السؤال باسم الله الأعظم

وسمع آخر يقول في تشهده أيضا : ( أبو داود والنسائي وأحمد والبخاري في الأدب المفرد ) ( اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت [ وحدك لا شريك لك ] [ المنان ] [ يا ] بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم [ إني أسألك ] [ الجنة وأعوذ بك من النار ] . [ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( تدرون بما دعا ؟ ) قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ( والذي نفسي بيده ] لقد دعا الله باسمه العظيم ( وفي رواية : الأعظم ) الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى}

الثلاثاء، 13 فبراير 2024

5. ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها من كتاب الزكاة

 

 

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية

 وعلومها{من كتاب الزكاة

 

1- باب في عقوبة مانع الزكاة

39- (1) عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في كُلِّ إبل سَائِمَةٍ1، في كل أربعين: ابنة لَبُون2، لا يُفَرَّقُ إبلٌ عن حسابها، من أعطاها مؤتجراً3 فله أجرها، ومن أبى فإنا آخذوها وشطر إبله، عَزْمَةٌ4 من عَزَمَات ربنا، لا يَحِلُّ لآل محمد صلى الله عليه وسلم منها شيء".

تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث بالمناقشة، فذكر أن جماعة ذهبوا إلى أنه منسوخ، وأن ذلك كان في أول الإسلام، وأن آخرين رَدُّوهُ بضعف بهز بن حكيم.

ثم أخذ - رحمه الله - في الرد على هؤلاء وهؤلاء، فقال: "وليس لمن رَدَّ هذا الحديث حجة، ودعوى نسخه دعوى باطلة؛ إذ هي دعوى ما لا دليل عليه، وفي ثبوت شَرْعِيَّة العقوبات المالية عِدَّةُ أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يثبت نسخها بحجة، وعَمِل بها الخلفاء بعده"5.

__________

1 السَّائِمَةُ: الراعية، يقال: سَامَتٍ الماشية، سَوْماً: رعتْ بنفسها، وأَسَامَهَا راعيها، فهي سَائِمَة، والجمع: سَوائِم. (المصباح المنير 1/297) .

2 هي من الإبل ما أتى عليها سنتان ودخلت في الثالثة، فصارت أمها لبوناً، أي ذات لبن؛ لأنها تكون حملت حملاً آخر ووضعته. (النهاية 4/228) .

3 أي طالباً للأجر.

4 عَزْمَةٌ من عزمات ربنا: أي حق من حقوقه، وواجب من واجباته. (النهاية 3/232) .

5 تهذيب السنن: (2/193 - 194) .

ثم أخذ يَرُدُّ على من ضَعَّفَ الحديث ببهز، فنقل جملة من أقوال الأئمة الذي وثقوه وصححوا حديثه، وَرَدَّ على ابن حبان في قوله: "لولا حديثه هذا لأدخلناه في الثقات": بأنه إن لم يكن لضعفه سبب إلا روايته هذا الحديث، وهذا الحديث إنما رُدَّ لضعفه، كان هذا دَورَاً باطلاً، قال: "وليس في روايته لهذا ما يوجب ضعفه؛ فإنه لم يخالف فيه الثقات ... "1

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والنسائي في (سننيهما) 2، وأحمد والدارمي في (مسنديهما) 3، وعبد الرزاق في (مصنفه) 4 - ومن طريقه البيهقي5 - وابن الجارود في (المنتقى) 6، والحاكم في (المستدرك) 7 من طرق، عن:

__________

1 تهذيب السنن: (2/194) .

2 د: (2/233) ح 1575 ك الزكاة، باب في زكاة السائمة. س: (5/15) باب عقوبة مانع الزكاة. و (5/25) باب سقوط الزكاة عن الإبل إذا كانت رسلاً … ك الزكاة.

3 حم: (5/2، 4) . مي: (1/333) ح 1684 ك الزكاة، باب ليس في عوامل الإبل صدقة.

(4/18)  

 ح 6824.

(4/105) .

(ح 341) .

(1/398) .

(2/346)

بهز بن حكيم1، عن أبيه2، عن جده3، عن النبي صلى الله عليه وسلم به، واللفظ المذكور هو لفظ النسائي، ولفظ الباقين نحوه، إلا أنه وقع عند أبي داود: " ... وشطر ماله" بدل: "وشطر إبله". وأما عبد الرزاق، فقد جاء عنده: " ... عزيمة من عزائم ربك، لا تحل لمحمد ولا لآل محمد".

قال أبو عبد الله الحاكم: "حديث صحيح الإسناد - على ما قدمنا ذكره في تصحيح هذه الصحيفة - ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.

وقال الإمام الشافعي: "وهذا الحديث لا يُثْبِتُهُ أهل العلم بالحديث، ولو ثَبَتَ لقلنا به"4. وضَعَّفَ ابن حبان الحديث ببهز، فقال: "ولولا حديث: إنا آخذوه وشطر إبله ... لأدخلناه في الثقات"5. وقال البيهقي: "هذا حديث قد أخرجه أبو داود في كتاب السنن، فأما البخاري ومسلم - رحمهما الله - فإنهما لم يُخَرِّجَاه، جرياً على عادتهما في أن الصحابي أو التابعي إذا لم يكن له إلا راوٍ واحدٍ لم يخرجا حديثه في الصحيحين، ومعاوية بن حيدة القشيري لم يثبت عندهما رواية ثقة عنه غير ابنه، فلم يخرجا حديثه في الصحيح"6.

__________

1 ابن معاوية القشيري، أبو عبد الملك، صدوق، من السادسة، مات قبل 160 هـ- / خت 4. (التقريب 128) .

2 هو: حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري، صدوق، من الثالثة/ خت 4. (التقريب 177) .

3 هو: معاوية بن حيدة بن معاوية بن كعب القشيري، صحابي، نزل البصرة ومات بخراسان/ خت 4. (التقريب 537) .

4 التلخيص الحبير: (2/161) .

5 المجروحين: (1/194) .

6 سنن البيهقي: (4/105) .

(2/347)

والواقع أن الْحُكْمَ على هذا الحديث متوقف على الحكم على "بهز بن حكيم"، ومعرفة درجته من الجرح والتعديل؛ فَإِنَّ الرَّجُل مختلف فيه بين الأئمة:

قال يحيى بن معين: "ثقة"1. وقال في هذا الإسناد: "صحيح إذا كان دون بهز ثقة"2 وقال على بن المديني: "ثقة"3. وقال النسائي: "ثقة"4. وقال أبو زرعة: "صالح، ولكنه ليس بالمشهور"5. وقال أبو داود: "هو عندي حُجَّةٌ"6. وقال الترمذي: "ثقة عند أهل الحديث"7. وقال أبو جعفر السبتي: "بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده صحيح"8. وقال ابن عدي: "أرجو أنه لا بأس به، ولم أر له حديثاً منكراً، وإذا حَدَّثَ عنه ثقة فلا بأس به"9. وقال الذهبي: "صدوق فيه لين"10. وتَقَدَّمَ قول ابن حجر فيه: "صدوق". وقد احتجَّ به أحمد، وإسحاق11.

__________

1 تاريخ الدوري عن يحيى: (2/64) ، وتاريخ الدارمي: (ص82) رقم 199.

2 تهذيب التهذيب: (1/498) .

3 الجرح والتعديل: (1/1/430) .

4 تهذيب التهذيب: (1/498) .

5 الجرح والتعديل: (1/1/431) .

6 تهذيب التهذيب: (1/499) .

7 المصدر السابق.

8 المصدر السابق.

9 الكامل: (2/68) بتصرف.

10 المغني: (1/116) .

11 المجروحين: (1/194) .

(2/348)

ولم يحتج به الشافعي، ولم يحدث عنه شعبة1، وقال ابن حبان: "كان يخطئ كثيراً ... وتركه جماعة من أئمتنا، ولولا حديث: إنا آخذوه وشطر إبله ... لأدخلناه في الثقات، وهو ممن أستخير الله فيه"2. وقال ابن الطلاع: "مجهول". وقال ابن حزم: "غير مشهور بالعدالة". ونقل ذلك عنهما الحافظ ابن حجر، ثم قال: "وهو خطأ منهما، فقد وَثَّقَهُ خلقٌ من الأئمة ... "3.

فَتَبَيَّنَ من ذلك أن بهزاً قد وَثقَهُ الأكثرون وقبلوه، ولعل حديثه لا ينزل عن مرتبة الحسن إن شاء الله، وهذا ما اختاره الذهبي رحمه الله، فقال: "حديثه حسن"4. والترمذي كثيراً ما يُحَسِّنُ حديثه، وهو مقتضى كلام الأئمة - رحمهم الله - فيه.

وأما ما ذكره البيهقي - رحمه الله - من أن أصحاب الصحيحين إذا لم يكن للصحابي أو التابعي إلا راوٍ واحد لم يخرجا حديثه: فإن هذه الدعوى منتقضة، وقد رَدَّهَا الأئمة، وليس هذا مكان بسط ذلك5.

وعلى فرض صحة هذه الدعوى، فإنها منتفية في حق معاوية؛ إذ روى عنه اثنان غير ابنه حكيم، وهما: عروة بن رويم اللخمي، وحميد اليزني6.

__________

1 تهذيب التهذيب: (1/498) .

2 المجروحين: (1/194) .

3 التلخيص الحبير: (2/161) .

4 المغني: (1/116) .

5 وقد رَدَّ عليه صاحب (الجوهر النقي) : (4/105) فليراجع.

6 انظر: تهذيب التهذيب: (10/205 - 206) .

(2/349)

فَتَلَخَّصَ من ذلك، أن هذا الحديث حسن، وأن من ضَعَّفَهُ ببهز ابن حكيم لم يصب في ذلك، وأن الصواب مع ابن القَيِّم رحمه الله في القول بثبوت هذا الخبر، وقد قال عنه الإمام أحمد: "صالح الإسناد"1. وتقدم تصحيح الحاكم له، وموافقة الذهبي إياه.

__________

1 التلخيص الحبير: (2/161) .

(2/350)

5.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

من كتاب الصوم

1 ـ باب السواك للصائم

...

1- باب السواك للصائم

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وصحَّ عنه أنه كان يستاك وهو صائم"1. ولعله - رحمه الله - يشير بذلك إلى حديث:

40 - (1) عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: "رَأَيْت النبي صلى الله عليه وسلم مَا لا أُحْصِي يَتَسَوَّكُ وهو صائم".

وقد سَكَتَ - رحمه الله - عن حديث عامر هذا في (تهذيب السنن) 2.

قلت: وهذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في (جامعه) 4، وأحمد في (مسنده) 5، وابن خزيمة في (صحيحه) 6، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 7، والعقيلي في (الضعفاء) 8، كلهم من طريق:

__________

1 زاد المعاد: (2/61) .

(3/240) .

(2/768) ح 2364 ك الصوم، باب السواك للصائم.

(3/95) ح 725، ما جاء في السواك للصائم.

(3/445) .

(3/247) ح 2007، باب الرخصة في السواك للصائم.

7 قط: (2/202) ح 2 - 4. هق: (4/272) .

(3/334) . في ترجمة "عاصم بن عبيد الله".

(2/353)

سفيان الثوري، عن عاصم بن عبيد الله1، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة2، عن أبيه عامر به. ولفظ مسدد عند أبي داود: "ما لا أَعُدُّ ولا أحصي". وكذا قال جعفر بن محمد الثعلبي عند ابن خزيمة.

وهذا الحديث ضعيف، في إسناده "عاصم بن عبيد الله العُمَرِي" وقد ضَعَّفَهُ غير واحد من الأئمة، فقال كلُّ من: البخاري3، وأبي حاتم4، وأبي زرعة5: "منكر الحديث". وقال ابن معين: "ضعيف"6. وقال النسائي: "لا نعلم مالكاً روى عن إنسان ضعيف مشهور بالضعف إلا عاصم بن عبيد الله ... "7 وقال الدارقطني: "مدني يترك، وهو مغفل"8. وقال ابن حبان: "كان سيئ الحفظ، كثير الوهم، فاحش الخطأ، فَتُرِكَ من أجل كثرة خطئه"9. وَضَعَّفَهُ غير هؤلاء10.

__________

1 ابن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي، المدني، ضعيف، من الرابعة، مات في أول دولة بني العباس، سنة 132/ عخ4. (التقريب 285) .

2 العَنَزِي، أبو محمد المدني، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولأبيه صحبة مشهورة، وَثَّقَهُ العجلي، مات سنة بضع وثمانين/ ع. (التقريب 309) .

3 الضعفاء الصغير: (ص180) .

4 الجرح والتعديل: (3/1/348) .

5 المصدر السابق.

6 تاريخ الدوري: (2/283) .

7 تهذيب التهذيب: (5/48) .

8 سؤالات البرقاني للدارقطني: (ص49) .

9 المجروحين: (2/127) .

10 انظر: تهذيب التهذيب: (5/47 - 48) .

(2/354)

وخالف العِجْلِيُّ، فقال: "لا بأس به"1.

وقد ضَعَّفَ الحديث جماعة لأجل عاصم هذا: فقال ابن خزيمة عقب إخراجه إياه: "وأنا بريء من عهدة عاصم"2. ثم نقل بعض أقوال مُضَعِّفِيه، واعتذر عن إخراجه في كتابه بأن شعبة والثوري قد رويا عنه. وقال العقيلي: "ولا يُروى بغير هذا الإسناد إلا بإسناد لَيِّنٍ". وقال الدارقطني عقب إخراجه: "عاصم بن عبيد الله غيره أثبت منه". وقال البيهقي: "عاصم بن عبيد الله ليس بالقويِّ"3. وقال المنذري: "في إسناده عاصم بن عبيد الله، وقد تَكَلَّمَ فيه غير واحد"4. وقال ابن حجر: "وفيه عاصم بن عبيد الله، وهو ضعيف"5. وعَلَّقَهُ البخاري في (صحيحه) 6 بصيغة تمريض، فقال: "ويذكر عن عامر بن ربيعة ... ".

وقد انفرد الترمذي - رحمه الله - بتحسينه، فقال: "حديث حسن". ويبدو أن ابن القطان يوافقه على ذلك؛ حيث قال: "وهو حديث يرويه الثوري، عن عاصم بن عبيد الله، وعاصم مختلف فيه، فبحق قيل فيه: حسن"7. وقال ابن الملقن: "إنما لم يصححه - يعني الترمذي -؛ لأن

__________

1 الثقات: (بترتيب الهيثمي) : (ص241) .

2 صحيح ابن خزيمة: (3/248) .

3 السنن: (1/272) .

4 مختصر السنن: (3/241) .

5 التلخيص الحبير: (1/68) .

6 انظر: فتح الباري مع البخاري: (4/158) ك الصوم، باب سواك الرطب واليابس للصائم.

7 بيان الوهم والإيهام: (3/441) ح 1196.

(2/355)

في إسناده عاصم بن عبيد الله ... "1.

قلت: فظاهر كلامهما - يعني: ابن القطان وابن الملقن - أن الترمذي حَسَّنَهُ لأجل وجود عاصم بن عبيد الله في إسناده، ولولا ذلك لَصَحَّحَهُ! والأمر على خلاف ذلك؛ فإن الجمهور على ضعف هذا الرجل كما سلف من كلامهم رحمهم الله، فَيَتَرَجَّحُ بذلك ضعف الحديث لا حُسْنُهُ.

أما ابن القَيِّم رحمه الله: فإنه يرى صحة الحديث كما مضى من كلامه في (زاد المعاد) ، وكما يُفهم من سكوته عليه في (تهذيب السنن) .

ولكن مع ضَعْفِ هذا الحديث، فإن العمل عليه، قال الترمذي رحمه الله: "والعمل على هذا عند أهل العلم، لا يرون بالسواك للصائم بأساً ... ".

فيكون الاحتجاج في ذلك بعموم النصوص الواردة في الترغيب في السواك لا بهذا الخبر، وقد عَبَّرَ عن ذلك ابن القَيِّم بقوله: "ولو احْتُجَّ عليه بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". لكانت حُجَّةً، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب" وسائر الأحاديث المُرَغِّبَة في السواك من غير تفصيل ... "2. فهذا أولى من الاحتجاج بحديث عاصم هذا، والله أعلم.

__________

1 البدر المنير: (3/175) .

2 تهذيب السنن: (3/241) .

(2/356)

ومن الأحاديث التي تناولها ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب:

41- (2) عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مِنْ خَيْرِ خِصَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكِ".

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (زاد المعاد) 1 وَضَعَّفَهُ، فإنه صَدَّرَهُ بصيغة تمريض، فقال: "ويذكر عنه ... "، ثم قال: "رواه ابن ماجه من حديث مُجَالِد، وفيه ضعف".

وأورده - رحمه الله - مستشهداً به ساكتاً عنه في (تهذيب السنن) 2؛ فإنه قال عند حديث عامر بن ربيعة - الماضي ذكره قبل هذا-: "وقد روى ابن ماجه من حديث عائشة ... " فذكره.

قلت: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في (سننه) 3، والدارقطني والبيهقي كذلك في (سننيهما) 4، ثلاثتهم من طريق:

أبي إسماعيل الْمُؤَدِّب5، عن مجالد بن سعيد6، عن الشعبي، عن

__________

(2/63) .

(3/240 - 241) .

(1/536) ح 1677 ك الصوم، باب ما جاء في السواك والكحل للصائم.

4 قط: (2/203) ح 6. هق: (4/272) باب السواك للصائم.

5 هو: إبراهيم بن سليمان بن رزين الأردني، نزيل بغداد، مشهور بكنيته، صدوق يُغْرِب/ ق. (التقريب 90) .

6 ابن عمير الهمداني، أبو عمرو الكوفي، لَيْسَ بِالقَوِيّ وقد تَغَيَّر في آخر عمره، من صغار السادسة، مات سنة 144هـ/ م4. (التقريب 520) .

(2/357)

مسروق، عن عائشة رضي الله عنها به، واللفظ المتقدم هو لفظ ابن ماجه، وعند الدارقطني والبيهقي: "خير خصال ... " بدون "من". إلا أن الدارقطني في رواية ابن منيع جاء به مثل لفظ ابن ماجه.

وقد أشار إليه الترمذي في (جامعه) 1، فإنه قال - عقب إخراجه حديث عامر بن ربيعة المتقدم -: "وفي الباب عن عائشة".

وإسناد هذا الحديث ضعيف لضعف مجالد بن سعيد، فقد تكلم فيه الأئمة: قال البخاري: "كان يحيى القطان يضعفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه عن الشعبي ... "2. وقال الإمام أحمد: "ليس بشيء، يرفع حديثاً كثيراً لا يرفعه الناس، وقد احتمله الناس"3. وقال ابن معين: "لا يحتجُّ بحديثه"4. وقال مرة: "ضعيف واهي الحديث"5. وقال النسائي: "ضعيف"6. وقال ابن أبي حاتم: "سُئل أبي عن مجالد بن سعيد، يحتجُّ بحديثه؟ قال: لا. وهو أحبُّ إليَّ من بشر بن حرب وأبي هارون العبدي ... وليس مجالدٌ بقويٍّ في الحديث"7. وقال ابن حبان: "كان رديء الحفظ يَقْلِبُ الأسانيدَ ويرفع المراسيل، لا يجوز الاحتجاج به"8.

__________

(3/95) .

2 الضعفاء الصغير: (ص232) .

3 تهذيب التهذيب: (10/40) .

4 تاريخ الدوري: (2/549) .

5 تهذيب التهذيب: (10/40) .

6 الضعفاء والمتروكين: (ص96) .

7 الجرح والتعديل: (4/1/362) .

8 المجروحين: (3/10) .

(2/358)

ومع ذلك فقد ذهب جماعة إلى أن أمره مُحْتَمَل، فقال العِجْلي: "جائز الحديث، حسن الحديث، إلا أن عبد الرحمن بن مهدي كان يقول: أشعث بن سَوَّار أَقْوَى منه. والنَّاس لا يتابعونه على هذا، كان مجالد أرفع من أشعث بن سوار"1. وقال يعقوب بن سفيان: "تَكَلَّمَ الناس فيه، وهو صدوق"2. وقال الإمام أحمد: "وقد احتمله الناس"3. وَوَثَّقَه النسائي مرة4. وقال السَّاجي: "قال محمد بن الْمُثَنَّى: يُحْتَمَل حديثه لصدقه"5. وقال البخاري: "صدوق"6. وقال الذهبي: "مشهور، صالح الحديث"7. وقال مرة: "مشهور صاحب حديث، على لِينٍ فيه"8.

فَتَلَخَّصَ من ذلك أنَّ مجالداً هذا ليس شديد الضَّعْفِ بحيثُ يُطْرَحُ حديثه بالْكُلِّية، وإنما أمره محتملٌ، فَيُعْتَبَرُ بحديثه إذا وافق الثقات وروى ما روى الناس، وأما إذا انفرد فلا يُحْتَجُّ به، لما تَقَدَّمَ من كلام الأئمة في شأنه. وقد أخرج له مسلم - رحمه الله - في (صحيحه) مقروناً9، ولعلَّ مقالة ابن القَيِّم: "فيه ضعف" تشعر بهذا الذي قدمنا، فإنها لا شكَّ لا تفيد مطلق الضعف، وسيأتي من كلام غيره ما يُشْعِرُ بذلك أيضاً.

__________

1 الثقات "ترتيب الهيثمي": (ص 420) .

2 تهذيب التهذيب: (10/41) .

3 تهذيب التهذيب: (10/40) .

4 المصدر السابق.

5 المصدر السابق: (10/41) .

6 المصدر السابق.

7 المغني: (2/542) .

8 الميزان: (3/438) .

9 تهذيب التهذيب: (10/41) .

(2/359)

والذي يظهر أنه قد انفرد برواية هذا الأمر، نعم رُوِيَ هذا الحديث من طريق مسروق عن عائشة عن غير مجالد، لكن في إسناده: السري بن إسماعيل1، وهو متروك الحديث منكره، كما قال غير واحد2. ولم أقف على من أخرج هذه الطريق، وإنما ذكرها ابن الملقن - رحمه الله - في (البدر المنير) 3، وذكر أيضاً4: أن أبا نعيم رواه، ولم أقف عليه في (الحلية) ولا في (معرفة الصحابة) له، وقال ابن حجر: "ورواه أبو نعيم من طريقين آخرين عنها"5. ولم يبينهما.

وقد ضَعَّفَ حديث مجالد هذا جماعة، فقال الدارقطني عقب إخراجه: "مجالد غيره أثبت منه ". وكذا قال البيهقي. وقال البوصيري: "إسناد ضعيف لضعف مجالد"6. وقال ابن الملقن: "في إسناده مجالد، وفيه مقال"7. وقال الحافظ ابن حجر: "ضعيف"8.

قلت: فقد تَبَيَّنَ من ذلك أن هذا الحديث ضعيف وإن وَثقَ بعضهم مجالداً، وبذلك لا يثبتُ الترغيب في السواك للصائم بهذا

__________

1 الهمداني، الكوفي، ابن عم الشعبي، متروك الحديث، من السادسة/ ق. (التقريب230) .

2 انظر: تهذيب التهذيب: (3/459 - 460) .

(3/179) .

