السؤال باسم الله الأعظم

وسمع آخر يقول في تشهده أيضا : ( أبو داود والنسائي وأحمد والبخاري في الأدب المفرد ) ( اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت [ وحدك لا شريك لك ] [ المنان ] [ يا ] بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم [ إني أسألك ] [ الجنة وأعوذ بك من النار ] . [ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( تدرون بما دعا ؟ ) قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ( والذي نفسي بيده ] لقد دعا الله باسمه العظيم ( وفي رواية : الأعظم ) الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى}

الثلاثاء، 13 فبراير 2024

.4.ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها الباب الثالث: دِرَاسَةُ جملة من الأحاديث المختارة مِمَّا تَكَلَّم عَلَيه ابن القَيِّم

 


ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية 

وعلومها

الباب الثالث: دِرَاسَةُ جملة من الأحاديث

 المختارة مِمَّا تَكَلَّم عَلَيه ابن القَيِّم

وهي أحاديث تناولها ابن القَيِّم - رحمه الله - بالدراسة في كتبه، وحكم عليها: بالصحة، أو الضعف، أو غير ذلك من أحكام.

وقد حرصت في انتقاء هذه الأحاديث على أن تكون شاملةً لجملة متنوعة من أحكام ابن القَيِّم الحديثية، مع اشتمالها - كذلك - على أكبر قدر ممكن من الكلام على العلل الحديثية المختلفة، وكيفيةِ تعاملِ ابن القَيِّم - رحمه الله - معها.

فيجدُ الناظر في هذه الأحاديث: كلامَ ابن القَيِّم في الحكم على الحديث ابتداء، ويجد كَلامَهُ في تَعَقُّبِ بعض الأحكام الحديثية لآخرين، ويجد - أيضاً - تناول ابن القَيِّم لعلل بعض الأحاديث، وكذا أجوبته عن عللٍ لأحاديث أخرى لا يراها معلولة.

وبذلك تمثل هذه الدراسة لهذه المجموعة من الأحاديث: جملةً من المناقشات العلمية الحديثية التي كان ابنُ القَيِّم طرفاً رئيساً فيها.

الهدف من جمع هذه الأحاديث ودراستها:

وقد قَصَدتُ من وراءِ دراسة هذه الأحاديث:

1- أَنْ يَكون ذلك بِمَثابة تطبيقٍ عَمَلِيٍّ على ما تَقَدَّمَ بيانُه من منهج ابنِ القَيِّم وآرائه في الحديث وعلومه.

(2/76)

2- تُمَثِّلُ هذه الدراسة محاولةً لجمع شتات ما تَفَرَّقَ من أحكام ابن القَيِّم الحديثية في كُتُبه المختلفة، على أَنَّ ذلك يُعَدُّ مرحلةً أولى في سبيلِ إخراج "موسوعة ابن القَيِّم الحديثية" كاملة.

3- تسهيل الوصول إلى البُغْيَةِ من هذه الأحكام بأيسر طريق؛ إذ إِنَّ استخراجَ ذلك من كُتُبِهِ - مع كثرتها، وتنوع مباحثها، وعدم توافر فهارس دقيقة لها - لا يَتِمُّ إلا بعسرٍ ومشقة.

4- كما أن ذلك يتيحُ الفرصةَ لدراسةِ أحكام ابن القَيِّم دراسةً مُقَارَنَةً بأحكامِ غَيْرِهِ من أئمة هذا الشأن وَنُقَّادِهِ، فيُعْرَفُ بذلك مكانه بينهم، ومكانته في هذا الفن.

5- ويمثل ذلك - أيضاً - خدمةً حديثيةً جليلة لعددٍ هائلٍ من كُتُبِ ابن القَيِّم رحمه الله؛ وذلك: بتخريج أَحَادِيثِها، والحكمِ عليها؛ إذ إن كثيراً من كُتُبِ ابن القَيِّم لم تُخْدَمْ من الناحية الحديثية.

6- وأخيراً: فإن هذه المحاولة لجمع ودراسةِ أحكام ابن القَيِّم الحديثية، قد تُسْهِم في إضافة مَرْجَعٍ مُهِمٍّ إلى جملة المراجع في باب الدِّراسة الحديثية النقدية.

منهجي في دراسة هذه الأحاديث:

وقد اتَّبَعْتُ في دراسة هذه الأحاديث الخطوات التالية:

1- رَتَّبْتُ هذه الأحاديث على كتب الفقه وأبوابه المعروفة، تسهيلاً لمراجعتها وحصول البغية منها.

(2/77)

2- لَمْ أَلْتَزِم في ذلك استيعاب كُلِّ أبوابِ الفقه المشهورة، ولكنني - مع ذلك - حرصت على استيعاب أكبر قدر منها.

3- وَقَد رَقَّمْتُ هذه الأحاديث ترقَيِّماً تسلسلياً، وكذا رقمتُ الكتبَ الفقهية، والأبوابَ الواردة تحتَ كُلِّ كتابٍ.

4- أَبْدَأ بذكر متن الحديث المراد دراسته، مقتصراً على ذكر صَحَابِيِّه فقط.

5- وَكثيراً ما يذكرُ ابن القَيِّم طرفاً من الحديث، أو يذكره بمعناه، أو يشير إليه، وقد التزمت في ذلك كُلِّهِ بسياق لفظ الحديث كاملاً من مصادره الأصلية، مع التنبيه على المصدر الذي سقت لفظه.

6- ثم أُتْبِعُ ذلك بنقلِ كلام ابن القَيِّم وحُكْمِهِ على الحديث، فإذا كان كلامه على الحديث طويلاً، فإنني ألخصه، ذاكراً من ذلك النقاط الأساسية في كلامه.

7- ثم انتقلُ إلى تخريج الحديث من دواوين السنة المشهورة، ولم التزم في ذلك باستيعاب المصادِرِ التي خَرَّجَتْ الحديث، وَإِنَّمَا أَكْتَفِي - في الغالب - بأمهات كتب الحديث: من سنن، ومسانيد، ومعاجم وغيرها.

8- في الترجمة لرجال الإسناد: لم أترجم إلا لمن تدعو الحاجة إلى ترجمته، ممن يكون - في الغالب - مُضَعَّفَاً، أو مُخْتَلَفَاً في توثيقه وتضعيفه، وقد أترجم لبعض الثِّقَاتِ من غير المجمع عليهم من باب التعريف بهم.

(2/78)

9- وقد اكتفيتُ في الترجمة لرجال الإسناد: بـ (تقريب التهذيب) للحافظ ابن حجر، ولا أخرجُ عنه إلا لضرورة، كأن يكون الرَّجُلُ مختلفاً فيه، فأنقل أقوال الأئمة في ذلك، أو عندما يُخَالَف ابن حجر في حكمه، وكذا عندما لا يكون الرجل من رجال (التقريب) .

10- أعرضُ حكمَ ابن القَيِّم على ما حَكَمَ به أَئِمَّةُ الشأن على الحديث، وأُرَجِّحُ - عند الاختلاف - ما أراه الصواب، وذلك بحسب ما يظهر لي أن الأدلَّة في جانبه، وذلك على ضوء قواعد أهل الفن.

11- قد أسوقُ بعض المتابعات والشواهد لبعض الأحاديث إذا دَعَتْ الحاجة إلى ذلك.

12- ثم أذكر - في نهاية المطاف - خلاصةَ البحث في الحكم على الحديث، موضحاً ما تَرَجَّحَ لديّ من خلال الدراسة.

13- لم أتعرضْ في دراستي هذه لشيءٍ من الأحاديث الْمُخَرَّجَةِ في الصحيحين أو أحدهما، وإن كان لابن القَيِّم حُكْمٌ عليها.

14- وقد استعملتُ رموزاً للدلالة على بعض المصادر الحديثية وغيرها عند التخريج، وذلك من باب الاختصار، وقد سبق ذكر هذه الرموز في أول الكتاب1.

__________

1 انظر: (1/22 - 23) .

(2/79)

من كتاب الطهارة

1ـ باب ما جاء في الرخصة في استقبال القبلة عند الحاجة

...

- من كتاب الطهارة

1- باب ما جاء في الرخصة في استقبال القبلة عند قضاء الحاجة

1- (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُوِلِ الله صلى الله عليه وسلم قَومٌ يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا بِفُرُوجِهِمُ القِبْلَةَ. فَقَال: "أُرَاهُمْ قَدْ فَعَلُوهَا، اسْتَقْبِلُوا بِمَقْعَدَتِي القِبْلَة" 1.

أوردَ ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في كتابيه: (زاد المعاد) 2، و (تهذيب السنن) 3، وذكر أنه ضعيف بجملة أمور:

- أولها: أنه مضطرب.

- ثانيها: أنه منقطع.

- ثالثها: أن الصواب فيه الوقف.

- رابعها: ضَعفُ "خالد بن أبي الصَّلْت" في إسناده.

قلت: هذا الحديث مداره على: خالد4 الحَذَّاء، عن خالد بن أبي الصَّلْت5، عن عراك بن مالك6، عن عائشة رضي الله عنها به. ورواه عن خالد الحَذَّاء جماعة:

__________

1 أي: حَوِّلوا موضع قضاء حاجتي إلى جهة القبلة؛ لبيان جواز ذلك في البيوت، وليزول ما في قلوبهم من الإنكار لذلك.

(2/ 384) .

(1/ 22-23) .

4 ابن مهران، أبو المنازل، البصري، الحَذَّاء ... ثقة يرسل، من الخامسة، أشار حماد بن زيد إلى أن حفظه تَغَيَّرَ لَمَّا قَدِم من الشام / ع. (التقريب 191) .

5 البصري، مدني الأصل، كان من جهة عمر بن عبد العزيز بواسط، مقبول، من السادسة / ع. (التقريب 188) .

6 الغفاري، الكناني، المدني، ثقة فاضل، من الثالثة، مات في خلافة يزيد بن عبد الملك، بعد المائة/ع. (التقريب 388) .

(2/83)

منهم: حماد بن سلمة، فرواه أبو داود الطيالسي1 عن حماد. وأخرجه أحمد2، وابن ماجه3، والدارقطني4 عن وكيع.

وأخرجه الدارقطني في (سننه) 5 عن يحيى بن إسحاق. وأخرجه أحمد في (مسنده) 6 عن بَهْز7. كُلُّهُم عن: حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء بالإسناد الماضي ذكره.

وألفاظهم بنحو لفظ ابن ماجه الذي صَدَّرْنَا به البحث، إلا رواية بهز عند أحمد ففيها قول خالد بن أبي الصلت: ذكروا عند عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - استقبال القبلة بالفُرُوجِ، فقال عراك بن مالك: قالت عائشة ... الحديث.

وتابع حمادَ بن سلمة على هذه الرواية: عليُّ بن عاصم8، عن خالد الحَذَّاء، بالإسناد المتقدم، أخرجه: أحمد في (مسنده) 9، والدارقطني10،

__________

1 المسند: (ح 1541) .

2 المسند: (6/ 137) .

(1/ 117) ح 324، باب الرخصة في ذلك في الكنيف ... واللفظ الذي ذكرته لفظه.

4 السنن: (1/ 60) ح 7.

(1/ 60) ح 7.

(6/ 219) .

7 ابن أسد العمي، أبو الأسود البصري، ثقة ثبت، من التاسعة، مات بعد المائتين، وقيل قبلها / ع. (التقريب 128) .

8 ابن صهيب الواسطي، التيمي مولاهم، صدوق يُخْطِئ وَيُصِرُّ، وَرُمِيَ بِالتَّشَيُّع، من التاسعة، مات سنة 201 هـ / د ت ق. (التقريب 403) .

(6/ 184) .

10 (1/ 59 - 60) ح 6.

(2/84)

والبيهقي1 في (سننيهما) ، ولفظه عندهم عن خالد بن أبي الصَّلْت أنه قال: "كنت عند عمر بن عبد العزيز في خلافته، وعنده عراك بن مالك، فقال عمر: ما استقبلت القبلة ولا استدبرتُهَا ببولٍ ولا غائطٍ منذ كذا وكذا. فقال عراك: حَدَّثَتْنِي عائشة ... فذكره. قال البيهقي عقبه: "تابعه حماد بن سلمة في إقامة إسناده ... " يشيرُ إلى رواية حماد التي رواها عنه الجماعة المتقدمون، والتي توافق رواية علي بن عاصم هذه.

ورواه أبو عوانة، والقاسم بن مطيب2، ويحيى بن مطر، ثلاثتهم: عن خالد الحَذَّاء، عن عراك بن مالك عن عائشة به. أخرجه الدارقطني في (سننه) 3 عنهم هكذا بإسقاط "خالد بن أبي الصَّلْت" من الإسناد، ثم نَبَّهَ - رحمه الله - على سقوط ابن أبي الصَّلْت، فقال: "بين خالد وعراك: خالد بن أبي الصَّلْت".

ثم أخرجَ رواية حماد بن سلمة، وعلي بن عاصم المتقدمتين، ثم قال: "وهذا أَضْبَطُ إسنادٍ، وزاد فيه خالد بن أبي الصلت، وهو الصواب"4.

ورواه عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن رجل، عن عراك، عن عائشة به. أخرجه كذلك الدارقطني في (سننه) 5، فجعل مكان خالد ابن أبي الصلت: "عن رجل".

__________

(1/ 92- 93) .

2 العجلي، البصري، فيه لين، من الخامسة / بخ. (التقريب 452) .

(1/ 59) ح 3، 4، 5.

4 سنن الدارقطني: (1/60) .

(1/60) ح 8.

(2/85)

فهذه بعض أوجه الاختلاف في إسناد هذا الحديث، وقد أُعِلَّ لذلك بالاضطراب، فقال البخاري لَمَّا سَأَلَهُ عنه الترمذي: "هذا حديث فيه اضطراب"1.

ولكن عند التأمل نجدُ أنه يمكنُ ترجيحُ رواية حماد بن سلمة، وعلي ابن عاصم: عن خالد الحذاء، عن خالد بن أبي الصلت، عن عراك، عن عائشة. وقد مضى معنا أن الدارقطني صوب هذه الرواية، وقال إنه "أضبط إسناد".

وأما العِلَّة الثَّانية، وهي أنه منقطعٌ: فقد سألَ ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث، فقال: "مرسل". فقال له: عراك بن مالك قال: سمعت عائشة رضي الله عنها؟ فأنكره، وقال: "عراك بن مالك؟! من أين سمع عائشة؟! ما له ولعائشة، إنما يروى عن عروة، هذا خطأٌ. قال لي: من روى هذا؟ قلت: حمادُ بن سلمة، عن خالد الحذاء. فقال: رواه غير واحد عن خالد الحذاء، ليس فيه "سمعت"، وقال غير واحد أيضاً: عن حماد بن سلمة، ليس فيه: سمعت"2. ونقل العلائي في (جامع التحصيل) 3 أن أحمد بن حنبل - رحمه الله - حَكَمَ عليه بذلك، وسأله عنه الأثرم، فقال قولاً قريباً من قول أبي حاتم رحمهما الله تعالى.

وأما العِلَّة الثالثة، وهي أن الصواب وقفه على عائشة: فقد

__________

1 علل الترمذي: (1/90) .

2 علل ابن أبي حاتم: (ص 162 - 163) .

(ص 288) ترجمة عراك بن مالك.

(2/86)

حكم عليه بذلك البخاري وأبو حاتم رحمهما الله، قال البخاري: "والصحيح: عن عائشة، قولها"1. وسأل ابن أبي حاتم أباه عنه، فقال: "فلم أزل أقفو أثر هذا الحديث، حتى كتبت بمصر عن إسحاق بن بكر بن مضر أو غيره، عن بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عروة، عن عائشة موقوف. وهذا أشبه"2.

وأشار البخاري - رحمه الله - إلى هذه الرواية في (التاريخ الكبير) 3، ثم قال: "وهذا أصحُّ". وكذا رَجَّحَ رواية الوقف ابن عساكر رحمه الله، ونَقَلَهُ عنه الشيخ الألباني في (السلسلة الضعيفة) 4.

قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في تأكيده لهذه العلة: "وقال بعض الحُفَّاظ: هذا حديث لا يصحُّ، وله عِلَّةٌ لا يدركها إلا المعتنون بالصناعة، المُعَانُون عليها؛ وذلك أنَّ خالد بن أبي الصَّلْت لم يحفظ متنه، ولا أقامَ إسنَادَهُ. خَالَفَهُ فيه الثقة الثبت، صاحب عِراك بن مالك المختصُّ به، الضابط لحديثه: جعفر بن ربيعة الفقيه، فرواه عن عراك، عن عروة، عن عائشة: أنها كانت تنكر ذلك وجعفر بن ربيعة هو الحجة في عراك بن مالك"5.

__________

1 علل الترمذي: (1/ 91) .

2 علل ابن أبي حاتم: (1/ 29) ح 50.

(2/1/ 156) .

(1/ 356) .

5 تهذيب السنن: (1/ 22) .

(2/87)

وأما العِلَّة الرابعة، وهي ضعفُ خالد بن أبي الصَّلْت: فقال أحمد بن حنبل: "ليس معروفاً"1. وقال عبد الحق: "ضعيف"2. وقال ابن حزم: "حديث ساقط، وخالد بن أبي الصلت مجهول، لا يُدْرَى من هو؟ "3. وقال الذهبي: "لا يَكَاد يُعْرَف"4. وَوَثَّقَهُ ابن حبان على قاعدته المعروفة5. وقد سَبَقَ حُكمُ الحافظ ابن حجر عليه بأنه "مقبول" يعني إذا تُوبع، وإلا فلين الحديث، وهو لم يُتَابِع، بل خَالَفَهُ جعفر بن ربيعة كما مضى، فتكون روايته منكرة كما سيأتي.

فَتَحَصَّلَ من ذلك: أن هذا الحديث ضعيف لا تقوم به حُجَّة، وقد تقدمت أقوال العلماء في إعلاله وتضعيفه، وهذا ما ذَهَبَ إليه ابن القَيِّم رحمه الله، فأصاب.

ومن الأحاديث التي تناولها ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب أيضاً:

2- (2) عن جابر رضي الله عنه قال: "نَهَى نَبِيُّ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ بِبَولٍ، فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أن يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا".

ساق ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (زاد المعاد) 6 مُبَيِّناً أنه

__________

1 تهذيب التهذيب: (3/ 98) .

2 المصدر السابق.

3 المحلى: (1/ 261) .

4 الميزان: (1/ 632) .

5 الثقات: (6/ 252) .

(2/ 385) .

(2/88)

لا يعارضُ أحاديثَ المنع؛ لأنه ما بَين معلولِ السَّنَد، أو ضعيف الدلالة.

ثم نقل عن الترمذي أنه اسْتَغْرَبَهُ بعد تحسينه، وأن البخاري صَحَّحَهُ، ثم قال: "فإن كان مرادُ البخاري صِحَّتَهُ عن ابن إسحاق، لم يدل على صِحَّتِه في نفسه، وإن كان مراده صِحَّته في نفسه، فهي واقعةُ عَين ... ".

ثم ذَكَر الحديث في (تهذيب السنن) 1، وذكر أن ابن حزم ضَعَّفَهُ بجهالة أبان بن صالح، ثم نقل كلاماً لابن مُفَوِّز في الرد على ابن حزم وتوثيق أبان بن صالح، لكنه انفرد به ابن إسحاق ولا يحتجُّ به في الأحكام.

ثم قال ابن القَيِّم: "وهو - لو صحَّ - حكاية فعل لا عموم لها فكيف يُقَدَّم على النصوص الصحيحة الصريحة بالمنع".

قلت: هذا الحديثُ أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في (سننهم) 2، وأحمد في (مسنده) 3، وابن الجارود في (المنتقى) 4، وابن خزيمة وابن حبان في (صحيحيهما) 5، والدارقطني والبيهقي في

__________

(1/ 22) .

2 د: (1/ 21) ح 13 باب الرخصة في ذلك (يعني استقبال القبلة عند قضاء الحاجة) . ت: (1/ 15) ح 9، باب الرخصة في ذلك. جه: (1/ 117) ح 325، باب الرخصة في ذلك في الكنيف، وإباحته دون الصحاري. ثلاثتهم في كتاب الطهارة.

(3/ 360) .

(ص 21) ح 31.

5 خز: (1/ 34) ح 58. حب: الإحسان (2/ 346) ح 1417. ذكر خبر أوهم من لم يحكم صناعة الحديث أنه ناسخ للزجر ...

(2/89)

(سننيهما) 1، والحاكم في (المستدرك) 2، كلهم من طريق:

محمد بن إسحاق3، عن أبان بن صالح4، عن مجاهد5 عن جابر به. ولفظهم هو الذي سُقْنَاه أول البحث، إلا أن لفظه عند أحمد، وابن الجارود، وابن حبان، والدارقطني: "كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قد نَهَانَا أن نَسْتَدْبِر القِبْلَةَ أو نَسْتَقْبِلَهَا بِفُرُوجِنَا إذا أهرقنا الماء. قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة".

وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعلل، وهي:

1- عنعنة ابن إسحاق وهو مُدَلِّس، ومن أجل ذلك توقف فيه النووي - رحمه الله - في (كلامه على سنن أبي داود) - ونقله عنه صاحب (البدر المنير) 6 - فقال: " ... ابن إسحاق مُدَلِّس، والْمُدَلِّس إِذَا قال: "عن" لا يحتجُّ به، فكيفَ حَسَّنَهُ الترمذي؟! ".

__________

1 قط: (1/ 58) ح 2. هق: (1/ 92) .

(1/ 154) .

3 ابن يسار، أبو بكر المطلبي مولاهم، المدني، نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يُدَلِّس، وَرُمِيَ بالتَّشَيُّع والقَدر، من صغار الخامسة، مات سنة150 هـ/خت م4. (التقريب 467) .

4 ابن عمير بن عبيد القرشي مولاهم، وَثَّقَهُ الأئمة، وَوِهِمَ ابن حزم فَجَهَّلَهُ، وابن عبد البر فضعفه، من الخامسة، مات سنة بضع عشرة / خت 4. (التقريب 87) .

5 ابن جبر، أبو الحجاج المخزومي، المكي، ثِقَةٌ إمام في التفسير وفي العلم، من الثالثة، مات سنة 101 هـ، وقيل غير ذلك/ ع. (التقريب 520) .

