السؤال باسم الله الأعظم

وسمع آخر يقول في تشهده أيضا : ( أبو داود والنسائي وأحمد والبخاري في الأدب المفرد ) ( اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت [ وحدك لا شريك لك ] [ المنان ] [ يا ] بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم [ إني أسألك ] [ الجنة وأعوذ بك من النار ] . [ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( تدرون بما دعا ؟ ) قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ( والذي نفسي بيده ] لقد دعا الله باسمه العظيم ( وفي رواية : الأعظم ) الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى}

الثلاثاء، 27 فبراير 2024

ج2. باقي صحيح السيرة النبوية تحقيق الشيخ الألباني مراجع ومدقق {من 130. الي234.}

 

ج2. صحيح السيرة {ج2. باقي صحيح السيرة النبوية  تحقيق  الشيخ الألباني مراجع ومدقق {من 130. الي234.}

صفحة رقم -130-

قال : قلت : من غفار . قال : فأهوى بيده فوضعها على جبهته . قال : فقلت في نفسي : كره أن انتميت إلى غفار . قال : فأردت أن آخذ بيده فقدعني صاحبه وكان أعلم به مني قال : ( متى كنت ههنا ؟ ) .

قال : قلت : كنت ههنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم . قال : ( فمن كان يطعمك ؟ ) .

قلت : ما كان إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنها مباركة وإنها طعام طعم ) . قال : فقال أبو بكر : ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة . قال : ففعل .

قال : فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم [ وانطلق أبو بكر ] وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر بابا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف . قال : فكان ذلك أول طعام أكلته بها فلبثت ما لبثت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم

( إني قد وجهت إلى أرض ذات نخل ولا أحسبها إلا ( يثرب ) فهل أنت مبلغ عني قومك لعل الله عز وجل ينفعهم بك ويأجرك فيهم ؟ ) .صفحة رقم -131-* قال : فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسا قال : فقال لي : ما صنعت ؟ قال : قلت : إني صنعت أني أسلمت وصدقت . قال : قال : فما لي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت .

ثم أتينا أمنا فقالت : ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت وصدقت .

فتحملنا حتى أتينا قومنا ( غفارا ) فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المدينة ) وكان يؤمهم خفاف بن إيماء بن رحضة وكان سيدهم يومئذ وقال بقيتهم : إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا . فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المدينة ) فأسلم بقيتهم . قال : وجاءت ( أسلم ) فقالوا : يا رسول الله إخواننا نسلم على الذي أسلموا عليه . فأسلموا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( غفار ) غفر الله لها و( أسلم ) سالمها الله ) .

ورواه مسلم نحوه وقد روى قصة إسلامه على وجه آخر وفيه زيادات غريبة . فالله أعلم .

وتقدم ذكر إسلام سلمان الفارسي في ( كتاب البشارات بمبعثه عليه الصلاة والسلام ) .

 صفحة رقم -132- ذكر إسلام ضماد

روى مسلم والبيهقي من حديث ابن عباس قال :

قدم ضماد ( مكة ) - وهو رجل من أزد شنوءة وكان يرقي من هذه الرياح - فسمع سفهاء من سفه ( مكة ) يقولون : إن محمدا مجنون . فقال : أين هذا الرجل ؟ لعل الله أن يشفيه على يدي . فلقي محمدا صلى الله عليه وسلم فقال : إني أرقي من هذه الرياح وإن الله يشفي على يدي من شاء فهلم . فقال محمد :

( إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ( ثلاث مرات ) .

فقال : والله لقد سمعت الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات فهلم يدك أبايعك على الإسلام . فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له :

( وعلى قومك ؟ ) .

فقال : وعلى قومي .

فبعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشا فمروا بقوم ضماد فقال صاحب الجيش للسرية : هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئا ؟ فقال رجل منهم : أصبت منهم

صفحة رقم -133-

مظهرة . فقال : ردها عليهم فإنهم قوم ضماد .

وفي رواية : فقال له ضماد : أعد علي كلماتك هؤلاء فلقد بلغن قاموس البحر .

ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا أمر الإسلام ب ( مكة ) وتحدث به .

صفحة رقم -134-

باب أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة

إلى الخاص والعام وأمره له بالصبر والاحتمال

والإعراض عن الجاهلين المعاندين المكذبين بعد قيام الحجة عليهم وإرسال الرسول الأعظم إليهم وذكر ما لقي من الأذية منهم هو وأصحابه رضي الله عنهم

قال الله تعالى : وأنذر عشيرتك الأقربين . واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون . وتوكل على العزيز الرحيم . الذي يراك حين تقوم . وتقلبك في الساجدين . إنه هو السميع العليم [ الشعراء : 214 - 220 ] .

وقال تعالى : وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون [ الزخرف : 44 ] .

وقال تعالى : إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد [ القصص : 85 ] أي : إن الذي فرض عليك وأوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إلى دار الآخرة وهي المعاد فيسألك عن ذلك كما قال تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين . عما كانوا يعملون [ الحجر : 92 و93 ] .

والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا وقد تقصينا الكلام على ذلك في كتابنا ( التفسير ) وبسطنا من القول في ذلك عند قوله تعالى في سورة ( الشعراء ) :

صفحة رقم -135-

وأنذر عشيرتك الأقربين وأوردنا أحاديث جمة في ذلك .

فمن ذلك ما أخرجه أحمد والشيخان عن ابن عباس قال :

لما أنزل الله : وأنذر عشيرتك الأقربين أتى النبي صلى الله عليه وسلم ( الصفا ) فصعد عليه ثم نادى : ( يا صباحاه ) . فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( يا بني عبد المطلب يا بني فهر يا بني لؤي أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني ؟ ) . قالوا : نعم . قال :

( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد [ سبأ : 46 ] ) .

فقال أبو لهب - لعنه الله - : تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا ؟ وأنزل الله عز وجل : تبت يدا أبي لهب وتب .

وأخرج أحمد - والسياق له - والشيخان عن أبي هريرة قال :

لما نزلت هذه الآية : وأنذر عشيرتك الأقربين [ الشعراء : 214 ] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فعم وخص فقال :

صفحة رقم -136-

( يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار يا معشر بني كعب [ بن لؤي ] أنقذوا أنفسكم من النار [ يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ] يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني - والله - لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها ) .

وروى أحمد ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت :

لما نزلت : وأنذر عشيرتك الأقربين [ الشعراء : 214 ] قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

( يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم ) .

وروى الإمام أحمد في ( مسنده ) عن علي [ قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطلب فيهم رهط كلهم يأكل

الجذعة ويشرب الفرق قال : فصنع لهم مدا من طعام فأكلوا حتى شبعوا قال : وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم يمس أو لم يشرب فقال :

( يا بني عبد المطلب إني بعثت لكم خاصة وإلى الناس بعامة وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ؟ ) .

قال : فلم يقم إليه أحد قال : فقمت إليه وكنت أصغر القوم قال : فقال : ( اجلس ) قال ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول لي : ( اجلس ) حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي ] .

[ المستدرك ]

صفحة رقم -137-

عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت :

لما نزلت : تبت يدا أبي لهب أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول :

مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا

=====

صفحة رقم -138-

والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر فلما رآها أبو بكر قال : يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( إنها لن تراني ) .

وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال [ تعالى ] وقرأ : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا [ الإسراء : 45 ] فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني . فقال : لا ورب هذا البيت ما هجاك . فولت وهي تقول : قد علمت قريش أني بنت سيدها .

أخرجه الحاكم ( 2/361 ) وقال : ( صحيح الإسناد ) ووافقه الذهبي وابن حبان ( 2103 ) وأبو نعيم ( ص 61 ) من طريق أخرى عن ابن عباس نحوه . وصححه ابن أبي حاتم أيضا كما في ( الدر المنثور ) ( 4/186 ) وله عنده شاهد من حديث أبي بكر .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :

جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو جالس حزينا قد خضب بالدماء ضربه بعض أهل ( مكة ) قال : فقال له : ما لك ؟ قال : فقال له :

( فعل بي هؤلاء وفعلوا ) .

قال : فقال له جبريل عليه السلام : أتحب أن أريك آية ؟ قال : ( نعم ) .

قال : فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال : ادع بتلك الشجرة . فدعاها فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه . فقال : مرها فلترجع . فأمرها

صفحة رقم -139-

فرجعت إلى مكانها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( حسبي ) .

أخرجه أحمد ( 3/113 ) وابن ماجه ( 4028 ) بسند صحيح .

وعن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي :

أنه مر وصاحب له ب ( أيمن ) وفئة من قريش قد حلوا أزرهم فجعلوها مخاريق يجتلدون بها وهم عراة فلما مررنا بهم قالوا : إن هؤلاء قسيسون فدعوهم .

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم فلما أبصروه تبددوا فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا حتى دخل وكنت أنا وراء الحجرة فسمعته يقول :

صفحة رقم -140-

( سبحان الله لا من الله استحيوا ولا من رسوله استتروا ) .

وأم أيمن عنده تقول : استغفر لهم يا رسول الله

قال عبد الله : فبلأي ما استغفر لهم .

أخرجه أحمد ( 4/191 ) وإسناده صحيح ورواه إبراهيم الحربي والطبراني كما في ( الإصابة ) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم ؟ ) . [ قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال : ]

( يشتمون مذمما [ وأنا محمد ] ويلعنون مذمما وأنا محمد ) .

أخرجه البخاري ( 3533 ) والنسائي في ( الطلاق ) وأحمد ( 2/244 و340 و366 ) من طرق عنه . [ انتهى المستدرك ] .

وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال :

جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوما فمر به رجل فقال : طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت .

فاستغضب فجعلت أعجب ما قال إلا خيرا ثم أقبل إليه فقال :

ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضرا غيبه الله عنه لا يدري لو شهده

صفحة رقم -141-

كيف كان يكون فيه ؟ والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جنهم لم يجيبوه ولم يصدقوه .

أولا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين لما جاء به نبيكم قد كفيتم البلاء بغيركم ؟

والله لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها فيه نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل وفرق بين الوالد وولده حتى أن الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافرا - وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان - يعلم أنه إن هلك دخل النار فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار وأنها للتي قال الله عز وجل : الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما [ الفرقان : 74 ] .