4 البدر المنير (3/180) .

5 التلخيص الحبير: (1/68) .

6 مصباح الزجاجة: (2/66) .

7 البدر المنير: (3/179) .

8 التلخيص الحبير: (1/68) .

(2/360)

الحديث، ولكن يثبت ذلك بعموم الأحاديث الواردة في الترغيب فيه كما قَدَّمْنَا.

وكما أنه لا يثبت في الترغيب في السواك للصائم شيء، كذلك لا يثبت في المنع منه والنهي عنه شيء، قال ابن القيم: "ولم يجئ في منع الصائم منه حديث صحيح"1.

وعلى هذا فقد وُفِّقَ ابن القَيِّم لَمَّا ضَعَّفَهُ في (زاد المعاد) ، فوافق بذلك جملة من رَدَّهُ من العلماء، وأما إيراده في (تهذيب السنن) مستشهداً به ساكتاً عليه، فالمعتبر كلامه الأول إن شاء الله، والله أعلم.

__________

1 تهذيب السنن: (3/241) .

(2/361)

2- باب القبلة للصائم

42- (3) حديث عَائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، وَيَمُصُّ لِسَانَهَا".

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (زاد المعاد) 1، وذكر أنه قد اخْتُلِفَ فيه، فَضَعَّفَهُ جماعة، وَحَسَّنَهُ آخرون. وتَكَلمَ عليه في (تهذيب السنن) 2 فلم يذكر إلا تضعيفه، فنقل عن أبي داود وعبد الحقِّ أنهما ضَعَّفَا إسناد هذا الحديث.

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3، وأحمد في (مسنده) 4 وابن خزيمة في (صحيحه) 5، والبيهقي في (سننه) 6، من طرق، عن:

محمد بن دينار7، عن سعد بن أوس8، عن مِصْدَع9، عن

__________

(2/58) .

(3/263 - 264) .

(2/780) ح 2386 ك الصوم، باب الصائم يبلع الريق.

(6/123، 234) .

(3/246) ح 2003 ك الصوم، باب الرخصة في مصِّ الصائم لسان المرأة خلاف من كره القبلة للصائم على الفم.

(4/234) باب إباحة القبلة لمن لم تحرك شهوته، أو كان يملك إِرْبَهُ.

7 الأزدي، ثم الطَّاحي، أبو بكر بن أبي الفرات البصري، صدوق سيء الحفظ، ورُمِيَ بالقدر، وتغير قبل موته، من الثامنة / د ت. (التقريب 477) .

8 العدوي، أو العبدي، البصري، صدوق له أغاليط، من الخامسة / د ت س. (التقريب 230) .

9 أبو يحيى الأعرج المعرقب، مقبول، من الثالثة/ م 4. (التقريب 533) .

(2/362)

عائشة رضي الله عنها به.

وفي إسناد هذا الحديث جماعة مُتَكَلَّمٌ فيهم:

أولهم: محمد بن دينار الطاحي، وقد ذكر ابن القيم –رحمه الله– أنَّ عبد الحق ضَعَّفَ الحديث به، وأنَّ ابن عديّ ذهب إلى تفرده بلفظة "ويمص لسانها".

ومحمد هذا قد اختلفت فيه أقوال الأئمة، فقال ابن معين1، والنسائي2، وأبو حاتم3، والعجلي4: "لا بأس به". وقال أبو زرعة: "صدوق"5. وقال ابن معين في رواية معاوية بن صالح: "ضعيف"6. وفي سؤالات ابن الجنيد لابن معين7: سأله ابن الغلابي عنه؟ فقال: "ليس به بأس". فعاوده، فقال: "ليس بالقويِّ". وفيها - أيضاً - قول ابن معين: "ليس بذاك القويِّ"8. وقال النسائي مرة: "ضعيف"9. وقال أبو داود: "تَغَيَّرَ قبل أن يموت"10. وقال الدارقطني: "ضعيف". ومرة قال:

__________

1 تهذيب التهذيب: (9/155) .

2 المصدر السابق.

3 الجرح والتعديل: (3/2/250) .

4 الثقات: ترتيب الهيثمي: (ص403) .

5 الجحر والتعديل: (3/2/250) .

6 الضعفاء للعقيلي: (4/63) .

(ص 409) .

8 المصدر السابق: (427) .

9 تهذيب التهذيب: (9/155) .

10 المصدر السابق.

(2/363)

"متروك"1. وقال العقيلي: "في حديثه وَهْمٌ"2. وقال ابن عدي: "حسن الحديث، وعامة حديثه يتفرد به"3. وقال الذهبي: "حَسَّنُوا أمره"4. وأما ابن حبان - رحمه الله - فإنه ذكره في (المجروحين) 5 وقال فيه: "كان يخطئ، لم يفحش خطؤه حتى استحق الترك، ولا سَلَكَ سنن الثقات مما لا ينفكُّ منه البشر فَيُسْلَك به مسلك العدول، فالإنصاف في أمره: تركُ الاحتجاج بما انفرد، والاعتبار بما لم يخالف الثقات، والاحتجاج بما وافق الأثبات" ولأجل ذلك فقد ذكره - رحمه الله - في (الثقات) 6.

قلت: والأمر فيه على ما قال ابن حبان رحمه الله، ومن تَأَمَّلَ أقوال الأئمة فيه توثيقاً وتضعيفاً علم أن حاله لا يخرج عمَّا وصف ابن حبان؛ فإن الرجل صدوقٌ ليس في المرتبة العليا من التوثيق، كما يشعر به قول أكثرهم: "ليس به بأس"، وهو - مع ذلك - في حفظه خللٌ لا ينزل به إلى درجة ترك حديثه، فيكون حديثه في منزلة الحسن كما وصفه ابن عديّ، وَأَقَرَّهُ الذهبي، وذلك حيث يوافق غيره من أهل الضبط والعدالة، فإن خالف وانفرد بما لا يُتَابَعُ عليه طُرِحَت روايته، وهذا ما قَرَّرَهُ ابن حبان.

__________

1 وكلا القولين في (سؤالات البرقاني للدارقطني) : (ص59) .

2 الضعفاء: (4/63) .

3 الكامل: (6/199) .

4 الكاشف: (3/36) .

(2/272) .

(7/419) .

(2/364)

ولما كانت هذه الزيادة وهي قوله: " ويمص لسانها" قد انفرد بها محمد بن دينار هذا - كما قرره ابن عدي، حيث قال: "قوله: ويمص لسانها. لا يقوله إلا محمد بن دينار"1. وقال الذهبي: "هذه اللفظة لا توجد إلا في هذا الخبر"2 - لما كان كذلك، فإن هذه اللفظة تكون ضعيفة بسبب ضعف محمد هذا. وقد ضَعَّفَهَا به غير واحدٍ كما سيأتي من كلامهم.

ثانيهم: مِصْدَع أبو يحيى، راويه عن عائشة رضي الله عنها، وقد اخْتُلِفَ فيه أيضاً، فقد وَثَّقَهُ العجلي3، وقال الجوزجاني: "كان زائغاً حائداً عن الطريق"4. لكن تَعَقَّبَه ابن حجر فقال: "والجوزجاني مشهور بالنصب والانحراف، فلا يقدح فيه قوله"5. وقال ابن حبان: "كان ممن يخالف الأثبات في الروايات، وينفرد عن الثقات بألفاظ الزيادات، مما يوجب ترك ما انفرد منها، والاعتبار بما وافقهم فيها"6. وقال الذهبي: "صدوق، قد تكلم فيه"7.

وذكره ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 8 ولم يذكر فيه جرحاً

__________

1 الكامل: (6/198) .

2 الميزان: (3/541) .

3 الثقات: ترتيب الهيثمي: (ص429) .

4 أحوال الرجال: (ص144) .

5 تهذيب التهذيب: (10/158) .

6 المجروحين: (3/39) .

7 الميزان: (4/118) .

(4/1/429) .

(2/365)

ولا تعديلاً. وقال ابن خزيمة: "لا أعرفه بعدالة ولا جرح"1.

فالرجل وثقه جماعة، وضعفه آخرون، وَتَوَقَّفَ في أمره بعضهم، وخَلص الحافظ ابن حجر - رحمه الله - إلى أنه "مقبول"، يعني حيث يُتابع، وإلا فهو لَيِّنُ الحديث. وهو هنا لم يتابع على زيادته تلك، فيكون إلى الضعف أقرب. وقد ذهب ابن حبان - أيضاً - إلى ترك ما انفرد به.

وثالثهم: سعد بن أوس، فإنه - أيضاً - وَثَّقَهُ جماعة وضعفه آخرون، فقال ابن معين: "بصريٌّ ضعيف"2. قال عبد الحق: "لا يحتجُّ به"3. وقال السَّاجي: "صدوق"4. وذكره ابن حبان في (الثقات) 5. وقال الذهبي: "يُضَعَّفُ"6.وقال الحافظ ابن حجر: "صدوق له أغاليط"7.

فَتَلَخَّصَ: أن هذا الحديث ضعيف السَّنَدِ، وأن زيادة كلمة "يمص لسانها" في متنه لا تصحُّ؛ لتفرد مِصْدَع بها عن عائشة، وأن غيره من الثقات رووا هذا الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - فلم يذكروا فيه هذه الزيادة، من ذلك: حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:

__________

1 صحيح ابن خزيمة: (3/246) .

2 الجرح والتعديل: (2/1/80) .

3 نصب الراية: (4/253) .

4 تهذيب التهذيب: (3/467) .

(6/377) .

6 الميزان: (3/542) .

7 التقريب: (ص230) .

(2/366)

"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُقَبِّلُ بعضَ نسائه وهو صائم"، أخرجه البخاريُّ في (صحيحه) 1.

وقد حكم عليه بالضعف جماعة من العلماء، فقال أبو داود - كما نقل عنه ابن الأعرابي -: "هذا الإسناد ليس بصحيح". وقال ابن خزيمة: "باب الرخصة في مصِّ الصائم لسان المرأة ... إن صحَّ الاحتجاج بمصدع أبي يحيى". وقال ابن عدي: "قوله: ويمص لسانها. لا يقوله إلا محمد بن دينار، وهو الذي رواه"2. وقال عبد الحق: "هذا حديث لا يصحُّ ... "3. وذكره ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 4 وَضَعَّفُهُ بالثلاثة الماضي ذكرهم. وضعفه ابن القطان بمصدع فقط5. وأشار الذهبي إلى أن هذه اللفظة لم تَرِدْ إلا في هذا الخبر6. وقال الزيلعي: "هذا حديث لا يصحُّ"7. وقال ابن حجر: "إسناده ضعيف، ولو صحَّ فهو محمول على من لم يبتلع ريقه الذي خالط ريقها"8.

وبعد، فهذه أقوال الأئمة - رحمهم الله - في هذا الحديث.

وأما ابن القَيِّم: فقد ذكر في كتابه (زاد المعاد) أن الحديث مختلف

__________

1 ك الصلاة، باب القبلة للصائم، ح 1928. (فتح الباري 4/152) .

2 الكامل: (6/198) .

3 نصب الراية: (4/253) .

(2/53 - 54) .

5 نصب الراية: (4/253) .

6 الميزان: (3/541) .

7 بيان الوهم والإيهام: (3/111) ح 803.

8 فتح الباري: (4/153) .

(2/367)

فيه ما بين مُضَعِّفٍ له ومُحَسِّنٍ، ولم أقف على قول من حَسَّنَه. وأما في كتابه (تهذيب السنن) فيبدو أنه يُرَجِّحُ ضَعْفَ هذه الزيادة في الحديث، حيث نقل عن أبي داود، وعبد الحق القول بضعفه، وهو الصواب، كما تقدم في أقوال الأئمة الماضي ذكرهم، والله أعلم.

(2/368)

3- باب ما جاء في الإفطار في السفر

43- (4) عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصَّائِمُ في السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ في الْحَضَرِ".

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (تهذيب السنن) 1 وعزاه إلى النسائي، ثم قال: "ولا يَصِحُّ رَفْعُهُ، وإنما هو موقوف".

قلت: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في (سننه) 2 من طريق:

عبد الله بن موسى3 التيمي، عن أسامة بن زيد4، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه عبد الرحمن بن عوف أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَائِمُ رمضانَ في السَّفَرِ كالمفطرِ في الْحَضَرِ".

وأخرجه البزار في (مسنده) 5 من الطريق نفسه، لكن قال فيه: "عبد الله بن عيسى المدني" بدل "عبد الله بن موسى". وقد ذكره ابن القطان من جهة البزار، ثم قال: "هكذا قال: عبد الله بن عيسى المدني، وقال

__________

(3/285) .

(1/532) ح 1666، باب ما جاء في الإفطار في السفر.

3 ابن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي، أبو محمد المدني، صدوق كثير الخطأ، من الثامنة/ق. (التقريب 325) .

4 الليثي مولاهم، أبو زيد المدني، صدوق يَهِم، من السابعة، مات سنة 153هـ- / خت م 4. (التقريب 98) .

(3/236) ح 1025.

(2/369)

غيره: عبد الله بن موسى التيمي، وهو أشبه بالصواب"1. ولفظ البزار كلفظ ابن ماجه إلا أن عنده "كمفطره".

وأخرجه ابن عدي في (الكامل) 2 من طريق: يزيد بن هارون، ثنا يزيد بن عياض3، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه عبد الرحمن بن عوف مرفوعاً. وسيأتي كلام ابن عديّ عليه بعد قليل.

وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعلتين:

أولاهما: أنه لا يصحُّ رفعه، بل الصواب فيه موقوف على عبد الرحمن بن عوف، كما تقدم من كلام ابن القَيِّم.

الثانية: أنه منقطع بين أبي سلمة وأبيه عبد الرحمن بن عوف.

أما العلة الأولى: وهي أنه لا يصح مرفوعاً، وأن الصواب وقفه: فإنه قد أخرجه النسائي في (سننه) 4 من طريق: معن بن عيسى5، عن ابن أبي ذئب6، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه

__________

1 انظر: نصب الراية: (2/462) .

(7/2720) .

3 ابن جعدبة الليثي، أبو الحكم المدني، نزيل البصرة، وقد يُنْسَبُ لجده، كَذَّبَهُ مالك وغيره، من السادسة/ ت ق. (التقريب 604) .

(4/183) ك الصوم، باب ذكر قوله: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر.

5 أبو يحيى المدني القزاز، ثقة ثبت، من كبار العاشرة، مات سنة 198 هـ- / ع. (التقريب 542) .

6 هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشي، العامري، أبو الحارث المدني، ثقة فقيه فاضل، من السابعة، مات سنة 158 هـ- / ع. (التقريب493) .

(2/370)

عبد الرحمن بن عوف أنه قال: "يقال: الصيام في السفر كالإفطار في الحضر". هكذا موقوفاً على عبد الرحمن بن عوف، وبدون ذكر "رمضان".

ثم أخرجه1 من طريق حماد بن خالد الخَيَّاط2 وأبي عامر3، قالا: حدثنا ابن أبي ذئب بالإسناد السابق، وليس فيه قوله: "يقال".

وهذا إسناد صحيح، وقد رَجَّحَ جماعة من العلماء الرواية الموقوفة، منهم: أبو حاتم، فقد سأله عنه ابنه، فذكر الاختلاف فيه، ثم قال: "الصحيح: عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه موقوفاً"4. كذا نقل الزيلعي5، وابن حجر6 عن ابن أبي حاتم، والذي في (العلل) أن الكلام لأبي زرعة! وأظنه خطأ، لما نقله هذان الإمامان عن ابن أبي حاتم، وأيضاً السؤال وَجَّهَهُ ابن أبي حاتم لأبيه، فالله أعلم.

وقال البزار: "هذا الحديث أسنده أسامة بن زيد، وتابعه على إسناده يونس. وقد رواه ابن أبي ذئب وغيره: عن الزهري، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن أبيه موقوفاً من قول عبد الرحمن، ولو ثبت مرفوعاً

__________

1 سنن النسائي: (4/183) .

2 القرشي، أبو عبد الله البصري، نزيل بغداد، ثقة أُمِّيٌّ، من التاسعة/ م 4. (التقريب 178) .

3 هو: عبد الملك بن عمرو القيسي، العقدي، ثقة، من التاسعة، مات سنة 204هـ- أو 205/ع. (التقريب 364) .

4 علل ابن أبي حاتم: (1/238 - 239) ح 694.

5 نصب الراية: (2/462) .

6 التلخيص الحبير: (2/205) .

(2/371)

لكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم حين خَرَجَ فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر وأمر الناس بالفطرِ دليلاً على نسخ هذا الحديث؛ لأنه يؤخذ بالآخر ... "1.

وجَزَمَ ابن عدي بوقفه، فقال - بعد أن أخرجه -: "وهذا الحديث لا يرفعه عن الزهري غير يزيد بن عياض ... من رواية سلام بن روح عنه، ويونس بن يزيد من رواية القاسم بن مبرور عنه، وأسامة بن زيد، من رواية عبد الله بن موسى التيمي. والباقون من أصحاب الزهري: رووه عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه من قوله"2.

ورَجَّحَ الدارقطني - كذلك - رواية الوقف كما نقله عنه ابن حجر3. وكذا البيهقي، فقال: "هو موقوف ... ورُوِيَ مرفوعاً، وإسناده ضعيف"4.

ونقل ابن حجر عن النسائي أنه صَوَّبَ وقفه أيضاً5، ولم أقف على قولة النسائي في ذلك.

وقد تابع أبا سلمة بن عبد الرحمن على وقفه: أخوه حميد بن عبد الرحمن بن عوف، فأخرجه النسائي - أيضاً - في (سننه) 6 من طريق: أبي معاوية، حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن حميد، عن أبيه عبد الرحمن به.

__________

1 مسند البزار: (3/237 - 238) .

2 الكامل: (7/2720) .

3 التلخيص الحبير: (2/205) .

4 سنن البيهقي: (4/244) .

5 التلخيص الحبير: (2/205) .

(4/183) .

(2/372)

وهذا إسناد صحيح أيضاً، بل قال ابن حزم رحمه الله: "وهذا سندٌ في غاية الصحة"1. وصححه كذلك الشيخ الألباني2. فهذه الرواية تؤيد رواية أبي سلمة المتقدمة عن أبيه موقوفاً، وأنها هي الصواب، وأن الرواية المرفوعة خطأ.

قلت: وإسناد الرواية المرفوعة فيه "أسامة بن زيد الليثي"، وفيه ضَعْفٌ من قبل حفظه3، وقد ضَعَّفَ ابنُ حزم الرواية المرفوعة به، فقال: "وأما نحن فلا نحتجُّ بأسامة بن زيد الليثي، ولا نراه حجةً لنا ولا علينا"4. وكذا ضَعَّفَ إسناده البيهقي5، والبوصيري6. فلعلَّ الوهمَ في هذا الحديث جاء من قِبَلِهِ بجعله هذا الحديث مرفوعاً، وخالفه من هو أوثق منه وأتقن: ابن أبي ذئب، فوقفه على عبد الرحمن بن عوف، وحكم الأئمة له، وقدموا روايته.

وأما العلة الثانية، وهي انقطاعه: فإن أبا سلمة لم يسمع من أبيه شيئاً، كما قال البخاري وابن معين7. ولذلك فقد أعله غير واحد بأنه منقطع، فقال البيهقي: "في إسناده انقطاع"8. وأَقَرَّهُ على ذلك

__________

1 الْمُحَلَّى: (6/257) .

2 السلسلة الضعيفة: (ح498) .

3 تنظر ترجمته في (تهذيب التهذيب) : (1/208 - 210) .

4 المحلى: (6/258) .

5 السنن: (4/244) .

6 مصباح الزجاجة: (2/64) .

7 انظر: المراسيل لابن أبي حاتم: (ص255) ، وجامع التحصيل: (ص260) .

8 السنن: (4/244) .

(2/373)

النووي1 رحمه الله. وقال الزيلعي: "وفي سماع أبي سلمة من أبيه نظر"2. وقال البوصيري: "منقطع ... أبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئاً، قاله ابن معين والبخاري"3. وقال ابن حجر: "ومع وقفه فهو منقطع؛ لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه"4.

ولكن لم يرض ابن حزم - رحمه الله - بذلك، فقال في (المحلى) 5: "إسناد صحيح، وقد صحَّ سماع أبي سلمة من أبيه".

قلت: وقوله مُعَارَضٌ بقول من نقلنا أقوالهم قبل قليل.

وبعدُ، فقد ظهر أن الصواب في هذا الحديث: أنه موقوف، ومع وقفه فإنه منقطع الإسناد، وقد ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - من ذلك: عدم صحة رفعه فقط، ولم يتعرض لانقطاعه، وقد نقلتُ أقوال الأئمة في تقرير ذلك. والله أعلم.

__________

1 انظر: المجموع: (6/219) .

2 نصب الراية: (2/462) .

3 مصباح الزجاجة: (2/64) .

4 فتح الباري: (4/184) .

(6/257) .

(2/374)

4- باب في صيام يوم عرفة

44- (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: "نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَومِ عَرَفَةَ بِعَرَفَة".

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وفي إسناده نظر؛ فإن مَهْدِي بن حرب العَبْدِي ليس بمعروف، ومداره عليه"1. وقال مرة: "ورُوِي عنه أنه نهى ... "2. فَصَدَّرَهُ بصيغة تمريض.

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه في (سننيهما) 3، والنسائي في (الكبرى) 4، وأحمد في (مسنده) 5، والبخاري في (تاريخه) 6، وابن خزيمة في (صحيحه) 7، والحاكم في (المستدرك) 8، والبيهقي في (السنن) 9، والعقيلي في (الضعفاء) 10، كلهم من طريق:

__________

1 زاد المعاد: (1/61) .

2 المصدر السابق: (2/77) .

3 د: (2/816) ح 2440 ك الصوم، باب في صوم يوم عرفة بعرفة، جه: (1/551) ح 1732 ك الصوم، باب صيام يوم عرفة.

(3/229) ح 2844.

(2/304، 446) .

6 الكبير: (4/1/424) .

(3/292) ح 2101 ك الصوم.

(1/434) .

(4/284) ، (5/117) .

10 (1/298) ترجمة "حوشب بن عقيل".

(2/375)

حوشب بن عقيل1، عن مهدي بن حرب2، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ساقه ابن القَيِّم هنا، وهو لفظ: البخاري في (تاريخه) ، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي.

وعند أبي داود قول عكرمة: "كنا عند أبي هريرة في بيته، فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى ... " الحديث.

وعند أحمد والنسائي: قال عكرمة: "دخلت على أبي هريرة فسألته ... ".

والحديث بهذا الإسناد ضعيف؛ فإن مهدي بن حرب لم يوثقه غير ابن حبان3، وقال ابن معين: "لا أعرفه"4. وقال ابن حزم: "فإنه من رواية حوشب بن عقيل، وليس بالقويِّ، عن مهدي الهجري، وهو مجهول، ومثل هذا لا يُحْتَجُّ به"5.

قلت: وفي تضعيف ابن حزم لحوشب بن عقيل نظرٌ، فإنه ثقة، وَثَّقَهُ الأئمة: يحيى القطان، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان. وانفرد الأزدي بتضعيفه6.

__________

1 أبو دِحْيَة البصري، ثقة، من السابعة/ د س ق. (التقريب 184) .

2 العبدي، وهو: ابن أبي مهدي الهجري، مقبول، من السادسة/ د س ق. (التقريب 548) .

3 الثقات: (7/501) .

4 الجرح والتعديل: (4/1/337) .

5 المحلى: (6/440) .

6 انظر: تهذيب الكمال: (7/461 - 463) ، وتهذيب التهذيب: (3/65 - 66) .

(2/376)

وأخرجه العُقَيْلِي في ترجمة حوشب بن عقيل، عن الهجري، ثم قال: "لا يتابع عليه ... "1. وقال الإمام النووي: "رواه أبو داود، والنسائي بإسناد فيه مجهول". ثم قال: "ضعيف"2. وقال الشيخ الألباني: "فأنى للحديث الصحة وفيه هذا الرجل المجهول؟! "3. وأورده في (ضعيف ابن ماجه) 4، وقال في (تمام المنة) 5: "إسناده ضعيف".

أما الحاكم أبو عبد الله فقد قال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاريّ، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي! فَتَعَقَّبَهُمَا الشيخ الألباني قائلاً: "وهذا من أو هَامِهِمَا الفاحشة؛ فإن حوشب بن عقيل، وشيخه مهدي الهجري لم يُخْرِجْ لهما البخاري، بل إن الهجري مجهولٌ كما قال ابن حزم ... "6.

والحديث مع ضعفه اخْتُلِفَ في إسناده؛ فقد أخرجه البيهقي من طريق: الحارث بن عبيد7، عن حوشب بن عقيل، عن مهدي الهجري، عن عكرمة، عن ابن عباس به. قال البيهقي: "كذا قال الحارث بن

__________

1 الضعفاء: (1/298) .

2 المجموع: (6/349) .

3 السلسلة الضعيفة: (1/397) ح 404.

(ح 378) .

(ص 410) .

6 السلسلة الضعيفة: (1/397) .

7 الإيادي، أبو قدامة البصري، صدوق يخطئ، من الثامنة/ خت م د ت. (التقريب 147) .

(2/377)

عبيد، والمحفوظ: عن عكرمة، عن أبي هريرة"1.

وللحديث شاهدٌ من رواية عائشة رضي الله عنها، أخرجه الطبراني في (معجمه الأوسط) 2 من طريق: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى3، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "نهى رسول الله عن صيام يوم عرفة بعرفات". قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن صفوان إلا إبراهيم".

قال الشيخ الألباني: "فإن قيل: قد رَوَى الطبراني عن عائشة مثل هذا الحديث، فهل يَتَقَوَّى به؟ قلت: لا؛ لأن في إسناده إبراهيم بن محمد الأسلمي، وهو ضعيف جداً، فمثله لا يُتَقَوَّى به"4.

فالحاصل: أن النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة لا يصحُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن صحَّ من فعله أنه أفطر في ذلك اليوم، وذلك من حديث أم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها: "أن ناساً تَمَارَوا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فَأَرْسَلَتْ إليه بَقَدَحِ لبنٍ وهو واقف على بعيرِه فَشَرِبَه". أخرجه البخاري في (صحيحه) 5.

قال العقيلي: "وقد رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جياد أنه لم يَصُم

__________

1 سنن البيهقي: (5/117) .

(3/173) ح 2349.

3 الأسلمي، أبو إسحاق المدني، متروك، من السابعة، مات سنة 184هـ/ ق. (التقريب 93) .

4 السلسلة الضعيفة: (1/398) .

5 ك الصوم، باب صوم يوم عرفة ح 1988 (فتح الباري 4/236) .

(2/378)

يوم عرفة، ولا يصح عنه أنه نهى عن صومه"1.

وقال البيهقي - بعد أن أخرج حديث أبي هريرة المتقدم -: "وفي حديث أمِّ الفَضْلِ كفاية"2.

وبذلك يكون ابن القَيِّم - رحمه الله - قَدْ أَصَابَ في تضعيفه حديث أبي هريرة هذا، والله أعلم.

__________

1 الضعفاء: (1/298) .

2 سنن البيهقي: (5/117) .

(2/379)

5- باب ما جاء في صيام ستة أيام من شوال

45- (6) عن أبي أيوب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثم أَتْبَعَهُ بِسِتّ من شوال، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ".

تَكَلَّم ابن القَيِّم - رحمه الله - على هذا الحديث في (تهذيب السنن) 1، وذكر أنه مُخْتَلَفٌ فيه بين التصحيح والتضعيف، ثُمَّ ذَكَرَ شُبَهَ مُضَعِّفِيهِ وأجابَ عنها، ويتلخص كلامه عن هذا الحديث في الأوجه التالية:

1- أنه بينما أخرج هذا الحديث مسلم في (صحيحه) ، فقد أَعَلَّهُ آخرون وَضَعَّفُوه.

2- وأنَّ حَاصِل ما أُعِلَّ به هذا الحديث ما يلي:

أ-أن مداره على "سعد بن سعيد الأنصاري"، وهو ضعيف.

ب- أنه وإن وُجِدَت له متابعات، فإنها أيضاً تُضَعَّف.

ج- أنه حديث مضطرب، اخْتُلِفَ في سنده على "عمر بن ثابت" شيخ سعد بن سعيد.

د- أَنَّهُ شاذٌّ، تَفَرَّدَ به عمر بن ثابت.

3- وأن هذا الحديث ترك العمل به أهل العلم.

ثم شرع - رحمه الله - في الجواب عن تلك العلل بما سيأتي من كلامه أثناء هذا البحث.

__________

(3/308 - 315) .

(2/380)

قلت: هذا الحديث مداره على عمر بن ثابت1، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه. ويرويه عن عمر بن ثابت جماعةٌ، أشهرهم: سعد بن سعيد2.

ورواه عن سعد بن سعيد جماعة كثيرون:

فأخرجه مسلم في (صحيحه) 3 من طريق: إسماعيل بن جعفر، وابن نمير، وعبد الله بن المبارك، وفيه: " ... كان كصيام الدَّهْرِ".

وأخرجه الترمذي في (جامعه) 4، وأحمد في (مسنده) 5 من طريق: أبي معاوية6، ولفظه: " ... فذلك صيام الدَّهْرِ".

وأخرجه النسائي في (الكبرى) 7 من طريق: شعبة، ومن طريق: محمد بن عمرو الليثي.

__________

1 الأنصاري الخزرجي، المدني، ثقة، من الثالثة، أخطأ من عَدَّه في الصحابة / م4. (التقريب410) .

2 ابن قيس بن عمرو الأنصاري، أخو يحيى، صدوق سيئ الحفظ، من الرابعة، مات سنة 141هـ- / خت م 4. (التقريب 231) .

(2/822) ح 1164، ك الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً لرمضان.

(3/123) ح 759، ك الصوم، باب ما جاء في صيام ستة أيام من شوال.

(5/417) .

6 هو: محمد بن خازم الضرير.

(3/239 - 240) ح 2875، 2877.

(2/381)

وأخرجه ابن ماجه في (سننه) 1 من طريق: عبد الله بن نمير.

وأخرجه الطيالسي وأحمد في (مسنديهما) 2 من طريق: ورقاء بن عمر3. ولفظ أحمد: " ... فقد صام الدهر". أما الطيالسي فلفظه: " ... فذلك صيامُ السَّنَةِ".

وأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 4 من طريق: داود بن قيس5، وأبي بكر بن محمد بن أبي سبرة. ولفظ داود: " ... كُتب له صيامُ السنة" يقول: لِكُلِّ يوم عشرة أيام. قال: وبه نأخذ.

وأخرجه البيهقي في (سننه) 6، والبغوي في (شرح السنة) 7 من طريق: محاضر بن المورّع8. كلُّ هؤلاء عن: سعد بن سعيد الأنصاري، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب مرفوعاً به.

__________

(1/547) ح 1716، ك الصوم، باب صيام ستة أيام من شوال.

2 طس: (ح594) . حم: (5/419) .

3 اليَشْكُري، أبو بشر الكوفي، نزيل المدائن، صدوق في حديثه عن منصور لِينٌ، من السابعة / ع. (التقريب 580) .

(4/315) ح 7918، 7919. باب صوم الستة التي بعد رمضان.

5 الفرَّاء الدباغ، أبو سليمان القرشي مولاهم، المدني، ثقة فاضل، من الخامسة، مات في خلافة أبي جعفر / خت م 4. (التقريب 199) .

(4/292) .

(6/331) ح 1780.

8 الكوفي، صدوق له أوهام، من التاسعة، مات سنة 206هـ- / خت م د س. (التقريب 521) .

(2/382)

ورواه غير هؤلاء جماعة من الأئمة الثقات، منهم: ابن جريج، والثوري، ويحيى بن سعيد - أخو سعد بن سعيد - وغيرهم، كلهم: عن سعد بن سعيد بالإسناد السابق1. فهؤلاء ثلاثة عشر رجلاً - جُلُّهم حُفَّاظٌ أثبات - رووه عن "سعد بن سعيد".

وقد ضُعِّفَ هذا الإسناد بسعد بن سعيد، كما نقل ذلك ابن القَيِّم رحمه الله، إذا قال: "وقد اعترض بعض الناس على هذه الأحاديث ... قالوا: وأشهرها حديث أبي أيوب، ومداره على سعد بن سعيد، وهو ضعيف جداً، تركه مالك، وأنكر عليه هذا الحديث"2. ثم نقل تضعيف أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن حبان له.

وقال العلامة المناوي: "وطعنَ فيه من لا عِلْمَ عنده، وغَرَّهُ قولُ الترمذي: حَسَنٌ. والكلام في راويه، وهو سعد بن سعيد"3.

أما الكلام في سعد بن سعيد: فقد ضَعَّفَهُ بعضهم، فقال الإمام أحمد: "ضعيف"4 وقال النسائي: "ليس بالقويِّ"5. وقال الترمذيّ: "وقد تَكَلَّم بعضُ أهل الحديث في سعد بن سعيد من قِبَل حفظه"6.

ومع ذلك فقد وَثقُهُ جماعة، فقال ابن سعد: "ثقةٌ، قليل

__________

1 انظر: علل الدارقطني: ج2 (ق 52 /أ) .

2 تهذيب السنن: (3/310) .

3 فيض القدير: (6/161) .

4 الجرح والتعديل: (2/1/84) .

5 الضعفاء والمتروكين: (ص54) .

6 جامع الترمذي: (3/124) .

(2/383)

الحديث"1. وقال العجلي: "مدني ثقة"2. وذكره ابن شاهين في "ثقاته"3 وقال: "قال ابن عمار: سعد بن سعيد ... ثقة". وقال ابن معين: "صالح"4. وقال أبو حاتم: "سعد بن سعيد الأنصاري مُؤَدِّي" قال ابن أبي حاتم: "يعني أنه كان لا يحفظ، يؤدي ما سمع"5. وذكره ابن حبان في (ثقاته) 6 في التابعين وقال: "كان يخطئ"، ثم ذكره مرةً أخرى في أتباع التابعين وقال: "وكان يخطئ، لم يَفْحُشْ خطؤه، فلذلك سلكناه مسلك العدول"7. وقال الذهبي: "صدوق"8 وقال مرة: "حسن الحديث، تابعي"9.

فهذا - كما نرى - قد وَثقَهُ جماعة كثيرون، وأن فيه ضعفاً يسيراً من قبل حفظه لا يمنع قبول ما وافق فيه غَيْرَهُ، ولهذا فقد دفع ابن القَيِّم - رحمه الله - القول بضعفه، ونقل قول أبي حاتم، وابن معين، وابن سعد في توثيقه، ثم نقل قول ابن عدي: "له أحاديث صالحة تقرب من

__________

1 تهذيب التهذيب: (3/470) .

2 الثقات: (ترتيب الهيثمي) : (ص179) .

(ص96) .

4 الجرح والتعديل: (2/1/84) .

5 المصدر السابق.

(4/298) .

7 الثقات: (6/379) .

8 الكاشف: (1/277) .

9 المغني في الضعفاء: (1/254) .

(2/384)

الاستقامة، ولا أرى بحديثه بأساً بمقدار ما يرويه"1.

ثم قال ابن القَيِّم رحمه الله: "ومثل هذا إنما يُنفى ما ينفرد به، أو يخالفُ به الثقات، فأما إذا لم ينفرد، وروى ما رواه الناس فلا يُطْرَحُ حديثه".

قال: "سَلَّمْنَا ضَعْفَه، لكنَّ مسلماً إنما احتجَّ بحديثه لأنه ظهر له أنه لم يخطئ فيه بقرائنَ ومتابعات، ولشواهد دَلتُهُ على ذلك، وإن كان قد عُرِفَ خطؤه في غيره، فكون الرجل يخطئ في شيء لا يمنع الاحتجاج به فيما ظهر أنه لم يخطئ فيه ... "2.

وقال في موضع آخر: " ... لكنه ثقة صدوق، روى له مسلم، وروى عنه شعبة، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وابن جريج، وسليمان بن بلال، وهؤلاء أئمة هذا الشأن"3.

هذا فيما يتعلق بالكلام على سعد بن سعيد، والرد على من ضَعَّفَ الحديث لأجله.

وأما دعوى انفراد سعد بن سعيد بهذا الحديث: فليس كذلك، وإنما تابعه عليه جماعةٌ، منهم: يحيى بن سعيد4 أخوه، وصفوان بن

__________

1 وكلامه هذا في الكامل: (3/1189) .

2 تهذيب السنن: (3/311 - 312) .

3 المصدر السابق: (3/311) .

4 ابن قيس الأنصاري المدني، أبو سعيد القاضي، ثقة ثبت، من الخامسة، مات سنة 144هـ- أو بعدها / ع. (التقريب 591) .

(2/385)

سليم1، وغيرهم.

أما رواية يحيى بن سعيد: فأخرجها النسائي في (الكبرى) 2 من طريق: صدقة بن خالد، عن عتبة بن أبي حكيم3، عن عبد الملك بن أبي بكر4، عن عمر بن ثابت به، وفيه قصة.

وذكر الدارقطني - رحمه الله - في (العلل) 5 أن إسماعيل بن إبراهيم الصائغ تابع عبد الملك بن أبي بكر في روايته عن يحيى بن سعيد به.

وذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - لهما متابعاً ثالثاً، وهو: عبد الملك بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم6، ولكنه - رحمه الله - جعل هؤلاء الثلاثة في إسناد النسائي، فقال: "وأما حديث يحيى بن سعيد: فرواه النسائي عن هشام بن عمار، عن صدقة بن خالد ... عن عتبة بن حكيم ... عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، وعبد الملك بن محمد ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم وإسماعيل بن إبراهيم الصائغ، ثلاثتهم: عن

__________

1 المدني، أبو عبد الله الزهري مولاهم، ثقة مُفْتٍ عابدٌ رُمي بالقدر، من الرابعة، مات سنة 132هـ- / ع. (التقريب 276) .

(3/240) ح 2879.

3 الهمداني، أبو العباس الأردني، صدوق يخطئ كثيراً، من السادسة، مات بصور بعد الأربعين / عخ4. (التقريب 380) .

4 ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، المدني، ثقة، من الخامسة، مات في أول خلافة هشام/ ع. (التقريب 362) .

5 ج2 (ق 52/ أ) .

6 ثقة، من السابعة، لم يثبت أنَّ مسلماً أخرج له. (التقريب 362) .

(2/386)

يحيى بن سعيد، عن عمر به"1 كذا قال رحمه الله، والذي في السنن الكبرى من رواية: عبد الملك بن أبي بكر وحده، عن يحيى.

ثم نقل ابن القَيِّم - رحمه الله - عن النسائي أنه ضَعَّفَ هذه المتابعة بقوله: "فيه عتبة، ليس بالقويِّ"2.

قلت: هو عتبة بن أبي حكيم الهَمْدَاني، ضَعَّفَهُ جماعةٌ، ووثقه آخرون. فَمِمَّنْ ضَعَّفَهُ: النسائي كما مرَّ، وقال مرة: "ضعيف"3. وقال ابن معين: "ضعيف الحديث"4. وقال أبو حاتم: "كَأَّنَّ أَحمد يُوَهِّنُهُ قليلاً"5. وقال محمد بن عوف الطائي: "ضعيف"6. وقال الجوزجاني: "غير محمود في الحديث"7.

وممن وَثقَهُ: ابن معين في رواية الدوري، فقال: "ثقة"8. وقال أبو حاتم: "صالح، لا بأس به"9. وقال دحيم: "لا أعلمه إلا مستقَيِّم الحديث"10. وذكره أبو زرعة الدمشقي في نفر ثقات11. وقال مروان

__________

1 تهذيب السنن: (3/311) .

2 تهذيب السنن: (3/309) .

3 انظر: تهذيب التهذيب: (7/95) .

4 المصدر السابق: (7/94) .

5 الجرح والتعديل: (3/1/370) .

6 تهذيب التهذيب: (7/94) .

7 أحوال الرجال: (ص 172) .

8 تاريخ الدوري عن يحيى: (2/389) .

9 الجرح والتعديل: (3/1/371) .

10 تهذيب التهذيب: (7/94) .

11 المصدر السابق.

(2/387)

الطاطري: "ثقة"1. وقال أبو القاسم الطبراني: "من ثقات المسلمين"2. وذكره ابن حبان في (الثقات) 3 وقال: "يُعْتَبَرُ حديثه من غير رواية بقية ابن الوليد عنه". وقال ابن عديّ: "أرجو أنه لا بأس به"4. وقال الذهبي: "وهو متوسط، حسن الحديث"5.

فهذه أقوال موثقيه ومضعفيه بين أيدينا، والذي يظهر - والله أعلم - أن الرجل فيه ضعف يسير يجعل حديثه مقبولاً في المتابعات، ولذلك قال الذهبي رحمه الله: "متوسط، حسن الحديث". فحديثه بذلك يصلح للاعتبار به، فتكون هذه الطريق متابعةً صالحةً من يحيى بن سعيد لأخيه سعد بن سعيد.

وأما متابعة صفوان بن سليم لسعد بن سعيد: فقد أخرجها أبو داود في (سننه) 6، والحميدي في (مسنده) 7، وكذا الدارمي في (مسنده) 8، وابن حبان في (صحيحه) 9، كلهم من طريق:

عبد العزيز بن محمد، عن صفوان بن سليم وسعد بن سعيد

__________

1 تهذيب التهذيب: (7/94) .

2 المصدر السابق: (7/95) .

(7/271) .

4 الكامل: (5/357) .

5 الميزان: (3/28) .

(2/812) ح 2433. ك الصوم، باب في صوم ستة أيام من شوال.

(1/188) ح 381.

(1/353) ح 1761، باب صيام الستة من شوال.

9 الإحسان: (5/257) ح 3626.

(2/388)

كليهما، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب به، وعند أبي داود والحميدي: "فَكَأَنَّمَا صَام الدَّهْرَ". وعند ابن ابن حبان والدارمي: "فذلك صيام الدَّهْرِ".

فهذه متابعة أخرى من صفوان بن سليم - وهو ثقة ثبت - لسعد ابن سعيد. والراوي عنه: هو الدراوردي، وَثَّقَهُ جماعة وَضَعَّفُهُ آخرون من قبل حفظه، وحديثه من كتابه أضبط من حديثه من حفظه، وأنكروا روايته عن عبد الله العمري1. وقال عنه الذهبي: "صدوق، من علماء المدينة، غيره أقوى منه"2. وقال مرة: "حديثه في دواوين الإسلام السِّتَّة، لكنَّ البُخَارِيَّ روى له مقروناً بشيخ آخر، وبكل حالٍ فحديثه وحديث ابن أبي حازم لا ينحط من مرتبة الحسن"3.

قلت: فمثله لا بأس به في المتابعات، فإن روايته لما يرويه الناس دليلُ حفظه وضبطه لهذا الْمَرْوِيِّ، فيكون هذا الإسناد حسناً على أقل تقدير.

وثمَّةَ متابعة ثالثة لسعد بن سعيد؛ إذ تابعه أخوه عبد ربه بن سعيد4، ذكر ذلك ابن القَيِّم رحمه الله، فقال: "رواه أحمد بن يوسف السُّلَمِي شيخ مسلم، وعقيل بن يحيى جميعاً عنه - يعني عبد الله بن يزيد

__________

1 انظر أقوال الأئمة فيه في: الميزان: (2/633) ، وتهذيب التهذيب: (6/354) .

2 الميزان: (2/633) .

3 سير أعلام النبلاء: (8/368) .

4 ابن قيس الأنصاري، أخو يحيى، المدني، ثقة، من الخامسة، مات سنة 139هـ/، وقيل: بعد ذلك/ ع. (التقريب 335) .

(2/389)

المقرئ - عن شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب مرفوعاً. وذكره ابن منده، وهو إسناد صحيح موافق لرواية الجماعة، ومقوّ لحديث صفوان بن سليم وسعد بن سعيد"1.

وقد رُوِيَ عن شعبة، عن عبد ربه بن سعيد موقوفاً على أبي أيوب، وسيأتي الكلام على ذلك عند مناقشة إعلاله بالاضطراب.

فهؤلاء الأربعة: سعد، ويحيى، وعبد ربه بنو سعد، وصفوان بن سليم، رووه كلهم: عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب، مما ينفي القول بتفرد "سَعْدٍ" به.

وقد ظهر مما تقدم أن هذه المتابعات صالحة لتقوية رواية سعد بن سعيد، وأن ما رُمِيَتْ به من الضَّعْفِ قد أجيب عنه، وقد أورد هذه المتابعات ابن القَيِّم رحمه الله، وناقشها وبين صلاحيتها لتعضيد رواية سعد، وقد نقلنا طرفاً من كلامه فيما سلف.

وأما قولهم بأنه حديث مضطرب الإسناد مُخْتَلِفٌ: فقد رواه أبو عبد الرحمن المقرئ، عن شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب موقوفاً. أخرجه النسائي في (الكبرى) 2.

وقد رُوِيَ من طريق: عثمان بن عمرو بن ساج، عن عمر بن ثابت، عن محمد بن المنكدر، عن أبي أيوب3.

قالوا: فهذا يدلُّ على أن طريق سعد بن سعيد غير متصلة؛

__________

1 تهذيب السنن: (3/312) .

(3/240) ح 2878.

3 انظر: علل الدارقطني: ج2 (ق 52/ب) .

(2/390)

حيث أسقط منها "محمد بن المنكدر".

وقد رواه إسماعيل بن عَيَّاش، عن محمد بن أبي حميد، عن محمد بن المنكدر، عن أبي أيوب. قالوا: فدل ذلك على أن لرواية محمد بن المنكدر له عن أبي أيوب أصلاً.

وقد رواه أبو داود الطيالسي، عن ورقاء، عن سعد بن سعيد، عن يحيى بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب. قالوا: وهذا اختلاف يوجب ضعف الحديث.

