقف وقفة حقيقية في وجه الدين الجديد . ولولا المصالح الاقتصادية والأوضاع الخاصة لرؤساء قريش ما وقفوا هذه الوقفة في وجه الإسلام . فقد كانوا يدركون ما في عقائدهم من خلخلة واضطراب . وكانت خلخلة النظام السياسي للجزيرة إلى جانب خلخلة النظام الديني ، أفضل ظرف يقوم فيه دين جديد ، متحرراً من كل سلطان عليه في نشأته ، خارج عن طبيعته . وفي وسط هذه الخلخلة كان للأوضاع الاجتماعية في الجزيرة قيمتها كذلك في حماية نشأة الدعوة الجديدة . كان النظام القبلي هو السائد . وكان للعشيرة وزنها في هذا النظام . فلما قام محمد - صلى الله عليه وسلم - بدعوته وجد من سيوف بني هاشم حماية له؛ ووجد من التوازن القبلي فرصة ، لأن العشائر كانت تشفق من إثارة حرب على بني هاشم بسبب حمايتهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهم على غير دينه . بل إنها كانت تشفق من الاعتداء على كل من له عصبية من القلائل الذين أسلموا في أول الدعوة ، وتدع تأديبه أو تعذيبه لأهله أنفسهم . والموالي الذين عذبوا لإسلامهم عذبهم سادتهم . ومن ثم كان أبو بكر رضي الله عنه يشتري هؤلاء الموالي ويعتقهم ، فيمتنع تعذيبهم بهذا الإجراء ، وتمتنع فتنتهم عن دينهم . . ولا يخفى ما في هذا الوضع من ميزة بالقياس إلى نشأة الدين الجديد . ثم كانت هنالك صفات الشعب العربي نفسه من الشجاعة والأريحية والنخوة . وهي استعدادات ضرورية لحمل العقيدة الجديدة والنهوض بتكاليفها . وقد كانت الجزيرة في ذلك الزمان تزخر بحضانة عميقة لبذور نهضة؛ وكانت تجيش بكفايات واستعدادات وشخصيات تتهيأ لهذه النهضة المذخورة لها في ضمير الغيب؛ وكانت قد حفلت بتجارب إنسانية معينة من رحلاتها إلى أطراف إمبراطوريتي كسرى وقيصر . وأشهرها رحلة الشتاء إلى الجنوب ورحلة الصيف إلى الشمال . المذكورتان في القرآن في قوله تعالى : { لإيلاف قريش . إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . فليعبدوا رب هذا البيت ، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } وتضافرت أسباب كثيرة لحشد رصيد ضخم من التجارب مع التفتح والتأهب لاستقبال المهمة الضخمة التي اختيرت لها الجزيرة . فلما جاءها الإسلام استغل هذا الرصيد كله ، ووجه هذه الطاقة المختزنة ، التي كانت تتهيأ كنوزها للتفتح؛ ففتحها الله بمفتاح الإسلام . وجعلها رصيداً له وذخراً . ولعل هذا بعض ما يفسر لنا وجود هذا الحشد من الرجال العظام في الصحابة في الجيل الأول في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أمثال : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي . وحمزة والعباس وأبي عبيدة . وسعد ابن أبي وقاص وخالد بن الوليد وسعد بن معاذ ، وأبي أيوب الأنصاري وغيرهم وغيرهم من تلك العصبة التي تلقت الإسلام؛ فتفتحت له ، وحملته ، وكبرت به من غير شك وصلحت؛ ولكنها كانت تحمل البذرة الصالحة للنمو والتمام . وليس هنا مكان التفصيل في وصف استعداد الجزيرة لحمل الرسالة الجديدة ، وصيانة نشأتها ، وتمكينها من الهيمنة على ذاتها وعلى من حولها ، مما يشير إلى بعض أسباب اختيارها لتكون مهد العقيدة الجديدة ، التي جاءت للبشرية جميعها . وإلى اختيار هذا البيت بالذات ليكون منه حامل هذه الرسالة - صلى الله عليه وسلم - فذلك أمر يطول . ومكانه رسالة خاصة مستقلة . وحسبنا هذه الإشارة إلى حكمة الله المكنونة ، التي يظهر التدبر والتفكر بعض أطرافها كلما اتسعت تجارب البشر وإدراكهم لسنن الحياة وهكذا جاء هذا القرآن عربياً لينذر أم القرى ومن حولها . فلما خرجت الجزيرة من الجاهلية إلى الإسلام ، وخلصت كلها للإسلام ، حملت الراية وشرقت بها وغربت؛ وقدمت الرسالة الجديدة والنظام الإنساني الذي قام على أساسها ، للبشرية جميعها كما هي طبيعة هذه الرسالة وكان الذين حملوها هم أصلح خلق الله لحملها ونقلها؛ وقد خرجوا بها من أصلح مكان في الأرض لميلادها ونشأتها . وليس من المصادفات أن يعيش الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى تخلص الجزيرة العربية للإسلام؛ ويتمحض هذا المهد للعقيدة التي اختير لها على علم . كما اختير لها اللسان الذي يصلح لحملها إلى أقطار الأرض جميعا . فقد كانت اللغة العربية بلغت نضجها وأصبحت صالحة لحمل هذه الدعوة والسير بها في أقطار الأرض . ولو كانت لغة ميتة أو ناقصة التكوين الطبيعي ما صلحت لحمل هذه الدعوة أولاً ، وما صلحت بالذات لنقلها إلى خارج الجزيرة العربية ثانياً . . وقد كانت اللغة ، كأصحابها ، كبيئتها ، أصلح ما تكون لهذا الحدث الكوني العظيم . وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة ، حيثما وجه الباحث نظره إلى تدبر حكمة الله واختياره ومصداق قوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } { لتنذر أم القرى ومن حولها ، وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه ، فريق في الجنة وفريق في السعير } . . وقد كان الإنذار الأكبر والأشد والأكثر تكراراً في القرآن هو الإنذار بيوم الجمع . يوم الحشر . يوم يجمع الله ما تفرق من الخلائق على مدار الأزمنة واختلاف الأمكنة ، ليفرقهم من جديد : { فريق في الجنة وفريق في السعير } . بحسب عملهم في دار العمل ، في هذه الأرض ، في فترة الحياة الدينا . { ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة . ولكن يدخل من يشاء في رحمته ، والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير } . . (1/8) فلو شاء الله لخلق البشر خلقة أخرى توحد سلوكهم ، فتوحد مصيرهم ، إما إلى جنة وإما إلى نار . ولكنه سبحانه خلق هذا الإنسان لوظيفة . خلقه للخلافة في هذه الأرض . وجعل من مقتضيات هذه الخلافة ، على النحو الذي أرادها ، أن تكون للإنسان استعدادات خاصة بجنسه ، تفرقه عن الملائكة وعن الشياطين ، وعن غيرهما من خلق الله ذوي الطبيعة المفردة الموحدة الاتجاه . استعدادات يجنح بها ومعها فريق إلى الهدى والنور والعمل الصالح؛ ويجنح بها ومعها فريق إلى الضلال والظلام والعمل السيِّئ كل منهما يسلك وفق أحد الاحتمالات الممكنة في طبيعة تكوين هذا المخلوق البشري؛ وينتهي إلى النهاية المقررة لهذا السلوك : { فريق في الجنة وفريق في السعير } . . وهكذا : { يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير } . . وفق ما يعلمه الله من حال هذا الفريق وذاك ، واستحقاقه للرحمة بالهداية أو استحقاقه للعذاب بالضلال .ولقد سبق أن بعضهم يتخذ من دون الله أولياء . فهو يقرر هنا أن الظالمين : { ما لهم من ولي ولا نصير } . . فأولياؤهم الذين يتخذونهم لا حقيقة لهم إذن ولا وجود . ـــــــــــــ (1/9) الرسل موحى إليهم قال تعالى :{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)(سورة الشورى51-53) يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ الطُّرُقَ التِي يُوحِي بِهََا أَوَامِرَهُ إِلَى مَنْ يَخْتَارُهُمْ مِنْ عِبَادِهِ : أ - أَنْ يُحسَّ الرَّسُولُ بِمَعَانٍ تُلْقَى فِي قَلْبِهِ فَلاَ يَتَمَارَى فِي أَنَّهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى ، وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّ نَفْساً لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا فاتَّقُوا اللهً ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَب " ( صَحِيحُ ابْنِ حبَّانَ ) . ب - أَوْ يَرَى فِي نَوْمِهِ مَنَاماً لاَ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، كَرُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، أَنَّهُ يَذْبَحُ ابْنَهُ . ج - أَنْ يَسْمَعَ كَلاَماً مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، كَمَا سَمِعَ مُوسَى ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فِي وَادِي الطُّورِ دُونَ أَنْ يُبْصِرَ مَنْ يُكَلِّمُهُ . د - أَنْ يُرْسِلَ اللهُ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ مَلَكاً فَيُوحِي ذَلِكَ المَلَكُ مَا يَشَاءُ إِلَى النَّبِيِّ . واللهُ تَعَالَى قَاهِرٌ فَوْقَ عِبَادِهِ ، حَكِيمٌ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ بِعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ . وَكَمَا أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ يَا مُحَمَّدُ ، كَذَلِكَ أَوْحَى إِلَيكَ القُرْآنَ ، وَلَمْ تَكُنْ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْكَ وَحْيَهُ ، تَعْلَمُ مَا القُرْآنُ ، وَمَا الشَّرَائِعُ ، التِي بِهَا هِدَايَةُ البَشَرِ ، وَلَكِنَّ الله تَعَالَى هُوَ الذِي أَوْحَى إِلَيكَ القُرْآنَ ، وَجَعَلَهُ نُوراً يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ . وَإِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَتَهْدِي بِذَلِكَ النُّورِ المُنَزَّلِ عَلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، مَنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُ . وَهَذَا القُرْآنُ هُوَ الطَرِيقُ القَوِيمُ الذِي يَهْدِي اللهُ إِلَيهِ عِبَادَهُ وَهُوَ الطَّرِيقُ الذِي شَرَعَهُ اللهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ . والمُتَصَرِّفُ بِهِمَا ، والحَاكِمُ الذِي لاَ مُعَقَّبَ عَلَى حُكْمِهِ ، أَلاَ إِنَّ أُمُورَ الخَلاَئِقِ كُلَّهَا تَصِيرُ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ ، فَيَفْصلُ فِيهَا بِعَدْلِهِ التَّام ، وَحِكْمَتِهِ . ويقطع هذا النص بأنه ليس من شأن إنسان أن يكلمه الله مواجهة . وقد روي عن عائشة رضي الله عنها : « من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية » إنما يتم كلام الله للبشر بواحدة من ثلاث : « وحيا » يلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله ، { أو من وراء حجاب } . . كما كلم الله موسى عليه السلام وحين طلب الرؤية لم يجب إليها ، ولم يطق تجلي الله على الجبل { وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } { أو يرسل رسولاً } وهو الملك { فيوحي بإذنه ما يشاء } بالطرق التي وردت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . الأولى : ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال : - صلى الله عليه وسلم - « إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب » . والثانية أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتمثل له الملك رجلاً ، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول . والثالثة : أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس ، وكان أشده عليه ، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد ، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إن كان راكبها ، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها . والرابعة : أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها ، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه . وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم . هذه صور الوحي وطرق الاتصال . . { إنه علي حكيم } . . يوحي من علو ، ويوحي بحكمة إلى من يختار . . وبعد فإنه ما من مرة وقفت أمام آية تذكر الوحي أو حديث ، لأتأمل هذا الاتصال إلا أحسست له رجفة في أوصالي . . كيف؟ كيف يكون هذا الاتصال بين الذات الأزلية الأبدية التي ليس لها حيز في المكان ولا حيز في الزمان ، المحيطة بكل شيء ، والتي ليس كمثلها شيء . كيف يكون هذا الاتصال بين هذه الذات العلية وذات إنسان متحيزة في المكان والزمان ، محدودة بحدود المخلوقات ، من أبناء الفناء؟! ثم كيف يتمثل هذا الاتصال معاني وكلمات وعبارات؟ وكيف تطيق ذات محدودة فانية أن تتلقى كلام الله الأزلي الأبدي الذي لا حيز له ولا حدود؟ ولا شكل له معهود؟ وكيف؟ وكيف؟ . . ولكني أعود فأقول : ومالك تسأل عن كيف؟ وأنت لا تملك أن تتصور إلا في حدود ذاتك المتحيزة القاصرة الفانية؟! لقد وقعت هذه الحقيقة وتمثلت في صورة . وصار لها وجود هو الذي تملك أن تدركه من وجود . ولكن الوهلة والرجفة والروعة لا تزول! إن النبوة هذه أمر عظيم حقا . وإن لحظة التلقي هذه لعظيمة حقاً . تلقي الذات الإنسانية لوحي من الذات العلوية . . أخي الذي تقرأ هذه الكلمات ، أأنت معي في هذا التصور؟! أأنت معي تحاول أن تتصور؟! هذا الوحي الصادر من هناك . أأقول : هناك؟! كلا . إنه ليس هناك « هناك »! الصادر من غير مكان ولا زمان ، ولا حيز ولا حد ولا جهة ولا ظرف . الصادر من المطلق النهائي ، الأزلي الأبدي ، الصادر من الله ذي الجلال إلى إنسان . . إنسان مهما يكن نبياً رسولاً ، فإنه هو هذا الإنسان ذو الحدود والقيود . . هذا الوحي . هذا الاتصال العجيب . المعجز . الذي لا يملك إلا الله أن يجعله واقعة تتحقق ، ولا يعرف إلا الله كيف يقع ويتحقق . . أخي الذي تقرأ هذه الكلمات . هل تحس ما أحس من وراء هذه العبارات المتقطعة التي أحاول أن أنقل بها ما يخالج كياني كله؟ إنني لا أعرف ماذا أقول عما يخالج كياني كله من الروعة والرجفة وأنا أحاول أن أتصور ذلك الحدث العظيم العجيب الخارق في طبيعته ، والخارق في صورته ، الذي حدث مرات ومرات . وأحس بحدوثه ناس رأوا مظاهره رأي العين ، على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وهذه عائشة رضي الله عنها تشهد من هذه اللحظات العجيبة في تاريخ البشرية فتروي عن واحدة منها تقول : « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » يا عائشة . هذا جبريل يقرئك السلام « قلت : وعليه السلام ورحمة الله . قالت : وهو يرى ما لا نرى » وهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه يشهد مثل هذه اللحظة وفخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذه ، وقد جاءه الوحي فثقلت حتى كادت ترض فخذه . وهؤلاء هم الصحابة رضوان الله عليهم في مرات كثيرة يشهدون هذا الحادث ويعرفونه في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيدعونه للوحي حتى يسرى عنه ، فيعود إليهم ويعودون إليه . . ثم . . أية طبيعة . طبيعة هذه النفس التي تتلقى ذلك الاتصال العلوي الكريم؟ أي جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتصل بهذا الوحي ، ويختلط بذلك العنصر ، ويتسق مع طبيعته وفحواه؟ إنها هي الأخرى مسألة! إنها حقيقة . ولكنها تتراءى هنالك بعيداً على أفق عال ومرتقى صاعد ، لا تكاد المدارك تتملاه .روح هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - روح هذا الإنسان . كيف يا ترى كانت تحس بهذه الصلة وهذا التلقي؟ كيف كانت تتفتح؟ كيف كان ينساب فيها ذلك الفيض؟ كيف كانت تجد الوجود في هذه اللحظات العجيبة التي يتجلى فيها الله على الوجود؛ والتي تتجاوب جنباته كلها بكلمات الله؟ ثم . . أية رعاية؟ وأية رحمة؟ وأية مكرمة؟ . . والله العلي الكبير يتلطف فيعنى بهذه الخليقة الضئيلة المسماة بالإنسان . فيوحي إليها لإصلاح أمرها ، وإنارة طريقها ، ورد شاردها . . وهي أهون عليه من البعوضة على الإنسان ، حين تقاس إلى ملكه الواسع العريض؟ إنها حقيقة . ولكنها أعلى وأرفع من أن يتصورها الإنسان إلا تطلعاً إلى الأفق السامق الوضيء : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان .ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا . وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض . ألا إلى الله تصير الأمور) .(وكذلك) . بمثل هذه الطريقة , وبمثل هذا الاتصال . (أوحينا إليك) . . فالوحي تم بالطريقة المعهودة , ولم يكن أمرك بدعا . أوحينا إليك (روحاً من أمرنا) . . فيه حياة , يبث الحياة ويدفعها ويحركها وينميها في القلوب وفي الواقع العملي المشهود . (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) . . هكذا يصور نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم بها , قبل أن تتلقى هذا الوحي . وقد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكتاب وسمع عن الإيمان , وكان معروفاً في الجزيرة العربية أن هناك أهل كتاب فيمن معهم , وأن لهم عقيدة , فليس هذا هو المقصود . إنما المقصود هو اشتمال القلب على هذه الحقيقة والشعور بها والتأثر بوجودها في الضمير . وهذا ما لم يكن قبل هذا الروح من أمر الله الذي لابس قلب محمد - عليه صلوات الله .(ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء) . . وهذه طبيعته الخالصة . طبيعة هذا الوحي . هذا الروح . هذا الكتاب . إنه نور . نور تخالط بشاشته القلوب التي يشاء لها الله أن تهتدي به , بما يعلمه من حقيقتها , ومن مخالطة هذا النور لها .(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) . . وهناك توكيد على تخصيص هذه المسألة , مسألة الهدى , بمشيئة الله سبحانه , وتجريدها من كل ملابسة , وتعليقها بالله وحده يقدرها لمن يشاء بعلمه الخاص , الذي لا يعرفه سواه ; والرسول - صلى الله عليه وسلم - واسطة لتحقيق مشيئة الله , فهو لا ينشى ء الهدى في القلوب ; ولكن يبلغ الرسالة , فتقع مشيئة الله .(وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) . . فهي الهداية إلى طريق الله , الذي تلتقي عنده المسالك . لأنه الطريق إلى المالك , الذي له ما في السماوات وما في الأرض ; فالذي يهتدي إلى طريقه يهتدي إلى ناموس السماوات والأرض , وقوى السماوات والأرض , ورزق السماوات والأرض , واتجاه السماوات والأرض إلى مالكها العظيم . الذي إليه تتجه , والذي إليه تصير: (ألا إلى الله تصير الأمور) . فكلها تنتهي إليه , وتلتقي عنده , وهو يقضي فيها بأمره .وهذا النور يهدي إلى طريقه الذي اختار للعباد أن يسيروا فيه , ليصيروا إليه في النهاية مهتدين طائعين وهكذا تنتهي السورة التي بدأت بالحديث عن الوحي . وكان الوحي محورها الرئيسي . وقد عالجت قصة الوحي منذ النبوات الأولى . لتقرر وحدة الدين , ووحدة المنهج , ووحدة الطريق . ولتعلن القيادة الجديدة للبشرية ممثلة في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة . ولتكل إلى هذه العصبة أمانة القيادة إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض . ولتبين خصائص هذه العصبة وطابعها المميز , الذي تصلح به للقيادة , وتحمل به هذه الأمانة . الأمانة التي تنزلت من السماء إلى الأرض عن ذلك الطريق العجيب العظيم . . ـــــــــــــ (1/10) الحكمة من نزول القرآن مفرقاً قال تعالى :{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) [الفرقان/32] وقالً اليَهُودُ : هَلاَّ أُنْزِلَ القرآنُ على مُحَمدٍ دُفَعةً واحِدةُ كما أُنْزِلت الكُتبُ السابقةُ على الأنبيَاءِ . وَيُرُدُّ اللهُ تَعالى عَلى قَوْلِهِمْ هذا ، قائلاً : إنهُ إنما أُنزلَ القُرآنُ مُنَجًَّماً في ثَلاثٍ وعِشرينَ سَنةً بحَسَبِ الوَقَائِعِ ، وما يُحْتَاجَ إليه منَ الأَحكَامِ لِيُثَبِّتَ قُلوبَ المُؤمنينَ بهِ ، ويُثَبِّتَ قَلْبَ الرّسولِ - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أنزَلَهُ اللهُ على مَهْلٍ هكَذا على رَسُوله ، وقَرَأَهُ عليهِ ، بلِسانِ جِبريلَ عليهِ السَّلامُ ، شَيئاً فَشَيئاً لِيتَمَكنَّ مِنْ حِفْظَهِ واسْتِيعابِهِ لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة ، وينشئ مجتمعاً ، ويقيم نظاماً . والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وانفعال بالكلمة ، وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع . والنفس البشرية لا تتحول تحولاً كاملاً شاملاً بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد . إنما تتأثر يوماً بعد يوم بطرف من هذا المنهج؛ وتتدرج في مراقيه رويداً رويدا ، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئاً فشيئاً ، فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخماً ثقيلاً عسيراً . وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح في اليوم التالي أكثر استعداداً للانتفاع بالوجبة الثالثة ، وأشد قابلية لها والتذاذاً بها . ولقد جاء القرآن بمنهاج كامل شامل للحياة كلها . وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها . فجاء لذلك منجماً وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة ، وهي في طريق نشأتها ونموها . ووفق استعدادها الذي ينمو يوماً بعد يوم في ظل المنهج التربوي الإلهي الدقيق . جاء ليكون منهج تربية ومنهاج حياة لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة . جاء لينفذ حرفاً حرفاً وكلمة كلمة ، وتكليفاً تكليفاً . جاء لتكون آياته هي « الأوامر اليومية » التي يتلقاها المسلمون في حينها ليعملوا بها فور تلقيها ، كما يتلقى الجندي في ثكنته أو في الميدان « الأمر اليومي » مع التأثر والفهم والرغبة في التنفيذ؛ ومع الانطباع والتكيف وفق ما يتلقاه . . من أجل هذا كله نزل القرآن مفصلاً . يبين أول ما يبين عن منهجه لقلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويثبته على طريقه؛ ويتتابع على مراحل الطريق رتلاً بعد رتل ، وجزءاً بعد جزء : { كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً } . . والترتيل هنا هو التتابع والتوالي وفق حكمة الله وعلمه بحاجات تلك القلوب واستعدادها للتلقي . . ولقد حقق القرآن بمنهجه ذاك خوارق في تكييف تلك النفوس التي تلقته مرتلاً متتابعاً ، وتأثرت به يوماً يوماً ، وانطبعت به أثراً أثراً . فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج ، واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة ، وكتاب تعبد للتلاوة ، فحسب ، لا منهج تربية للانطباع والتكيف ومنهج حياة للعمل والتنفيذ . لم ينتفعوا من القرآن بشيء ، لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير . . ---------------- وقال تعالى :{ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) [الإسراء/106] وَآتَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ قُرْآناً نَزَّلْنَاهُ عَلَيْكَ مُفَرَّقاً وَمُنَجَّماً لِتَتْلُوَهُ عَلَى النَّاسِ ، وَتُبَلِّغَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَهْلٍ ( عَلَى مُكْثٍ ) ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ حِفْظِهِ ، وَفَهْمِ أَحْكَامِهِ ، وَالتَّمَعُّنِ فِيهَا لِتَرْسَخَ فِي عُقُولِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ . وَقَدْ نَزَّلْنَاهُ شَيْئاً فَشَيْئاً بِحَسَبِ الظُّرُوفِ وَالحَوَادِثِ وَالوَقَائِعِ ( نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ) . وَفَرَّقْنَاهُ بِالتَّشْدِيدِ - كَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ : وَمَعْنَاهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ آيَةً فَآيَةً مُفَسَّراً وَمُبَيَّناً لِتَتْلُوَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مَهَلٍ ، وَتُبْلِغَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَهَلٍ . لقد جاء هذا القرآن ليربي أمة ، ويقيم لها نظاماً ، فتحمله هذه الأمة إلى مشارق الأرض ومغاربها ، وتعلم به البشرية هذا النظام وفق المنهج الكامل المتكامل . ومن ثم فقد جاء هذا القرآن مفرقاً وفق الحاجات الواقعية لتلك الأمة ، ووفق الملابسات التي صاحبت فترة التربية الأولى . والتربية تتم في الزمن الطويل ، وبالتجربة العملية في الزمن الطويل . جاء ليكون منهجاً عملياً يتحقق جزءاً جزءاً في مرحلة الإعداد ، لا فقهاً نظرياً ولا فكرة تجريدية تعرض للقراءة والاستمتاع الذهني! وتلك حكمة نزوله متفرقاً ، لا كتاباً كاملاً منذ اللحظة الأولى . ولقد تلقاه الجيل الأول من المسلمين على هذا المعنى . تلقوه توجيهاً يطبق في واقع الحياة كلما جاءهم منه أمر أو نهي ، وكلما تلقوا منه أدباً أو فريضة . ولم يأخذوه متعة عقلية أو نفسية كما كانوا يأخذون الشعر والأدب؛ ولا تسلية وتلهية كما كانوا يأخذون القصص والأساطير فتكيفوا به في حياتهم اليومية . تكيفوا به في مشاعرهم وضمائرهم ، وفي سلوكهم ونشاطهم . وفي بيوتهم ومعاشهم . فكان منهج حياتهم الذي طرحوا كل ما عداه مما ورثوه ، ومما عرفوه ، ومما مارسوه قبل أن يأتيهم هذا القرآن . قال ابن مسعود رضي الله عنه كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن . ولقد انزل الله هذا القرآن قائماً على الحق : { وبالحق أنزلناه } فنزل ليقر الحق في الأرض ويثبته : { وبالحق نزل } . . فالحق مادته والحق غايته . ومن الحق قوامه ، وبالحق اهتمامه . . الحق الأصيل الثابت في ناموس الوجود ، والذي خلق الله السماوات والأرض قائمين به ، متلبساً بهما ، والقرآن مرتبط بناموس الوجود كله ، يشير إليه ويدل عليه وهو طرف منه . فالحق سداه ولحمته ، والحق مادته وغايته . والرسول مبشر ومنذر بهذا الحق الذي جاء به . ـــــــــــــ (1/11) الحكمة من إرسال الرسل قال تعالى : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) [النساء/165] يَقُولُ تَعَالَى : إنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ يُبَشِّرُونَ مَنْ أَطَاعَ اللهَ ، وَاتَّبَعَ رِضْوَانَهُ بِالخَيْرَاتِ وَحُسْنِ الثَّوَابِ ، وَيُنْذِرُونَ ، بِالعِقَابِ وَالعَذَابِ ، مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ ، وَذَلِكَ لِكَيْلا يَبْقَى لِمُعْتَذِرٍ عُذْرٌ ، بَعْدَ أنْ أَوْضَحَتِ الرُّسُلُ لِلْنَّاسِ أوَامِرَ اللهِ وَنَوَاهِيهِ ، وَالجَزَاءُ لاَ يَكُونُ إلاَّ لِمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى الوَجْهِ الصَّحِيحِ . وَكَانَ اللهُ عَزيزَ الجَانِبِ لا يُضَامُ ، حَكِيماً فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ . وهناك حكم عديدة من إرسال الرسل : أولاً : أمام قيمة العقل البشري ووظيفته ودوره في أخطر قضايا « الإنسان » قضية الإيمان بالله؛ التي تقوم عليها حياته في الأرض من جذورها؛ بكل مقوماتها واتجاهاتها وواقعياتها وتصرفاتها؛ كما يقوم عليها مآله في الآخرة وهي أكبر وأبقى .لو كان الله - سبحانه - وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها ، يعلم أن العقل البشري ، الذي وهبه للإنسان ، هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته ، في دنياه وآخرته ، لوكله إلى هذا العقل وحده؛ يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق ، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته ، فتستقيم على الحق والصواب؛ ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ؛ ولما جعل حجته على عباده هي رسالة الرسل إليهم؛ وتبليغهم عن ربهم؛ ولما جعل حجة الناس عنده - سبحانه - هي عدم مجيء الرسل إليهم : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } . . ولكن لما علم الله - سبحانه - أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى - بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط - وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة؛ وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة. . لما علم الله - سبحانه - هذا شاءت حكمته وشاءت رحمته أن يبعث للناس بالرسل ، وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } وهذه تكاد تكون إحدى البديهيات التي تبرز من هذا النص القرآني . . فإن لم تكن بديهية فهي إحدى المقتضيات الحتمية . . إذن . . ما هي وظيفة هذا العقل البشري؛ وما هو دوره في قضية الإيمان والهدى؛ وفي قضية منهج الحياة ونظامها؟ إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة؛ ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول . ومهمة الرسول أن يبلغ ، ويبين ، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام . وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق؛ وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح ، ومنهج النظر الصحيح؛ وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية ، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة . وليس دور العقل أن يكون حاكماً على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان ، والقبول أو الرفض - بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله؛ وبعد أن يفهم المقصود بها : أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص - ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها - بعد إدراك مدلولها ، لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول! أو لا يريد أن يستجيب له - ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان . . فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح ، ومتى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها . . إن هذه الرسالة تخاطب العقل . . بمعنى أنها توقظه ، وتوجهه ، وتقيم له منهج النظر الصحيح . . لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها ، وبقبولها أو رفضها ، ومتى ثبت النص كان هو الحكم؛ وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه؛ سواء كان مدلوله مألوفاً له أو غريباً عليه . . إن دور العقل - في هذا الصدد - هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص . وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح . وعند هذا الحد ينتهي دوره . . إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل . فهذا النص من عند الله ، والعقل ليس إلهاً يحكم بالصحة أو البطلان ، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله . وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير . . سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم في صحة أو بطلان المقررات الدينية الصحيحة . . أو ممن يريدون إلغاء العقل ، ونفي دوره في الإيمان والهدى . . والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا . . من أن الرسالة تخاطب العقل ليدرك مقرراتها؛ وترسم له المنهج الصحيح للنظر في هذه المقررات ، وفي شؤون الحياة كلها . فإذا أدرك مقرراتها - أي إذا فهم ماذا يعني النص - لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة والتنفيذ . . فهي لا تكلف الإنسان العمل بها سواء فهمها أم لم يفهمها . وهي كذلك لا تبيح له مناقشة مقرراتها متى أدرك هذه المقررات ، وفق مفهوم نصوصها . . مناقشتها ليقبلها أو يرفضها . ليحكم بصحتها أو خطئها . . وقد علم أنها جاءته من عند الله . الذي لا يقص إلا الحق ، ولا يأمر إلا بالخير والمنهج الصحيح في التلقي عن الله ، هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة - بعد أن يدرك المقصود بها - بمقررات له سابقة عليها؛ كونها لنفسه من مقولاته « المنطقية »! أو من ملاحظاته المحدودة؛ أو من تجاربه الناقصة . . إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة ، ويكون منها مقرراته هو! فهي أصح من مقرراته الذاتية؛ ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي - قبل أن يضبط بموازين النظر الدينية الصحيحة - ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين - متى صح عنده أنها من الله - إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص! . . إن العقل ليس إلهاً ، ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الله . . إن له أن يعارض مفهوماً عقلياً بشرياً للنص بمفهوم عقلي بشري آخر له . . هذا مجاله ، ولا حرج عليه في هذا ولا حجر ما دام هنالك من الأصول الصحيحة مجال للتأول والأفهام المتعددة . وحرية النظر - على أصوله الصحيحة وبالضوابط التي يقررها الدين نفسه - مكفولة للعقول البشرية في هذا المجال الواسع . وليس هنالك من هيئة ، ولا سلطة ، ولا شخص ، يملك الحجر على العقول ، في إدراك المقصود بالنص الصحيح وأوجه تطبيقه - متى كان قابلاً لأوجه الرأي المتعددة ، ومتى كان النظر في حدود الضوابط الصحيحة والمنهج الصحيح ، المأخوذ من مقررات الدين - وهذا كذلك معنى أن هذه الرسالة تخاطب العقل . . إن الإسلام دين العقل . . نعم . . بمعنى أنه يخاطب العقل بقضاياه ومقرراته؛ ولا يقهره بخارقة مادية لا مجال له فيها إلا الإذعان . ويخاطب العقل بمعنى أنه يصحح له منهج النظر ويدعوه إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق؛ ليرفع عن الفطرة ركام الإلف والعادة والبلادة؛ وركام الشهوات المضلة للعقل والفطرة . ويخاطب العقل بمعنى أنه يكل إليه فهم مدلولات النصوص التي تحمل مقرراته ، ولا يفرض عليه أن يؤمن بما لا يفهم مدلوله ولا يدركه . . فإذا وصل إلى مرحلة إدراك المدلولات وفهم المقررات لم يعد أمامه إلا التسليم بها فهو مؤمن ، أو عدم التسليم بها فهو كافر . . وليس هو حكماً في صحتها أو بطلانها . وليس هو مأذوناً في قبولها أو رفضها ، كما يقول من يبتغون أن يجعلوا من هذا العقل إلهاً ، يقبل من المقررات الدينية الصحيحة ما يقبل ، ويرفض منها ما يرفض ، ويختار منها ما يشاء ، ويترك منها ما يشاء . . فهذا هو الذي يقول الله عنه : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ } ويرتب عليه صفة الكفر ، ويرتب عليه كذلك العقاب . . فإذا قرر الله - سبحانه - حقيقة في أمر الكون ، أو أمر الإنسان ، أو أمر الخلائق الأخرى . أو إذا قرر أمراً في الفرائض ، أو في النواهي . . فهذا الذي قرره الله واجب القبول والطاعة ممن يبلغ إليه . متى أدرك المدلول المراد منه . . إذا قال الله سبحانه { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن } { أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي } { والله خلق كل دابة من ماء } { خلق الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلق الجان من مارج من نار } إلى آخر ما قال - سبحانه - عن طبيعة الكون والكائنات والأحياء والأشياء . . فالحق هو ما قال . وليس للعقل أن يقول - بعد أن يفهم مدلول النصوص والمقررات التي تنشئها - إنني لا أجد هذا في مقرراتي ، أو في علمي ، أو في تجاربي . . فكل ما يبلغه العقل في هذا معرض للخطأ والصواب . وما قرره الله - سبحانه - لا يحتمل إلا الحق والصواب . وإذا قال الله سبحانه : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا مابقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } { وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن . . } إلى آخر ما قال في شأن منهج الحياة البشرية فالحق هو ما قال - سبحانه - وليس للعقل أن يقول : ولكنني أرى المصلحة في كذا وكذا مما يخالف عن أمر الله ، أو فيما لم يأذن به الله ولم يشرعه للناس . . فما يراه العقل مصلحة يحتمل الخطأ والصواب ، وتدفع إليه الشهوات والنزوات . . وما يقرره الله - سبحانه - لا يحتمل إلا الصحة والصلاح . . وما قرره الله سبحانه من العقائد والتصورات ، أو من منهج الحياة ونظامها ، سواء في موقف العقل إزاءه . . متى صح النص ، وكان قطعي الدلالة؛ ولم يوقت بوقت . . فليس للعقل أن يقول : آخذ في العقائد والشعائر التعبدية؛ ولكني أرى أن الزمن قد تغير في منهج الحياة ونظامها . . فلو شاء الله أن يوقت مفعول النصوص لوقته . فما دام النص مطلقاً فإنه يستوي زمان نزوله وآخر الزمان . . احترازاً من الجرأة على الله ، ورمي علمه بالنقص والقصور - سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً . . إنما يكون الاجتهاد في تطبيق النص العام على الحالة الجزئية؛ لا في قبول المبدأ العام أو رفضه ، تحت أي مقولة من مقولات العقل في جيل من الأجيال! وليس في شيء من هذا الذي نقرره انتقاص من قيمة العقل ودوره في الحياة البشرية . . فإن المدى أمامه واسع في تطبيق النصوص على الحالات المتجددة - بعد أن ينضبط هو بمنهج النظر وموازينه المستقاة من دين الله وتعليمه الصحيح - والمدى أمامه أوسع في المعرفة بطبيعة هذا الكون وطاقاته وقواه ومدخراته؛ وطبيعة الكائنات فيه والأحياء؛ والانتفاع بما سخر الله له من هذا الكون ومن هذه الكائنات والأحياء؛ وتنمية الحياة وتطويرها وترقيتها - في حدود منهج الله - لا كما تبتغي الشهوات والأهواء التي تضل العقل وتغطي الفطرة بالركام! . ونقف من هذه اللفتة : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وقفة أخرى : نقف منها أمام التبعة العظيمة الملقاة على الرسل - صلوات الله عليهم - ومن بعدهم على المؤمنين برسالاتهم - تجاه البشرية كلها . . وهي تبعة ثقيلة بمقدار ما هي عظيمة . . إن مصائر البشرية كلها في الدنيا وفي الآخرة سواء ، منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم . فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشر ، تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم ، ويترتب ثوابهم أو عقابهم . . في الدنيا والآخرة . إنه أمر هائل عظيم . . ولكنه كذلك . . ومن ثم كان الرسل - صلوات الله عليهم - يحسون بجسامة ما يكلفون . وكان الله - سبحانه - يبصرهم بحقيقة العبء الذي ينوطه بهم . . وهذا هو الذي يقول الله عنه لنبيه : { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلاً } ويعلمه كيف يتهيأ له ويستعد : { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً . نصفه أو انقص منه قليلاً . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً . . إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً . فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً . واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً . ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً } وهذا هو الذي يُشعر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو يأمره أن يقول وأن يستشعر حقيقة ما يقول : { قل : إني لن يجيرني من الله أحد ، ولن أجد من دونه ملتحداً . . إلا بلاغاً من الله ورسالاته } { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً ، إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً . . ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم . وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً } إنه الأمر الهائل العظيم . . أمر رقاب الناس . . أمر حياتهم ومماتهم . . أمر سعادتهم وشقائهم . . أمر ثوابهم وعقابهم . . أمر هذه البشرية ، التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة . وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة . وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها ، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ! فأما رسل الله - عليهم الصلاة والسلام - فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة ، ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل . . وهم لم يبلغوها دعوة باللسان ، ولكن بلغوها - مع هذا - قدوة ممثلة في العمل ، وجهاداً مضنياً بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق . . سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك ، وضلالات تزين ، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين . كما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين . بما أنه المبلغ الأخير . وبما أن رسالته هي خاتمة الرسالات . فلم يكتف بإزالة العوائق باللسان . إنما أزالها كذلك بالسنان { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله } وبقي الواجب الثقيل على من بعده . . على المؤمنين برسالته . . فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجيء بعده - صلى الله عليه وسلم - وتبليغ هذه الأجيال منوط - بعده - بأتباعه . ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة - تبعة إقامة حجة الله على الناس؛ وتبعة استنقاذ الناس من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا - إلا بالتبليغ والأداء . . على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدى . . فالرسالة هي الرسالة؛ والناس هم الناس . . وهناك ضلالات وأهواء وشبهات وشهوات . . وهناك قوى عاتية طاغية تقوم دون الناس ودون الدعوة؛ وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة . . الموقف هو الموقف؛ والعقبات هي العقبات ، والناس هم الناس . ولا بد من بلاغ ، ولا بد من أداء . بلاغ بالبيان . وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعة مما يبلغون . وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة؛ وتفتن الناس بالباطل وبالقوة . . وإلا فلا بلاغ ولا أداء . . إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله . . وإلا فهي التبعة الثقيلة . تبعة ضلال البشرية كلها؛ وشقوتها في هذه الدنيا ، وعدم قيام حجة الله عليها في الآخرة! وحمل التبعة في هذا كله ، وعدم النجاة من النار . . فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل؟! إن الذي يقول : إنه « مسلم » إما أن يبلغ ويؤدي هكذا . وإلا فلا نجاة له في دنيا ولا في أخرى . . إنه حين يقول إنه « مسلم » ثم لا يبلغ ولا يؤدي . . كل ألوان البلاغ والأداء هذه ، إنما يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه! بدلاً من أداء شهادة له ، تحقق فيه قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } وتبدأ شهادته للإسلام ، من أن يكون هو بذاته . ثم ببيته وعائلته . ثم بأسرته وعشيرته ، صورة واقعية من الإسلام الذي يدعو إليه . . وتخطو شهادته الخطوة الثانية بقيامه بدعوة الأمة - بعد دعوة البيت والأسرة والعشيرة - إلى تحقيق الإسلام في حياتها كلها . . الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية . . وتنتهي شهادته بالجهاد لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم من أي لون كانت هذه العوائق . . فإذ استشهد في هذا فهو إذن « شهيد » أدى شهادته لدينه ، ومضى إلى ربه .. وهذا وحده هو « الشهيد » . وفي نهاية المطاف نقف وقفة خاشعة أمام جلال الله وعظمته؛ ممثلة في علمه ، وعدله ، ورعايته ، وفضله ، ورحمته وبره . . بهذا الكائن الإنساني الذي يجحد ويطغى . . نقف أمام عظمة العلم بهذا الكائن؛ وما أودعه من القوى والطاقات؛ وما ركب في كينونته من استعدادات الهدى والضلال . وما رتبه على هذا العلم حين لم يكله إلى عقله وحده . . على عظمة هذه الأداة التي وهبها له؛ وعلى كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى وموجبات الإيمان . . فلقد علم الله أن هذه الأداة العظيمة تنوشها الشهوات والنزوات؛ وأن الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون وأطواء النفس قد يحجبها الغرض والهوى ، ويحجبها الجهل والقصور . . ومن ثم لم يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال - إلا بعد الرسالة والبيان - ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة ، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة الذي يقرره له الله . . ثم ترك له ما وراء ذلك - وهو ملك عريض - يبدع فيه ما شاء ، ويغير فيه ما شاء ، ويركب فيه ما شاء ، ويحلل فيه ما شاء . منتفعاً بتسخير الله لهذا الملك كله لهذا الإنسان وهو الذي يخطىء عقله ويصيب ، وتعثر قدمه وتستقيم على الطريق! ونقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على الله - سبحانه - لو لم يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين . هذا مع احتشاد كتاب الكون المفتوح ، وكتاب النفس المكنون بالآيات الشواهد على الخالق ، ووحدانيته ، وتدبيره وتقديره ، وقدرته وعلمه . . ومع امتلاء الفطرة بالأشواق والهواتف إلى الاتصال ببارئها والإذعان له ، والتناسق والتجاوب والتجاذب بينها وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس . . ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصي الشواهد ويستنبط النتائج . . ولكن الله - سبحانه - بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها ، فتعطلها ، أو تفسدها ، أو تطمسها ، أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط ، قد أعفى الناس من حجية الكون ، وحجية الفطرة ، وحجية العقل ، ما لم يرسل إليهم الرسل ليستنقذوا هذه الأجهزة كلها مما قد يرين عليها ، وليضبطوا بموازين الحق الإلهي الممثل في الرسالة ، هذه الأجهزة ، فتصح أحكامها حين تستقيم على ضوابط المنهج الإلهي . . وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع؛ أو تسقط حجتها وتستحق العقاب . . ونقف أمام عظمة الرعاية والفضل والرحمة والبر بهذا المخلوق الذي يكرمه الله ويختاره ، على ما يعلم به من ضعف ونقص؛ فيكل إليه هذا الملك العريض . . خلافة الأرض . . وهو بالقياس إليه ملك عريض! وإن كان في ملك الله ذرة تمسكها يد الله فلا تضيع في ملكه الكبير! ثم تشاء رعايته وفضله ورحمته وبره ، ألا تدعه لما أودع في كينونته من فطرة هادية ولكنها تطمس؛ ومن عقل هاد ولكنه يضل؛ بل يتفضل عليه ربه فيرسل إليه الرسل تترى .. وهو يكذب ويعاند؛ ويشرد وينأى؛ فلا يأخذه ربه بأخطائه وخطاياه؛ ولا يحبس عنه بره وعطاياه ، ولا يحرمه هداه على أيدي رسله الهداة . . ثم لا يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل؛ فيعرض ويكفر ، ويموت وهو كافر لا يتوب ولا ينيب . . ومن عجب أن يأتي على هذا الإنسان زمان يزعم لنفسه أنه استغنى عن ربه . . استغنى عن رعايته وفضله ورحمته وبره . . استغنى عن هدايته ودينه ورسله . . استغنى بالأداة التي علم ربه أنها لا تغنيه - ما لم تقوّم بمنهج الله - فلم يكتب عليه عقاباً إلا بعد الرسالة والبيان . . فيتمثل لنا الطفل الذي يحس ببعض القوة في ساقيه فيروح يبعد عنه اليد التي تسنده ، ليتكفأ ويتعثر! غير أن الطفل في هذا المثال أرشد وأطوع للفطرة . إذ أنه بمحاولة الاستقلال عن اليد التي تسنده يجيب داعي الفطرة في استحثاث طاقات كامنة في كيانه؛ وإنماء قدرات ممكنة النماء؛ وتدريب عضلات وأعصاب تنمو وتقوى بالتدريب . . أما إنسان اليوم الذي يبعد عنه يد الله ، ويتنكب هداه ، فإن كينونته - بكل ما يكمن فيها من قوى - يعلم الله أنها لا تشتمل على قوة مكنونة تملك الاستغناء عن يد الله وهداه . وقصارى ما في قواه أنها ترشد وتضبط وتستقيم برسالة الله . وتضل وتختل وتضطرب إذا هي استقلت بنفسها ، وتنكبت هداه! وخطأ وضلال - إن لم يكن هو الخداع والتضليل - كل زعم يقول : إن العقول الكبيرة كانت حرية أن تبلغ بدون الرسالة ما بلغته بالرسالة . . فالعقل ينضبط - مع الرسالة - بمنهج النظر الصحيح؛ فإذا أخطأ بعد ذلك في التطبيق كان خطؤه كخطأ الساعة التي تضبط ، ثم تغلبها عوامل الجو والمؤثرات ، وطبيعة معدنها الذي يتأثر بهذه المؤثرات ، لا كخطأ الساعة التي لم تضبط أصلاً ، وتركت للفوضى والمصادفة! وشتان شتان! وآية أن ما يتم بالرسالة - عن طريق العقل نفسه - لا يمكن أن يتم بغيرها؛ فلا يغني العقل البشري عنها . . أن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلاً واحداً من العقول الكبيرة النادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية المتوسطة بالرسالة . . لا في تصور اعتقادي؛ ولا في خلق نفسي ، ولا في نظام حياة ، ولا في تشريع واحد لهذا النظام . . إن عقول أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعاً . . بل إنهم ليقولون : إن عقل أرسطو هو أكبر عقل عرفته البشرية - بعيداً عن رسالة الله وهداه - فإذا نحن راجعنا تصوره لإلهه - كما وصفه - رأينا المسافة الهائلة التي تفصله عن تصور المسلم العادي لإلهه مهتدياً بهدى الرسالة . وقد وصل أخناتون - في مصر القديمة - إلى عقيدة التوحيد - وحتى مع استبعاد تأثره في هذا بإشعاع عقيدة التوحيد في رسالة إبراهيم ورسالة يوسف - فإن الفجوات والأساطير التي في عقيدة أخناتون تجعل المسافة بينها وبين توحيد المسلم العادي لإلهه بعيدة بعيدة . وفي الخلق نجد في الفترة التي هيمن فيها الإسلام في صدر الإسلام نماذج للأوساط ممن رباهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تتطاول إليها أعناق الأفذاذ على مدار التاريخ ممن لم تخرجهم رسالة سماوية . (1/12) وفي المبادىء والنظم والتشريعات لا نجد أبداً ذلك التناسق والتوازن ، مع السمو والرفعة التي نجدها في نظام الإسلام ومبادئه وتشريعاته . ولا نجد أبداً ذلك المجتمع الذي أنشأه الإسلام يتكرر لا في زمانه ولا قبل زمانه ولا بعد زمانه في أرض أخرى ، بتوازنه وتناسقه ويسر حياته وتناغمها . . إنه ليس المستوى الحضاري المادي هو الذي يكون عليه الحكم . فالحضارة المادية تنمو بنمو وسائلها التي ينشئها « العلم » الصاعد . . ولكن ميزان الحياة في فترة من الفترات هو التناسق والتوازن بين جميع أجزائها وأجهزتها وأوضاعها . . هو التوازن الذي ينشىء السعادة والطمأنينة ، والذي يطلق الطاقات الإنسانية كلها لتعمل دون كبت ودون مغالاة في جانب من جوانبها الكثيرة . . والفترة التي عاشت بالإسلام كاملاً لم تبلغها البشرية - بعيداً عن الرسالة - في أي عصر . . والخلخلة وعدم الاتزان هو الطابع الدائم للحياة في غير ظل الإسلام؛ مهما التمعت بعض الجوانب؛ ومهما تضخمت بعض الجوانب . فإنما تلتمع لتنطفىء جوانب أخرى . وإنما تتضخم على حساب الجوانب الأخرى . . والبشرية معها تتأرجح وتحتار وتشقى .ونقف عند هذا الحد - المناسب لسياق الظلال - في الحديث عن الإيحاءات القوية العميقة ، التي يثيرها في النفس قول الله تعالى : { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } . . ----------------------- وقال تعالى :{ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) [الأنعام/48-50] إنَّ اللهَ تَعَالَى يُرْسِلُ الرُّسُلَ لِيُبَشِّرُوا ، مَنْ آمَنَ ، بِالجَنَّةِ ، وَحُسْنِ الثَّوَابِ ، وَلِيُنْذِرُوا ، مَنْ كَفَرَ وَعَتَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ، بِالعُقُوبَةِ وَالعَذَابِ ، فَالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، فَهَؤُلاَءِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ، مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُمْ فِي الدُّنْيا .أمَّا الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمِ ، فَإنَّهُمْ سَيُصِيبَهُمُ العَذَابُ ، بِمَا كَفَرُوا بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ ، وَخَرَجُوا عَنْ أَوَامِرِ رَبِّهِمْ ، وَلَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ .لقد كان هذا الدين يعد البشرية للرشد العقلي ، ويؤهلها لاستخدام هذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان استخداماً كاملاً في إدراك الحق الذي تنبث آياته في صفحات الوجود ، وفي أطوار الحياة ، وفي أسرار الخلق؛ والذي جاء هذا القرآن لكشفه وتجليته وتوجيه الإدراك البشري إليه . .وكان هذا كله يقتضي الانتقال بالبشرية من عهد الخوارق الحسية؛ التي تلوي الأعناق وتجبر المنكرين على الإذعان ، أمام القهر بالخارقة المادية البادية للعيان! إلى توجيه الإدراك البشري لملاحظة بدائع الصنعة الإلهية في الوجود كله . وهي في ذاتها خوارق معجزة . . ولكنها خوارق دائمة يقوم عليها كيان الوجود ، ويتألف منها قوامه وإلى مخاطبة هذا الإدراك بكتاب من عند الله باهر معجز في تعبيره ومعجز في منهجه ومعجز في الكيان الاجتماعي العضوي الحركي الذي يرمي إلى إنشائه على غير مثال . والذي لم يلحق به من بعده أي مثال! وقد اقتضى هذا الأمر تربية طويلة ، وتوجيهاً طويلاً ، حتى يألف الإدراك البشري هذا اللون من النقلة ، وهذا المدى من الرقي؛ وحتى يتجه الإنسان إلى قراءة سفر الوجود بإدراكه البشري ، في ظل التوجيه الرباني ، والضبط القرآني ، والتربية النبوية . . قراءة هذا السفر قراءة غيبية واقعية إيجابية في آن واحد ، بعيدة عن منهج التصورات الذهنية التجريدية التي كانت سائدة في قسم من الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي؛ وعن منهج التصورات الحسية المادية التي كانت سائدة في قسم من تلك الفلسفة وفي بعض الفلسفة الهندية والمصرية والبوذية والمجوسية كذلك ، مع الخروج من الحسية الساذجة التي كانت سائدة في العقائد الجاهلية العربية! وجانب من تلك التربية وهذا التوجيه يتمثل في بيان وظيفة الرسول ، وحقيقة دوره في الرسالة على النحو الذي تعرضه هاتان الآيتان - كما ستعرضه الموجة التالية في سياق السورة - فالرسول بشر ، يرسله الله ليبشر وينذر ، وهنا تنتهي وظيفته ، وتبدأ استجابة البشر ، ويمضي قدر الله ومشيئته من خلال هذه الاستجابة ، وينتهي الأمر بالجزاء الإلهي وفق هذه الاستجابة . . فمن آمن وعمل صالحاً يتمثل فيه الإيمان ، فلا خوف عليه مما سيأتي ولا هو يحزن على ما أسلف . فهناك المغفرة على ما أسلف ، والثواب على ما أصلح .. ومن كذب بآيات الله التي جاءه بها الرسول ، والتي لفته إليها في صفحات هذا الوجود . يمسهم العذاب بسبب كفرهم ، الذي يعبر عنه هنا بقوله : { بما كانوا يفسقون } حيث يعبر القرآن غالباً عن الشرك والكفر بالظلم والفسق في معظم المواضع . .تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض . وبيان محكم عن الرسول ووظيفته وحدود عمله في هذا الدين . . تصور يفرد الله سبحانه بالألوهية وخصائصها؛ ويرد إلى مشيئة الله وقدره الأمر كله ، ويجعل للإنسان - من خلال ذلك - حرية اتجاهه وتبعة هذا الاتجاه ، ويبين مصائر الطائعين لله والعصاة بياناً حاسماً؛ وينفي كل الأساطير والتصورات الغامضة عن طبيعة الرسول وعمله ، مما كان سائداً في الجاهليات . . وبذلك ينقل البشرية إلى عهد الرشد العقلي؛ دون أن يضرب بها في تيه الفلسفات الذهنية ، والجدل اللاهوتي ، الذي استنفذ طاقة الإدراك البشري أجيالاً بعد أجيال!!! ---------------------- وقال تعالى :{ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) [الكهف/56] إِنَّهُ لاَ يُرْسِلُ الرُّسُلَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ مِنْ صَدَّقَهُمْ ، وَآمَنَ بِدَعْوَتِهِمْ ، بِأَنَّ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم الحُسْنَى؛ وَمُنْذِرِينَ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَخَالَفَهُمْ ، عِقَابَ اللهِ وَعَذَابَهُ ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لاَ يُرْسِلُ المُرْسَلِينَ لِيَقْتَرِحَ عَلَيْهِمُ الظَّالِمُونَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ ، وَيَطْلُبُوا مِنْهُمْ مَا لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهِ . وَالظَّالِمُونَ الكُفَّارُ لاَ يُجَادِلُونَ ، وَلا يَقْتَرِحُونَ لِلاسْتِرْشَادِ وَالاهْتِدَاءِ ، وَإِنَّمَا يُجَادِلُونَ بِالبَاطِلِ لِيُضْعِفُوا الحَقَّ الذِي جَاءَهُمْ بِهِ الرُّسُلُ ، وَيُبْطِلُوهُ ( لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ ) ، وَلَنْ يَبْلُغُوا غَايَتَهُمْ . وَقَدِ اتَّخَذُوا جَمِيعَ الحُجَجِ وَالمُعْجِزَاتِ التِي جَاءَهُمْ بِهَا رُسُلُهُمْ ، وَالعَذَابِ الَّذِي حَذَّرُوهُمْ مِنْهُ ، وَخَوّفُوهُمْ مِنْ نُزُولِهِ بِهِمْ . . . هُزْواً وَسُخْرِيَةً . ـــــــــــــ (1/13) إنزال الكتاب بالحق ليحكم الناس به قال تعالى :{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) [البقرة/213] كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً مُتَّفِقَةً عَلَى مِلَّةِ آدَمَ عَلَيهِ السَّلاَمُ ، وَلَمَّا تَطَاوَلَ عَلَيهِمُ العَهْدُ تَطَرَّقَ الزَّيْغُ وَالشِّرْكُ إِلى عَقَائِدِهِمْ ، وَاخْتَلَفُوا فِي المَذَاهِبِ وَالآرَاءِ وَالمُعْتَقَدَاتِ فَكَانَ مِنْ لًطْفِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ بِالخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ ، وَمُنْذِرِينَ بِحُبُوطِ عَمَلِ مَنِ اتَّبَعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي العَاقِبَةِ وَاللهُ تَعَالَى يَبْعَثُ الأَنْبِيَاءَ لِيُنَبِّهُوا أَقْوَامَهُمْ إِلى مَا غَفَلُوا عَنْهُ ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ سَيِّئ ِالعَادَاتِ ، وَقَبيحِ الأَعْمَالِ . وَكِتَابُ اللهِ هُوَ الذِي يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَقَدْ قَامَ الاخْتِلاَفُ بَيْنَ النَّاسِ بِسَبَبِ الاخْتِلافِ الذِي وَقَعَ بَيْنَ الرُّؤَسَاءِ وَالأَحْبَارِ وَالعُلَمَاءِ القَائِمِينَ عَلَى الدَّينِ بَعْدَ الرُّسُلِ ، وَكَانَ سَبَبَ الاخْتِلافِ هذا هُوَ البَغْيُ وَتَعَدِّي الحُدُودِ التِي أَقَامَهَا الدِّينُ حَوَاجِزَ بَيْنَ النَّاسِ . وَقَدْ هَدَى اللهُ المُؤْمِنِينَ إِلى الحَقِّ الذِي اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ ، فَوَصَلُوا إِلَى مَا يُرْضِي رَبَّهُمْ . فَالإِيمَانُ الصَّحِيحُ نُورٌ يَسْطَعُ فِي العُقُولِ فَيَهْدِيهَا فِي ظُلُمَاتِ الشُّبَهِ وَالضَّلاَلاَتِ ، وَيُضِيءُ السَّبِيلَ إِلى الحَقِّ الذِي لاَ يُخَالِطُهُ بَاطِلٌ ، فَالمُؤْمِنُ هَادِئُ القَلْبِ ، مُطْمَئِنُ النَّفْسِ ، وَالنَّاسُ حَوْلَهُ فِي اضْطِرَابٍ وَقَلَقٍ وَحُرُوبٍ ، أَمَّا الذِينَ كَفَرُوا بِأَنْعُمِ اللهِ فَقَدْ عُوقِبُوا عَلَى هذا الكُفْرِ بِفَشْوِ الشَّرِّ ، وَفَسَادِ الأَمْرِ ، وَاضْطِرابِ النَّفْسِ . كان الناس أمة واحدة . على نهج واحد ، وتصور واحد . وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة من أسرة آدم وحواء وذراريهم ، قبل اختلاف التصورات والاعتقادات . فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد . وهم أبناء الأسرة الأولى : أسرة آدم وحواء . وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعاً نتاج أسرة واحدة صغيرة ، ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم ، وليجعلها هي اللبنة الأولى . وقد غبر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد واتجاه واحد وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى . حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها ، وتفرقوا في المكان ، وتطورت معايشهم؛ وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة ، التي فطرهم الله عليها لحكمة يعلمها ، ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع في الاستعدادات والطاقات والاتجاهات . عندئذ اختلفت التصورات وتباينت وجهات النظر ، وتعددت المناهج ، وتنوعت المعتقدات . . وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . . { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } . .وهنا تتبين تلك الحقيقة الكبرى . . إن من طبيعة الناس أن يختلفوا؛ لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم؛ يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض . . إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة ، واستعدادات شتى من ألوان متعددة؛ كي تتكامل جميعها وتتناسق ، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة ، وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله . فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف؛ ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات . . « ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك - ولذلك خلقهم » . . هذا الاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشئ بدوره اختلافاً في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق . . ولكن الله يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل إطار واسع عريض يسعها جميعاً حين تصلح وتستقيم . . هذا الإطار هو إطار التصور الإيماني الصحيح . الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات؛ فلا يقتلها ولا يكبحها؛ ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح . ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون؛ وحكم عدل يرجع إليه المختصمون؛ وقول فصل ينتهي عنده الجدل ، ويثوب الجميع منه إلى اليقين : { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب بالحق ، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } . ولا بد أن نقف عند قوله تعالى { بالحق } . . فهو القول الفصل بأن الحق هو ما جاء به الكتاب؛ وأن هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل ، والقول الفصل ، فيما عداه من أقوال الناس وتصوراتهم ومناهجهم وقيمهم وموازينهم . . لا حق غيره . ولا حكم معه . ولا قول بعده . وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد؛ وبغير تحكيمه في كل ما يختلف فيه الناس؛ وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض . . بغير هذا كله لا يستقيم أمر هذه الحياة؛ ولا ينتهي الناس من الخلاف والفرقة؛ ولا يقوم على الأرض السلام؛ ولا يدخل الناس في السلم بحال . ولهذه الحقيقة قيمتها الكبرى في تحديد الجهة التي يتلقى منها الناس تصوراتهم وشرائعهم؛ والتي ينتهون إليها في كل ما يشجر بينهم من خلاف في شتى صور الخلاف . . إنها جهة واحدة لا تتعدد هي التي أنزلت هذا الكتاب بالحق؛ وهو مصدر واحد لا يتعدد هو هذا الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . . وهو كتاب واحد في حقيقته ، جاء به الرسل جميعاً . فهو كتاب واحد في أصله ، وهي ملة واحدة في عمومها ، وهو تصور واحد في قاعدته : إله واحد ، ورب واحد ، ومعبود واحد ، ومشرّع واحد لبني الإنسان . . ثم تختلف التفصيلات بعد ذلك وفق حاجات الأمم والأجيال؛ ووفق أطوار الحياة والارتباطات؛ حتى تكون الصورة الأخيرة التي جاء بها الإسلام ، وأطلق الحياة تنمو في محيطها الواسع الشامل بلا عوائق . بقيادة الله ومنهجه وشريعته الحية المتجددة في حدود ذلك المحيط الشامل الكبير . وهذا الذي يقرره القرآن في أمر الكتاب هو النظرية الإسلامية الصحيحة في خط سير الأديان والعقائد . . كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله ، يقوم على القاعدة الأصيلة : قاعدة التوحيد المطلق . . ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة ، وتتراكم الخرافات والأساطير ، حتى يبعد الناس نهائياً عن ذلك الأصل الكبير ، وهنا تجيء رسالة جديدة تجدد العقيدة الأصيلة ، وتنفي ما علق بها من الانحرافات ، وتراعي أحوال الأمة وأطوارها في التفصيلات . . وهذه النظرية أولى بالإتباع من نظريات الباحثين في تطور العقائد من غير المسلمين ، والتي كثيرا ما يتأثر بها باحثون مسلمون ، وهم لا يشعرون ، فيقيمون بحوثهم على أساس التطور في أصل العقيدة وقاعدة التصور ، كما يقول المستشرقون وأمثالهم من الباحثين الغربيين الجاهليين! وهذا الثبات في أصل التصور الإيماني ، هو الذي يتفق مع وظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، في كل زمان ، ومع كل رسول ، منذ أقدم الأزمان . ولم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه الناس ، وأن يكون هناك قول فصل ينتهون إليه . ولم يكن بد كذلك أن يكون هذا الميزان من صنع مصدر آخر غير المصدر الإنساني ، وأن يكون هذا القول قول حاكم عدل لا يتأثر بالهوى الإنساني ، ولا يتأثر بالقصور الإنساني ، ولا يتأثر بالجهل الإنساني! وإقامة ذلك الميزان الثابت تقتضي علماً غير محدود . علم ما كان وما هو كائن وما سيكون . علمه كله لا مقيداً بقيود الزمان التي تفصل الوجود الواحد إلى ماض وحاضر ومستقبل ، وإلى مستيقن ومظنون ومجهول ، وإلى حاضر مشهود ومغيب مخبوء . . ولا مقيداً بقيود المكان التي تفصل الوجود الواحد إلى قريب وبعيد ، ومنظور ومحجوب ، ومحسوس وغير محسوس . . في حاجة إلى إله يعلم ما خلق ، ويعلم من خلق . . ويعلم ما يصلح وما يصلح حال الجميع . وإقامة ذلك الميزان في حاجة كذلك إلى استعلاء على الحاجة ، واستعلاء على النقص ، واستعلاء على الفناء ، واستعلاء على الفوت ، واستعلاء على الطمع ، واستعلاء على الرغبة والرهبة . . واستعلاء على الكون كله بما فيه ومن فيه . . في حاجة إلى إله ، لا أرب له ، ولا هوى ، ولا لذة ، ولا ضعف في ذاته - سبحانه - ولا قصور! أما العقل البشري فبحسبه أن يواجه الأحوال المتطورة ، والظروف المتغيرة ، والحاجات المتجددة؛ ثم يوائم بينها وبين الإنسان في لحظة عابرة وظرف موقوت . على أن يكون هناك الميزان الثابت الذي يفيء إليه ، فيدرك خطأه وصوابه ، وغيه ورشاده ، وحقه وباطله ، من ذلك الميزان الثابت . . وبهذا وحده تستقيم الحياة . ويطمئن الناس إلى أن الذي يسوسهم في النهاية إله! إن الكتاب لم ينزل بالحق ليمحو فوارق الاستعدادات والمواهب والطرائق والوسائل . إنما جاء ليحتكم الناس إليه . . وإليه وحده . . حين يختلفون . . ومن شأن هذه الحقيقة أن تنشىء حقيقة أخرى تقوم على أساسها نظرة الإسلام التاريخية : إن الإسلام يضع { الكتاب } الذي أنزله الله { بالحق } ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . . يضع هذا الكتاب قاعدة للحياة البشرية . ثم تمضي الحياة . فإما اتفقت مع هذه القاعدة ، وظلت قائمة عليها ، فهذا هو الحق . وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى ، فهذا هو الباطل . . هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعاً . في فترة من فترات التاريخ . فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل . وليس الذي يقرره الناس هو الحق ، وليس الذي يقرره الناس هو الدين . إن نظرة الإسلام تقوم ابتداء على أساس أن فعل الناس لشيء ، وقولهم لشيء ، وإقامة حياتهم على شيء . . لا تحيل هذا الشيء حقاً إذا كان مخالفاً للكتاب؛ ولا تجعله أصلاً من أصول الدين؛ ولا تجعله التفسير الواقعي لهذا الدين؛ ولا تبرره لأن أجيالاً متعاقبة قامت عليه . . وهذه الحقيقة ذات أهمية كبرى في عزل أصول الدين عما يدخله عليها الناس! وفي التاريخ الإسلامي مثلاً وقع انحراف ، وظل ينمو وينمو . . فلا يقال : إن هذا الانحراف متى وقع وقامت عليه حياة الناس فهو إذن الصورة الواقعية للإسلام! كلا! إن الإسلام يظل بريئاً من هذا الواقع التاريخي . ويظل هذا الذي وقع خطأ وانحرافاً لا يصلح حجة ولا سابقة؛ ومن واجب من يريد استئناف حياة إسلامية أن يلغيه ويبطله ، وأن يعود إلى الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . . ولقد جاء الكتاب . . ومع ذلك كان الهوى يغلب الناس من هناك ومن هناك؛ وكانت المطامع والرغائب والمخاوف والضلالات تبعد الناس عن قبول حكم الكتاب ، والرجوع إلى الحق الذي يردهم إليه : { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات . . بغياً بينهم } . . فالبغي . . بغي الحسد . وبغي الطمع . وبغي الحرص . وبغي الهوى . . هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج؛ والمضي في التفرق واللجاج والعناد . وهذه حقيقة . . فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب ، القوي الصادع المشرق المنير . . ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى ، أو في نفسيهما جميعاً . . فأما حين يكون هناك إيمان فلا بد من التقاء واتفاق : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } . . هداهم بما في نفوسهم من صفاء ، وبما في أرواحهم من تجرد ، وبما في قلوبهم من رغبة في الوصول إلى الحق .وما أيسر الوصول حينئذ والاستقامة : { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } . . هو هذا الصراط الذي يكشف عنه ذلك الكتاب . وهو هذا المنهج الذي يقوم على الحق ويستقيم على الحق . ولا تتقاذفه الأهواء والشهوات ، ولا تتلاعب به الرغاب والنزوات . . والله يختار من عباده لهذا الصراط المستقيم من يشاء ، ممن يعلم منهم الاستعداد للهدى والاستقامة على الصراط؛ أولئك يدخلون في السلم ، وأولئك هم الأعلون ، ولو حسب الذين لا يزنون بميزان الله أنهم محرومون ، ولو سخروا منهم كما يسخر الكافرون من المؤمنين! ـــــــــــــ (1/14) كلما ابتعد الناس عن دين الله جاءهم رسول جديد قال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) [المائدة/19 ] يَقُولُ تَعَالَى لأهْلِ الكِتَابِ إِنَّهُ أرْسَلَ إلَيْهِمْ مُحَمَّداً رَسُولاً بَعْدَ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ مَا بَيْنَ إِرْسَالِ عِيسَى وَإِرْسَالِهِ ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا رَسُولٌ ( عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ) ، فَانْطَمَسَتْ سُبُلُ الهُدَى ، وَتَغَيَّرَتِ الأدْيَان ، وَكَثُرَ عُبَّادُ الأوْصَانِ وَالنِّيرَانِ ، وَقَدْ بَعَثَهُ اللهُ إلى أهلِ الكِتَابِ ، بَعْدَ أنْ بَشَّرَهُمْ بِهِ فِي الكُتُبِ التي أنْزَلَهَا عَلَى أنْبِيائِهِمْ ، وَأَخْبَرَهُمْ بِهِ أنْبِيَاؤُهُمْ ، وَذَلِكَ لِكَيْلا يَحْتَجُّوا وَيَقُولُوا : مَا جَاءَنا رَسُولٌ يُبَشِّرُ بِالخَيْرِ وَيُنْذِرُ بِالشَّرِّ . فَها قَدْ جَاءَكُمْ مُحَمَّدٌ بَشِيراً وَنَذِيراً ، وَاللهُ قَدِيرٌ عَلَى عِقَابِ مَنْ عَصَاهُ ، وَعَلَى إثَابَةِ مَنْ أطَاعَهُ . فهو رسول الله إليكم . ودوره معكم أن يبين لكم ويوضح ويكشف ، ما تواطأتم على إخفائه من حقائق كتاب الله الذي معكم . . سواء في ذلك اليهود والنصارى . . وقد أخفى النصارى الأساس الأول للدين . . التوحيد . . وأخفى اليهود كثيراً من أحكام الشريعة؛ كرجم الزاني ، وتحريم الربا كافة . كما أخفوا جميعاً خبر بعثة النبي الأمي { الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } كما أنه - صلى الله عليه وسلم - يعفو عن كثير مما أخفوه أو حرفوه؛ مما لم يرد به شرعه . فقد نسخ الله من أحكام الكتب والشرائع السابقة ما لم يعد له عمل في المجتمع الإنساني ، مما كانت له وظيفة وقتية في المجتمعات الصغيرة الخاصة ، التي بعث إليها الرسل من قبل ولفترة محدودة - في علم الله - من الزمان ، قبل أن تجيء الرسالة الشاملة الدائمة ، وتستقر - وقد أكملها الله وأتم بها نعمته ورضيها للناس ديناً - فلم يعد فيها نسخ ولا تبديل ولا تعديل . ويبين لهم طبيعة ما جاء به هذا الرسول ، ووظيفته في الحياة البشرية ، وما قدر الله من أثره في حياة الناس . { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم } . . وليس أدق ولا أصدق ولا أدل على طبيعة هذا الكتاب . . القرآن . . وعلى طبيعة هذا المنهج .. الإسلام . . من أنه { نور } . . إنها حقيقة يجدها المؤمن في قلبه وفي كيانه وفي حياته وفي رؤيته وتقديره للأشياء والأحداث والأشخاص . . يجدها بمجرد أن يجد حقيقة الإيمان في قلبه . . { نور } نور تشرق به كينونته فتشف وتخف وترف . ويشرق به كل شيء أمامه فيتضح ويتكشف ويستقيم . ثقلة الطين في كيانه ، وظلمة التراب ، وكثافة اللحم والدم ، وعرامة الشهوة والنزوة . . كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى . . تخف الثقلة ، وتشرق الظلمة ، وترق الكثافة ، وترف العرامة . . واللبس والغبش في الرؤية ، والتأرجح والتردد في الخطوة ، والحيرة والشرود في الاتجاه والطريق البهيم الذي لا معالم فيه . . كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى . . يتضح الهدف ويستقيم الطريق إليه وتستقيم النفس على الطريق . . { نور . وكتاب مبين } . . وصفان للشيء الواحد . . لهذا الذي جاء به الرسول الكريم . . { يهدي به الله - من اتبع رضوانه - سبل السلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم } . لقد رضي الله الإسلام ديناً . . وهو يهدي من يتبع رضوانه هذا ويرتضيه لنفسه كما رضيه الله له . . يهديه . . { سبل السلام } . . وما أدق هذا التعبير وأصدقه؛ إنه { السلام } هو ما يسكبه هذا الدين في الحياة كلها . . سلام الفرد . وسلام الجماعة . وسلام العالم . . سلام الضمير ، وسلام العقل ، وسلام الجوارح . . سلام البيت والأسرة ، وسلام المجتمع والأمة ، وسلام البشر والإنسانية . . السلام مع الحياة . والسلام مع الكون . والسلام مع الله رب الكون والحياة . . السلام الذي لا تجده البشرية - ولم تجده يوماً - إلا في هذا الدين؛ وإلا في منهجه ونظامه وشريعته ، ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته . حقاً إن الله يهدي بهذا الدين الذي رضيه ، من يتبع رضوان الله ، { سبل السلام } . . سبل السلام كلها في هذه الجوانب جميعها . . ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق سبل الحرب في الجاهليات القديمة أو الحديثة . . ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق حرب القلق الناشئ من عقائد الجاهلية في أعماق الضمير . وحرب القلق الناشئ من شرائع الجاهلية وأنظمتها وتخبطها في أوضاع الحياة . وقد كان المخاطبون بهذه الكلمات أول مرة يعرفون من تجربتهم في الجاهلية معنى هذا السلام . إذ كانوا يذوقونه مذاقاً شخصياً؛ ويلتذون هذا المذاق المريح . . وما أحوجنا نحن الآن أن ندرك هذه الحقيقة؛ والجاهلية من حولنا ومن بيننا تذيق البشرية الويلات . . من كل ألوان الحرب في الضمائر والمجتمعات قروناً بعد قرون! ما أحوجنا نحن الذين عشنا في هذا السلام فترة من تاريخنا؛ ثم خرجنا من السلام إلى الحرب التي تحطم أرواحنا وقلوبنا ، وتحطم أخلاقنا وسلوكنا ، وتحطم مجتمعاتنا وشعوبنا . . بينما نملك الدخول في السلم التي منحها الله لنا؛ حين نتبع رضوانه؛ ونرضى لأنفسنا ما رضيه الله لنا! إننا نعاني من ويلات الجاهلية؛ والإسلام منا قريب . ونعاني من حرب الجاهلية وسلام الإسلام في متناول أيدينا لو نشاء .. فأية صفقة خاسرة هذه التي نستبدل فيها الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ونشتري فيها الضلالة بالهدى؟ ونؤثر فيها الحرب على السلام؟ إننا نملك إنقاذ البشرية من ويلات الجاهلية وحربها المشبوبة في شتى الصور والألوان . ولكننا لا نملك إنقاذ البشرية ، قبل أن ننقذ نحن أنفسنا ، وقبل أن نفيء إلى ظلال السلام ، حين نفيء إلى رضوان الله ونتبع ما ارتضاه . فنكون من هؤلاء الذين يقول الله عنهم إنه يهديهم سبل السلام . { ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه } . .والجاهلية كلها ظلمات . . ظلمة الشبهات والخرافات والأساطير والتصورات . وظلمة الشهوات والنزعات والاندفاعات في التيه . وظلمة الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى والوحشة من الجناب الآمن المأنوس . وظلمة اضطراب القيم وتخلخل الأحكام والقيم والموازين . والنور هو النور . . هو ذلك النور الذي تحدثنا عنه آنفاً في الضمير وفي العقل وفي الكيان وفي الحياة وفي الأمور . . { ويهديهم إلى صراط مستقيم } . .مستقيم مع فطرة النفس ونواميسها التي تحكمها . مستقيم مع فطرة الكون ونواميسه التي تصرفه . مستقيم إلى الله لا يلتوي ولا تلتبس فيه الحقائق والاتجاهات والغايات . . إن الله الذي خلق الإنسان وفطرته؛ وخلق الكون ونواميسه؛ هو الذي وضع للإنسان هذا المنهج؛ وهو الذي رضي للمؤمنين هذا الدين . فطبيعي وبديهي أن يهديهم هذا المنهج إلى الصراط المستقيم . حيث لا يهديهم منهج غيره من صنع البشر العاجزين الجهال الفانين! وصدق الله العظيم . الغني عن العالمين . الذي لا يناله من هداهم أو ضلالهم شيء ولكنه بهم رحيم! ـــــــــــــ (1/15) الخصائص البشرية للرسل الرسل يموتون قال تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) [آل عمران/144-145] لَمَّا انْهَزَمَ المُسْلِمُونَ يَوْمَ أحُدٍ ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ ، أُشِيعَ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قُتِلَ ، فَحَصَلَ ضَعْفٌ فِي صُفُوفِ المُسْلِمِينَ ، وَتَأَخُّرٌ عَنِ القِتَالِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيةَ ، وَفِيهَا يُذَكِّرُ المُسْلِمِينَ بِأَنَّ مُحَمَّداً بَشَرٌ قَدْ سَبَقَتُهُ رُسُلٌ ، مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ ، ثُمَّ يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ ، حِينَ سَمَاعِ إِشَاعَةِ قَتْلِ الرَّسُولِ ، ضَعْفَهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : أَفَإِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ ، أوْ قُتِلَ ، تَرَاجَعْتُمْ وَنَكَصْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ؟ وَمَنْ يَتَرَاجَعُ وَيَنْكُصْ عَلَى عَقِبَيْهِ ، فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيئاً ، لأنَّ اللهَ غَنِيٌ عَنِ العَالَمِينَ ، أمّا الذِينَ امْتَثَلُوا لأمْرِ اللهِ ، وَقَاتَلُوا عَنْ دِينِهِ ، وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الشَّاكِرُونَ ، وَسَيَجْزِيهِمْ رَبُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ . لاَ يَمُوتُ أحَدٌ إلاَّ بِقَدَرِ اللهِ ، وَحَتَّى يَسْتَوْفِيَ المُدَّةَ التِي جَعَلَهَا اللهُ لَهُ أَجَلاً ( كِتَاباً مُؤَجَّلاً ) ، فَلاَ يَتَقَدَّمُ عَنْهُ وَلاَ يَتَأَخَّرُ . وَإِذَا كَانَ مَحْيَا الإِنْسَانِ وَمَمَاتُهُ بِإِذْنِ اللهِ فَلاَ مَحَلَّ لِلْخَوْفِ وَالجُبْنِ ، وَلاَ عُذْرَ فِي الوَهَنِ وَالضَّعْفِ . وَفِي هَذِهِ الآيَةِ تَشْجِيعٌ لِلْجُبَنَاءِ عَلَى القِتَالِ . فَإِنَّ الإِقدَامَ وَالإِحْجَامَ لاَ يُنْقِصَانِ مِنْ عُمْرِ الإِنْسَانِ ، وَلاَ يَزِيْدَانِ فِيهِ . وَمَنْ كَانَ عَمَلُهُ لِلْدُّنيا فَقَطْ نَالَهُ مِنَها مَا قَدَّرَهُ اللهُ لَهُ مِنْ ثَوَابِها ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصْيبٌ . وَمَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ ثَوَابَ الآخِرَةِ أَعْطَاهُ اللهُ مِنْ ثَوَابِهَا ، وَأَعْطَاهُ مَعَها مَا قَسَمَهُ لَهُ فِي الدُّنيا مِنْ نَصِيبٍ . وَاللهُ يَجْزِي الشَّاكِرِينَ الذِينَ يَعْرِفُونَ أنْعُمَ اللهِ عَلَيْهِمْ ، وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فَي الأَعْمِالِ الصَّالِحَةِ . وَيُعْطِيهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ بِمِقْدَارِ شُكْرِهِمْ وَعَمَلِهِمْ . إن محمداً ليس إلا رسولاً . سبقته الرسل . وقد مات الرسل . ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله . . هذه حقيقة أولية بسيطة . فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة؟ إن محمداً رسول من عند الله جاء ليبلغ كلمة الله . والله باق لا يموت وكلمته باقية لا تموت . . وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل . . وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول . وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة! إن البشر إلى فناء والعقيدة إلى بقاء ، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس من الرسل والدعاة على مدار التاريخ . . والمسلم الذي يحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيراً . الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة . وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحداً إثر واحد . . وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم وبكل مشاعرهم حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره - صلى الله عليه وسلم - . . هذا المسلم الذي يحب محمداً ذلك الحب مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد - صلى الله عليه وسلم - والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت . إن الدعوة أقدم من الداعية : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } . . قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن العميقة في منابت التاريخ المبتدئة مع البشرية تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق . وهي أكبر من الداعية وأبقى من الداعية . فدعاتها يجيئون ويذهبون وتبقى هي على الأجيال والقرون ويبقى أتباعها موصولين بمصدرها الأول الذي أرسل بها الرسل وهو باق - سبحانه - يتوجه إليه المؤمنون . . وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه ويرتد عن هدى الله . والله حي لا يموت : ومن ثم هذا الاستنكار وهذا التهديد وهذا البيان المنير : { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين } وفي التعبير تصوير حي للارتداد : { انقلبتم على أعقابكم } . . { ومن ينقلب على عقبيه } . فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة كأنه منظر مشهود . والمقصود أصلاً ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف : إن محمداً قد قتل فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين وانتهى أمر الجهاد للمشركين! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب كارتدادهم في المعركة على الأعقاب! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس - رضي الله عنه - فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم وقالوا له : إن محمداً قد مات : « فما تصنعون بالحياة من بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » . { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً } . .فإنما هو الخاسر الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق . . وانقلابه لن يضر الله شيئاً . فالله غني عن الناس وعن إيمانهم . ولكنه - رحمة منه بالعباد - شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم ولخيرهم هم . وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله . وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق وتعوج الأمور كلها ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة وتستقيم في ظله النفوس وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها والسلام مع الكون الذي تعيش فيه . { وسيجزي الله الشاكرين } . .الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج فيشكرونها باتباع المنهج ويشكرونها بالثناء على الله ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيباً على شكرهم ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة وهو أكبر وأبقى . . وكأنما أراد الله - سبحانه - بهذه الحادثة وبهذه الآية أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حي بينهم . وأن يصلهم مباشرة بالنبع . النبع الذي لم يفجره محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن جاء فقط ليومىء إليه ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق كما أومأ إليه من قبله من الرسل ودعوا القافلة إلى الارتواء منه! وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يأخذ بأيديهم فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى . العروة التي لم يعقدها محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون! وكأنما أراد الله - سبحانه - أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط . حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو يقتل فهم إنما بايعوا الله . وهم أمام الله مسؤولون! وكأنما كان الله - سبحانه - يعدّ الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى - حين تقع - وهو - سبحانه - يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم . فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب وأن يصلهم به هو وبدعوته الباقية قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول . ولقد أصيبوا - حين وقعت بالفعل - بالدهش والذهول . حتى لقد وقف عمر - رضي الله عنه - شاهراً سيفه يهدد به من يقول : إن محمداً قد مات! ولم يثبت إلا أبو بكر الموصول القلب بصاحبه وبقدر الله فيه الاتصال المباشر الوثيق . وكانت هذه الآية - حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين - هي النداء الإلهي المسموع فإذا هم يثوبون ويرجعون! ثم يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية لمسة موحية تطرد ذلك الخوف عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير ومن ابتلاء للعباد وجزاء : { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً . ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ; ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها .وسنجزي الشاكرين } . . إن لكل نفس كتاباً مؤجلاً إلى أجل مرسوم . ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم . فالخوف والهلع والحرص والتخلف لا تطيل أجلاً . والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمراً . فلا كان الجبن ولا نامت أعين الجبناء . والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد! بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس ، فتترك الاشتغال به ولا تجعله في الحساب وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية . وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع . وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته في صبر وطمأنينة وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده . ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول . . فإنه إذا كان العمر مكتوباً والأجل مرسوماً . . فلتنظر نفس ما قدمت لغد ; ولتنظر نفس ماذا تريد . . أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان وأن تحصر همها كله في هذه الأرض وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها؟ أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى وإلى اهتمامات أرفع وإلى حياة أكبر من هذه الحياة؟ . . مع تساوي هذا الهم وذاك فيما يختص بالعمر والحياة؟! { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها . ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها } . وشتان بين حياة وحياة! وشتان بين اهتمام واهتمام! - مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل - والذي يعيش لهذه الأرض وحدها ويريد ثواب الدنيا وحدها . . إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . والذي يتطلع إلى الأفق الآخر . . إنما يحيا حياة « الإنسان » الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . . { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً } . . { وسنجزي الشاكرين } . .الذين يدركون نعمة التكريم الإلهي للإنسان فيرتفعون عن مدارج الحيوان ; ويشكرون الله على تلك النعمة فينهضون بتبعات الإيمان . . وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء وفق ما يريدونه لأنفسهم من اهتمام قريب كاهتمام الدود أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان! وبذلك ينقل النفس من الانشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف - وهي لا تملك شيئاً في شأن الموت والحياة - إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس في الحقل الذي تملكه وتملك فيه الاختيار . فتختار الدنيا أو تختار الآخرة . وتنال من جزاء الله ما تختار! ـــــــــــــ (1/16) يأكلون ويشربون ويجوعون قال تعالى : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) [المائدة/75] المَسيحُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ ، أنْعَمَ اللهُ عَلَيهِ بِالرِّسَالَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْهُ رُسُلٌ مِنَ اللهِ ، وَلَهُ أسْوَةٌ بِهِمْ . وَأمُّهُ مُؤْمِنَةٌ مٌصَدِّقَةٌ لَهُ ( صِدِّيقَةٌ - وَهَذا أعْلَى مَقَامَاتِهَا فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أنَّها لَيْسَتْ نَبِيّةً ) ، وَكَانَ المَسِيحُ وَأمُّهُ يَحْتَاجَانِ إلى الطَّعَامِ وَالغِذاءِ ، وَمَا يَسْتَتْبِعُ الطَّعَامَ وَالغِذَاءَ ، فَهُمَا مَخْلُوقَانِ مِنَ البَشَرِ ، وَلاَ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلهاً خَالِقاً ، وَلاَ رَبّاً مَعْبُوداً . فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدٌ كَيْفَ نُوَضِّحُ لَهُمُ الآيَاتِ وَنُظْهِرُهَا ، ثُمَّ انْظُرْ ، بَعْدَ ذَلِكَ التَّوْضِيحِ ، أيْنَ يَذْهَبُونَ ، وَبأيِّ قَوْلٍ يَتَمَسَّكُونَ ، وَكَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الحَقِّ؟ وأكل الطعام مسألة واقعية في حياة المسيح - عليه السلام - وأمه الصديقة . وهي خصيصة من خصائص الأحياء الحادثين ، ودليل على بشرية المسيح وأمه - أو على ناسوته بتعبيرهم اللاهوتي - فأكل الطعام تلبية لحاجة جسدية لا مراء فيها . ولا يكون إلهاً من يحتاج إلى الطعام ليعيش . فالله حي بذاته ، قائم بذاته ، باق بذاته ، لا يحتاج ، ولا يدخل إلى ذاته - سبحانه - أو يخرج منها شيء حادث كالطعام . . --------------------- وقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) [المؤمنون/51] يَأْمُرُ اللهُ عِبَادَهُ المُرْسَلِينَ بالأًَكْلِ مِنَ الحَلالِ الطَّيِّبِ ، والقِيَامِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ شُكْراً للهِ عَلَى نِعَمِهٍ عَلَيْهِمْ ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الحَلاَلَ عَوْنٌ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ ، والرُّسلُ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِن كَسْبِ أَيْدِيِهِمْ ، وَقَالَ لَهُم اللهُ تَعَالَى : إِنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَعْمَلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ وَقَدْ قَامَ الرُّسُلُ عَلَيْهِم السَّلامُ بِأَمْرِ اللهِ أًَتَمَّ قِيَامٍ وَجَمَعُوا بَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ قَوْلاً وَعَمَلاً وَدَلاَلَةً وَنُصْحاً . فالأكل من مقتضيات البشرية عامة , أما الأكل من الطيبات خاصة فهو الذي يرفع هذه البشرية ويزكيها ويصلها بالملأ الأعلى . ونداء لهم ليصلحوا في هذه الأرض: (واعملوا صالحا) . . فالعمل هو من مقتضيات البشرية كذلك . أما العمل الصالح فهو الذي يميز الصالحين المختارين ; فيجعل لعملهم ضابطا وهدفا , وغاية موصولة بالملأ الأعلى . وليس المطلوب من الرسول أن يتجرد من بشريته . إنما المطلوب أن يرتقي بهذه البشرية فيه إلى أفقها الكريم الوضيء . الذي أراده الله لها , وجعل الأنبياء روادا لهذا الأفق ومثلا أعلى . والله هو الذي يقدر عملهم بعد ذلك بميزانه الدقيق: (إني بما تعملون عليم) . ----------------------- وقال تعالى :{ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) [الفرقان/7-9] وَقَالَ هَؤُلاَءِ الكُفَّارُ ، إِمْعاناً فِي عِنَادِهِمْ وَتَكْذِيِبِهِمْ : إِنَّ هَذَا الرَّسُولَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ مِثْلَمَا نَأْكُلُ ، وَيَشْرَبُ كَمَا نَشْرَبُ ، وَيَتَجَوَّلُ فِي الأََسْوَاقِ طَلَباً لِلتَّكَسُّبِ والتِجَارَةِ ، فَكَيْفَ يُرِيدُنَا أَنْ نَصَدِّقَهُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ وَهَلاَّ أَنْزلَ اللهُ مَلَكاً مِنْ عِنْدِهِ ، فَيَكُونَ شَاهِداً لَهُ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ؟ وَهَلاَّ أُنْزِلَ عَلَيْهِ عِلْمٌ عَنْ مَكَانِ كَنْزٍ يُنْفِقُ مِنْهُ ، أو يَكُونُ لَهُ بُسْتَانٌ ( جَنَّةُ ) يَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهِ ، وَقَالَ الكَافِرُونَ ، الظالِمُونَ أنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمُ : إِنَّ مُحَمَّداً رَجُلٌّ مَسْحُورٌ قَدْ أَثَّرَ فِيهِ السِّحْرُ فَهُوَ يَهْذِي وَيَخْلِطُ . وَاللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحَقِّقَ لِرَسُولِهِ جَمِيعَ مَا سَأَلُوهُ ، وَقَالُوا لَهَ عَنْهُ ، وَلَكِنْ ، لَهُ الحِكْمَةُ فِي تَرْكِ ذَلِكَ ، وَلَهُ الحُجَّةُ البالِِغَةُ ، لأَنَّهُ إِنْ أجَابَهُمْ إِلَى مَا سَألُوا ثُمَّ استمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِنْكَارِهِمْ ، دَمَّرَهُمُ اللهُ كَمَا دَمَّرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ . فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيفَ عَلَيْكَ ، وَكَيْفَ جَاؤُوا بِمَا يَقْذِفُونَكَ بِهِ ، وَيَكْذِبُونَ بِهِ عَلَيْكَ ، فاخْتَرَعُوا لَكَ صِفَاتٍ وَأَحْوَالاً بَعِيدَةً كُلَّ البُعْدِ عَنْ صِفَاتِكَ التي أنت عليها ( وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ ساحِرٌ وَمَجْنُونٌ وَشَاعِرٌ وَمُغفْتَرٍ . . . ) وَكُلَّهُا بَاطِلَةٌ ، فَضَلُّوا عَنْ طَرِيقِ الحقِّ والهَدَى ، وَصَارُوا حَائِرينَ مُتَرَدِّدينَ لاَ يَهْتَدُونَ إِلى سَبِيلِ الرِّشَادِ ، وَلاَ يَدرُونَ ما يَقُولُونَ فِيكَ . ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ ما له بشراً يتصرف تصرفات البشر؟ إنه الاعتراض المكرور الذي رددته البشرية عن كل رسول! كيف يمكن أن يكون فلان ابن فلان ، المعروف لهم ، المألوف في حياتهم ، الذي يأكل كما يأكلون ، ويعيش كما يعيشون . . كيف يمكن أن يكون رسولاً من عند الله يوحى إليه؟ كيف يمكن أن يتصل بعالم آخر غير عالم الأرض يتلقى عنه؟ وهم يرونه واحداً منهم من لحم ودم . وهم لا يوحى إليهم ، ولا يعرفون شيئاً عن ذلك العالم الذي يأتي منه الوحي لواحد منهم ، ولا يتميز في شيء عنهم . والمسألة من هذا الجانب قد تبدو غريبة مستبعدة . ولكنها من الجانب الآخر تبدو طبيعية مقبولة . . لقد نفخ الله من روحه في هذا الإنسان؛ وبهذه النفخة الإلهية تميز وصار إنساناً ، واستخلف في الأرض . وهو قاصر العلم ، محدود التجربة ، ضعيف الوسيلة ، وما كان الله ليدعه في هذه الخلافة دون عون منه ، ودون هدي ينير له طريقه . وقد أودعه الاستعداد للاتصال به عن طريق تلك النفخة العلوية التي ميزته . فلا عجب أن يختار الله واحداً من هذا الجنس؛ صاحب استعداد روحي للتلقي؛ فيوحي إليه ما يهدي به إخوانه إلى الطريق كلما غام عليهم الطريق ، وما يقدم به إليهم العون كلما كانوا في حاجة إلى العون . إنه التكريم الإلهي للإنسان يبدو في هذه الصورة العجيبة من بعض جوانبها ، الطبيعية من البعض الآخر . ولكن الذين لا يدركون قيمة هذا المخلوق ، ولا حقيقة التكريم الذي أراده الله له ، ينكرون أن يتصل بشر بالله عن طريق الوحي؛ وينكرون أن يكون واحد من هؤلاء البشر رسولاً من عند الله . يرون الملائكة أولى بهذا وأقرب : { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً } . والله قد أسجد الملائكة للإنسان بما أودعه من الخصائص الفائقة ، الناشئة من النفخة العلوية الكريمة . وإنها الحكمة الإلهية كذلك تبدو في رسالة واحد من البشر إلى البشر . واحد من البشر يحس إحساسهم ، ويتذوق مواجدهم ، ويعاني تجاربهم ، ويدرك آلامهم وآمالهم ، ويعرف نوازعهم وأشواقهم ، ويعلم ضروراتهم وأثقالهم . . ومن ثم يعطف على ضعفهم ونقصهم ، ويرجو في قوتهم واستعلائهم ، ويسير بهم خطوة خطوة ، وهو يفهم ويقدر بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم ، لأنه في النهاية واحد منهم ، يرتاد بهم الطريق إلى الله ، بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق! وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة الممكنة التقليد ، لأنه بشر منهم ، يتسامى بهم رويداً رويداً؛ ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أن الله قد فرضها عليهم ، وأرادها منهم؛ فيكون هو بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم . وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم ينقلونها سطراً سطراً ، ويحققونها معنى معنى ، وهم يرونها بينهم ، فتهفو نفوسهم إلى تقليدها ، لأنها ممثلة في إنسان؛ ولو كان ملكاً ما فكروا في عمله ولا حاولوا أن يقلدوه؛ لأنهم منذ البدء يشعرون أن طبيعته غير طبيعتهم ، فلا جرم يكون سلوكه غير سلوكهم على غير أمل في محاكاته ، ولا شوق إلى تحقيق صورته! فهي حكمة الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً . هي حكمة الله البالغة أن جعل الرسول بشراً ليؤدي دوره على قيادة البشر . والاعتراض على بشرية الرسول جهل بهذه الحكمة . فوق ما فيه من جهل بتكريم الله للإنسان! وكان من اعتراضاتهم الساذجة الجاهلة أن هذا الرسول يمشي في الأسواق ليكسب رزقه . فهلا كفاه الله ذلك ، وحباه بالمال الكثير عن غير كد ولا عمل : { أو يلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة يأكل منها } ! والله لم يرد لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون له كنز ولا أن تكون له جنة . لأنه أراد أن يكون قدوة كاملة لأمته؛ ينهض بتكاليف رسالته الضخمة الهائلة ، وهو في الوقت ذاته يسعى لرزقه كما يسعى رجل من أمته . فلا يقولن أحد من أمته يكد لعيشه : لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكفي الحاجة ، لا يعاني صراع العيش ، ومن ثم فرغ لعقيدته ورسالته ، وتكاليفه ، فلم يعوقه عائق مما أعاني . . فها هو ذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل ليعيش ، ويعمل لرسالته ، فلا أقل من أن ينهض كل أحد من أمته بنصيبه الصغير من تكاليف هذه الرسالة وقدوته أمامه ولقد انهال المال بعد ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كي تتم التجربة من جانبها الآخر وتتم القدوة . فلم يدع هذا المال يشغله أو يعطله ، فكان كالريح المرسلة في جوده ، حتى يستعلي على فتنة المال ، ويرخص من قيمته في النفوس؛ وكي لا يقولن أحد بعد ذلك : إنما نهض محمد - صلى الله عليه وسلم - برسالته ، لأنه عاش فقيراً لا يشغله من المال شاغل ، فها هو ذا المال يأتيه غزيراً وفيراً ، ولكنه يمضي في دعوته كذلك . شأنه يوم أن كان فقيراً . وما المال؟ وما الكنوز؟ وما الجنان؟ حين يتصل الإنسان الفاني الضعيف بالله الباقي القوي؟ ما هذه الأرض وما فيها؟ بل ما هذا الكون المخلوق كله ، بعد الاتصال بالله خالق كل شيء ، وواهب الكثير والقليل؟ ولكن القوم ما كانوا يوم ذلك يدركون! { وقال الظالمون : إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً } ..وهي كلمة ظالمة فاحشة حكاها عنهم هنا ، وحكاها عنهم كذلك في سورة الإسراء . ورد عليها هنا وهناك رداً واحداً :{ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً } . . . وكلتا السورتين تعالجان موضوعاً متقارباً ، في جو متقارب هنا وهناك . . وقولتهم تلك يقصدون بها الإساءة إلى شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتنقص منه . إذ يمثلونه برجل سحر عقله ، فهو يقول كلاماً غريباً لا يقوله الطبيعيون من الناس! ولكنها في الوقت ذاته تشي بشعورهم الداخلي بأن ما يقوله غير طبيعي ، ولا مألوف ، ولا هو من عادة البشر ولا من مستوى البشر . . والرد عليهم يوحي بالتعجيب من أمرهم : { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } وشبهوك بالمسحورين مرة ، واتهموك بالتزوير مرة ، ومثلوك برواة الأساطير مرة . . وكله ضلال ، وبعد عن إدراك الحق { فضلوا } ضلوا عن كل طريق للحق ، وكل سبيل للهدي { فلا يستطيعون سبيلاً } ------------------ وقال تعالى :{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) [الرعد/38] وَكَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَأَنْتَ مِنَ البَشَرِ ، كَذِلَكِ أَرْسَلَنْا المُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلِكَ بَشَراً ، يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ، وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ ، وَيَتَزَوَّجُونَ وَيُنْجِبُونَ الأَوْلاَدَ . وَلَمْ يَكُنْ لِنَبِيٍّ أَنْ يَأْتِي قَوْمَهُ بِمُعْجِزَةٍ إِلاَّ إِذَا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِذَلِكَ ، فَالأَمْرُ كُلُّهُ للهِ ، وَهُوَ يَفْعَلُ مَايَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ . وَلِكُلِّ أَمْرٍ كَتَبَهُ اللهُ ، وَقَدَّرَهُ أَجَلٌ مُعَيْنٌ ، وَوَقْتٌ مَعْلُومٌ ، فَلاَ تَنْزِلُ آيَةٌ قَبْلَ أَوَانِهَا ، وَلَا عَذَابٌ مِمَّا خُوِّفُوا بِهِ حَاصِلٌ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ الذِي حَدَّدَهُ اللهُ لَهُ ، وَكَذَلِكَ البَشَرُ يَتَعَاقَبُونَ فِي الأَرْضِ وَفْقَ مَا قَضَاهُ اللهُ . ( وَيُرْوَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ رَدّاً عَلَى اليَهُودِ حِينَمَا عَابُوا عَلَى الرَّسُولِ صلىالله عليه وسلم كَثْرَةَ مَنْ تَزَوَّجَهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ ، وَقَالُوا لَوْ كَانَ نَبِيّاً حَقّاً كَمَا يَزْعُمُ لَشَغَلَهُ أَمْرُ النُّبُوَّةِ عَنِ النِّسَاءِ ) . وهكذا تتجلى طبيعة الرسالة وحدود الرسول . . إنما هو منذر ، ليس عليه إلا البلاغ وليس له إلا أن يتلو ما أوحي إليه ، وما كان له أن يأتي بخارقة إلا بإذن لله . ثم هو عبد لله ، الله ربه ، وإليه متابه ومآبه؛ وهو بشر من البشر يتزوج وينسل؛ ويزاول بشريته كاملة بكل مقتضيات البشرية؛ كما يزاول عبوديته لله كاملة بكل مقتضيات العبودية . . وبهذه النصاعة الكاملة في العقيدة الإسلامية تنتهي تلك الأوهام والأساطير المهِّومة في الفضاء والظلام ، حول طبيعة النبوة وطبيعة النبي ، وتخلص العقيدة من تلك التصورات المحيرة التي حفلت بها العقائد الكنسية كما حفلت بها شتى العقائد الوثنية؛ والتي قضت على « المسيحية » منذ القرن الأول لها أن تكون إحدى العقائد الوثنية في طبيعتها وحقيقتها ، بعد ما كانت عقيدة سماوية على يد المسيح عليه السلام؛ تجعل المسيح عبداً لله؛ لا يأتي بآية إلا بإذن الله . وخلاصة هذا القول : إن أمر هذا الدين ليس إليه هو ، ومآل هذه الدعوة ليس من اختصاصه! إنما عليه البلاغ وليس عليه هداية الناس . فالله وحده هو الذي يملك الهداية . سواء حقق الله بعض وعده له من مصير القوم أو أدركه الأجل قبل تحقيق وعد الله ، فهذا أو ذاك لا يغير من طبيعة مهمته . . البلاغ . . وحسابهم بعد ذلك على الله . . وليس بعد هذا تجريد لطبيعة الداعية وتحديد لمهمته . فواجبه محدد ، والأمر كله في هذه الدعوة وفي كل شيء آخر لله . بذلك يتعلم الدعاة إلى الله أن يتأدبوا في حق الله! إنه ليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر . . ليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس ، ولا أن يستعجلوا وعد الله ووعيده للمهتدين وللمكذبين . . ليس لهم أن يقولوا : لقد دعونا كثيراً فلم يستجب لنا إلا القليل؛ أو لقد صبرنا طويلاً فلم يأخذ الله الظالمين بظلمهم ونحن أحياء! . . إنْ عليهم البلاغ . . أما حساب الناس في الدنيا أو في الآخرة فهذا ليس من شأن العبيد . إنما هو من شأن الله! فينبغي تأدباً في حق الله واعترافاً بالعبودية له أن يترك له سبحانه ، يفعل فيه ما يشاء ويختار . . ------------------------ وقال تعالى :{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) [الفرقان/20] وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلَى هَؤُلاءِ ، وَهُوَ يُخَاطِبُ رَسُولَه - صلى الله عليه وسلم - قَائِلاً : إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرْسِلِ الرُّسُلَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ إِلاَّ مِنَ البَشَرِ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَتَزَوَّجُونَ ، وَيَتَكَسَّبُونَ بِالعَمَلِ ، وَلَيسَ فِي ذَلِكَ غَرَابةٌ ، وَلا مُنَافَاةٌ لِحَالِ النُّبُوَّةِ . وَجَعَل اللهُ للأَنْبِيَاءِ مِنْ حًسْنِ القَوْلِ ، وَمِمّا أَجْرَاهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنَ الآيَاتِ ، دَلاَئِلَ وَحُجَجاً عَلَى صِحَّةِ دَعْوَتِهِمْ ، وَصِدْقِ ما جَاؤُوا بهِ أَقْوَامَهُم ، وَجَعَلَ اللهُ بَعْضَ النَّاسِ ابْتِلاءً لِبَعْضٍ ، وَالمُفْسِدُونَ يُحَاوِلُونَ سَدَّ الطَّرِيقِ إِلى الهِدَايةِ وَالحَقِّ ، بَشَتَّى الأًسَالِيب ، فَهَلْ تَصْبِرُونَ يَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ عَلَى هذا الابتِلاءِ ، وَتَتَمسَّكُونَ بِدِينِكُمْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِنَصِرِهِ؟ فَإنّ الله تَعَالَى بَصِيرٌ مُطَّلِعٌ عَلى أًَحْوَالِ العِبَادِ ، وَسَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى عَمَلِهِ . فإذا كان هناك اعتراض فليس هو اعتراضا على شخصه . إنما هو اعتراض على سنة من سنن الله . سنة مقدرة مقصودة لها غايتها المرسومة: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) . ليعترض من لا يدركون حكمة الله وتدبيره وتقديره . وليصبر من يثق بالله وحكمته ونصره . ولتمضي الدعوة تغالب وتغلب بوسائل البشر وطرائق البشر . وليثبت من يثبت على هذا الابتلاء:(أتصبرون ?) . . (وكان ربك بصيرا) . بصيرا بالطبائع والقلوب , والمصائر والغايات . ولهذه الإضافة هنا (وكان ربك) إيحاؤها وظلها ونسمتها الرخية على قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مقام التأسية والتسلية والإيواء والتقريب . . والله بصير بمداخل القلوب . . ـــــــــــــ (1/17) الرسول بشر مثلنا قال تعالى :{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) [إبراهيم/10-12] قَالَ الرُّسُلُ لِهَؤلاءِ المُكَذِّبِينَ ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ شَكَّهُمْ فِي وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ : أَفِي وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ شَكٌّ؟ فَإِنَّ الفِطْرَةَ شَاهِدَةٌ بِوُجُودِهِ ، وَمَجْبُولَةٌ عَلَى الإِقْرَارِ بِهِ ، لِذَلِكَ كَانَ الاعْتِرَافُ بِهِ ضَرُورِيّاً فِي الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ ، وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِهَا شَكٌّ وَاضْطِرَابٌ فَتَحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ المُوصِلْ إَلى وُجُودِ اللهِ ، وَلِذَلِكَ لَفَتَ الرُّسُلُ نَظَرَهُمْ إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ ، فَقَالُوا لَهُمْ : إِنَّهُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمُبْدِعُهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ ، وَهُوَ تَعَالَى يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ، وَيُؤَخِرَكُمْ فِي الدُّنْيا إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ ( مُسَمَّى ) . فَقَالَتِ الأُمَمُ لِلرُّسُلِ : كَيْفَ نَتْبَعُكُمْ بِمُجَرَّدِ قَوْلِكُمْ أَنَّكُمْ رُسُلُ اللهِ ، فَأَنْتُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا ، وَلَمْ نَرَ مِنْكَ مُعْجِزَةً تَدُلُّ عَلَى رِسَالَتِكُمْ ، فَإِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ فَأْتُونَا بِبُرْهَانٍ وَدَلِيلٍ وَاضِحٍ عَلَى صِدْقِ مَا تَقُولُونَ . فَقَالَتْ لَهُمْ الرُّسُلُ : صَحيحٌ أَنَّنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَلَكِنَّ اللهَ يََمنُّ بِفَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مِنْ عِبَادِهِ ، فَيُؤْتِيهِ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ ، وَلاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكُمْ بِمَا سَأَلْتُمُوهُ مِنَ المُعْجِزَاتِ وَالخَوَارِقِ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَأَمْرِهِ ، فَهُوَ الذِي يَأْتِي بِالمُعْجِزَاتِ ، وَيَأْذَنُ بِهَا ، وَالمُؤْمِنُونَ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ ، فَلْنَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ بِالصَّبْرِ عَلَى كُفْرِكُمْ ، وَتَكْذِيبِكُمْ إِيَّانَا . وَبَعْدَ أَنْ أَجَابَهُم الأَنْبِيَاءُ عَلَى شُبُهَاتِهِمْ ، أَخَذَ المُشْرِكُونَ يُخَوِفُونَهُمْ ، وَيَتَوَعَّدُونَهُمْ بِالانْتِقَامِ وَالإِيذَاءِ ، فَقَالَ لَهُمُ الأَنْبِيَاءُ إِنَّنَا لاَ نَخَافُ تَهْدِيدَكُمْ ، بَلْ نَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ ، وَنَعْتَمِدُ عَلَيْهِ ، وَكَيْفَ لاَ نَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ ، وَقَدْ هَدَانَا لأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَوْضَحِهَا وَأَبْيَنِهَا؟ وَسَنَصْبِرُ عَلَى مَا أَلْحَقْتُمُوهُ بِنَا مِنَ الأَذَى بِأَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ ، وَمَنْ تَوَكّلَ عَلَى اللهِ كَفَاهُ مَا أَهَمَّهُ وَأَغَمَّهُ . أفي الله شك والسماوات والأرض تنطقان للفطرة بأن الله أبدعهما إبداعا وأنشأهما إنشاء ? قالت رسلهم هذا القول , لأن السماوات والأرض آيتان هائلتان بارزتان , فمجرد الإشارة إليهما يكفي , ويرد الشارد إلى الرشد سريعا , ولم يزيدوا على الإشارة شيئا لأنها وحدها تكفي ; ثم أخذوا يعددون نعم الله على البشر في دعوتهم إلى الإيمان , وفي إمهالهم إلى أجل يتدبرون فيه ويتقون العذاب: (أفي الله شك فاطر السماوات والأرض . يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) . والدعوة أصلا دعوة إلى الإيمان , المؤدي إلى المغفرة . ولكن السياق يجعل الدعوة مباشرة للمغفرة , لتتجلى نعمة الله ومنته . وعندئذ يبدو عجيبا أن يدعى قوم إلى المغفرة فيكون هذا تلقيهم للدعوة ! (يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) . . (ويؤخركم إلى أجل مسمى) . . فهو - سبحانه - مع الدعوة للمغفرة لا يعجلكم بالإيمان فور الدعوة , ولا يأخذكم بالعذاب فور التكذيب . إنما يمن عليكم منة أخرى فيؤخركم إلى أجل مسمى . إما في هذه الدنيا وإما إلى يوم الحساب , ترجعون فيه إلى نفوسكم , وتتدبرون آيات الله وبيان رسلكم . وهي رحمة وسماحة تحسبان في باب النعم . . فهل هذا هو جواب دعوة الله الرحيم المنان ?! هنا يرجع القوم في جهالتهم إلى ذلك الاعتراض الجهول: (قالوا:إن أنتم إلا بشر مثلنا , تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا) . . وبدلا من أن يعتز البشر باختيار الله لواحد منهم ليحمل رسالته , فإنهم لجهالتهم ينكرون هذا الاختيار , ويجعلونه مثار ريبة في الرسل المختارين ; ويعللون دعوة رسلهم لهم بأنها رغبة في تحويلهم عما كان يعبد آباؤهم . ولا يسألون أنفسهم:لماذا يرغب الرسل في تحويلهم ?! وبطبيعة الجمود العقلي الذي تطبعه الوثنيات في العقول لا يفكرون فيما كان يعبد آباؤهم:ما قيمته ? ما حقيقته ? ماذا يساوي في معرض النقد والتفكير ?! وبطبيعة الجمود العقلي كذلك لا يفكرون في الدعوة الجديدة , إنما يطلبون خارقة ترغمهم على التصديق: (فأتونا بسلطان مبين) . . ويرد الرسل . . لا ينكرون بشريتهم بل يقررونها , ولكنهم يوجهون الأنظار إلى منة الله في اختيار رسل من البشر , وفي منحهم ما يؤهلهم لحمل الأمانة الكبرى: (قالت لهم رسلهم:إن نحن إلا بشر مثلكم . ولكن الله يمن على من يشاء من عباده) ويذكر السياق لفظ(يمن) تنسيقا للحوار مع جو السورة . جو الحديث عن نعم الله . ومنها هذه المنة على من يشاء من عباده . وهي منة ضخمة لا على أشخاص الرسل وحدهم . ولكن كذلك على البشرية التي تشرف بانتخاب أفراد منها لهذه المهمة العظمى . مهمة الاتصال والتلقي من الملأ الأعلى . وهي منة على البشرية بتذكير الفطرة التي ران عليها الركام لتخرج من الظلمات إلى النور ; ولتتحرك فيها أجهزة الاستقبال والتلقي فتخرج من الموت الراكد إلى الحياة المتفتحة . . ثم هي المنة الكبرى على البشرية بإخراج الناس من الدينونة للعباد إلى الدينونة لله وحده بلا شريك ; واستنقاذ كرامتهم وطاقتهم من الذل والتبدد في الدينونة للعبيد . . الذل الذي يحني هامة إنسان لعبد مثله ! والتبدد الذي يسخر طاقة إنسان لتأليه عبد مثله ! فأما حكاية الإتيان بسلطان مبين , وقوة خارقة , فالرسل يبينون لقومهم أنها من شأن الله . ليفرقوا في مداركهم المبهمة المظلمة بين ذات الله الإلهية , وذواتهم هم البشرية , وليمحصوا صورة التوحيد المطلق الذي لا يلتبس بمشابهة في ذات ولا صفة , وهي المتاهة التي تاهت فيها الوثنيات كما تاهت فيها التصورات الكنسية في المسيحية عندما تلبست بالوثنيات الإغريقية والرومانية والمصرية والهندية . وكانت نقطة البدء في المتاهة هي نسبة الخوارق إلى عيسى - عليه السلام - بذاته واللبس بين ألوهية الله وعبودية عيسى عليه السلام ! (وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله) . . وما نعتمد على قوة غير قوته:(وعلى الله فليتوكل المؤمنون) . . يطلقها الرسل حقيقة دائمة . فعلى الله وحده يتوكل المؤمن , لا يتلفت قلبه إلى سواه , ولا يرجو عونا إلا منه , ولا يرتكن إلا إلى حماه . ثم يواجهون الطغيان بالإيمان , ويواجهون الأذى بالثبات ; ويسألون للتقرير والتوكيد:(وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ? ولنصبرن على ما آذيتمونا , وعلى الله فليتوكل المتوكلون) . . (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا) . .إنها كلمة المطمئن إلى موقفه وطريقه . المالئ يديه من وليه وناصره . المؤمن بأن الله الذي يهدي السبيل لا بد أن ينصر وأن يعين . وماذا يهم حتى ولو لم يتم في الحياة الدنيا نصر إذا كان العبد قد ضمن هداية السبيل ? والقلب الذي يحس أن يد الله - سبحانه - تقود خطاه , وتهديه السبيل , هو قلب موصول بالله لا يخطئ الشعور بوجوده - سبحانه - وألوهيته القاهرة المسيطرة ; وهو شعور لا مجال معه للتردد في المضي في الطريق , أيا كانت العقبات في الطريق , وأيا كانت قوى الطاغوت التي تتربص في هذا الطريق . ومن ثم هذا الربط في رد الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - بين شعورهم بهداية الله لهم وبين توكلهم عليه في مواجهة التهديد السافر من الطواغيت ; ثم إصرارهم على المضي في طريقهم في وجه هذا التهديد وهذه الحقيقة - حقيقة الارتباط في قلب المؤمن بين شعوره بهداية الله وبين بديهية التوكل عليه - لا تستشعرها إلا القلوب التي تزاول الحركة فعلا في مواجهة طاغوت الجاهلية ; والتي تستشعر في أعماقها يد الله - سبحانه - وهي تفتح لها كوى النور فتبصر الآفاق المشرقة وتستروح أنسام الإيمان والمعرفة , وتحس الأنس والقربى . . وحينئذ لا تحفل بما يتوعدها به طواغيت الأرض ; ولا تملك أن تستجيب للإغراء ولا للتهديد ; وهي تحتقر طواغيت الأرض وما في أيديهم من وسائل البطش والتنكيل . وماذا يخاف القلب الموصول بالله على هذا النحو ? وماذا يخيفه من أولئك العبيد ?! (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا) . .(ولنصبرن على ما آذيتمونا) .لنصبرن , لا نتزحزح ولا نضعف ولا نتراجع ولا نهن ; ولا نتزعزع ولا نشك ولا نفرط ولا نحيد . .(وعلى الله فليتوكل المتوكلون) . . --------------------- وقال تعالى :{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) [الكهف/110] وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ المُكَذِّبِينَ بِرِسَالَتِكَ : إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، فَمَنْ زَعَمَ أَنِّي كَاذِبٌ فَلْيَأْتِ بِمِثْلِ مَا جِئْتُ بِهِ ، فَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ فِيمَا أُخْبِرُكُمْ بِهِ ، مِنَ المَاضِي ، عَمَّا سَأَلْتُمْ مِنْ قِصَصِ أَهْلِ الكَهْفِ ، وَخَبَرِ ذِي القَرْنَيْنِ ، مِمَّا هُوَ مُطَابِقٌ لِلْحَقِيقَةِ وَوَاقِعُ الحَالِ ، وَلَوْ لَمْ يُطْلِعْنِي عَلَيْهِ اللهُ رَبِّي لِمَا عَلِمْتُهُ . وَأَنَا أُخَبِرُكُمْ أَنَّ إِلهَكُمُ الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ لاَ شَرِيكَ لَهُ . فَمَنْ كَانَ يَرْجُو ثَوَابَ اللهِ ( لِقَاءَ رَبِّهِ ) ، وَجَزَاءَهُ الحَسَنَ فِي الآخِرَةِ ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً خَيِّراً مُوَافِقَاً لِلْشَّرْعِ ، وَلاَ يُرِدْ بِهِ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى . وَمُوَافَقَةُ العَمَلِ لِلْشَرْعِ ، وَابْتِغَاءِ وَجْهِ اللهِ بِهِ هُمَا الرُّكْنَانِ الأَسَاسِيَّانِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يَتَقَبَّلُهُ اللهُ. بشر يتلقى من ذلك الأفق الأسمى . بشر يستمد من ذلك المعين الذي لا ينضب . بشر لا يتجاوز الهدى الذي يتلقاه من مولاه . بشر يتعلم فيعلم فيعلم . . فمن كان يتطلع إلى القرب من ذلك الجوار الأسنى , فلينتفع بما يتعلم من الرسول الذي يتلقى , وليأخذ بالوسيلة التي لا وسيلة سواها: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) . . ------------------------ وقال تعالى :{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) [المؤمنون/23-25] لَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى نُوحاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَى قَوْمِهِ لِيَدْعُوَهُم إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى ، وَيُحَذِّرَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَبَأْسِهِ الشَّدِيدِ ، وَانْتِقَامِهِ مِمَّنْ أَشْرَكَ بِهِ ، وخَالَفَ أَمْرَهُ ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَلَيْسَ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، أَفَلا تَخَافُونَ عِقَابَهُ فَتَحْذَرُوا أَنْ تَعْبُدُوا مَعَهُ سِوَاهُ؟ فَقَالَ السَّادَةُ الكُبَرَاءُ مِنْ قَوْمِهِ ( الملأُ ) : لَيْسَ نُوحٌ إِلاَ بَشَراً مِثْلَكُمْ وَهُوَ يُريدُ أَنْ يَتَرَفَّعُ عَلَيْكُمْ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ فَكَيْفَ أُوْحِيَ إِلَيْهِ مِنْ دُونِكُمْ وَهُوَ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لاَ يَفْضُلكُمْ بِشيء؟ وَلَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ نَبِيَّاً لَبَعَثَ مَلَكاً مِنْ عِنْدَهِ لاَ بَشَراً ، وَنَحْنُ لَمْ يَأتِنا عَنْ أَسْلاَفِنَا وآبَائِنا الأَوَّلينَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ رُسُلاً مِنَ البَشَرِ ، ولاَ سَمِعْنَا بِمِثْلِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ نُوحٌ مِنْ عِبَادَةِ إِلَهٍ وَاحِدٍ . وَهُوَ رَجُلٌ بِهِ جُنُونٌ ( جِنَّةٌ ) ، فِيمَا يَزْعُمُهُ مِنْ أَنَّ الله أَرْسَلَهُ إِلَيْكُم ، وَاخْتَصَّهُ بِالوَحْيِ مِنْ بَيْنِكُمْ ، فَانْتَظِرُوا حَتَّى يُوَافِيَهُ أَجَلُهُ ، وَاصْبِروا عَلَيْهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فَتَرْتَاحُوا مِنْهُ . ( وَقِيلَ بَلِ المَعْنَى هُوَ : اصْبِروا عَلَيْهِ فَلَعَلَّهُ يَضِيقُ بِمَا هُوَ فِيهِ فَيَرْجِعُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلى دِينِ الآباءِ والأَجْدَادِ ) . { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } . . كلمة الحق التي لا تتبدل ، يقوم عليها الوجود ، ويشهد بها كل ما في الوجود { أفلا تتقون؟ } وتخافون عاقبة الإنكار للحقيقة الأولى التي تقوم عليها الحقائق جميعاً؟ وتستشعرون ما في إنكارها من تجن على الحق الباهر ، وما يعقب التجني من استحقاق للعذاب الأليم؟ ولكن كبراء قومه من الكفار لا يناقشون هذه الكلمة؛ ولا يتدبرون شواهدها ، ولا يستطيعون التخلص من النظرة الضيقة المتعلقة بأشخاصهم وبشخص الرجل الذي يدعوهم ، ولا يرتفعون إلى الأفق الطليق الذي ينظرون منه إلى تلك الحقيقة الضخمة مجردة عن الأشخاص والذوات . . فإذا هم يتركون الحقيقة الكبرى التي يقوم عليها الوجود ، ويشهد به كل ما في الوجود ، ليتحدثوا عن شخص نوح:{ فقال الملأ الذين كفروا من قومه : ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم } ! من هذه الزاوية الضيقة الصغيرة نظر القوم إلى تلك الدعوة الكبيرة ، فما كانوا إذن ليدركوا طبيعتها ولا ليروا حقيقتها؛ وذواتهم الصغيرة الضئيلة تحجب عنهم جوهرها ، وتعمي عليهم عنصرها ، وتقف حائلاً بين قلوبهم وبينها؛ فإذا القضية كلها في نظرهم قضية رجل منهم لا يفترق في شيء عنهم ، يريد أن يتفضل عليهم ، وأن يجعل لنفسه منزلة فوق منزلتهم! وهم في اندفاعهم الصغير لرد نوح عن المنزلة التي يتوهمون انه يعمل لها ، ويتوسل إليها بدعوى الرسالة . . في اندفاعهم هذا الصغير لا يردون فضل نوح وحده ، بل يردون فضل الإنسانية التي هم منها؛ ويرفضون تكريم الله لهذا الجنس؛ ويستكثرون أن يرسل الله رسولاً من البشر ، إن يكن لا بد مرسلاً : { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } .. ذلك أنهم لا يجدون في أرواحهم تلك النفحة العلوية التي تصل البشر بالملأ الأعلى؛ وتجعل المختارين من البشرية يتلقون ذلك الفيض العلوي ويطيقونه ، ويحملونه إلى إخوانهم من البشر ، فيهدونهم إلى مصدره الوضيء . وهم يحيلون الأمر إلى السوابق المألوفة لا إلى العقل المتدبر : { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } . . ومثل هذا يقع دائماً عندما يطمس التقليد على حركة الفكر وحرية القلب . فلا يتدبر الناس ما هو بين أيديهم من القضايا ، ليهتدوا على ضوء الواقع إلى حكم مباشر عليها . إنما هم يبحثون في ركام الماضي عن « سابقة » يستندون إليها؛ فإن لم يجدوا هذه السابقة رفضوا القضية وطرحوها! وعند هذه الجماعات الجاحدة الخامدة أن ما كان مرة يمكن ان يكون ثانية . فأما الذي لم يكن فإنه لا يمكن أن يكون! وهكذا تجمد الحياة ، وتقف حركتها ، وتتسمر خطاها ، عند جيل معين من { آبائنا الأولين } ! ويا ليتهم يدركون أنهم جامدون متحجرون ، إنما هم يتهمون دعاة التحرر والانطلاق بالجنون . وهم يدعونهم إلى التدبر والتفكر ، والتخلية بين قلوبهم ودلائل الإيمان الناطقة في الوجود . فإذا هم يتلقون هذه الدعوة بالتبجح والاتهام : { إن هو إلا رجل به جنة ، فتربصوا به حتى حين } . . أي إلى أن يأخذه الموت ، ويريحكم منه ، ومن دعوته ، ومن إلحاحه عليكم بالقول الجديد! -------------------------- وقال تعالى :{ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) [المؤمنون/31-38] ثُمَّ أَوْجَدَ اللهُ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أَقْوَاماً آخَرِينَ ( قَرْناً ) ، يَخْلفُونَهم فِي الأَرْضِ - وَقِيلَ إِنَّهُمْ قَوْمُ عَادٍ لأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَخْلَفِينَ بَعْدَهُم - وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ مَا قَالَهُ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلاَمِ لِقَوْمِهِ وَهُوَ يُحَذِّرُهم وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ . } قَرْناً آخَرِينَ - أُمَماً آخَرِينَ . أُمَماً أُخْرَى وَهُمْ عَادٌ الأُولى قَوْمُ هُودٍ . وَإِنَّهُ تَعَالَى أًرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُم ، هُوَ هُودٌ عَلَيْه السلامُ ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَقَالَ لَهُمْ : يَا قَوْم اعْبُدُوا اللهَ ، وأَطِيعُوهُ ، دُونَ الأَوْثَانِ والأَصْنَامِ ، فَإِنَّ العِبَادَةَ لاَ تَنْبَغِي إِلاَ للهِ وحْدَهُ ، أَفَلاَ تَخَافُونَ عِقَابَهُ أَنْ يَحِلّ بِكُمْ إِذَا عَبَدْتُمُ الأَصْنَامَ ، وَتَرَكْتُمْ عِبَادَتهُ وَحْدَهُ بِلاَ شَرِيكٍ . وَقَالَ الكُبَرَاءُ المُتْرَفُونَ مِنَ قَوْمِ هَذَا النَّبِيِّ ، وَهُمُ الذِينَ كَفُرُوا بِرَبِّهِم ، وَكَذَّبُوا بِيَوْمِ القِيَامَةٍ ، لِمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ : إِنَّ هَذَا المُدَّعِيَ بِأَنَّ الله أَرْسَلَهُ إِلَيْكُم رَسُولاً ، إِنْ هُوَ إِلاَّ بَشَرٌ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ كَمَا تَفْعَلُونَ أَنْتُمْ ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بشَرٌ رَسُولاً مِنَ اللهِ؟ وإِنَّكُمْ إِذَا آ مَنْتُم لِبَشَرٍ مِثلِكُمْ ، وَصَدَّقْتُم بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ ، وَعَبَدْتُم الإِلَهَ الذي يَدْعُوكُم لِعِبَادَتِهِ . . فَإِنَّكُم تَكُونَونَ مِنَ الخَاسِرِينَ ، لأَنَّكُم لَنْ تَنْتَفِعُوا بِطَاعَتِهِ . ثُمَّ قَالَ الكُبَرَاءُ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ سَاخِرِينَ : أَيَعِدُكُمْ هَذَا المُدَّعِي أَنَّكُمْ سَتُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ عِظَامُكُم وأَجْسَادُكُمْ قَدْ بَلِيَتْ وَأَصْبَحَتْ تُرَاباً ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ . إِنَّ مَا يَعِدُكُمْ بِهِ مِنْ بَعْثٍ وَحَشْرٍ وَنَشْرٍ ، بَعِيدٌ جِدّاً وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ . فَهِيَ حَيَاةٌ نَعِيشُها فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ نَمُوتُ بَعْدَهَا ، وَتَأْتِي بَعْدَنا أجْيَالٌ أُخْرَى لِلْحِيَاةِ ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ وَبالمَوْتِ يَنْتَهِي كُلُّ شَيءٍ ، فَلاَ بَعْثَ مَرَّةً أُخْرَى ، وَلاَ نُشُورَ وَلاَ حسَابَ . { ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } . . لم يحدد من هم . وهم على الأرجح عاد قوم هود . . { فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . أفلا تتقون؟ } . . ذات الكلمة الواحدة التي قالها من قبله نوح . يحكيها بالألفاظ ذاتها ، مع اختلاف اللغات التي كانت تتخاطب بها القرون! فماذا كان الجواب؟ إنه الجواب ذاته على وجه التقريب : { وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقآء الآخرة ، وأترفناهم في الحياة الدنيا : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون . ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون } . . فالاعتراض المكرور هو الاعتراض على بشرية الرسول . وهو الأعتراض الناشئ من انقطاع الصلة بين قلوب هؤلاء الكبراء المترفين ، وبين النفخة العلوية التي تصل الإنسان بخالقه الكريم . والترف يفسد الفطرة ، ويغلظ المشاعر ، ويسد المنافذ ، ويفقد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب . ومن هنا يحارب الإسلام الترف؛ ويقيم نظمه الاجتماعية على أساس لا يسمح للمترفين بالوجود في الجماعة المسلمة ، لأنهم كالعفن يفسد ما حوله ، حتى لينخر فيه السوس ، ويسبح فيه الدود! ثم يزيد المترفون هنا إنكار البعث بعد الموت والبلى؛ ويعجبون من هذا الرسول الذي ينبئهم بهذا الأمر الغريب . { (1/18) أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون؟ هيهات هيهات لما توعدون : إن هي إلا حياتنا الدنيا ، نموت ونحيا ، وما نحن بمبعوثين } . .ومثل هؤلاء لا يمكن أن يدركوا حكمة الحياة الكبرى؛ ودقة التدبير في أطوارها للوصول بها إلى غايتها البعيدة . هذه الغاية التي لا تتحقق بكمالها في هذه الأرض . فالخير لا يلقى جزاءه الكامل في الحياة الدنيا .والشر كذلك . إنما يستكملان هذا الجزاء هنالك ، حيث يصل المؤمنون الصالحون إلى قمة الحياة المثلى ، التي لا خوف فيها ولا نصب ، ولا تحول فيها ولا زوال - إلا أن يشاء الله - ويصل المرتكسون المنتكسون إلى درك الحياة السفلية التي تهدر فيها آدميتهم ، ويرتدون فيها أحجاراً ، أو كالأحجار! مثل هؤلاء لا يدركون هذه المعاني؛ ولا يستدلون من أطوار الحياة الأولى التي سبقت في السورة على أطوارها الأخيرة؛ ولا ينتبهون إلى أن القوة المدبرة لتلك الأطوار لا تقف بالحياة عند مرحلة الموت والبلى كما يظنون . . لذلك هم يستعجبون ويعجبون من ذلك الذي يعدهم أنهم مخرجون؛ ويستبعدون في جهالة أن ذلك يكون؛ ويجزمون في تبجح بأن ليس هنالك إلا حياة واحدة وموت واحد . يموت جيل ويحيا بعده جيل . فأما الذين ماتوا ، وصاروا تراباً وعظاماً ، فهيهات هيهات الحياة لهم ، كما يقول ذلك الرجل الغريب! وهيهات هيهات البعث الذي يعدهم به ، وقد صاروا عظاماً ورفاتاً! ثم إنهم لا يقفون عند هذه الجهالة ، والغفلة عن تدبر حكمة الحياة التي تكشف عنها أطوارها الأولى . . لا يقفون عند هذه الجهالة ، إنما هم يتهمون رسولهم بالافتراء على الله . ولا يعرفون الله إلا في هذه اللحظة ، ولهذا الغرض من اتهام الرسول :{ إن هو إلا رجل افترى على الله كذباً ، وما نحن له بمؤمنين } . . ---------------------- وقال تعالى :{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) [فصلت/6-8] قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ مِنْ قَوْمِكَ : وَلَسْتُ مَلَكاً ، وَقَدْ اخْتَارَنِي اللهُ تَعَالَى لِيُوحِيَ إِلَيَّ رِسَالَتَهُ إِلَيكُمْ وَهُوَ يُوحِي إِلَيَّ أَنَمَا إلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِله إِلاَّ هُوَ ، وَهُوَ الخَالِقُ الرَّازِقُ المُدَبِّرُ ، وَأَنَّ الأَصْنَامَ والأَوْثَانَ والحِجَارَةَ التِي تَعْبُدُونَهَا لاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا وَلاَ لِعَابِديهَا ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً . فَآمِنُوا بِاللهِ واَسْتَغْفِرُوهُ عَمَّا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنْ ذُنُوبٍ وَمَعَاصٍ ، وَأَخْلِصُوا لَهُ العِبَادَةَ كَمَا أَمَرَكُمْ . والوَيْلُ وَالهَلاَكُ والخَسَارُ لِمَنْ أَشْرَكَ مَعَ رَبِّهِ فِي العِبَادَةِ سِوَاهُ . وَالوَيْلُ والخَسَارُ لِمَنْ أَشْرَكَ بِرَبِّهِ ، وَلَمْ يَدْفَعْ زَكَاةَ مَالِهِ لِمُوَاسَاةِ الفَقِيرِ وَالْمُحْتَاجِ واليَتَيِمِ ، وَكَفَرَ بِالْبَعْثِ وَالمَعَادِ والحِسَابِ . وَقَدْ جَعَلَ اللهُ مَنْعَ أدَاءِ الزَّكَاةِ مَقْرُوناً بِالشِّرْكِ ، لأَنَّ بَذْلَ المَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقَامَةِ الإِنْسَانِ ، وَصِدْقِهِ فِي إِيْمَانِهِ . يا لعظمة الصبر والاحتمال والإيمان والتسليم! إنه لا يدرك ما في الصبر على هذه الحال ، والتبرؤ من كل حول وقوة في مثل هذا الموقف ، واحتمال الإعراض والتكذيب في تبجح واستهتار ، دون استعجال الآية التي تردع المعرضين المكذبين المستهترين . . إنه لا يدرك ما في الصبر على هذا الحال من مشقة ، ومن عظمة في احتمال هذه المشقة ، إلا من يكابد طرفاً من هذا الموقف في واقع الحياة . ثم يمضي في الطريق! ومن أجل هذا الموقف وأمثاله كان التوجيه إلى الصبر كثير الورود للأنبياء والرسل . فطريق الدعوة هو طريق الصبر . الصبر الطويل . وأول ما يستوجب الصبر تلك الرغبة الملحة في انتظار الدعوة ، ثم إبطاء النصر . بل إبطاء أماراته . ثم ضرورة التسليم لهذا والرضى به والقبول! إن أقصى ما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يؤمر به في مقابلة التبجح والاستهتار أن يقول : { وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون } . . وتخصيص الزكاة في هذا الموضع لا بد كانت له مناسبة حاضرة ، لم نقف عليها ، فهذه الآية مكية . والزكاة لم تفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة في المدينة . وإن كان أصل الزكاة كان معروفاً في مكة . والذي جد في المدينة هو بيان أنصبتها في المال ، وتحصيلها كفريضة معينة . أما في مكة فقد كانت أمراً عاماً يتطوع به المتطوعون ، غير محدود ، وأداؤه موكول إلى الضمير . . أما الكفر بالآخرة فهو عين الكفر الذي يستحق الويل والثبور . ـــــــــــــ (1/19) الرسل مؤيدون بالبينات قال تعالى :{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) [الروم/47] وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا ، يَا مُحَمَّدُ ، قَبْلَكَ رُسُلاً إِلى أَقْومِهِمْ بالدَّلاَئلِ الوَاضِحَاتِ عَلَى أَنَّهُمْ رُسُلُ اللهِ ، وأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ إِليهمْ لدَعْوَتِهِمْ إِلى عبادةِ اللهِ وحدَهُ لا شَريكَ لهُ ، فَكَذَّبَتِ الأَقْوامُ رُسُلَها ، فانتَقَمْنا مِنَ الكَافِرينَ الذينَ اجْتَرَحُوا السِّيِّئاتِ ، وَنجَّينا الذينَ آمنُوا باللهِ ، واسْتَجَابُوا لدَعْوةِ رُسُلِهِ وقدْ أَوْجَبنا عَلَى أَنْفُسِنا نَصرَ المُؤْمِنينَ ، وَكَذَلِكَ نَفْعَلُ ، فَلاَ تَبْتَئِسْ يَا مُحَمَّدُ لما تَرَاهُ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِكَ لَكَ ، وَمِنْ إِيذَائِهِمْ إِيَّاكَ ، فَسَنَنْصُرُكَ عَليهِمْ . ولكن الناس لم يستقبلوا رحمة الله هذه وهي أجل وأعظم استقبالهم للرياح المبشرات . ولا انتفعوا بها وهي أنفع وأدوم انتفاعهم بالمطر والماء! ووقفوا تجاه الرسل فريقين : مجرمين لا يؤمنون ولا يتدبرون ولا يكفون عن إيذاء الرسل والصد عن سبيل الله . ومؤمنين يدركون آيات الله ، ويشكرون رحمته ، ويثقون بوعده ، ويحتملون من المجرمين ما يحتملون . . ثم كانت العاقبة التي تتفق مع عدل الله ووعده الوثيق . { فانتقمنا من الذين أجرموا . وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } . .وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين؛ وجعله لهم حقاً ، فضلاً وكرماً . وأكده لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكاً ولا ريباً . وكيف والقائل هو الله القوي العزيز الجبار المتكبر ، القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير . يقولها سبحانه معبرة عن إرادته التي لا ترد ، وسنته التي لا تتخلف ، وناموسه الذي يحكم الوجود . وقد يبطئ هذا النصر أحياناً في تقدير البشر لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب الله ، ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها الله . والله هو الحكيم الخبير . يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه ، وفق مشيئته وسنته . وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف . ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح . ووعده القاطع واقع عن يقين ، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين . ----------------- وقال تعالى :{ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) [الأعراف/101-102] يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّهُ قَصَّ عَلَيهِ أَخبَارَ القُرى البَائِدَةِ التِي كَذَّبَ أَهْلُها الرُّسُلَ حِينَمَا جَاؤُوهُمْ بِالبَيِّنَاتِ ، وَالحُجَجَ الدَّالَةِ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِمْ ، وَلكِنَّ هَؤُلاءِ الأَقْوَامَ لَمْ يُؤْمِنُوا حِينَمَا جَاءَهُمُ الرُّسُلُ بِمَا سَأَلُوهُ مِنَ البَرَاهِينِ وَالحُجَجِ ، لأنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ المُكَذِّبِينَ عِنَاداً وَاسْتِكْبَاراً أَوْ تَقْلِيداً ، أَنْ يَرْجِعُوا إلَى الحَقِّ ، وَيُؤْمِنُوا بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ ، بَعْدَ أَنْ سَبَقَ لَهُمُ التَّكْذِيبُ بِهَا ، حِينَمَا جَاءَتْهُمُ الدَّعْوَةُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهَكَذَا يَطْبَعُ اللهُ وَيَخْتِمُ عَلَى قُلُوبِ الكَافِرينَ فَلا تَتَفَتَّحُ لِلإِيمَانِ . وَلَمْ يَثْبُتَ أَكْثَرُ هؤُلاَءِ الأَقْوَامِ عَلَى عَهْدِ الفِطْرَةِ ، الذِي أَخَذَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ ، وَهُمْ فِي أَصْلابِ آبَائِهِمْ ، بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَعْبُدُوهُ ، فَخَالَفُوا هَذا العَهْدَ ، وَتَرَكُوهُ وَرَاءَهُمْ ظِهْرِيّاً ، وَعَبَدُوا مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى بِلاَ دَليلٍ وَلاَ حُجَّةٍ ، وَلا بُرْهَانٍ ، فَكَانُوا مِنَ الفَاسِقِينَ الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ ، وَعَنْ عَهْدِ الفِطْرَةِ . فهو قصص من عند الله ، ما كان للرسول - صلى الله عليه وسلم - به من علم ، إنما هو وحي الله وتعليمه . { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } . .فلم تنفعهم البينات . وظلوا يكذبون بعدها ، كما كذبوا قبلها . ولم يؤمنوا بما كانوا قد كذبوا به من قبل أن تأتيهم البينة عليه . فالبينات لا تؤدي بالمكذبين إلى الإيمان . وليست البينة هي ما كان ينقصهم ليؤمنوا . إنما كان ينقصهم القلب المفتوح ، والحس المرهف والتوجه إلى الهدى . كان ينقصهم الفطرة الحية التي تستقبل وتنفعل وتستجيب . فلما لم يوجهوا قلوبهم إلى موحيات الهدى ودلائل الإيمان طبع الله على قلوبهم وأغلقها . فما عادت تتلقى ولا تنفعل ولا تستجيب والعهد الذي يشار إليه هنا قد يكون هو عهد الله على فطرة البشر , الذي ورد ذكره في أواخر السورة: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم:ألست بربكم ? قالوا:بلى شهدنا) . . وقد يكون هو عهد الإيمان الذي أعطاه أسلافهم الذين آمنوا بالرسل . ثم انحرفت الخلائف . كما يقع في كل جاهلية . إذ تظل الأجيال تنحرف شيئاً فشيئاً حتى تخرج من عهد الإيمان , وترتد الى الجاهلية . وأياً كان العهد فقد تبين أن أهل هذه القرى لا عهد لأكثرهم يستمسكون به , ويثبتون عليه . إنما هو الهوى المتقلب , والطبيعة التي لا تصبر على تكاليف العهد ولا تستقيم . (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) . . منحرفين عن دين الله وعهده القديم . . وهذه ثمرة التقلب , ونقض العهد , واتباع الهوى . . ومن لم يمسك نفسه على عهده مع الله , مستقيماً على طريقته , مسترشداً بهداه . فلا بد أن تتفرق به السبل , ولا بد أن ينحرف , ولا بد أن يفسق . . وكذلك كان أهل تلك القرى . وكذلك انتهى بهم المطاف . . ---------------- وقال تعالى :{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) [التوبة/70] يَقُولُ تَعَالَى وَاعِظاً الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ المُكَذِّبِينَ : أَلَمْ تَصِلْهُمْ أَخْبَارُ َمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الأُمَمِ الذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ الذِّينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ : قَوْمِ نُوحِ وَمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الغَرَقِ ، وَقَوْمِ عَادٍ وَكَيْفَ أُهْلِكُوا بِالرِّيحِ العَقِيمِ ، وَقَوْمِ ثَمُودَ كَيْفَ أَخَذَتْهُمُ الصَّحْيَةُ ، وَقُوْمِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ نَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ ، وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ قَومِ شُعَيبٍ ، وَكَيْفَ أَصَابَتْهُمْ الرَّجْفَةُ ، وَعَذَابَ يَوْمِ الظُّلَّةِ ، وَقَوْمِ لُوطٍ أَصْحَابِ المُؤْتَفِكَاتِ . . أَهَلَكَهُمُ اللهُ بِأَنْ جَعَلَ عَالِيَ دِيَارِهِمْ سَافِلَهَا . وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الأَقْوَامَ رُسُلُهُمْ بِالحَقِّ الوَاضِحِ مِنَ اللهِ ( البَيِّنَاتِ ) ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا لَهُمْ ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى عِنَادِهِمْ وَكُفْرِهِمْ ، فَدَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَظْلِمهُمْ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ العَذَابِ ، وَإِنَّمَا جَازَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ جَزَاءً وِفَاقاً ، وَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ . هؤلاء الذين يستمتعون غير شاعرين ، ويسيرون في طريق الهلكى ولا يتعظون . . هؤلاء { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم } ممن ساروا في نفس الطريق؟ { قوم نوح } وقد غمرهم الطوفان وطواهم اليم في تيار الفناء المرهوب { وعاد } وقد أهلكوا بريح صرصر عاتية { وثمود } وقد أخذتهم الصيحة { وقوم إبراهيم } وقد أهلك طاغيتهم المتجبر وأنجى إبراهيم { وأصحاب مدين } وقد أصابتهم الرجفة وخنقتهم الظلة { والمؤتفكات } قرى قوم لوط وقد قطع الله دابرهم إلا الأقلين . . ألم يأتهم نبأ هؤلاء الذين { أتتهم رسلهم بالبينات } فكذبوا بها ، فأخذهم الله بذنوبهم : { فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } ؟ إن النفس المنحرفة تبطرها القوة فلا تذكر ، وتعميها النعمة فلا تنظر . وما تنفع عظات الماضي ولا عبره إلا من تتفتح بصائرهم لإدراك سنة الله التي لا تتخلف ، ولا تتوقف ، ولا تحابي أحداً من الناس . وإن كثيراً ممن يبتليهم الله بالقوة وبالنعمة لتغشى أبصارهم وبصائرهم غشاوة ، فلا يبصرون مصارع الأقوياء قبلهم ، ولا يستشعرون مصير البغاة الطغاة من الغابرين . عندئذ تحق عليهم كلمة الله ، وعندئذ تجري فيهم سنة الله ، وعندئذ يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر . وهم في نعمائهم يتقلبون ، وبقوتهم يتخايلون . والله من ورائهم محيط . إنها الغفلة والعمى والجهالة نراها تصاحب القوة والنعمة والرخاء ، نراها في كل زمان وفي كل مكان . إلا من رحم الله من عباده المخلصين . ----------------- وقال تعالى :{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) [يونس/13، 14] يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَهْلَ مَكَّةَ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنَ العَذَابِ فِي الأَقْوَامِ السَّابِقَةِ ( القُرُونِ ) الذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ مِنَ البَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَكَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ، فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ لأَنَّهُمْ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا لَوْ تَرَكَهُمُ اللهُ ، فَاعْتَبِرُوا يَا كُفَّارَ قُرَيْشٍ ، فَكَمَا أَهْلَكَ اللهُ مَنْ قَبْلَكُمْ ، كَذَلِكَ يَفْعَلُ اللهُ بِالمُجْرِمِينَ مِنْكُمْ . ثُمَّ اسْتَخْلَفَكُمْ اللهُ تَعَالَى فِي الأَرْضِ ، بَعْدَ أَنْ أَهْلَكَ السَّابِقِينَ ، وَذَلِكَ بِمَا آتَاكُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ ، فِي الدِّينِ وَالدُّنْيا ، لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَكُونُ أَعْمَالُكُمْ فِي خِلاَفَتِكُمْ ، وَيَظْهَرُ مَا تَخْتَارُونَهُ لأَنْفُسِكُمْ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ عِصْيَانٍ بَعْدَ أَنْ عَرَفْتُمْ مَا حَلَّ بِمَنْ سَبَقَكُمْ . وَقَالَ قُتَادَةُ : صَدَقَ اللهُ رَبُّنا ، مَا جَعَلَنَا خُلَفَاءَ إِلاَّ لِيَنْظُرَ إِلَى أَعْمَالِنَا ، فَأَرُوا اللهَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ خَيْراً بِالليْلِ أَو النَّهَارِ . وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الخِلاَفَةَ مَنُوطَةٌ بِالأَعْمَالِ لِكَيْلا يَغْتَرَّ النَّاسُ بِمَا سَيَنَالُونَهُ ، وَيَظُنُّوا أَنَّهُ بَاقٍ لَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ بِمَنْجَاةٍ مِنْ مُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ فِي الظَّالِمِينَ . لقد انتهى بهم الإسراف وتجاوز الحد والظلم - وهو الشرك - إلى الهلاك . وهذه مصارعهم كانوا يرون بقيتها في الجزيرة العربية في مساكن عاد وثمود وقرى قوم لوط . . وتلك القرون . جاءتهم رسلهم بالبينات كما جاءكم رسولكم :{ وما كانوا ليؤمنوا } . .لأنهم لم يسلكوا طريق الإيمان ، وسلكوا طريق الطغيان فأبعدوا فيها ، فلم يعودوا مهيئين للإيمان . فلقوا جزاء المجرمين . .{ كذلك نجزي القوم المجرمين } . . وإذ يعرض عليهم نهاية المجرمين ، الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فلم يؤمنوا ، فحق عليهم العذاب ، يذكرهم أنهم مستخلفون في مكان هؤلاء الغابرين ، وأنهم مبتلون بهذا الاستخلاف ممتحنون فيما استخلفوا فيه : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } . . وهي لمسة قوية للقلب البشري؛ إذ يدرك أنه مستخلف في ملك أديل من مالكيه الأوائل ، وأجلي عنه أهله الذين سبق لهم أن مكنوا فيه ، وأنه هو بدوره زائل عن هذا الملك ، وإنما هي أيام يقضيها فيه ، ممتحناً بما يكون منه ، مبتلى بهذا الملك ، محاسباً على ما يكسب ، بعد بقاء فيه قليل! إن هذا التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري .. فوق أنه يريه الحقيقة فلا تخدعه عنها الخدع . . يظل يثير فيه يقظة وحساسية وتقوى ، هي صمام الأمن له ، وصمام الأمن للمجتمع الذي يعيش فيه . إن شعور الإنسان بأنه مبتلى وممتحن بأيامه التي يقضيها على الأرض ، وبكل شيء يملكه ، وبكل متاع يتاح له ، يمنحه مناعة ضد الاغترار والانخداع والغفلة؛ ويعطيه وقاية من الاستغراق في متاع الحياة الدنيا ، ومن التكالب على هذا المتاع الذي هو مسؤول عنه وممتحن فيه .وإن شعوره بالرقابة التي تحيط به ، والتي يصورها قول الله سبحانه : { لننظر كيف تعملون } . .ليجعله شديد التوقي ، شديد الحذر ، شديد الرغبة في الإحسان ، وفي النجاة أيضاً من هذا الامتحان! وهذا مفرق الطريق بين التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري بمثل هذه اللمسات القوية؛ والتصورات التي تخرج الرقابة الإلهية والحساب الأخروي من حسابها! . . فإنه لا يمكن أن يلتقي اثنان أحدهما يعيش بالتصور الإسلامي والآخر يعيش بتلك التصورات القاصرة . . لا يمكن أن يلتقيا في تصور للحياة ، ولا في خلق ، ولا في حركة؛ كما لا يمكن أن يلتقي نظامان إنسانيان يقوم كل منهما على قاعدة من هاتين القاعدتين اللتين لا تلتقيان! والحياة في الإسلام حياة متكاملة القواعد والأركان . ويكفي أن نذكر فقط مثل هذه الحقيقة الأساسية في التصور الإسلامي؛ وما ينشأ عنها من آثار في حركة الفرد والجماعة . وهي من ثم لا يمكن خلطها بحياة تقوم على غير هذه الحقيقة ، ولا بمنتجات هذه الحياة أيضاً! والذين يتصورون أنه من الممكن تطعيم الحياة الإسلامية ، والنظام الإسلامي ، بمنتجات حياة أخرى ونظام آخر ، لا يدركون طبيعة الفوارق الجذرية العميقة بين الأسس التي تقوم عليها الحياة في الإسلام والتي تقوم عليها الحياة في كل نظام بشري من صنع الإنسان! ـــــــــــــ (1/20) ليس كل الرسل قص الله أخبارهم قال تعالى :{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) [غافر/78] يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرْسَلَ قَبْلَهُ رُسُلاً إِلَى أَقْوَامِهِمْ ، مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ اللهُ لَهُ أَخْبَارَهُمْ فِي القُرْآنِ وَهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصُصِ اللهُ أَخْبَارَهُمْ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - . ( وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ رَضِيَ اللهَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ كُمْ عَدَدُ الأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ مِئَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفاً ، الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلاَثُمِئَةٍ وَخَمْسَةََ عَشَرَ جَمّاً غَفِيراً " ) . ( رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ ) . وَلَمْ يَكُنْ لأِحَدٍ مِنَ الرًّسُلِ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمَهُ بِمُعْجِزَةٍ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ بِذَلِكَ ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمُ بِهِ . فَإِذَا نَزَلَ عَذَابُ اللهِ وَنَكَالُهُ بِالمُكَذِّبِينَ قُضِيَ بِالحَقِّ وَالعَدْلِ . فَيُنَجِّي اللهُ رُسُلَهُ والمُؤْمِنِينَ مَعَهُمْ ، وَيُهْلِكُ الكَافِرِينَ الذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللهِ كَذِباً . إن لهذا الأمر سوابق كثيرة ، قص الله على رسوله بعضها في هذا الكتاب ، وبعضها لم يقصصه . وفيما قصه من أمر الرسل ما يشير إلى الطريق الطويل الواصل الواضح المعالم؛ وما يقرر السنة الماضية الجارية التي لا تتخلف؛ وما يوضح حقيقة الرسالة ووظيفة الرسل وحدودها أدق إيضاح . وتؤكد الآية حقيقة تحتاج إلى توكيدها في النفس ، وتتكئ عليها لتقررها تقريراً شديداً :{ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } . . فالنفس البشرية ولو كانت نفس رسول تتمنى وترغب أن تستعلي الدعوة وأن يذعن لها المكابرون سريعاً . فتتطلع إلى ظهور الآية الخارقة التي تقهر كل مكابرة . ولكن الله يريد أن يلوذ عباده المختارون بالصبر المطلق؛ ويروضوا أنفسهم عليه؛ فيبين لهم أن ليس لهم من الأمر شيء ، وأن وظيفتهم تنتهي عند حد البلاغ ، وأن مجيء الآية هو الذي يتولاه حينما يريد .لتطمئن قلوبهم وتهدأ وتستقر؛ ويرضوا بكل ما يتم على أيديهم ويدعوا الأمر كله بعد ذلك لله . ويريد كذلك أن يدرك الناس طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة ، ويعرفوا أن الرسل بشر منهم ، اختارهم الله ، وحدد لهم وظيفتهم ، وما هم بقادرين ولا محاولين أن يتجاوزوا حدود هذه الوظيفة . . كذلك ليعلم الناس أن تأخير الآيات رحمة بهم؛ فقد قضى في تقديره بأن يدمر على المكذبين بعد ظهور الآيات . وإذن فهي مهلة ، وهي من الله رحمة :{ فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون } . .ولم يعد هناك مجال لعمل ولا لتوبة ولا لرجعة بعد قضاء الله الأخير . ـــــــــــــ (1/21) تكفل الله تعالى بنجاة الرسل وأتباعهم قال تعالى :{ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) [يونس/101-103] يُرْشِدُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ إِلَى التَّفَكُّرِ فِيمَا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنَ الآيَاتِ التِي لاَ تُحْصَى ، وَالتِي يَعْقِلُهَا ذَوُو الأَلْبَابِ ، وَكُلُّها تَدُلُّ عَلَى أُلُوهِيَّةِ اللهِ ، وَوُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ . وَلَكِنَّ مَا هِيَ فَائِدَةُ الرُّسُلِ وَالآيَاتِ وَالحُجَجِ وَالبَرَاهِينِ لِقَوْمٍ جِاحِدِينَ ، لاَ يُتَوَّقَعُ إِيمَانُهُمْ ، لأَنَّهُمْ لَنْ يُوَجِّهُوا أَنْظَارَهُمْ إِلَى الاعْتِبَارِ بِالآيَاتِ ، وَالاسْتِدْلاَلِ بِهَا عَلَى مَا تَدِلُّ عَلَيْهِ مِنْ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ ( وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ ) . فَهَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبُونَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ إِلاَّ أَنْ يَنَالَهُمْ مِنَ الأَيَّامِ الشِّدَادِ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَسْلاَفَهُمُ المَاضِينَ ، الذِينَ كَانُوا عَلَى مِثْلِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ وَالشِّرْكِ ، وَالتَّكْذِيبِ لِرُسُلِهِمْ ، فَقُلْ لَهُمْ : إِنْ كُنْتُمْ تَنْتَظِرُونَ غَيْرَ ذَلِكَ فَانْتَظِرُوا ، فَإِنِّي أَنْتَظِرُ أَنْ يُهْلِكَكُمُ اللهُ بِالعُقُوبَةِ لأَنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ صِدْقِ وَعْدِ اللهِ لِلْمُرْسَلِينَ . ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالذِينَ آمَنُوا ، وَنُهْلِكَ المُكَذِّبِينَ بِالرُّسُلِ . وَإِنْجَاءُ الرُّسُلِ وَالمُؤْمِنِينَ مِنَ العَذَابِ وَالهَلاَكِ ، الذِي يُنْزِلُهُ اللهُ بِالكَافِرِينَ المُكَذِّبِينَ ، حَقٌّ أَوْجَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّتُهُ . إن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة ، لم يكن لديهم من المعرفة العلمية بما في السماوات والأرض إلا القليل . ولكن الحقيقة الواقعة التي أشرنا إليها مراراً ، هي أن بين الفطرة البشرية وبين هذا الكون الذي نعيش فيه لغة خفية غنية! وأن هذه الفطرة تسمع لهذا الكون - حين تتفتح وتستيقظ - وتسمع منه الكثير! والمنهج القرآني في تكوين التصور الإسلامي في الإدراك البشري يتكئ على ما في السماوات والأرض ، ويستلهم هذا الكون؛ ويوجه إليه النظر والسمع والقلب والعقل . . وذلك دون أن يخل بطبيعة التناسق والتوازن فيه؛ ودون أن يجعل من هذا الكون إلهاً يؤثر في الإنسان أثر الله! كما يجدف بذلك الماديون المطموسون ، ويسمون ذلك التجديف مذهباً « علمياً » يقيمون عليه نظاماً اجتماعياً يسمونه : « الاشتراكية العلمية » والعلم الصحيح من ذلك التجديف كله بريء! والنظر إلى ما في السماوات والأرض يمد القلب والعقل بزاد من المشاعر والتأملات؛ وزاد من الاستجابات والتأثرات؛ وزاد من سعة الشعور بالوجود؛ وزاد من التعاطف مع هذا الوجود . . وذلك كله في الطريق إلى امتلاء الكينونة البشرية بالإيقاعات الكونية الموحية بوجود الله ، وبجلال الله ، وبتدبير الله ، وبسلطان الله ، وبحكمة الله ، وعلم الله . . . ويمضي الزمن ، وتنمو معارف الإنسان العلمية عن هذا الكون ، فإن كان هذا الإنسان مهتدياً بنور الله إلى جوار هذه المعارف العلمية ، زادته هذه المعارف من الزاد الذي تحصله الكينونة البشرية من التأمل في هذا الكون ، والأنس به ، والتعرف عليه ، والتجاوب معه ، والاشتراك معه في تسبيحه بحمد الله : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم } ولا يفقه تسبيح كل شيء بحمد الله إلا الموصول قلبه بالله . . وأَما إن كانت هذه المعارف العلمية غير مصحوبة ببشاشة الإيمان ونوره ، فإنها تقود الأشقياء إلى مزيد من الشقوة ، حين تقودهم إلى مزيد من البعد عن الله؛ والحرمان من بشاشة الإيمان ونوره ورفرفته وريّاه! { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } ! وماذا تجدي الآيات والنذر إذا استغلقت القلوب ، وتجمدت العقول ، وتعطلت أجهزة الاستقبال والتلقي في الفطرة؛ واحتجب الكائن الإنساني بجملته عن هذا الوجود ، فلم يسمع إيقاعات حمده وتسبيحه؟! « إن المنهج القرآني في التعريف بحقيقة الألوهية يجعل الكون والحياة معرضاً رائعاً تتجلى فيه هذه الحقيقة . . تتجلى فيه بآثارها الفاعلة ، وتملأ بوجودها وحضورها جوانب الكينونة الإنسانية المدركة . . إن هذا المنهج لا يجعل » وجود الله « سبحانه قضية يجادل عنها . فالوجود الإلهي يفعم القلب البشري - من خلال الرؤية القرآنية والمشاهدة الواقعية على السواء - بحيث لا يبقى هنالك مجال للجدل حوله . إنما يتجه المنهج القرآني مباشرة إلى الحديث عن آثار هذا الوجود في الكون كله؛ وإلى الحديث عن مقتضياته كذلك في الضمير البشري والحياة البشرية . » والمنهج القرآني في اتباعه لهذه الخطة إنما يعتمد على حقيقة أساسية في التكوين البشري . فالله هو الذي خلق وهو أعلم بمن خلق : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } والفطرة البشرية بها حاجة ذاتية إلى التدين ، وإلى الاعتقاد بإله . بل إنها حين تصح وتستقيم تجد في أعماقها اتجاهاً إلى إله واحد ، وإحساساً قوياً بوجود هذا الإله الواحد . ووظيفة العقيدة الصحيحة ليست هي إنشاء هذا الشعور بالحاجة إلى إله والتوجه إليه ، فهذا مركوز في الفطرة . ولكن وظيفتها هي تصحيح تصور الإنسان لإلهه ، وتعريفه بالإله الحق الذي لا إله غيره . تعريفه بحقيقته وصفاته ، لا تعريفه بوجوده وإثباته . ثم تعريفه بمقتضيات الألوهية في حياته - وهي الربوبية والقوامة والحاكمية - والشك في حقيقة الوجود الإلهي أو إنكاره هو بذاته دليل قاطع على اختلال بين في الكينونة البشرية ، وعلى تعطل أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية فيها . وهذا التعطل لا يعالج - إذن - بالجدل . وليس هذا هو طريق العلاج! « إن هذا الكون ، كون مؤمن مسلم ، يعرف بارئه ويخضع له ، ويسبح بحمده كل شيء فيه وكل حي - عدا بعض الأناسي! - و » الإنسان « يعيش في هذا الكون الذي تتجاوب جنباته بأصداء الإيمان والإسلام ، وأصداء التسبيح والسجود . وذرات كيانه ذاته وخلاياه تشارك في هذه الأصداء؛ وتخضع في حركتها الطبيعية الفطرية للنواميس التي قدرها الله . فالكائن الذي لا تستشعر فطرته هذه الأصداء كلها؛ ولا تحس إيقاع النواميس الإلهية فيها هي ذاتها ، ولا تلتقط أجهزته الفطرية تلك الموجات الكونية ، كائن معطلة فيه أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . ومن ثم لا يكون هنالك سبيل إلى قلبه وعقله بالجدل ، إنما يكون السبيل إلى علاجه هو محاولة تنبيه أجهزة الاستقبال والاستجابة فيه ، واستجاشة كوامن الفطرة في كيانه ، لعلها تتحرك ، وتأخذ في العمل من جديد » ولفت الحس والقلب والعقل للنظر إلى ما في السماوات والأرض ، وسيلة من وسائل المنهج القرآني لاستحياء القلب الإنساني؛ لعله ينبض ويتحرك ، ويتلقى ويستجيب . ولكن أولئك المكذبين من الجاهليين العرب - وأمثالهم - لا يتدبرون ولا يستجيبون . . فماذا ينتظرون؟ إن سنة الله لا تتخلف ، وعاقبة المكذبين معروفة ، وليس لهم أن يتوقعوا من سنة الله أن تتخلف . وقد يُنظرهم الله فلا يأخذهم بعذاب الاستئصال ، ولكن الذين يصرون على التكذيب لا بد لهم من النكال : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم؟ } . . { قل : فانتظروا إني معكم من المنتظرين } . . وهو التهديد الذي ينهي الجدل ، ولكنه يخلع القلوب . ويختم هذا المقطع من السياق بالنتيجة الأخيرة لكل رسالة ولكل تكذيب ، وبالعبرة الأخيرة من ذلك القصص وذلك التعقيب : { ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا . كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين } . . إنها الكلمة التي كتبها الله على نفسه : أن تبقى البذرة المؤمنة وتنبت وتنجو بعد كل إيذاء وكل خطر ، وبعد كل تكذيب وكل تعذيب . . هكذا كان - والقصص المروي في السورة شاهد - وهكذا يكون . . فليطمئن المؤمنون . . . -------------- وقال تعالى { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) [الصافات/171-173] وَلَقَدْ سَبَقَ وَعْدُ اللهِ فِي الكِتَابِ الأَوَّلِ أَنَّ العَاقِبَةَ لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِم المُخْلِصِينَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ . وَأَنَّهُ سَيَنْصُرُهُمْ وَيُؤَزِّرُهُمْ وَيُذِلُّ أَعْدَاءَهُمْ وَأَعْدَاءَ اللهِ . وَإِنَّ جُنْدَ اللهِ الذِينَ يُقَاتِلُونَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا ، سَتَكُونَ لَهُمْ الغَلَبَةُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فِي الحَرْبِ . والوعد واقع وكلمة الله قائمة . ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض؛ وقام بناء الإيمان ، على الرغم من جميع العوائق ، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين ، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين . ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار . وذهبت سطوتهم ودولتهم؛ وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل . تسيطر على قلوب الناس وعقولهم ، وتكيف تصوراتهم وأفهامهم . وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض . وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل ، وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل . باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعت منها .وحقت كلمة الله لعباده المرسلين . إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون . هذه بصفة عامة . وهي ظاهرة ملحوظة . في جميع بقاع الأرض . في جميع العصور . وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله ، يخلص فيها الجند ، ويتجرد لها الدعاة . إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق ، وقامت في طريقها العراقيل . ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار ، وقوى الدعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة ، وهي إن هي إلا معارك تختلف نتائجها . ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله . والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه . الوعد بالنصر والغلبة والتمكين . هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية . سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة؛ وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان؛ وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء . . ولكنها مرهونة بتقدير الله ، يحققها حين يشاء . ولقد تبطئ آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة . ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة ، ولا يدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين! ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله . ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى . فيكون ما يريده الله . ولو تكلف الجند من المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون . . ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة؛ وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة . وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام . وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام . ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك ، وتدور عليهم الدائرة ، ويقسو عليهم الابتلاء؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر . ولأن الله يهيء الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع ، وفي خط أطول ، وفي أثر أدوم . لقد سبقت كلمة الله ، ومضت إرادته بوعده ، وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد --------------- وقال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) [غافر/51-52] يَقُولُ اللهُ تَعَالَى ، إِنَّهُ سَيَجْعَلُ رُسلَهُ هُمُ الغَالِبِينَ لأَعْدَائِهِمْ وَمُعَانِدِيهِمْ ، وَإِنَّهُ سَيَنْصُرُ مَعَهُمُ المُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَذَلِكَ يَكُونُ بالطُّرُقِ التَّالِيةِ : - إِمَّا بِجَعْلِهِمْ غَالِبِينَ عَلَى مَنْ كَذَّبَهم ، كَمَا فَعَلَ بِدَاوُدَ وَسُلَيمَانَ وَمُحَمَّدٍ ، عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ . - وإِمَّا بِالانْتِقَامِ مِمَّنْ عَادَاهُمْ وَآذَاهُمْ ، وَإِهْلاَكِهِ إِيَّاهُمْ ، وَإِنْجَائِهِ الرُّسُلَ والمُؤْمِنِينَ ، كَمَا فَعَلَ بِنُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَمُوسَى وَلُوطٍ . - وَإِمَّا بِالانْتِقَامِ مِمَّنْ آذَى الرُّسُلَ بَعْدَ وَفَاةِ الأَنْبِيَاء والرُّسُلِ ، بِتَسْلِيطِ بَعْضِ خَلْقِ اللهِ عَلَى المُكَذِّبِينَ المُجْرِمِينَ لِيَنْتَقِمُوا مِنْهُمْ ، كَمَا فَعَلَ مَعَ زَكَرِيا وَيَحْيَى ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ . وَكَمَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَنْصُرُ رَسُلَهُ والمُؤْمِنِينَ بِدَعْوَتِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ، كَذَلِكَ يَنْصُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَهُوَ اليومُ الذِي يَقُومُ فِيهِ الأشْهَادُ مِنَ المَلاَئِكَةِ والأَنْبِيَاءِ والمُؤْمِنِينَ ، بالشَّهَادَةِ عَلَى الأُمَم المُكَذِّبَةِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَبْلَغُوهُمْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ . وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ العِبَادِ يُؤَدُّونَ شَهَادَاتِهِمْ ، فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لاَ يَنْفَعُ أَهْلَ الشِّرْكِ اعْتِذَارُهُمْ لأَنَّ أَعْذَارَهُمْ بَاطِلَةٌ ، مَرْدُودَةٌ ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ اللَّعْنَةُ والطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، وَلَهُمْ سُوءُ العَاقِبَةِ والقَرَار فِي جَهَنَّمَ ، وَبِئْسَ المُسْتَقَرُّ وَالمَأْوَى . فأما في الآخرة فقد لا يجادل أحد من المؤمنين بالآخرة في هذه النهاية . ولا يجد ما يدعوه إلى المجادلة . وأما النصر في الحياة الدنيا فقد يكون في حاجة إلى جلاء وبيان . إن وعد الله قاطع جازم : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا . . } . . بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يهاجر من أرضه وقومه مكذباً مطروداً ، وأن المؤمنين فيهم من يسام العذاب ، وفيهم من يلقى في الأخدود ، وفيهم من يستشهد ، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد . . فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل ، ويفعل بها الأفاعيل! ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور . ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير . إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان . وهي مقاييس بشرية صغيرة . فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان . ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك . وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها . فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها . وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها! والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم ، قريبة الرؤية لأعينهم . ولكن صور النصر شتى .وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة . . إبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها . . أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك في منطق العقيدة أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار . كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار . هذه صورة وتلك صورة . وهما في الظاهر بعيد من بعيد . فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب! . . والحسين رضوان الله عليه وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب ، المفجعة من جانب؟ أكانت هذه نصراً أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة . فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً . فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف ، وتهفو له القلوب وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه . يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين . من المسلمين . وكثير من غير المسلمين! وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام ، كما نصرها باستشهاده . وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة ، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه ، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد . وربما كانت حافزاً محركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال . . ما النصر؟ وما الهزيمة؟ إننا في حاجة إلى أن نراجع ما استقر في تقديرنا من الصور . ومن القيم . قبل أن نسأل : أين وعد الله لرسله وللمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا! على أن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة . ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة . لقد انتصر محمد - صلى الله عليه وسلم - في حياته . لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض . فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعاً . من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة . فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته ، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة ، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعة تاريخية محددة مشهودة . ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة ، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية . وفق تقدير الله وترتيبه .وهنالك اعتبار آخر تحسن مراعاته كذلك . إن وعد الله قائم لرسله وللذين آمنوا . ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها . وحقيقة الإيمان كثيراً ما يتجوز الناس فيها . وهي لا توجد إلا حين يخلو القلب من الشرك في كل صوره وأشكاله . وإن هنالك لأشكالاً من الشرك خفية؛ لا يخلص منها القلب إلا حين يتجه لله وحده ، ويتوكل عليه وحده ، ويطمئن إلى قضاء الله فيه ، وقدره عليه ، ويحسن أن الله وحده هو الذي يصرفه فلا خيرة له إلا ما اختار الله . ـــــــــــــ (1/22) الرسل يسألون يوم القيامة عن أقوامهم قال تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) [المائدة/109] يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أنَّهُ سَيَسْألُ المُرْسَلِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَمَّا أجَابَتْهُمْ بِهِ الأمَمُ التِي أرْسَلَهُمُ اللهُ إِلَيْهَا فَيَقُولُونَ : لاَ عِلْمَ لَنَا يَارَبَّنا بِالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِكَ المُحِيطِ بِكُلِّ شَيءٍ ، وَأنْتَ تَعْلَمُ ظَاهِرَ النَّاسِ وَبَاطِنَهُمْ ، وَأنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ . يوم يجمع الله الرسل الذين فرقهم في الزمان فتتابعوا على مداره؛ وفرقهم في المكان فذهب كل إلى قريته؛ وفرقهم في الأجناس فمضى كل إلى قومه . . يدعون كلهم بدعوة واحدة على اختلاف الزمان والمكان والأقوام؛ حتى جاء خاتمهم - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة الواحدة لكل زمان ومكان وللناس كافة من جميع الأجناس والألوان . هؤلاء الرسل إلى شتى الأقوام ، في شتى الأمكنة والأزمان . . ها هو ذا مرسلهم فرادى ، يجمعهم جميعاً؛ ويجمع فيهم شتى الاستجابات ، وشتى الاتجاهات . وها هم أولاء . . نقباء البشرية في حياتها الدنيا؛ ومعهم رسالات الله إلى البشرية في شتى أرجائها ، ووراءهم استجابات البشرية في شتى أعصارها . هؤلاء هم أمام الله . . رب البشرية - سبحانه - في مشهد يوم عظيم .وها هو ذا المشهد ينبض بالحياة : { يوم يجمع الله الرسل . فيقول : ماذا أجبتم؟ } . { ماذا أجبتم؟ } . . فاليوم تجمع الحصيلة ، ويضم الشتات ، ويقدم الرسل حساب الرسالات ، وتعلن النتائج على رؤوس الأشهاد . { ماذا أجبتم؟ } . . والرسل بشر من البشر؛ لهم علم ما حضر ، وليس لديهم علم ما استتر . لقد دعوا أقوامهم إلى الهدى؛ فاستجاب منهم من استجاب ، وتولى منهم من تولى . . وما يعلم الرسول حقيقة من استجاب إن كان يعرف حقيقة من تولى . فإنما له ظاهر الأمر وعلم ما بطن لله وحده . . وهم في حضرة الله الذي يعرفونه خير من يعرف؛ والذي يهابونه أشد من يهاب؛ والذي يستحيون أن يدلوا بحضرته بشيء من العلم وهم يعلمون أنه العليم الخبير .. إنه الاستجواب المرهوب في يوم الحشر العظيم ، على مشهد من الملأ الأعلى ، وعلى مشهد من الناس أجمعين . الاستجواب الذي يراد به المواجهة . . مواجهة البشرية برسلها؛ ومواجهة المكذبين من هذه البشرية خاصة برسلهم الذين كانوا يكذبونهم . ليعلن في موقف الإعلان ، أن هؤلاء الرسل الكرام إنما جاءوهم من عند الله بدين الله؛ وها هم أولاء مسؤولون بين يديه - سبحانه - عن رسالاتهم وعن أقوامهم الذين كانوا من قبل يكذبون . أما الرسل فهم يعلنون أن العلم الحق لله وحده؛ وأن ما لديهم من علم لا ينبغي أن يدلوا به في حضرة صاحب العلم ، تأدباً وحياء ، ومعرفة بقدرهم في حضرة الله : فأما سائر الرسل - غير عيسى عليه السلام - فقد صدق بهم من صدق ، وقد كفر بهم من كفر؛ ولقد انتهى أمرهم بهذا الجواب الكامل الشامل ، الذي يدع العلم كله لله ، ويدع الأمر كله بين يديه . سبحانه . . فما يزيد السياق شيئاً في هذا المشهد عنهم . . إنما يلتفت بالخطاب إلى عيسى بن مريم وحده ، لأن عيسى بن مريم هو الذي فتن قومه فيه ، وهو الذي غام الجو حوله بالشبهات ، وهو الذي خاض ناس في الأوهام والأساطير حول ذاته ، وحول صفاته ، وحول نشأته ومنتهاه . ـــــــــــــ (1/23) الفائدة من ذكر قصص الأنبياء في القرآن الكريم قال تعالى : { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) [هود/120] كُلُّ مَا قَصَصْنَاهُ عَلَيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ المُتَقَدِّمِينَ ، وَمَا جَرَى لَهُمْ مَعَ أَقْوَامِهِمْ ، وَمَا احْتَمَلَهُ كُلُّ نَبِيٍّ مِنَ الأَذَى وَالتَّكْذِيبِ ، وَكَيْفَ نَصَرَ اللهُ حِزْبَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ ، وَخَذَلَ أَعْدَاءَهُ مِنَ الكَافِرِينَ . . . إِنَّمَا قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ، وَنُقَوِّيَ عَزْيمَتَكَ ، وَلِتَتَأَسَّى بِإِخْوَانِكَ المُرْسَلِينَ . وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، المُشْتَمِلَةِ عَلَى قَصَصِ الأَنْبِيَاءِ ، وَتَفَاصِيلِ مَا جَرَى لَهُمْ مَعْ أَقْوَامِهِمْ ، القَصَصُ الحَقُّ ، وَالنَّبَأُ الصِّدْقُ ، وَالمَوْعِظَةُ التِي يَرْتَدِعُ بِهَا الكَافِرُونَ ، وَيَتَذَكَّرُ بِهَا المُؤْمِنُونَ . ويا لله للرسول - صلى الله عليه وسلم - لقد كان يجد من قومه ، ومن انحرافات النفوس ، ومن أعباء الدعوة ، ما يحتاج معه إلى التسلية والتسرية والتثبيت من ربه وهو الصابر الثابت المطمئن إلى ربه : { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } . . { وجاءك في هذه الحق } . . أي في هذه السورة . . الحق من أمر الدعوة ، ومن قصص الرسل ، ومن سنن الله ، ومن تصديق البشرى والوعيد . ---------------- وقال تعالى :{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) [يوسف/111] لَقَدْ كَانَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ مَعَ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ عِبْرَةٌ لِذَوِي العُقُولِ وَالأَلْبَابِ ، لأَنَّهُمْ هُمُ الذِينَ يَعْتَبِرُونَ بِعَوَاقِبِ الأُمُورِ التِي تَدُلُّ عَلَيْهَا أَوَائِلُهَا وَمُقَدِّمَاتُها ، وَجِهَةُ الاعْتِبَارِ فِي هَذِهِ القِصَّةِ أَنَّ الذِي قَدَرَ عَلَى إِنْجَاءِ يُوسُفَ بَعْدَ إِلْقَائِهِ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ ، وَإِعْلاَءِ شَأْنِهِ ، حَتَّى أَصْبَحَ عَزِيزَ مِصْرَ ، وَرَئِيسَ وُزَرَائِهَا ، بَعْدَ أَنْ بِيعَ بِالثَّمَنِ البَخْسِ ، وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ لَهُ بَعْدَ الحَبْسِ وَالسِّجْنِ ، وَجَمْعِ شَمْلِهِ مَعَ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ . . . لَقَادِرٌ عَلَى إِعْزَازِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، وَإِعْلاَءِ كَلِمَتِهِ ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ . وَمَا كَانَ هَذَا القَصَصُ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَيُخْتَلَقُ لأَنَّهُ أَعْجَزَ رُوَاةَ الأَخْبَارِ ، فَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ ، وَبُرْهَانٌ قَاهِرٌ ، عَلَى أَنَّهُ جَاءَ بِطَرِيقِ الوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ ، وَقَدْ جَاءَ مُصَدِّقاً لِمَا جَاءَتْ بِهِ الكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ السَّابِقَةُ المُنَزَّلَةُ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ لِلأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالوَعْدِ وَالوَعِيدِ ، وَهُوَ هُدًى لِمَنْ تَدَبَّرَهُ ، وَأَمْعَنَ النَّظَرَ فِيهِ ، وَتَلاَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ ، وَهُوَ رَحْمَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الذِينَ تَنْفُذُ فِيهِمْ شَرَائِعُهُ ، فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ . وفي قصة يوسف ألوان من الشدائد . في الجب وفي بيت العزيز وفي السجن . وألوان من الاستيئاس من نصرة الناس . . ثم كانت العاقبة خيراً للذين اتقوا كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب وقصة يوسف نموذج من قصص المرسلين . فيها عبرة لمن يعقل ، وفيها تصديق ما جاءت به الكتب المنزلة من قبل ، على غير صلة بين محمد وهذه الكتب . فما كان يمكن أن يكون ما جاء به حديثاً مفترى . فالأكاذيب لا يصدق بعضها بعضاً ولا تحقق هداية ، ولا يستروح فيها القلب المؤمن الروح والرحمة : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ، ما كان حديثاً يفترى ، ولكن تصديق الذي بين يديه ، وتفصيل كل شيء ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } . . الحكمة من قصص القرآن كثيرة جداً، من أهمها: 1- ما نص عليه الله تعالى في قوله: "فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" [الأعراف:176]). 2- تثبيت فؤاد النبي صلى الله عيه وسلم، كما قال تعالى: "وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ" [هود:120]، وهذا كما هو له - صلى الله عليه وسلم - ، فهو لغيره أيضاً، فكم انتفع أهل العلم والإيمان بقصص الأنبياء وغيرهم ! وكم كانت قصصهم منارات يهتدون بها!. 3- أن في هذه القصص عبرة لأولي الألباب، كما قال جل وعلا: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ" [يوسف:111]. 4- أخذ العبرة والعظة من أحوال الأمم السابقة: فإن كانوا ممن هلكوا فلأجل أن تحذر هذه الأمة سبب هلاكهم، وإن كانوا ممن نجوا لتعتبر الأمة، فتسلك أسباب النجاة. 5- معرفة قدرة الله تعالى في تنويع العقاب على المخالفين، حسب ما تقتضيه حكمته. 6- إقامة الحجة على الناس ببعث الرسل، وإنزال الكتب، وكيف قابلت الأمم أنبياءها؟ وماذا وقع لهم في حال الكفر وفي حال الاستجابة، كما قال تعالى -لما ذكر جملة من الرسل- "وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" [النساء:164-165].إلى غير ذلك من الحكم التي تظهر للمتأمل. ـــــــــــــ (1/24) دعوتهم الناس على بصيرة قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) [يوسف/108 ] يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِلى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ هِيَ سَبِيلُهُ وَمَسْلَكُهُ وَسُنَّتُهُ ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا وَهُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنَ اللهِ وَيَقِينٍ ، هُوَ وَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ، مِنْ حَقِيقَةِ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ ، وَمَا يَقُولُونَ بِهِ ، وَأَنَّهُ يُنْزِّهُ اسْمَ اللهِ ، وَيُقَدِّسُهُ عَنِ الشِّرْكِ وَالوَلَدِ وَالصَّحَابَةِ ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبِيراً { قل : هذه سبيلي } . . واحدة مستقيمة ، لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة . { ادعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } . . فنحن على هدى من الله ونور . نعرف طريقنا جيداً ، ونسير فيها على بصر وإدراك ومعرفة ، لا نخبط ولا نتحسس ، ولا نحدس . فهو اليقين البصير المستنير . ننزه الله سبحانه عما لا يليق بألوهيته ، وننفصل وننعزل ونتميز عن الذين أشركوا به :{ وما أنا من المشركين } . . لا ظاهر الشرك ولا خافيه . . هذه طريقي فمن شاء فليتابع ، ومن لم يشأ فأنا سائر في طريقي المستقيم . وأصحاب الدعوة إلى الله لا بد لهم من هذا التميز ، لا بد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم ، يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم ، ولا يسلك مسلكهم ، ولا يدين لقيادتهم ، ويتميزون ولا يختلطون! ولا يكفي أن يدعوا أصحاب هذا الدين إلى دينهم ، وهم متميعون في المجتمع الجاهلي . فهذه الدعوة لا تؤدي شيئاً ذا قيمة! إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية؛ وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة ، وعنوانه القيادة الإسلامية .. لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي؛ وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضاً! إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي ، وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية ، يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم ، وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم ، وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة . وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين . . إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس . . وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها الأصلية ، وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على مدار التاريخ! والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية ، والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام . . هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب! . . إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم! أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص؟ وطريقهم الخاص؟ وسبيلهم التي تفترق تماماً عن سبيل الجاهلية؟ ـــــــــــــ (1/25) الرسل رجال وليسوا نساء قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) [يوسف/109 ] يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ جَمِيعاً مِنَ البَشَرِ ، فَكَيْفَ عَجِبُوا مِنْكَ ، وَلَمْ يَعْجَبُوا مِمَّنْ قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ؟ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَهُمْ رِجَالاً - لاَ نِسَاءً - مِنْ أَهْلِ المُدُنِ - لاَ القُرَى - لأَنَّ أَهْلَ البَادِيَّةِ أَجْفَى النَّاسِ طِبَاعاً وَأَخْلاَقاً ، وَلأَنَّ أَهْلَ المُدُنَ إِذَا آمَنُوا تَبِعَهُمْ أَهْلُ البَوَادِيَ فِي الإِيمَانِ ، أَفَلَمْ يَسِرْ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبُونَ لَكَ ، يَا مُحَمَّدُ ، فِي الأَرْضِ لِيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الذِينَ كَذَّبُوا الأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُمْ ، وَكَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَبِرُسُلِهِ وَبِالمَعَادِ ، وَكَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ جَمِيعاً ، وَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ؟ وَكَمَا نَجَّيْنا المُؤْمِنِينَ بِدَعْوَةِ الرُّسُلِ حِينَمَا أَهْلَكْنَا المُكَذِبِينَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ ، وَهَذِهِ هِيَ سُنَّتُنَا فِي الدُّنْيا ، كَذَلِكَ نُنَجِيهِمْ فِي الآخِرَةِ ، وَهِيَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَأَفْضَلُ . لم يكونوا ملائكة ولا خلقاً آخر . إنما كانوا بشراً مثلك من أهل القرى الحاضرة ، لا من أهل البادية ، ليكونوا أرق حاشية وألين جانباً . . وأصبر على احتمال تكاليف الدعوة والهداية ، فرسالتك ماضية على سنة الله في إرسال رجال من البشر نوحي إليهم . ------------------ وقال تعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) [النحل/43-44] لَمَّا بَعَثَ اللهُ مُحْمَّداً رَسُولاً أَنْكَرَتِ العَرَبُ ذَلِكَ ، وَقَالُوا : اللهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ مِنَ البَشَرِ . فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس } وَهُنَا يُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ المُرْسَلِينَ ، مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ ، إِلاَّ مِنَ البَشَرِ ، فَاسْأَلُوا ، يَا أَيُّهَا المُنْكِرُونَ ذلِكَ ، أَهْلَ الكُتُبِ السَّابِقَةِ ( أَهْلَ الذِّكْرِ ) أَمِنَ البَشَرِ كَانَ الرُّسُلُ أَمْ مِنَ المَلاَئِكَةِ؟ فَإِنْ كَانُوا مِنَ المَلاَئِكَةِ أَنْكَرْتُمْ ، وَإِنْ كَانُوا مِنَ البَشَرِ ، فَلِمَ تُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ رَسُولاً؟ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى إِنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ السَّابِقِينَ مِنَ البَشَرِ ، وَأَيَّدَهُمْ بِالحُجَجِ وَالدَّلاَئِلِ ( البَيِّنَاتِ ) ، وَبِالكُتْبِ ( الزُّبُرِ وَهِيَ جَمْيعُ زَبُورٍ أَيْ كِتَابٍ ) لِلدَّلاَلَةِ عَلَى صِدْقِهِمْ ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ القُرْآنَ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ ، لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَيُفَصِّلَ لَهُمْ مَا أُجْمِلَ ، وَيُفَسِّرَ لَهُمْ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ ، لَعَلَّ النَّاسَ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ فَيَهْتَدُوا ، وَيَفُوزُوا بِالنَّجَاةِ فِي الدَّارَينِ . وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً . . لم نرسل ملائكة ، ولم نرسل خلقاً آخر . رجالاً مختارين { نوحي إليهم } كما أوحينا إليك ، ونكل إليهم التبليغ كما وكلنا إليك . { فاسألوا أهل الذكر } أهل الكتاب الذين جاءتهم الرسل من قبل ، أكانوا رجالا أم كانوا ملائكة أم خلقا آخر . اسألوهم { إن كنتم لا تعلمون } . أرسلناهم بالبينات وبالكتب ( والزبر الكتب المتفرقة ) { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } سواء منهم السابقون أهل الكتاب الذين اختلفوا في كتابهم ، فجاء القرآن ليفصل في هذا الخلاف ، وليبين لهم وجه الحق فيه . أو المعاصرون الذين جاءهم القرآن والرسول - صلى الله عليه وسلم - يبينه لهم ويشرحه بفعله وقوله { ولعلهم يتفكرون } في آيات الله وآيات القرآن فإنه يدعو دائماً إلى التفكر والتدبر ، وإلى يقظة الفكر والشعور . ويختم هذا الدرس الذي بدأه بالإشارة إلى الذين يستكبرون ويمكرون . . ينتهي بلمسة وجدانية بعد لمسة : أولاهما للتخويف من مكر الله الذي لا يأمنه أحد في ساعة من ليل أو نهار . والثانية لمشاركة هذا الوجود في عبادة الله وتسبيحه . فليس إلا الإنسان هو الذي يستكبر ويمكر . وكل ما حوله يحمد ويسبح . --------------- وقال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) [الأنبياء/7-9] وَيَرُدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ أَنْكَرَ بِعْثَةَ الرُّسُلِ مِنَ البَشَرِ قَائِلاً : إِنَّ جَمِيعَ الذِينَ أُرْسلُوا قَبَلَكَ يَا مُحَمَّدٌ كَانُوا مِنَ البَشَرِ ، ولَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ من المَلائِكَةِ ، فَاسْأَلُوا أَهْلَ العِلْمِ ( الذِّكْر ) مِنَ الأُمَمِ المُتَقدِّمَةِ ( اليهُودِ والنَّصَارَى ) هَلْ كَانَ الرَّسُلُ الذِينَ جَاؤُوهُمْ مِنَ البَشَرِ أَمْ مِنَ المَلائكةِ؟ وَقَدْ وَعَدَ اللهُ رُسَُلَهُ ، فِيمَا أَوْحَاهُ إلَيْهِم ، أَنَّهُ سَيُهْلِكَ الظَّالمِيِنَ المُكَذِّبِينَ ( المُسْرِفِينَ ) ، وأَنَّهُ سَيُنْجِي رُسُلَهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمْ ، فَصَدَقَهُمُ اللهُ وَعْدَهُ ، وأَنْجَاهُمْ والذِينَ آمَنُوا مَعَهُم ، وأَهْلَكَ المُسْرِفِينَ المُتَجَاوِزِينَ الحَدَّ فِي تَكْذِيبِهِمْ ، وَدَمَّرَ عَلَيْهِم . فقد اقتضت حكمة الله أن يكون الرسل من البشر ، يتلقون الوحي فيدعون به الناس . وما كان الرسل من قبل إلا رجالاً ذوي أجساد . وما جعل الله لهم أجساداً ثم جعلهم لا يأكلون الطعام . فأكل الطعام من مقتضيات الجسدية ، والجسدية من مقتضيات البشرية . وهم بحكم انهم بشر مخلوقون لم يكونوا خالدين . . هذه هي سنة الله المطردة فليسألوا أهل الكتاب الذين عرفوا الأنبياء من قبل . إن كانوا هم لا يعلمون .لقد كان الرسل من البشر ليعيشوا حياة البشر؛ فتكون حياتهم الواقعية مصداق شريعتهم . وسلوكهم العملي نموذجاً حياً لما يدعون إليه الناس . فالكلمة الحية هي التي تؤثر وتهدي ، لأن الناس يرونها ممثلة في شخص مترجمة إلى حياة .ولو كان الرسل من غير البشر لا يأكلون الطعام ، ولا يمشون في الأسواق ، ولا يعاشرون النساء . ولا تعتلج في صدورهم عواطف البشر وانفعالاتهم لما كانت هناك وشيجة بينهم وبين الناس . فلا هم يحسون دوافع البشر التي تحركهم ، ولا البشر يتأسون بهم ويقتدون .وأيما داعية لا يحس مشاعر الذين يدعوهم ولا يحسون مشاعره ، فإنه يقف على هامش حياتهم ، لا يتجاوب معهم ولا يتجاوبون معه . ومهما سمعوا من قوله فلن يحركهم للعمل بما يقول . لما بينه وبينهم من قطعية في الحس والشعور .وأيما داعية لا يصدق فعله قوله . فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب . مهما تكن كلماته بارعة وعباراته بليغة . فالكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال ، ويؤيدها العمل . هي الكلمة المثمرة التي تحرك الآخرين إلى العمل .والذين كانوا يقترحون أن يكون الرسول من الملائكة ، كالذين يقترحون اليوم أن يكون الرسول منزهاً عن انفعالات البشر . . كلهم يتعنتون ويغفلون عن هذه الحقيقة . وهي أن الملائكة لا يحيون حياة البشر بحكم تكوينهم ولا يمكن أن يحيوها . . لا يمكن أن يحسوا بدوافع الجسد ومقتضياته ، ولا بمشاعر هذا المخلوق الآدمي ذي التكوين الخاص . وأن الرسول يجب أن يحس بهذه الدوافع والمشاعر ، وأن يزاولها في حياته الواقعية ليرسم بحياته دستور الحياة العملي لمتبعيه من الناس . وهنالك اعتبار آخر ، وهو أن شعور الناس بأن الرسول ملك لا يثير في نفوسهم الرغبة في تقليده في جزئيات حياته؛ لأنه من جنس غير جنسهم ، وطبيعة غير طبيعتهم ، فلا مطمع لهم في تقليد منهجه في حياته اليومية .وحياة الرسل أسوة دافعة لغيرهم من الناس . وهذا وذلك فوق ما في ذلك الاقتراح من غفلة عن تكريم الله للجنس البشري كله ، باختيار الرسل منه ، ليتصلوا بالملأ الأعلى ويتلقوا عنه . لذلك كله اقتضت سنة الله الجارية اختيار الرسل من البشر؛ وأجرت عليهم كل ما يجري على البشر من ولادة وموت . ومن عواطف وانفعالات . ومن آلام وآمال . ومن أكل للطعام ومعاشرة للنساء . . وجعلت أكبر الرسل وأكملهم وخاتمهم وصاحب الرسالة الباقية فيهم . . أكمل نموذج لحياة الإنسان على الأرض ، بكل ما فيها من دوافع وتجارب وعمل وحياة . تلك سنة الله في اختيار الرسل . ومثلها سنته في إنجائهم ومن معهم ، وإهلاك المسرفين الظالمين المكذبين : { ثم صدقناهم الوعد ، فأنجيناهم ومن نشاء ، وأهلكنا المسرفين } . . فهي كذلك سنة جارية كسنة اختيارهم . وقد وعدهم الله النجاة هم والمؤمنون معهم إيماناً حقيقياً يصدقه العمل؛ فصدقهم وعده ، وأهلك ، الذين كانوا يسرفون عليهم ، ويتجاوزون الحد معهم . ـــــــــــــ (1/26) جزاء مكذبي الرسل قال تعالى : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) [يوسف/110] يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلاً قَبْلَهُ فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعَالَى أَنْ يَتَرَاخَى نَصْرُ اللهِ عَنِ الرُّسُلِ ، وَأَنْ يَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ التَّكْذِيبِ مِنْ قَوْمِهِمْ ، حَتَّى إِذَا زُلْزِلَتِ النُّفُوسُ ، وَاسْتَشْعَرَتِ القُنُوطَ وَاليَأْسَ مِنَ النَّجَاةِ وَالنَّصْرِ ، فَحِينَئِذٍ يَأْتِي نَصْرُ اللهِ ، فَيُنَجِّي مَنْ يَشَاءُ اللهُ إِنْجَاءَهُ ، وَيُهْلِكُ مَنْ يَشَاءُ إِهْلاَكَهُ ، وَلاَ يَرُدُّ أَحَدٌ بَأْسَ اللهِ وَعِقَابَهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ . وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى ( كُذِبُوا ) قَرَاءَتَانِ : الأُولَى - ( كُذِّبُوا ) - بِضَمِّ الكَافِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ - وَكَذَلِكَ كَانَتْ تَقْرَؤُهَا عَائِشَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا - وَمَعْنَاهَا : إِنَّ الرُّسُلَ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ ، وَلَنْ يُؤْمِنُوا لَهُمْ ، وَيَئِسُوا مِنْ قَوْمِهِم الكَافِرِينَ . وَالثَّانِيَةُ - ( كُذِبُوا ) - بِضَمِ الكَافِ وَتَخْفِيفِ الذَّالِ - وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ - وَمَعْنَاهَا : إِنَّهُ لَمَّا يَئِسَ الرُّسُلُ مِنْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُمْ قَوْمُهُمْ ، وَظَنَّ قَوْمُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوهُمْ ، جَاءَ نَصْرُ اللهِ فَأَيَّدَ الرُّسُلَ . فَفِي القِرَاءَةِ الأُوْلَى : يَشْعُرُ الرُّسُلُ أَنَّهُمْ كُذِّبُوا مِنْ قِبَلِ أَقْوَامِهِمْ . وَفِي القِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ : يُدْرِكُ القَوْمُ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبُوهُمْ بِمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ . إنها صورة رهيبة ، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل ، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود . وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل ، وتكر الأعوام والباطل في قوته ، وكثرة أهله ، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة . إنها ساعات حرجة ، والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر . والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض . فتهجس في خواطرهم الهواجس . . تراهم كُذِبوا؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا؟ وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر . وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله . . . ؟ } ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس ، والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة ، وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات ، وما يحس به من ألم لا يطاق . في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب ، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل ، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة . . في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً : { جاءهم نصرنا ، فنجي من نشاء ، ولا يردُّ بأسنا عن القوم المجرمين } تلك سنة الله في الدعوات . لا بد من الشدائد ، ولا بد من الكروب ، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة . ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس . يجيء النصر من عند الله ، فينجو الذين يستحقون النجاة ، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين ، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون . ويحل بأس الله بالمجرمين ، مدمراً ماحقاً لا يقفون له ، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير . ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً . فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئاً . أو تكلفه القليل . ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولا لعباً . فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج ، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء . والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة ، لذلك يشفقون أن يدَّعوها ، فإذا ادَّعوها عجزوا عن حملها وطرحوها ، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون؛ الذين لا يتخلون عن دعوة الله ، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة! إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل؛ إما أن تربح ربحاً معيناً محدداً في هذه الأرض ، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة ، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله ، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات! . . ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف ، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثيرة التكاليف أيضاً . وأنه من ثم لا تنضم إليها في أول الأمر الجماهير المستضعفة ، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله ، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة ، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا . وأن عدد هذه الصفوة يكون دائماً قليلاً جداً . ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق ، بعد جهاد يطول أو يقصر . وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجاً . ---------------- وقال تعالى :{ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) [إبراهيم/44، 45] خَوِّفْ أَيُّها الرَّسُولُ هَؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ القِيَامَةِ وَشَدَّتِهِ ، إِذْ يَقُولُونَ حِينَ يَرَوْنَ العَذَابَ : رَبَّنا آخِّرْنا إِلَى مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ، وَنُؤْمِنَ بِكَ ، وَبِكُتُبِكَ وَرُسُلِكَ . وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً : لَقَدْ كُنْتُمْ أَقْسَمْتُمْ ، وَأَنْتُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا ، أَنَّهُ لاَ زَوَالَ لَكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ ، وَأَنَّهُ لاَ حَشْرَ وَلاَ مَعَادَ وَلاَ حِسَابَ؟ فَذُوقُوا هَذَا العَذَابِ بِذَاكَ الكُفْرِ . وَقَدْ بَلَغَكُمْ مَا أََنْزَلْنَاهُ مِنَ العِقَابِ الشَّدِيدِ بِالأُمَمِ المُتَقَدِّمَةِ التِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا ، وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ بِهِمْ ، وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ هَؤُلاَءِ المِكَذِّبِينَ ، وَلَمْ تَعْتَبِرُوا ، وَلَمْ تَزْدَجِرُوا عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الكُفْرِ وَالظُّلْمِ ، وَالآنَ تَسْأَلُونَ التَّأخِيرَ لِلتَّوْبَةِ حِينَ نَزَلَ بِكُمُ العَذَابُ ، فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَقَدْ فَاتَ الأَوَانُ . إن هذا المثل ليتجدد في الحياة ويقع كل حين . فكم من طغاة يسكنون مساكن الطغاة الذين هلكوا من قبلهم . وربما يكونون قد هلكوا على أيديهم . ثم هم يطغون بعد ذلك ويتجبرون؛ ويسيرون حذوك النعل بالنعل سيرة الهالكين؛ فلا تهز وجدانهم تلك الآثار الباقية التي يسكنونها ، والتي تتحدث عن تاريخ الهالكين ، وتصور مصائرهم للناظرين . ثم يؤخذون إخذة الغابرين ، ويلحقون بهم وتخلوا منهم الديار بعد حين! -------------------- وقال تعالى :{ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) [الفرقان/35-38] ولقَدْ أنْزَلنا التوراةَ على مُوسَى ، كما أنزلْنَا عليكَ القرآنَ يا مُحمدُ ، وجعلنا مَعَهُ أخَاهُ هارونَ وزيراً وظَهِيراً ومُعِيناً . وأرْسَلَهُمَا اللهُ تَعالى إلى فِرعَونَ وقَوْمِهِ ، فَكَذَّبُوا بآياتِ اللهِ ، فَدَمَّرَهُمُ اللهُ تَدْمِيراً ، وأغْرَقَهُمْ في صَبيحةٍ واحدةٍ . وَاذْكُرْ قَوْمَ نُوحٍ حِينَ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ نُوحاً عليهِ السَّلامُ ، وقَدْ لَبِثَ فيهمْ أمَداً طَويلاً يَدْعُوهُم إلى اللهِ ، ويُحَذِّرُهُمْ نِقَمَهُ ، فلَم يُؤْمِنْ لَهُ إلا قليلٌ منهمْ ( كما جَاءَ في آيةٍ أُخْرى ) ، فأغْرَقَهُمُ اللهُ جَمِيعاً بالطُّوفان ، ولمْ يُبْقِ مِنْهُم إلا مَنْ كَانَ في السَّفينةِ مَعَ نُوحٍ ، وَجَعَلُهُمُ اللهُ عِبْرَةً للنَّاسِ ، وقَدْ أعَدَّ اللهُ للكَافرينَ الظَّالمينَ عَذَاباً أليماً في الدُّنيا والآخِرَةِ . ( وفي هذا تَحْذيرٌ لقُرَيِشٍ بأَنَّهُمْ سَيَحِلُّ بهِمْ ما حَلَّ بالأُمَمِ السَّالِفَةِ ) . وقَدْ كَذَّبَ قومُ عَادٍ رَسُولَهُمْ هُوداً عليهِ السَّلامُ ، وكَذَّبَ قومُ ثَمُودَ نَبيَّهمْ صَالحاً ، وكذَّبَ أصحابُ الرَّسِّ رسولَهُم ، وقد كَذَّبَتْ جميعُ هذه الأقوامِ رسُلَهَا فأهْلَكَها الله ، كما أهْلَكَ أُمَماً وأقْواماً آخَرينَ ( قُروناً ) غيرَ هؤلاءِ لَمَّا كَذَّبُوا رسُلَهُمْ . فهذا موسى يؤتى الكتاب ويرسل معه أخوه هارون وزيراً ومعيناً . ويؤمر بمواجهة { القوم الذين كذبوا بآياتنا } ذلك أن فرعون وملأه كانوا مكذبين بآيات الله حتى قبل إرسال موسى وهارون إليهم ، فآيات الله قائمة دائمة ، والرسل إنما يذكرون بها الغافلين . . وقبل أن تتم الآية الثانية في السياق يرسم مصيرهم في عنف وإجمال { فدمرناهم تدميراً } . وهؤلاء قوم نوح : { لما كذبوا الرسل أغرقناهم } . . وهم كذبوا نوحاً وحده . ولكن نوحاً إنما جاءهم بالعقيدة الواحدة التي أرسل بها الرسل جميعاً . فلما كذبوه كانوا قد كذبوا الرسل جميعاً . { وجعلناهم للناس آية } فإن آية الطوفان لا تنسى على الدهر ، وكل من نظر فيها اعتبر إن كان له قلب يتدبر { وأعتدنا للظالمين عذاباً أليماً } فهو حاضر لا يحتاج إلى إعداد . ويظهر لفظ الظالمين بدل الضمير لإثبات هذا الوصف لهم وبيان سبب العذاب . وهؤلاء عاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك . كلهم لاقوا ذات المصير بعد أن ضربت لهم الأمثال ، فلم يتدبروا القول ، ولم يتقوا البوار والدمار . . وهذه الأمثلة كلها من قوم موسى ونوح ، وعاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك ، ومن القرية التي أمطرت مطر السوء وهي قرية لوط كلها تسير سيرة واحدة وتنتهي نهاية واحدة { وكلا ضربنا له الأمثال } للعظة والاعتبار { وكلا تبرنا تتبيراً } وكانت عاقبة التكذيب هي التحطيم والتفتيت والدمار . والسياق يستعرض هذه الأمثلة ذلك الاستعراض السريع لعرض هذه المصارع المؤثرة . وينهيها بمصرع قوم لوط وهم يمرون عليه في سدوم في رحلة الصيف إلى الشام . وقد أهلكها الله بمطر بركاني من الأبخرة والحجارة فدمرها تدميراً . ويقرر في نهايته أن قلوبهم لا تعتبر ولا تتأثر لأنهم لا ينتظرون البعث ، ولا يرجون لقاء الله .فذلك سبب قساوة تلك القلوب . وانطماسها . ومن هذا المعين تنبع تصرفاتهم واعتراضاتهم وسخرياتهم من القرآن ومن الرسول . ------------------------ وقال تعالى :{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) [ص/12-14] وَيُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى هُؤَلاَءِ المُكَذِّبِينَ مِنْ قُرَيْشٍ ، بِأَقْوَامٍ كَانَتْ قَبْلَهُمْ ، وَكَانَتْ أَشَدَّ مِنْهُمْ بَأْساً وَبَطْشاً وَقُوَّةً ، فَطَغَوْا وَبَغَوْا ، فَجَاءَهُمْ رُسُلُ اللهِ تَعَالَى ، فَكَذَّبُوهُمْ ، فَدَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يُبْقِ لَهُمْ فِي أَرْضِهِمْ بَاقِيةً . وَيَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الأَقْوَامِ المُكَذِّبَةِ : قَوْمَ نُوحٍ الذِينَ أَغْرَقَهُمْ بالطُّوفَانِ ، وَقَوْمَ عَادٍ الذِينَ أَهْلَكَهُمْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ، وَفِرْعُونَ مَلِكَ مِصْرَ وَجُنْدَهُ ، وَقَدْ أَغْرَقَهُمُ اللهُ فِي البَحْرِ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ . وَأَشَارَ تَعَالَى إِلَى ثَبَاتِ مُلْكِ فِرْعَوْنَ واسْتِقْرَارِهِ فَشَبَّهَهُ بِبَيْتٍ مِنَ الشَّعْرِ ثُبَّتَتْ أَوْتَادُهُ فِي الأَرْضِ . ( وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَى - ذُو الأَوْتَادِ - هُوَ أَنَّهُ صَاحِبُ الأَهْرَامَاتِ والأَبْنِيَةِ الفَخْمَةِ المُتَرَسِّخَةِ فِي الأَرْضِ كَالأَوْتَادِ ) . ( وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ مَعْنَاهَا هُوَ أَنَّ فِرْعُونَ سُمِّيَ بِذِي الأَوْتَادِ لأَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ قَتْلَ خُصُومِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ لَهُمْ فِي الأَرْضِ أَوْتَادَاً يَشُدُّ إِلَيْهَا أَطْرَافَهُمْ ، ثُمَّ يَقْتُلُهُمْ بِالنِّبَالِ ) . ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى ثَمُودَ قَوْمَ صَالِحٍ ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمْ اللهُ بِالصَّيْحَةِ ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْمَ لُوطٍ وَقَدْ دَمَّرَ اللهُ قُرَاهُمْ ، وَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا ، فَلَمْ يَنْجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ . ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَصْحَابَ الأَيْكَةِ ، وَهُمْ قَوْمُ شُعَيبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَكَانَتْ بِلادُهُمْ جَنُوبِيِّ الأَرْدُنِّ - قُرْبَ العَقَبَةِ - وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ ، وَهُؤُلاَءِ جَمِيعاً تَحَزَّبُوا عَلَى رُسُلِهِمْ ، وَهُمْ كالأَحْزَابِ الذِينَ اجْتَمَعُوا عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ . وَكُلُّ هَؤُلاءِ الأَقْوَامِ قَدْ كَذَّّبُوا رُسُلَ اللهِ ، وَكَانُوا ذَوِي قُوَّةٍ وَبَأْسٍ وَبَطْشٍ ، وَعَدَدٍ وَبُنْيَانٍ رَاسِخٍ فِي الأَرْضِ فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ تَعَالَى ، وَلَمْ يُبَالِ بِهِمْ ، فَكَيْفَ يَكُونَ حَالُ المَكَذِّبِينَ الضُّعَفَاءِ مِنْ قَوْمِكَ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ مَا لاَ قِبلَ لَهُمْ بِهِ مِنَ العَذَابِ؟ فهذه أمثلة ممن سبقوا قريشاً في التاريخ . قوم نوح . وعاد . وفرعون صاحب الأهرام التي تقوم في الأرض كالأوتاد . وثمود . وقوم لوط . وقوم شعيب أصحاب الأيكة - الغابة الملتفة - (أولئك الأحزاب) ! الذين كذبوا الرسل . فماذا كان من شأنهم وهم طغاة بغاة متجبرون ? . . (فحق عقاب) . . وكان ما كان من أمرهم . وذهبوا فلم يبق منهم غير آثار تنطق بالهزيمة والاندحار ! ذلك كان شأن الأحزاب الغابرة في التاريخ . . --------------------------- وقال تعالى :{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) [ق/12-14] بَعْدَ أنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالى تَكْذِيبَ الأمَمِ الخَالِيَةِ ، أشَارَ هُنَا إلى مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ عِقَابٍ ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِم ، وَتَمادِيهِمْ في الضَّلاَلَةِ والتَّكْذِيبِ لِرُسُلِ اللهِ ، واسْتَهْزائِهِم بِمَا أنْذَرَهُم بهِ رُسُلُهُمْ مِنْ عَذاب اللهِ ، وَهُوَ بِذَلِكَ يُهدِّدُ مُشْرِكي قُريشٍ ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ أنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بالمُكَذِّبِينَ مِنَ الأمَمِ الخَالِيَةِ . وَأخبَرَ تَعَالى : أنّ قَوَمَ نُوح كَذَّبُوا رَسُولَهُم نُوحاً فأغْرَقَهُم اللهُ بالطُّوفَان . وَكَذَّبَ أصْحَابُ الرَّسَّ رَسُولَهُمْ فَأهلَكَهُمُ اللهُ . وَكَذَّبَتْ ثَمُودُ رَسُولَهُمْ صَالِحاً فأهْلَكَهُمُ اللهُ بالصِّيَحَةِ . وَكَذَّبَتْ عَادٌ رسُولَهُم هُوداً فأهْلَكَهُم اللهُ ، بالرِّيحِ العَقِيم ، وَكَذَّبَ فِرْعَونُ مُوسَى وَهَارُونَ فأغْرقَه اللهُ وَقَوْمَهُ في البَحْرِ . وَأهْلَكَ اللهُ تَعَالى قَوْمَ لُوطٍ بَعْدَ أنْ أصَرَّوا عَلَى الكُفْرِ والفُسُوقِ وَإتيَانِ الفَاحِشَةِ ، فَجَعلَ اللهُ عَاليَ بِلادِهِمْ سَافِلَهَا . وَكَذَّبَ أصْحَابُ الأيْكَةِ ( وَهُمْ قَوْمُ شُعَيِبٍ ) ، رَسُولَهم شُعَيْباً فَأهْلَكَهُمُ اللهُ بالرَّجْفَةِ ، وَعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ . وَكَذَلِكَ أهْلَكَ اللهُ تَعَالى قَوْمَ تُبَّعٍ لِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ رَبَّهِمْ ، وَإقَامَتِهِمْ عَلَى الكُفْرِ وَالضَّلالِ . وَكُلُّ هَؤلاءِ الأقوَامِ كَذَّبوا رَسُلَ اللهِ فيما جَاؤُوهُمْ بِهِ ، فَحَقَّ عَلَيهِمْ أنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا أوْعَدَهُمْ بهِ اللهُ مِنْ عَذَابٍ أليمٍ . وواضح أن الغرض من هذه الإشارة السريعة ليس تفصيل أمر هذه الأقوام . ولكنه إيقاع على القلوب بمصارع الغابرين . حين كذبوا الرسل . والذي يلفت النظر هو النص على أن كلاً منهم كذب الرسل : { كل كذب الرسل فحق وعيد } . وهي لفتة مقصودة لتقرير وحدة العقيدة ووحدة الرسالة . فكل من كذب برسول فقد كذب بالرسل أجمعين؛ لأنه كذب بالرسالة الواحدة التي جاء بها الرسل أجمعون . والرسل إخوة وأمة واحدة وشجرة ضاربة الجذور في أعماق الزمان ، وكل فرع من تلك الشجرة تلخيص لخصائصها ، وصورة منها . ومن يمس منها فرعاً فقد مس الأصل وسائر الفروع . . { فحق وعيد } ونالهم ما يعرف السامعون! ----------------------- وقال تعالى :{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) [النحل/112-113] جَعَلَ اللهُ تَعَالَى حَالَ أَهْلِ مَكَّةَ مِثْلَ حَالِ هَذِهِ القَرْيَةِ ، التِي كَانَتْ آمِنَةً لاَ تَخَافُ عَدُوّاً ، وَقَدْ تَدَفَّقَ الرِّزْقُ الوَفِيرُ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ، فَكَفَرَ أَهْلُهَا بِأَنْعُمِ اللهِ عَلَيْهِمْ ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الخَوْفَ ، وَأَذَاقَهُمْ مَرَارَةَ الجُوعِ . كَذَلِكَ كَانَ أَهْلُ مَكَّة ، فَقَدْ كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِها ، وَمَنْ دَخَلَهَا كَانَ آمِناً ، لاَ يَخَافُ شَيْئاً ، وَكَانَ الرِّزْقُ الوَفِيرُ يَتَدَفَّقُ عَلَيْهَا هَنِيئاً سَهْلاً مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَمَكَانٍ ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ ، وَجَحَدَتْ بِهَا ، وَأَعَظْمُ هَذِهِ النِّعَمُ هِيَ بِعْثَةُ رَسُولٍ مِنْهُمْ . وَلِهَذا بَدَّلَ اللهُ أَهْلَهَا بِحَالَيْهِمْ ( الأَمْنِ وَالعَيْشِ الرَّغِيدِ ) ، بِحَالَيْنِ جَدِيدَيْنِ ، هُمَا : ( الجُوعُ وَالخَوْفُ - لِبَاسَ الجُوْعِ وَالخَوْفِ ) فَقَدْ جَاءَتْهُمْ سِنُونَ شِدَادٌ فَجَاعُوا ، وَهَاجَرَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى المَدِينَةِ فَكَانَتْ سَرَايَا المُسْلِمِينَ تَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى قَوَافِلِهِمْ إِلَى الشَّامِ ، فَخَافُوا . وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ عِقَاباً لَهُمْ مِنَ اللهِ بِسَبَبِ سُوءِ صَنِيعِهِمْ ، وَبَغْيِّهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ رَبِّهِمْ . لَقَدْ مَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللهِ ، وَيُذَكِّرَهُمْ بِمِنَنِ اللهِ عَلَيْهِمْ ، إِذْ جَعَلَ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يَتَخَطَّفُ النَّاسَ مِنْ حَوْلِهِ ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا اللهَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ ، وَلَكِنَّهُمْ بَدَلاً مِنَ الشُّكْرِ كَذَّبُوا الرَّسُولَ ، وَاسْتَكْبَرُوا ، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ، فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ ، وَأَذَلَّهُمُ اللهُ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَبَغْيِّهِمْ ، فَهُزِمُوا فِي بَدْرٍ ، وَتَتَالَتْ هَزَائِمُهُمْ حَتَّى فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - . وهي حال أشبه شيء بحال مكة . جعل الله فيها البيت ، وجعلها بلدا حراما من دخله فهو آمن مطمئن ، لا تمتد إليه يد ولو كان قاتلا ، ولا يجرؤ أحد على إيذائه وهو في جوار بيت الله الكريم . وكان الناس يتخطفون من حول البيت وأهل مكة في حراسته وحمايته آمنون مطمئنون . كذلك كان رزقهم يأتيهم هينا هنيئا من كل مكان مع الحجيج ومع القوافل الآمنة ، مع أنهم في واد قفر جدب غير ذي زرع ، فكانت تجبى إليهم ثمرات كل شيء فيتذوقون طعم الأمن وطعم الرغد منذ دعوة إبراهيم الخليل .ثم إذا رسول منهم ، يعرفونه صادقا أمينا ، ولا يعرف عنه ما يشين ، يبعثه الله فيهم رحمة لهم وللعالمين ، دينه دين إبراهيم باني البيت الذي ينعمون في جواره بالأمن والطمأنينة والعيش الرغيد؛ فإذا هم يكذبونه ، ويفترون عليه الافتراءات ، وينزلون به وبمن اتبعوه الأذى . وهم ظالمون . والمثل الذي يضربه الله لهم منطبق على حالهم ، وعاقبة المثل أمامهم . مثل القرية التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله ، وكذبت رسوله { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } وأخذ قومها العذاب وهم ظالمون . ويجسم التعبير الجوع والخوف فيجعله لباسا؛ ويجعلهم يذوقون هذا اللباس ذوقا ، لأن الذوق أعمق أثرا في الحس من مساس اللباس للجلد . وتتداخل في التعبير استجابات الحواس فتضاعف مس الجوع والخوف لهم ولذعه وتأثيره وتغلغله في النفوس . لعلهم يشفقون من تلك العاقبة التي تنتظرهم لتأخذهم وهم ظالمون . (1/27) ------------------------- وقال تعالى :{ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) [الدخان/10-29] قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إِنَّ قُرَيشاً لَمَّا أَبْطَأَتْ عَنِ الإِسلامِ ، وَاستَعْصَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، دَعا اللهَ أَنْ يُنزِلَ بِهِمْ سِنين كَسِنِّي يُوسُفَ ، فَأَصَابَهُمْ جُوعٌ ، وَجَهْدٌ عَظِيمَانِ ، حَتَّى أَكَلُوا العِظَامَ وَالميتَةَ ، وَجَعَلُوا يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ إِلَى السَّماءِ فَلاَ يَرَوْنَ إِلاَّ الدُّخَانَ ، فَأَتى بَعْضَهُمْ إِلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ اسْتَسْقِ الله لِمُضَرَ فَإِنَّها قَدْ هَلَكَتْ ، فَاسْتَسْقَى لَهُم فَسُقوا ، فَلَمَّا كَشَفَ اللهِ تَعَالَى عَنْهُمُ العَذَابَ عَادُوا إِلى حَالِهم الأَوَّلِ . وَحِينَما تأتي السَّماءُ بِدُخَانٍ مُبينٍ فَإِنَّه يَلُفُّ النَّاسَ ، وَيُحيطُ بِهمْ مِنْ كُلِّ جَانبٍ فَيَقُولُون : هَذَا عَذابٌ شَدِيدُ الإِيلامِ . وَقَدْ أَبَانَ اللهُ تَعَالى في هذِه الآيةِ الكَريمةِ أَنَّ مُشْركي قُريشٍ وَعَدُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأَن يُؤْمِنوا إِذا كَشَفَ عَنْهُمُ العَذابَ ، فَقَالُوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّنا آمَنَّا بِكَ . وَكَيفَ يَتَذكَّرُ هؤلاءِ ، وَيُوفُون بما وَعَدُوا بهِ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، منَ الإِيمانِ إِذَا دَعَا لَهُم فَكَشَفَ عَنْهُمُ العَذابَ ، وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ ، بَيِّنُ الرِّسالةِ ، مُؤَيِّدٌ بِالمُعجِزَاتِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا لهُ ، وَكَذَّبُوهُ . ثُمَّ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا : إِنَّهُ رَجُلٌ مَجْنُونٌ مَخْبُولُ العَقْلِ ، يُعَلِّمُهُ بَعْضُ الأَعَاجِمِ مَا يقُولُ ، فيدَّعِي بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ عَليهِ مِنْ عِندِ اللهِ تَعَالى . إِنَّنا سَنَرْفَعُ عَنْهُم الضُّرَّ النَّازِلَ بِهَمْ لِبَعْضِ الوَقْتِ ، فَنُنَزِّلُ عَلَيهِمِ المَطَرَ لِتنبتَ الأَرْضُ ، وَإِنَّنا لَنَعْلَمُ أَنَّهمُ عَائِدُونَ إِلى مَا كَانُوا عَليهِ مِنَ الكفرِ والتَّكَذِيبِ . وَيَومَ القِيَامَةِ يَبْطِشُ اللهُ تَعَالى بِهِم البَطْشَةَ الكُبْرى ، وَيَنْتَقِمُ مِنْهُمْ أَشَدَّ الانْتِقَامِ ، وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ يَنْصُرهُمْ أو يَشْفَعُ لَهُمْ ، فَينْدَمُونَ على مَا فَرَّطُوا في جَنبِ اللهِ ، وَلاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ . وَلَقَدْ اخْتَبَرَ اللهُ تَعَالَى ، قَبْلَ مُشْرِكي قَومِكَ يَا مُحَمَّدُ ، القِبْطَ مِنْ قومِ فِرْعَونَ ، إِذْ أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى إِليهِمْ مُوسَى عَليهِ السَّلامُ ، وَهُوَ رَسُولٌ كَريمٌ ، فَكَفَروا بِما جَاءَهُمْ بِهِ ، وَسَخِروا مِنهُ عِنَاداً واسْتِكْبَاراً . فَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَونَ وَقَومِهِ : أَدُّوا إِليَّ يَا عِبَادَ اللهِ مَا هُوَ وَاجبٌ عَليكم ، واستَجِيبُوا لِدَعْوَةِ اللهِ تَعَالى ، فَإِني رَسُولُ اللهِ إِليكُم ، وَإِني أمينٌ فِيما أُبلِّغكُمْ عَنْ رَبي . ( أَوِ اسْمَحُوا لِبَني إِسْرَائيلَ أَنْ يَخرُجُوا مَعِي ) .