أخرجه أحمد ( 6/2 - 3 ) وابن حبان ( 1684 ) بسند صحيح رجاله كلهم ثقات .

والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر يدعو إلى الله تعالى ليلا ونهارا وسرا وجهرا لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك راد ولا يصده عن ذلك صاد يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم ومواقف الحج يدعو من لقيه من حر وعبد وضعيف وقوي وغني وفقير جميع الخلق في ذلك عنده شرع سواء .

وتسلط عليه وعلى من اتبعه من آحاد الناس من ضعفائهم الأشداء الأقوياء من مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية .

صفحة رقم -142-

وكان من أشد الناس عليه عمه أبو لهب واسمه عبد العزى بن عبد المطلب وامرأته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان .

وخالفه في ذلك عمه أبو طالب بن عبد المطلب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب خلق الله إليه طبعا وكان يحنو عليه ويحسن إليه ويدافع عنه ويحامي ويخالف قومه في ذلك مع أنه على دينهم وعلى خلتهم إلا أن الله قد امتحن قلبه بحبه حبا طبعيا لا شرعيا .

وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى ومما صنعه لرسوله من الحماية إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة ولا كانوا يهابونه ويحترمونه ولاجترؤوا عليه ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه وربك يخلق ما يشاء ويختار [ القصص : 28 ] وقد قسم خلقه أنواعا وأجناسا .

فهذان العمان كافران : أبو طالب وأبو لهب ولكن هذا يكون في القيامة في ضحضاح من النار وذلك في الدرك الأسفل من النار وأنزل الله فيه سورة في كتابه تتلى على المنابر وتقرأ في المواعظ والخطب تتضمن أنه سيصلى نارا ذات لهب . وامرأته حمالة الحطب [ المسد : 3 و4 ] .

روى الإمام أحمد والبيهقي عن ربيعة بن عباد من بني الديل - وكان جاهليا فأسلم - قال :

صفحة رقم -143-

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ( ذي المجاز ) وهو يقول :

( يا أيها الناس قولوا : ( لا إله إلا الله ) تفلحوا ) .

والناس مجتمعون عليه ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول : إنه صابئ كاذب . يتبعه حيث ذهب فسألت عنه ؟ فقالوا : هذا عمه أبو لهب .

ثم رواه البيهقي من طريق أخرى عن ربيعة الديلي قال :

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ب ( ذي المجاز ) يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول : يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم .

قلت : من هذا ؟ قيل : هذا أبو لهب .

وأما أبو طالب فكان في غاية الشفقة والحنو الطبيعي كما سيظهر من صنائعه وسجاياه واعتماده فيما يحامي به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم .

وروى البخاري في ( التاريخ ) والبيهقي عن الحاكم من حديث عقيل بن أبي طالب قال :

صفحة رقم -144-

جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا : إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا . فقال : يا عقيل انطلق فأتني بمحمد . فانطلقت فاستخرجته من كنس أو خنس - يقول : بيت صغير - فجاء به في الظهيرة في شدة الحر فلما أتاهم قال : إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم فانته عن أذاهم . فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال :

( ترون هذه الشمس ؟ ) . قالوا : نعم . قال :

( فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا منها بشعلة ) .

فقال أبو طالب : والله ما كذب ابن أخي قط فارجعوا .

وفي ذلك دلالة على أن الله تعالى عصمه بعمه مع خلافه إياه في دينه وقد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما يشاء لا معقب لحكمه .

وروى الإمام أحمد والبخاري عن ابن عباس قال :

قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

( لو فعل ذلك لأخذته الملائكة عيانا ) .

وفي رواية عنه قال :

مر أبو جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال : ألم أنهك أن تصلي يا محمد .

[ فانتهره النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبو جهل : لم تنهرني يا محمد فوالله ] لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا مني .

[ قال : ] فقال جبريل : فليدع ناديه . سندع الزبانية [ العلق : 17 و18 ] .

صفحة رقم -145-

[ قال : فقال ابن عباس : ] والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب .

رواه أحمد والترمذي وصححه والنسائي .

وروى أحمد ومسلم والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي هريرة قال :

قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا : نعم .

قال : فقال : واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه بالتراب . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ رقبته . قال : فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه .

قال : فقيل له : ما لك ؟ قال : إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ) .

صفحة رقم -146-

قال : وأنزل الله تعالى - لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا - : كلا إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى [ العلق : 6 و7 ] إلى آخر السورة .

وروى الإمام أحمد والبخاري في مواضع من ( صحيحه ) ومسلم عن عبد الله ( هو ابن مسعود ) قال :

ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس وسلا جزور قريب منه فقالوا : من يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره ؟ فقال عقبة بن أبي معيط : أنا . فأخذه فألقاه على ظهره فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( اللهم عليك بهذا الملأ من قريش اللهم عليك بعتبة بن ربيعة اللهم عليك بشيبة بن ربيعة اللهم عليك بأبي جهل بن هشام اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط اللهم عليك بأبي بن خلف . أو : أمية بن خلف ) . شعبة الشاك .

قال عبد الله : فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا ثم سحبوا إلى القليب غير أبي أو أمية بن خلف فإنه كان رجلا ضخما فتقطع .

والصواب : أمية بن خلف فإنه الذي قتل يوم بدر وأخوه أبي إنما قتل يوم أحد كما سيأتي بيانه .

صفحة رقم -147-

و ( السلا ) : هو الذي يخرج مع ولد الناقة كالمشيمة لولد المرأة .

وفي بعض ألفاظ ( الصحيح ) : أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا حتى جعل بعضهم يميل على بعض أي : يميل هذا على هذا من شدة الضحك . لعنهم الله .

وفيه : أن فاطمة لما ألقته عنه أقبلت عليهم فسبتهم وأنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاته رفع يديه يدعو عليهم فلما رأوا ذلك سكن عنهم الضحك وخافوا

دعوته وأنه صلى الله عليه وسلم دعا على الملأ منهم جملة وعين في دعائه سبعة وقع في أكثر الروايات تسمية ستة منهم وهم : عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة والوليد ابن عتبة وأبو جهل بن هشام وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف . قال أبو إسحاق : ونسيت السابع .

قلت : وهو عمارة بن الوليد وقع تسميته في ( صحيح البخاري ) .

وروى عن عروة بن الزبير [ قال : ] سألت ابن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا .

فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم [ غافر : 28 ] .

انفرد به البخاري وقد رواه في أماكن من ( صحيحه ) وصرح في بعضها

صفحة رقم -148-

ب ( عبد الله بن عمرو بن العاص ) وهو أشبه لرواية عروة عنه وفي رواية معلقة عن عروة قال : قيل لعمرو بن العاص . وهذا أشبه لتقدم هذه القصة .

وقد روى البيهقي عن الحاكم بسنده عن ابن إسحاق : حدثني يحيى بن عروة عن أبيه عروة قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهره من عداوته ؟ فقال :

لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا وصرنا منه على أمر عظيم .

أو كما قالوا .

قال : فبينما هم في ذلك [ إذ ] طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فغمزوه ببعض القول فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفتها في وجهه

صفحة رقم -149-

فمضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فقال :

( أتسمعون يا معشر قريش ؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ) .

فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه [ بأحسن ما يجد من القول ] حى إنه ليقول : انصرف أبا القاسم راشدا ف [ والله ] ما كنت جهولا . فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه .

فبيمنا هم في ذلك [ إذ ] طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون : أنت الذي تقول : كذا وكذا ؟ لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( نعم أنا الذي أقول ذلك ) .

ولقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ردائه وقام أبو بكر يبكي دونه ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله [ غافر 28 ] ؟ ثم انصرفوا عنه .

فإن ذلك لأكثر ما رأيت قريشا بلغت منه قط .

صفحة رقم -150-

فصل

في تأليب الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واجتماعهم بعمه أبي طالب القائم في منعه ونصرته وحرصهم عليه أن يسلمه إليهم

فأبى عليهم ذلك بحول الله وقوته

عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد وأخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال ) .

أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي :

( حديث حسن صحيح ) .

صفحة رقم -151-

فصل

فيما اعترض به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم

وما تعنتوا له في أسئلتهم إياه أنواعا من الآيات وخرق العادات

على وجه العناد لا على وجه طلب الهدى والرشاد

فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا ولا ما إليه رغبوا لعلم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم يعمهون ولظلوا في غيهم وضلالهم يتردون .

قال الله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم ءاية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون . ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون . ولو أننا نزلنا إليهم الملآئكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون [ الأنعام : 109 - 111 ] .

وقال تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون . ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ يونس : 96 و97 ] .

وقال تعالى : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا [ الإسراء : 59 ] .

وقال تعالى : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا

صفحة رقم -152-

أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا [ الإسراء : 90 - 93 ] .

وقد تكلمناعلى هذه الآيات وما يشبهها في أماكنها من ( التفسير ) ولله الحمد .

عن ابن عباس قال :

سأل أهل ( مكة ) رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزدرعوا . فقيل له : إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم . قال :

( لا بل أستأني بهم ) .

فأنزل الله تعالى : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا [ الإسراء : 59 ] .

رواه أحمد والنسائي .

صفحة رقم -153-

وفي رواية لأحمد عنه قال :

قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك . قال : ( وتفعلوا ؟ ) . قالوا : نعم .

قال : فدعا فأتاه جبريل فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة . قال :

( بل [ باب ] التوبة والرحمة ) .

وإسناد كل منهما جيد .

وقد جاء مرسلا عن جماعة من التابعين منهم : سعيد بن جبير وقتادة وابن جريج وغير واحد .

صفحة رقم -154-

فصل

قال ابن إسحاق : ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء ( مكة ) إذا اشتد الحر من استضعفوه منهم يفتنونهم عن دينهم .

فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبهم ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم .

وقد تقدم حديث ابن مسعود :

أول من أظهر الإسلام سبعة : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد .

فأما رسول الله فمنعه الله بعمه وأبو بكر منعه الله بقومه وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب ( مكة ) وهو يقول : أحد أحد .

وعن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعمار وأهله وهم يعذبون فقال :

( أبشروا آل عمار وآل ياسر فإن موعدكم الجنة ) .