وقد نقل ابن القَيِّم كلامهم هذا، وأجاب عنه بما يلي:

أما عن كونه يُروَى موقوفاً، فقال: "فإما أن يقال: الرفع زيادة. وإما أن يقال: هو مخالفة، وعلى التقديرين: فالترجيح حاصلٌ بالكثرة والحفظ؛ فإن صفوان بن سليم ويحيى بن سعيد - وهما إمامان جليلان - وسعد بن سعيد - وهو ثقة محتجٌّ به في الصحيح - اتفقوا على رفعه، وهم أكثر وأحفظ".

قال: "على أن المقرئ - يعني راويه عن شعبة - لم يُتَّفَقْ عنه على وقفه، بل قد رواه أحمد بن يوسف السُّلمي شيخ مسلم، وعقيل بن يحيى جميعاً عنه، عن شعبة، عن عبدربه بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب مرفوعاً، وذكره ابن منده، وهو إسناد صحيح".

قال: "وأيضاً فقد رواه محمد بن جعفر غندر، عن شعبة، عن ورقاء، عن سعد بن سعيد مرفوعاً كرواية الجماعة، وغندر أصحُّ الناس

(2/391)

حديثاً في شعبة"1.

وأما رواية عثمان بن عمرو بن ساج2، وإدخاله "محمد بن المنكدر" بين عمر بن ثابت، وأبي أيوب، فأجاب عن ذلك ابن القَيِّم بقوله: "وأما حديث عثمان بن عمرو بن ساج: فقال أبو القاسم بن عساكر في (أطرافه) عقب روايتها: هذا خطأ، والصواب: عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب. من غير ذكر محمد بن المنكدر. وقد قال أبو حاتم الرازي: عثمان والوليد ابنا عمرو بن ساج يُكتبْ حديثهما ولا يحتجُّ بهما3. وقال النسائي: رأيت عنده كتباً في غير هذا، فإذا أحاديث شبه أحاديث محمد بن أبي حميد، فلا أدري: أكان سماعه من محمد أم من أولئك المشيخة؟ فإن كانت تلك الأحاديث أحاديثه عن أولئك المشيخة، ولم يكن سمعه من محمد، فهو ضعيف".

قال: "وأما رواية إسماعيل بن عياش له عن محمد بن أبي حميد4: فإسماعيل بن عياش ضعيف في الحجازيين، ومحمد بن أبي حميد: متفق على ضعفه ونكارة حديثه، وكأن ابن ساج سرق هذه الرواية من محمد بن أبي حميد، والغلط في زيادة محمد بن المنكدر منه".

__________

1 تهذيب السنن: (3/312) .

2 الجَزَرِي، مولى بني أمية، وقد يُنسبُ لجده، فيه ضعف، من التاسعة/ س. (التقريب 386) .

3 الجرح والتعديل: (3/1/162) .

4 واسم أبي حميد: إبراهيم، الزُّرَقِي، الأنصاري، أبو إبراهيم المدني، لقبه حماد، ضعيف، من السابعة/ ت ق. (التقريب 475) .

(2/392)

ثم قال رحمه الله: "وأما رواية أبي داود الطيالسي: فمن رواية عبد الله بن عمران الأصبهاني1 عنه. قال ابن حبان: كان يُغْرِب2 وخالفه يونس بن حبيب3 فرواه عن أبي داود4، عن ورقاء بن عمر، عن سعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، موافقة لرواية الجماعة"5.

فظهر بذلك أن هذا الاختلاف غير مُؤَثِّر، وأن هذه الروايات لا تُقَاوِمُ رواية سعد بن سعيد - ومن تابعه - حتى تُعِلَّهَا.

وقد رَجَّحَ الدارقطني - أيضاً - رواية سعد بن سعيد، فإنه ساق الاختلاف في هذا الحديث، ثم قال: "والصواب حديث أبي أيوب" فساقه بإسناده إلى سفيان الثوري، عن سعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب مرفوعاً. وأشار قبل ذلك إلى ترجيح هذه الرواية بقوله: "يرويه جماعة من الثقات الحفاظ عن سعد بن سعيد ... " فذكر من هؤلاء الحفاظ جملة6.

وأما قولهم بأنه حديث شاذ تَفَرَّدَ به عمر بن ثابت، لم يروه عن

__________

1 نزيل الريِّ، صدوق، من كبار الحادية عشرة/ ق. (التقريب 316) .

2 ترجمه في الثقات: (8/359) . وهناك كلام محله بياض، فلعل هذه العبارة مما سقط منه.

3 راوي المسند عن الطيالسي.

4 في مسنده: (وتقدمت) .

5 تهذيب السنن: (3/313) .

6 انظر العلل: ج2 (ق52) .

(2/393)

أبي أيوب غيره: فقد أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن ذلك فقال: "ليس هذا من الشاذ الذي لا يُحْتجُّ به، وكثير من أحاديث الصحيحين بهذه المثابة، كحديث "الأعمال بالنيات"، تَفَرَّدَ علقمة بن وقاص به، وتفرد محمد بن إبراهيم التيمي به عنه، وتفرد يحيى بن سعيد به عن التيمي. وقال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: ليس الشاذ أن يَرْوِي الثقة ما لا يروي غيره، إنما الشاذ: أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس.

وأيضاً: فليس هذا الأصل مما تَفَرَّدَ به عمر بن ثابت، لرواية ثوبان وغيره له عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تَرْجَمَ ابن حبان على ذلك في (صحيحه) فقال - بعد إخراجه حديث عمر بن ثابت -: ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تَفَرَّدَ به عمر بن ثابت، عن أبي أيوب. وذكر حديث ثوبان من رواية هشام بن عمار، عن الوليد بن مسلم، عن يحيى بن الحارث الذَّمَارِي، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان"1.

وبعد، فقد ثبت أن هذا الحديث صحيح ثابت، معمول به عند جمهور الأمة، وكَفَى به صحَّةً أنَّ مُسْلِمَاً أودعه في (صحيحه) ، وقد صَحَّحَهُ - مع ذلك - جَمْعٌ من العلماءِ؛ فقال الترمذي: "حسن صحيح". وصَحَّحَهُ الدارقطني من طريق سعد بن سعيد كما مضى من كلامه. وقال

__________

1 تهذيب السنن: (3/313) .

(2/394)

البغوي: "حديث صحيح"1. وقال النووي: "رواه أبو داود بإسناد صحيح"2. وقال ابن الملقن: "وقد روى هذا الحديث عن سعد بن سعيد ... عشرون رجلاً، أكثرهم ثقات حفاظ أثبات، وقد ذكرتُ كل ذلك عنهم موضحاً في: تخريجي لأحاديث الْمُهَذَّب، مع الجواب عَمَّنَ طَعَنَ في سعد بن سعيد، وأنه لم يتفرد به، وتُوبِعَ عليه، وذكرت له ثماني شواهد، وأجبتُ عن كلام ابن دحية الحافظ، فإنه طَعَنَ فيه، فَرَاجِعْهُ فإنه من الْمُهْمَّاتِ التي يُرْحَلُ إليها"3. وقال المناوي: "وَطَعَنَ فيه من لا علم عنده، وغره قول الترمذي: حسن، والكلام في راويه، وهو: سعد بن سعيد، واعتنى العراقيُّ بجمع طرقه، فأسنده عن بضعة وعشرين رجلاً رووه عن سعد بن سعيد، كلهم حفاظ أثبات"4.

قال صاحب (تحفة الأحوذي) 5: "فإن قلتَ: كيف صَحَّحَ الترمذي حديث سعد بن سعيد المذكور، مع تصريحه بأنه قد تَكَلَّمَ فيه بعض أهل الحديث من قِبَل حفظه؟؟ قلتُ: الظاهر أنَّ تصحيحه لتعدد الطرق، وقد تَقَدَّمَ في المقدمة: أنَّه قد يصححُ الحديث لتعدد طرقه".

أما ابن القَيِّم رحمه الله: فإنه أَجَادَ وَأَفَاد في ردِّ العلل التي رُمِيَ بها هذا الحديث، كما تَقَدَّمَ كلامه في ذلك، ثم ساق جملة من الشواهد لهذا الحديث وتَكَلَّمَ عليها، فذكر منها حديث: ثوبان، وجابر، وأبي هريرة، وشداد بن أوس رضي الله عنهم6.

__________

1 شرح السُّنَّة: (6/331) .

2 المجموع: (6/347) .

3 البدر المنير: ج4 (ق336/أ) .

4 فيض القدير: (6/161) .

(3/468) .

6 انظر: تهذيب السنن: (3/309 - 310) .

(2/395)

==

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

6- من كتاب الحج

1- باب الإهلال بعمرة من بيت المقدس

46- (1) عَنْ أُمِّ سلمة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "مَنْ أَحْرَمَ بعمرةٍ من بيتِ الْمَقْدِسِ، غُفِرَ لهُ ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ". وفي لفظ: "كَانَت كفارةً لما قَبْلَهَا من الذُّنُوبِ".

قال ابن القَيِّم: " ... حديث لا يثبت، وقد اضطُرِبَ فيه إسناداً ومتناً اضطراباً شديداً"1.

وقال مرة: "قال غير واحد من الْحُفَّاظ: إسناده ليس بالقويِّ"2.

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3 - ومن طريقه البيهقي4 - والدارقطني في (سننه) 5، والبخاري في (تاريخه) 6 من طرق عن:

ابن أبي فُدَيْك، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يُحَنِّس7، عن

__________

1 زاد المعاد: (3/300 - 301) .

2 تهذيب السنن: (2/284) .

(2/355) ح 1741 ك المناسك، باب في المواقيت.

4 في سننه: (5/30) .

(2/283) ح 210 ك الحج، باب المواقيت.

(1/1/161) .

7 حجازي، مقبول، من السادسة/ م د. (التقريب 311) .

(2/399)

يحيى بن أبي سفيان الأخنسي1، عن حكيمة بنت أمية2، عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها سمعتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ أَهَلَّ بعمرة أو حَجَّةٍ من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذنبه وما تَأَخَّرَ - أو وَجَبَتْ له الجنة -". وشكَّ عبد الله أيتهما قال. هذا لفظ أبي داود، وعند الدارقطني بدون شكٍّ "ووجبت"، وعند البخاريِّ "غُفِرَ ما تَقَدَّمَ من ذنبه" فقط.

قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... هذا هو الصواب بـ "أو"، وفي كثير من النسخ: "وَوَجبتْ" بالواو، وهو غلط"3.

ووقَعَ في رواية البخاريّ: "محمد بن عبد الرحمن بن يحنس" بدل "عبد الله بن عبد الرحمن" عند الباقين. قال الحافظ ابن حجر: "وكأن الذي في رواية البخاري أصحُّ"4.

وأخرجه الدارقطني في (سننه) 5، وابن حبان في (صحيحه) 6 من طريق:

محمد بن إسحاق، عن سليمان بن سُحَيْم7 عن يحيى الأخنسي،

__________

1 مستور، من السادسة، قد أرسل عن أبي هريرة وغيره/ د ق. (التقريب 591) .

2 ابن الأخنس، مقبولة، من الرابعة/ د ق. (التقريب 745) .

3 تهذيب السنن: (2/284) .

4 التلخيص الحبير: (2/230) .

(2/284) ح 212.

6 الإحسان: (6/5) ح 3693.

7 أبو أيوب المدني، صدوق، من الثالثة/ م د س ق. (التقريب 251) .

(2/400)

عن حكيمة، عن أم سلمة مرفوعاً، ولفظه: "مَنْ أَهَلَّ بعمرةٍ من المسجد الأقصى، غُفِرَ له مَا تَقَدَّمَ من ذنبه" زاد ابن حبان: "فَرَكِبَتْ أُمُّ حكيم إلى بيت المقدس حَتَّى أَهَلَّتْ منه بعمرة".

ومن الطريق نفسه أخرجه ابن ماجه في (سننه) 1 فجعله: عن "سليمان بن سُحَيم، عن حكيمة بنت أمية"، بإسقاط "يحيى الأخنسي".

وأخرجه ابن ماجه أيضاً، من طريق ابن إسحاق، عن يحيى الأخنسي، عن حكيمة، عن أم سلمة، مرفوعاً، ولفظه: "مَنْ أَهَلَّ بعمرة من بيت المقدس، كانت كفارة لِمَا قبلها من الذنوب" 2.

وأخرجه أحمد في مسنده3 من طريق: ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة4، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعَة5، عن حكيمة، عن أم سلمة به.

وأخرجه الدارقطني في (سننه) 6 من طريق: الواقدي7، عن

__________

(2/999) ح 3001 ك المناسك، باب من أهل بعمرة من بيت المقدس.

2 سنن ابن ماجه: (2/999) ح 3002.

(6/299) .

4 ابن شرحبيل بن حسنة الكندي، أبو شرحبيل، المصري، ثقة، من الخامسة، مات سنة 136 هـ / ع. (التقريب 140) .

5 الأنصاري، المدني، ثقة، من الثالثة/ خ د س ق. (التقريب 311) .

(2/283) ح 211.

7 هو: محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، المدني، القاضي، نزيل بغداد، متروك مع سعة علمه، من التاسعة، مات سنة 207هـ/ ق. (التقريب 498) .

(2/401)

عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس، عن يحيى الأخنسي، عن أم حكيم، عن أم سلمة به.

وهذا الحديث ضعيف، مضطرب المتن والسند.

أما ضعفه: فقال الإمام البخاري: "لا يثبت" كذا نقل الذهبي1 وابن حجر2 أنه قال ذلك في (التاريخ) ، ولم أقف على هذه اللفظة فيه، والذي فيه قوله - بعد أن روى الحديث في ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن يحنس -: "ولا يُتَابع في هذا الحديث؛ لأنه وَقَّتَ ذا الحُلَيْفَةَ والجُحْفَةَ، وأهَلَّ عليه الصلاة والسلام - من ذي الحليفة"3. وقال الحافظ المنذري في كلامه على أحاديث المهذب: "حديث غريب"4. وأَعَلَّهُ ابن القَطَّان بجهالة أم حكيم، فقال: "لا يُعْرَفُ حالها"5. وقال الإمام النووي: "إسناده ليس بالقويِّ"6.

وَرَمَزَ له السيوطي بالضعف في (الجامع الصغير) 7. وقال الشيخ الألباني: "إسناده ضعيف"8.

__________

1 في الميزان: (3/622) .

2 في التلخيص الحبير: (2/230) .

3 التاريخ الكبير: (1/1/161) .

4 البدر المنير: ج 4 (ق365) .

5 بيان الوهم والإيهام: (5/731) .

6 المجموع: (7/179) .

7 مع فيض القدير: (6/91) ح 8544.

8 التعليق على المشكاة: (2/777) ح 2532.ذ

(2/402)

وأما اضطرابه: فقد تَقَدَّمَ الاختلافُ في إسناده، وكذا اختلاف ألفاظه وتباينها، ولذلك قال الحافظ المنذري: "وقد اخْتَلَفَ الرواة في متنه وإسناده اختلافاً كثيراً"1. وقال الحافظ ابن كثير: "وفي حديث أمِّ سلمة هذا اضطراب". كذا نقله عنه الشوكاني في (نيل الأوطار) 2. ونقل ابن الملقن عن الدارقطني أنه أَعَلَّهُ بالاختلاف في إسناده، ثم قال: "وهو كما قال"3. وقد تَقَدَّمَ قول ابن الملقن رحمه الله: "وقد اضطرب فيه إسناداً ومتناً اضطراباً شديداً".

وقد أَوْرَدَهُ الشيخ الألباني في (السلسلة الضعيفة) 4 وبَيَّنَ ضَعْفَ سَنَدِهِ وأشار إلى اضطرابه، ثم تَعَقَّبَ المنذري في تصحيحه إياه فقال: "ثم إن المنذري كأنه نسي هذا - يعني إعلاله إياه بالاضطراب كما مضى - فقال في الترغيب والترهيب5: رواه ابن ماجه بإسناد صحيح! ". وذكره في (ضعيف الجامع) 6 (وضعيف سنن ابن ماجه) 7.

فَلَتَخَّصَ من ذلك: أنَّ هذا الحديثَ ضعيفٌ ومضطربٌ كما قال ابن القَيِّم رحمه الله.

__________

1 مختصر سنن أبي داود: (2/285) .

(5/25) .

3 البدر المنير: ج4 (ق365) .

(ح 211) .

(2/190) .

(ح 5358) .

(ح 646، 647) .

(2/403)

2- باب لا تنتقب المرأة المحرمة

47- (2) حَدِيث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: "إِحْرَامُ الرَّجُلِ في رَأْسِهِ، وإحرامُ المرأةِ في وجهها".

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في (تهذيب السنن) 1 - في معرض ردِّه ‍ على القائلين بوجوب كشف المرأة المحرمة وجهها - ثم قال: "هذا الحديث لا أصل له، ولم يَرْوِهِ أحدٌ من أصحاب الكُتُبِ المعتمد عليها، ولا يُعرَفُ له إسناد، ولا تقوم به حُجَّةٌ، ولا يُترَكُ له الحديث الصحيح الدَّال على أن وجهها كبدنها، وأنه يَحْرُمُ عليها فيه ما أُعْدَّ للعضو؛ كالنِّقَابِ والبُرْقَع ونحوه، لا مُطْلَقُ السِّتْرِ كاليدين".

قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني في (سننه) 2، والطبراني في (الأوسط) 3، والبيهقي في (سننه) 4، والعقيلي في (الضعفاء) 5، وابن عديّ في (الكامل) 6، كلهم من طريق:

__________

(2/350) .

(2/294) ح 259.

3 انظر: مجمع البحرين: (ق74/ب) ك الحج، باب ما يلبس المحرم.

(5/47) .

(1/116) في ترجمة "أيوب بن محمد".

(1/349) في ترجمة "أيوب" أيضاً.

(2/404)

عبد الله بن رجاء1، عن أيوب بن محمد2، عبد عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، ولفظه: "ليس على المرأة إحرام إلا في وجهها". وعند الطبراني وابن عدي: "حرم" بدل "إحرام".

وقد أخرجه الطبراني في (الكبير) 3 بالإسناد نفسه، لكن جعله موقوفاً، والظاهر أنه خطأ؛ لأن الإسناد هو نفسه إسناده في (الأوسط) ، من شيخ الطبراني إلى آخره، بالإضافة إلى اتفاق هؤلاء الجماعة على روايته بهذا الإسناد مرفوعاً.

وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعلتين:

1- الكلام في أيوب بن محمد اليمامي.

2- وأن الصواب فيه الوقف على ابن عمر.

أما العلة الأولى، وهي الكلام في أيوب بن محمد: فقال فيه ابن معين: "لا شيء"4. وسأله عند الدارمي؟ فقال: "شيخ يماميٌّ ضعيف"5.

__________

1 ابن عمر الغداني، بصري، صدوقٌ يَهِمُ قليلاً، من التاسعة، مات سنة 220هـ / خ خد س ق. (التقريب 302) .

2 أبو سهل العجلي، اليَّمَامي، لقبه: أبو الجمل. ضَعَّفَهُ جماعةٌ، وَوَثَّقَهُ بعضهم، وسيأتي كلام العلماء فيه مُفَصَّلاً.

ترجمته في: الجرح والتعديل: (1/1/257) ، والضعفاء للعقيلي: (1/116) ، والميزان: (1/292) .

(12/370) ح 13375.

4 الجرح والتعديل: (1/1/257) .

5 تاريخ الدارمي عن يحيى: (ص179) رقم 645.

(2/405)

وقال أبو زرعة: "منكر الحديث"1. وقال العقيلي: "يَهِمُ في بعض حديثه"2. وقال ابن حبان: "كان قليلَ الحديث، ولكنه خالفَ النَّاس في كلِّ ما روى، فلا أدري: أكان يَتَعَمَّدُ، أو يقلبُ وهو لا يَعْلَم"3. وقال الدارقطني: "مجهول"4.

وقال أبو حاتم: "لا بأس به"5. وَوَثَّقَهُ يعقوبُ الفَسَويّ6.

والذي يظهر: رُجْحَان جانب الجرح على جانب التعديل في هذا الرجل، ولاسيما أن بعضهم قد بَيَّنَ سبب الجرح.

ولذلك فقد أَعَلَّ جماعة من أهل العلم هذا الحديث بأيوب هذا: فقال البيهقي: "وأيوب بن محمد أبو الجمل ضعيفٌ عند أهل العلم بالحديث، فقد ضَعَّفَهُ يحيى بن معين وغيره"7. وقال ابن القطان: "لا يصحّ"8، وقال الذهبي في (تهذيب سنن البيهقي) : "وفيه أيوب بن

__________

1 الجرح والتعديل: (1/1/257) .

2 الضعفاء: (1/116) .

3 المجروحين: (1/166) .

4 السنن: (1/149) .

5 الجرح والتعديل: (1/1/257) .

6 الميزان: (1/292) .

7 السنن: (5/47) .

8 بيان الوهم والإيهام: (5/730) .

(2/406)

محمد أبو الجمل، ضَعَّفَهُ ابن معين، وغيره"1. وقال الهيثمي: "وفيه أيوب بن محمد اليمامي، وهو ضعيف"2،. وقال الحافظ ابن حجر: "وفي إسناده أيوب بن محمد أبو الجمل، وهو ضعيف"3.

وأما العلّة الثانية، وهي أنه يُروى موقوفاً، وأنه الصواب: فإن أيوب بن محمد هذا - مع ضعفه - قد خُولِفَ فيه: فأخرجه الدارقطني في (سننه) 4 - ومن طريقه البيهقي5 - من طريق: هشام بن حَسَّان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: "إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه".

وأخرجه العقيلي في (الضعفاء) 6، وابن حزم في (المحلى) 7 من طريق: سعيد بن منصور، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن عمر بالإسناد نفسه إلى ابن عمر قال: "الذِّقْنُ مِنَ الرأسِ فلا تُغَطِّهِ" وقال: "إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرَّجُلِ في رأسه".

فقد خالف سفيان بن عيينة، وهشام بن حسان أيوب بن محمد في رواية هذا الحديث، فروياه موقوفاً على ابن عمر من قوله.

وقد حَكَمَ الأئمة لرواية الوقف وحكموا على الرواية المرفوعة

__________

1 انظر: فيض القدير: (5/369) .

2 مجمع الزوائد: (3/219) .

3 التلخيص الحبير: (2/272) .

(2/294) ح 260.

5 في سننه: (5/47) .

(1/116) .

(7/92) .

(2/407)

بالوهم، فقال العقيلي: "لا يُتَابع على رفعه، إنما هو موقوف"1. وقال الطبراني: "لم يرفعه عن عبيد الله بن عمر إلا أيوب، تَفَرَّدَ به عبد الله بن رجاء"2. وقال ابن عدي: "هذا الحديث لا أعلم يرفعه عن عبيد الله غير أبي الجمل هذا، وأبو الجمل لا أعرف له كثير شيء"3. وقال الدارقطني: "تَفَرَّدَ برفعه أيوب هذا، والصواب وقفه"4. وقال البيهقي: "المحفوظ موقوف"5. وقال الذهبي: "المحفوظ موقوف"6.

فَتَبَيَّنَ من ذلك: أن هذا الحديث لا يصحُّ رَفْعُهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الصواب أنه من كلام ابن عمر رضي الله عنهما.