6 جـ 1 (105/ أ) .

(2/90)

- وقال آخرون: انفرد به ابن إسحاق، وليس هو ممن يحتجُّ به في الأحكام، فكيف يُعارض بأحاديثه الأحاديث الصحيحة. قاله ابن مُفَوِّز، ونقله عنه ابن القَيِّم1.

3- وضعفه آخرون بـ "أبان بن صالح" فقال ابن عبد البر: "وليس حديث جابر بصحيح عنه، فَيُعَرَّجُ عليه؛ لأنَّ أبان بن صالح الذي يرويه ضعيفٌ"2. وَجَهَّلَهُ ابن حزم3.

والجواب عن هذه العلل كما يلي:

أولاً: أما عنعنة ابن إسحاق: فقد صَرَّحَ بالتحديث في رواية أحمد، وابن الجارود، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي؛ فعند هؤلاء جميعاً قول ابن إسحاق: "حدثني أَبَانُ بن صالح". فزالت بذلك شُبْهَة التدليس عن ابن إسحاق ولله الحمد، وقد أشار إلى جواب هذه الشبهة ابن الملقن4 رحمه الله.

ثانياً: وأما القول بأن ابن إسحاق لا يُحْتَجُّ به في الأحكام: فليس الأمر كذلك، بل قد وَثَّقَهُ أَئِمَّة، واحتجَّ به آخرون، واسْتَشْهَدَ به الإمام مسلم في (صحيحه) ، والأمر فيه على ما قاله الذهبي: "فالذي يظهر لي: أن ابنَ إسحاق حسن الحديث، صالح الحال صدوق، وما انفردَ به ففيه

__________

1 تهذيب السنن: (1/ 22) .

2 التمهيد: (1/ 312) .

3 المحلى: (1/ 265) .

4 البدر المنير: جـ 1 (ق 105/ أ) . وانظر: التلخيص الحبير: (1/104) .

(2/91)

2 نكارةٌ؛ فإنَّ في حفظه شيئاً، وقد احتجَّ به أئمة، فالله أعلم"1.

قلت: ولم ينفرد ابن إسحاق برواية هذا الحُكْمِ، بل جاء مثل ذلك عن غيره، كحديث ابن عمر، وحديث عراك بن مالك، على كلام فيه مضى بيانه.

ثالثاً: وأما تضعيفُ ابن عبد البر لأ بَان بن صالح: فقد رَدَّه عليه الأئمة، وكذا رَدُّوا على ابن حزم حكمه عليه بالجهالة. قال ابن الملقن في (البدر المنير) 2: "وهذا تعليل ساقط؛ فإن أَبَان لم يضعفه أحد، وهو أبان ابن صالح بن عمير القرشي مولاهم ... " ثم ساق أقوال الأئمة في توثيقه3. وقال ابن حجر: "وَضَعَّفَهُ ابن عبد البر بِأَبَان بن صالح، وَوَهِمَ في ذلك؛ فإنه ثِقَة باتفاق، وادَّعى ابن حزم أنه مجهول فَغَلِطَ"4. وكذا رَدَّ ابن مفوز على ابن حزم، وأفاض في إثبات ثقة أبان والاحتجاج به5، وكذا رد عليه ابن عبد الحق6.

ومع أن هذه العلل مردودةٌ، فإن هذا الحديث قد صَحَّحَهُ جماعة، وَحَسَّنَهُ آخرون: فقال البخاري: "حديث صحيح، رواه غير واحد عن محمد ابن إسحاق". كذا نقل غير واحد عن البخاري: أن الترمذي سأله عنه؟

__________

1 ميزان الاعتدال: (3/475) .

2 جـ 1 (ق 105/ أ) .

3 وانظر: تهذيب الكمال: (2/10-11) .

4 التلخيص الحبير: (1/104) .

5 انظر: تهذيب السنن: (1/22) .

6 انظر: البدر المنير: جـ 1 (ق105/ أ) .

(2/92)

فقال ذلك، منهم: البيهقي، وعبد الحق1، وكذا ابن القَيِّم2، وابن حجر3 وغيرهم. لكن الذي في (العلل) 4 للترمذي قول البخاري: "رواه غير واحد عن محمد بن إسحاق" دون قوله: "صحيح". ثم رجعت إلى النسخة الخطية من (العلل) فوجدت هذه الكلمة ملحقة في هامش النسخة5.

وحَسَّنَهُ الترمذي، وكذا البزار6 وَصَحَّحَهُ ابن السكن7، وقال الدارقطني عن إسناده: "كلهم ثقات". وقال الحاكم أبو عبد الله: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، لكن تعقبهما ابن الملقن، فقال: "وفي كونه على شرط مسلم نظرٌ؛ لأن في إسناده ابن إسحاق، ولم يحتجَّ به مسلم، إنما أخرج له متابعة"8. وقال ابن الملقن: "صحيح، معمول به"9. وقال الشيخ الألباني: "حسن"10. هذا مع تصحيح ابن خزيمة وابن حبان له.

__________

1 كما في البدر المنير: جـ 1 (ق105/ أ) .

2 تهذيب السنن: (1/22) .

3 التلخيص الحبير: (1/104) .

(1/87) . باب الرخصة في استقبال القبلة بغائط أو بول.

5 انظر العلل رواية أبي طالب: (ق2/ب) . نسخة أحمد الثالث المصورة في مكتبة المخطوطات بالجامعة الإسلامية برقم 530.

6 انظر: البدر المنير: جـ 1 (ق 105/ أ) .

7 المصدر السابق، والتلخيص الحبير: (1/104) .

8 البدر المنير: جـ 1 (ق 105 / أ) .

9 المصدر السابق.

10 صحيح ابن ماجه: (ح 261) .

(2/93)

وقد ذَهَبَ بَعْضُهم إلى أن هذا الحديث ناسخٌ لأحاديث المنع، لكن لم يوافق على دعوى النسخ جماعة، منهم: ابن قتيبة1. وقال ابن حجر: "والحق أنه ليس بناسخ لحديث النهي خلافاً لمن زعمه"2. وكذا استبعد النسخ ابن خزيمة، فقال في ترجمته لهذا الحديث: " ... وَيَتَوَهَّمُ من لا يفهمُ العلم، ولا يُمَيِّزُ بين المفسر والمجمل: أن فعلَ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا ناسخٌ لنهيه عن البول مستقبل القبلة"3. وكذا قال ابن حبان حيث ترجم له بقوله: "ذكرُ خبرٍ أوهم من لم يُحْكِمْ صناعة الحديث أنه ناسخ للزجر الذي تَقَدَّمَ ذكرنا له"4.

والذي ذهب إليه الجمهور وارتضاه أكثر العلماء: هو الجمع بين الأخبار في هذا الباب، قال ابن قتيبة: "وليسا عندنا من الناسخ والمنسوخ، ولكن لكل واحد منهما موضع يستعمل فيه، فالموضع الذي لا يجوز أن تُسْتَقْبَل القبلة فيه بالغائط والبول: هي الصحارى والبراحات. وكانوا إذا نزلوا في أسفارهم لهيئة الصلاة، استقبل بعضهم القبلة بالصلاة، واستقبلها بعضهم بالغائط، فَأَمَرَهُمْ أن لا يستقبلوا القبلة بغائط ولا بول إكراماً للقبلة وتنزيهاً للصلاة. فظن قوم أن هذا أيضاً يكره في البيوت والكُنُفِ المحتفرة ... "5.

وترجم ابن خزيمة في (صحيحه) 6 وكذا ابن حبان7 بما يفيد ذلك.

__________

1 تأويل مختلف الحديث: (ص 90) .

2 فتح الباري: (1/ 245) .

3 صحيح ابن خزيمة: (1/ 34) .

4 الإحسان: (2/ 346) .

5 تأويل مختلف الحديث: (ص 90) .

(1/ 34) ح 59، باب رقم (44) .

7 الإحسان: (2/ 347) ح 1418.

(2/94)

وقال الخطابي في (معالم السنن) 1: "وذهب عبد الله بن عمر إلى أن النهي عنه إنما جاء في الصحاري، فأما الأبنية فلا بأس باستقبال القبلة فيها". ثم قال: "الذي ذهب إليه ابن عمر ومن تابعه من الفقهاء أولى؛ لأن في ذلك جمعاً بين الأخبار المختلفة، واستعمالها على وجوهها كلها".

وقال ابن عبد البر - بعد أن ذكر أن ذلك مذهب مالك، والشافعي، وقول ابن المبارك، وإسحاق بن راهويه -: "والصحيح عندنا الذي يُذهب إليه: ما قاله مالك وأصحابه، والشافعي؛ لأن في ذلك استعمال السنن على وجوهها الممكنة فيها، دون رَدِّ شيء ثابتٍ منها"2.

وقال الحافظُ ابن حجر: "وبالتفريق بين البنيان والصحراء مطلقاً قال الجمهور ... وهو أَعْدَلُ الأقوال، لإعمال جميع الأدلة"3.

وبعدُ، فإن حديث جابر رضي الله عنه في استقباله صلى الله عليه وسلم القبلة ببوله: لا يَقِِلُّ عن درجة الحسن، وما أُعِلَّ به قد أُجيب عنه، والذي يظهر من صنيع ابن القَيِّم - رحمه الله - الميل إلى القول بضعفه، وأنه ذَهَبَ - بناء على ذلك - إلى القول بعدم جواز استقبال أو استدبار القبلة ببولٍ أو غائطٍ مطلقاً، وقد ظَهَرَ مما تَقَدَّمَ أن الصواب خلاف ذلك، والله أعلم.

__________

(1/ 20) .

2 التمهيد: (1/ 312) .

3 فتح الباري: (1/ 246) .

(2/95)

2- باب وضع الخاتم عند دخول الخلاء

3- (3) عن أنس رضي الله عنه قال: "كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دَخَل الخَلاَءَ وَضَعَ خَاتَمه".

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "هذا الحديث رواه همام1 - وهو ثقة - عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس"2.

ثم نَقَل عن الدارقطني أنه ذكر في (علله) وجوه الاختلاف فيه، وأنه ذهب إلى شذوذه بهذا اللفظ، ونَاقَشَ بعض شواهده، ونقل أقوال الأئمة حول هذا الحديث، وتَوَصَّل في النهاية إلى أن الحديث شاذ أو منكرٌ، وإن كان سَنَدُه صَحِيحَاً.

قلت: الحديث بهذا الإسناد الذي ذكره ابن القَيِّم أخرجه: أصحاب السنن الأربعة3، والترمذي في (الشمائل) 4، وابن حبان في

__________

1 ابن يحيى بن دينار العوذي، أبو عبد الله أو أبو بكر، البصري، ثِقَة رُبَّما وَهِمَ، من السابعة، مات سنة 164 هـ أو 165 هـ / ع. (التقريب 574) .

2 تهذيب السنن: (1/ 26) .

3 د: (1/25) ح19ك الطهارة، باب الخاتم يكون فيه ذكر الله تعالى يدخل به الخلاء. ت: (4/ 229) ح1746، ك اللباس، باب ما جاء في لبس الخاتم في اليمين. س: (8/ 178) ك الزينة، باب نزع الخاتم عند دخول الخلاء. جه: (1/ 110) ح 303، ك الطهارة، باب ذكر الله عز وجل على الخلاء والخاتم في الخلاء.

(ص 93) ح 88.

(2/96)

(صحيحه) 1، والحاكم في (المستدرك) 2، والبيهقي في (سننه) 3. كلهم باللفظ المذكور آنفاً، إلا الترمذي في كتابيه، والنسائي، فإنَّ لفظه عندهما: "نَزَع خَاتَمه" بدل: "وَضَعَ".

والحديثُ بهذا الإسناد أعله جماعة من الأئمة، فقال أبو داود: "هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس: "أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من وَرِق ثم ألقاه"، والوهمُ فيه من هَمَّام، ولم يروه إلا همام". وقال النسائي: "هذا حديث غير محفوظ"4. وأشار الدارقطني إلى شذوذه5. وذكره الحافظ العراقي في (ألفيته) 6 مثالاً للمنكر. وحكم الحافظ ابن حجر بشذوذه7.

ووجه شُذُوذ هذا الحديث أو نكارته: أن هَمَّامَاً تَفَرَّد عن ابن جريج بذكر نزع الخاتم، والمحفوظ عن ابن

__________

1 الإحسان: (2/ 344) ح 1410، باب الخبر الدال على نفي إجازة دخول المرء الخلاء بشيء فيه ذكر الله.

(1/ 187) .

(1/ 94) .

4 وعبارة النسائي هذه لم أجدها في (المجتبى) عقب روايته الحديث، لكن نقلها عنه: المنذري في: (اختصار السنن 1/26) ، والمزي في: (تحفة الأشراف 1/385) ، وابن حجر في (التلخيص الحبير 1/107 - 108) ، وفي (النكت على ابن الصلاح 2/677) .

5 في (علله) ولم أقف على كلامه فيه بعد البحث، لكن نقله عنه ابن القَيِّم هنا، وغيره.

6 الألفية مع شرحها للعراقي: (1/ 197 - 201) .

7 النكت على ابن الصلاح: (2/ 677) .

(2/97)

جريج في ذلك ما ذكره أبو داود، وهو حديث اتخاذه صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق، ثم أنه ألقاه بعد ذلك.

وقد كشف الدارقطني - رحمه الله - عن وجوه الاختلاف فيه في (علله) - ونقله ابن القَيِّم عنه - فقال: "رواه سعيد بن عامر وهدبة بن خالد، عن همام، عن ابن جريج، عن الزهري عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم. وخالفهم عمرو بن عاصم، فرواه عن هَمّام، عن ابن جريج، عن الزهري عن أنس "أنه كان إذا دخل الخلاء" موقوفاً، ولم يُتابع عليه. ورواه يحيى ابن المتوكل ويحيى بن الضريس، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس، نحو قول سعيد بن عامر ومن تابعه عن همام. ورواه عبد الله بن الحارث المخزومي وأبو عاصم وهشام بن سليمان وموسى بن طارق، عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس: "أنه رأى في يد النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب، فاضطربَ النَّاس الخواتيم، فَرَمَى به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "لا أَلْبَسُهُ أبداً". وهذا هو المحفوظ والصحيح عن ابن جريج"1.

وهذه الرواية التي قال عنها الدارقطني: إنها المحفوظة عن ابن جريج، سبق أن نقلنا عن أبي داود أنه قال ذلك فيها أيضاً.

وقد أخرج هذه الرواية الإمام مسلم في (صحيحه) 2 من طريق ابن جريج، أخبرني زياد بن سعد، أن ابن شهاب أخبره، أن أنس بن مالك أخبره: "أنَّه رَأى في يَدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم خَاتَمَاً من وَرق يوماً واحداً، ثُمَّ

__________

1 تهذيب السنن: (1/26-27) .

(3/1658) ح (60) ... ك اللباس، باب في طرح الخواتم.

(2/98)

إن الناس اضطربوا1 الخواتم من وَرِق، فلبسوها، فَطَرَحَ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه، فطرح الناس خواتمهم".

وعَلَّقَه البخاري في (صحيحه) 2 وقد نُسِبَ الزهري في هذا الحديث إلى الغلط؛ لأن المعروف أن الخاتم الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم كان من ذهب كما في حديث ابن عمر وغيره، وقد أجيب عن ذلك بأجوبة بسطها ابن حجر في (فتح الباري) 3 فلتنظر هناك.

قال ابن القَيِّم رحمه الله - عَقِبَ نقله كلام الدارقطني هذا-: "وهَمَّام وإن كان ثقة صدوقاً احتجَّ به الشيخان في الصحيح، فإن يحيى بن سعيد كان لا يُحَدِّث عنه ولا يَرْضَى حفظه ... وقال يزيد بن زريع - وسُئِل عن همام-: كتابه صالح، وحفظه لا يسوى شيئاً. وقال عفان: كان هَمَّام لا يكاد يرجع إلى كتابه ولا يَنْظر فيه، وكان يُخَالَفُ فلا يرجع إلى كتاب، وكان يكره ذلك، قال: ثُمَّ رَجَعَ بعد فنظر في كتبه، فقال: يا عفان كُنَّا نخطئ كثيراً، فنستغفر الله عز وجل".

ثم قال ابن القَيِّم: "ولا ريبَ أَنه ثقةٌ صدوق، ولكنه خُولِفَ في هذا الحديث، فَلَعَلَّهُ مِمَّا حَدَّثَ به من حفظه فَغَلِطَ فيه، كما قال أبو داود والنسائي والدارقطني وعلى هذا: فالحديث شاذ أو منكر كما

__________

1 اضطرب خاتماً: سأل أن يُضْرَبَ له، وهو افتعل من الضرب: الصياغة، والطاء بدل من التاء. (النهاية 3/80، ولسان العرب ص2565، مادة: ضرب) .

2 البخاري مع الفتح: (10/318) ح5868، ك اللباس، باب خاتم الفضة.

(10/320 - 321) .

(2/99)

قال أبو داود، وغريبٌ كما قال الترمذي"1.

قلت: وقد مَالَ الحافظ ابن حجر إلى كونه شاذاً، واستبعد أن يكون منكراً، فقال: "وَحُكْمُ النسَائِي عليه بكونه غير محفوظ أصوب، فإنه شَاذٌّ في الحقيقة؛ إذ المنفرد به من شرط الصحيح، لكنه بالمخالفة صار حديثه شاذاً"2.

ثم رد ابن القَيِّم - رحمه الله - على من نَازَعَ في نَكَارَتِهِ أو شذوذِهِ، فقال: "فإن قيل: إن هَمَّامَاً ثقة، وتَفَرُّدُ الثقة لا يوجبُ نكارة الحديث، فقد تفرد عبد الله بن دينار بحديث: النهي عن بيع الولاء وهبته، وَتَفَرَّدَ مالك بحديث: دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المِغْفَر. فهذا غايته أن يكون غريباً كما قال الترمذي، وَأَمَّا أن يكون منكراً أو شاذاً: فلا؟ "3.

ثم أجاب ابن القَيِّم عن ذلك، فقال: "التَّفَرُّدُ نوعان: تَفَرُّدٌ لم يُخَالَف فيه من تفردَ به، كتفرد مالك وعبد الله بن دينار بهذين الحديثين، وأشباه ذلك. وَتَفَرُّدٌ خُولِفَ فيه المتفرد، كتفرد همام بهذا المتن4 على هذا الإسناد؛ فإن الناس خالفوه فيه، وقالوا: "إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من وَرِقٍ ... " الحديث. فهذا هو المعروف عن ابن جريج عن الزهري، فلو لم يرو هذا عن ابن جريج وَتَفَرَّدَ هَمَّام بحديثه لكان نظير حديث عبد الله بن

__________

1 تهذيب السنن: (1/ 28) . وانظر: أقوال العلماء في "همام بن يحيى" في تهذيب التهذيب: (11/ 68 - 70) .

2 النكت على ابن الصلاح: (2/ 677) .

3 تهذيب السنن: (1/ 28) .

4 وهو حديث (نزع الخاتم عند دخول الخلاء) ، وهو موضوع دراستنا هذه.

(2/100)

دينار ونحوه. فينبغي مراعاة هذا الفرق وعدم إهماله"1.

قلتُ: وقد خالف هَمَّاماً جماعةٌ من أصحاب ابن جريج كما تقدم من كلام الدارقطني، ولا شك أن العددَ الكثير أولى بالحفظ والضبط من الواحد.

وأما المتابعة التي ذكرها الدارقطني لهمام، من رواية يحيى بن المتوكل2، ويحيى بن الضريس3: فقد أخرج رواية ابن المتوكل الحاكم في (المستدرك) 4، عنه عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَبِسَ خَاتَمَاً نقشه "محمد رسول الله"، فكان إذا دَخَلَ الخلاء وَضَعه". قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، إنما أخرجا حديث نقش الخاتم فقط"، ووافقه الذهبي. وقد سقط ذكر أنس رضي الله عنه من مطبوعة (المستدرك) ، لكنه في رواية البيهقي من طريقه.

وأخرجه البيهقي في (سننه) 5 من طريق الحاكم، ثم قال: "وهذا شاهد ضعيف".

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وإنما ضَعَّفَه لأنَّ يحيى هذا قال فيه الإمام أحمد: وَاهِي الحديث. وقال ابنُ مَعين: ليس بشيءٍ. وَضَعَّفَهُ

__________

1 تهذيب السنن: (2/ 29 - 30) .

2 الباهلي، البصري، أبو بكر، صدوق يُخْطِئ، من التاسعة، مات بالمصيصة/تمييز. (التقريب 596) .

3 البجلي، الرازي، صدوق، من التاسعة، مات سنة 203هـ/م ت. (التقريب592) .

(1/ 187) .

(1/ 95) .

(2/101)

الجماعة كلهم"1.

كذا قال ابن القَيِّم! وقد وَهِمَ في ذلك رحمه الله؛ فإن يحيى بن المتوكل الذي ضَعَّفَه أحمد ويحيى والجماعة كلهم هو: أبو عقيل العمري المدني، مولى العمريين2، أما المقصود هنا: فَإِنَّه البَاهِلِي البصري أبو بكر، فهو الذي يروي عن ابن جريج، قال ابن معين: "لا أعرفه"3. وذكره ابن حبان في (الثقات) 4. وقال: "كان يخطئ". قال ابن حجر: " ... قُولُ يحيى بن معين: لا أعرفه، أراد به جَهَالة عدالته لا جهالة عينه، فلا يُعْتَرَض عليه بكونه روى عنه جماعة؛ فإن مُجَرَّد روايتهم عنه لا تَسْتَلْزِم معرفة حاله. وأما ذكر ابن حبان له في (الثقات) : فإنه قال فيه - مع ذلك -: كان يُخْطِئ، وذلك مِمَّا يُتَوقَّف به عن قبول أفراده"5.

لكن يحيى هذا قال عنه الذهبي: "صدوق"6، وقال الحافظ ابن حجر: "صَدُوقٌ يُخْطِئ"، وقال - أيضاً - عن حديثه هذا: "رجاله ثقات"7. وحينئذٍ فقد يصلح حديثه للمتابعة.