صفحة رقم -155-

رواه البيهقي عن الحاكم .

قلت : وفي مثل هذا أنزل الله تعالى : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقبله مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم [ النحل : 106 ] .

فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته .

وعن خباب بن الأرت قال :

كنت رجلا قينا وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد

صفحة رقم -156-

حتى تموت ثم تبعث . قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك فأنزل الله : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا إلى قوله : ويأتينا فردا [ مريم : 77 - 80 ] .

أخرجه أحمد والبخاري ومسلم في ( الصحيحين ) وفي لفظ البخاري :

كنت قينا ب ( مكة ) فعملت للعاص بن وائل سيفا فجئت أتقاضاه . . . فذكر الحديث .

وفي طريق أخرى له عنه قال :

أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت : ألا تدعو الله ؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال :

( لقد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من ( صنعاء ) إلى ( حضر موت ) ما يخاف إلا الله عز وجل ( زاد بيان : والذئب على غنمه ) .

وفي رواية : ( ولكنكم تستعجلون ) .

صفحة رقم -157-

[ المستدرك ]

وعن أبي ليلى الكندي قال : جاء خباب إلى عمر فقال : ادن فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار . فجعل خباب يريه آثارا بظهره مما عذبه المشركون .

أخرجه ابن سعد ( 3/165 ) وابن ماجه ( 153 ) بسند صحيح . [ انتهى المستدرك ] .

صفحة رقم -158-

باب مجادلة المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم

وإقامة الحجة الدامغة عليهم واعترافهم في أنفسهم بالحق وإن أظهروا المخالفة عنادا وحسدا وبغيا وجحودا

روى إسحاق بن راهويه بسنده عن ابن عباس : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا . قال : لم ؟ قال : ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله .

قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا .

قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له .

قال : وماذا أقول ؟ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته .

قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه .

قال : فدعني حتى أفكر فيه .

صفحة رقم -159-

فلما فكر قال : إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره . فنزلت : ذرني ومن خلقت وحيدا . وجعلت له مالا ممدودا . وبنين شهودا [ المدثر : 11 - 13 ] الآيات .

هكذا رواه البيهقي عن الحاكم عن إسحاق .

قلت : وفي ذلك قال الله تعالى إخبارا عن جهلهم وقلة عقلهم : بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون . [ الأنبياء : 5 ] فحاروا ماذا يقولون فيه ؟ فكل شيء يقولونه باطل لأن من خرج عن الحق مهما قاله أخطأ قال الله تعالى : انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا [ الإسراء : 48 ] .

وروى الإمام عبد بن حميد في ( مسنده ) بسنده عن جابر بن عبد الله قال :

اجتمعت قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه ؟

فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة . فقالوا : أنت يا أبا الوليد

فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم

فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ثم قال : إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت

صفحة رقم -160-

وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا وأن في قريش كاهنا والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى . أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا واحدا وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فرغت ؟ ) . قال : نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون إلى أن بلغ : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود [ فصلت : 1 - 13 ] ) .

فقال عتبة : حسبك ما عندك غير هذا ؟ قال : ( لا ) .

فرجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك ؟ قال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته .

قالوا : فهل أجابك ؟ فقال : نعم . ثم قال : لا والذي نصبها بينة ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود .

قالوا : ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال ؟

قال : لا والله ما فهمت شيا مما قال غير ذكر الصاعقة .

صفحة رقم -161-

وقد رواه البيهقي وغيره عن الحاكم بسنده عن الأجلح به وفيه كلام وزاد :

وإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسا ما بقيت . وعنده أنه لما قال : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم .

فقال أبو جهل : والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا صبا إلى محمد وأعجبه كلامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته انطلقوا بنا إليه . فأتوه فقال أبو جهل : والله يا عتبة ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد .

فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا وقال : لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته - وقص عليهم القصة - فأجابني بشيء - والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة - قرأ : ( بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم حتى بلغ : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل

صفحة رقم -162-

صاعقة عاد وثمود ) فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب .

ثم روى البيهقي بسنده عن المغيرة بن شعبة قال :

إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل :

( يا أبا الحكم هلم إلى الله وإلى رسوله أدعوك إلى الله ) .

فقال أبو جهل : يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا ؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت ؟ فنحن نشهد أن قد بلغت فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك .

فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل علي فقال : والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن يمنعني شيء إن بني قصي قالوا : فينا الحجابة . فقلنا : نعم . ثم قالوا : فينا السقاية . فقلنا : نعم . ثم قالوا : فينا الندوة . فقلنا : نعم . ثم قالوا : فينا اللواء . فقلنا : نعم . ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا : منا نبي والله لا أفعل .

وهذا القول منه - لعنه الله - كما قال تعالى مخبرا عنه وعن أضرابه :

وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا . إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا [ الفرقان : 41 و42 ] .

صفحة رقم -163-

وقال ابن عباس :

نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار ب ( مكة ) : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها [ الإسراء : 110 ] قال :

كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به . قال : فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تجهر بصلاتك أي : بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك وابتغ بين ذلك سبيلا .

رواه أحمد وصاحبا ( الصحيح ) .

صفحة رقم -164-

باب هجرة من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

من ( مكة ) إلى أرض الحبشة فرارا بدينهم من الفتنة

قد تقدم ذكر أذية المشركين للمستضعفين من المؤمنين وما كانوا يعاملونهم به من الضرب الشديد والإهانة البالغة .

وكان الله عز وجل قد حجرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعه بعمه أبي طالب كما تقدم تفصيله ولله الحمد والمنة .

وقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن مسعود قال :

بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا فيهم

صفحة رقم -165-

عبد الله بن مسعود وجعفر وعبد الله بن عرفطة وعثمان بن مظعون وأبو موسى فأتوا النجاشي .

وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية .

فلما دخلا على النجاشي سجدا له ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ثم قالا له : إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا .

قال : فأين هم ؟ قالا : في أرضك فابعث إليهم .

فبعث إليهم فقال جعفر : أنا خطيبكم اليوم . فاتبعوه .

فسلم ولم يسجد فقالوا له : ما لك لا تسجد للملك ؟

قال : إنا لا نسجد إلا لله عز وجل .

قال : وما ذاك ؟

قال : إن الله بعث إلينا رسولا ثم أمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله عز وجل وأمرنا بالصلاة والزكاة .

قال عمرو : فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم .

قال : فما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه ؟

قال : نقول كما قال الله : هو كلمته وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يفرضها ولد .

صفحة رقم -166-

قال : فرفع عودا من الأرض ثم قال : يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما سوى هذا مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجد في الإنجيل وأنه الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم انزلوا حيث شئتم والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه [ وأوضئه ] .

وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما .

ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرا .

وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغه موته .

وهذا إسناد جيد قوي وسياق حسن وفيه ما يقتضي أن أبا موسى كان فيمن هاجر من ( مكة ) إلى أرض الحبشة إن لم يكن مدرجا من بعض الرواة . والله أعلم .

ورواه أبو نعيم في ( الدلائل ) عن أبي موسى قال :

أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي فبلغ ذلك قريشا فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد وجمعوا للنجاشي هدية .

صفحة رقم -167-

وقدما على النجاشي فأتياه بالهدية فقبلها وسجدا له . ثم قال عمرو بن العاص : إن ناسا من أرضنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك .

قال لهم النجاشي : في أرضي ؟

قالا : نعم .

فبعث إلينا فقال لنا جعفر : لا يتكلم منكم أحد أنا خطيبكم اليوم .

فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره والقسيسون جلوس سماطين وقد قال له عمرو وعمارة : إنهم لا يسجدون لك .

فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان : اسجدوا للملك . فقال جعفر : لا نسجد إلا لله عز وجل .

فقال له النجاشي : وما ذاك ؟

قال : إن الله بعث فينا رسولا وهو الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من بعده اسمه أحمد فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر .

فأعجب النجاشي قوله .

صفحة رقم -168-

فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال : أصلح الله الملك إنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم

فقال النجاشي : ما يقول صاحبكم في ابن مريم ؟

قال : يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر ولم يفرضها ولد .

فتناول النجاشي عودا من الأرض فرفعه فقال : يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما نقول في ابن مريم ولا وزن هذه مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده فأنا أشهد أنه رسول الله وأنه الذي بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعليه امكثوا في أرضي ما شئتم .

وأمر لنا بطعام وكسوة . وقال : ردوا على هذين هديتهما .

وكان عمرو بن العاص رجلا قصيرا وكان عمارة رجلا جميلا وكانا أقبلا في البحر فشربا [ يعني خمرا ] ومع عمرو امرأته فلما شربا قال عمارة لعمرو : مر امرأتك فلتقبلني فقال له عمرو : ألا تستحي ؟ فأخذ عمارة عمرا فرمى به في البحر فجعل عمرو يناشد عمارة حتى أدخله السفينة .

فحقد عليه عمرو في ذلك فقال عمرو للنجاشي : إنك إذا خرجت خلفك عمارة في أهلك . فدعا النجاشي بعمارة فنفخ في إحليله فطار مع الوحش .

صفحة رقم -169-

وهكذا رواه البيهقي في ( الدلائل ) إلى قوله : ( فأمر لنا بطعام وكسوة ) قال :

( وهذا إسناد صحيح وظاهره يدل على أن أبا موسى كان ب ( مكة ) وأنه خرج مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة .

والصحيح عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة عن أبي موسى :

أنهم بلغهم مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم باليمن فخرجوا مهاجرين في بضع وخمسين رجلا في سفينة فألقتهم سفينتهم إلى النجاشي بأرض الحبشة فوافقوا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عندهم فأمره جعفر بالإقامة فأقاموا عنده حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن ( خيبر ) .

قال : وأبو موسى شهد ما جرى بين جعفر وبين النجاشي فأخبر عنه .

قال : ولعل الراوي وهم في قوله : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق ) . والله أعلم ) .

صفحة رقم -170-

وهكذا رواه البخاري في ( هجرة الحبشة ) ومسلم عن أبي موسى قال :

بلغنا مخرج النبي ونحن باليمن فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فأقمنا معه حتى قدمنا فوافينا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح ( خيبر ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم :

( لكم أنتم أهل السفينة هجرتان ) .