فإذا تقرر ذلك، فإننا لا نوافق ابن القَيِّم - رحمه الله - على قوله:

- إن الحديث لا أصل له، إلا أن يقصد: لا أصل له مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

- وأنه لم يروه أحدٌ من أصحاب الكتب الْمُعْتَمَدِ عليها.

- وأنه لا يُعرف له إسناد.

فإنه قد ثَبَتَ من خلال هذه الدراسة خلاف ذلك، والله أعلم.

__________

1 الضعفاء: (1/116) .

2 مجمع البحرين: (ق 74/ب) .

3 الكامل: (1/349) .

4 التلخيص الحبير: (2/272) ، وفيض القدير: (5/369) .

5 السنن: (5/47) .

6 الميزان: (1/292) .

(2/408)

3- باب لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين

48- (3) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أَنَّه سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى النَّساء في إِحْرَامِهِنَّ عن القُفَّازَينِ والنقابِ ... ". وفي رواية: "المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين".

أورد ابن القَيِّم هذا الحديث مستدلاً به على القول بتحريم لبس القفازين للمحرمة، وَرَدَّ على من قَالَ بأنه معلولٌ بالوقفِ على ابن عمر1. وسيأتي.

هذا الحديث مداره على نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، واخْتُلِفَ فيه على نافع.

فأخرجه البخاري في (صحيحه) 2، والترمذي في (جامعه) 3، والنسائي في (سننه) 4، وأحمد في (مسنده) 5، والبيهقي في (السنن) 6، كلهم من طريق: الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجلٌ فقال: يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟

__________

1 تهذيب السنن: (2/351 - 352) .

2 ك جزاء الصيد، باب ما يُنْهَى من الطيب للمحرم ... ح 1838. (فتح الباري: 4/52) .

(3/185) ح 833، باب فيما لا يجوز للمحرم لبسه.

(5/133) باب النهي أن تنتقب المرأة الحرام.

(2/119) .

(5/46) .

(2/409)

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا القميص، ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس، إلا أن يكون أحدٌ ليست له نعلان فليلبس الخفين، وليقطع أسفل من الكعبين. ولا تلبسوا شيئاً مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ1 ولا الوَرْسُ2. ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين". هذا لفظ البخاري، ولفظ الباقين بنحوه، إلا أن عندهم زيادة قوله: "ولا الخِفَاف ".

وأخرجه النسائي، والبيهقي في (سننيهما) 3 من طريق: موسى بن عقبة4، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً بنحو حديث الليث المتقدم، إلا أن البيهقي عنده زيادة أشار إليها، وهي: "وكان عبد الله بن عمر يأمر المرأة بِزَرِّ الجلباب إلى جبهتها". وهذا الإسناد صحيح، كما سيأتي من كلام العراقي رحمه الله.

وأخرجه أبو داود في (سننه) 5، وأحمد في (مسنده) 6، والحاكم في (المستدرك) 7 من طريق:

محمد بن إسحاق، حدثني نافع - كذا أبو داود والحاكم، وعند أحمد: عن نافع - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "أنه سمع

__________

1 الزَّعْفَرَان: لَونٌ مَنَ الطِّيبِ تُصْبَغُ به الثِّيَابِ. (لسان العرب: ص1833) .

2 الوَرْسُ: نبت أصفر يصبغ به. (النهاية: 5/173) .

3 س: (5/135) باب النهي عن أن تلبس المحرمة القفازين، هق: (5/46) .

4 ابن أبي عيَّاش، الأسدي، مولى آل الزبير، ثقة فقيه، إمام في المغازي، من الخامسة، لم يصح أن ابن معين لَيَّنَهُ، مات سنة 141هـ / ع. (التقريب 552) .

(2/412) ح 1827، باب ما يلبس المحرم.

(2/32) .

(1/486) .

(2/410)

رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهنَّ عن: القفازين، والنقاب، وما مسَّ الورس والزعفران من الثياب، ولتلبسْ بعد ذلك ما أَحَبَّتْ من ألوان الثياب: معصفراً، أو خَزَّاً، أو حُلِّياً، أو سراويل، أو قميصاً، أو خُفَّاً". لفظ أبي داود، ولفظ الحاكم نحوه، لكن لفظ أحمد: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ينهى الناس إذا أحرموا عما يُكرَهُ لهم من الثياب ... وسمعته ينهى النساء عن القُفَّازِ، والنقاب، وما مسَّ الورس والزعفران من الثياب".

قال أبو عبد الله الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وقال النووي: "رواه أبو داود بإسناد حسن، وهو من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي، إلا أنه قال: حدثني نافع، عن ابن عمر، وأكثر ما أُنْكِرَ على ابن إسحاق التدليس، وإذا قال المدلس: حَدَّثَنِي، احْتُجَّ به على المذهب الصحيح المشهور"1. وقال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيح"2.

وأخرجه أبو داود في (سننه) 3 من طريق: إبراهيم بن سعيد4، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمُحْرِمَةُ لا تنتقب ولا تلبس القفازين".

قال أبو داود: "إبراهيم بن سعيد المديني شيخ من أهل المدينة ليس

__________

1 المجموع: (7/232) .

2 مسند أحمد بتعليق أحمد شاكر: (6/332) ح 4740.

(2/412) ح 1826.

4 المدني، أبو إسحاق، مجهول الحال، من السابعة/ د. (التقريب 89) .

(2/411)

له كبير حديث". وقال ابن عدي: "وهذا الحديث لا يُتَابَعُ إبراهيمُ هذا على رفعه، ورواه جماعة عن نافع، عن ابن عمر"1. قال الحافظ العراقي: " ... لكن رواه البيهقي من رواية فضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن نافع - وقد تَقَدَّمَتْ هذه الرواية - ومن وراية جويرية عن نافع -وستأتي- وإسنادهما صحيح، ففيه ترجيحٌ لرواية إبراهيم بن سعيد، وَرَدٌّ لقول ابن عديٍّ: أنه تَفَرَّدَ برفعه"2.

وأخرجه البيهقي في (سننه) 3 من رواية: جويرية4، عن نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديث الليث عن نافع المتقدم، ورواه من طريق آخر عن جويرية مختصراً.

وقد تقدم قبل قليل تصحيح الحافظ العراقي لإسناد جويرية هذا.

فهؤلاء جميعاً: الليث بن سعد، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، وإبراهيم بن سعيد، وجويرية بن أسماء، رووه عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشار البخاري - رحمه الله - إلى كلَِّ هذه الروايات عقب إخراجه من طريق الليث بن سعد الماضي.

ورواه مالك - رحمه الله - عن نافع، عن ابن عمر رضي الله

__________

1 الكامل: (1/257) .

2 طرح التثريب: (5/43) .

(5/47) .

4 ابن أسماء بن عبيد الضُّبَعي، البصري، صدوق، من السابعة، مات سنة 173هـ/ خ م د س ق. (التقريب 143) .

(2/412)

عنهما - أنه كان يقول: "لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلتبس القفازين"1. هكذا موقوفاً على ابن عمر. وتابعه على وقفه: ليث بن أبي سليم، كما أشار إليه البخاري رحمه الله.

ورواه عبيد الله بن عمر العُمَري، عن نافع، فَفَصَلَ المرفوع عن الموقوف، أخرج ذلك ابن خزيمة في (صحيحه) 2، من حديث: بشر بن المفضل، عن عبد الله عن نافع، عن ابن عمر: أن رجلاً قال: يا رسول الله ماذا نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟ فقال: "لا تلبسوا القُمُصَ ولا السراويلات، ولا البرانسَ، ولا العمائمَ، والا القلانسَ، ولا الخفافَ ... ". قال: وكان عبد الله يقول: "ولا تنقب المرأة، ولا تلبس القفازين".

فهذه أوجه رواية هذا الحديث عن نافع، رفعه بعضهم وهم الأكثر، ووقفه آخرون، وفصل عبيد الله العُمَرِي بين المرفوع والموقوف.

وقد أَعَلَّ قومٌ الرواية المرفوعة، وقالوا: إن قوله: "لا تنتقب المرأة ... " من قول ابن عمر، وقد أُدْرجَ في الحديث. قال ذلك: أبو علي الحافظ، كما نقله عنه الحاكم3. ووافق على دعوى الإدراج: الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: " ... والغرض أن مالكاً اقتصر على الموقوف فقط، وفي ذلك تقوية لرواية عبيد الله، وظهر الإدراج في رواية غيره"4.

__________

1 الموطأ: (1/328) ح 15 ك الحج، باب تخمير المحرم وجهه.

(4/162) ح 2597، باب ذكر الثياب الذي زجر المحرم عن لبسها في الإحرام.

3 انظر: سنن البيهقي: (5/47) .

4 فتح الباري: (4/53) ، وانظر: (شرح الموطأ) للزرقاني: (2/233) .

(2/413)

ولم يوافق ابن دقيق العيد على دعوى الإدراج، فقال معقباً على كلام أبي علي السالف: "وهذا يحتاج إلى دليل؛ فإنه خلاف الظاهر، وكأنه نَظَرَ إلى الاختلاف في رفعه ووقفه ... وهذا غير قادحٍ؛ فإنه يمكن أن يُفْتي الراوي بما يرويه". ثم استدلَّ - رحمه الله - على بطلان دعوى الإدراج بوجهين:

أحدهما: أنه ورد النهي عن لبس المحرمة النقاب والقفازين مفرداً، كما في رواية أبي داود المتقدمة من طريق "إبراهيم بن سعيد".

الثاني: أنه جاء النهي عن النقاب والقفازين مبدوءاً به الحديث - يعني رواية أبي داود من طريق محمد بن إسحاق - قال: "وهذا أيضاً يمنع الإدراج"1.

وقد أجاب الحافظ العراقي عن كلام ابن دقيق العيد هذا من وجهيه:

أما الوجه الأول: فإن حديث إبراهيم بن سعيد ضعيف، لجهالة إبراهيم. ولكنه يَتَقَوَّى ويزول تفرده بمتابعة من تابعه: كموسى بن عقبة، وجويرية.

وأما الوجه الثاني: فإن عبيد الله بن عمر أحفظ من ابن إسحاق، وقد فَصَلَ المرفوع عن الموقوف، فروايته أولى2.

__________

1 انظر كلام ابن دقيق العيد في: نصب الراية: (3/26 - 27) .

2 انظر: طرح التثريب: (5/43) .

(2/414)

وقد ردَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - القولَ بإعلال هذا الحديث، وقال بأن إعلاله بالوقف باطلٌ؛ فإن البخاري وغيره قد رووه حديثاً واحداً متصلاً؛ والبخاري - رحمه الله - حَكَى الخلاف فيه، ومع ذلك لم يره مؤثراً في صحة الحديث، أو معللاً له1.

قلت: والجمع - في نظري - بين هذه الروايات أولى من إعلال بعضها؛ فإن إعلال الرواية المرفوعة يلزم منه تخطئة الثقات بدون دليل ظاهر.

فقد رواه جمعٌ من الثقات - وعلى رأسهم الليث بن سعد - عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً متصلاً بنهي النبي صلى الله عليه وسلم الرجال عن لبس البرانس والخفاف وغير ذلك، وأخرج البخاري - رحمه الله - هذه الرواية، وحكى وجوه الاختلاف الواقعة فيها، فلو كانت هذه الرواية المرفوعة معلولةً عنده لما أخرجها في الباب معتمداً عليها، ولَقَدَّمَ عليها الرواية الموقوفة.

وكذا صنع الإمام الترمذي رحمه الله، فإنه أخرجها كما أخرجها البخاري، ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أهل العلم". ولا أظن أنه قد خفي عليه ما علمه غيره، من كون هذه الجملة الأخيرة قد رُويت موقوفة.

وقال ابن عبد البر: "رَفْعُهُ صحيح عن ابن عمر"2.

__________

1 انظر: تهذيب السنن: (2/351 - 352) .

2 حكاه عنه أبو زرعة العراقي في (طرح التثريب) : (5/42) .

(2/415)

وصححه الحاكم - كما تقدم - وحَسَّنَهُ النوويُّ، وقَوَّاهُ العراقي.

فلا مانع حينئذ من أن يكون ابن عمر - رضي الله عنهما - قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً بكامله، ثم أفتى مرةً بجزء منه، وهو ما يتعلق بالقفازين والنقاب للمرأة، فجاء بعضهم فظن أن هذا الذي أفتى به ابن عمر ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ففصله عن الشطر الأول من الحديث، وكلام ابن دقيق العيد يُشْعِرُ بشيء من هذا، ومع ذلك فلم يدخله الخطيب - رحمه الله - في كتابه في الْمُدْرَج.

فيترجح بذلك القول بصحة الحديث مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذهب إليه ابن القَيِّم رحمه الله، وأن إعلاله غير مقبول، والله أعلم.

(2/416)

4- باب في إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي

49- (4) عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "هَذِهِ عُمْرَةُ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا، فَمَنْ لم يَكُنْ عِنْدَهُ هَدْيٌ فَلَيُحِلَّ الحِلَّ كُلَّهُ، وقد دَخَلَتْ العمرةُ في الحَجِّ إلى يومِ القِيَامَةِ ".

قال أبو داود: "هذا منكر، إنما هو قول ابن عباس".

50- (5) وعن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إِذَا أَهَلَّ الرَّجُلُ بِالْحَجِّ، ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمروة، فقد حَلَّ، وهي عُمْرَةٌ ".

تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذين الحديثين بالكلام، فقال: "وقوله: "دخلتِ العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامةِ". لا ريب في أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل أحدٌ إنه من قول ابن عباس، وكذلك قوله: "هَذِه عمرةٌ تَمَتَّعْنَا بهَا ". وهذا لا يشكُّ فيه من له أدنى خبرة بالحديث".

ثم قال معلقاً على الحديث الثاني منهما:

"والتعليل الذي تَقَدَّمَ لأبي داود في قوله: "هذا حديث منكر". إنما هو لحديث عطاء هذا، عن ابن عباس يرفعه ... ؛ فإن هذا قول ابن عباس الثابت عنه بلا ريبٍ، رواه عنه أبو الشعثاء، وعطاء، وأنس بن سليم وغيرهم من كلامه، فانقلبَ على النَّاسخ، فَنَقَلَهُ إلى حديث

(2/417)

مجاهد عن ابن عباس، وهو إلى جانبه، وهو حديثٌ صحيحٌ لا مَطْعَنَ فيه ولا عِلَّةَ، ولا يُعَلِّلُ أبو داود مِثْلَهُ، ولا مَنْ هو دون أبي داود، وقد اتَّفَقَ الأئمةُ الأثبات على رفعه"1.

قلت: أما حديث مجاهد، عن ابن عباس: فقد أخرجه مسلم في (صحيحه) 2، وأبو داود، والنسائي في (سننيهما) 3، وأحمد، والطيالسي، والدارمي في (مسانيدهم) 4، والطبراني في الكبير5، والبيهقي في (سننه) 6، من طرق: عن: شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس به.

وأخرجه الطبراني في (الكبير) 7 من طريق: أبي مريم، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "إنما جَعَلَهَا النبي صلى الله عليه وسلم عمرةً؛ فإنهم قدموا مكة قبل عرفة بأربع ليالٍ، فَكَرِهَ أن يمكث المسلمون أربع ليالِ لا يطوفون بالبيت، وعلم أنهم إذا طافوا بالبيت حلُّوا، إلا من كان ساق هدايا، فقال: "عمرةٌ استمتعنا بها - ثلاث مرات - ثم دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".

__________

1 تهذيب السنن: (2/314 - 316) .

(2/911) ح203 (1241) بابُ جواز العمرة في أشهر الحجِّ.

3 د: (2/387) ح1790 باب إفراد الحجِّ. س: (5/181) باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي.

4 حم: (1/236، 341) . طس: (ح2642) . مي: (1/379) ح1863، باب من اعتمر في أشهر الحج.

(11/60) ح11045.

(5/18) .

(11/61) ح11046.

(2/418)

وأخرجه الترمذي في (جامعه) 1 من طريق: يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مختصراً، ولفظه: "دخلت العمرة في الحجِّ إلى يوم القيامة ".

وأما طَعْنُ أبي داود في هذا الحديث، وقوله: "إنه منكرٌ، وأن الصحيح: موقوف على ابن عباس" فقد رده المنذري رحمه الله، فقال: "وفيما قاله أبو داود نظرٌ؛ وذلك أنه قد رواه: الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن المثني، ومحمد بن بشار، وعثمان بن أبي شيبة، عن محمد جعفر، عن شعبة مرفوعاً. ورواه أيضاً: يزيد بن هارون، ومعاذ بن معاذ العَنْبَريِّ، وأبو داود الطيالسي، وعمرو بن مرزوق، عن شعبة مرفوعاً، وتقصير من يُقَصِّرُ به من الرواةِ لا يُؤَثِّرُ فيما أَثْبَتَهُ الحُفَّاظ"2.

وقد ذهب ابن القَيِّم - كما مضى من كلامه - إلى أن تعليل أبي داود هذا إنما هو لحديث عطاء الذي بعده، وأن الناسخ نقله إلى هذا الحديث، ثم قال رحمه الله: "والمنذري - رحمه الله - رأى ذلك في السنن، فنقله كما وجده"3.

قلت: ويُقَوِّي ما ذهب إليه ابن القَيِّم: أنني لم أر - بعد البحث - أحداً نقل كلمة أبي داود هذه، مؤيداً لها أو منتقداً: كالمزي في (تحفة الأشراف) 4، وابن الأثير في (جامع الأصول) 5، ولا انتقده الدارقطنيُّ

__________

(3/262) ح932.

2 مختصر السنن: (2/314 - 315) .

3 تهذيب السنن: (2/316) .

(5/216) .

(3/136) .

(2/419)

فيما تتبعه من أحاديث مسلم، ومثله لا يَسْكُتُ النسائيُّ عن ذكر عِلَّتَهُ وقد أخرجه، وكذا البيهقي فإنه عادةً ما يُنَاقِشُ مثل هذا، فالظاهر - والله أعلم - صِحَّة ما ذهب إليه ابن القَيِّم، وأن الحديث صحيح رفعه، ولا وجه لإعلاله.

ثم رأيت الحافظ ابن حجر - رحمه الله - يقول في (الدراية) 1: "رواته ثقات، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه"! ولَعَلَّهُ بَنَى حكمه هذا على مقالة أبي داود المتقدمة، فإن كان الأمر كذلك فقد عُرِفَ ما فيها.

وأما الحديث الآخر الذي رواه عطاء، عن ابن عباس: فقد أخرجه أبو داود في (سننه) 2 من طريق: عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن النَّهَّاس3، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد تقدم من كلام ابن القَيِّم أن إعلال أبي داود الماضي: إنما المقصود به حديث عطاء هذا.

وقد أَعَلَّ المنذري حديث عطاء هذا "بالنهاس"، فقال: "في إسناده النهاس بن قهم ... ولا يحتجُّ بحديث"4.

قلت: ولا يبعد أن يكون الخطأ في هذا الحديث منه، فقد قال عنه

__________

(2/34) ح 489.

(2/388) ح 1791.

3 ابن قهم، القيسي، أبو الخطاب، البصري، ضعيف، من السادسة/ بخ د ت ق. (التقريب 566) .

4 مختصر السنن: (2/315) .

(2/420)

يحيى بن سعيد: " ... وكان يروي عن عطاء، عن ابن عباس أشياء منكرة"1.

فَتَلَخَّص من ذلك: صِحَّةَ حديث مجاهد، عن ابن عباس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا وجه للطَّعْنِ فيه، وأن حديث عطاء، عن ابن عباس ضعيف، والله أعلم.

__________

1 تهذيب التهذيب: (10/478) .

(2/421)

5- باب من قال: كان الفسخ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة

51- (6) عن بلال بن الحارث رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله، أَرَأَيْتَ فَسْخَ الْحَجِّ إِلَى العُمْرَة، لنا خَاصَّةً أَمْ للنَّاسِ عَامَّةً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَلْ لَنَا خَاصَّة".

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث ضمن أدلة القائلين بعدم جواز الفسخ، وأنه خَاص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "هذا حديث لا يُكْتَب، ولا يُعارَضُ بمثله تلك الأساطين الثابتة".

ثم ذكر عن الإمام أحمد أنه قال: "لا أقول به، لا يُعْرَف هذا الرجل، هذا حديث ليس إسناده بالمعروف، ليس حديث بلال بن الحارث عندي يثبت"1.

ثم استدل على بطلان هذا الحديث: بأنه قد رُوِيَ عن النبي أنه قال: "دَخَلَتْ العمرةُ في الحجِّ إلى يوم القيامة ". فكيف يصحُّ عنه بعد ذلك أن يجعل الفسخ مختصاً بالصحابة؟ ‍‍!.

قال: "فنحن نشهد بالله: أنَّ حديث بلال بن الحارث هذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو غلطٌ عليه، وكيف تُقَدَّمُ رواية بلال بن الحارث على روايات الثقات الأثبات، حَمَلَةِ العلم، الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف روايته؟! "2.

__________

1 زاد المعاد: (2/192) .

2 المصدر السابق: (2/193) .

(2/422)

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه في (سننهم) 1، وأحمد، والدارمي في (مسنديهما) 2، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3، والحاكم في (المستدرك) 4 من طرق، عن: عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن5، عن الحارث بن بلال6، عن أبيه7، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وألفاظهم متقاربة بنحو ما سقناه أول الباب.

وقد أُعِلَّ هذا الحديث بجهالة الحارث بن بلال؛ فإنه لم يرو عنه إلا ربيعة بن أبي عبد الرحمن وحده، ولم يُوَثَّقْ، ولذلك قال الإمام أحمد: "لا نعرف هذا الرجل، ولم يروه إلا الدراوردي، هذه الأحاديث أحب إليَّ"8. وقال الدارقطني - كما نقله عنه المنذري -: "تَفَرَّدَ به ربيعة بن

__________

1 د: (2/399) ح 1808 باب الرجل يهلُّ بالحجِّ ثم يجعلها عمرة. س: (5/179) باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي. جه: (2/994) ح 2984 باب من قال: كان فسخ الحجِّ لهم خاصة. كلهم في ك الحج.

2 حم: (3/469) . مي: (1/378) ح 1862 باب في فسخ الحج.

3 قط: (2/241) ح 24. هق: (5/41) .

(3/517) .

5 التيمي مولاهم، أبو عثمان المدني، المعروف بـ "ربيعة الرأي"، واسم أبيه: فرُّوخ، ثقة فقيه مشهور، من الخامسة، مات سنة 136هـ على الصحيح/ ع. (التقريب207) .

6 ابن الحارث المزني، مدني، مقبول، من الثالثة/ د س ق. (التقريب 145) .

7 هو: بلال بن الحارث المزني، أبو عبد الرحمن المدني، صحابيُّ، مات سنة 60هـ/4. (التقريب 129) .

8 مسائل الإمام أحمد - لعبد الله: (ص204) .

(2/423)

أبي عبد الرحمن، عن الحارث، عن أبيه. وتَفَرَّدَ به عبد العزيز الدراوردي عنه"1. وقال ابن حزم: "الحارث بن بلال مجهول، ولم يخرج أحدٌ هذا الخبر في صحيح الحديث ... "2. وقال المنذري: "والحارث: هو ابن بلال ابن الحارث، وهو شبه المجهول"3. وقال ابن القطان: "والحارث بن بلال لا يُعرف حاله"4. وقال الشيخ الألباني: "ضعيف"5.