وأما المتابعة الأخرى عن يحيى بن الضريس: فإنني لم أَقِف على من أَخْرَجَها، ولا وَجَدت أحداً أشار إلى مُخْرِجِها، سوى ما جَاءَ من ذكر

__________

1 تهذيب السنن: (1/ 27) .

2 انظر ترجمته في: (الميزان 4/404) ، وتهذيب التهذيب: (11/270) .

3 سؤالات ابن الجنيد لابن معين: (ص487) .

(7/612) .

5 النكت على ابن الصلاح: (2/677 - 678) .

6 المغني: (2/742) .

7 التلخيص الحبير: (1/ 108) .

(2/102)

الدارقطني لها في كلامه آنف الذكر، لكن قال ابن حجر في (التلخيص الحبير) 1: "وأخرجهما - يعني: رواية يحيى بن المتوكل، ويحيى بن الضريس - الحاكم والدارقطني"! كذا قال رحمه الله، ولم أجده في واحد منهما بعد البحث، أما الحاكم فقد أخرج حديث يحيى بن المتوكل وحده كما تقدم، وأما الدارقطني فلم أجد فيه أَيّاً منهما.

حتى إن ابن القَيِّم - رحمه الله - لم يذكر من أخرج هذه المتابعة، وكأنه لم يقف على ذلك، ولكنه قال: "وأما حديث يحيى بن الضريس: فيحيى هذا ثقة، فَيُنْظَرُ الإسنادُ إليه"2.

وقال مرة: "وحديث ابن الضريس يُنْظَرُ في حاله، ومن أخرجه"3.

وعلى كل حال: فإنَّ هذه المتابعة من يحيى بن المتوكل، ثم من يحيى ابن الضريس قد تفيد في تقوية رواية همام، لكنها مع ذلك تبقى مُخَالِفَةً لرواية الجماعة من أصحاب ابن جريج، وهم أكثر عَدَدَاً، وفيهم أبو عاصم النبيل "الثقة الثبت"، وعبد الله بن الحارث المخزومي "الثقة"، وغيرهما من ثقات أصحاب ابن جريج؛ ومن هنا جاء حكم الحفاظ على هذه الرواية بالشذوذ.

__________

(1/ 108) .

2 تهذيب السنن: (1/ 27 - 28) .

3 المصدر السابق: (1/ 30) .

(2/103)

على أَنَّ هناك اتجاهاً نحو القول بأن هذا الحديث جاء عن الزهري على أوجه كثيرة، وأن حديث همام هذا أحدها، وقد عَبَّر ابن حجر - رحمه الله - عن هذا الاتجاه فقال: "على أن للنظر مجالاً في تصحيح حديث هَمَّام؛ لأنه مبني على أن أصله حديث الزهري، عن أنس في اتخاذ الخاتم. ولا مانع أن يكون هذا متن آخر غير ذلك المتن ... "1.

لكن أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك، فإنه سَاقَ عدة روايات عن الزهري في اتخاذه صلى الله عليه وسلم الخاتم، ثم قال: "هذه الروايات كُلها تَدُلُّ على غَلَط هَمَّام؛ فإنها مجمعةٌ على أن الحديث إِنَّمَا هو في اتخاذ الخاتم ولبسه، وليس في شيءٍ منها نزعه إذا دخل الخلاء. فهذا هو الذي حَكَمَ لأجله هؤلاء الحُفَّاظ بنَكَارَة الحديث وشذوذه، والمصحح له لَمَّا لم يمكنه دَفْعَ هذه العلة حكم بغرابته2 لأجلها، فلو لم يكن مخالفاً لرواية من ذُكِرَ فما وجه غرابته؟ "3.

وَلِرواية هَمَّام هذه عِلَّة أخرى لم يَتَعَرَّض لَهَا ابن القَيِّم رحمه الله، وهي: تَدْلِيس ابن جريج، قال الحافظ ابن حجر: "والخَلَلُ في هذا الحديث من جهة أن ابن جريج دَلَّسَهُ عن الزهري بإسقاط الواسطة، وهو زياد بن سعد"4. بل ذهب الحافظ - رحمه الله - إلى أن التَّدْلِيسَ هو

__________

1 النكت على ابن الصلاح: (2/ 678) .

2 يشير بذلك إلى حكم الترمذي - رحمه الله - عليه، حيث قال "حسن غريب" وسيأتي.

3 انظر: تهذيب السنن: (1/ 30- 31) .

4 النكت على ابن الصلاح: (2/ 677) .

(2/104)

عِلَّتَهُ الوحيدة - بعد أن قال بإمكان تصحيح رواية هَمَّام وحَمْلِهَا على أَنَّهَا متن آخر لحديث الزهري - فقال: "ولا عِلَّة له عِنْدي إلا تَدْلِيس ابن جريج، فإن وُجْدَ عنه التصريح بالسَّماع فلا مَانِعَ مِنَ الحكم بِصِحَّتِه في نقدي. والله أعلم"1. وقد ذَهَبَ فريق آخر من أهل العلم إلى تصحيح هذا الحديث، ولم يروه معلولاً، فقال الترمذي: "حسن غريب"، وفي نسخة: "حسن صحيح غريب"2. وصَحَّحَه الحاكم على شرط الشيخين من طريق يحيى ابن المتوكل، عن هَمَّام، ووافقه الذهبي كما مضى. وَرَجَّحَ الْمُنذري ما حكمَ به الترمذي، وأنه يكون غريباً - كما قال الترمذي - لا شاذاً3. وذكره ابن دقيق العيد في كتابه (الاقتراح) 4 ضمن الأحاديث الصحيحة التي خَتَمَ بها كتابه. وصححه كذلك ابن التركماني وقال: بأن الأمر على ما قال الترمذي من الحسن والصحة5.

وفي نظري: أن أَكْثَر من صَحَّحَه إِنَّمَا نَظَر إلى ظاهر إسنادِهِ، ولم يلتفت إلى العِلَّةِ الواقعة في مَتْنِه، وهو ما الْتَفَتَ إليه وَنَبَّه عليه حُذَّاقُ الأئمة العارفين بمكامن العلل، ومواطن الأدواء: كأبي داود، والنسائي، والدارقطني، وقد تقدم قولهم في ذلك، ولذلك قال النووي في

__________

1 النكت على ابن الصلاح: (2/677) .

2 كما في تحفة الأشراف: (1/ 385) .

3 مختصر السنن: (1/ 26) .

(ص 433) .

5 الجوهر النقي: (1/ 95) .

(2/105)

(الخلاصة) 1: "قول الترمذي: حسن، مردود عليه".

ثُمَّ إن قول الترمذي - الذي اسْتَنَد إليه بعض من صَحَّحَهُ - يُمْكِنُ أن يَلْتَقِي مع قول من أَعَلَّهُ ولا يُعَارِضُه، وقد عَبَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك فقال: "وَلَعَلَّ الترمذي موافق للجماعة؛ فإنه صَحَّحَهُ مِن جِهَةِ السَّنَد لِثِقَةِ رُوَّاتِهِ، واسْتغربه لهذه العِلَّة، وهي التي منعت أبا داود من تصحيح متنه، فلا يكون بينهما اختلاف، بل هو صحيح السند لكنه معلول"2.

فالحاصلُ: أن الراجح إعلال هذا الحديث، وأنه غيرُ محفوظ بهذا اللفظ، بل المحفوظ عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس خلافه، وهذا ما رَجَّحَهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في بَحْثٍ لَّهُ نافع ماتع، أثبتَ فيه أن ذلك ليس من باب تَفَرُّدِ الثِّقَةِ بما لم يروه غيره أصلاً، وَإِنَّمَا من باب مُخالفةِ الثِّقَة لِمَنْ هو أَوْثَقُ منه: وهو الشاذُّ.

وإنني أرى أن الحكم عليه بالشذوذ أولى من الحكم بنكارته، وهذا الذي ذهب إليه النسائي، وَرَجَّحَهُ الحافظ ابن حجر كما مضى.

كما أن الحديث معلول - بالإضافة إلى ذلك - بتدليس ابن جريج، وهذا ما لم يتعرض له ابن القَيِّم في بحثه، وقد نَبَّهْتُ على ذلك مُسْتَشْهِدَاً بكلام الحافظ ابن حجر رحمه الله.

وقد ضَعَّفَ الحديث - أيضاً - الشيخ الألباني، وَصَوَّبَ القول بأنه شاذ3، والله أعلم.

__________

(ق 10 / ب) .

2 تهذيب السنن: (1/ 31) .

3 مختصر الشمائل: (ح 75) ، والتعليق على المشكاة: (ح 343) .

(2/106)

3- باب ما جاء في تخليل الأصابع عند الوضوء

4- (4) عَنِ الْمُسْتَورد بن شَدَّاد، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّه كَانَ يُدَلِّكُ أَصَابِعَ رِجْلَيْه عِنْدَ الوضوءِ".

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في معرض كلامه على عدم مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل، ثم تَكَلَّم - رحمه الله - على هذا الحديث بما حاصله:

1- أن في إسناده ابن لهيعة، لذلك: فالحديث - في نظره - في ثبوته نظر. لكن كأنه لم يقطع بضعفه، وأنه قَابلٌ للتصحيح، ولذلك قال:

2- "وهذا إن ثبتَ عنه: فإنما كان يفعله أحياناً". ثم استدل على عدم مداومته صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله:

3- "ولهذا لم يروه الذين اعتنوا بضبط وضوئه، كعثمان، وعلي، وعبد الله بن زيد، وغيرهم"1.

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في (سنهم) 2 وأحمد في (مسنده) 3، والبيهقي في (سننه) 4، من طرق، عن:

__________

1 انظر: زاد المعاد: (1/ 198) .

2 د: (1/ 103) ح 148، باب غسل الرجلين. ت: (1/ 57) ح 40، باب ما جاء في تخليل الأصابع. جه: (1/ 152) ح 446، باب تخليل الأصابع، ثلاثتهم في ك الطهارة.

(4/ 229) .

(1/ 76) باب كيفية التخليل.

(2/107)

ابن لهيعة1، عن يزيد بن عمرو2، عن أبي عبد الرحمن الحبلي3، عن المستورد بن شداد4 رضي الله عنه قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا تَوَضَّأَ يدلك أصابعَ رجليه بخنصره". هذا لفظ أبي داود، ومثله الترمذي. وعند أحمد: "يُخَلِّلُ"، وابن ماجه "خَلَّلَ" بدل: "يدلك". ولفظ البيهقي مثل أبي داود، لكن عنده: "ما بين أصابع رجليه".

أما إعلال هذا الحديث بأن ابن لهيعة في إسناده: فقد أجاب عنه الأئمة: بأن ابن لهيعة لم ينفرد به، بل تُوبع عليه:

قال ابن القطان: "وابن لهيعة ضعيف، ولكنه قد رواه غيره، فَصَحَّ"5، ثم ساق هذه المتابعة من طريق ابن أبي حاتم6.

وأشار ابن الْمُلَقِّن7 - رحمه الله - إلى هذه المتابعة. وقال ابن حجر: "وفي إسناده ابن لهيعة، لكن تابعه: الليث بن سعد، وعمرو بن

__________

1 عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي، أبو عبد الرحمن المصري، القاضي، صدوقٌ خَلَّطَ بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدلُ من غيرهما، وله في مسلم بعض شيء مقرون، مات سنة 174 هـ/م د ت ق. (التقريب 319) .

2 المعافري، المصري، صدوق، من الرابعة/د ت ق. (التقريب 604) .

3 هو: عبد الله بن يزيد المعافري، ثقة، من الثالثة، مات سنة100هـ بإفريقية/بخ م 4. (التقريب 329) .

4 ابن عمرو القرشي الفهري، حجازي، نزل الكوفة، له ولأبيه صحبة، مات سنة 45هـ/ خت م 4. (التقريب 527) .

5 بيان الوهم والإيهام: (5/264) ح 2463.

6 وهي في (الجرح والتعديل) - المقدمة: (1/ 31-32) .

7 البدر المنير: جـ 1 (ق 95/ب) .

(2/108)

الحارث. أخرجه البيهقي، وأبو بشر الدولابي، والدارقطني في غرائب مالك، من طريق ابن وهب عن الثلاثة"1.

قلت: وهذه المتابعة أخرجها البيهقي2 من طريق: عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: أنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب3، قال: سمعت عَمِّي - يعني عبد الله بن وهب - يقول: سمعت مالكاً يُسْئَلُ عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خَفَّ الناس، فقلت له: يا أبا عبد الله! سمعتك تُفْتِي في مسألة تخليل أصابع الرجلين، زعمت أن ليس ذلك على الناس، وعندنا في ذلك سُنَّة. فقال: وما هي؟ فقلت: ثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث4، عن يزيد بن عمرو المعافري ... فساق الحديث كما مضى. قال مالك: هذا حديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة. ثم سمعته يسئل بعد ذلك، فأمر بتخليل الأصابع.

فهذه - كما نرى - متابعةٌ قويةٌ من الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث لابن لهيعة على هذا الحديث، ولا سيما أنها من طريق ابن وهب، وروايته عن ابن لهيعة أعدل من رواية غيره عنه5.

__________

1 التلخيص الحبير: (1/ 94) .

2 السنن: (1/ 76-77) .

3 ابن مسلم، المصري، لقبه: بحشل، أبو عبيد الله، صدوق تغير بأخرة، من الحادية عشرة، مات سنة 264 هـ/م. (التقريب 82) .

4 ابن يعقوب الأنصاري مولاهم، المصري، أبو أيوب، ثقة فقيه حافظ، من السابعة، مات قديماً قبل 150 هـ/ع. (التقريب 419) .

5 قال الذهبي رحمه الله: "حدث عنه ابن المبارك وابن وهب وأبو عبد الرحمن المقرئ وطائفة قبل أن يكثر الوهم في حديثه وقبل احتراق كتبه، فحديث هؤلاء عنه أقوى، وبعضهم يصححه، ولا يرتقى إلى هذا". (تذكرة الحفاظ 1/238) . وتقدم معنا نقل كلام الحافظ ابن حجر في ذلك في مطلع الدراسة لهذا الحديث.

(2/109)

لكنَّ ابن التركماني - رحمه الله – حاولَ غمز هذه المتابعة، فقال: "في ذلك السند أحمد بن أخي ابن وهب؛ وهو وإن خَرَّجَ عنه مسلم، فقال أبو زرعة: أدركناه ولم نكتب عنه. وقال ابن عدي: رأيت شيوخ أهل مصر الذين لحقتهم مجمعين على ضعفه"1.

كذا قال ابن التركماني، ولم يذكر أن جماعةً وَثَّقُوه وارتضوه، منهم: محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حيث قال: "ثِقَة، ما رأينا إلا خيراً"2. وقال أبوحاتم: "أدركته وكتبت عنه"3. ومرة قال: "كان صدوقاً"4. وقال أبوحاتم: "سمعت عبد الملك بن شعيب بن الليث يقول: ... ثقة"5.

وأما عدم كتابة أبي زرعة عنه فلأنه خلط في أحاديث6، ولكنه رجع عن ذلك رحمه الله، وقد بلغ أبا زرعة رُجُوُعُه عن تلك الأحاديث، فقال: "إن رجوعه مما يُحَسِّنُ حاله، ولا يبلغ به المنزلة التي كان قبل ذلك"7. ومن أجل رجوعه تَمَسَّكَ ابن خزيمة بالرواية عنه؛ فإنه قِيلَ له: لِمَ رويتَ عن ابن أخي ابن وهب وتركتَ سفيان بن وكيع؟ فقال: "لأن أحمد لما أنكروا عليه تلك الأحاديث رجع عنها إلى آخرها، إلا حديث

__________

1 الجوهر النقي: (1/76-77) .

2 الجرح والتعديل: (1/1/60) .

3 المصدر السابق.

4 المصدر السابق.

5 المصدر السابق.

6 انظر: الكواكب النيرات: (ص63-71) .

7 الجرح والتعديل: (1/1/60) .

(2/110)

مالك عن الزهري عن أنس "إذا حَضَرَ العشاء ... " وأما سفيان بن وكيع: فَإِنَّ وَرَّاقَهُ أدخل عليه أحاديث فرواها، فَكَلَّمْنَاهُ فلم يرجع عنها، فاستخرت الله وتركته"1. وقال ابن القطان: "وَثَّقَهُ أهل زمانه"2.

فهؤلاء الأئمةُ قد وثقوه وأثنوا عليه، وحمدوا له رجوعه عن تلك الأحاديث التي أُنْكِرت عليه، وتمسك بالرواية عنه ابن خزيمة مع شدة تحريه في الرجال، هذا كله مع إخراج مسلم له في (الصحيح) ، فهل يُسْمَعُ بعد ذلك قولُ طاعن فيه؟!

ولكن، ثَمَّةَ أمرٌ آخر قد يكون مدخلاً للطعن في هذه المتابعة، وهو ما ذكره ابن القطان - رحمه الله - إذ قال: "وَإِنَّمَا الذي يجب أن يُتَفَقَّدَ من أمر هذا الحديث: قول أبي محمد بن أبي حاتم: أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن. فإني أظنه يعني في الإجازة؛ فإنه لَمَّا ذكرهُ في بابه قال: إِنَّ أبا زرعة أدركه ولم يكتب عنه، وإن أباه قال: أدركته وكتبتُ عنه. وظاهر هذا أنه هو لم يسمع منه؛ فإنه لم يقل: كتبت عنه مع أبي، وسمعت منه، كما هي عادته أن يقول فيمن يشترك فيه مع أبيه"3.

وقد أجاب ابن الملقن - رحمه الله - عن شبهة ابن القطان هذه، فقال: "وقد استغنينا عن هذا التفقد الذي أشار إليه ابن القطان برواية البيهقي المتقدمة حيث قال - يعني ابن أبي حاتم-: حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، وكذلك - أيضاً - رواه عن ابن أخي ابن وهب: أبو بشر أحمد بن محمد بن حماد الدولابي، حَدَّثَ به الدارقطني في (غرائب

__________

1 تهذيب التهذيب: (1/54-55) .

2 بيان الوهم والإيهام: (5/265) .

3 بيان الوهم والإيهام: (5/266) .

(2/111)

مالك) عن أبي جعفر ... عن الدولابي: ثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدثني عمى ... عن ابن لهيعة والليث بن سعد، ولم يذكر عمرو بن الحارث. فهذا أبو محمد بن أبي حاتم، وأبو بشر الدولابي كلٌّ منهما يقول: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن"1.

قلت: فزالت - بحمد الله - هذه الشبهة، وبقيت هذه المتابعة قوية، تشد رواية ابن لهيعة الماضية وتعضدها.

وقد صَحَّحَ العلماء حديث المستورد هذا بهذه المتابعة، فقال ابن القطان - ومضى كلامه -: " ... فَصَحَّ بإسناد صحيح". وقال ابن الملقن: "الحديث حسن صحيح"2. وقد مضى استحسان الإمام مالك له وعمله به. وظاهرُ صَنِيع البيهقي يقتضي تصحيحه إياه، حيث سَاقَ له هذه المتابعة بإسناده إلى ابن وهب. وقال ابن حجر رحمه الله: "وفي إسناده ابن لهيعة، لكن تابعه الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث ... "3. وقال في (النكت الظراف) 4 - مُعَلِّقَاً على قول الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة -: "وهو يُتَعَقَّبُ؛ فقد أخرجه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ... وصَحَّحَه ابن القطان من هذا الوجه". وذكره البغوي في قسم الحسن من (مصابيحه) ، وتَبِعَهُ على ذلك

__________

1 البدر المنير: جـ 1 (ق 95/ب) .

2 البدر المنير: جـ 1 (ق95/ب) .

3 التلخيص الحبير: (1/94) .

(8/376) .

(2/112)

التبريزي في (المشكاة) 1. وصَحَّحَه الشيخ الألباني2.

ومع ذلك فللحديث شواهد عدة، أَمْثَلُهَا - كما قال الزيلعي3 - حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: "أَسْبِغْ الوضوء، وخَلِّلْ بين الأصابع، وَبَالِغْ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً" هذا لفظ الترمذي4، وأخرجه أيضاً: أبو داود في (سننه) 5، وأحمد، والدرامي في (مسنديهما) 6، وابن الجارود في (المنتقى) 7، وابن خزيمة وابن حبان في (صحيحيهما) 8، والحاكم في (المستدرك) 9، والبيهقي في (سننه) 10. وسياقه عند أحمد وأبي داود مُطَوَّل، فيه ذكر قصة وفد بني المنتفق، أما الباقون فلفظهم مختصر قريب من لفظ الترمذي. وهو عند الجميع من طريق: عاصم بن لقيط11، عن أبيه لقيط بن صبرة به.

__________

(1/128) ح407.

2 صحيح ابن ماجه: (ح360) ، وحاشية المشكاة: (1/128) ح407.

3 نصب الراية: (1/ 27) .

(3/ 146) ح 778 ك الصوم، باب كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم.

(1/ 97) ح 142، ك الطهارة، باب في الاستنثار.

6 حم: (4/ 211) مي: (1/ 144) ح 711 ك الطهارة، باب تخليل الأصابع.

(ص 36) ح 80.

8 خز: (1/ 78) ح150 ك الطهارة، باب الأمر بالمبالغة في الاستنشاق إذا كان المتوضئ مفطراً. حب: الإحسان: (2/ 208) ح 1084.

(1/147، 148) .

10 (1/76) باب تخليل الأصابع.

11 ابن صبرة العقيلي، ثقة، من الثالثة/بخ 4. (التقريب 286) .

(2/113)

قال الترمذي: "حسن صحيح". وقال البغوي: "حسن"1، وَصَحَّحَه ابن القطان2. وقال الحاكم: "حديث صحيح، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وقال ابن الملقن: "رجاله رجال الصحيح، إلا إسماعيل بن كثير المكي ... وإلا عاصم بن لقيط بن صبرة"3. ثم نقل أقوال الأئمة في توثيقهما. وَتَقَدَّمَ قول الزيلعي أنه أمثل الأحاديث الواردة في ذلك.

فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديثَ المستورد بن شداد صحيحٌ، أو حسنٌ على أقلِّ أحواله، وما أَعَلَّهُ به ابن القَيِّم من وجود ابن لهيعة في إسناده مردود بمتابعة جماعةٍ له على روايته. ثم يأتي حديث لقيط بن صبرة فيشهد له ويشد أزره.