وروياه في موضع آخر مطولا . والله أعلم .

وقال ابن إسحاق : حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام عن أم سلمة رضي الله عنها قالت :

لما ضاقت ( مكة ) وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه ومن عمه لا يصل إليه شيء مما يكره ومما ينال أصحابه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه ) .

فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا ولم نخش فيها ظلما .

صفحة رقم -171-

فلما رأت قريش أنا قد أصبنا دارا وأمنا غاروا منا فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا ليخرجنا من بلاده وليردنا عليهم .

فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة فجمعوا له هدايا ولبطارقته فلم يدعوا رجلا إلا هيؤوا له هدية على حدة وقالوا لهما : ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلموا فيهم ثم ادفعوا إليه هداياه فإن استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا .

فقدما عليه فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته فكلموه فقالوا له : إنما قدمنا على هذا الملك في سفهائنا فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدخلوا في دينكم فبعثنا قومهم ليردهم الملك عليهم فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل . فقالوا : نفعل .

ثم قدموا للنجاشي هداياه وكان من أحب ما يهدون إليه من ( مكة ) الأدم . ( وذكر موسى بن عقبة : أنهم أهدوا إليه فرسا وجبة ديباج ) .

فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له : أيها الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه وقد لجؤوا إلى بلادك وقد بعثنا إليك فيهم عشائرهم آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم فإنهم أعلى بهم عينا فإنهم لن يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك .

فغضب ثم قال : لا لعمر الله لا أردهم عليهم حتى أدعوهم فأكلمهم وأنظر ما أمرهم قوم لجؤوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم ولم أدخل

صفحة رقم -172-

بينهم وبينهم ولم أنعم عينا .

( وذكر موسى بن عقبة : أن أمراءه أشاروا عليه بأن يردهم إليهم فقال : لا والله حتى أسمع كلامهم وأعلم على أي شيء هم عليه ) .

فلما دخلوا عليه سلموا ولم يسجدوا له فقال : أيها الرهط ألا تحدثوني ما لكم لا تحيوني كما يحييني من أتانا من قومكم ؟

فأخبروني ماذا تقولون في عيسى ؟ وما دينكم ؟

أنصارى أنتم ؟

قالوا : لا .

قال : أفيهود أنتم ؟

قالوا : لا .

قال : فعلى دين قومكم ؟

قالوا : لا .

قال : فما دينكم ؟

قالوا : الإسلام .

قال : وما الإسلام .

قالوا : نعبد الله لا نشرك به شيئا .

قال : من جاءكم بهذا ؟

صفحة رقم -173-

قالوا : جاءنا به رجل من أنفسنا قد عرفنا وجهه ونسبه بعثه الله إلينا كما بعث الرسل إلى من قبلنا فأمرنا بالبر والصدقة والوفاء وأداء الأمانة ونهانا أن نعبد الأوثان وأمرنا بعبادة الله وحده لا شريك له فصدقناه وعرفنا كلام الله وعلمنا أن الذي جاء به من عند الله فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا وعادوا النبي الصادق وكذبوه وأرادوا قتله وأرادونا على عبادة الأوثان ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا .

قال : والله إن هذا لمن المشكاة التي خرج منها أمر موسى .

قال جعفر : وأما التحية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن تحية أهل الجنة ( السلام ) وأمرنا بذلك فحييناك بالذي يحيي بعضنا بعضا .

وأما عيسى بن مريم فعبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وابن العذراء البتول .

فأخذ عودا وقال : والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود .

فقال عظماء الحبشة : والله لئن سمعت الحبشة لتخلعنك .

فقال : والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا وما أطاع الله الناس في حين رد علي ملكي فأطيع الناس في دين الله ؟ معاذ الله من ذلك

وقال يونس عن ابن اسحاق : فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم ولم يكن شيء أبغض لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم .

فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا : ماذا تقولون ؟

صفحة رقم -174-

فقالوا : وماذا نقول ؟ نقول - والله - ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن من ذلك ما كان .

فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه .

فقال له النجاشي : ما هذا الدين الذي أنتم عليه ؟ فارقتم دين قومكم ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية

فقال له جعفر : أيها الملك كنا قوما على الشرك نعبد الأوثان ونأكل الميتة ونسيء الجوار يستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها لا نحلل شيئا ولا نحرمه فبعث الله إلينا نبيا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له ونصل الأرحام ونحمي الجوار ونصلي لله عز وجل ونصوم له ولا نعبد غيره .

( وقال زياد عن ابن اسحاق : فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الأرحام وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - قال : فعدد عليه أمور الإسلام -

صفحة رقم -175-

فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله فعبدنا الله وحده لا شريك له ولم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا .

فعدا علينا قومنا فعذبونا ليفتنونا عن ديننا ويردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث .

فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك

قالت : فقال النجاشي : هل معك شي مما جاء به ؟

فقرأ عليه صدرا من كهيعص فبكى - والله - النجاشي حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم [ حين سمعوا ما تلا عليهم ] ) .

ثم قال : إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى انطلقوا راشدين لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عينا .

فخرجنا من عنده وكان أبقى الرجلين فينا عبد الله بن [ أبي ] ربيعة فقال عمرو بن العاص : والله لآتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم ولأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد - عيسى بن مريم - عبد

فقال له عبد الله بن [ أبي ] ربيعة : لا تفعل فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن لهم رحما ولهم حقا .

صفحة رقم -176-

فقال : والله لأفعلن .

فلما كان الغد دخل عليه فقال : أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما فأرسل إليهم فسلهم عنه .

فبعث - والله - إليهم ولم ينزل بنا مثلها .

فقال بعضنا لبعض : ماذا تقولون في عيسى إن هو سألكم عنه ؟

فقالوا : نقول - والله - الذي قاله الله فيه والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه .

فدخلوا عليه وعنده بطارقته فقال : ما تقولون في عيسى بن مريم ؟

فقال له جعفر : نقول : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول .

فدلى النجاشي يده إلى الأرض فأخذ عودا بين إصبعيه فقال : ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العويد .

فتناخرت بطراقته فقال : وإن تناخرتم والله

اذهبوا فأنتم شيوم في الأرض ( الشيوم : الآمنون في الأرض ) من سبكم غرم من سبكم غرم من سبكم غرم ( ثلاثا ) ما أحب أن لي دبرا وأني آذيت رجلا منكم . ( والدبر بلسانهم : الذهب ) .

( وقال زياد عن ابن اسحاق : ما أحب لي دبرا من الذهب . قال ابن هشام : ويقال زبرا وهو الجبل بلغتهم ) .

صفحة رقم -177-

ثم قال النجاشي : فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه ؟ ردوا عليهما هداياهم فلا حاجة لي بها واخرجا من بلادي .

فخرجا مقبوحين مردودا عليهما ماجاءا به .

قالت : فأقمنا مع خير جار في خير دار .

فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه الملك .

فوالله ما علمتنا حزنا حزنا قط هو أشد منه فرقا من أن يظهر ذلك الملك عليه فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه .

فجعلنا ندعوا الله ونستنصره للنجاشي فخرج إليه سائرا .

فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض : من يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون .

فقال الزبير - وكان من أحدثنا سنا - : أنا .

فنفخوا له قربة فجعلها في صدره فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس فحضر الوقعة .

فهزم الله ذلك الملك وقتله وظهر النجاشي عليه .

فجاءنا الزبير فجعل يليح لنا بردائه ويقول : ألا فأبشروا فقد أظهر الله النجاشي .

قالت : فوالله ما علمتنا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي .

صفحة رقم -178-

ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا إلى ( مكة ) وأقام من أقام .

قال الزهري : فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير عن أم سلمة فقال عروة : أتدري ما قوله : ( ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه ؟ ) ؟

فقلت : لا ما حدثني ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة . فقال عروة : فإن عائشة حدثتني : أن أباه كان ملك قومه وكان له أخ له من صلبه اثنا عشر رجلا ولم يكن لأبي النجاشي ولد غير النجاشي فأدارت الحبشة رأيها بينها فقالوا : لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإن له اثني عشر رجلا من صلبه فتوارثوا الملك لبقيت الحبشة عليهم دهرا طويلا لا يكون بينهم اختلاف .

فعدوا عليه فقتلوه وملكوا أخاه .

فدخل النجاشي بعمه حتى غلب عليه فلا يدير أمره غيره وكان لبيبا حازما من الرجال .

فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالوا : قد غلب هذا الغلام على أمر عمه فما نأمن أن يملكه علينا وقد عرف أنا قتلنا أباه فلئن فعل لم يدع منا شريفا إلا قتله فكلموه فيه فليقتله أو ليخرجه من بلادنا .

صفحة رقم -179-

فمشوا إلى عمه فقالوا : قد رأينا مكان هذا الفتى منك وقد عرفت أنا قتلنا أباه وجعلناك مكانه وإنا لا نأمن أن يملك علينا فيقتلنا فإما أن تقتله وإما أن تخرجه من بلادنا .

قال : ويحكم قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم ؟ بل أخرجه من بلادكم .

فخرجوا به فوقفوه في السوق وباعوه من تاجر من التجار قذفه في سفينة بستمائة درهم أو بسبعمائة فانطلق به .

فلما كان العشي هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يتمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته .

ففزعوا إلى ولده فإذا هم محمقون ليس في أحد منهم خير فمرج على الحبشة أمرهم فقال بعضهم لبعض : تعلمون والله أن ملككم الذي لا يصلح أمركم غيره للذي بعتم الغداة فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قبل أن يذهب .

فخرجوا في طلبه فأدركوه فردوه فعقدوا عليه تاجه وأجلسوه على سريره وملكوه .

فقال التاجر : ردوا علي مالي كما أخذتم مني غلامي . فقالوا : لا نعطيك . فقال : إذا والله لأكلمنه .

فمشى إليه فكلمه فقال : أيها الملك إني ابتعت غلاما فقبض مني الذين باعوه ثمنه ثم عدوا على غلامي فنزعوه من يدي ولم يردوا علي مالي .

فكان أول ما خبر من صلابة حكمه وعدله أن قال :

لتردن عليه ماله أو لتجعلن يد غلامه في يده فليذهبن به حيث شاء .