ولا تَسْتَكْبرُوا عنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى والانْقِيَادِ إِلى حُجَجهِ ، فإِني آتيكُم بِمُعْجِزَاتٍ بَاهِرَةٍ ، وأدِلةٍ قَاطِعةٍ ، عَلى صِدْقِ ما جِئْتُكُمْ بِهِ . وَإِنِّي أَلْتَجِئُ إِلى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ أَنْ تَقْتُلُوني رَجْماً بِالحِجَارَةِ . وَإِذا لَمْ تُصَدِّقُوا ما جِئْتُكُمْ بهِ مِنْ رَبِّكُمْ فَخَلُّوا سَبِيلِي وَدَعُوا الأَمْرَ مُسَالمةً بَيْني وَبَيْنَكُمْ إِلى أَنْ يَقْضِيَ اللهُ تَعَالى بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ . وَلَمَّا طَالَ مُقَامُ مُوسَى بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ ، وَأَقَامَ الحُجَّةَ عَليهِمْ ، وَلَمْ يَزِدْهُمْ ذلِكَ إِلاّ كُفْراً وَعِنَاداً واسْتِكْبَاراً عَنِ الحَقِّ ، وَرَفَضُوا أَنْ يُرسِلُوا مَعُهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ دَعَا رَبَّهُ مُسْتَنْصِراً بِهِ عَلَيهِمْ ، وَقَالَ : يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ مُشْرِكُونَ بِكَ ، مُكَذِّبونَ رَسُولَكَ ، فَأَنْزِلْ بِهِم بَأسَكَ وَعَذَابَكَ المَوْعُودَ . وَحِينَئِذٍ أَمرَه اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَسِيرَ بِبَني إِسْرائيلَ لَيْلاً ( يُسْرِي ) مِنْ غَيرِ إِذنِ فِرْعَوْنَ وَلاَ رأْيهِ ، وَأَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى بأَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَه سَيَتْبَعُونَ آثارَهُمْ . بَعْدَ أَنْ وَصَلَ مُوسى وَبَنُوا إِسْرَائيلَ إِلى البَحْرِ أَمَرَ اللهُ تَعَالى مُوسى بِأَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ البَحْرَ ، فَانْفَلَقَ ، ثُمَّ أَوْحَى اللهُ إِلى مُوسَى أَنْ يُجَاوِزَ بِبَني إِسرائيلَ البَحْرَ من خِلالِ الفِرقِ الذِي حَدَثَ في المَاءِ مِنْ أَثَرِ ضَرْبَةَ مُوسَى ، وَبَعْدَ أَنْ جَاوَزَ بَنُوا إِسرائيلَ البَحْرَ إِلى الجَانِبِ الآخَرِ ، أرادَ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ البَحْرَ بِعَصَاهُ لِيُعيدَهُ إِلى مَا كَانَ عَلَيهِ لِكَيْلا يَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ مِنَ الفَروقِ الحَادِثَةِ في المَاءِ ، فَأَمرَ اللهُ تَعَالى مُوسَى بِتَركِ البَحْرِ كَما هُوَ حِينَ مَرَّ بِهِ سَاكِناً يَابِساً ( رَهْواً ) ، لأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدَّرَ بأَنَّهُ سَيُغْرِقُ فِرْعَونَ وَقَومَه فِيهِ ، وَبَشَّرَ مُوسى بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ ( إِنَّهُم جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) . كَم تَرَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمُهُ قَبْلَ مَهلِكِهِمْ فِي أَرْضِهِمْ مِنْ بَسَاتِينَ نَضِرَةٍ ، وَحَدَائِقَ غَنَّاءَ ، وَعُيُونِ ماءٍ جَارِيةٍ وَأنْهَارٍ . وَكَمْ تَرَكُوا مِنْ زُرُوعٍ نَاضِرَةٍ ، وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةٍ .وَعَيْشٍ رَغِيدٍ كَانُوا يَتَفَكَّهُونَ فِيهِ فَيَأْكُلُونَ مَا شَاؤُوا ، وَيَلْبَسُونَ مَا أَحَبُّوا . فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ تَعَالى فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهكَذَا يَفْعَلُ اللهُ بِالذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَهُ ، وَيُخَالِفُونَ عَنْ أَمرِهِ فإِنَّهُ يُبِيدُهُمْ وَيُورِثُ أَرْضَهُمْ قَوْماً آخرينَ لَيْسُوا مِنْهُمْ فِي شيءٍ قَرابةً ولا دِيناً .وَقَدْ كَانَ هؤلاءِ الطُّغَاةُ العُتَاةُ هَيِّنِينَ عَلَى اللهِ ، وَعَلى عِبادِ اللهِ ، إِذْ لَم يَكُنْ لَهُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ يُرَفَعُ إِلى السَّماء ، وَلاَ عَمَلُ خَيرٍ مَعَ عِبَادِ اللهِ في الأَرضِ يُذكرُ لهم ، فَلم تبكِ لفَقْدِهِم الأرضُ ولا السَّماءُ ، وَلم يُمْهَلُوا لِتَوْبَةٍ ، وَإِنَّما عَجَّلَ اللهُ لَهُمُ العَذَابَ دُونَ إِبْطَاءِ . وَسَأَلَ رَجُلٌ عَلياً رَضِي اللهَ عَنْهُ : هَلْ تَبكيِ السَّمَاءُ والأَرضُ عَلَى أَحَدٍ؟ فَقَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ إِلا لَهُ مُصَلَّىً فِي الأَرضُ ، وَمَصْعَدُ عَمَلِهِ مِنَ السَّماءِ ، وَإِنَّ آلَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ عَمَلٌ يَصْعَدُ فِي السَّماءِ ، ثُمَّ قَرَأَ الآيةَ الكَرِيمَةَ وهو تعبير يلقي ظلال الهوان ، كما يلقي ظلال الجفاء . . فهؤلاء الطغاة المتعالون لم يشعر بهم أحد في أرض ولا سماء . ولم يأسف عليهم أحد في أرض ولا سماء . وذهبوا ذهاب النمال ، وهم كانوا جبارين في الأرض يطأون الناس بالنعال! وذهبوا غير مأسوف عليهم فهذا الكون يمقتهم لانفصالهم عنه ، وهو مؤمن بربه ، وهم به كافرون! وهم أرواح خبيثة شريرة منبوذة من هذا الوجود وهي تعيش فيه! ولو أحس الجبارون في الأرض ما في هذه الكلمات من إيحاء لأدركوا هوانهم على الله وعلى هذا الوجود كله . ولأدركوا أنهم يعيشون في الكون منبوذين منه ، مقطوعين عنه ، لا تربطهم به آصرة ، وقد قطعت آصرة الإيمان . ---------------------------- وقال تعالى :{ وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) [الحاقة/9، 10] وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الأُمَمِ التِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ ، وَكَفَرْتْ بِاللهِ ، كَعَادٍ وَالقُرَى التِي دَمِّرَتْ بِأَهْلِهَا ، وَقُلِبَتْ رَأْساً عَلَى عَقَبٍ ( المُؤتَفِكَاتُ ) بِالكُفْرِ وَبِالأَفْعَالِ الخَاطِئَةِ ، ذَاتِ الخَطأ الكَبِيرِ الفَاحِشِ . فَكَذَّبَ كُلُّ قَوْمٍ الرَّسُولَ الذِي أَرْسَلَهُ اللهُ إِليهِمْ ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذَنْبِهِمْ أَخْذَةً عَظِيمَةً مُهْلِكَةً ، وَعَاقَبَهُمْ مُعَاقَبَةً زَائِدَةَ الشَّدَّةِ ، جَزَاءً لَهُمْ عَلَى تَزَايُدِ قَبَائِحِهِمْ . وفرعون كان في مصر وهو فرعون موسى ومن قبله لا يذكر عنهم تفصيل . والمؤتفكات قرى لوط المدمرة التي اتبعت الإفك أو التي انقلبت ، فاللفظ يعني هذا وهذا . ويجمل السياق فعال هؤلاء جميعاً ، فيقول عنهم انهم جاءوا { بالخاطئة } أي بالفعلة الخاطئة . . من الخطيئة . . { فعصوا رسول ربهم } . . وهم عصوا رسلاً متعددين؛ ولكن حقيقتهم واحدة ، ورسالتهم في صميمها واحدة . فهم إذن رسول واحد . يمثل حقيقة واحدة وذلك من بدائع الإشارات القرآنية الموحية وفي إجمال يذكر مصيرهم في تعبير يلقي الهول والحسم حسب جو السورة : { فأخذهم أخذة رابية } . . والرابية العالية الغامرة الطامرة . لتناسب { الطاغية } التي أخذت ثمود { والعاتية } التي أخذت عاداً ، وتناسب جو الهول والرعب في السياق بدون تفصيل ولا تطويل! --------------------------- وقال تعالى :{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) }(سورة الشمس11-15) كَذَّبَتُ ثَمُودُ نَبِيِّهَا صَالِحاً بِسَبَبِ طُغْيَانِهَا وَبَغْيِهَا . إِذ انْطَلَقَ أَكثَرُ ثَمُودَ شَقَاوَةً لِيَعْقِرَ نَاقَةَ اللهِ . ( وَإِقْدَامُهُ عَلَى عَقْرِ النَّاقَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَكْذِيبه نَبِيَّهُمْ صَالِحاً فِيمَا قَالَهُ لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ ، وَأَنَّ النَّاقَةَ نَاقَةُ اللهِ أَرْسَلَهَا إِلَيْهِمْ آيَةً عَلَى صِدْقِ نُبَوَّتِهِ ) . فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ صَالِحٌ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ : احْذَرُوا أَنْ تَمَسُّوا نَاقَةَ اللهِ بِسُوءٍ ، وَاحْذَرُوا التَّعَدِّيَ عَلَى شُرْبِهَا الماءَ في اليومِ الذِي اخْتَصَّتْ بِهِ . ( وَكَانَ صَالحٌ ، عَلَيهِ السَّلاَمُ ، اتَّفَقَ مَعَ قَوْمِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلنَّاسِ شُرْبُ المَاءِ يَوْماً ، وَأَنْ يَكُونَ لِلنَّاقَةِ شُرْبُهُ يَوْماً ) . فَكَذَّبَتْ ثَمُودُ صَالِحاً فِيمَا قَالَهُ لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ ، وَأَنَّ النَّاقَةَ هِيَ نَاقَةُ اللهِ أَرْسَلَهَا آيَةَ عَلَى صِدْقِ نُبُوتِهِ ، فَأَقْدَمُوا عَلى قَتْلِهَا ( عَقَرُوهَا ) ، وَلَمْ يُبَالُوا بِمَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ مِنَ العَذَابِ ، فَأَطْبَقَ عَلَيْهِمُ العَذَابُ ، وَأَهْلَكَهُمْ جَمِيعاً ، وَسَوَّى القَبِيلَةَ كُلَّهَا فِي العَقُوبَةِ ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ . ( وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَى ( سَوَّاهَا ) قَدْ يَكُونُ إِنَّهُ تَعَالَى سَوَّى بَلَدَهُمْ بِالأَرْضِ بَعْدَ أَنْ دَكَّهَا دَكّاً ، فَلَمْ يَتْرُكْ فِيهَا بِنَاءً قَائِماً أَيْ إِنَّهُ دَمَّرَهَا تَدْمِيراً كَامِلاً ) . وَاللهُ تَعَالَى لاَ يَخَافُ عَاقِبَةَ فِعْلِهِ فِي هَلاَكِهِمْ وَدَمَارِهِمْ ، لأَنَّهُ عَزِيزٌ لاَ يُغَالَبُ وَلاَ يُمَانَعُ . وهكذا ترتبط حقيقة النفس البشرية بحقائق هذا الوجود الكبيرة ، ومشاهدة الثابتة ، كما ترتبط بهذه وتلك سنة الله في أخذ المكذبين والطغاة ، في حدود التقدير الحكيم الذي يجعل لكل شيء أجلاً ، ولكل حادث موعداً ، ولكل أمر غاية ، ولكل قدر حكمة ، وهو رب النفس والكون والقدر جميعاً ------------------------- وقال تعالى :{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) [الفرقان/27-29] يَنْدَمُ فِي ذَلِكَ اليومِ الظَّالِمُونَ الكَافِرُونَ ، الذين تَرَكُوا طَريقَ الرَّسُولِ ، وَكَفُرُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الحَقِّ المُبِينِ ، وَيَعَضُّونَ عَلَى أَيْدِيهِمْ نَدَماً عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ ، وَيَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا اتَّبَعْنَا طَرِيقَ الرَّسُولِ المُوصِلِ إِلى الجَنَّةِ ، وَلَكِنَّ النَّدَمَ لاَ يَنْفَعُهُمْ حِيْنَئِذٍ . وَيَقُولَ الظَالِمُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ مُتَحَسِّراً : يَا خَسَارَهُ وَيَا هَلاَكَهُ ، وَيَا لَيْتَهُ لَمْ يَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً وَصَدِيقاً ( وَيَذْكُرُ اسمَ من أَضَلَّهُ وَصَرَفَهُ عَنِ الحَقِّ والهُدَى ) ، وَيَتَمَّنى لَوْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِعْ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَسْتَجِبْ لِدَعْوَتِهِ . لَقَدْ أَضْلَّنِي هَذَا الصَّدِيقُ عَنِ الإِيْمَانِ بالقُرْآنِ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَيَّ ، وَمَنَّانِي بالنَّصْرِ والفَلاَحِ ، وَمِنْ عَادَةِ الشَّيْطَانِ أَنْ يُمَنِّي وَيَعِدَ ، وَيُمَنِّي كَذِباً وَغُرُوراً ، وَأَنْ يَخْذُلَ الإِنْسَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَيَتْرِكَهُ لِمَصِيرِهِ ، وَيَقُولَ لأَوْلِيَائِهِ : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ . } ( وَقِيلَ بَلْ إِنَّ المَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ : أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَذِّلُ الإِنْسَانَ عَنِ الحَقِّ ، وَيَصْرِفُهُ عَنْهُ ، وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي البَاطِل وَيَدْعُوهُ إٍِلَيْهِ ) وهكذا راح القرآن يهز قلوبهم هزاً بهذه المشاهد المزلزلة ، التي تجسم لهم مصيرهم المخيف ، وتريهم إياه واقعاً مشهوداً ، وهم بعد في هذه الأرض ، يكذبون بلقاء الله ، ويتطاولون على مقامه دون توقير ، ويقترحون الاقتراحات المستهترة والهول المرعب ينتظرهم هناك والندم الفاجع بعد فوات الأوان . ------------------------- وقال تعالى :{ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) [المؤمنون/31-41] ثُمَّ أَوْجَدَ اللهُ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أَقْوَاماً آخَرِينَ ( قَرْناً ) ، يَخْلفُونَهم فِي الأَرْضِ - وَقِيلَ إِنَّهُمْ قَوْمُ عَادٍ لأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَخْلَفِينَ بَعْدَهُم - وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ مَا قَالَهُ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلاَمِ لِقَوْمِهِ وَهُوَ يُحَذِّرُهم وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ . } قَرْناً آخَرِينَ - أُمَماً آخَرِينَ . أُمَماً أُخْرَى وَهُمْ عَادٌ الأُولى قَوْمُ هُودٍ . وَإِنَّهُ تَعَالَى أًرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُم ، هُوَ هُودٌ عَلَيْه السلامُ ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَقَالَ لَهُمْ : يَا قَوْم اعْبُدُوا اللهَ ، وأَطِيعُوهُ ، دُونَ الأَوْثَانِ والأَصْنَامِ ، فَإِنَّ العِبَادَةَ لاَ تَنْبَغِي إِلاَ للهِ وحْدَهُ ، أَفَلاَ تَخَافُونَ عِقَابَهُ أَنْ يَحِلّ بِكُمْ إِذَا عَبَدْتُمُ الأَصْنَامَ ، وَتَرَكْتُمْ عِبَادَتهُ وَحْدَهُ بِلاَ شَرِيكٍ . وَقَالَ الكُبَرَاءُ المُتْرَفُونَ مِنَ قَوْمِ هَذَا النَّبِيِّ ، وَهُمُ الذِينَ كَفُرُوا بِرَبِّهِم ، وَكَذَّبُوا بِيَوْمِ القِيَامَةٍ ، لِمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ : إِنَّ هَذَا المُدَّعِيَ بِأَنَّ الله أَرْسَلَهُ إِلَيْكُم رَسُولاً ، إِنْ هُوَ إِلاَّ بَشَرٌ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ كَمَا تَفْعَلُونَ أَنْتُمْ ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بشَرٌ رَسُولاً مِنَ اللهِ؟ وإِنَّكُمْ إِذَا آ مَنْتُم لِبَشَرٍ مِثلِكُمْ ، وَصَدَّقْتُم بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ ، وَعَبَدْتُم الإِلَهَ الذي يَدْعُوكُم لِعِبَادَتِهِ . . فَإِنَّكُم تَكُونَونَ مِنَ الخَاسِرِينَ ، لأَنَّكُم لَنْ تَنْتَفِعُوا بِطَاعَتِهِ . ثُمَّ قَالَ الكُبَرَاءُ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ سَاخِرِينَ : أَيَعِدُكُمْ هَذَا المُدَّعِي أَنَّكُمْ سَتُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ عِظَامُكُم وأَجْسَادُكُمْ قَدْ بَلِيَتْ وَأَصْبَحَتْ تُرَاباً ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ . إِنَّ مَا يَعِدُكُمْ بِهِ مِنْ بَعْثٍ وَحَشْرٍ وَنَشْرٍ ، بَعِيدٌ جِدّاً وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ . فَهِيَ حَيَاةٌ نَعِيشُها فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ نَمُوتُ بَعْدَهَا ، وَتَأْتِي بَعْدَنا أجْيَالٌ أُخْرَى لِلْحِيَاةِ ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ وَبالمَوْتِ يَنْتَهِي كُلُّ شَيءٍ ، فَلاَ بَعْثَ مَرَّةً أُخْرَى ، وَلاَ نُشُورَ وَلاَ حسَابَ . وَقَالَ هَؤُلاءِ المُكَذِّبُونَ عَنْ رَسُولِهم : إِنَّهُ يَخْتَلِقُ الأَكَاذِيبَ عَلَى اللهِ ، وَيَدَّعِي أَنَّ الله أَوْحَى إِلَيْهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ ، وَنَحْنُ لاَ نُصَدِّقُ شَيْئاً مِمَّا عَنْ رِسَالَتِهِ ، وَعَنِ البَعْثِ والنُّشُورِ ، وَالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ . . وَلَنْ نُؤْمِنَ لَهُ ، وَلَنْ نَتَّبِعَهُ . وَلَمَّا يَئِسَ الرَّسُولُ مِنْ إِيْمَانِهِمْ بَعْدَ قَوْلِهم ( وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤمِنِينَ ) ، دَعَا رَبَّهُ مُسْتَنْصِراً بِهِ ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْصُرَهُ إِلَى هَؤُلاءِ المُكَذِّبِينَ ، وَأَنْ يَنْتَقِمَ مِنْهُم . فَأَجَابَ اللهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ ، وَقَالَ لَهُ ، إِنَّ قَوْمَهُ سَيُصْبِحُونَ ، خِلاَلَ وَقْتٍ قَصِيرٍ ، نَادِمِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ ، وَتَكْذِيبِهِم رَسُولَ رَبِّهِم ، حِيْنَما يَحِلُّ بِهِم العَذَابُ . فَأَخَذَتْهُمُ صَيْحَةُ العَذَابِ ، وَقَدْ كَانُوا لِمِثْلِهَا مُسْتَحِقِّينَ ، بِسَبَب كُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ ( بالحَقِّ ) ، فَأَصْبَحُوا هَلْكَى لاَ غَنَاءَ فِيهِمْ ، وَلاَ فَائِدَةَ تُرْجَى مِنْهُم ، كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، وَظَلَمُوا أَنْفَسَهم . وَفِي هَذَا مِنَ المَذَلَّةِ والمَهَانَةِ والاسْتِخْفَافَ بِهِمْ مَا لاَ يَخْفَى ، وَإِنَّ الذي يَنْزِلُ بِهِمْ فِي الآخِرَةِ مِنَ العِقَابِ والمَهَانَةِ لأَعْظَمُ مِمَّا حَلَّ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا ، وَفِيهِ عَظِيمُ العِبْرَةِ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ . الغُثُاءُ - الشيءُ الحَقِيرُ الذي لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ الذي يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مَعَهُ ، أيْ إِنَّى هَؤُلاَءِ الكُّفَارَ أصْبَحُوا هَالِكِينَ لاَ قِيمَةَ لَهُمْ . إن استعراض قصص الرسل في هذه السورة ليس للتقصي والتفصيل؛ إنما هو لتقرير الكلمة الواحدة التي جاء بها الجميع ، والاستقبال الواحد الذي لقوه من الجميع . ومن ثم بدأ بذكر نوح عليه السلام ليحدد نقطة البدء؛ وانتهى بموسى وعيسى ليحدد النقطة الأخيرة قبل الرسالة الأخيرة . ولم يذكر الأسماء في وسط السلسلة الطويلة ، كي يدل على تشابه حلقاتها بين البدء والنهاية . إنما ذكر الكلمة الواحدة في كل حلقة والاستقبال الواحد ، لأن هذا هو المقصود . { ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } . . لم يحدد من هم . وهم على الأرجح عاد قوم هود . . { فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . أفلا تتقون؟ } . . ذات الكلمة الواحدة التي قالها من قبله نوح . يحكيها بالألفاظ ذاتها ، مع اختلاف اللغات التي كانت تتخاطب بها القرون! فماذا كان الجواب؟ (1/28) إنه الجواب ذاته على وجه التقريب : { وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقآء الآخرة ، وأترفناهم في الحياة الدنيا : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون . ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون } . .فالاعتراض المكرور هو الاعتراض على بشرية الرسول . وهو الأعتراض الناشئ من انقطاع الصلة بين قلوب هؤلاء الكبراء المترفين ، وبين النفخة العلوية التي تصل الإنسان بخالقه الكريم .والترف يفسد الفطرة ، ويغلظ المشاعر ، ويسد المنافذ ، ويفقد القلوب تلك الحساسية المرهفة التي تتلقى وتتأثر وتستجيب . ومن هنا يحارب الإسلام الترف؛ ويقيم نظمه الاجتماعية على أساس لا يسمح للمترفين بالوجود في الجماعة المسلمة ، لأنهم كالعفن يفسد ما حوله ، حتى لينخر فيه السوس ، ويسبح فيه الدود! ثم يزيد المترفون هنا إنكار البعث بعد الموت والبلى؛ ويعجبون من هذا الرسول الذي ينبئهم بهذا الأمر الغريب . { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون؟ هيهات هيهات لما توعدون : إن هي إلا حياتنا الدنيا ، نموت ونحيا ، وما نحن بمبعوثين } . .ومثل هؤلاء لا يمكن أن يدركوا حكمة الحياة الكبرى؛ ودقة التدبير في أطوارها للوصول بها إلى غايتها البعيدة . هذه الغاية التي لا تتحقق بكمالها في هذه الأرض . فالخير لا يلقى جزاءه الكامل في الحياة الدنيا .والشر كذلك . إنما يستكملان هذا الجزاء هنالك ، حيث يصل المؤمنون الصالحون إلى قمة الحياة المثلى ، التي لا خوف فيها ولا نصب ، ولا تحول فيها ولا زوال - إلا أن يشاء الله - ويصل المرتكسون المنتكسون إلى درك الحياة السفلية التي تهدر فيها آدميتهم ، ويرتدون فيها أحجاراً ، أو كالأحجار! مثل هؤلاء لا يدركون هذه المعاني؛ ولا يستدلون من أطوار الحياة الأولى التي سبقت في السورة على أطوارها الأخيرة؛ ولا ينتبهون إلى أن القوة المدبرة لتلك الأطوار لا تقف بالحياة عند مرحلة الموت والبلى كما يظنون . . لذلك هم يستعجبون ويعجبون من ذلك الذي يعدهم أنهم مخرجون؛ ويستبعدون في جهالة أن ذلك يكون؛ ويجزمون في تبجح بأن ليس هنالك إلا حياة واحدة وموت واحد . يموت جيل ويحيا بعده جيل . فأما الذين ماتوا ، وصاروا تراباً وعظاماً ، فهيهات هيهات الحياة لهم ، كما يقول ذلك الرجل الغريب! وهيهات هيهات البعث الذي يعدهم به ، وقد صاروا عظاماً ورفاتاً! ثم إنهم لا يقفون عند هذه الجهالة ، والغفلة عن تدبر حكمة الحياة التي تكشف عنها أطوارها الأولى . . لا يقفون عند هذه الجهالة ، إنما هم يتهمون رسولهم بالافتراء على الله . ولا يعرفون الله إلا في هذه اللحظة ، ولهذا الغرض من اتهام الرسول : { إن هو إلا رجل افترى على الله كذباً ، وما نحن له بمؤمنين } . .عندئذ لم يجد الرسول إلا أن يستنصر ربه كما استنصره من قبله نوح . وبالعبارة ذاتها التي توجه بها إلى ربه نوح : { قال : رب انصرني بما كذبون } . .وعندئذ وقعت الاستجابة ، بعد أن استوفى القوم أجلهم؛ ولم يعد فيهم خير يرجى بعد العناد والغفلة والتكذيب : { قال : عما قليل ليصبحن نادمين } . .ولكن حيث لا ينفع الندم ، ولا يجدي المتاب : { فأخذتهم الصيحة بالحق ، فجعلناهم غثاء } . .والغثاء ما يجرفه السيل من حشائش وأعشاب وأشياء مبعثرة ، لا خير فيها ، ولا قيمة لها ، ولا رابط بينها . . وهؤلاء لما تخلوا عن الخصائص التي كرمهم الله بها ، وغفلوا عن حكمة وجودهم في الحياة الدنيا ، وقطعوا ما بينهم وبين الملأ الأعلى . . لم يبق فيهم ما يستحق التكريم؛ فإذا هم غثاء كغثاء السيل ، ملقى بلا احتفال ولا اهتمام وذلك من فرائد التعبير القرآني الدقيق . ويزيدهم على هذه المهانة ، الطرد من رحمة الله ، والبعد عن اهتمام الناس : { فبعداً للقوم الظالمين } بعداً في الحياة وفي الذكرى . في عالم الواقع وفي عالم الضمير . . ـــــــــــــ (1/29) الرسل مبلغون عن الله قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) [النحل/35] وَيَعْتَذِرُ المُشْرِكُونَ عَنْ شِرْكِهِمْ ، وَعِبَادَتِهِمْ الأَصْنَامَ ، وَتَحْرِيمِهِمْ مَا حَرَّمُوهُ مِنَ السَّوَائِبِ وَالبَحَائِرِ وَالوَصَائِلِ . . إِلخ وَيَحْتَمُونَ بِالقَدَرِ ، وَبِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ . وَيَقُولُونَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَوْ كَانَ كَارِهاً ذَلِكَ لِمَا فَعَلُوهُ هُمْ ، وَلاَ فَعَلَهُ آبَاؤُهُمْ ، وَلأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ بِالعُقُوبَةِ ، وَلَمَا مَكَّنَهُمْ مِنْهُ . وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً : لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْكُمْ ، فَقَدْ أَنْكَرَهُ عَلَيْكُمْ أَشَدَّ الإِنْكَارِ ، وَنَهَاكُمْ عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ ، وَبَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ رَسُولاً يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ وَعِبَادَتِهِ ، وَيُحَذِّرُهُمْ عَوَاقِبَ الشِّرْكِ ، وَنَتَائِجَ البَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالكُفْرِ ، وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ ، كَمَا كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رُسُلَهُمْ ، وَتَابَعُوا أَسْلاَفَهُم عَلَى ضَلاَلِهِمْ فِي تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ ، كَمَا فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ . وَمَهَمَّةُ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ هِيَ إِبْلاغُ النَّاسِ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ وَلَيْسَتْ مَهَمَّتُهُمْ إِجْبَارَ النَّاسِ ، وَإِكْرَاهَهُمْ عَلَى الإِيَمَانِ . إنهم يحيلون شركهم وعبادتهم آلهة من دون الله هم وآباؤهم ، وأوهام الوثنية التي يزاولونها من تحريمهم لبعض الذبائح وبعض الأطعمة على أنفسهم بغير شريعة من الله . . إنهم يحيلون هذا كله على إرادة الله ومشيئته . فلو شاء الله في زعمهم ألا يفعلوا شيئاً من هذا لمنعهم من فعله . وهذا وهم وخطأ في فهم معنى المشيئة الإلهية . وتجريد للإنسان من أهم خصائصه التي وهبها له الله لاستخدامها في الحياة .فالله سبحانه لا يريد لعباده الشرك ، ولا يرضى لهم أن يحرموا ما أحله لهم من الطيبات . وإرادته هذه ظاهرة منصوص عليها في شرائعه ، على ألسنة الرسل الذين كلفوا التبليغ وحده فقاموا به وأدوه : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } فهذا أمره وهذه إرادته لعباده . والله تعالى لا يأمر الناس بأمر يعلم أنه منعهم خلقة من القدرة عليه ، أو دفعهم قسراً إلى مخالفته . وآية عدم رضاه عن مخالفة أمره هذا ما أخذ به المكذبين { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } . إنما شاءت إرادة الخالق الحكيم أن يخلق البشر باستعداد للهدى وللضلال ، وأن يدع مشيئتهم حرة في اختيار أي الطريقين؛ ومنحهم بعد ذلك العقل يرجحون به أحد الاتجاهين ، بعد ما بث في الكون من آيات الهدى ما يلمس العين والأذن والحس والقلب والعقل حيثما اتجهت آناء الليل وأطراف النهار . . ثم شاءت رحمة الله بعباده بعد هذا كله ألا يدعهم لهذا العقل وحده ، فوضع لهذا العقل ميزاناً ثابتاً في شرائعه التي جاءت بها رسله ، يثوب إليه العقل كلما غم عليه الأمر ، ليتأكد من صواب تقديره أو خطئه عن طريق الميزان الثابت الذي لا تعصف به الأهواء . . --------------------- وقال تعالى :{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) [الأعراف/59-62] بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى قِصَّةَ آدَمَ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، شَرَعَ فِي سَرْدِ قَصَصِ الأَنْبِياءِ الكِرَامِ ، فَابْتَدأ بِنُوحٍ ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، لأنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ إلى أَهْلِ الأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ . وَقَدْ لاقَى نُوحٌ مِنْ قَوْمِهِ عَنَاءً وَعَنتاً ، فَوَجَدَ قَوْمَهُ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ وَسَمّوها بِأَسْمَاء ، مِثْل وَدٍّ وَسَواع وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ . . . فَبَعَثَ اللهُ نُوحاً فَأَمَرَ قَوْمَهُ بِعِبَادِةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ عَذَابُ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ( عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) . فَقَالَ جُمْهُورُ السَّادَةِ وَالكُبَرَاءِ ( المَلأُ ) مِنْ قَوْمٍ نُوحٍ : إِنَّنَا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ وَاضِحٍ بَيِّنٍ فِي دَعْوَتِكَ إِيَّانَا إلَى تَرْكِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ التي وَجَدْنَا آبَاءَنا يَعْبُدُونَها . فَقَالَ لَهُمْ نُوحٌ : إِنَّنِي لَسْتُ ضَالاً ، وَلَمْ أَخْرُجْ عَنِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ فِي دَعْوتي لَكُمْ إلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ ، وَتَرْكِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ ، وَإِنَّما أَنَا رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ وَرَبِّ كُلِّ شَيءٍ فِي الوُجُودِ وَمَالِكِهِ وَأَنَا أَتَوَلَّى إِبْلاَغَكُمْ مَا أَرْسَلَنِي بِهِ اللهُ إِلَيْكُمْ مِنَ الدَّعْوَةِ إلَى التَّوْحِيدِ ، وَإِخْلاَصِ العِبَادَةِ للهِ ، وَأَتَوَلَّى نُصْحَكُمْ وَتَوْجِيهَكْم إِلَى الخَيْرِ وَإِنَّنِي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أَنْتُمْ ، لأَنَّنِي مُرْسَلٌ مِنْ قِبَلِهِ إِلَيْكُمْ . { لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } . .على سنة الله في إرسال كل رسول من قومه ، وبلسانهم ، تأليفاً لقلوب الذين لم تفسد فطرتهم ، وتيسيراً على البشر في التفاهم والتعارف . وإن كان الذين فسدت فطرتهم يعجبون من هذه السنة ، ولا يستجيبون ، ويستكبرون أن يؤمنوا لبشر مثلهم ، ويطلبون أن تبلغهم الملائكة! وإن هي إلا تعلة . وما كانوا ليستجيبوا إلى الهدى ، مهما جاءهم من أي طريق! لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ، فخاطبهم بتلك الكلمة الواحدة التي جاء بها كل رسول : { فقال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } .فهي الكلمة التي لا تتبدل ، وهي قاعدة هذه العقيدة التي لا توجد إلا بها ، وهي عماد الحياة الإنسانية الذي لا تقوم على غيره ، وهي ضمان وحدة الوجهة ووحدة الهدف ، ووحدة الرباط . وهي الكفيل بتحرر البشر من العبودية للهوى ، والعبودية لأمثالهم من العبيد ، وبالاستعلاء على الشهوات كلها وعلى الوعد والوعيد . إن دين الله منهج للحياة ، قاعدته أن يكون السلطان كله في حياة الناس كلها لله . وهذا هو معنى عبادة الله وحده ، ومعنى ألا يكون للناس إله غيره . . والسلطان يتمثل في الاعتقاد بربوبيته لهذا الوجود وإنشائه وتدبيره بقدرة الله وقدره . كما يتمثل في الاعتقاد بربوبيته للإنسان وإنشائه وتدبير أمره بقدرة الله وقدره . وعلى نفس المستوى يتمثل في الاعتقاد بربوبية الله لهذا الإنسان في حياته العملية الواقعية ، وقيامها على شريعته وأمره ، تمثله في التقدم بشعائر العبادة له وحده . . كلها حزمة واحدة . . غير قابلة للتجزئة . وإلا فهو الشرك ، وهو عبادة غير الله معه ، أو من دونه! ولقد قال نوح لقومه هذه القولة الواحدة ، وأنذرهم عاقبة التكذيب بها في إشفاق الأخ الناصح لإخوانه ، وفي صدق الرائد الناصح لأهله :{ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } . . وهنا نرى أن ديانة نوح . . أقدم الديانات . . كانت فيها عقيدة الآخرة . عقيدة الحساب والجزاء في يوم عظيم ، يخاف نوح على قومه ما ينتظرهم فيه من عذاب . . وهكذا تتبين مفارقة منهج الله وتقريره في شأن العقيدة ، ومناهج الخابطين في الظلام من « علماء الأديان » وأتباعهم الغافلين عن منهج القرآن . فكيف كان استقبال المنحرفين الضالين من قوم نوح لهذه الدعوة الخالصة الواضحة المستقيمة؟ { قال الملأ من قومه : إنا لنراك في ضلال مبين } ! كما قال مشركو العرب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - إنه صبأ ، ورجع عن دين إبراهيم! وهكذا يبلغ الضال من الضلال أن يحسب من يدعوه إلى الهدى هو الضال! بل هكذا يبلغ التبجح الوقح بعدما يبلغ المسخ في الفطر! . . هكذا تنقلب الموازين ، وتبطل الضوابط ، ويحكم الهوى؛ ما دام أن الميزان ليس هو ميزان الله الذي لا ينحرف ولا يميل .