__________

1 مصابيح السنة: (1/22) باب سنن الوضوء.

2 بيان الوهم والإيهام: (5/592) ح2810.

3 البدر المنير: (3/312) .

(2/114)

4- باب من قال بالموالاة في الوضوء وعدم جواز تفريقه

5- (5) عن خالد بن معدان، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي، في ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ1 قَدْرَ الدِّرْهَم لم يُصِبْهَا الماءُ، فَأَمَرَهُ النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعِيدَ الوضوء والصلاة".

بَحَثَ ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، وأجاب عَمَّا أُعِلَّ به، وذلك في (كلامه على سنن أبي داود) 2، وسيأتي نقل كلامه في ذلك.

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والبيهقي كذلك في (سننه) 4 من طريق أبي داود. قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا بقية5، عن بحير بن سعد6، عن خالد بن معدان7، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم به.

__________

1 اللُّمْعَة في الأصل: القطعةُ من النَّبْتِ تأخذُ في اليبس، قال ابن الأعرابي: "وفي الأرض لمعة من خَلىً" أي: شئ قليل، والجمع: لِمَاعٌ ولُمِعٌ. وقيل للموضع الذي لا يصيبه الماء في الغسل أو الوضوء من الجسد: لَمْعَةٌ على التشبيه بالقطعة من النبت. (النهاية: 4/272) ، و (المصباح المنير: 2/559) .

2 تهذيب السنن: (1/128-129) .

(1/121) ح175 ك الطهارة، باب تفريق الوضوء.

(1/83) .

5 ابن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي، أبو يحمد، صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، من الثامنة، مات سنة 197هـ/خت م 4. (التقريب 126) .

6 السحولي، أبو خالد الحمصي، ثقة ثبت، من السادسة /بخ 4. (التقريب 120) .

7 الكلاعي الحمصي، أبو عبد الله، ثقة عابد يرسل كثيراً، من الثالثة، مات سنة 103هـ، وقيل بعد ذلك /ع. (التقريب 190) .

(2/115)

وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعلتين:

أولهما: أن في إسناده بقية بن الوليد، وفيه مقال. قال ذلك المنذري في (مختصر السنن) 1.

العلة الثانية: أن راويه مجهول لا يُدْرَى من هو. أَعَلَّه بذلك ابن حزم2 وأَعَلَّه ببقية أيضاً.

وقد نَقَلَ ابن القَيِّم - رحمه الله - هاتين العلتين، ثم شَرَعَ في الجواب عنهما3 فقال:

"أما الأولى: فإن بقية ثِقَةٌ في نفسه صدوق حافظ، وإنما نُقِمَ عليه التدليس، مع كثرةِ روايته عن الضعفاء والمجهولين4 وأما إذا صَرَّحَ بالسَّمَاع فهو حُجَّةٌ5. وقد صَرَّحَ في هذا الحديث بسماعه له6، قال

__________

(1/128) .

2 المحلى: (2/98) .

3 انظر: تهذيب السنن: (1/129) .

4 وقد نَصَّ أكثر من واحد من أئمة الشأن على قبول رواية بقية إذا رَوَى عن الثقات المعروفين، وترك روايته إذا روى عن الضعفاء والمجاهيل، منهم: أحمد بن حنبل، وابن معين، والعجلي، وأبو زرعة، وابن سعد وغيرهم. انظر حول ذلك: (تهذيب الكمال: 4/196-198) .

5 وقد ذكره ابن حجر في الطبقة الرابعة من طبقات المدلسين، وهم الذين اتفق على عدم قبول شيء من حديثهم إلا ما صرحوا فيه بالسماع. (طبقات المدلسين ص121) .

6 لكن تبقى عنعنته في شيخ شيخه؛ فإنه كان معروفاً بتدليس التسوية، وقد رَوَى هذا الحديث بالعنعنة في شيخ شيخه "خالد بن معدان" فينظر في ذلك، وقد يَجْبرُ ذلك كون روايات بقية عن "بحير بن سعد" لها مزيَّة عن غيرها؛ رُبَّمَا لنوع اختصاص له به، ولذا كان شعبة يحضُّ بقية على التحديث عنه فيقول له: "بَحِّر لنا، بَحِّر لنا". ويقول له: "أهد إلى حديث بحير" وهذا الحديث من روايته عنه، والله أعلم. (الميزان 1/338) .

(2/116)

أحمد في (مسنده) 1: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا بقية، حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ... فذكر الحديث، وقال: فأمره أن يعيد الوضوء".

كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، وسبقه إلى هذا الجواب ابن دقيق العيد، على ما نقله عنه ابن الملقن في (البدر المنير) 2، لكن وقع عنده: (في المستدرك) بدل (مسند أحمد) ، وحمله ابن الملقن - رحمه الله - على أنه خطأ من الناسخ، بدليل أنه جاء به في (الإلمام) على الصواب. وقد تابع ابن دقيق العيد على ذلك: ابنُ حجر رحمه الله، لكنه قال: "في المسند والمستدرك تصريح بقية بالتحديث"3! ونقل ذلك عنه الشيخ الألباني في (إرواء الغليل) 4! كذا قالوا، وليس هذا الحديث في (المستدرك) ألبتة، كما نَبَّهَ على ذلك ابن الملقن رحمه الله، وبحثت أنا عنه كثيراً فلم أقف له على أثر فيه.

وأما قول ابن القَيِّم - ومن بعده ابن الملقن، ثم ابن حجر -: إنه في (المسند) "عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم". فلم أجده هكذا، وإنما هو عند الإمام أحمد بالإسناد الذي ساقه ابن القَيِّم: "عن بعض أصحاب النبي" فلينظر في ذلك؟

__________

1 انظر: المسند: (3/424) .

2 جـ 1 (ق97/أ) .

3 التلخيص الحبير: (1/96) .

(1/127) .

(2/117)

ثم قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأما العلة الثانية1: فباطلة أيضاً على أصل ابن حزم، وأصل سائر أهل الحديث، فإن عندهم جهالةُ الصَّحَابِي لا تَقْدَح في الحديث؛ لثبوت عدالة جميعهم. وأما أصل ابن حزم: فإنه قال في كتابه في أثناء مسئلة: كلُّ نساءِ النبي صلى الله عليه وسلم ثقات فواضل عند الله عز وجل، مقدسات بيقين".

وما ذكره ابن القَيِّم في جوابه عن أصل ابن حزم: فإنه قاله بناءً على رواية أحمد التي ذكرها وفيها: "عن بعض أزواج النبي"، وقد قَدَّمْنَا أن رواية المسند التي أمامنا ليس فيها إلا ما يُوافِقُ رواية أبي داود المتقدمة وهو: "بعض أصحاب النبي".

وقد شاركَ ابن حزم في القول بهذه العلة: البيهقيُّ، فقال في (سننه) 2: "وهو مرسل". وكذا قال ابن القطان، كما في (البدر المنير) 3، و (التلخيص الحبير) 4.

قلت: وما أَعَلُّوهُ به من جهالة راويه قد يكون له وجهٌ؛ حيث إن عَنْعَنَة التابعي عن رجل - أو جماعة - من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يَقْبَلْهَا بعضهم، فقال أبو بكر الصيرفي - من الشافعية -: "وإذا قال في الحديث بعض التابعين: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لا يُقبل؛ لأني لا أعلم سمع التابعيُّ من ذلك الرجل؟ إذ قد يُحَدِّث التَّابِعِيُّ عن رجل وعن رجلين

__________

1 وهي جهالة راويه.

(1/83) .

3 جـ 1 (ق97/أ) .

(1/96) .

(2/118)

عن الصحابي، ولا أدري: هل أَمْكَنَ لِقَاءَ ذلك الرجل أم لا، فلو علمت إمكانه منه لجعلته كَمُدْرِكِ العصر. وإذا قال: سمعت رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبِلَ؛ لأن الكل عدول". نقله عنه الحافظ العراقي في (التقييد والإيضاح) 1 ثم قال: "وهو حسنٌ مُتَّجِهٌ، وكلامُ من أَطْلَقَ قبوله محمول على هذا التفصيل، والله أعلم".

لكن نَازَعَهَما الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال في (النكت على ابن الصلاح) 2: "وفيه نظرٌ؛ لأن التابعيَّ إذا كان سالماً من التدليس حُمِلَتْ عنعنته على السماع".

ثم قال رحمه الله: "وإن قلت: هذا إنما يَتَأتَّى في حقِّ كبار التابعين الذين جُلُّ روايتهم عن الصحابة بلا واسطة، وأما صغارُ التابعين الذين جُلُّ روايتهم عن التابعين: فلابد من تحقيق إدراكه لذلك الصحابي، والفرض أنه لم يسمعه حتى يُعْلَم هل أدركه أم لا؟ فينقدحُ صِحَّة ما قال الصيرفي. قلت: سَلاَمَتُهُ من التدليس كافية في ذلك؛ إذ مدار ذلك على قوة الظَّنِّ به، وهي حاصلة في هذا المقام"3.

وقد يُقال: خالد بن معدان كثيرُ الإرسال، وَوَصَفَهُ الحافظ الذهبي بالتدليس4، الأمر الذي قد يورث خشيةً من عنعنته هنا كما قرره الحافظ ابن حجر. لكن يُقال: قد جعله الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الطبقة

__________

(ص 74) في نوع " المرسل ".

(2/ 562) .

3 النكت على ابن الصلاح: (2/ 563) .

4 طبقات المدلسين: (ص 62) .

(2/119)

الثانية من طبقات المدلسين، وهم الذين احتمل الأئمةُ تدليسهم لإمامتهم، وَقِلَّةِ تدليسهم في جنبِ ما رووا1. وقد قال أبو عبد الله الحاكم في (مستدركه) 2- عقب حديث أخرجه من طريقه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -: "خالد بن معدان من خيار التابعين، صَحِبَ معاذ ابن جبل فمن بعده من الصحابة، فإذا أَسْنَدَ حديثاً إلى الصحابة فإنه صحيحُ الإسنادِ، وإن لم يُخْرِجَاهُ".

وقد سَأَلَ الأثرمُ الإمام أحمد فقال: "هذا إسناد جيد؟ قال: جيد"3. وَقَوَّاه كذلك ابن التركماني4، وصححه الشيخ الألباني5.

ومع ذلك، فللحديث شاهدٌ من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً تَوَضَّأَ فترك موضع ظُفْرٍ على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارْجِعْ فَأَحسِن وضُوءَكَ". فرجع ثم صلى6.

فَظَهَرَ من ذلك أن حديث خالد بن معدان هذا ثابت، وأن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد وُفِّقَ في رَدِّ العلل التي رُمِيَ بها الحديث على ما بَيَّناهُ من كلامه، مع وجود شاهد له في (صحيح مسلم) . والله أعلم.

__________

1 طبقات المدلسين: (ص 62) .

(2/ 600) .

3 نقله ابن القَيِّم في تهذيب السنن: (1/129) . وانظر: البدر المنير: جـ1 (ق 97/أ) ، والتلخيص الحبير: (1/96) .

4 الجوهر النقي: (1/ 83 - 84) .

5 إرواء الغليل: (1/ 127) ح 86.

6 أخرجه مسلم في صحيحه: (1/ 215) ح 243.

(2/120)

5- بابُ الوضوء من مس الذكر

6- (6) عن بسرة بنت صفوان - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأ". ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، ثم قال: "قال الدارقطني: قد صح سماع عروة من بسرة هذا الحديث"1. وهو يشير بذلك إلى الرد على من أعله بعدم سماع عروة منها.

قلت: هذا الحديث مداره على عروة بن الزبير، ويرويه عنه: ابنه هشام بن عروة، وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم.

أما رواية هشام بن عروة عن أبيه: فأخرجها ابن ماجه في (سننه) 2 من طريق عبد الله بن إدريس. وابن الجارود في (المنتقى) 3، وابن خزيمة في (صحيحه) 4 كلاهما من طريق أبي أسامة. وابن حبان في (صحيحه) 5، والدارقطني في (سننه) 6 كلاهما من طريق سفيان الثوري، كلهم عن:

هشام بن عروة، عن أبيه، عن مروان بن الحكم، عن بسرة - رضي الله عنها - به. وعند ابن حبان والدارقطني زيادة قوله: " ... فليتوضأ وضوءه للصلاة".

__________

1 تهذيب السنن: (1/ 133) .

(1/ 161) ح 479. ك الطهارة، باب الوضوء من مَسِّ الذَكَر.

(ح رقم 17) .

(1/ 22) ح 33 باب استحباب الوضوء من مس الذكر.

5 الإحسان: (2/221) ح 113.

(1/ 146) ح2.

(2/121)

وقد رواه جماعة آخرون عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن بسرة، بدون ذكر "مروان بن الحكم"، أخرج ذلك: الترمذي في (جامعه) 1، والنسائي في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3 ثلاثتهم من طريق: يحيى بن سعيد القَطَّان. وابن حبان في (صحيحه) 4 من طريق: علي بن المبارك. والدارقطني في (سننه) 5 من طريق: عبد الحميد بن جعفر، كلهم عن:

هشام بن عروة، عن أبيه عروة، عن بسرة به. ولفظ ابن حبان: " ... فَلْيُعِدْ الوضوءَ". وعند الدارقطني زيادة وهي: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ أو أنثييه أو رفغيه6 فليتوضأ". قال الدارقطني: "كذا رواه عبد الحميد ابن جعفر عن هشام، وَوَهِمَ في ذكر الأنثيين والرفغ، وإدراجه ذلك في حديث بسرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمحفوظ: أن ذلك من قول عروة غير مرفوع، كذلك رواه الثقات عن هشام، منهم: أيوب السختياني، وَحَمَّاد بن زيد وغيرهما".

وقد ظَنَّ بَعْضُهم أن هذا الخبر منقطعٌ، لإسقاط هؤلاء الجماعة "مروان بن الحكم" من الإسناد، وقالوا: إن عروة لم يسمعه من بسرة.

__________

(1/ 126) ح 82. ك الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر.

(1/ 216) ك الغسل والتيمم، باب الوضوء من مس الذكر.

(6/ 406 - 407) .

4 الإحسان: (2/ 221) ح 1112.

(1/ 148) ح 10.

6 الرَّفْغُ - بالضم والفتح -: واحد الأَرْفَاغ، وهي أصول المغابن كالآباط والحوالب، وغيرها من مَطَاوي الأعضاء وما يجتمع فيه من الوسَخِ والعَرَقِ. (النهاية 2/244) .

(2/122)

وقد صَوَّرَ الدارقطني - رحمه الله - ما تَوَهَّمَهُ هؤلاء ثم أجاب عنه، فقال: "فلما وَرَدَ هذا الاختلاف عن هشام، أشكلَ أمر هذا الحديث، وظنَّ كثير من الناس - مِمَّن لم يمعن النظر في الاختلاف - أن هذا الحديث غيرُ ثابت ... فلما نظرنا في ذلك وبحثنا عنه: وجدنا جماعة من الثقات الحفاظ منهم: شعيب بن إسحاق، وربيعة بن عثمان، والمنذر بن عبد الله الحزامي، وعنبسة بن عبد الواحد الكوفي، وعلي بن مسهر القاضي ... وزهير بن معاوية الجعفي، رووا هذا الحديث عن: هشام، عن أبيه، عن مروان، عن بسرة، وذكروا في روايتهم في آخر الحديث: أن عروة قال: ثم لقيت بسرة بعد فسألتها عن الحديث، فحدثتني به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثني مروان عنها. فَدَلَّ ذلك من رواية هؤلاء النَّفَر على صحة الروايتين الأولتين جميعاً، وزال الاختلاف والحمد لله، وصحَّ الخبر، وثبتَ أن عروة سمعه من بسرة، وشَافَهَتْهُ به بعد أن أخبره مروان عنها". قال: "ومِمَّا يُقَوِّي ذلك ويَدُلُّ على صحته، وأن هشاماً كان يُحَدِّثُ به مرة عن أبيه، عن مروان عن بسرة عن السماع الأول، وكان يحدث به تارة أخرى عن أبيه عن بسرة على مشافهة عروة لبسرة وسماعه منها بعد أن سمعه من مروان عنها: ما قَدَّمْنَا ذكره من رواية ابن جريج، وحماد بن سلمة، وزمعة، وأبي علقمة الفروي ... فإنهم رووه عن هشام على الوجهين جميعاً، وكان هشامٌ ربما نَشِطَ فَحَدَّثَ به على الوجهين جميعاً ... "1. وقال الحاكم نحواً من كلام الدارقطني هذا ثم قال: " ... فَدَلَّنَا ذلك على صِحَّة الحديث وثبوته على شرط الشيخين، وزالَ عنه الخلاف والشبهة، وثبت سماع عروة من بسرة"2.

__________

1 علل الدارقطني: جـ 5 (ق 194 - 196) .

2 المستدرك: (1/136) .

(2/123)

وأنا أوردُ طرفاً من هذه الروايات التي صَرَّحَ فيها عروةُ بسماعه من بُسْرَة، والتي أشار الدارقطني إلى جملة منها آنفاً:

فرواية "شعيب بن إسحاق": أخرجها ابن حبان في (صحيحه) 1، والدارقطني في (سننه) 2، والحاكم في (المستدرك) 3 عن هشام، عن أبيه، أن مروان حَدَّثَهُ عن بسرة، فأنكر ذلك عروة، فسأل بسرة، فَصَدَّقَتْهُ بما قال. قال الدارقطني: "صحيح".

ورواية "ربيعة بن عثمان": أخرجها ابن الجارود في (المنتقى) 4، وابن حبان في (صحيحه) 5، والحاكم في (المستدرك) 6 وفيه قول عروة: "فسألت بسرة، فَصَدَّقَتْهُ".

واستوعَبَ الحاكم في (المستدرك) 7 بقية هذه الروايات، فلتنظر هناك.

وَجَزَمَ ابن خزيمة في (صحيحه) 8 بسماع عروة من بسرة هذا الحديث، فقال - بعد أن نَقَلَ عن الشافعي وجوب الوضوء من ذلك -:

__________

1 الإحسان: (2/220) ح 1110.

(1/ 146) ح 1.

(1/ 136- 137) .

(ح رقم 18) .

(ح رقم 1111) .

(1/137) .

(1/137) .

(1/ 23) .

(2/124)

"وبقول الشافعي أقول؛ لأن عروة قد سمع خبر بسرة منها، لا كما تَوَّهَّمَ بعض علمائنا ... ".

هذا ما يتعلق بالكلام على رواية هشام بن عروة، عن أبيه عروة.

وأما رواية عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عروة: فأخرجها مالك في (الموطأ) 1 عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، عن مروان، عن بسرة به. وأخرجه الشافعي في (مسنده) 2 عن مالك، والبيهقي في (سننه) 3 من طريق الشافعي.

وأخرجه أبو داود في (سننه) 4، وابن حبان في (صحيحه) 5 من طريق مالك. وأحمد6، وابن الجارود7من طريق سفيان الثوري، وأحمد8 - أيضاً - والطبراني9 من طريق الزهري. والدارمي10 من طريق ابن إسحاق، كُلُّهُم عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال:

__________

(1/42) ح 58، باب الوضوء من مس الفرج.

(ص12) باب ما خرج من كتاب الوضوء.

(1/128) .

(1/125) ح181، باب الوضوء من مس الذكر.

5 الإحسان: (2/220) ح1109.

6 المسند: (6/406) .

7 المنتقى: (ح رقم 16) .

8 المسند: (6/407) .

9 المعجم الكبير: (24/194) ح 490.

10 في مسنده: (1/150) ح 731، باب الوضوء مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ.

(2/125)

سمعت عروة بن الزبير يقول: دخلتُ على مروان بن الحكم، فتذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: وَمَنْ مَسِّ الذَّكَرِ الوضوء. فقال عروة: ما علمتُ هذا. فقال مروان: أخبرتني بُسرة بنت صفوان، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ... فذكره، هذا لفظ مالك ومن رواه من طريقه، وعند الباقين - إلا الدرامي - أن عروة أَنْكَرَ ذلك، فأرسلَ مروان رسولاً - وفي رواية حَرَسِيًّا - إلى بُسْرة فجاء بذلك.

وقد وقع خلافٌ في إسناد حديث عبد الله بن أبي بكر أيضاً: فرواه سائر أصحاب مالك عنه كما ذكرنا، وخالفهم عبد الوهاب بن عطاء، فرواه عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة عن بسرة، بإسقاط "مروان بن الحكم" من الإسناد، قال الدارقطني: "والأول أصحُّ"1.

وأخرجه كذلك بإسقاط مروان: النسائي في (سننه) 2من طريق سفيان. والدارمي في (مسنده) 3، والطبراني في

__________

1 علل الدارقطني: جـ 5 (ق 196) .

(1/216) .

(1/150) ح730.

(2/126)

(الكبير) 1من طريق الزهري، كلهم عن عبد الله بن أبي بكر به.

وأخرجه الطيالسي في (مسنده) 2 من طريق شعبة، عن عبد الله بن أبي بكر - أو أخيه محمد بن أبي بكر - به. وأخرجه الطبراني في (الكبير) 3من طريق ابن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، وأسقط من الإسناد "عبد الله بن أبي بكر".

وَرُوِيَ على وجوه أخرى غير هذه، وقد استوعبها الدارقطني كُلَّها في (علله) 4 فأفادَ وأجادَ رحمه الله.

وقد حَكَمَ قومٌ بعدم سماع هشام هذا الحديث من أبيه، قال النسائي: "هشام بن عروة لم يسمع من أبيه هذا الحديث"5. وطعن - كذلك - الطحاويُّ في رواية هشام عن أبيه، وقال بأن هشاماً إِنَّمَا أَخَذَهُ عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم6. ولعله استندَ في ذلك إلى ما رواه الطبراني في (الكبير) 7 من طريق: حجاج، عن هَمَّام، عن هشام بن عروة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو، عن عروة، عن بُسرة به.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وهذه الرِّواية لا تَدُلُّ على أن هشاماً لم يسمعه من أبيه، بل فيها: أنه أَدْخَلَ بَينهُ وبينهُ واسطة، والدليل على أنه سمعه من أبيه - أيضاً - ما رواه الطبراني8 أيضاً: حَدَّثَنَا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا يحيى بن سعيد، قال: قال شعبة: لم يسمع هشام حديث أبيه في مَسِّ الذَّكَرِ. قال يحيى: فسألت هشاماً، فقال:

__________

(24/193) ح487.