صفحة رقم -180-

فقالوا : بل نعطيه ماله . فأعطوه إياه .

فلذلك يقول : ما أخذ الله مني الرشوة فآخذ الرشوة حين رد علي ملكي ؟ وما أطاع الناس في فأطيع الناس فيه ؟

والذي وقع في سياق ابن إسحاق إنما هو ذكر عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة .

والذي ذكره موسى بن عقبة والأموي وغيرهما أنهما عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن المغيرة - وهو أحد السبعة الذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تضاحكوا يوم وضع سلا الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة - وهكذا تقدم في حديث ابن مسعود وأبي موسى الأشعري .

والمقصود أنهما حين خرجا من ( مكة ) كانت زوجة عمرو معه وعمارة كان شابا حسنا فاصطحبا في السفينة وكأن عمارة طمع في امرأة عمرو بن العاص

صفحة رقم -181-

فألقى عمرا في البحر ليهلكه فسبح حتى رجع إليها فقال له عمارة : لو أعلم أنك تحسن السباحة لما ألقيتك . فحقد عمرو عليه .

فلما لم يقض لهما حاجة في المهاجرين من النجاشي وكان عمارة قد توصل إلى بعض أهل النجاشي فوشى به عمرو فأمر به النجاشي فسحر حتى ذهب عقله وساح في البرية مع الوحوش .

وقد ذكر الأموي قصته مطولة جدا وأنه عاش إلى زمن إمارة عمر بن الخطاب وأنه تقصده بعض الصحابة ومسكه فجعل يقول : أرسلني أرسلني وإلا مت . فلما لم يرسله مات من ساعته . فالله أعلم .

وروى ابن إسحاق بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت :

لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور .

ورواه أبو داود عن ابن إسحاق .

صفحة رقم -182-

وقد ثبت في ( الصحيحين ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه :

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات .

وروى البخاري في ( موت النجاشي ) بسنده عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي :

( مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلوا على أخيكم ( أصحمة ) .

وروي ذلك من حديث أنس بن مالك وابن مسعود وغير واحد .

وفي بعض الروايات تسميته ( أصحمة ) وفي رواية ( مصحمة ) وهو ( أصحمة بن بحر ) وكان عبدا صالحا لبيبا ذكيا وكان عادلا عالما رضي الله عنه وأرضاه .

وقال يونس عن ابن إسحاق : اسم النجاشي ( مصحمة ) وفي نسخة صححها البيهقي : ( أصحم ) وهو بالعربية : ( عطية ) .

قال : وإنما النجاشي اسم الملك كقولك : ( كسرى ) ( هرقل ) .

قلت : كذا ولعله يريد به ( قيصر ) فإنه علم لكل من ملك الشام مع الجزيرة من بلاد الروم . و( كسرى ) علم على من ملك الفرس . و( فرعون ) علم لمن ملك مصر كافة . و( المقوقس ) لمن ملك الإسكندرية . و( تبع ) لمن ملك اليمن والشحر . و( النجاشي ) لمن ملك الحبشة . و( بطليموس ) لمن ملك اليونان وقيل : الهند . و( خاقان ) لمن ملك الترك .

وقال بعض العلماء : إنما صلى عليه لأنه كان يكتم إيمانه من قومه فلم يكن عنده يوم مات من يصلي عليه فلهذا صلى عليه .

قالوا : فالغائب إن كان قد صلي عليه ببلده لا تشرع الصلاة عليه ببلد أخرى ولهذا لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في غير ( المدينة ) لا أهل ( مكة ) ولا غيرهم . وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة لم ينقل أنه صلي على أحد منهم في غير البلدة التي صلي عليه فيها . فالله أعلم .

[ المستدرك ]

صفحة رقم -183-

عن عمير بن إسحاق قال :

قال جعفر : يا رسول الله ائذن لي أن آتي أرضا أعبد الله فيها لا أخاف أحدا . قال : قال : فأذن له فيها فأتى النجاشي .

قال عمير : حدثني عمرو بن العاص قال :

صفحة رقم -184-

لما رأيت جعفرا وأصحابه آمنين بأرض الحبشة حسدته لأستقبلن لهذا وأصحابه فأتيت النجاشي فقلت : ائذن لعمرو بن العاص . فأذن لي فدخلت فقلت : إن بأرضنا ابن عم لهذا يزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد وإنا - والله - إن لم ترحنا منه وأصحابه لا قطعت إليك هذه النطفة ولا أحد من أصحابي أبدا .

فقال : وأين هو ؟ قلت : إنه يجيء مع رسولك إنه لا يجيء معي .

فأرسل معي رسولا فوجدناه قاعدا بين أصحابه فدعاه فجاء فلما أتيت الباب ناديت : ائذن لعمرو بن العاص . ونادى خلفي : ائذن لحزب الله عز وجل . فسمع صوته فأذن له قبلي فدخل ودخلت فإذا النجاشي على السرير قال : فذهبت حتى قعدت بين يديه وجعلته خلفي وجعلت بين كل رجلين من أصحابه رجلا من أصحابي [ قال : فسكت وسكتنا وسكت وسكتنا حتى قلت في نفسي : ألعن هذا العبد الحبشي ألا يتكلم ؟ ثم تكلم ] فقال النجاشي : نجروا قال عمرو : يعني : تكلموا . قلت : إن بأرضك رجلا ابن عمه بأرضنا ويزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد . وإنك إن لم تقطعه وأصحابه لا أقطع إليك هذه النطفة أنا ولا أحد من أصحابي أبدا . [ قال : يا حزب الله نجر ] .

قال جعفر : صدق ابن عمي وأنا على دينه .

قال : فصاح صياحا وقال : أوه . حتى قلت : ما لابن الحبشية لا يتكلم . وقال : أناموس كناموس موسى ؟

صفحة رقم -185-

قال : ما تقولون في عيسى بن مريم ؟

قال : أقول : هو روح الله وكلمته .

قال : فتناول شيئا من الأرض فقال : ما أخطأ في أمره مثل هذا فوالله لولا ملكي لاتبعتكم . وقال لي : ما كنت أبالي أن لا تأتيني أنت ولا أحد من أصحابك أبدا أنت آمن بأرضي من ضربك قتلته ومن سبك غرمته .

وقال لآذنه : متى استأذنك هذا فائذن له إلا أن أكون عند أهلي فإن أبى فأذن له .

قال : فتفرقنا ولم يكن أحد أحب إلي أن ألقاه من جعفر .

قال : فاستقبلني من طريق مرة فنظرت خلفه فلم أر أحدا فنظرت خلفي فلم أر أحدا فدنوت منه وقلت : أتعلم أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ؟

قال : فقد هداك الله فاثبت . فتركني وذهب .

فأتيت أصحابي فكأنما شهدوه معي فأخذوا قطيفة أو ثوبا فجعلوه علي حتى غموني بها . قال : وجعلت أخرج رأسي من هذه الناحية مرة ومن هذه الناحية مرة حتى أفلت وما علي قشرة [ ولم يدعوا لي شيئا إلا ذهبوا به ]

فمررت على حبشية فأخذت قناعها فجعلته على عورتي .

فأتيت جعفرا فدخلت عليه فقال : ما لك ؟ فقلت : أخذ كل شيء لي ما ترك علي قشرة فأتيت حبشية فأخذت قناعها فجعلته على عورتي .

[ فقال : ]

فانطلق وانطلقت معه حتى أتى إلى باب الملك فقال جعفر لآذنه : استأذن لي . قال : إنه عند أهله . [ فقال : استأذن لي عليه . فاستأذن له ] فأذن له فقال : إن عمرا تابعني على ديني . قال : كلا . قال : بلى .

فقال لإنسان : اذهب معه فإن فعل فلا يقل شيئا إلا كتبته . قال : فجاء فقال : نعم . فجعلت أقول وجعل يكتب حتى كتب كل شيء حتى القدح .

قال : ولو شئت آخذ شيئا من أموالهم إلى مالي فعلت .

[ قال : ثم كنت بعد من الذين أقبلوا في السفن مسلمين ] .

صفحة رقم -186-

رواه الطبراني والبزار وصدر الحديث في أوله والزيادة في آخره له .

وعن أبي مالك الأشجعي قال : كنت جالسا مع محمد بن حاطب فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

صفحة رقم -187-

( إني قد رأيت أرضا ذات نخل فاخرجوا ) .

فخرج حاطب وجعفر في البحر قبل النجاشي .

قال : فولدت أنا في تلك السفينة .

رواه أحمد ( 4/259 ) وسنده صحيح .

وفي رواية له ( 3/418 و6/337 ) من طريق أخرى عن محمد بن حاطب عن أمه أم جميل بنت المجلل قالت :

أقبلت بك من أرض الحبشة حتى إذا كنت من ( المدينة ) على ليلة أو ليلتين طبخت لك طبيخا ففني الحطب فخرجت أطلبه فتناولت القدر فانكفأت على ذراعك فأتيت بك النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : بأبي وأمي يا رسول الله هذا محمد بن حاطب [ وهو أول من سمي بك ] . فتفل في فيك ومسح على رأسك ودعا لك وجعل يتفل على يدك ويقول :

( أذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما ) .

فقالت : فما قمت بك من عنده حتى برأت يدك . [ انتهى المستدرك ] .

صفحة رقم -188-

إسلام عمر بن الخطاب

قال ابن إسحاق : ولما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة على قريش ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وردهم النجاشي بما يكرهون وأسلم عمر بن الخطاب وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول الله وبحمزة حتى غاظوا قريشا .

فكان عبد الله بن مسعود يقول :

ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه .

قلت : وثبت في ( صحيح البخاري ) عن ابن مسعود أنه قال :

ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب .

وقال زياد البكائي : حدثني مسعر بن كدام عن سعد بن إبراهيم قال : قال ابن مسعود :

إن إسلام عمر كان فتحا وإن هجرته كانت نصرا وإن إمارته كانت رحمة ولقد كنا وما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه .

صفحة رقم -189-

قال ابن إسحاق : وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة .

حدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة [ عن أبيه ] عن أمه أم عبد الله بنت أبي حثمة قالت :

والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا إذ أقبل عمر فوقف وهو على شركه فقالت : وكنا نلقى منه أذى لنا وشدة علينا .