وقد مَالَ النووي إلى تصحيحه، فقال: "إسناده صحيح إلا الحارث بن بلال، ولم أَرَ في الحارث جرحاً ولا تعديلاً، وقد رواه أبو داود ولم يُضَعِّفْهُ، وقد ذكرنا مَرَّاتٍ: أنه ما لم يضعفه أبو داود فهو حديث حسن عنده، إلا أن يوجد فيه ما يقتضي ضعفه"6.

قلت: وقد وُجدَ هنا ما يقتضي ضَعْفَهُ، وهو جهالة الحارث بن بلال كما تقدم.

ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - حديثاً آخر استدلَّ به القائلون بخصوصية الفسخ بالصحابة وهو:

52- (7) حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: "كان فَسْخُ الحَجِّ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَنَا خَاصَّةً".

__________

1 مختصر السنن: (2/331) .

2 المحلى: (4/108) .

3 مختصر السنن: (2/331) .

4 بيان الوهم والإيهام: (3/468) .

5 ضعيف سنن ابن ماجه: (ح644) .

6 المجموع: (7/146) .

(2/424)

ساق ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث من طريق الحُميدِي، قال: حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن المُرَقِّع1، عن أبي ذر به، ثم قال: "المرقع ليس ممن تقوم بروايته حُجَّةٌ، فضلاً عن أن يُقَدَّم على النصوص الصحيحة غير المدفوعة، وقد قال أحمد بن حنبل - وقد عُورِضَ بحديثه -: ومن المرقع الأسدي؟! "2.

قلت: هذا الحديث أخرجه الحميدي في (مسنده) 3 بالإسناد واللفظ اللذين ساقهما ابن القَيِّم رحمه الله، والمرقع الأسدي - راويه عن أبي ذرٍّ - لم أجد من ترجمه سوى ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 4، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ونقل عن أبيه قوله: "روى عن أبي ذر، روى عنه: يحيى بن سعيد الأنصاري، وليث بن أبي سليم". لكن وَثَّقَهُ يحيى ابن سعيد الأنصاري.

فقد أخرجه البيهقي في (سننه) 5 من طريق الليث، عن يحيى بن سعيد، قال: حدثنا المرقع الأسدي - وكان رَجُلاً مَرْضيًّا- أن أبا ذر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كانت رخصة لنا، ليست لأحدٍ بعدنا" يعني: فسخ الحج بالعمرة. قال يحيى: "وحقق ذلك عندنا: أن أبا بكر،

__________

1 انظر: ترجمته في الجرح والتعديل: (4/1/418) .

2 زاد المعاد: (2/191) .

(1/73) ح 132.

(4/1/418) .

(5/41) .

(2/425)

وعمر، وعثمان رضي الله عنهم لم ينقضوا الحج بعمرة، ولم يُرَخِّصُوا فيه لأحدٍ، وكانوا هم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما فعل في حجه ذلك ممن شهد بعضه".

ففي هذا الإسناد: شهادة يحيى بن سعيد الأنصاري للمرقع بأنه كان مرضياً، وفي هذه الشهادة ما يدفع قول ابن حزم عن المرقع: " ... وهو مجهول"1. فقد أَعَلَّ الحديث به، فلا شكَّ أنَّ من عَرَفَهُ حجة على من لم يعرفه.

ثم إن حديث أبي ذر هذا: أخرجه مسلم في (صحيحه) 2، ولكن بلفظ: "كانت المتعة في الحجِّ لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ". وفي رواية: " لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة ". يعني: متعة النساء ومتعة الحج، والمراد بالمتعة في قوله هذا: متعة الفسخ، كما سيأتي من كلام النووي رحمه الله، فتكون هذه الرواية مؤيدة لرواية المرقع المتقدمة.

فهل تكون رواية أبي ذَرٍّ هذه حجة لمن ذهب إلى عدم جواز الفسخ، وأنه خاصٌّ بالصحابة؟؟

أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - عن حديث أبي ذرٍّ هذا: بأنه - بعد تسليم صحته - رأي له رضي الله عنه، وقد عارضه قوله صلى الله عليه وسلم، وذلك في حديث جابر في صفة حجه صلى الله عليه وسلم، حين سأله سُرَاقَة بن مالك عن الفسخ بقوله:

__________

1 المحلى: (4/108) .

(2/897) ح 160 - 163.

(2/426)

أَلِعَامِنَا هذا أم لأبدٍ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل لأبد أبد" 1. فتكون بذلك دعوى الاختصاص باطلة.

قال ابن القَيِّم: "وهذا أصحُّ سنداً من المرويِّ عن أبي ذر، وأولى أن يُؤْخَذَ به منه لو صحَّ عنه"2.

ثم ذهب ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى أن حديث أبي ذر هذا - الذي فيه "أن المتعة كانت لهم خاصة " - إن أُرِيدَ به متعةُ الفسخ3 فإنه يحتمل وجوهاً ثلاثة:

أحدها: اختصاص جواز ذلك بالصحابة، وهذا الذي فَهِمَه من حرَّم الفسخ.

الثاني: اختصاص وجوب ذلك بالصحابة، فيكون واجباً في حقِّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجائزاً مُسْتَحَبَّاً في حقِّ باقي الأمة، وذهب إليه ابن تَيْمِيَّة رحمه الله، ولم يرضه ابن القَيِّم رحمه الله.

الثالث: أنه ليس لأحدٍ بعض الصحابة أن يبتدأ حجاً قارناً أو مفرداً بلا هدي، لأنه يحتاج معه إلى الفسخ، بل فرضٌ أن يفعل من بعد الصحابة ما أرشد إليه صلى الله عليه وسلم من القِرَان لمن ساق الهدي، والتمتع لمن لم يسقه.

__________

1 صحيح مسلم: (2/888) ح 147.

2 زاد المعاد: (2/191) .

3 قال النووي رحمه الله: " ... ليس مراد أبي ذر إبطال التمتع مطلقاً، بل مراده: فسخ الحج" (شرح مسلم: 8/203) .

(2/427)

قال ابن القَيِّم: "وإذا تأملت هذين الاحتمالين الأخيرين: رأيتهما إما راجحين على الاحتمال الأَوَّلِ، أو مساويين له، وتسقط معارضة الأحاديث الثابتة الصريحة به جملة"1.

ثم أجاب ابن القَيِّم - رحمه الله - على دعوى النَّسْخ: بأن الفسخ قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر من الصحابة عَدَّهم، ثم عدَّ جملة من التابعين رووا ذلك عن هؤلاء الصحابة، ثم قال:

"فصار نقل كافة عن كافة، يوجبُ العِلْمَ، ومثل هذا لا يجوزُ نسخه إلا بما يَتَرَجَّحُ عليه أو يقاومه، فكيف يجوز دعوى نسخه بأحاديث لا تقاومه ولا تدانيه ولا تقاربه؟ وإنما هي بين مجهول رواتها، أو ضعفاء لا تقوم بهم حجة. وما صحَّ فيه: فهو رأي صاحب، قاله بِظَنِّهِ واجتهاده - وهو أصحُّ ما فيها - وهو قول أبي ذر: كانت المتعة لنا خاصة ... فلو كان ما قاله أبو ذر رواية صحيحة ثابتة مرفوعة، لكان نسخ هذه الأحاديث المتواترة به ممتنعاً، فكيف وإنما هو قوله؟؟ "2.

قلت: لعلَّ النفس تطمئن إلى حَمْلِ كلام أبي ذَرٍّ على خصوصية الوجوب، فمراده: أن وجوب الفسخ وتحتُّمه إِنَّمَا هو خاصُّ بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأما سائر الأمة: فالأمر في حقها على الجواز، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة كما مرَّ قبل قليل.

ولم يرضه ابن القَيِّم رحمه الله، بل قال: بوجوب الفسخ في

__________

1 زاد المعاد: (2/193 - 194) .

2 تهذيب السنن: (2/312) .

(2/428)

حقِّ الأمة، فقال: "ونحن نُشْهِدُ الله علينا: أَنَّا لو أَحْرَمْنَا بحَج، لرأينا فرضاً علينا فسخه إلى عمرة تفادياً من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعاً لأمره"1.

وخلاصة البحث مع ابن القَيِّم في أحاديث الباب: أنه أورد في خصوصية الفسخ بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثين، وهما: حديث بلال بن الحارث، وحديث أبي ذر من رواية المرقع، ثم حكم على كلا الحديثين بالضعف.

والذي ظهر لي: أن ابن القَيِّم يُوَافَقُ على تضعيفه حديث بلال؛ لجهالة "الحارث بن بلال"، وأما حديث أبي ذر فلا نوافقه على ذلك؛ لانتفاء جهالة المرقع، ومتابعة إبراهيم التيمي، عن أبيه له في روايته عن أبي ذر عند مسلم.

ثم إنه لا تعارض بين رواية أبي ذرٍّ وبين سائر الروايات؛ وذلك بحمل رواية أبي ذرٍّ على خصوصية الوجوب كما مضى، وإلا فإن تقديم رواية جمهور الصحابة الذين رووا الفسخ عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى، والله أعلم.

__________

1 زاد المعاد: (2/182) .

(2/429)

6- باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس

53- (8) "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَدِّمَ ضَعَفَةَ أَهلِهِ ليلة العيد، وَأَمَرَهُم أن لا يَرْمُوا الجَمْرَةَ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ".

ساق ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث هكذا، ثم قال: "حديث صحيح، صَحَّحَهُ الترمذي وغيره"1.

قلت: هذا الحديث مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويرويه عن ابن عباس جماعة، أشهرهم ثلاثة:

أولهم: الحسن2 العُرَنِيُّ عن ابن عباس.

أخرجه أبو داود والنسائي في (سننيهما) 3، وأحمد والطيالسي في (مسنديهما) 4، وابن حبان في (صحيحه) 5، خمستهم من طريق: سفيان الثوري.

__________

1 زاد المعاد: (2/248) .

2 ابن عبد الله العُرَني، الكوفي، ثقة، أرسل عن ابن عباس، من الرابعة/ خ م د س ق. (التقريب 161) .

3 د: (2/480) ح 1940 ك المناسك، باب التعجيل من جمع. س: (5/270) ، ك الحج، باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس.

4 حم: (1/311، 343) . طس: (ح 2767) .

5 الإحسان: (6/67) ح 3858، باب الزجر عن رمي الجمار للحاج قبل طلوع الشمس.

(2/430)

وأخرجه ابن ماجه في (سننه) 1، وأحمد في (مسنده) 2 كلاهما من طريق: مسعر وسفيان.

وأخرجه البيهقي في (سننه) 3 من طريق منصور. كلهم عن:

سلمة بن كهيل، عن الحسن العرنيّ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قَدَّمَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أُغَيلِمة بني عبد المطلب على حمرات، فجعل يَلْطَحُ4 أفخاذنا ويقول: "أَبَيْنِيَّ! لا ترموا الجَمْرَةَ حتى تطلع الشمس".

هذا لفظ أبي داود، ولفظ الباقين قريب منه، إلا أن عند النسائي: "بَعَثنا" بدل "قَدَّمنا". وعند أحمد وابن ماجه زيادة، وهي قول ابن عباس رضي الله عنهما: "ولا إخَالُ يرميها حتى تطلع الشمس" زادها سفيان. وقد وقع عند الإمام أحمد في رواية سفيان ومسعر أن ذلك كان "بليل".

وهذا الإسناد رجاله ثقات، إلا أن الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس، كما قال الإمام أحمد5، وقال يحيى بن معين: "صدوق ليس

__________

(2/1007) ح 3025 ك المناسك، باب من تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمار؟.

(1/234) .

(5/132) باب الوقت المختار لرمي جمرة العقبة.

4 قال ابن الأثير: "اللَّطْحُ: الضربُ بالكفِّ، وليس بالشديد". (النهاية 4/250) .

وقد فَسَّرَه أبو داود عقب الحديث، فقال: "اللَّطْحُ: الضرب اللَّينُ".

5 المراسيل لابن أبي حاتم: (ص46) . وتهذيب التهذيب: (2/291) .

(2/431)

به بأس، إنما يقال: إنه لم يسمع من ابن عباس"1.

وقد أشار المنذريُّ إلى هذه العلة في (مختصر السنن) 2، وقال الحافظ ابن حجر: "وفيه انقطاع"3. وسيأتي أن الحديث صحيح بطرقه.

الثاني: مقسم، عن ابن عباس.

أخرجه الترمذي في (جامعه) 4، وأحمد والطيالسي في (مسنديهما) 5 من طريق: المسعودي6.

والمسعوديُّ وإن كان قد اختلط، إلا أن الحديث عند الترمذي وأحمد من رواية وكيع عنه، وقد سمع منه قبل الاختلاط، كما نصَّ عليه الإمام أحمد7.

وأخرجه أحمد في (مسنده) 8 من طريق: الأعمش، وأبي

__________

1 تهذيب التهذيب: (2/291) .

(2/404) .

3 بلوغ المرام مع سبل السلام: (2/744) .

(3/231) ح 893، باب ما جاء في تقديم الضعفة من جمع بليل.

5 حم: (1/344) . طس: (ح2703) .

6 هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي، المسعودي، صدوقٌ اخْتلطَ قبل موته، وضَابِطُه: أَنَّ مَنْ سِمِعِ منه بِبَغداد فبعد الاختلاط، من السابعة، مات سنة 160 هـ / خت 4. (التقريب 344) .

7 تهذيب التهذيب: (6/210) .

(1/326) .

(2/432)

الأحوص، كلهم عن:

الحكم بن عتيبة1، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما به مختصراً، وعند الطيالسي: " ... فأتى على غُلَيْمٍ منهم فَحَرَّكَهُ برجله، وقال: لا تَرْمِ جمرة العقبة حتى تطلع الشمس".

قال أبو عيسى: "حديث حسن صحيح".

الثالث: عطاء2، عن ابن عباس.

أخرجه أبو داود والنسائي في (سننيهما) 3 من طريق:

حبيب بن أبي ثابت4، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَدِّمُ ضعفاء أهله بِغَلَسٍ، ويأمرهم: لا يرمون الجمرة حتى تطلع الشمس". لفظ أبي داود، ولفظ النسائي بنحوه.

وفي هذا الإسناد عنعنة حبيب، وهو مُدَلِّس يُكثِرُ من التدليس5، فتكون هذه عِلَّة تمنع من صحة هذا السند.

__________

1 أبو محمد الكندي الكوفي، ثقة ثبت فقيه إلا أنه رُبَّمَا دَلَّسَ، من الخامسة، مات سنة 113 هـ أو بعدها/ ع. (التقريب 175) .

2 ابن أبي رباح، القرشي مولاهم، المكي، ثقة فقيه فاضل، لكنه كثير الإرسال، من الثالثة، مات سنة 114 هـ وقيل: تَغَيَّرَ بآخره، ولم يكثر ذلك منه/ ع. (التقريب391) .

3 د: (2/481) ح 1941. س: (6/272) .

4 ابن دينار الأسدي مولاهم، أبو يحيى الكوفي، ثقة فقيه جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس، من الثالثة، مات سنة 119 هـ / ع. (التقريب 150) .

5 وقد جعله ابن حجر في الطبقة الثالثة منهم، انظر: طبقات المدلسين: (ص84) .

(2/433)

وبالنظر إلى هذه الطرق عن ابن عباس: نجد أن طريق المسعودي - ومن تابعه - عن الحكم، عن مقسم هو أحسنها، ولذلك فقد صححه الترمذي - كما مرَّ - والطريقان الآخران يشهدان له ويُقَوِّيَانه.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وهو حديث حسن". ثم ساق هذه الطرق الثلاثة، ثم قال: "وهذه الطرق يُقَوِّي بعضها بعضاً، ومن ثمَّ صححه الترمذي وابن حبان"1. وقد صححه كذلك: الشيخ الألباني في (الإرواء) 2 وفي (صحيح ابن ماجه) 3.

ولذا فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أصاب في تصحيحه إياه، والله أعلم.

__________

1 فتح الباري: (3/528) .

(4/274 - 276) .

(ح 2451) .

(2/434)

7- باب من قال بجواز رمي الجمرة قبل طلوعِ الشمس للعذر

54 - (9) عن عائشة رضي الله عنها: "أنه صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ بأمِّ سلمة ليلة النحر، فَرَمَتْ الجمرةَ قبل الفجر، ثُمَّ مَضَت فَأَفَاضَتْ ... " الحديث.

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، وقال: "حديث منكرٌ، أنكره الإمام أحمد وغيره". ثم ساق كلام الإمام أحمد في ذلك.

قال: "وما يدل على إنكاره: أن فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي صلاة الصُّبْح يوم النَّحْر بمكة، وفي رواية: "توافيه بمكة " وكان يَومَها، فأحبَّ أن توافيه. وهذا من المحال قطعاً".

ثم استدلَّ على بطلانه أيضاً: بحديث عائشة في (الصحيحين) : "أن سودة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تَدْفَعَ قبله، فَأَذِنَ لها. قالت عائشة: "ولأن أكون استأذنتُ كما استأذنته سودة أحبَّ إليَّ من مفروح به". قال: "فهذا الحديث الصحيح يبين أن نساءَهُ - غير سودة - إنما دَفَعْنَ معه"1.

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 2، والحاكم في (المستدرك) 3، والبيهقي في (سننه) 4 من طريق:

__________

1 زاد المعاد: (2/248 - 252) . وانظر: تهذيب السنن: (2/404 - 405) .

(2/481) ح 1942، ك الحج، باب التعجيل من جمع.

(1/469) .

(5/133) .

(2/435)

ابن أبي فُديك، عن الضحاك بن عثمان1، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أَرْسَلَ النبي صلى الله عليه وسلم بأمِّ سلمة ليلة النحر، فرمتْ الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ". تعني عندها. هذا لفظ أبي داود، ولفظ الباقيين مثله، إلا أن عند الحاكم: "وكان ذلك يوم الثاني الذي يكون عندها ... ". كذا رواه الضحاك عن هشام. قال أبو عبد الله الحاكم: "صحيح على شرطهما ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.

ورواه أبو معاوية2، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها.

أخرجه من هذا الطريق: الإمام مسلم في كتاب (التمييز) 3، من طريق: يحيى بن يحيى، وأبي كريب، ومحمد بن حاتم، ثلاثتهم: عن أبي معاوية، بالإسناد إلى أم سلمة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة".

قال الإمام مسلم عقبه: "وهذا الخبر وَهْمٌ من أبي معاوية، لا من غيره، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصُّبْحَ في حجته يوم النحر بالمزدلفة،

__________

1 ابن عبد الله بن خالد بن حزام الأسدي الحزامي، أبو عثمان المدني، صدوقٌ يَهِمُ، من السابعة/ م 4. (التقريب 279) .

2 هو: محمد بن خازم الضرير الكوفي، عَمِيَ وهو صغير، ثقة، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، من كبار التاسعة، مات سنة 195هـ، وقد رُمِيَ بالإرجاء / ع. (التقريب 475) .

(ص 186) .

(2/436)

وتلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يأمر أم سلمة أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة، وهو حينئذ يصلي بالمزدلفة؟ " قال: "هذا خبر محال، ولكن الصحيح من روى هذا الخبر عن أبي معاوية، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن توافي صلاة الصبح يوم النحر بمكة ... وإنما أفسد أبو معاوية معنى الحديث حين قال: توافي معه"1.

قلت: وهذه الرواية التي أشار مسلم إلى صحتها عن أبي معاوية: أخرجها البيهقي في (سننه) 2 من طريق: يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة به. بدون قوله "معه".

ورواه أسد بن موسى3، عن أبي معاوية بالإسناد نفسه، ولكن لفظه: "أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر أن توافي معه صلاة الصبح بمكة". هكذا بتقديم قوله: "يوم النحر". أخرجه هكذا الطحاوي في (شرح معاني الآثار) 4، ثم قال: "ففي هذا الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم أمرها بما أمرها به من هذا يوم النحر، فذلك على صلاة الصبح في اليوم الذي بعد يوم النحر".

ولكن تعقبه البيهقي بقوله: "فتعلق به بعض من يدَّعي تصحيح الآثار على مذهبه، وزعم أنه إنما أمرها بذلك يوم النحر؛ لتوافي معه

__________

1 التمييز: (ص186) .

(5/133) .

3 ابن إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الأموي، أسد السنة، صدوق يُغْرِبُ، وفيه نصبٌ، من التاسعة، مات سنة 212هـ / خت د س. (التقريب 104) .

(2/218) .

(2/437)

صلاة الصبح من غد يوم النحر بمكة ... وليس من الإنصاف أن تُتْرَكَ رواية الجمهور، ويُؤْخَذ برواية واحدٍ لم يكن عندهم بمصر بالحافظ جداً"1. يعني: أسد بن موسى.

وخالف هؤلاء جميعاً جماعة من أصحاب هشام، فرووه عنه، عن أبيه، عن أم سلمة مرسلاً.

أخرجه الطحاويُّ في (شرح المعاني) 2 من طريق: حماد بن سلمة، عن هشام، عن أبيه: "أَنَّ يومَ أُمِّ سلمة دَارَ إلى يوم النحر، فأمرها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلة جمع أن تُفيضَ، فَرَمَتْ جمرة العقبة، وصلت الفجر بمكة".

وأخرجه البيهقي في (سننه) 3 من طريق: داود بن عبد الرحمن العطَّار، والدراوردي، كلاهما عن هشام به، ولفظه: "دار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُمِّ سَلَمَة يوم النَّحْرِ، فأمرها أن تُعَجِّلَ الإفاضة من جمع، حتى تأتي مكة فتصلي بها الصبح، وكان يومها فأحبَّ أن توافقه".

وأخرجه الإمام مسلم في كتاب (التمييز) 4 من طريق: الثوري، عن هشام به بنحو لفظ البيهقي، مختصراً.

وقد رواه وكيع، عن هشام، عن أبيه مرسلاً أيضاً، ولفظه: "أن

__________

1 معرفة السنن والآثار: (7/313) رقم 10170.

(2/218) .

(5/133) .

(ص 186) .

(2/438)

النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ أُمَّ سلمة أن توافيه الصبح بمنىً". أخرجه مسلم في (التمييز) 1، وقال: "وَهِمَ فيه كنحو ما وَهِمَ فيه أبو معاوية ... وسبيل وكيع كسبيل أبي معاوية: أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصبح يوم النحر بالمزدلفة، دون غيرها من الأماكن لا محالة".

فَتَلَخَّص من ذلك: أن هذا الحديث يُروى مرسلاً، ويروى متصلاً. ويُروى بلفظ: "توافي صلاة الصبح"، وبلفظ: "توافي معه صلاة الصبح"، وبلفظ: "توافيه صلاة الصبح".

أما من ناحية إسناده: فقد رَجَّحَ بعض الأئمة الرواية الْمُرْسَلَة، فقال الدارقطني - بعد أن أذكر الروايات المتصلة -: "وخالفهم أصحاب هشام الحفاظ عنه، رووه عن هشام، عن أبيه مرسلاً، وهو الصحيح"2.