(ح 1657) .

(24/193) ح 486.

4 جـ5 (ق 196-209) .

5 السنن: (1/216) .

6 شرح معاني الآثار: (1/73) .

(24/198) ح 504.

8 المعجم الكبير: (24/202) ح 519.

(2/127)

أخبرني أبي"1. ثم أشار ابن حجر - رحمه الله - إلى الروايات التي فيها تصريح هشام بسماعه من أبيه وتحديثه إياه، وقد تَقَدَّمَتْ عند الكلام على رواية هشام بن عروة2. ثم قال رحمه الله: "ورواه الجمهور من أصحاب هشام، عنه، عن أبيه بلا واسطة، فهذا: إما أن يكون هشام سمعه من أبي بكر عن أبيه، ثم سمعه من أبيه، فكان يُحَدِّثُ به تارةً هكذا، وتارةً هكذا. أو يكون سمعه من أبيه وَثَبَّتَهُ فيه أبو بكر، فكان تارةً يذكر أبا بكر، وتارةً لا يذكره، وليست هذه العِلَّةُ بقادحة عند المحققين"3.

وقد أُعِلَّ هذا الحديث أيضاً بمروان بن الحكم، فقال الذين ذهبوا إلى عدم سماع عروة من بسرة: الواسطةُ بين عروة وبسرة: إما مروان بن الحكم، وهو مطعونٌ في عدالته، أو حَرَسِيّه، وهو مجهول4.

وقد تَقَدَّمَ كلام الأئمة في ثبوت سماع عروة هذا الحديث من بسرة، فمن لم يَقْبَل رواية مروان ولم يحتج به، فأمامه رواية عروة عن بسرة مباشرة، ويكون الاعتماد عليها.

وهذا ما قَرَّرَهُ ابن حبان فقال: "عائذ بالله أن نَحْتَجَّ بخبر رواه مروان بن الحكم وذووه في شيء من كتبنا ... وأما خبر بسرة الذي ذكرناه: فإن عروة بن الزبير سمعه من مروان بن الحكم عن بسرة، فلم يُقْنِعْهُ ذلك حتى بعث مروان شُرطياً له إلى بسرة فسألها، ثم أتاهم فأخبرهم

__________

1 التلخيص الحبير: (1/123) .

2 وانظر: رواية يحيى القطان عن هشام في مسند أحمد: (6/406-407) .

3 التلخيص الحبير: (1/123) .

4 التلخيص الحبير: (1/122) .

(2/128)

بمثل ما قالت بسرة، فسمعه عروة ثانياً عن الشرطي عن بسرة، ثم لم يقنعه ذلك حتى ذهب إلى بسرة فسمع منها، فالخبر عن عروة عن بسرة مُتَّصِلٌ ليس بمنقطع، وصار مروان والشرطي كأنهما عاريتان يسقطان من الإسناد"1.

ومع ذلك فإنَّ عروة نفسه قال في حقِّ مروان: "كان مروان لا يُتَّهَمُ في الحديث"2.

فإذا ظَهَرَ أن جميع ما أُعِلَّ به هذا الحديث مدفوع لا يثبت، فإنني أسوق طرفاً من أقوال الأئمة في تصحيح هذا الحديث:

فقد صَحَّحَه يحيى بن معين واحتجَّ به ونَاظَرَ عليه علي بن المديني3. وقال أبو داود: "قلت لأحمد: حديث بسرة ليس بصحيح؟ قال: بل هو صحيح"4. وقال البخاري - وقد سأله عنه الترمذي -: "أصحُّ شيء عندي في مَسِّ الذَّكَرِ حديث بسرة ابنة صفوان"5. وقال الترمذي: "حسن صحيح". وقال الدارقطني في سننه: "صحيح"، وقد تَقَدَّمَ كلامه عليه وتصحيحه إياه في (علله) . وقال الإسماعيلي في (صحيحه) : "يلزم البخاري إخراجه؛ فقد أخرج نَظِيرَهُ"6 وَصَحَّحَهُ ابن خزيمة وابن حبان،

__________

1 الإحسان: (2/220) .

2 تهذيب التهذيب: (10/92) .

3 سنن البيهقي: (1/136) .

4 التلخيص الحبير: (1/122) .

5 علل الترمذي: (1/156) .

6 التلخيص الحبير: (1/122) .

(2/129)

وقد تقدم كلامهما. وصححه أبو عبد الله الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: " ... هو على شرط البخاري بكل حال"1 وقال الشيخ الألباني: "صحيح"2.

فالحاصل: أن حديثَ بُسْرَة قد أُعِلَّ بعلل، منها: انقطاعه بين عروة وبسرة. ومنها: عدم سماع هشام من أبيه عروة. ومنها: الكلام في مروان بن الحكم. وقد أَشَارَ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى جواب العلة الأولى، فنقل عن الدارقطني صحة سماع عروة من بسرة، ولم يتعرض -رحمه الله- لباقي العلل، وقد ثبت صحة الحديث والحمد لله.

ومن الأحاديث التي تناولها ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب:

7- (7) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُم بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ، ليس بَيْنَهُ وبينه شيءٌ، فَلْيَتَوَضَّأ".

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، وعزاه إلى الشافعي، ثم نقل قول ابن السكن، وابن عبد البر، والحازمي في تصحيحه3. وسيأتي بيان ذلك.

قلت: هذا الحديث أخرجه: الشافعي في (مسنده) 4 - ومن طريقه

__________

1 التلخيص الحبير: (1/122) .

2 الإرواء: (1/150) ح 116.

3 تهذيب السنن: (1/134) .

(ص 12-13) باب ما خرج من كتاب الوضوء.

(2/130)

الحازمي1 - وأحمد في (مسنده) 2، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 3، من طرق عن:

يزيد بن عبد الملك4، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه به، واللفظ الذي ساقه ابن القَيِّم هو لفظ الشافعي، إلا أن فيه "ليس بينه وبينه شيء"، لكنه عند الحازمي - من طريق الشافعي - كما ساقه ابن القَيِّم. ولفظ الإمام أحمد: "من أَفْضَى بِيَدِهِ إلى ذَكَرِهِ، ليس دونه سِتْرٌ، فقد وَجَبَ عليه الوضوء". وهو عند البيهقي مختصر، ولفظه: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فعليهِ الوضوء"، لكن أخرجه من وجه آخر، ولفظه: "من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونها حجاب، فقد وَجَبَ عليه وضوء الصلاة".

والحديث من هذا الطريق ضعيف؛ لضعف يزيد بن عبد الملك النوفلي، لكن تابعه عليه نافع بن أبي نعيم5.

فقد أخرجه ابن حبان في (صحيحه) 6، والطبراني في (الصغير)

__________

1 الاعتبار: (ص43) .

(2/333) .

3 قط: (1/147) ح6. هق: (1/130، 133) .

4 ابن المغيرة بن نوفل بن الحارث الهاشمي النوفلي، ضعيف، من السادسة /ق. (التقريب 603) .

5 نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القاريء، المدني، مولى بني ليث، وقد ينسب لجده، صدوقٌ ثَبْتٌ في القراءة، من كبار السابعة، مات سنة 169هـ/ فق. (التقريب558) .

6 الإحسان: (2/222) ح 1115.

(1/42) .

(2/131)

من طريق: أصبغ بن الفرج، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك كليهما، عن سعيد المقبري به. وعند ابن حبان: " ... وليس بينهما سترٌ ولا حجابٌ فليتوضأ".

قال أبو حاتم ابن حبان - رحمه الله - عقب إخراجه: "احتجاجنا في هذا الخبر بنافع بن أبي نعيم دون يزيد بن عبد الملك النوفلي؛ لأن يزيد بن عبد الملك تَبَرَّأْنَا من عهدته في كتاب الضعفاء"1.

وصَحَّحَ رواية نافع بن أبي نعيم هذه أيضاً: ابن السكن، فقال: "هذا الحديث من أجودِ ما رُوِي في هذا الباب، لرواية ابن القاسم صاحب مالك، عن نافع بن أبي نعيم، وأما يزيد: فضعيف"2.

وقال ابن عبد البر: "كان حديث أبي هريرة هذا لا يعرف إلا بيزيد بن عبد الملك النوفلي، عن سعيد، عن أبي هريرة، حتى رواه أصبغ ابن الفرج، عن ابن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك جميعاً، عن سعيد، عن أبي هريرة. فَصَحَّ الحديث بنقل العدل عن العدل على ما ذكر ابن السكن، إلا أن أحمد بن حنبل كان لا يرضى نافع بن أبي نعيم، وخالفه ابن معين فيه، فقال: هو ثقة، وقال أحمد بن حنبل: هو ضعيف، منكر الحديث"3.

قلت: وهذه المقالة من الإمام أحمد لم أقف على مثلها عند غيره.

__________

1 انظر كلامه عليه في المجروحين: (3/102) .

2 الاستذكار: (1/311) .

3 الاستذكار: (1/311-312) .

(2/132)

وَوَثَّقَهُ ابن معين كما تقدم، فقال: "ثقة"1. وقال ابن المديني: "كان عندنا لا بأس به"2. وقال ابن سعد: "كان ثبتاً"3. وقال الساجي: "صدوق"4. وقال أبو حاتم: "صدوق صالح الحديث"5 وقال النسائي: "ليس به بأس"6. وقال ابن عدي: " ... ولم أَرَ في حديثه شيئاً منكراً، وأرجو أنه لا بأس به"7.

وذكره ابن حبان في (الثقات) 8. فأنَّى له - بعد أقوال هؤلاء الأئمة - أن يكون منكر الحديث؟! بل يحصل من مجموع كلامهم - رحمهم الله - أنه حسن الحديث على أقل أحواله، ولذلك صَحَّحَ الأئمة حديثه كما تَقَدَّمَ، وجعلوه شاهداً لحديث يزيد بن عبد الملك.

وقد أخرجه الحاكم في (المستدرك) 9 من طريق نافع هذا وحده، غير مقرون بيزيد، وقال: "حديث صحيح، وشاهده الحديث المشهور عن يزيد بن عبد الملك، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة".

__________

1 تاريخ الدوري عن يحيى: (2/602) .

2 الميزان: (4/242) .

3 تهذيب التهذيب: (10/408) .

4 المصدر السابق.

5 الجرح والتعديل: (4/1/457) .

6 الميزان: (4/242) .

7 الكامل: (7/51) .

(7/532) .

(1/138) .

(2/133)

وقال الحازمي: " ... وقد رُوِي عن نافع ... كما رواه يزيد بن عبد الملك، وإذا اجتمعت هذه الطرق دَلَّتْ على أن هذا الحديث له أصل من رواية أبي هريرة"1.

وقال ابن حبان في كتاب (الصلاة) : "هذا حديث صحيح سنده، عدول نقلته"2.

فَتَحَصَّل عندنا أن هذا الحديث وإن كان يُضَعَّف من طريق "يزيد ابن عبد الملك"، فإنه بانضمام طريق "نافع بن أبي نعيم" إليه يأخذ قوة ويصير حسناً، وقد حَكَمَ عليه الأئمة الحُفَّاظ بالصحة: ابن السكن، وابن حبان، والحاكم، وابن عبد البر، والحازمي. وقد نَقَلَ ابن القَيِّم - رحمه الله - قول ابن السكن، وابن عبد البر، والحازمي كما تَقَدَّم.

__________

1 الاعتبار: (ص43-44) .

2 التلخيص الحبير: (1/126) .

(2/134)

6- باب ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر

8- (8) حديث طلق بن علي أنه سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يَمَسُّ ذَكَرَهُ بعد الوضوءِ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلْ هُوَ إلا مُضْعَةٌ مِنْكَ، أو بَضْعَةٌ مِنْكَ".

تَكَلَّمَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على هذا الحديث، فَذَهَبَ إلى أنه مَرْجُوحٌ، وأن حديث بُسْرة - الماضي ذِكْره - وغيره من الأحاديث الواردة في انتقاض الوضوء بمس الذَّكَرِ راجحة على حديث طَلْقٍ هذا في عدم الانتقاض، وذكر جملةً من المرجحات1 سيأتي نقلها عنه إن شاء الله.

قلت: حديث طلق هذا مداره على قيس بن طلق2، عن أبيه طلق بن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً.

وقد رواه عن قيس بن طلق جماعة، منهم:

__________

1- عبد الله بن بدر3: أخرج ذلك أبو داود4، والترمذي5،

1 تهذيب السنن: (1/ 134 - 135) .

2 ابن علي الحنفي، اليَّمَامِي، صدوق، من الثالثة، وَهِمَ من عَدَّهُ من الصحابة/4. (التقريب 457) .

3 ابن عميرة الحنفي السحيمي، اليمامي، كان أحد الأشراف، ثِقةٌ، من الرابعة/ 4. (التقريب 296) .

(1/127) ح 182 ك الطهارة، باب الرخصة في ذلك (يعني: مس الذكر) .

(1/ 131) ح 85 ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر.

(2/135)

والنسائي1 في (سننهم) ، وابن الجارود في (المنتقى) 2 وابن حبان في (صحيحه) 3، والطبراني في (الكبير) 4، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 5 من طرق عن:

مُلاَزِم بن عمرو6، عن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن طلق ابن علي قال: قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل كأنه بَدَوِيٌّ فقال: يا نَبِيَّ الله، ما ترى في مَسَّ الرجل ذكره بعدما يتوضأ؟ فقال: "هل هو إلا مُضْغَةٌ7 منه. أو قال: بَضْعَةٌ8 منه". هذا لفظ أبي داود، والباقون نحوه، إلا أن عند النسائي، وابن الجارود، والدارقطني قول الرجل: " ... ما ترى في رجل مَسَّ ذكره في الصلاة؟ ". وعند ابن حبان: "أَحَدُنَا يكون في الصلاة، فيحتك، فتصيب يَدُهُ ذَكَرَه؟ ". وهو عند الترمذي مختصر، ليس فيه إلا ذكر اللفظ المرفوع، دون ذكر كلام طلق، ولا سؤال الرجل.

وهذا إسناد لا ينزلُ عن درجة الحسن، وَكَأَنَّ البيهقي - رحمه الله - أراد أن يغمز هذا الإسناد، فنقل عقب روايته عن أحمد بن إسحاق

__________

(1/ 101) ك الطهارة، باب ترك الوضوء من ذلك.

(ح رقم 21) .

3 الإحسان: (2/ 223) ح 1116، 1117.

(8/ 398) ح 8243.

5 قط: (1/ 149) ح 17. هق: (1/ 134) .

6 ابن عبد الله بن بدر، أبو عمرو اليَّمامي، صدوق، من الثامنة / 4. (التقريب 555) .

7 الْمُضْغَةُ: القطعة من اللحم، قدر ما يمضغ، وجمعها: مُضَغٌ. (النهاية 4 / 339) .

8 البَضْعَةُ: القطعة من اللحم، وقد تكسر. (النهاية 1/133) .

(2/136)

الضبعي قوله: "ملازم فيه نَظَرٌ"!

قلت: قد وَثَّقَهُ الإمام أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، والنسائي، وابن حبان، والدارقطني1. وقولهم - لا شكَّ - مُقَدَّمٌ على قول الضبعي؛ فهم أئمة هذا الشأن وفرسانه، كيف وقد انفرد الضبعي بهذه المقالة؟! ولذلك فقد صَحَّحَ الترمذي حديث ملازم هذا، وَقَدَّمَهُ على غيره من طرق حديث طلق، فقال: "وقد روى هذا الحديث أيوب بن عتبة، ومحمد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه ... وحديث ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر أصحُّ وأحسن"2. فَسَقَطَ بذلك الطعن في ملازم، وتبين أنه لا مجال لغمزه.

2- محمد بن جابر3: أخرجه أبو داود وابن ماجه في (سننيهما) 4، وأحمد في (مسنده) 5، وابن الجارود في (المنتقى) 6،

__________

1 انظر أقوالهم على الترتيب في: بحر الدم: (رقم 1052) ، والتاريخ برواية الدوري (2/ 585 رقم 3249) ، والجرح والتعديل: (8/ 436) ، وتهذيب التهذيب: (10/384 - 385) .

2 جامع الترمذي: (1/ 132) .

3 ابن سَيَّار بن طارق الحنفي، اليمامي، أبو عبد الله، صدوقٌ، ذَهَبَتْ كُتبه فساء حفظه وَخَلَّطَ كثيراً، وعَمِيَ فصار يُلَقَّن، ورجحه أبو حاتم على ابن لهيعة، من السابعة، مات بعد السبعين/د ق. (التقريب 471) .

4 د: (1/128) ح 183. جه: (1/163) ح 483.

(4/23) .

(ح رقم 20) .

(2/137)

وعبد الرزاق في (المصنف) 1، والطبراني في (الكبير) 2، والدارقطني في (سننه) 3، والحازمي في (الاعتبار) 4، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 5، من طرق، عن:

محمد بن جابر، عن قيس بن طلق، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم به. وعندهم أن السائل هو طلق بن علي، إلا في رواية الإمام أحمد والدارقطني فعندهما: أن رجلاً سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم.

ومحمد بن جابر ضعيف، ضعفه غير واحد من أئمة الشأن، فقال ابن معين: "ليس بشيء"6. وقال عمرو بن علي: " ... كثيرٌ الوهم، متروكُ الحديثِ"7. وقال أبو زرعة: "ساقط الحديث"8. وقال البخاري: "ليس بالقوي عندهم"9. وقال النسائي: "ضعيف"10.

ولذلك فقد ضَعَّفَ هذا الحديث جماعة من العلماء بمحمد بن جابر

__________

(1/117) ح 426.

(8/396) ح 8233، 8234.

(1/149) ح 15.

(ص42) باب ما جاء في مس الذكر.

(1/362) ح 597، 599.

6 تاريخ الدوري عن ابن معين: (2/507) .

7 تهذيب التهذيب: (9/89) .

8 الجرح والتعديل: (3/2/220) .

9 الضعفاء الصغير: (ص 204) .

10 الضعفاء والمتروكين: (ص93) .

(2/138)

هذا، فسأل ابنُ أبي حاتم أَبَاه وأبا زرعة عنه "فلم يثبتاه"1. وقال الترمذي: "وقد تَكَلَّمَ بعض أهل العلم في محمد بن جابر ... وحديث ملازم - يعني الطريق السابق - أصحُّ وأحسن". وضعفه به: ابن الجوزي2، والبيهقي3، والزيلعي4.

3- أيوب بن عتبة5: أخرجه أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 6، والحازمي في (الاعتبار) 7، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 8.

وهذا أَعَلَّهُ: الترمذيُّ، والبيهقيُّ، وابن الجوزي، والزيلعي، بأيوب بن عتبة9، فقد ضَعَّفَهُ غير واحدٍ من العلماء10.

4- أيوب بن محمد العِجْلي: أخرجه الدارقطني في (سننه) 11، وابن

__________

1 علل ابن أبي حاتم: (1/48) ح 111.

2 العلل المتناهية: (1/363) .

3 السنن: (1/134-135) .

4 نصب الراية: (1/61) .

5 اليمامي، أبو يحيى القاضي، ضعيف، من السادسة، مات سنة160هـ/ق. (التقريب118) .

6 حم: (4/22) . طس (ح1096) .

(ص42-43) .

(1/362) ح 596.

9 انظر كلامهم على الطريق الذي قبله.

10 انظر أقوال الأئمة في أيوب هذا في (تهذيب التهذيب) : (1/408-409) .

11 (1/149) ح18.

(2/139)

الجوزي في (علله) 1 من طريق عبد الحميد بن جعفر، عن أيوب بن محمد، عن قيس بن طلق، عن أبيه به.

قال الدارقطني عقب إخراجه: "أيوب مجهول".

قلت: هو أيوب بن محمد، أبو سهل العجلي، اليمامي. ضَعَّفَهُ ابن معين2. وقال أبو زرعة: "منكر الحديث"3.

وعبد الحميد بن جعفر - الراوي عنه - كان سفيان الثوري يُضَعِّفُه، وَوَثَّقَه غيره4. وقد أشار ابن الجوزي5، والزيلعي6 إلى ضعف هذا الإسناد بهذين الرجلين.

5- عكرمة بن عمار7: أخرجه من طريقه ابن حبان في (صحيحه) 8 فقال: "ذكر الخبر الْمُدْحِض قول من زعم أن هذا ما رواه ثقة عن قيس بن طلق خلا ملازم بن عمرو". ثم ساقه بإسناده إلى عكرمة،

__________

(1/362) ح598.

2 تاريخ الدارمي عن ابن معين: (ص179) رقم 645.

3 الجرح والتعديل: (1/1/257) .

4 الجرح والتعديل: (3/1/10) ، والميزان: (2/539) .

5 العلل المتناهية: (1/363) .

6 نصب الراية: (1/61) .

7 العِجْلي، أبو عمار اليمامي، صدوقٌ يغلط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب، من الخامسة، مات قبيل الستين / خت م 4. (التقريب 396) .

8 الإحسان: (2/223) ح1118.

(2/140)

عن قيس بن طلق، عن أبيه مرفوعاً.

وأشار البيهقي - رحمه الله - إلى رواية عكرمة هذه، ثم قال:

"وعكرمة بن عمار أمثلُ مَنْ رواه عن قيس، وعكرمة بن عمار قد اختلفوا في تعديله: غمزه يحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، وضعفه البخاري جداً"1.

قلت: لكن وَثَّقَهُ ابن معين، وابن المديني، والعجلي، وأبو داود، والدارقطني، ويعقوب بن شيبة، وابن شاهين، وابن حبان وغيرهم2. وإنما ضعفوه في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فإن فيها اضطراباً. قال ابن التركماني في (الجوهر النقي) 3 - متعقباً البيهقي -: "احتجَّ به مسلم، واستشهد به البخاري، وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في المستدرك ... ". فالرجل بهذه المثابة حسن الحديث إن شاء الله.

وبعد، فهذه هي طرق هذا الحديث، وهؤلاء هم رواته عن قيس بن طلق، وأمثلُ هذه الطرق: هو طريق "ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر" كما تقدم، وكذا طريق عكرمة بن عمار عن قيس، فإنه لا غبار عليه،

__________

1 سنن البيهقي: (1/135) .