قالت : فقال : إنه للانطلاق يا أم عبد الله ؟

قلت : نعم والله لنخرجن في أرض من أرض الله - إذ آذيتمونا وقهرتمونا - حتى يجعل الله لنا مخرجا .

قالت : فقال : صحبكم الله . ورأيت له رقة لم أكن أراها ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا .

صفحة رقم -190-

قالت : فجاء عامر بحاجتنا تلك فقلت له : يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا .

قال : أطمعت في إسلامه ؟ قالت : قلت : نعم .

قال : لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب

قالت : يأسا منه لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام .

قلت : هذا يرد قول من زعم أنه كان تمام الأربعين من المسلمين فإن المهاجرين إلى الحبشة كانوا فوق الثمانين .

اللهم إلا أن يقال : إنه كان تمام الأربعين بعد خروج المهاجرين .

قلت : وقد استقصيت كيفية إسلام عمر رضي الله عنه وما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار مطولا في أول ( سيرته ) التي أفردتها على حدة ولله الحمد والمنة .

صفحة رقم -191-

قال ابن اسحاق وحدثني نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال :

لما أسلم عمر قال : أي قريش أنقل للحديث ؟

فقيل له : جميل بن معمر الجمحي .

فغدا عليه . قال عبد الله : وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت حتى جاءه فقال له : أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم ؟

قال : فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر واتبعته أنا حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش - وهم في أنديتهم حول الكعبة - ألا إن ابن الخطاب قد صبأ .

قال : يقول عمر من خلفه : كذب ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم .

قال : وطلح فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول :

افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا .

قال : فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش - عليه حلة حبرة وقميص موشى - حتى وقف عليهم فقال : ما شأنكم ؟ فقالوا : صبأ عمر

صفحة رقم -192-

قال : فمه رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون ؟ أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبكم هكذا ؟ خلوا عن الرجل .

قال : فوالله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه .

قال : فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى ( المدينة ) : يا أبت من الرجل الذي زجر القوم عنك ب ( مكة ) يوم أسلمت وهم يقاتلونك ؟

قال : ذاك أي بني العاص بن وائل السهمي .

وهذا إسناد جيد قوي وهو يدل على تأخر إسلام عمر لأن ابن عمر عرض يوم ( أحد ) وهو ابن أربع عشرة سنة وكانت ( أحد ) في سنة ثلاث من الهجرة وقد كان مميزا يوم أسلم أبوه فيكون إسلامه قبل الهجرة بنحو من أربع سنين وذلك بعد البعثة بنحو تسع سنين . والله أعلم .

صفحة رقم -193-

[ المستدرك ]

عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

( اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك : بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب ) .

قال : فكان أحبهما إليه عمر .

أخرجه الترمذي ( 3764 ) وقال : ( حديث حسن صحيح ) وابن سعد ( 3/237 ) والحاكم ( 3/83 ) وأحمد ( 2/95 ) وقال الحاكم : ( صحيح الإسناد ) ووافقه الذهبي وهو عنده من طريقين آخرين عن نافع عنه . ثم رواه هو وابن ماجه ( 105 ) من حديث عائشة وهو أيضا من حديث ابن مسعود وابن سعد ( 3/237 و242 ) من حديث عثمان بن الأرقم وسعيد بن المسيب والحسن البصري مرسلا .

وعن ابن عباس قال :

أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب .

رواه الطبراني وإسناده حسن كما في ( المجمع ) ( 9/63 ) .

وعن عمر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني لا أدع مجلسا جلسته في الكفر إلا أعلنت فيه الإسلام .

فأتى المسجد وفيه بطون قريش متحلقة فجعل يعلن الإسلام ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .

صفحة رقم -194-

فثار المشركون فجعلوا يضربونه ويضربهم فلما تكاثروا خلصه رجل .

فقلت لعمر : من الرجل الذي خلصك من المشركين ؟ قال : ذاك العاص بن وائل السهمي .

رواه الطبراني في ( الأوسط ) ورجاله ثقات كما قال الهيثمي . [ انتهى المستدرك ] .

صفحة رقم -195-

فصل

في ذكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وبني عبد المطلب في نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم

ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا مناديا بأمر الله تعالى لا يتقي فيه أحدا من الناس .

فجعلت قريش حين منعه الله منها - وقام عمه وقومه من بني هاشم وبني عبد المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به - يهمزونه ويستهزؤون به ويخاصمونه .

وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم وفيمن نصب لعداوته منهم من سمى لنا ومنهم من نزل القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار .

فذكر ابن إسحاق أبا لهب ونزول السورة فيه والعاص بن وائل ونزول قوله : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا [ مريم : 77 ] فيه وقد تقدم شيء من ذلك .

وأبا جهل بن هشام وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم : لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك

صفحة رقم -196-

الذي تعبد . ونزول قول الله فيه : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم الآية [ الأنعام : 108 ]

صفحة رقم -197-

قال ابن إسحاق : وجلس الرسول صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المجلس غير واحد من رجال قريش .

فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون [ الأنبياء : 98 - 100 ] .

ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي حتى جلس .

فقال الوليد بن المغيرة له : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم

فقال عبد الله بن الزبعرى : أما - والله - لو وجدته لخصمته فسلوا محمدا : أكل من يعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى .

فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعرى ورأوا أنه قد احتج وخاصم .

فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم . . . فأنزل الله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون [ الأنبياء : 101 - 102 ] أي : عيسى ابن مريم وعزيرا ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى .

صفحة رقم -198-

و نزل - فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله - : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون والآيات بعدها [ الأنبياء : 26 - 29 ] .

ونزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعري : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومكم منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ) [ الزخرف : 57 و58 ] .

وهذا الجدل الذي سلكوه باطل وهم يعلمون ذلك لأنهم قوم عرب ومن لغتهم أن ( ما ) لما لا يعقل فقوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون : إنما أريد بذلك ما كانوا يعبدونه من الأحجار التي كانت صور أصنام ولا يتناول ذلك الملائكة الذين زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور ولا المسيح ولا عزيرا ولا أحدا من الصالحين لأن الآية لا تتناولهم لا لفظا ولا معنى .

فهم يعلمون أن ما ضربوه بعيسى ابن مريم من المثل جدل باطل كما قال الله تعالى : ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون .

صفحة رقم -199-

ثم قال : إن هو أي : عيسى إلا عبد أنعمنا عليه أي : بنبوتنا وجعلناه مثلا لبني إسرائيل أي : دليلا على تمام قدرتنا على ما نشاء حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر وقد خلقنا حواء من ذكر بلا أنثى وخلقنا آدم لا من هذا ولا من هذا وخلقنا سائر بني آدم من ذكر وأنثى كما قال في الآية الأخرى : ولنجعله آية للناس [ مريم : 21 ] أي : أمارة ودليلا على قدرتنا الباهرة ورحمة منا نرحم بها من نشاء .

صفحة رقم -200-

وذكر ابن اسحاق الوليد بن المغيرة حيث قال : أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها ؟ ويترك أبو مسعود عمرو بن عمرو الثقفي سيد ثقيف ؟ فنحن عظيما القريتين . ونزل قوله فيه : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم والتي بعدها . [ الزخرف : 31 و32 ] .

وذكر أبي بن خلف حين قال لعقبة بن أبي معيط : ألم يبلغني أنك جالست محمدا وسمعت منه ؟ وجهي من وجهك حرام إلا أن تتفل في وجهه . ففعل ذلك عدو الله عقبة لعنه الله فأنزل الله : ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا . يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا والتي بعدها [ الفرقان : 27 - 29 ] .

قال : ومشى أبي بن خلف بعظم بال قد أرم فقال : يا محمد أنت تزعم

*************************************************************

صفحة رقم -201-

أن الله يبعث هذا بعد ما أرم ؟ ثم فته بيده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

( نعم أنا أقول ذلك يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ثم يدخلك النار ) .

وأنزل الله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم . قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم إلى آخر السورة [ يس : 78 - 83 ] .

قال : واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - وهو يطوف عند باب الكعبة الأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل فقالوا : يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر

صفحة رقم -202-

فأنزل الله فيهم : قل يا أيها الكافرون . لا أعبد ما تعبدون إلى آخرها .

قال : ووقف الوليد بن المغيرة فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله يكلمه وقد طمع في إسلامه .

فمر به ابن أم مكتوم : عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة الأعمى فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يستقرئه القرآن فشق ذلك عليه حتى أضجره وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه .

فأنزل الله تعالى : عبس وتولى . أن جاءه الأعمى إلى قوله : مرفوعة مطهرة [ عبس : 1 - 14 ] .

وقد قيل : إن الذي كان يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه ابن أم مكتوم : أمية بن خلف . فالله أعلم .

[ المستدرك ]

صفحة رقم -203-

عن علي رضي الله عنه قال :

قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : قد نعلم يا محمد أنك تصل الرحم وتصدق الحديث ولا نكذبك ولكن نكذب الذي جئت به . فأنزل الله عز وجل :

قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [ الأنعام : 36 ] .

أخرجه الترمذي ( 5058 ) والحاكم ( 2/315 ) وقال : ( صحيح على شرط الشيخين ) .

صفحة رقم -204-

وعن ابن عباس رضي الله عنهما :

( أن أبا معيط كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم ب ( مكة ) لا يؤذيه وكان رجلا حليما وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام فقالت قريش : صبأ أبو معيط .

وقدم خليله من الشام ليلا فقال لامرأته : ما فعل محمد مما كان عليه ؟ فقالت : أشد مما كان أمرا . فقال : ما فعل خليلي أبو معيط ؟ فقالت : صبا .

فبات بليلة سوء فلما أصبح أتاه أبو معيط فحياه فلم يرد عليه التحية . فقال : مالك لا ترد علي تحيتي ؟ فقال : كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت ؟

قال : أوقد فعلتها قريش ؟ قال : نعم .

قال : فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلت ؟

قال : تأتيه في مجلسه وتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلمه من الشتم

ففعل فلم يزد النبي صلى الله عليه وسلم أن مسح وجهه من البزاق ثم التفت إليه فقال :

( إن وجدتك خارجا من جبال ( مكة ) أضرب عنقك صبرا ) .

فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج .

فقال له أصحابه : اخرج معنا .

قال : قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال ( مكة ) أن يضرب عنقي صبرا .

صفحة رقم -205-

فقالوا : لك جمل أحمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه .

فخرج معهم فلما هزم الله المشركين وحل به جمله في جدد من الأرض فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيرا في سبعين من قريش وقدم إليه أبو معيط فقال : تقتلني من بين هؤلاء ؟ قال :

( نعم بما بزقت في وجهي ) .

فأنزل الله في أبي معيط : ويوم يعض الظالم على يديه إلى قوله وكان الشيطان للإنسان خذولا [ الفرقان : 27 - 29 ] .

أخرجه ابن مردويه وأبو نعيم في ( الدلائل ) بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس كما في ( الدر المنثور ) ( 5/68 ) .

وعن ابن عباس أيضا :

أن قريشا وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل ب ( مكة ) ويزوجوه ما أراد من النساء ويطؤوا عقبه فقالوا له : هذا لك عندنا يا محمد وكف عن شتم آلهتنا فلا تذكرها بسوء .

فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة فهي لك ولنا فيها صلاح .

قال : ( ما هي ؟ ) .

صفحة رقم -206-

قالوا : تعبد آلهتنا سنة : اللات والعزى ونعبد إلهك سنة . قال :

( حتى أنظر ما يأتي من عند ربي ) .

وكان لذلك سبب ذكره كثير من المفسرين عند قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم [ الحج : 52 ] .

وذكروا قصة الغرانيق وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا لئلا يسمعها من لا يضعها على مواضعها .

إلا أن أصل القصة في ( الصحيح ) .

روى البخاري دون مسلم عن ابن عباس قال :

فجاء الوحي من اللوح المحفوظ : قل يا أيها الكافرون السورة وأنزل الله : قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون إلى قوله : فاعبد الله وكن من

صفحة رقم -207-

الشاكرين [ الزمر : 64 - 66 ] .

أخرجه ابن جرير ( 30/331 ) وابن أبي حاتم والطبراني كما في ( الدر ) ( 6/404 ) وإسناده حسن . [ انتهى المستدرك ] .

صفحة رقم -208-

ثم ذكر ابن إسحاق من عاد من مهاجرة الحبشة إلى ( مكة ) .

وذلك حين بلغهم إسلام أهل ( مكة ) وكان النقل ليس بصحيح ولكن كان له سبب .

وهو ماثبت في ( الصحيح ) وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما مع المشركين وأنزل الله عليه : والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم . . . يقرؤها عليهم حتى ختمها وسجد فسجد من هناك من المسلمين والمشركين والجن والإنس .

سجد النبي صلى الله عليه وسلم ب ( النجم ) وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس .

وروى هو ومسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله ( ابن مسعود ) قال :

صفحة رقم -209-

قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : والنجم ب ( مكة ) فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصا أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال : يكفيني هذا . فرأيته بعد قتل كافرا .

وروى أحمد وعنه النسائي عن المطلب بن أبي وداعة قال :

قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ب ( مكة ) سورة ( النجم ) فسجد وسجد من عنده فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد .

ولم يكن أسلم يومئذ المطلب فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرؤها إلا سجد معه .

وقد يجمع بين هذا والذي قبله بأن هذا سجد ولكنه رفع رأسه استكبارا وذلك الشيخ الذي استثناه ابن مسعود لم يسجد بالكلية . والله أعلم .

والمقصود أن الناقل لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقد أنهم قد أسلموا واصطلحوا معه ولم يبق نزاع بينهم .

فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها فظنوا صحة ذلك

صفحة رقم -210-

فأقبل منهم طائفة طامعين بذلك وثبتت جماعة وكلاهما محسن مصيب فيما فعل .

وقال البخاري :

وقالت عائشة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين ) .

فهاجر من هاجر قبل ( المدينة ) ورجع من كان هاجر بأرض الحبشة إلى ( المدينة ) .

وفيه عن أبي موسى وأسماء رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد تقدم حديث أبي موسى ( ص 170 ) وهو في ( الصحيحين ) وسيأتي حديث أسماء بنت عميس بعد فتح ( خيبر ) حين قدم من كان تأخر من مهاجرة الحبشة إن شاء الله وبه الثقة .

وروى البخاري - واللفظ له - ومسلم وأبو داوود والنسائي عن عبد الله قال : كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا . فقلنا : يا رسول الله إنا كنا نسلم عليك فترد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي لم ترد علينا ؟ قال :

صفحة رقم -211-

( إن في الصلاة شغلا ) .

وهو يقوي تأويل من تأول حديث زيد بن أرقم الثابت في ( الصحيحين ) :

كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى : وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام .

على أن المراد جنس الصحابة فإن زيدا أنصاري مدني وتحريم الكلام في الصلاة ثبت ب ( مكة ) فتعين الحمل على ما تقدم .

وأما ذكره الآية - وهي مدنية - فمشكل ولعله اعتقد أنها المحرمة لذلك وإنما كان المحرم له غيرها معها . والله أعلم .

صفحة رقم -212-

ذكر عزم الصديق على الهجرة إلى أرض الحبشة

قال ابن إسحاق : وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه - كما حدثني محمد بن مسلم الزهري عن عروة عن عائشة - حين ضاقت عليه ( مكة ) وأصابه فيها الأذى ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له .

فخرج أبو بكر رضي الله عنه مهاجرا حتى إذا سار من ( مكة ) يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة - أخو بني الحارث بن يزيد أحد بني بكر بن عبد مناة بن كنانة - وهو يومئذ سيد الأحابيش .

[ قال ابن إسحاق : و( الأحابيش ) : بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة والهون بن خزيمة بن مدركة وبنو

المصطلق من خزاعة .

قال ابن هشام : تحالفوا جميعا فسموا الأحابيش لأنهم تحالفوا بواد يقال له : ( الأحبش ) بأسفل ( مكة ) للحلف ] .

فقال [ ابن الدغنة ] : إلى أين يا أبا بكر ؟

قال : أخرجني قومي وآذوني وضيقوا علي .

قال : ولم ؟ والله إنك لتزين العشيرة وتعين على النوائب وتفعل المعروف وتكسب المعدوم ارجع فإنك في جواري .

فرجع معه حتى إذا دخل ( مكة ) قام معه ابن الدغنة فقال : يا معشر قريش إني قد أجرت ابن أبي قحافة فلا يعرض له أحد إلا بخير .

صفحة رقم -213-

قال : فكفوا عنه .

قالت : وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح فكان يصلي فيه وكان رجلا رقيقا إذا قرأ القرآن استبكى .

قالت : فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته .

قال : فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة فقالوا : يا ابن الدغنة إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا إنه رجل إذا صلى وقرأ يرق وكانت له هيئة ونحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم فأته فمره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء .

قالت : فمشى ابن الدغنة إليه فقال : يا أبا بكر إني لم أجرك لتؤذي قومك وقد كرهوا مكانك الذي أنت به وتأذوا بذلك منك فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت .

قال : أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله .

قال : فاردد علي جواري . قال : قد رددته عليك .

قال : فقام ابن الدغنة فقال : يا معشر قريش إن ابن أبي قحافة قد رد علي جواري فشأنكم بصاحبكم .

وقد روى الإمام البخاري هذا الحديث منفردا به وفيه زيادة حسنة

صفحة رقم -214-

أخرجه عن عقيل : قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت :

لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار : بكرة وعشية فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ ( برك الغماد ) لقيه ابن الدعنة وهو سيد ( القارة ) فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟

فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي .

فقال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق وأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلدك .

فرجع وارتحل معه ابن الدغنة وطاف ابن الدغنة في أشراف قريش فقال لهم : إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق ؟

فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا .

فقال ابن الدغنة ذلك لأبي بكر .

صفحة رقم -215-

فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره .

ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذف [ عليه ] نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاءا لا يملك عينه إذا قرأ القرآن .

فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا : إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن الصلاة والقراءة فيه وإنا قد خشينا أن يفتتن أبناؤنا ونساؤنا فانهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان .

قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال : قد علمت الذي قد عاقدتك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له .

فقال أبو بكر : فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل .

ثم ذكر تمام الحديث في هجرة أبي بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي مبسوطا .

صفحة رقم -216-

فصل

وقد ذكر محمد بن إسحاق رحمه الله قصة الطفيل بن عمرو الدوسي مرسلة بدون إسناد .

وكان سيدا مطاعا شريفا في ( دوس ) وكان قد قدم ( مكة ) فاجتمع به أشراف قريش وحذروه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهوه أن يجتمع به أويسمع كلامه .

روى الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة قال :

لما قدم الطفيل وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن دوسا قد استعصت [ وأبت فادع الله عليهم . فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة ورفع يديه فقال الناس : هلكوا ] قال :

( اللهم اهد دوسا وائت بهم [ اللهم اهد دوسا وائت بهم ] ) .

صفحة رقم -217-

قصة مصارعة ركانة

روى أبو داود والترمذي عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة عن أبيه :

أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال الترمذي : ( غريب ) .

قلت : وقد روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما :

أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل مرة على مائة من الغنم فلما كان في الثالثة قال : يا محمد ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك وماكان أحد أبغض إلي منك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله .

فقام عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عليه غنمه .

صفحة رقم -218-

قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد فجلس إليه المستضعفون من أصحابه : خباب وعمار وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية وصهيب وأشباههم من المسلمين هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض : هؤلاء أصحابه كما ترون أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى ودين الحق ؟ لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه وما خصهم الله به دوننا

فأنزل الله عز وجل فيهم : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين . وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين . وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم [ الأنعام : 52 - 54 ] .

قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له : جبر عبد لبني الحضرمي وكانوا يقولون : والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر .

فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم : إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ النحل : 103 ] .

ثم ذكر نزول سورة ( الكوثر ) في العاص بن وائل حين قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه أبتر . أي : لا عقب له فإذا مات انقطع ذكره فقال الله تعالى : إن شانئك هو الأبتر .

أي : المقطوع الذكر بعده ولو خلف ألوفا من النسل والذرية وليس الذكر والصيت ولسان الصدق بكثرة الأولاد والأنسال والعقب . وقد تكلمنا على هذه السورة في ( التفسير ) ولله الحمد .