وَقَوَّى البيهقي - رحمه الله - الراوية المتصلة بقوله: "وَصَلَ أبو معاوية هذا الحديث عن هشام، وأبو معاوية حجة قد أجمع الحفاظ على قبول ما ينفرد به، ثم قد وَصَلَهُ الضَّحَاكُ بن عثمان، وهو من الثقات الأثبات"3.

ثم ساق - رحمه الله - رواية الضحاك بن عثمان بإسناده، ثم قال: "إسنادٌ صحيح لا عار فيه".

__________

(ص 187) .

2 علل الدارقطني: ج5 (ق122/أ) .

3 معرفة السنن والآثار: (7/316) رقم 10181.

(2/439)

ثم قال - مُوَفِّقَاً بين الرواية المتصلة والمرسلة -: "وكأنَّ عروة حمله من الوجهين جميعاً، فكان هشام يرسله مرةً ويُسْنِده أخرى، وهذه عادتهم في الرواية"1.

وصَحَّحَ النووي رواية أبي داود المتصلة أيضاً، فقال: "إسناد صحيح على شرط مسلم"2.

قلت: فعلى كلام البيهقي هذا لا تكون الرواية المتصلة معلولة، وهو ظاهر صنيع الإمام مسلم رحمه الله، فإنه لما رواه على الوجهين لم ير الرواية المتصلة معلولة من جهة إسنادها، وإنما تَكَلَّمَ في متنها فقط.

وأما من ناحية المتن: فقد أنكروا رواية أبي معاوية وقوله: "أمرها أن توافيه" وكذلك: "توافي معه"، وقد تقدم كلام الإمام مسلم - رحمه الله - في ذلك، وأنه رَجَّحَ رواية أبي معاوية التي فيها "توافي " فقط.

وقد نقل ابن القَيِّم - رحمه الله - عن الأثرم أَنَّ الإمام أحمد أَنْكَرَ هذه الرواية وقال: " ... النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر وقت الصبح ما يصنع بمكة؟! " ينكر ذلك. قال: فجئت إلى يحيى بن سعيد، فسألته، فقال: عن هشام، عن أبيه: أمرها أن توافي، وليس: توافيه. قال: وبين ذين فرق. قال: "وقال لي يحيى: سل عبد الرحمن عنه - يعني ابن مهدي - فسألته، فقال: هكذا سفيان عن هشام، عن أبيه"3.

__________

1 المعرفة: (7/317) رقم 10183.

2 المجموع: (8/132) .

3 زاد المعاد: (2/249 - 250) .

(2/440)

فإذا علمنا هذا، فَإِنَّ حكم ابن القَيِّم - رحمه الله - على الحديث كُلِّهِ بالنَّكَارَةِ غير مُسَلَّم، واستدلاله لذلك بكلام الإمام أحمد لا يساعده؛ لأنَّ الإمام أحمد - كما مضى - قد أنكر هذه اللفظة فقط، وهو الذي قاله الإمام مسلم أيضاً، وأوضح البيهقي - رحمه الله - ذلك يقوله: "وأما ما ذُكِرَ من حكاية أحمد: فإنما أُنكرَ قوله: "توافي معه صلاة الصبح"؛ إذ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقت صلاة الصبح"1.

وأما استدلاله على بطلانه بحديث عائشة في (الصحيحين) : أن سودة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تدفع قبله، فأَذِنَ لها، وحَبَسَ باقي نسائه حتى دفعن بدفعه:

أقول: ليس في هذا دليل على عدم خروج أم سلمة رضي الله عنها بليلٍ، بل ذكرت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث من استأذن النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه، وهي سودة، ولم تذكر التي أمرها بالخروج، وهي أم سلمة رضي الله عنها، ولذلك قالت عائشة: "ولأن أكون استأذنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة ... ".

وما يقال في أم سلمة، يقال في أم حبيبة رضي الله عنهن؛ فإنه قد ثبت في (صحيح مسلم) 2 "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمعٍ بليلٍ" فهذا

__________

1 معرفة السنن والآثار: (7/316) رقم 10180.

(2/940) ح 1292.

(2/441)

يردُّ على قول ابن القَيِّم رحمه الله: " ... أن نساءه - غير سودة - دَفَعْنَ معه". فعندي - والله أعلم - أن قول عائشة رضي الله عنها: "وحبسنا حتى أصبحنا، فَدَفَعْنَا بِدَفْعِهِ" يعني: ما عدا من بَعَثَ بهنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وما عدا من استأذنته.

ولذلك فإن ابن القَيِّم - رحمه الله - اضطر إلى أن يقول في حديث أم حبيبة: "انفرد به مسلم، فإن كان محفوظاً، فهي إذن من الضَّعَفَةِ التي قَدَّمَها"1.

فَتَلَخَّص من هذا: أن حديث إرسال أمِّ سلمة - رضي الله عنها - ورميها الجمرة بليل، حديث صحيح، صححه الأئمة: مسلم، والحاكم، والبيهقي، والنووي. وأن الذي أنكره الإمام أحمد هو لفظة واحدة فقط، وهي قوله: "توافي معه" أو "توافيه". وأما حكم ابن التركماني2 عليه بالاضطراب، ومتابعة الشيخ الألباني له3، فإنه لا دليل عليه، وأن ما ذُكر فيه من اختلاف ليس مما يوجب سقوطه.

ثم إنَّ ابن القَيِّم نفسه عاد بعد ذلك فقال: "ثُمَّ تَأَمَّلْنَا، فإذا لا تعارض بين هذه الأحاديث؛ فإنه أمر الصبيان ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي، أما من قَدَّمَهُ من النساء: فَرَمَيْنَ قبل طلوع الشمس للعذر، والخوف عليهنَّ من مزاحمة

__________

1 زاد المعاد: (2/251) .

2 في الجوهر النقي: (5/132) .

3 في إرواء الغليل: (4/279) .

(2/442)

الناس وحَطْمِهِم. وهذا الذي دَلَّت عليه السنة: جواز الرمي قبل طلوع الشمس للعذر: بمرض، أو كِبَرٍ يشقُّ عليه مزاحمة الناس لأجله، وأما القادر الصحيح، فلا يجوز له ذلك"1.

قلت: وعلى هذا فإنه يُقال في أم سلمة - رضي الله عنها - ما قاله ابن القَيِّم نفسه في أم حبيبة: من أنها من الضَّعَفَةِ الذين قَدَّمَهُم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة النحر، فرموا بليل، وبهذا تتفق الأحاديث ولا يضرب بعضها بعضاً، ويكون هذا التوفيق والجمع من ابن القَيِّم بين هذه النصوص هو المعتمد، ويُحْمَل إنكاره لحديث تقديم أم سلمة - رضي الله عنها - على ما جاء فيه من قوله: "أن توافي معه صلاة الصبح"، لما تقدم بيانه.

ومن الأحاديث الواردة في الرمي قبل طلوع الشمس، حديث:

55- (10) عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَمَر نِسَاءَهُ أن يَخْرُجْنَ من جَمْعٍ ليلة جمع، فيرمينَ الجَمْرَةَ، ثم تُصْبِحُ في مَنْزِلِهَا". وكانت تصنع ذلك حتى ماتت.

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث عند كلامه على دفع النبي صلى الله عليه وسلم من مزدلفة، ورميه جمرة العقبة، وأن نساءه دفعن معه، ما عدا سودة رضي الله عنها، فإنها استأذنت أن تدفع قبله.

وقد أورد - رحمه الله - حديث عائشة هذا حُجَّةً للمخالفين، ثم قال: "يَرُدُّهُ محمد بن حميد أحد رواته، كَذ َّبَهُ غير واحد. ويَرُدُّهُ أيضاً:

__________

1 زاد المعاد: (2/252) .

(2/443)

حَدِيثُهَا الذي في (الصحيحين) وقولها: وَدِدت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما استأذنته سودة"1.

قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني في (سننه) 2 من طريق:

محمد بن حميد3، عن هارون بن المغيرة، عن عبد الله بن يعلى الطائفي، عن عطاء، عن عائشة بنت طلحة، عن خالتها عائشة - رضي الله عنهما - به، وفي آخره قول عطاء: "ولم أزلْ أفعله".

ومحمد بن حُمَيْد ضَعَّفَهُ الجمهور، وكذبه: أبو زرعة، وابن خراش، والنسائي4. وكان الإمام أحمد حسن الرأي فيه، وكذا ابن معين، لكن قال أبو علي النيسابوري: "قلتُ لابن خزيمة: لو حَدَّثَ الأستاذ عن محمد بن حميد؛ فإن أحمد قد أحسن الثناء عليه؟ فقال: إنه لم يعرفه، ولو عرفه كما عرفناه ما أثنى عليه أصلاً". كذا في (تهذيب التهذيب) 5، وأما في (الميزان) 6: "لو أخذت الإسناد ... " بدل "لو حَدَّثَ الأستاذ"! ولعله تصحيف.

ومما يدلُّ على أن هذا الحديث قد يكون من مناكيره: ما رواه ابن

__________

1 زاد المعاد: (2/250 - 251) .

(2/273) ح 175.

3 ابن حيَّان الرازي، حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه، من العاشرة، مات سنة 248 هـ / د ت ق. (التقريب 475) .

4 انظر: الميزان: (3/530) ، وتهذيب التهذيب: (9/130 - 131) .

(9/131) .

(3/530) .

(2/444)

أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 1 بسنده إلى محمد بن عيسى بن الدامغاني، أنه قال: "لما مات هارون بن المغيرة، سألت محمد بن حميد أن يُخْرِجَ إليَّ جميع ما سمع منه، فأخرج إليَّ جُزَازَات، فأحصيت جميع ما فيه: ثلثمائة ونيفاً وستين حديثاً". قال جعفر بن محمد بن حماد - راوي هذه الحكاية عن ابن الدامغاني -: "وأخرج ابن حميد عن هارون بعد: بضعة عشر ألف حديث".

وهذا الحديث من رواية محمد بن حميد، عن هارون بن المغيرة هذا، وقد كان ابن حميد يسرق الحديث، ويأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضها على بعض2، فلا يبعد أن يكون هذا الحديث وَقَعَ فيه شيء من ذلك.

ومما يدل على نكارته أيضاً: ما أشار إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من أنها - رضي الله عنها - كانت تقول: " ... فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة، أحب إليَّ من مفروح به"3. فهذا ظاهر في أنها دفعت بدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فَتَلَخَّص: أنَّ هذا الحديث لا يصحُّ؛ لضعف إسناده، ونكارة متنه، فَيَتَرَجَّحُ اختيارُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في ردِّهِ، والله أعلم.

__________

(3/2/233) .

2 انظر: الميزان: (3/530) .

3 أخرجه البخاري في (صحيحه) : ك الحج، باب من قَدَّمَ ضعفةَ أهله بليلٍ ح 1681 (فتح الباري 3/527) .

(2/445)

8 ـ باب من قال بجواز التضحية ثلاثة أيام بعد النحر

...

8 - باب من قال بجواز التضحية ثلاثة أيام بعد يوم النحر

56- (11) حديث: "كُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ ".

أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث مستدلاً به للمذهب القائل بأن أيام النحر: يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده، وَرَجَّحَ هذا المذهب، لكنه قال عن هذا الحديث: "لكنَّ الحديث منقطع لا يثبت وصله".

ثم عاد فقال - في معرض ترجيحه هذا المذهب -: "وَرُوِيَ من وجهين مختلفين - يَشَدُّ أحدهما الآخر - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مني منحر، وكلُّ أيام التشريق ذبحٌ ". وَرُوِىَ من حديث جبير بن مطعم - يعني الماضي - وفيه انقطاع، ومن حديث أسامة بن زيد، عن عطاء، عن جابر. قال يعقوب بن سفيان: أسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون"1.

قلت: هذا الحديث الذي أورده ابن القَيِّم - رحمه الله - حاكماً بانقطاعه: أخرجه أحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3، من طريق:

أبي المغيرة4، عن سعيد بن عبد العزيز5، عن سليمان بن

__________

1 زاد المعاد: (2/318 - 319) .

(4/82) .

(9/295) .

4 هو: عبد القدوس بن الحجاج الخولاني، الحمصي، ثقة، من التاسعة، مات سنة212هـ/ ع. (التقريب 360) .

5 التنوخي، الدمشقي، ثقة إمام، سَوَّاهُ أحمد بالأوزاعي، وقَدَّمَهُ أبو مسهر، لكنه اختلط في آخر أمره، من السابعة، مات سنة 167هـ/ بخ م 4. (التقريب238) .

(2/446)

موسى1، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلُّ عرفات موقف، وارفعوا عن بطن عُرَنَة. وكل مزدلفة موقفٌ، وارفعوا عن مُحَسِّر. وكل فِجَاجِ مني منحر، وكلُّ أيام التشريق ذبحٌ". ثم ساقه الإمام أحمد من طريق: أبي اليمان، عن سعيد بن عبد العزيز، بإسناده مثله.

وهذا الإسناد منقطع كما قال ابن القَيِّم رحمه الله؛ فإنَّ سليمان ابن موسى لم يدرك جبير بن مُطْعِم، قال البخاري: "سليمان لم يدرك أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "2. وقال ابن كثير - وعنه نقل صاحب (نصب الراية) 3 -: "هكذا رواه أحمد، وهو منقطع؛ فإن سليمان بن موسى الأشدق لم يدرك جبير بن مطعم". وقال البيهقي عقب روايته: "وهو مرسل". ونقل النووي في (شرح المهذب) 4 إعلال البيهقي له، وأَقَرَّهُ. وقال الحافظ ابن حجر: "في سنده انقطاع"5.

قلت: وقد رُوي عن سليمان من وجه آخر ظاهره الاتصال، فقد أخرجه البزار في (مسنده) 6، وابن حبان في (صحيحه) 7، وابن

__________

1 الأموي مولاهم، الدمشقي، الأَشْدَق، صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل، من الخامسة/ م 4. (التقريب 255) .

2 علل الترمذي: (1/313) ، باب زكاة العسل.

(3/61) .

(8/287) .

5 فتح الباري: (10/8) .

6 انظر: كشف الأستار: (2/27) ح رقم 1126. باب: عرفة كلها موقف.

7 الإحسان: (6/62) ح 3843.

(2/447)

عديّ في (الكامل) 1 كلهم من طريق: عبد الملك بن عبد العزيز2، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى، عن عبد الرحمن بن أبي الحسين، عن جبير رضي الله عنه به مرفوعاً.

ولكنَّ هذا الإسناد منقطع أيضاً، حكم عليه بذلك البزار رحمه الله، فقال: " ... ابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم، وإنما ذكرنا هذا الحديث لأنَّا لا نحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في: "كل أيام التشريق ذبح". إلا في هذا الحديث، فكذلك ذكرناه، وبَيَّنَا العلة فيه"3.

وقد أخرجه الطبراني في (معجمه الكبير) 4، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 5 من طرق، عن: سويد بن عبد العزيز6، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى، عن نافع بن جبير7، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، ولفظه عند الدارقطني والبيهقي مختصر، كما أورده ابن القَيِّم أول الباب.

__________

(3/1119) في ترجمة "سليمان بن موسى".

2 القشيري، النسائي، أبو نصر التمَّار، ثقة عابد، من صغار التاسعة، مات سنة 228هـ / م س. (التقريب 363) .

3 انظر: نصب الراية: (3/61) .

(2/144) ح 1583.

5 قط: (4/284) ح 47. هق: (9/296) .

6 ابن نمير، السُّلَمِي مولاهم، الدمشقي، وقيل أصله حمصي، وقيل غير ذلك، ضعيف، من كبار التاسعة، مات سنة 194هـ، ت ق. (التقريب 260) .

7 ابن مطعم النوفلي، أبو محمد وأبو عبد الله، المدني، ثقة فاضل، من الثالثة، مات سنة 99هـ / ع. (التقريب 558) .

(2/448)

وقد أشار البزار - رحمه الله - إلى رواية سويد هذه عقب إخراجه رواية عبد الرحمن بن أبي حسين المتقدمة، فقال: "ورواه سويد بن عبد العزيز، فقال فيه: عن نافع بن جبير، عن أبيه، وهو رجلٌ ليس بالحافظ، ولا يُحْتَجُّ به إذا انفرد بحديث، وحديث ابن أبي حسين هو الصواب ... "1. وأَعَلَّهُ البيهقي بسويد أيضاً، فقال: "ورواه سويد بن عبد العزيز، وهو ضعيف عند بعض أهل النقل ... "2. وتَعَقَّبَهُ ابن التركماني، فقال: "هو ضعيف عند كلهم أو أكثرهم"3.

وبذلك يكون حديث سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى دائراً بين الضعف والانقطاع، ولكن أشار الحافظ ابن حجر إلى أنه ورد موصولاً من وجه آخر، فقال: "ووصله الدارقطني، ورجاله ثقات"4.

قلت: لعله يشير بذلك إلى ما أخرجه الدارقطني في (سننه) 5- ومن طريقه البيهقي6 - من طريق: أبي معيد7، عن سليمان ابن موسى، عن عمرو بن دينار، عن جبير بن مطعم به.

__________

1 نصب الراية: (3/61) ، وانظر كشف الأستار: (2/27) فقد أورده مختصراً.

2 السنن: (9/296) .

3 الجوهر النقي: (9/296) .

4 فتح الباري: (10/8) .

(4/284) ح 49.

6 السنن: (9/296) .

7 حفص بن غيلان، وهو بكنيته أشهر، شامي، صدوقٌ فقيهٌ، رُميَ بالقَدَرِ، من الثامنة/ س ق. (التقريب 174) .

(2/449)

وهذا إسنادٌ رجاله ثقات، إلا أبا معيد، فإنه تَكَلَّمَ فيه بعضهم، ولكنه صدوقٌ، وقد وثقه الأكثرون1، فحديثه لا ينزل عن درجة الحسن، وقد وَثَّقَ ابن حجر - رحمه الله - رجال هذا الإسناد2 كما مضى.

وقد أشار الزيلعي في (نصب الراية) 3 إلى أن الطبراني أخرجه في (مسند الشاميين) ، من طريق أبي معيد، عن سليمان بن موسى، عن محمد ابن المنكدر، عن جبير به، فيكون هذا طريقاً آخر لهذا الحديث، فيثبتُ بذلك اتِّصَالُهُ من طريق سليمان بن موسى إلى جبير بن مطعم رضي الله عنه، وتنتفي عنه بذلك عِلَّةُ الانقطاع التي أشار إليها ابن القَيِّم رحمه الله.

وأما قول ابن القَيِّم رحمه الله: " روي من وجهين مختلفين يشدُّ أحدهما الآخر ... " ثم ذِكْرُهُ رواية جبير بن مطعم، ورواية جابر رضي الله عنهما: فإن كان يقصد أن حديث جابر يشدُّ حديث جبير، فإنه لا يتم له الاستشهاد به؛ لأن حديث جابر رضي الله عنه ليس فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل أيام التشريق ذبح ". وإنما لفظه - كما أخرجه أبو داود4 وغيره - أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل المزدلفة موقف، وكل فجاج مكة طريق ومنحر".

أما إن كان قصده: مجيء حديث جبير بن مطعم نفسه من وجه

__________

1 انظر: تهذيب التهذيب: (2/418 - 419) .

2 إن كان هذا هو الإسناد الذي أراده بقوله: "وصله الدارقطني ... ".

(3/61) ، ولم أقف عليه في (مسند الشاميين) بعد البحث.

(2/478) ح 1937.

(2/450)

آخر- كما تقدم في كلام ابن حجر - فقد حصل المقصود وهو: تقوية رواية جبير المنقطعة.

هذا، وقد صحح الهيثمي إسناد حديث جبير، فقال: "رجاله موثوقون"1. - يريد رجال أحمد والطبراني - ورَمَزَ له السيوطي بالصحة2. وَأَقَرَّهُ الشيخ الألباني في (صحيح الجامع الصغير) 3.

فَتَلَخَّص من ذلك: ثبوت حديث جبير بن مطعم هذا، وانتفاءُ ما أَعَلَّهُ به ابن القَيِّم من الانقطاع، وذلك بوروده من وجه آخر متصلاً، وتصحيح الأئمة له.

على أنَّ كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - الظاهر منه مَيْلُهُ إلى تقوية الحديث بمجيئه من وجه آخر، كما تقدم من كلامه.

__________

1 مجمع الزوائد: (3/251) .

2 الجامع الصغير مع فيض القدير: (5/27) ح 6331.

(ح 4537) .

(2/451)

9- باب ما يستحب من ذبح صاحب النسيكة نسيكته بيده، وجواز الاستنابة فيه57- (12) عن علي صلى الله عليه وسلم قال: "لمَّا نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدْنَهُ، فَنَحَرَ ثلاثين بيده، وَأَمَرَنِي فنحرت سَائِرَهَا ".ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، وعزاه لأحمد وأبي داود، ثُمَّ قال: "هَذَا غلط، انقلب على الراوي؛ فإن الذي نَحَرَ ثلاثين: هو عليٌّ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نحر سبعاً بيده لم يشاهده عليٌّ ولا جابر، ثم نَحَرَ ثلاثاً وستين أخرى، فَبَقِيَ من المائة ثلاثون، فَنَحَرَهَا عليٌّ، فانقلب على الراوي عدد ما نَحَرَهُ عليٌّ بما نحره النبي صلى الله عليه وسلم "1.قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3 - وأخرجه البيهقي في (سننه) 4 من طريق أبي داود - كلهم من طريق:محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نَجِيحٍ5، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي رضي الله عنه به. وعند الإمام أحمد زيادة، وهي قوله: " ... وقال: اقسم__________1 زاد المعاد: (2/260) .(2/369) ح 1764 ك الحج، باب في الهدي إذا عطب قبل أن يبْلُغَ.(1/159) .(5/238) .5 هو: عبد الله بن أبي نجيح - واسم أبي نجيح: يسار - المَكِّي،، أبو يسار، الثقفي، ثقة رُمِيَ بالقدر، وَرُبَّمَا دَلَّسَ، من السادسة، مات سنة 131 هـ / ع. (التقريب326) .