2 انظر أقوالهم على الترتيب في: تاريخ الدوري عن ابن معين (2/414) ، وسؤالات ابن أبي شيبة لعلي بن المديني: (رقم 169) ، وثقات العجلي: (ص339 رقم 1159) ، وسؤالات الآجري لأبي داود: (رقم 707) ، وسؤالات البرقاني للدارقطني (رقم 403) ، وثقات ابن شاهين: (رقم 1074) ، وثقات ابن حبان: (5/233) ، وتهذيب التهذيب: (7/262) .

(1/134) .

(2/141)

فهو يلي طريق عبد الله بن بدر في الرتبة، وتكون الطرق الثلاثة الأخرى متابعات لهذين الطريقين ومؤيدة لهما، ومجموع هذه الطرق يجعل هذا الحديث يصل إلى درجة الصحيح لغيره، أو يكون حسناً على أقل تقدير.

وقد صَحَّحَهُ جمع من الأئمة، منهم: الترمذي، فقال: "هذا الحديث أحسن شيء روي في هذا الباب"، وذهب - رحمه الله - إلى أن طريق ملازم بن عمرو هو أصح طرق هذا الحديث وأحسنها. وصححه كذلك الطحاوي، فقال: "هذا حديث مستقيم الإسناد، غير مضطرب في إسناده ولا متنه"1. ثم ذكر بسنده إلى عليِّ بن المديني أنه قَدَّمَهُ على حديث بسرة من طريق ملازم بن عمرو. وَصَحَّحَه كذلك الطبراني2، وعبد الحق في (أحكامه) ، قال الزيلعي: "وذكر عبد الحق في أحكامه حديث طلق هذا، وسكت عنه، فهو صحيح عنده على عادته في مثل ذلك"3. وصححه كذلك: عمرو بن علي الفلاس، وقال: "هو عندنا أثبت من حديث بسرة"4. وقال ابن حزم: "هذا خبر صحيح"5. وظاهرُ صنيع ابن حبان تصحيحه إياه، حيث أخرجه في (صحيحه) وذكر له متابعة ما رأيت أحداً أخرجها سواه، تلك التي من طريق: عكرمة بن عمار، عن قيس بن طلق به، وتَقَدَّمَ كلامه في ذلك. وقال الزيلعي - عند كلامه على

__________

1 شرح معاني الآثار: (1/ 76) .

2 المعجم الكبير: (8/ 402) .

3 نصب الراية: (1/ 62) .

4 التلخيص الحبير: (1/ 125) .

5 المحلى: (1/ 123) .

(2/142)

أحاديث عدم النقض -: " ... حديث طلق بن علي، وهو أمثلها"1. وذهب ابن القطان إلى حُسْنِهِ، مُتَعَقِّبَاً بذلك عبد الحق في سكوته عليه، فقال: "والحديث مختلف فيه، فينبغي أن يقال فيه: حسن، ولا يحكم بصحته"2. وصححه - أيضاً - الشيخ أحمد شاكر3 رحمه الله.

فهذه أقوال المصححين لهذا الحديث، وقد ذهبت طائفة أخرى إلى القول بضعفه، وتنحصر العلل التي أعلوا بها هذا الحديث فيما يلي:

أولاً: ضعفُ قيس بن طلق، فقد قال الشافعي - فيما روى عنه الزعفراني -: "سألنا عن قيس، فلم نجد من يعرفه بما يكون لنا4 قبول خبره"5. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: "قيس بن طلق ليس ممن تقوم به الحجة"6 وَوَهَّمَاه. وروى البيهقي بسنده إلى ابن معين أنه قال: "قد أكثر الناس في قيس بن طلق، ولا يحتج بحديثه"7.

ثانياً: ضعف محمد بن جابر، وأيوب بن عتبة وغيرهما من الذين رووه عن قيس بن طلق.

والجواب عن ذلك:

__________

1 نصب الراية: (1/ 60) .

2 نصب الراية: (1/ 62) .

3 التعليق على جامع الترمذي: (1/ 132) .

4 يعني: بما يُسَوِّغ لنا.

5 سنن البيهقي: (1/ 135) .

6 علل ابن أبي حاتم: (1/ 48) ح 111.

7 سنن البيهقي: (1/ 135) .

(2/143)

أولاً: أما قيس بن طلق، فإنه وإن لم يعرفه الشافعيُّ فقد عرفه غيره، وَوَثَّقَهُ جماعة من أهل الشأن: ابن معين1، والعِجلي2، وذكره ابن حبان في (الثقات) 3، هذا مع رواية جماعة كثيرين عنه4، ومثله لا يكون مجهولاً، فعدم معرفة الشافعي به لا يوجب تركه ما دام غيره قد عرفه ووثقه.

وأما ما رواه البيهقي عن ابن معين من عدم الاحتجاج به، فقد رَدَّهُ ابن التركماني، فقال: "ذكر البيهقي ذلك بسند فيه محمد بن الحسن النَّقَّاشِ المفسر، وهو من المتهمين بالكذب، وقال البرقاني: كل حديثه مناكير ... "5. وقد تَقَدَّمَ من رواية الدارمي عن يحيى أنه وَثَّقَهُ، ولا شكَّ أن ذلك مُقَدَّم.

ثانياً: وأما ضعف محمد بن جابر، وأيوب بن عتبة: فقد قَدَّمْنَا أن الاعتماد في ذلك على رواية عبد الله بن بدر عن قيس، فإنها أصحُّ هذه الطرق وأحسنها كما قال غير واحد. ثم إن رواية "عكرمة بن عمار" عن قيس متابعة قوية أيضاً، فعكرمة أمثل من رواه عن قيس كما قال غير واحد، وإذا كان الأمر كذلك، فإن روايتي محمد بن جابر وأيوب بن عتبة تكون كالمتابعات لرواية عبد الله بن بدر دون اعتماد عليهما.

فإذا ثَبَتَ لدينا أن حديثَ طلق هذا ليس بضعيف، وأنه بمجموع

__________

1 تاريخ الدارمي عن ابن معين: (ص 144) رقم 486.

(الثقات) بترتيب الهيثمي: (ص 393) .

(5/ 313) .

4 انظر: تهذيب التهذيب: (8/ 398) .

5 الجوهر النقي: (1/134-135) .

(2/144)

طرقه حسن على أقل أحواله - مع تصحيح جماعة له - وأن ما أُعِلَّ به لا يرد عليه، إذا تَقَرَّرَ ذلك: فإن حديث طلق هذا في عدم الانتقاض بالمسِّ يكون مخالفاً في ظاهره لحديث بُسرة وغيرها من الصحابة الذين رووا الانتقاض، ولقد سلك العلماء إزاء هذا التعارض1 مسالك، أبرزها:

أولاً: الجمع بين الحديثين، وذلك من وجوه:

1- أنَّ خبر طلق يُحْمَلُ على الْمَسِّ بحائل، واستدلوا ببعض ألفاظه التي جاء فيها أنه سُئِلَ عن مَسِّهِ في الصلاة، قالوا: فالْمُصَلي لا يمسُّ فرجه من غير حائل في الصلاة. حكاه الخطابي2. وقَرَّرَ ابن حبان -رحمه الله- ذلك، فقال في (صحيحه) 3: "ذكر البيان بأن الأخبار التي ذكرناها مجملة بأن الوضوء إنما يجب من مَسِّ الذكر إذا كان ذلك بالإفضاء دون سائر المسِّ، أو كان بينهما حائل". ثم ساق حديث المقبري عن أبي هريرة، ولفظه: "إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُم بيده إلى فرجه، وليس بينهما سِتر ولا حجاب فليتوضأ".

2- أن المسَّ الذي لا ينقضُ هو ما لم يكن مُتَعَمَّدَاً، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال - وقد سئل عن ذلك -: "إن لم يتعمد ذلك لم ينتقض وضوءه"4.

وقيل بغير ذلك من وجوه الجمع.

__________

1 وقد قَرَّرَ شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة هذا التعارض، انظر: القواعد النورانية: (ص 33) .

2 معالم السنن: (1/ 133) .

3 الإحسان: (2/ 222) ح 1115.

4 مجموع الفتاوى: (21/ 231) .

(2/145)

ثانياً: النسخ. فقد ذهب جماعة إلى أن حديثَ طلق منسوخ، منهم:

ابن حبان، والطبراني، والحازمي، وغيرهم. وأوضحَ ابن حبان ذلك، فَرَوى بإسناده إلى قيس بن طلق، عن أبيه في قصة بنائه مسجد المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "خبر طلق بن علي الذي ذكرناه خبر منسوخ؛ لأن طلقَ ابن علي كان قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم أول سنةٍ من سِنيِّ الهجرة، حيث كان المسلمون يبنون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. وقد روى أبو هريرة إيجاب الوضوء من مَسِّ الذكر على حسب ما ذكرناه قبل، وأبو هريرة أسلمَ سنة سبع من الهجرة، فدلَّ ذلك على أن خبر أبي هريرة كان بعد خبر طلق بن علي بسبع سنين"1.

ثم روى ابن حبان بإسناده - أيضاً - إلى طلق حديث قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم ومبايعته إياه، ثم رجوعه إلى بلده، ثم قال: "في هذا الخبر بيانٌ واضحٌ أنَّ طلقَ بن عليٍّ رجع إلى بلده بعد القَدْمَةِ التي ذكرنا وقتها، ثم لا يُعْلَمُ له رجوعٌ إلى المدينة بعد ذلك. فمن ادَّعَى رجوعه بعد ذلك، فعليه أن يأتي بِسُنَّةٍ مُصَرِّحَةٍ، ولا سبيل له إلى ذلك"2.

وقد ذكر الحازمي مثل ذلك، ثم قال: "ثم نظرنا: هل نجد أمراً يؤكد ما صرنا إليه، فوجدنا طلقاً روى حديثاً في المنع، فَدَلَّنَا ذلك على صِحَّةِ النقل في إثبات النسخ، وأن طلقاً قد شاهد الحالتين، وروى الناسخ والمنسوخ"3.

__________

1 الإحسان: (2/ 224) .

2 الإحسان: (2/ 224 - 225) .

3 الاعتبار: (ص47) .

(2/146)

قلت: وحديث طلق في المنع هو الذي أخرجه الطبراني في (الكبير) 1 من طريق: حماد بن محمد، ثنا أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأ". ثم قال الطبراني - عنه وعن حديث عدم النقض -: "وهما عندي صحيحان، ويشبه أن يكون سمع الحديث الأول من النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا، ثم سمع هذا فوافق حديث بسرة، وأم حبيبة، وأبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني وغيرهم ممن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالوضوء من مس الذكر، فسمع المنسوخ والناسخ". ولكن "أيوب بن عتبة" ضعيف كما تقدم.

وذهب ابن حزم - أيضاً - إلى نسخه مستدلاً على ذلك بأمور:

أولها: أن خبر طلق موافق لما كان عليه الناس قبل ورود الأمر بخلافه، وإذا كان كذلك فإنه منسوخ يقيناً بورود الأمر بالوضوء من مس الذكر.

الثاني: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "هل هو إلا بَضْعَةٌ منك" دليل بَيِّنٌ على أنه كان قبل الأمر بالوضوء منه، لأنه لو كان بعده لم يَقُلْ صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، بل كان يبين أن الأمر بذلك قد نسخ، فقوله هذا يدل على أنه لم يكن سَلَفَ فيه حكم أصلاً، وأنه كسائر الأعضاء2.

ثالثاً: الترجيح. وهذا هو المسلك الذي سَلَكَهُ ابن القَيِّم رحمه الله، وذكر في ذلك عدة مُرَجِّحَات:

__________

(8/401) ح 2852.

2 انظر: المْحُلَّى: (1/323) بتصرف.

(2/147)

- منها: قوله بضعف حديث طلق، وقد بَيَّنَّا أن الأمر على خلاف ذلك، وأنه حسن بمجموع طرقه، لكن الذي لا شك فيه أن حديث بسرة أقوى، وبخاصة إذا راعينا مشاركة جملة من الصحابة لها في رواية النقض.

- ومنها: الاختلاف على طلق، فقد روى عنه النقض أيضاً، كما سبق بيان ذلك.

- ومنها: أن حديث طلق مُبْقٍ على الأصل - وهو عدم النقض - وحديث بُسرة ناقل عن الأصل، والناقل مقدم؛ لأن أحكام الشارع ناقلة عما كانوا عليه. وهذا من أدلة النسخ كما تَقَدَّمَ في كلام ابن حزم، لكن جعله ابن القَيِّم من جملة المرجحات لحديث بسرة.

- ومنها: أنه قد روى النقض: بسرة، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وأم حبيبة، وأبو أيوب، وزيد بن خالد، ولا شكَّ أن العدد الكثير من الصحابة مقدم على رواية الواحد.

- ومنها: قولُ أكثر الصحابة بالنقض، منهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله ابنه، وأبو أيوب، وزيد بن خالد، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وعائشة، وأم حبيبة، وبسرة، وعن كلٍّ من سعد بن أبي وقاص وابن عباس روايتان1.

فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديث طلق في عدم نقض الوضوء بمس الذكر

__________

1 انظر: تهذيب السنن: (1/134-135) .

(2/148)

ما بين: مُؤَوَّل، ومرجوح، ومنسوخ، ولقد ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى ضعف حديث طلق - على ما في ذلك من نظر - وأنه مرجوح بمرجحات أخرى غير ضعفه، وقال بأنه على تقدير صحته منسوخ.

ولعلَّ القول بالجمع بين الخبرين - إعمالاً لجميع الأدلة - أولى، والله أعلم.

(2/149)

7 ـ باب الوضوء من لحم الإبل

...

7- باب الوضوء من لحوم الإبل

9- (9) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغَنَم؟ قال: "إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلا تَتَوَضَّأْ" قَالَ: أَتَوَضَّأُ من لحومِ الإبِلِ؟ قال: "نَعَمْ، فَتَوَضَّأْ مِن لُحُومِ الإبِلِ". قال أُصَلِّي في مَرَابِضَ الغَنَمِ؟ قال: "نعم". قِال أُصَلِّي في مباركِ الإبل؟ قال: "لا".

ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - في (تهذيب السنن) 1، وذكر أن عليَّ ابن المديني أعله بجهالة "جعفر بن أبي ثور" راويه عن جابر، ثم قال: "وهذا تعليل ضعيف". ثم نقل أقوال العلماء في جعفر.

قلت: هذا الحديث يرويه عن جابر بن سمرة: جعفر بن أبي ثور2. ورواه عن جعفر ثلاثةُ نَفَرٍ:

أولهم: عثمان بن عبد الله بن موهب. أخرجه مسلم في (صحيحه) 3، وأحمد في (مسنده) 4، وابن خزيمة وابن حبان في

__________

(1/ 136 - 137) .

2 واسم أبيه: عكرمة، وقيل غير ذلك، يكنى: أبا ثور، مقبولٌ، من الثالثة / م ق. (التقريب 140) .

(1/ 275) ح 97 (360) ك الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل.

(5/ 98، 106) .

(2/150)

(صحيحيهما) 1، والبيهقي في (سننه) 2 كلهم من طريق:أبي عوانة، عن عثمان بن عبد الله3، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة به. واللفظ المسوق أول الباب لفظ مسلم، ولفظ الباقين بنحوه.ثانيهم: سِمَاك بن حرب4. أخرجه أحمد في (مسنده) 5 من طريق زائدة. وابن الجارود في (المنتقى) 6 من طريق سفيان الثوري، كلاهما عن: سِماك، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بنحو لفظ مسلم المتقدم.وأخرجه أحمد والطيالسي في (مسنديهما) 7، وابن حبان في (صحيحه) 8، والخطيب في (موضح أوهام الجمع والتفريق) 9 من طريق شعبة، عن سماك بن حرب، عن أبي ثور بن عكرمة، عن جابر به. كذا__________1 خز: (1/ 21) ح 31. حب: الإحسان: (2/ 225) ح 1121.(1/ 158) .3 ابن موهب التيمي مولاهم، المدني، الأعرج، وقد ينسب إلى جده، ثقة، من الرابعة، مات سنة 160 هـ/ خ م ت س ق. (التقريب 385) .4 الكوفي، أبو المغيرة، صدوقٌ وروايته عن عِكْرِمة خاصة مضطربةٌ، وقد تَغَيَّرَ بِأخرة فكان رُبَّمَا تَلَقَّنَ، من الرابعة، مات سنة 123 هـ/ خت م 4. (التقريب 255) .(5/ 108) .(ح 25) .7 حم: (5/ 93، 100) . طس: (ح 766) .8 الإحسان: (2/ 225) ح 1123.(2/ 16) .

(2/151)

عند أحمد وابن حبان، وعند الطيالسي: سمعت أبا ثور يُحَدِّثُ عن جابر ابن سمرة، ومن طريق أبي داود ساقه الخطيب.وقد خَطَّأوا شُعبة في روايته تلك، فقال الترمذي في (علله) 1: "أخطأ شعبة في حديث سماك، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة ... فقال: عن سماك، عن أبي ثور". وقال الحاكم أبو أحمد: " ... وليس ذكر عكرمة في نسبه بمحفوظ"2.ونقل ابن القَيِّم إعلال الترمذي لهذه الرواية، وأنه قال: "حديث سفيان أصح من حديث شعبة، وشعبة أخطأ ... "3. ونسب ذلك إلى (العلل) ، والذي فيه ما نقلته بدون تقديم حديث سفيان.قلت: ولا أدري ما وجه تخطئة الترمذي شعبة في هذا الحديث، فإنه قد ذكره بكنيته، وقد نَصَّ على كنيته غير واحد، منهم ابن حبان، فقال: "فجعفر بن أبي ثور هو أبو ثور بن عكرمة"4. ونص على ذلك الخطيب5 أيضاً، فالرجل كنيته توافق كنية أبيه، فما أخطأ من ذكره بكنيته.وثالث الرواة له عن جعفر بن أبي ثور: أشعث بن أبي الشعثاء6.__________(1/ 154) .2 تهذيب التهذيب: (2/ 87) .3 تهذيب السنن: (1/ 136 - 137) .4 الإحسان: (2/ 226) .5 موضح أوهام الجمع والتفريق: (2/ 16) .6 المحاربي، الكوفي، ثقة، من السادسة، مات سنة 125 هـ / ع. (التقريب 113) .

(2/152)

أخرجه ابن ماجه في (سننه) 1، وابن حبان في (صحيحه) 2 عن أشعث، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَتَوَضَّأَ من لحومِ الإبل، ولا نتوضأ من لحوم الغنم".فهؤلاء هم رواة هذا الحديث عن جعفر بن أبي ثور، قال ابن خزيمة عقب إخراجه هذا الحديث: "فهؤلاء ثلاثة من أَجِلَّةِ رواة الحديث، قد رووا عن جعفر ابن أبي ثور هذا الخبر".وأما حكمُ عليِّ بن المديني عليه بالجهالة: فقد روى ذلك البيهقي في (سننه) 3 بسنده إلى محمد بن أحمد بن البراء عن علي. ولكن هذا غير مقبول منه رحمه الله؛ فإن جعفراً هذا وإن لم يوثقه غير ابن حبان، فإنه مشهورٌ شهرةً تغني عن البحث عن حاله، مع رواية هؤلاء الأجلة - المتقدم ذكرهم - عنه، قال الإمام الترمذي: "جعفر بن أبي ثور رجل مشهور"4. وقال أبو أحمد الحاكم: "هو من مشايخ الكوفيين الذين اشتهرت روايتهم عن جابر ... "5. وقال ابن حبان: "أبو ثور بن عكرمة ابن جابر بن سمرة اسمه: جعفر، وكنية أبيه: أبو ثور ... فمن لم يُحْكِمْ صناعة الحديث تَوَهَّمَ أنهما رجلان مجهولان، فتفهموا رحمكم الله كيلا تغلطوا فيه"6. وقال البيهقي: "وجعفر بن أبي ثور هو رجل مشهور،__________(1/ 166) ح 495 ك الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل.2 الإحسان: (2/ 225) ح 1122، و (2/ 226) ح 1124.(1/ 158) .4 العلل: (1/ 154) .5 تهذيب التهذيب: (2/ 87) .6 الإحسان: (2/ 226) .

(2/153)

من ولد جابر بن سمرة" ثم ذكر الرواة عنه وقال: "ومن روى عنه مثل هؤلاء خَرَجَ من أن يكون مجهولاً، ولهذا أَوْدَعَهُ مسلم بن الحجاج في كتابه الصحيح"1.وهذا الحديث صَحَّحَهُ: أحمد بن حنبل2، وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: "صَحَّ في هذا الباب حديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حديث البراء، وحديث جابر بن سمرة"3. وقال ابن خزيمة: "لَمْ نر خِلافاً بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيحٌ من جهة النقل". وصححه ابن حبان بإخراجه في (صحيحه) ، وَمَالَ البيهقيُّ إلى تصحيحه، وقد مضى كلامه. وكفى بإخراج مسلم له في (صحيحه) .فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن ما أَعَلَّهُ به ابن المديني من تجهيل راويه لم يتحقق التعليل به، وقد رَدَّ ذلك ابن القَيِّم رحمه الله، واستشهد على صحة الحديث بكلام الأئمة الأعلام، فأصاب رحمه الله.وقد أَكَّدَ ابن القَيِّم - رحمه الله - صِحَّة هذا الخبر، فقال: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء من أَكْلِهِ في حديثين صحيحين، لا معارضَ لهما، ولا يَصُحُّ تأويلهما بغسل اليد؛ لأنه خلافُ المعهودِ من الوضوءِ في كلامه صلى الله عليه وسلم"4.__________1 سنن البيهقي: (1/ 159) .2 مختصر سنن أبي داود للمنذري: (1/ 137) .3 علل الترمذي: (1/ 153 - 154) .4 زاد المعاد: (4/ 376) .