صفحة رقم -219-

[ ثم روى ابن إسحاق ( 2/35 ) بإسناده الصحيح عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل له : يا رسول الله ما الكوثر الذي أعطاك الله ؟ قال :

( نهر كما بين ( صنعاء ) إلى ( أيلة ) آنيته كعدد نجوم السماء ترده طيور لها أعناق كأعناق الإبل ) .

قال : يقول عمر بن الخطاب : إنها يا رسول الله لناعمة . قال :

( أكلها أنعم منها ) .

صفحة رقم -220-

قال ابن إسحاق :

وقد سمعت في هذا الحديث أو غيره أنه قال صلى الله عليه وسلم :

( من شرب منه لا يظمأ أبدا ) ] .

قلت : وقال الله تعالى : ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين [ الأنعام : 34 ] .

وقال تعالى : إنا كفيناك المستهزئين [ الحجر : 95 ] .

قال سفيان : عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :

المستهزؤون : الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب أبو زمعة والحارث بن عيطل والعاص بن وائل السهمي .

فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراه الوليد فأشار جبريل إلى أكحله وقال : كفيته .

صفحة رقم -221-

ثم أراه الأسود بن المطلب فأومأ إلى عينيه وقال : كفيته .

ثم أراه الحارث بن عيطل فأومأ إلى بطنه وقال : كفيته .

ومر به العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه وقال : كفيته .

فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا له فأصاب أكحله فقطعها .

وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها .

وأما الأسود بن المطلب فعمي وكان سبب ذلك أنه نزل تحت سمرة فجعل يقول : يا بني ألا تدفعون عني ؟ قد قتلت فجعلوا يقولون : ما نرى شيئا . وجعل يقول : يا بني ألا تمنعون عني ؟ قد هلكت ها هو ذا الطعن بالشوك في عيني . فجعلوا يقولون : ما نرى شيئا . فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه .

وأما الحارث بن عيطل فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها .

وأما العاص بن وائل فبينما هو كذلك يوما إذ دخل في رجله شبرقة حتى امتلأت منها فمات منها .

وقال غيره في هذا الحديث .

فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة ( يعني : شوكة ) فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته .

رواه البيهقي بنحو من هذا السياق .

[ المستدرك ]

صفحة رقم -222-

عن خباب قال :

جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم فأتوه فخلوا به وقالوا : إنا نريد أن تجعل

صفحة رقم -223-

لنا مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت . قال :

( نعم ) .

قالوا : فاكتب لنا عليك كتابا .

قال : فدعا بصحيفة ودعا عليا ليكتب - ونحن قعود في ناحية - فنزل جبرائيل عليه السلام فقال : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين [ الأنعام : 52 ] .

ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فقال : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين [ الأنعام : 53 ] .

ثم قال : وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة [ الأنعام : 54 ] [ فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ثم دعانا ] .

قال : فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته [ وهو يقول : سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ] .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد

صفحة رقم -224-

عيناك عنهم : ولا تجالس الأشراف تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا يعني : عيينة والأقرع واتبع هواه وكان أمره فرطا : قال : هلاكا قال : أمر عيينة والأقرع ثم ضرب لهم مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا .

قال خباب : فكنا نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم .

أخرجه ابن ماجة ( 4127 ) والسياق له وابن جرير ( 7/201 ) وابن أبي شيبة أيضا وأبو يعلى وأبو نعيم في ( الحلية ) وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في ( الدلائل ) كما في ( الدر المنثور ) ( 3/13 ) وإسناده صحيح كما قال البوصيري . وله شاهد عن ابن مسعود مختصرا . أخرجه أحمد ( 1/420 ) وابن جرير ( 7/200 ) من طريق أشعث عن كردوس الثعلبي عنه . وسنده صحيح إن كان أشعث بن أبي الشعثاء . ثم ترجح عندي أنه ابن سوار وفيه ضعف لأنه ممن رواه عن حفص بن غياث .

عن سعد قال :

كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد هؤلاء لا يجترؤون علينا .

قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه [ الأنعام : 52 ] .

صفحة رقم -225-

أخرجه مسلم ( 2413 ) وابن ماجه ( 4128 ) وابن جرير ( 7/202 ) والحاكم ( 3/319 ) وقال : ( صحيح على شرط الشيخين ) ووافقه الذهبي وعزاه المؤلف في ( التفسير ) لابن حبان والحاكم فقط وعزاه في ( الدر ) ( 3/13 ) لجمع آخر منهم أحمد ولم أره في ( مسنده ) .

وعن ابن عباس قال :

لما قدم كعب بن الأشرف ( مكة ) أتوه فقالوا له : نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيد أهل ( المدينة ) فنحن خير أم هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ؟ قال : بل أنتم خير منه فنزلت عليه : إن شانئك هو الأبتر .

قال : وأنزلت عليه : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل . والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا [ النساء : 44 و45 ] .

أخرجه ابن جرير في ( التفسير ) ( 30/330 ) بإسناد صحيح رجاله رجال ( الصحيح ) وقال المؤلف في ( التفسير ) : ( رواه البزار وإسناده صحيح ) . وفي ( المجمع ) ( 7/6 ) : ( رواه الطبراني وفيه يونس بن سليمان الجمال ولم أعرفه وبقية رجاله رجال ( الصحيح ) .

قلت : قد توبع عند الأولين فصح الحديث والحمد لله . [ انتهى المستدرك ] .

صفحة رقم -226-

فصل

وذكر البيهقي ها هنا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قريش حين استعصت عليه بسبع مثل سبع يوسف .

وأورد ما أخرجاه في ( الصحيحين ) عن ابن مسعود قال :

خمس [ قد ] مضين : اللزام والروم والدخان والبطشة والقمر .

وفي رواية عن ابن مسعود قال :

إن قريشا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطؤوا عن الإسلام قال :

( اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ) .

قال : فأصابتهم سنة حتى حصت كل شيء حتى أكلوا الجيف وحتى أن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع ثم دعا فكشف الله عنهم ثم قرأ عبد الله هذه الآية : إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون [ الدخان : 15 ] .

قال : فعادوا فكفروا فأخروا إلى يوم بدر .

صفحة رقم -227-

قال عبد الله : إن ذلك لو كان يوم القيامة كان لا يكشف عنهم يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون [ الدخان : 16 ] قال : يوم بدر .

وفي رواية عنه قال :

لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدبارا قال :

( اللهم سبع كسبع يوسف ) .

فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام فجاءه أبو سفيان وناس من أهل ( مكة ) فقالوا : يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم .

صفحة رقم -228-

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر فقال :

( اللهم حوالينا ولا علينا ) .

فانحدرت السحابة عن رأسه فسقي الناس حولهم .

قال : لقد مضت آية الدخان وهو الجوع الذي أصابهم وذلك قوله : إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون [ الدخان : 15 ] . وآية الروم والبطشة الكبرى وانشقاق القمر وذلك كله يوم بدر .

صفحة رقم -229-

قال البيهقي : يريد - والله أعلم - البطشة الكبرى والدخان وآية اللزام كلها حصلت ب ( بدر ) .

قال : وقد أشار البخاري إلى هذه الرواية .

ثم أورد من حديث ابن عباس قال :

جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث من الجوع لأنهم لم يجدوا شيئا حتى أكلوا العهن فأنزل الله تعالى : ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون [ المؤمنون : 76 ] .

قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرج الله عنهم .

ثم قال الحافظ البيهقي :

وقد روي في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك بعد الهجرة ولعله كان

صفحة رقم -230-

مرتين . والله أعلم .

[ المستدرك ]

عن أبي بن كعب أنه قال :

صفحة رقم -231-

في هذه الآية : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر [ السجدة : 21 ] قال :

المصيبات في الدنيا - قال : - والدخان قد مضى والبطشة واللزام .

أخرجه مسلم ( 2799 ) وابن جرير ( 21/108 ) وأحمد في ( المسند ) ( 5/128 ) وصححه الحاكم ( 4/428 ) . [ انتهى المستدرك ] .

صفحة رقم -232-

فصل ثم أورد البيهقي قصة فارس والروم ونزول قوله تعالى : ألم . غلبت الروم . في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون . في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون . بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم [ الروم : 1 - 5 ] .

ثم روى عن ابن عباس قال :

كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل الكتاب وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :

( أما إنهم سيظهرون ) .

فذكر ذلك أبو بكر للمشركين فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا إن ظهروا كان لك كذا وكذا وإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا . [ فجعل أجلا خمس سنين فلم يظهروا ] .

فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :

( ألا جعلته - أراه قال : - دون العشر ؟ ) .

فظهرت الروم بعد ذلك .

صفحة رقم -233-

وقد أوردنا طرق هذا الحديث في ( التفسير ) وذكرنا أن المناحب - أي : المراهن - لأبي بكر أمية بن خلف وأن الرهن كان على خمس قلائص وأنه كان إلى مدة فزاد فيها الصديق عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الرهن وأن غلبة الروم على فارس كان يوم بدر أو كان يوم الحديبية . فالله أعلم .

صفحة رقم -234-

فصل في الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ثم عروجه من هناك إلى السماوات وما رأى هناك من الآيات

ذكر ابن عساكر أحاديث الإسراء في أوائل البعثة وأما ابن إسحاق فذكرها في هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين وهو الأظهر .

وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في ذلك مستقصاة عند قوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير [ الإسراء : 1 ] .

فلتكتب من هناك على ما هي عليه من الأسانيد والعزو والكلام عليها ومعها ففيها مقنع وكفاية . ولله الحمد والمنة .

قلت المدون هذا اخر ما جاء في السيرة التي حققها الشيخ الالباني في كتاب صحيح السيرة النبوية والحمد الله علي كل الاحوال وله الحمد في الاولي والاخرة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج2. باقي صحيح السيرة النبوية تحقيق الشيخ الألباني مراجع ومدقق {من 130. الي234.}

  ج2. صحيح السيرة {ج2. باقي صحيح السيرة النبوية  تحقيق  الشيخ الألباني مراجع ومدقق {من 130. الي234.} صفحة رقم -130 - قال : قلت : من غف...