(2/154)

8 - باب التوقيت في المسح على الخفين10- (10) عَنْ خزيمة بن ثابت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمَسْحُ على الخُفَّيْنِ: لِلمسافرِ ثَلاثةُ أَيَّامٍ، وللمقيم يومٌ وليلةٌ".وفي لفظ لأبي داود: "ولو استزدناه لزادنا".قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقد أَعَلَّ أبو محمد بن حزم حديث خزيمة هذا، بأن قال: رواه عنه أبو عبد الله الجَدَلِي صاحبُ رايةِ الكافر المختار، لا يُعْتَمَدُ على روايته1.وهذا تعليلٌ في غاية الفَسَادِ؛ فإن أبا عبد الله الجَدَلِي قد وَثَّقَهُ الأئمة: أحمد، ويحيى، وَصَحَّحَ الترمذي حديثه، ولا يُعلم أحدٌ من أئمةِ الحديث طَعَنَ فيه.وأما كونه صاحب راية المختار: فإنَّ المختار بن أبي عبيد الثَّقَفي إِنَّمَا أَظْهَرَ الخروج لأخذِهِ بثأر الحسين بن عليٍّ رضي الله عنهما، والانتصار له من قَتَلَتِهِ، وقد طَعَنَ أبو محمد بن حزم في أبي الطفيل، وَرَدَّ روايته بكونه كان صاحبَ راية المختار أيضاً، مع أن أبا الطفيل كان من الصحابة، ولكن لم يكونوا يعلمون ما في نفس المختار وما يسره، فَرَدُّ روايةِ الصاحب والتابع الثقة بهذا باطل"2.قلت: هذا ما ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - مما أُعِلَّ به هذا__________1 انظر كلام ابن حزم في المحلى: (2/122) .2 تهذيب السنن: (1/117) .

(2/155)

الحديث، وله علتان غير ما ذكر، وهما: انقطاعه، والاختلاف في إسناده، فيكون مجموع ما أُعِلَّ به: ثلاث علل، وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل.أما الاختلاف في إسناده: فإن هذا الحديث مداره على ثلاثة: إبراهيم بن يزيد1 التيمي، وإبراهيم بن يزيد2 النخعي، والشعبي.أما رواية إبراهيم التيمي: فإنه يُروى عنه، عن عمرو بن ميمون الأَوْدِي، عن أبي عبد الله الجدلي3، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً.ويرويه عن التيمي جماعة، أشهرهم: سعيد بن مسروق4، ومنصور ابن المعتمر، والحسن بن عبيد الله5.أما رواية سعيد بن مسروق، فقد أخرجها: الترمذي في (جامعه) 6، والطبراني في (الكبير) 7، وابن حبان في (صحيحه) 8، والبيهقي في__________1 ابن شريك، يكنى أبا أسماء، الكوفي، العابد، ثِقَةٌ إلا أنه يُرْسل ويُدَلِّس، من الخامسة مات سنة 92هـ /ع. (التقريب 95) .2 ابن قيس بن الأسود النخعي، أبو عمران الكوفي، الفقيه، ثِقَةٌ إلا أَنَّه يُرْسِلُ كثيراً، من الخامسة، مات سنة 96 هـ /ع. (التقريب 95) .3 اسمه عبد، أو عبد الرحمن بن عبد، ثِقَةٌ رُمِيَ بِالتَّشَيُّعِ، من كبار الثالثة /د ت س. (التقريب 654) .4 والد سفيان الثوري.5 النخعي، أبو عروة الكوفي.(1/158) ح 95 ك الطهارة، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم.(4/108) ح 3752.8 الإحسان: (2/312) ح 1330.

(2/156)

(سننه) 1، من طرق عن: أبي عوانة وَضَّاح اليَشْكُريّ، عن سعيد بن مسروق، عن إبراهيم التيمي، بالإسناد المذكور إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الْمَسْحُ على الْخُفَّين للمقيم ... " الحديث. هذا لفظ الطبراني، والبيهقي. وعند الترمذي: "أنه سُئِلَ عن المسح على الخفين، فقال: ... " وعند ابن حبان: "أن أعرابياً سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن المسح ... ".قال أبو عيسى الترمذي: "حديث حسن صحيح".وأخرجه الطبراني في (المعجم الكبير) 2 من طريق زائدة بن قدامة، عن سعيد بن مسروق، بالإسناد الماضي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.ورواه شريك، وسفيان الثوري، كلاهما: عن سعيد بن مسروق، وزادوا في آخره: "وَأَيْمُ الله لو مضى السَّائل في مسألته لجعلها خمساً" لفظ الثوري، ولفظ شريك: "ولو استزدناه لجعلها خمساً"، أخرج رواية شريك: الطبراني في (معجمه الكبير) 3. وأخرج رواية الثوري: ابن ماجه في (سننه) 4، وعبد الرزاق في (مصنفه) 5 - ومن طريقه البيهقي في (سننه) 6 -، والطبراني في (معجمه الكبير) 7.هذا ما يتعلق برواية سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي.__________(1/276) .(4/108) ح 3753.(4/107) ح 3751.(1/184) ح553 ك الطهارة، باب ما جاء في التوقيت في المسح للمقيم والمسافر.(1/203) ح 790.(1/277) .(4/107) ح 3749.

(2/157)

وأما رواية منصور بن المعتمر عن إبراهيم التيمي به، فأخرجها: أحمد في (مسنده) 1، والطبراني في (معجمه) 2، من طريق سفيان الثوري، عن منصور به. قال عبد الله بن الإمام أحمد: "قال أبي: سمعته من سفيان مرتين يذكر للمقيم، ولو أطنب السائل في مسألته لزادهم". وعند الطبراني: "ولو استزدناه لزادنا".وأخرجه الطبراني أيضاً في (معجمه) 3 من طريق: عبد العزيز بن عبد الصمد العَمِّي، ثم من طريق: جرير، كلاهما عن منصور بن المعتمر به، وفيهما الزيادة المذكورة.وخالف أبو الأحوص سائرَ الرواة عن منصور، فرواه عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم التيمي، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة به مرفوعاً، أخرجه الطبراني في (معجمه) 4 وفيه الزيادة المذكورة. قال أبو القاسم الطبراني: "أسقط أبو الأحوص من الإسناد عمرو بن ميمون".وأما رواية الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون به: فقد أخرجها الطبراني في (معجمه) 5، والبيهقي في (سننه) 6، وعند الطبراني: أن أعرابياً سأله ... فقال: "ثلاثٌ للمسافر ويوم__________(5/213) .(4/108) ح 3754.(4/109) ح3755، 3757.(4/109) ح 3756.(4/109) ح 3758.(1/277) .

(2/158)

للحاضر"، وليس عند البيهقي ذكر المقيم، بل قال لما سأله الأعرابيُّ: "ثلاثَةُ أيامٍ ولياليهن"، وعندهما ذكر الزيادة وهي قوله: "ولو استزاده الأعرابي لزاده".ورواه سلمة بن كهيل، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عمرو بن ميمون، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم به، أخرجه ابن ماجه في (سننه) 1، والطبراني في (معجمه) 2 والبيهقي في (سننه) 3، وليس فيه حكم المقيم، بل قال: "يمسحُ المسافرُ ثلاثة أيامٍ". قال شعبة - راويه عن سلمة بن كهيل -: "أحسبه قال: ولياليهن".ففي هذه الرواية مخالفات:أولها: أنه أسقطَ من الإسناد "أبا عبد الله الجدلي" بين عمرو بن ميمون وخزيمة.ثانيها: أنه زاد في الإسناد "الحارث بن سويد" بين إبراهيم التيمي وعمرو بن ميمون.هذا ما يَتَعَلَّقُ برواية إبراهيم التيمي بطرقها، وقد وقع اختلاف في إسنادها وفي متنها، كما يَتَّضحُ ذلك من العرض السابق.وقد رَجَّحَ الأئمة رواية الأكثرين له: عن إبراهيم، عن عمرو بن__________(1/184) ح554.2 الكبير: (4/110) ح 3759، 3760.(1/278) .

(2/159)

ميمون، عن الجَدَلِي، عن خزيمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بالزيادة المذكورة، فقال أبو زرعة: "الصحيح من حديث إبراهيم التيمي: عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم"1. وقال ابن دقيق العيد: "فالروايات متضافرةٌ برواية التيمي له عن عمرو بن ميمون، عن الجدلي، عن خزيمة، وأما إسقاط أبي الأحوص لعمرو بن ميمون من الإسناد، فالحكمُ لمن زاد؛ فإنه زيادة عدل، لاسيما وقد انضم إليه الكثرة من الرواة، واتفاقهم على هذا دون أبي الأحوص"2. فَظَهَرَ بذلك رجحان رواية الأكثرين بذكر "عمرو بن ميمون" وعدم إسقاطه.وأما رواية إبراهيم النخعي: فقد رويت عن إبراهيم، عن أبي عبد الله الجدلي، عن خزيمة بن ثابت مرفوعاً، وليس فيها ذكر الزيادة التي جاءت في رواية التيمي. وقد رواها عن إبراهيم جماعة:فأخرجها الإمام أحمد في (مسنده) 3، والطبراني في (معجمه) 4من طريق: هشام الدستوائي. والطبراني - أيضاً - من طريق: الثوري5، ثم من طريق: حماد بن سلمة6، ثم من طريق: أبي حنيفة7، جميعهم عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي به.__________1 علل ابن أبي حاتم: (1/22) ح 31.2 نصب الراية: (1/176) .(5/213) .(4/111) ح 3764.5 ح رقم 3762.6 ح رقم 3765.7 ح رقم 3767، 3768.

(2/160)

وأخرجه الطبراني1 من طريق الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم به.وأخرجه أبو داود في (سننه) 2، والطيالسي في (مسنده) 3، وأحمد - كذلك - في (مسنده) 4، والطبراني في (الكبير) 5، عن: الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان كليهما، عن إبراهيم النخعي، عن الجدلي به.وقد أُعِلَّتْ هذه الرواية بالانقطاع؛ فقد نَقَلَ الترمذي عن البخاري قوله: "كان شعبةُ يقول: لم يسمع إبراهيم النخعي من أبي عبد الله الجدلي حديث المسح"6. وروى ذلك ابن أبي حاتم في (المراسيل) 7 بإسناده إلى شعبة.قلت: فرجعتْ بذلك روايةُ إبراهيم النخعي إلى رواية إبراهيم التيمي الْمُتَّصِلة، كما يَدُلُّ عليه كلام هؤلاء الأئمة، وقد سَلَكَ هذا الطريق ابن دقيق العيد رحمه الله فقال: "ولكن الطريق فيه: أن تُعَلَّلَ طريق إبراهيم بالانقطاع ... وَيُرْجَعُ إلى طريق إبراهيم التيمي، فالروايات متضافرةٌ برواية__________(4/117) ح 3790، 3791.(1/109) ح 157 ك الطهارة، باب التوقيت في المسح.3 ح 1219.(5/ 213، 214) .(4/110) ح 3763.6 علل الترمذي: (1/174) .(ص 8) .

(2/161)

التيمي له عن عمرو بن ميمون، عن الجدلي، عن خزيمة"1.وأما رواية الشعبي: فقد أخرجها: الطبراني في (معجمه) 2، وعلقها البيهقي في (سننه) 3، والترمذي في (علله) 4، كلهم من طريق: ذَوَّاد بن عُلْبَة5، عن مُطَرِّف، عن الشَّعبي، عن الجدلي، عن خزيمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المسح على الخفين: "ثلاثةُ أيامٍ ولياليهن للمسافر، ويوم للمقيم" هذا لفظ الترمذي والطبراني، أما عند البيهقي ففيه ذكر المسافر فقط، وفيه قوله: "ولو استزدناه لزادنا".ولكن هذه الطريق ضعيفةٌ، ضَعَّفَهَا البيهقي6 بذواد بن علبة هذا، وأشارَ إلى ضعفها ابن دقيق العيد7، وسألَ التِّرْمذيُّ البخاري عنها فقال: " ... ولا أدري هذا الحديث محفوظاً". قال الترمذي: "ولم يعرفه - يعني البخاري - إلا من هذا الوجه"8. فلا اعتبار إذن لرواية الشعبيِّ هذه، ويرجعُ الأمر إلى رواية إبراهيم التيمي كما قَدَّمْنَا.هذا ما يَتَعَلَّق بالعِلَّة الأولى، وهي الاختلاف في إسناده، وقد__________1 نصب الراية: (1/176) .(4/110) ح 3761.(1/278) .(1/174) .5 الحارثي، أبو المنذر، الكوفي، ضعيفٌ عابد، من الثامنة /ت ق. (التقريب 203) .6 السنن (1/278) .7 نصب الراية: (1/176) .8 علل الترمذي: (1/175) .

(2/162)

أجيبَ عنها بحمد الله، وتبين أن هذه الطرق المختلفة مرجعها إلى طريق واحد.وأما انقطاع إسناده - وهي العلة الثانية -: فقد قال البخاري - فيما نقله عنه الترمذي في (علله) 1 -: "لا يَصُحُّ عندي حديث خزيمة بن ثابت في المسح؛ لأنه لا يُعرف لأبي عبد الله الجدلي سماع من خزيمة بن ثابت".ولم أر من شارك البخاري في هذا القول، حتى إنَّ الترمذي الذي نقل كلام البخاريّ هذا قد صَحَّحَ الحديث كما مضى، ولعلَّ ذلك من البخاري - رحمه الله - بناء على مذهبه في اشتراطِ ثبوت اللقاء بين الراوي وشيخه، وأنه لا يكتفي في ذلك بإمكان اللقاء.قال ابن دقيق العيد - في معرض رده هذه العلة -: "وقد أطنبَ مسلمٌ في الردِّ لهذه المقالة، واكتفى بإمكان اللقاء، وذكر له شواهد"2.قلت: ولقاؤه لخزيمة بن ثابت غير بعيد، فقد روى الدولابي في (الكنى) 3 بسنده إلى محمد بن عمر أنه قال: "أبو عبد الله الجدلي أدرك أبا بكر ... ". وقد تأخرتْ وفاة الجدلي إلى فتنة ابن الزبير، فيكون قد أدرك خزيمة من باب أولى؛ إذ إن وفاة خزيمة كانت سنة 37هـ.فإذا تَقَرَّرَ إمكان لقائه له، وعلمنا أن الجدلي غير معروف بالتدليس،__________(1/173) .2 نصب الراية (1/177) .(2/57) .

(2/163)

فإنَّ عنعنته هنا تحمل على الاتصال على مذهب من اكتفى بإمكان اللقاء1.وأما العلة الثالثة، وهي الطَّعْنُ في أبي عبد الله الجدلي: فقد تَقَدَّمَ جواب ابن القَيِّم عنها بأن أحمد وابن معين وَثَّقَاهُ، وصَحَّحَ الترمذي حديثه.وقد وَثَّقَهُ كذلك العجلي، فقال: "تابعي ثقة"2، وذكره ابن حبان في (الثقات) 3. وقال ابن دقيق العيد: " ... فلم يقدح فيه أحد من المتقدمين، ولا قال فيه ما قال ابن حزم، وَوَثَّقَهُ أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين4، وهما هما"5.وغاية ما تَعَلَّقَ به ابن حزم في طعنه عليه: هو أنه كان في جيش المختار، وقد رد ذلك ابن القَيِّم رحمه الله بقوله: "فَرَدُّ رواية الصاحب والتابع الثقة بهذا باطل"6. وقال ابن حجر: " ... فَمِنْ هنا أخذوا على أبي عبد الله الجدلي وعلى أبي الطفيل أيضاً؛ لأنه كان في ذلك الجيش، ولا يقدح ذلك فيهما إن شاء الله"7.__________1 وانظر تدريب الراوي: (1/214) .2 تهذيب التهذيب: (12/148) .(5/102) .4 انظر توثيق أحمد ويحيى له في تهذيب التهذيب: (12/148) .5 نصب الراية: (1/177) .6 تهذيب السنن: (1/117) .7 تهذيب التهذيب: (12/149) .

(2/164)

فَتَبَيَّنَ من ذلك أن هذه العلة - أيضاً – مدفوعةٌ.وقد صحح الحديث - مع ذلك - جماعة:قال الترمذي: "حسن صحيح". وقال ابن معين: "صحيح"1. وَصَحَّحَ أبو زرعة رواية إبراهيم التيمي الْمُتَّصِلَة كما تقدم. وَصَحَّحَه ابن حبان أيضاً، فقد أخرجه في (صحيحه) . وصححه ابن دقيق العيد في بحث له نافع، ونقله عنه صاحب (نصب الراية) 2. وقال الشيخ الألباني: "صحيح"3.وأما الزيادة الواردة في هذا الحديث فهي ثابتة - أيضاً - كما مضى، وصححها ابن دقيق العيد4. وكأن الخطابي - رحمه الله - مال إلى عدم ثبوتها فقال: " ... فإنَّ الحَكَمَ وَحَمَّادَاً قد روياه عن إبراهيم فلم يذكروا فيه هذا الكلام5 ولو ثَبَتَ لم يكن فيه حُجَّةٌ؛ لأنه ظَنٌّ منه وحسبان، والحجة إنما تقوم بقول صاحب الشريعة لا بِظَنِّ الراوي"6.فالحاصلُ: أن هذا الحديث أُعِلَّ بثلاث عِلَلٍ، وهي: الاختلاف في سنده، وانقطاعه، والطعن في أبي عبد الله الجدلي.__________1 رواية الدقاق عن ابن معين في الرجال: (ص74) .(1/175- 177) .3 صحيح ابن ماجه: (ح 448، 449) .4 نصب الراية: (1/175) .5 وقد تَقَدَّمَ أن رواية الحكم وحماد، عن إبراهيم النخعي معلولة بالانقطاع، وأن رواية التيمي- التي جاء فيها ذكر هذه الزيادة - أصحُّ منها.6 معالم السنن: (1/110) .

(2/165)

ولم يتعرض ابن القَيِّم إلا لردِّ الطعن في الجدلي، فَبَيَّنَ أن ما طَعَنَ به ابن حزم فيه ليس بقادح، وَأَنَّ الأئمة على توثيقه.وأما بقية العلل فقد تَبَيَّنَ من هذه الدراسة أنها مردودة أيضاً، وأن الحديث صحيح ثابت ولله الحمد.

(2/166)

9- باب من قال بعدم التوقيت في المسح على الخفين11- (11) حَديث أُبَيّ بن عمارة رضي الله عنه أنه قال: يَا رَسُول الله، أمسحُ على الخُفَّين؟ قال: "نَعَمْ". قَال: يوماً؟ قال: "يوماً". قال: ويومين؟ قال: "ويومين". قال: وثلاثة؟ قال: "نَعَمْ، وما شِئْتَ".قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقد اختلف فيه على يحيى بن أيوب اختلافاً كثيراً. وعبد الرحمن، ومحمد بن يزيد، وأيوب بن قَطَنَ: مجهولون كُلُّهم.وقد أخرجه الحاكم في (المستدرك) من طريق يحيى بن عثمان بن صالح ويحيى بن معين، كلاهما: عن عمرو بن الربيع بن طارق، أخبرنا محمد بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رَزِين، عن محمد بن يزيد بن أبي زياد، عن عبادة بن نسي الحديث. قال الحاكم: هذا إسنادٌ مصريٌّ، لم ينسب واحد منهم إلى جَرْح، وهذا مذهبُ مالك، ولم يخرجاه".قال: "والعجبُ من الحاكم، كيف يكونُ هذا مُسْتَدْرَكَاً على الصحيحين ورواته لا يُعْرَفُون بجَرح ولا تعديلٍ؟!! "1.فقد تَضَمَّنَ كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - أَنَّ هذا الحديث معلول من وجهين:أحدهما: الاضطرابُ في إسناده.__________1 تهذيب السنن: (1/118) .

(2/167)

والثاني: جَهَالةُ بعض رواته.والأمر كما قال رحمه الله، وبهذا أَعَلَّه أكثرُ الأئمة، كما سيأتي بيان ذلك من أقوالهم رحمهم الله تعالى، فأقول:هذا الحديث مداره على يحيى بن أيوب1، واختلف عليه على أربعة أوجه:الأول: ما أخرجه أبو داود في (سننه) 2 من طريق: يحيى بن معين، عن عمرو بن الربيع، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رَزِين3، عن محمد بن يزيد4، عن أيوب بن قَطَن5، عن أُبَيِّ بن عمارة6 - قال يحيى: وكان قد صَلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين - أنه قال ... فذكره، ولفظه هو الذي سقناه أول الباب.__________1 الغافقي، أبو العباس المصري، صدوقٌ رُبَّمَا أخطأَ، من السابعة، مات سنة 168هـ/ع. (التقريب 588) .(1/109) ح 158 ك الطهارة، باب التوقيت في المسح.3 ويقال: ابن يزيد، والأول هو الصواب، الغافقي، المصري، صدوقٌ، من الرابعة/ بخ د ق. (التقريب 340) .4 ابن أبي زياد الثقفي، نزيل مصر، مجهول الحال، من السادسة / د ت ق. (التقريب513) .5 الكندي، الفلسطيني، فيه لين، من الخامسة /د ق. (التقريب 118) .6 بكسر العين على الأصح، مدني سكن مصر، له صحبة، وفي إسناد حديثه اضطراب/ د ق. (التقريب 96) .قلت: يعني حديثه هذا في المسح على الخفين، وليس له إلا هذا الحديث.

(2/168)

ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في (سننه) 1.الثاني: ما أخرجه ابن ماجه في (سننه) 2 من طريق: عبد الله بن وهب المصري. والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3 من طريق: سعيد بن كثير بن عفير. كلاهما عن يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رزين، عن محمد بن يزيد، عن أيوب بن قطن، عن عبادة بن نسيّ، عن أبي بن عمارة به، وفي آخره: حتى بلغ سبعاً قال له: "وما بَدَا لك". وليس عند البيهقي: "حتى بلغ سبعاً".فزيد في إسناده "عبادة بن نسي" بين أيوب بن قطن، وأُبَيّ بن عمارة.الثالث: ما أخرجه البيهقي في (سننه) 4 من طريق سعيد بن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الرحمن بن رَزِين، عن محمد بن يزيد، عن عبادة بن نسيّ، عن أبي بن عمارة. فأسقط من إسناده "أيوب بن قَطَن" ولفظه كلفظ ابن ماجه والدارقطني، وفيه زيادة قوله: "حتى عَدَّ سبعاً".وقد عَلَّقَهُ أبو داود في (سننه) 5 فقال: "رواه ابن أبي مريم المصري، عن يحيى بن أيوب ... " فذكره.__________(1/279) .(1/185) ح557، ك الطهارة، باب ما جاء في المسح بغير توقيت.3 قط: (1/198) ح 19. هق: (1/278) .(1/279) .(1/110) .

(2/169)

وأخرجه الحاكم في (المستدرك) 1 من هذا الوجه - يعني بجعل "عبادة بن نسيّ" مكان "أيوب بن قَطَن" - لكنه من طريق أبي داود المتقدم وبلفظه، فالظاهرُ أنها رواية أبي داود نفسها ووقع فيها خطأ في المستدرك، وإلا فيكون قد روي عن عمرو بن الربيع على وجهين، فيزداد بذلك الحديث اضطراباً.الوجه الرابع: ما ذكره ابن القطان في (الوهم والإيهام) - ونقله عنه صاحب (نصب الراية) 2 - وهو أنه روي عن يحيى بن أيوب بالإسناد السابق، مرسلاً بدون ذكر أبيّ بن عمارة.فهذا ما يتعلق بوجوه الاختلاف في إسناد هذا الحديث، وقد أشار إلى ذلك غير واحد من أئمة هذا الشأن، فقال أبو داود عقب روايته: "وقد اخْتُلِفَ في إسناده، وليس هو بالقويّ ... ". وقال الدارقطني - عقب روايته إياه -: " ... وقد اختُلِفَ فيه على يحيى بن أيوب اختلافاً كثيراً". وذكر ابن القطان - أيضاً - وجوه الاختلاف على يحيى3. وأشار ابن عبد البر إلى اضطراب حديث أبي بن عمارة هذا عندما ترجمه في (الاستيعاب) 4.وأما جَهَالة رواته: فقد حَكَم بذلك الدارقطني، فقال في (السنن) : "وعبد الرحمن، ومحمد بن يزيد، وأيوب بن قَطَن: مجهولون كُلُّهم".__________(1/170) .(1/178) .3 بيان الوهم والإيهام: (3/324-325) ح 1070.(1/52) .

(2/170)

والأمر على ما قال رحمه الله؛ أما أيوب بن قطن: فقال فيه أبو زرعة: "لا يُعرف"1. وقال الأزدي: "مجهول"2. وأما محمد بن يزيد: فقال فيه أبو حاتم: "مجهول"3. وَتَقَدَّمَ قول ابن حجر فيه: "مجهول الحال". وأما عبد الرحمن بن رَزِين: فإنه لم يُوَثِّقهُ غير ابن حبان4، فالظاهر أن أمره على ما حكم الدارقطني.وإلى جهالة إسناده أشارَ الإمام أحمد بقوله: "حديث أبي بن عمارة ليس بمعروف الإسناد" كما نَقَل ذلك عنه أبو زرعة الدمشقي5. وقال الحافظ الذهبي - مُتَعَقِّبَاً الحاكم في قوله: هذا إسناد مصري لم ينسب واحد منهم إلى جرح -: "بل مجهول"6. وأشار ابن حجر -رحمه الله- إلى العِلَّتَين معاً فقال: "في إسناده جهالةٌ واضطرابٌ"7.ولأجل هاتين العلتين ضَعَّفَهُ جماعة من العلماء؛ فقال ابن معين: "إسناده مظلم"8. وقال أبو داود عقب إخراجه: "وليس هو بالقوي". وقال أبو الفتح الأزدي: "حديث ليس بالقائم"9. وقال ابن حبان في__________1 تهذيب التهذيب: (1/410) .2 المصدر السابق.3 الجرح والتعديل: (4/1/126) .4 الثقات: (5/82) .5 انظر: نصب الراية: (1/178) ، والتلخيص الحبير: (1/162) .6 تلخيص المستدرك: (1/171) .7 تهذيب التهذيب: (1/410) .8 المصدر السابق: (1/410) وأشار إلى أن قول ابن معين هذا جاء في بعض نسخ (أبي داود) .9 التلخيص الحبير: (1/162) .

(2/171)

(الثقات) 1 - في ترجمة أبيّ بن عمارة -: " ... لست أعتمد على إسناد خبره". وقال الدارقطني عقب إخراجه: "هذا الإسناد لا يثبت". وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصحُّ"2. وقال النوويّ: "ضعيف بالاتفاق"3. وقال الشيخ الألباني: "ضعيف"4.وَثَمَّة شيء آخر في إسناده أشار إليه ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 5، فقال: "وهو عندي خطأ، إنما هو أبو أبيّ، واسمه عبد الله بن عمرو بن أم حرام، كذا رواه إبراهيم بن أبي عبلة، وذكر أنه رآه وسمع منه، سمعت أبي يقول ذلك". وذكر مثل ذلك ابن عبد البر في (الاستيعاب) 6.فالحاصلُ: أن هذا الحديث ضعيفٌ؛ لاضطرابِ إسنادِهِ، وَجَهَالَةِ رواتهِ، كما قال ابن القَيِّم رحمه الله تعالى، وتَعَقَّبَ الحاكمَ لاستدراكه إيَّاه على (الصحيحين) ، وقد وافق حُكْمُ ابن القَيِّم حكمَ الأئمة على هذا الحديث كما نقلناه عنهم آنفاً.فإذا ثبت عندنا ضعف هذا الحديث، فإنَّه لا حُجَّةَ فيه للقائلين بعدم التوقيت في المسح على الخفين، والله أعلم.__________(3/6) .2 العلل المتناهية: (1/360) .3 المجموع: (1/509) .4 ضعيف ابن ماجه: (ح122) .(1/1/290) .(1/52) .

(2/172)

10- باب ما جاء في مسح أعلى الخف وأسفله12- (12) عَن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "وَضَّأْتُ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تبوك، فَمَسَحَ أَعْلَى الخُفِّ وَأَسْفَلَهُ".ذكر ابن القَيِّم هذا الحديث، وبين أنه قد أُعِلَّ بأربع علل وهي:1- أن ثورَ بن يزيد لم يسمعه من رجاء بن حيوة، بل قال: حُدِّثْتُ عن رجاء.2- أنه مرسلٌ.3- أن الوليدَ بن مسلم عَنْعَنَهُ، وهو مُدَلِّسٌ.4- أن كاتبَ المغيرة لم يُسَم فيه، فهو مجهول.ثم ذَكَرَ ابن القَيِّم - رحمه الله - أن هذه العلل يُمْكِنُ الجواب عنها، وَأَخَذَ في سرد هذه الأجوبة، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك أثناء البحث.ثم عَادَ ابن القَيِّم - رحمه الله - فَرَجَّحَ أن هذا الحديث معلولٌ، وأن الأئمة الكبارَ قد ضَعَّفُوهُ، وأن الأحاديثَ الصحيحةَ على خلافه، وأنَّ هذه العلل وإنْ كان بَعْضُهَا غير مُؤَثِّرٍ، فإن بَعْضَهَا الآخر مؤثرٌ مانع من تصحيح الحديث1.__________1 تهذيب السنن: (1/124-126) .

(2/173)

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 1، والترمذي في (جامعه) 2، وفي (العلل) 3 له، وابن ماجه في (سننه) 4، وأحمد في (مسنده) 5، وابن الجارود في (المنتقى) 6، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 7، والخطيب في (تاريخ بغداد) 8 من طرق، عن:الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، عن رجاء بن حيوة، عن كاتب9 المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم به.واللفظُ الذي ذكرته هو لفظ أبي داود، والدارقطني، والبيهقي. وعند الترمذي، وابن ماجه، وابن الجارود: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَسَحَ أَعْلَى الخُفِّ وأسفله".وأما العلل التي أُعِلَّ بها الحديث، فَبَيَانُهَا كالتالي:__________(1/116) ح 165 ك الطهارة، باب كيف المسح؟(1/162) ح 97، باب ما جاء في المسح على الخفين: أعلاه وأسفله.(1/179) .(1/183) ح 550 باب في مسح أعلى الخف وأسفله.(1/251) .(ح 84) .7 قط: (1/195) ح 6، 7. هق: (1/290) .(2/135) .9 هو: وَرَّاد، الثَّقفي، أبو سعيد أو أبو الورد، الكوفي، كاتب المغيرة ومولاه، ثقة، من الثالثة /ع. (التقريب 580) .

(2/174)

أولاً: أن ثورَ بن يزيد لم يسمعه من رجاء بن حيوة، قال أبو داود - عقب إخراجه -: "وبلغني أنه لم يسمع ثور هذا الحديث من رجاء". وكذا قال موسى بن هارون1. وإنما قال ثور بن يزيد: "حُدِّثْتُ عن رجاء بن حيوة". فَأَعَلَّه بذلك الأئمة: أحمد2، والبخاري3، والترمذي4، وغيرهم.وقد أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن هذه العلة: بأن الدارقطني رواه وفيه تصريح ثور بن يزيد بتحديث رجاء له.ولكنه جوابٌ فيه نَظَرٌ؛ قال ابن حجر رحمه الله: "ووقع في سنن الدارقطني ما يوهم رفع العِلَّة وهي: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، ثنا داود بن رشيد، عن الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، ثنا رجاء بن حيوة فذكره. فهذا ظاهره أن ثوراً سَمِعَهُ من رجاء فتزول العلة. ولكن رواه أحمد بن عبيد الصفار في (مسنده) ، عن أحمد بن يحيى الحلواني، عن داود بن رشيد فقال: عن رجاء، ولم يقل: حدثنا رجاء، فهذا اختلاف على داود يمنع من القول بِصِحَّة وصله، مع ما تَقَدَّمَ في كلام الأئمة"5. فَتَبَيَّنَ من ذلك أن هذه العِلَّةَ ثابتة لا تندفع.ثانياً: أنه يُروى مرسلاً. وقد أشار إلى هذه الرواية الإمام أحمد،__________1 التلخيص الحبير: (1/159) .2 المصدر السابق.3 علل الترمذي: (1/180) .4 في جامعه: (1/163) .5 التلخيص الحبير: (1/160) .

(2/175)

والدارقطني وغيرهما، قال الإمام أحمد: "ذكرته لعبد الرحمن بن مهدي فقال: عن ابن المبارك، عن ثور: حُدِّثْتُ عن رجاء، عن كاتب المغيرة، ولم يذكر المغيرة. قال أحمد: وقد كان نعيم بن حَمَّاد حدثني به عن ابن المبارك كما حدثني الوليد بن مسلم عن ثور، فقلت له: إنما يقول هذا الوليد، فأما ابن المبارك فيقول: حدثت عن رجاء، ولا يذكر المغيرة. فقال لي نعيم: هذا حديثي الذي أُسْأَلُ عنه، فأخرجَ إليَّ كتابه القديم بخط عتيق، فإذا فيه ملحق بين السطرين بخط ليس بالقديم: "عن المغيرة"، فأوقفته عليه، وأخبرته أن هذه الزيادة في الإسناد لا أصل لها، فجعلَ يقول للناس بعد وأنا أسمع: اضربوا على هذا الحديث"1.وقال البخاريُّ لما سأله عنه الترمذي: "لا يصح هذا، روي عن ابن المبارك، عن ثور ... عن كاتب المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً"2. وقال الدارقطني: " ... لا يثبتُ؛ لأن ابنَ المبارك رواه عن ثور بن يزيد مرسلاً"3.وقال ابن القَيِّم رحمه الله - وهو يُرَجِّحُ القولَ بضعفه مؤكداً إعلاله بالإرسال -:"وقد تَفَرَّدَ الوليد بن مسلم بإسناده ووصله، وخَالَفَهُ من هو أحفظُ منه وأجلُّ، وهو الإمام الثبت عبد الله بن المبارك، فرواه عن ثور، عن رجاء وإذا اختلفَ عبد الله بن المبارك والوليد بن المسلم،__________1 التلخيص الحبير: (1/159) .2 علل الترمذي: (1/180) .3 علل الدارقطني: جـ 2 (ق 100) .

(2/176)

فالقول ما قال عبد الله"1.فَتَبَيَّنَ من ذلك أن الصَّوابَ في هذا الحديث: أنه مُرسل، وأنَّ من وصله قد أخطأ.ثالثاً: تدليس الوليد بن مسلم: وقد أجاب ابن القَيِّم عن هذه العلة بأن رواية أبي داود من طريق: "محمود بن خالد الدمشقي، حدثنا الوليد، أخبرنا ثور بن يزيد". فقد أُمْنَ بذلك تدليسُ الوليد.قلت: وكذلك في رواية الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، ثنا ثور. وعند ابن ماجه من طريق هشام بن عمار: عن الوليد، حدثنا ثور.رابعاً: جهالة كاتب المغيرة: وهذه العلَّة لم يقل بها أحدٌ سوى ابن حزم2 رحمه الله، وقد بَيَّنَ ابن القَيِّم أنه في رواية ابن ماجه التصريح باسمه، وأنه "وَرَّاد"، وقد خُرِّجَ له في (الصحيحين) ، وإنما تُرِكَ ذكر اسمه في هذه الرواية لشهرته وعدم التباسه بغيره. قال ابن القَيِّم: "ومن له خِبْرَةٌ بالحديثِ ورواته لا يَتَمَارَى في أنه وَرَّاد كاتبه"3.فظهرَ أنَّ العِلَّتين الثالثة والرابعة لا أثرَ لهما، وإنما التأثيرُ للعلتين الأولى والثانية، وهما: أن الصواب إرساله، وأنه منقطع بين ثور بن يزيد ورجاء بن حيوة، وهاتان العلتان هما اللتان ذكرهما الحفاظ وأعلوا بهما الحديث.__________1 تهذيب السن: (1/126) .2 المحلى: (2/156) .3 تهذيب السنن: (1/125) .

(2/177)

فقد ضَعَّفَهُ الأئمة: أحمد، وأبو داود، والترمذي، والبخاري، وموسى بن هارون، والدارقطني، وقد مضىكلامهم. وَضَعَّفَهُ أيضاً: أبو زرعة1، وقال أبو حاتم: "ليس بمحفوظ، وسائر الأحاديث عن المغيرة أصحُّ"2 وَضَعَّفَهُ ابن حزم3وابن الجوزي4 مستشهداً بكلام الأئمة السابقين، وقال الشيخ الألباني: "ضعيف"5.فَتَلَخَّصَ: أن ابن القَيِّم قد أصاب حينما اختار ضَعْفَ هذا الحديث، واستندَ في ذلك إلى ما يلي:1- مخالفةُ الأحاديث الصحيحة الكثيرة له.2- أنَّ العِلَلَ التي أُعِلَّ بها منها ما هو مانعٌ من صحته؛ كالقول بانقطاعه وإرساله6.ويؤكد ابن القَيِّم - رحمه الله - ضعف هذا الحديث في مناسبة أخرى فيقول: "وكان يمسح ظاهرَ الْخُفَّين، ولم يصح عنه مَسْح أسفلهما إلا في حديث منقطع، والأحاديث الصحيحة على خلافه"7.__________1 علل الترمذي: (1/180) .2 علل ابن أبي حاتم: (1/54) ح 135.3 المحلى: (2/155-156) .4 العلل المتناهية: (1/360) ح 594.5 ضعيف ابن ماجه: (ح 120) .6 تهذيب السنن: (1/125-126) .7 زاد المعاد: (1/199) .

(2/178)

2222

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

2- من كتاب الحيض

1- باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة

13- (1) عَنْ فَاطِمَة بنت أبي حبيش رضي الله عنها: أَنَّهَا كَانَت تُسْتَحَاضُ1، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ دَمُ الحَيْضِ، فَإِنَّهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فإذا كان ذلك فَأَمْسِكي عن الصَّلاةِ، فَإِذَا كَانَ الآخرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي؛ فَإِنَّمَا هو عِرْقٌ". هذا اللفظ لأبي داود.

تناول ابن القيم - رحمه الله - هذا الحديث في (تهذيب السنن) 2، وناقش ابن القطان في إعلاله إياه، وسيأتي كلامهما مفصلاً.

قلت: هذا الحديث أخرجه: أبو داود، والنسائي، والدارقطني في (سننهم) 3، والحاكم في (المستدرك) 4، والبيهقي في (السنن) 5، وابن عبد البر في (التمهيد) 6. كلهم من طريق:

__________

1 الاسْتِحَاضَةُ: أن يستمرَّ بالمرأة خروج الدَّمِ بعد أيام حَيضِهَا المعتادة. يُقَال: اسْتُحِيضَت فهي مُسْتَحَاضَة، وهو استفعال من الحيض. (النهاية1/469) .

(1/ 181 - 183) .

3 د: (1/ 197) ح 286 ك الطهارة، باب من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة. س: (1/ 123) ك الطهارة، باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة. قط: (1/206، 207) ح (3- 6) .

(1/ 174) .

(1/ 325) .

(16/ 64) .

(2/181)

محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ1، عن محمد بن عمرو2، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حبيش3 به.

قال أبو داود عقبه: "قال ابن المثنى4 - راويه عن ابن أبي عديّ -: وحدثنا به ابن أبي عدي حفظاً، فقال: عن عروة، عن عائشة، أن فاطمة".

فالرواية الماضية حَدَّثَ بها ابن أبي عديّ من كتابه، وقد وَرَدَ ذلك في إسناد النسائي عن محمد بن المثنى أنه قال: "حدثنا ابن أبي عديّ هذا من كتابه". وكذا هو في إسناد الدارقطني، حيث قال: "هكذا حدثناه ابن أبي عديّ من أصل كتابه".

وأما الرواية التي أشارَ إليها أبو داود - التي حَدَّثَ بها ابن أبي عديّ من حفظه - فأخرجها: النسائي5، والدارقطني6 من طريق ابن المثنى - أيضاً - قال: أخبرنا ابن أبي عديّ من حفظه، حدثنا محمد بن عمرو، عن

__________

1 وقد ينسب لجده، أبو عمرو البصري، ثقة، من التاسعة، مات سنة 194هـ على الصحيح/ع. (التقريب 465) .

2 ابن علقمة بن وقاص الليثي، المدني، صدوقٌ له أَوْهام، من السادسة، مات سنة145هـ على الصحيح/ع. (التقريب 499) .

3 هي: فاطمة بنت قيس بن الطلب، الأسدية، صحابية /د س. (التقريب 751) .

4 محمد بن المثنى بن عبيد العنزي، أبو موسى البصري، المعروف بـ "الزَّمِن"، ثقةٌ ثَبْت، من العاشرة / ع. (التقريب 505) .

(1/ 123) .

(1/ 207) ح 4، 5.

(2/182)

ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - أن فاطمة ... فذكره. وأخرجه ابن حبان في (صحيحه) 1 من الطريق نفسه بدون قول ابن المثنى: "من حفظه".

ولفظ الحاكم ورواية للدارقطني كلفظ أبي داود الماضي أول البحث، وعند النسائي وابن حبان، والبيهقي، ورواية لأبي داود2: "فَتَوَضِّئِي وَصَلِّي" فقط. وفي لفظ للنسائي: "فَتَوَضِّئِي، فَإِنَّمَا هو عِرق". ولم يذكر: "وَصَلِّي".

وقد أُعِلَّ حديث الزهري هذا: بالانقطاع، والنكارة، والاضطراب.

- أما الانقطاع: فقد أَعَلَّهُ بذلك ابن القطان، وناقشه في ذلك ابن القيم رحمه الله، ولم يوافقه على ذلك. فقد قال ابن القطان - ونقل خلاصته ابن القيم -: " ... وهو فيما أرى منقطع؛ وذلك أنه حديث انفرد بلفظه محمد بن عمرو، عن الزهري، عن عروة. فرواه عن محمد بن عمرو: محمدُ بن أبي عديٍّ مرتين، إحداهما من كتابه فجعله: عن محمد بن عمرو، عن الزهري، عن عروة، عن فاطمة: أَنَّهَا كانت تُسْتَحَاضُ، فهو على هذا منقطعٌ؛ لأنه قد حَدَّثَ به مرة أخرى من حفظه، فزادهم فيه: "عن عائشة" فيما بين عروة وفاطمة، فاتَّصَل. فلو كان بعكس هذا كان أبعد من الريبة - أعني: أن يُحَدِّث به من حفظه مرسلاً، ومن كتابه متصلاً - فأما هكذا فهو موضعُ نظر ... "3.

__________

1 الإحسان: (2/ 318) ح 1345.

(1/ 213) ح 304.

3 بيان الوهم والإيهام: (2/456-457) ح 457.

(2/183)

وقد رَدَّ ابن القيم ذلك فقال: "أما قوله: إنه منقطع. فليس كذلك، فإن محمد بن أبي عديّ مكانه من الحفظ والإتقان معروف لا يجهل، وقد حفظه وَحَدَّثَ به مرة: عن عروة، عن فاطمة. ومرة: عن عائشة1، عن فاطمة، وقد أدرك كلتيهما وسمع منهما بلا ريب، ففاطمة بنت عمته، وعائشة خالته. فالانقطاع الذي رُمِيَ به الحديث مقطوعٌ دَابره"2.

قلت: وعند الترجيح تُقَدَّمُ الرواية التي من كتابه؛ لأن الغالب على من يُحَدِّثُ من كتابه أن يكونَ أكثر ضَبْطاً، بخلاف من يُحَدِّثُ من حفظه، فإن الحفظَ خَوَّان، فلعله حَدَّثَ به على الصواب من كتابه، ثم حَدَّثَ به من حفظه فَوَهِمَ.

والدليل على صِحَّة الرواية التي من كتابه، وأنها هي الْمُقَدَّمة: أن ابن أبي عديّ قد رجع عن الرواية الأخرى وتركها، فقد روى البيهقي في (سننه) 3 هذا الحديث من طريق الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - بدون ذكر عائشة، ثم قال: "قال عبد الله: سمعت أبي يقول: كان ابن أبي عديّ حَدَّثَنَا به عن عائشة ثم تركه". وهذا ظاهرٌ في أن الرجل ضابط للرواية التي من كتابه، ولذلك فقد رجع عن الأخرى.

- وَأَمَّا القول بنكارة هذا الحديث وغرابته: فذلك أنه جاء فيه قوله:

__________

1 يعني: بزيادة "عائشة" بين عروة وفاطمة، كما تقدم في كلام ابن القطان.

2 تهذيب السنن: (1/182-183) .

(1/325) .

(2/184)