(2/452)

لُحُومَهَا بين الناس وجُلُودَهَا وجِلالها، ولا تُعْطِيَّنَّ جَازِرَاً منها شيئاً".وهذا الحديث معلول بأمور، وهي:أولاً: عنعنة ابن إسحاق وهو مُدَلِّس، فإنه لا يُقْبَلُ منه إلا ما صرح فيه بالسماع1.ثانياً: أن سفيان الثوري رواه عن ابن أبي نجيح بالإسناد السابق، فلم يذكر فيه ما جاء في رواية ابن إسحاق، ولكن فيه قول علي رضي الله عنه: "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم فَقَمْتُ على البُدْنِ، فأمرني فقسمت لحومها، ثم أمرني فقسمت جلالها وجلودها ". أخرجه البخاري في (صحيحه) 2.وقد سبق أن رواية أحمد عن ابن إسحاق فيها زيادة، وهي: أمْرُهُ له بقسمة لحومها وجلالها، فَيُخْشَى أن يكون دخل لابن إسحاق حديث في حديث، فالله أعلم.ثالثاً: وهو ما ذكره ابن القَيِّم رحمه الله، فإن حديث جابر في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم فيه قوله: " ... ثم انصرف إلى الْمَنْحَر، فَنَحَر ثلاثاً وستين بيده، ثم أَعْطَى عَلِيَّاً فَنَحَرَ مَا غَبَر" 3. أخرجه مسلم في (صحيحه) 4.وقد قَدَّم البيهقي - رحمه الله - رواية مسلم؛ فإنه أخرجها في__________1 انظر: طبقات المدلسين: (ص132) .2 ك الحج، باب لا يعطى الجزار من الهَدْي شيئاً. ح 1716. (فتح الباري 3/555) .3 غَبَر: بَقِيَ. (المصباح المنير 2/442) .(2/886) . ح 147، ك الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(2/453)

(السنن) 1، ثم أخرج رواية ابن إسحاق بعدها، ثم قال: "كذا رواه محمد ابن إسحاق، ورواية جعفر أصحُّ" يعني التي في (مسلم) عن جابر.وكذا قَدَّمَها الحافظ ابن حجر رحمه الله؛ فإنه قال - بعد أن ساق رواية ابن إسحاق -: "وأصحُّ منه ما وقع عند مسلم". فساق حديث جابر، ثم حاول الجمع بين هذه الرواية ورواية ابن إسحاق، فقال: "والجمع بينه وبين رواية ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثين، ثم أمر علياً أن ينحر سبعاً وثلاثين مثلاً، ثم نحر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وثلاثين". قال: "فإنْ سَاغَ هذا الجمعُ، وإلا فما في الصحيح أصحُّ"2.أما ابن القَيِّم رحمه الله، فقد ذهب إلى وقوع القلب في حديث ابن إسحاق كما تقدم كلامه في ذلك، وأن الصواب رواية مسلم التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين بيده، مع نحره صلى الله عليه وسلم سبع بُدْنٍ قياماً، كما في حديث أنس3 رضي الله عنه فيصير مجموع ما نحره صلى الله عليه وسلم سبعين بدنة. لا أن علياً هو الذي نحر هذا العدد.وهذا المسلك من ابن القَيِّم - رحمه الله - قويٌّ في تقديم ما في الصحيح وردِّ ما عداه.وعلى كل حال، فإن رواية ابن إسحاق شاذَّةٌ لمخالفتها رواية__________(5/238) .2 فتح الباري: (3/555 - 556) .3 وهو جزء من حديث يَصِفُ فيه أنس رضي الله عنه حَجَّةَ النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه البخاري في (صحيحه) ك الحج، باب نحر البدن قائمة. ح1714 (فتح الباري 3/554) .

(2/454)

جابر في (صحيح مسلم) ، مع ضَعْفِ إسنادها كما تقدم، وقد رَجَّحَ رواية الصحيح: البيهقي، ثم ابن حجر رحمهما الله، كما تقدم، والله أعلم.

(2/455)

10- باب ما جاء في طواف الإفاضة58- (13) عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم: "أَنَّ النَّبِي أَخَّرَ طَوافَهُ يوم النَّحْرِ إلى اللَّيل". وفي لفظ: "طَوافَ الزِّيَارَة".ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث، وتحسين الترمذي له، ثم قال: "وهذا الحديث غَلَطٌ بَيِّنٌ، خلاف المعلوم من فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم الذي لا يَشُكُّ فيه أهل العلم بحَجَّتِه"1.ثم ذكر - رحمه الله - كلام البخاري في إعلاله بعدم سماع أبي الزبير من عائشة، وكلام ابن القطان في إعلاله بتدليس أبي الزبير وقد عنعنه، ثم قال: "ويدل على غلط أبي الزبير عن عائشة: أن أبا سلمة بن عبد الرحمن روى عن عائشة، أنها قالت: حَجَجْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَفَضْنَا يومَ النحر"2.وقال مرة: "هذا الحديث وَهْمٌ؛ فإن المعلوم من فعله صلى الله عليه وسلم: أنه إنما طاف طواف الإفاضة نهاراً بعد الزوال، كما قاله جابر، وعبد الله بن عمر، وعائشة. وهذا أمرٌ لا يرتاب فيه أهل العلم بالحديث"3.قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن__________1 زاد المعاد: (2 / 275 - 276) .2 زاد المعاد: (2/277) .3 تهذيب السنن: (2/428) .

(2/456)

ماجه في (سننهم) 1، وأحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3، من طرق، عن:سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن عائشة وابن عباس - رضي الله عنها - به.وعَلَّقَهُ البخاري في (صحيحه) 4، فقال: "وقال أبو الزبير، عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم: أَخَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم الزيارة إلى الليل".قال أبو عيسى الترمذي: "حديث حسن صحيح". وفي بعض نسخه: "حسن"5.ولكن هذا الحديث أُعِلَّ بعلل - كما تقدم في كلام ابن القَيِّم رحمه الله - منها:أولاً: انقطاعه بين أبي الزبير وعائشة، وقيل: ابن عباس أيضاً:فقد سأل الترمذي البخاريَّ عنه، فقال له: أبو الزبير سمع عائشة__________1 د: (2/509) ح2000 باب الإفاضة في الحج. ت: (3/253) ح920 باب ما جاء في طواف الزيارة بالليل. س: في (الكبرى) (4/218) ح4155. جه: (2/1017) ح3059 باب زيارة البيت. كلهم في ك الحج.(1/288، 309) ، (6/215) .(5/144) .4 ك الحج، باب الزيارة يوم النحر. (فتح الباري 3/567) .5 تحفة الأشراف: (5/237) .

(2/457)

وابن عباس؟ قال: "أما ابن عباس فنعم، وإن في سماعه من عائشة نظراً"1. وقال أبو حاتم: "أبو الزبير رأي ابن عباس رؤية، ولم يسمع من عائشة"2. وقال ابن عيينة: "يقولون: أبو الزبير المكي لم يسمع من ابن عباس"3 قال العلائي - عقب نقله كلام هؤلاء الأئمة -: "حديثه عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة في صحيح مسلم"4.قلت: ولكنَّ هذا على قاعدة مسلم المعروفة، وهي: اكتفاؤه في السند المعنعن بإمكان اللقاء دون ثبوته، وهذا - على فرض قبوله - يكون في غير المدلسين، أما إذا كان المُعَنْعِنُ مُدَلِّسَاً، فإنهم لم يختلفوا في عدم قبول ما عنعنه، وإنما الخلاف في قبول عنعنة المدلس إذا كان ممن عُلِمَ لقاؤه بمن عنعن عنه. وأبو الزبير من المدلسين المشهورين بذلك، فتكون هذه علة أخرى في الحديث، وهي:ثانياً: عنعنة أبي الزبير وهو مُدَلِّسٌ: وقد أَعَلَّهُ بذلك جماعة، فقال ابن حزم - رحمه الله - بعد أن ذكر تدليس أبي الزبير-: "ولسنا نحتجُّ من حديثه إلا بما فيه بيان أنه سمعه، وليس في هذا بيان سماعه منهما"5. وقال ابن القطان: "عندي أن هذا الحديث ليس بصحيح، إنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ نهاراً، وإنما اختلفوا: هل صلى الظهر بمكة أو__________1 علل الترمذي: (1/388) .2 المراسيل لابن أبي حاتم: (ص193) .3 المصدر السابق.4 جامع التحصيل: (ص 330) .5 حجة الوداع: (ص211 - 212) .

(2/458)

رجع إلى منىً فصلى الظهر بها بعد أن فرغ من طوافه؟ ... وجابر يقول: إنه صلى الظهر بمكة، وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه ... وهو شيء لم يرو إلا من هذا الطريق، وأبو الزبير مُدَلِّسٌ، ولم يذكر هاهنا سماعاً من عائشة"1.وتعقب الحافظ العراقي الترمذي في تحسينه إياه: بأنه معلول بعنعنة أبي الزبير2. وأعله الشيخ الألباني - أيضاً - بعنعنة أبي الزبير وهو مدلس3.ثالثاً: أن هذا الحديث قد عارضه ما هو أصح منه وأثبت: وذلك من حديث جابر، وابن عمر، ومن حديث عائشة نفسها، كما تقدم ذكر ذلك عن ابن القَيِّم رحمه الله.قال النووي رحمه الله: " ... إن روايات جابر، وابن عمر، وأم سلمة عن عائشة: أصحُّ وأشهرُ وأكثر رواة، فوجب تقديمها، ولهذا رواها مسلم في صحيحه دون حديث أبي الزبير وغيره"4.وحديث ابن عمر المشار إليه: أخرجه مسلم في (صحيحه) 5 من طريق: نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ يوم النَّحْرِ، ثم رجع فصلى الظهر بمنى".__________1 بيان الوهم والإيهام: (5/64) ح 2305.2 شرح الترمذي: ج3 (ق 156/ أ) .3 إرواء الغليل: (4/265) .4 المجموع: (8/160) .(2/950) ح 335 (1308) .

(2/459)

وأما حديث جابر: فهو ضمن حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قوله: " ... ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر ... ". وهو في (صحيح مسلم) 1 أيضاً.وأما حديث عائشة: فقد أخرجه البخاري في (صحيحه) 2 من طريق: أبي سلمة بن عبد الرحمن عنها رضي الله عنها، أنها قالت: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأفضنا يوم النحر ... ".فهذه الأحاديث الصحيحة عارضت حديث أبي الزبير المتقدم، وفي جميعها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض نهاراً.وقد ذهب البعض إلى الجمع بين هذه الأحاديث، فقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ... فَيُحْمَلُ حديث جابر وابن عمر على اليوم الأول، وحديث ابن عباس هذا على بقية الأيام"3.وتعقبه الشيخ الألباني، فقال: "وهذا التأويل ممكن بناءً على اللفظ الذي عند البخاري: "أَخَّرَ الزيارة إلى الليل". وأما الألفاظ الأخرى فهي تأبى ذلك؛ لأنها صريحة في أنه طواف الإفاضة في اليوم الأول، يوم النحر"4.وسبق ابن حجر إلى محاولة الجمع أيضاً: النوويُّ رحمه الله، فقال في جوابه عن هذه الأحاديث: " ... أن يُتَأَوَّلَ قوله: "أَخَّرَ طواف يوم__________(2/892) .2 ك الحج، باب الزيارة يوم النحر ح 1733.3 فتح الباري: (3/567) .4 إرواء الغليل: (4/264) .

(2/460)

النحر إلى الليل". أي: طواف نسائه، ولابدَّ من التأويل للجمع بين الأحاديث"1.قلت: بل الجمع غير لازم هنا، ويَتَعَيَّنُ الترجيح؛ لأن المعارض لهذه الأحاديث الصحيحة ضعيف لا يقاومها، قال الشيخ الألباني رحمه الله: "ولذلك فلا بد من الترجيح، ومما لا شكَّ فيه أن حديث ابن عمر أصحُّ من هذا، مع ما له من الشاهدين من حديث جابر، وعائشة نفسها"2.فَتَلَخَّص من ذلك: أن حديث أبي الزبير، عن عائشة وابن عباس: حديث ضعيف، ومع ضعفه فقد عارضته الأحاديث الصحيحة الصريحة في طوافه صلى الله عليه وسلم طواف الزيارة نهاراً، فوجب تقديم هذه الأحاديث على هذا الضعيف، وهذا ما اختاره ابن القَيِّم رحمه الله، وهو الصواب، والله أعلم.__________1 المجموع: (8/160) .2 إرواء الغليل: (4/264) .

(2/461)

11- باب الشرب من ماء زمزم59 - (14) عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَه ".قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وقد ضَعَّفَ هذا الحديث طائفة بعبد الله بن المُؤَمَّل راويه عن محمد بن المنكدر، وقد روينا عن عبد الله بن المبارك: أنه لَمَّا حجَّ أتى زمزم، فقال: اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، عن نَبَيِّكَ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء زمزم لما شُرِبَ له " وإني أشربه لظمأ يوم القيامة، وابن أبي الموالي ثقة، فالحديث إذن حسن، وقد صححه بعضهم، وجعله بعضهم موضوعاً، وكلا القولين فيه مجازفة"1.قلت: هذا الحديث يُروى عن جابر رضي الله عنه من طريقين:الطريق الأول: أخرجه ابن ماجه في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3 والطبراني في (الأوسط) 4، والبيهقي في (سننه) 5، والعقيلي__________1 زاد المعاد: (4/392 - 393) .(2/1018) ح 3062، ك المناسك، باب الشرب من زمزم.(3/357، 372) .(1/469) ح 853.(5/148) .

(2/462)

في (الضعفاء) 1، والخطيب في (تاريخ بغداد) 2 من طرق، عن: عبد الله بن المُؤَمَّل3، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه به.وهذا الإسناد ضعيف؛ لضعف عبد الله بن المُؤَمَّل، وبه ضعفه ابن القطان4، وضعفه - أيضاً - النووي في (المجموع) 5.وقال العقيلي: "لا يُتابع عليه". وكذا قال ابن حبان في (المجروحين) 6. وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن أبي الزبير إلا عبد الله بن المُؤَمَّل". وقال البيهقي عقب إخراجه: "تَفَرَّدَ به عبد الله بن المُؤَمَّل".قلت: أما تضعيفه بابن المُؤَمَّل: فنعم، وأما القول بأنه تَفَرَّدَ به: فلا؛ فقد تابعه إبراهيم بن طهمان7، كما نَبَّهَ على ذلك صاحب (الجوهر النقي) 8 فقال - متعقباً البيهقي -: "قلت: لم ينفرد به، بل__________(2/303) .(3/179) في ترجمة محمد بن القاسم المدائني.3 ابن وهب الله، المخزومي، المكي، ضعيف الحديث، من السابعة، مات سنة 160هـ / بخ ت ق. (التقريب 325) .4 بيان الوهم والإيهام: (3/478) ح 1243.(8/198) .(2/28) .7 الخراساني، أبو سعيد، سكن نيسابور، ثم مكة، ثقةٌ يُغْرِبُ، وتُكِلِّمَ فيه للإِرْجَاءِ، ويقال: رجع عنه، من السابعة، مات سنة 168هـ / ع. (التقريب90) .(5/148) .

(2/463)

تابعه إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، كذا أورده البيهقي نفسه فيما بعد، في باب الرخصة في الخروج بماء زمزم".والحديث في (سنن البيهقي) 1 من طريق: أحمد بن إسحاق البغدادي، عن معاذ بن نجدة، عن خَلاَّد بن يحيى، قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، وفيه قصة.وأعلَّ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - هذه المتابعة لابن المُؤَمَّل، فقال: "ولا يصحُّ عن إبراهيم ... إنما سمعه إبراهيم من ابن المُؤَمَّل"2.وتعقبه الشيخ الألباني فقال: "ولا أدري من أين أخذ الحافظ هذا التعليل، فلو اقتصر على قوله: لا يصح عن إبراهيم. لكان مما لا غُبَارَ عليه"3.وأَعَلَّهَا الشيخ الألباني - رحمه الله - بجهالة أحمد بن إسحاق البغدادي4. لكنه قال مرةً: "إسناده جيد، رجاله كلهم ثقات"5‍!وأعلَّ ابن القطان هذا الحديث بعنعنة أبي الزبير، فقال: "تدليس أبي الزبير معلوم"6. فَتَعَقَّبَهُ ابن الملقن في (البدر المنير) 7 بقوله: "قلت: قد__________(5/202) .2 التلخيص الحبير: (2/268) .3 إرواء الغليل: (4/321) .4 المصدر السابق.5 السلسلة الصحيحة: (2/573) ح 883.6 بيان الوهم والإيهام: (3/478) ح 1243.7 ج 4 (ق 412) نسخة أحمد الثالث. وانظر: التلخيص الحبير (2/268) .

(2/464)

صَرَّحَ بالتحديث في رواية ابن ماجه، وكذا البيهقي في باب الرخصة في الخروج بماء زمزم".لكن تَعَقَّبَ ذلك الشيخ الألباني، فقال عن طريق ابن ماجه هذه: "لكنها رواية شاذة غير محفوظة، تَفَرَّدَ بها هشام بن عَمَّار ... وهشام فيه ضَعْفٌ ... والوليد بن مسلم مُدَلِّسٌ ولم يُصَرِّحْ بسماعه من ابن المُؤَمَّل1. وقد خالفه رواة الطرق الأخرى، وهم ستة، فقالوا: عن أبي الزبير، عن جابر. فروايتهم هي الصواب"2.قلت: فإن سُلِّمَ تَعَقُّبُ الشيخ الألباني هذا، فتبقى عنعنة أبي الزبير علة أخرى في هذا الطريق كما قال ابن القطان.هذا ما يتعلق بالكلام عن الطريق الأول عن جابر، وقد ظهر ما فيه.الطريق الثاني: أخرجه الخطيب في (تاريخ بغداد) 3 في ترجمة عبد الله بن المبارك بسنده إلى سويد بن سعيد4 قال: رأيت عبد الله بن المبارك بمكة أتى زمزم فاستقى منه شَرْبَةً، ثم استقبل الكعبة، ثم قال:__________1 وإنما قال: "قال عبد الله بن المُؤَمَّل" (سنن ابن ماجه 2/1018) .2 إرواء الغليل: (4/322) .(10/166) .4 ابن سهل الهروي الأصل، ثم الحدثاني، ويقال له: الأنباري، أبو محمد، صَدُوقٌ في نفسه، إلا أنه عَمِيَ فَصَارَ يَتَلَقَّن ما ليس من حديثه فَأَفْحَشَ فيه ابن معين القول، من قدماء العاشرة، مات سنة 240هـ / م ق. (التقريب ص 260) .

(2/465)

اللهم إن ابن أبي الموالي1 حدثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء زمزم لما شُرِبَ له". وهذا أَشْرَبُهُ لعطش القيامة. ثم شَرِبَه.وأخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) 2 وقال: "غريب، تَفَرَّدَ به سويد" ونقل ذلك عنه ابن حجر في (التلخيص الحبير) 3 ثم قال عن سويد: "وهو ضعيف جداً، وإن كان مسلمٌ قد أخرج له في المتابعات ... " إلى أن قال: "وقد خَلَّطَ في هذا الإسناد، وأخطأ فيه عن ابن المبارك، وإنما رواه ابن المبارك، عن ابن المُؤَمَّل، عن أبي الزبير، كذلك رويناه في (فوائد أبي بكر ابن المقري) من طريق صحيحة، فَجَعَلَه سويد: عن ابن أبي الموالي، عن ابن المنكدر. واغْتَرَّ الحافظ شرف الدين الدمياطي بظاهر هذا الإسناد، فحكم بأنه على رسم الصحيح؛ لأن ابن أبي الموالي انفرد به البخاريّ، وسويداً انفرد به مسلمٌ، وغفل عن أن مسلماً إنما أخرج لسويد ما توبع عليه، لا ما انفرد به، فضلاً عما خُولف فيه".وقد رُوِيَ هذا الحديث عن ابن عباس، لكنه شديد الضَّعْفِ، بل باطل، كما سيأتي بيانه، فقد أخرجه: الدارقطني في (سننه) 4 عن:__________1 عبد الرحمن بن أبي الموالي - واسمه: زيد، وقيل: أبو الموالي جده- أبو محمد، مولى آل عليّ، صدوق رُبَّمَا أخطأ، من السابعة، مات سنة 173هـ / خ 4. (التقريب ص351) .(8/67) ح 3833.(2/268) وانظر أيضاً: فتح الباري (3/493) .(2/289) ح238.

(2/466)

عمر بن الحسن بن علي. والحاكم في (المستدرك) 1 عن: علي بن حمشاد العدل، كلاهما عن: محمد بن هشام بن عيسى المروزي، ثنا محمد بن الحبيب الجارودي، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: "مَاءُ زَمْزَم لما شُرِبَ له، إن شَرِبْتَهُ تَسْتَشْفِي به شفاكَ الله، وإن شربته لِشِبَعِكَ أشبعك الله به، وإن شربته ليقطع ظمأك قطعه الله. وهي هَزْمَة2 جبريل، وسُقْيَا الله إسماعيل". هذا لفظ الدارقطني. وعند الحاكم: "وإن شربته مستعيذاً عاذك الله" بدل: "وإن شربته لشبعك ... ". وليس عنده: "وهي هزمة جبريل ... ".قال أبو عبد الله الحاكم - عقب إخراجه -: "هذا حديث صحيح الإسناد إن سَلِم من الجارودي، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.وهذا الحديث له ثلاث علل - كما قال الشيخ الألباني3رحمه الله -:العلة الأولى: أن محمد بن حبيب الجارودي أخطأ فيه عن ابن عيينة فجعله موصولاً مسنداً، وغيره جعله عن ابن عيينة عن مجاهد قوله،__________(1/473) .2 الهَزْمَةُ: النقرة في الصدر، وفي التفاحة إذا غمزتها بيدك، وهزمت البئر: حفرتها. والمراد بهزمة جبريل: أنه ضربها برجله فنبع الماء. (النهاية 5/263) .3 في إرواء الغليل: (4/329 - 333) ح 1126.

(2/467)

قال ابن حجر: "والجارودي صدوق، إلا أن روايته شاذة، فقد رواه حُفَّاظُ أصحاب ابن عيينة: الحميدي، وابن أبي عمر، وغيرهما عن أبن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله"1.وقال الحافظ الذهبي في ترجمة الجارودي هذا: "أتى بخبر باطلٍ اتُّهِمَ بسنده"2.العلة الثانية: جهالة محمد بن هشام المروزي راويه عن الجارودي، قال ابن القطان: "لا يُعرف حاله"3.العلة الثالثة: ضعف عمر بن الحسن الأشناني، شيخ الدارقطني في هذا الخبر. قال الذهبي في ترجمته في (الميزان) 4: "صاحب بلايا" ثم ساق هذا الحديث من طريق الدارقطني، ثم قال: "وابن حبيب - يعني الجارودي - صدوقٌ، فآفة هذا هو عمر، فلقد أَثِمَ الدارقطني بسكوته عنه، فإنه بهذا الإسناد باطلٌ، ما رواه ابن عيينة قطُّ، بل المعروف حديث عبد الله بن المُؤَمَّل، عن أبي الزبير، عن جابر مختصراً".قال الشيخ الألباني رحمه الله: "وجملة القول: أن الحديث بالزيادة التي عند الدارقطني موضوعٌ؛ لتفرد هذا الأشناني به، وهو بدونها باطلٌ؛ لخطأ الجارودي في رفعه، والصواب: وقفه على مجاهد. ولئن قيل: إنه لا__________1 التلخيص الحبير: (2/268) .2 الميزان: (3/508) .3 البدر المنير: ج 4 (ق 412) .(3/185) .

(2/468)

يُقَالُ من قِبَلِ الرأي فهو في حكم المرفوع؟ فإن سُلِّمَ هذا، فهو في حكم المرسل، وهو ضعيف"1.وقد جعله السخاوي شاهداً لحديث جابر المتقدم2، فتعقبه الشيخ الألباني بقوله: "ولكنه عندي ضعيف جداً فلا يصلح شاهداً، بل قال فيه الذهبي: خبر باطل"3.ولحديث جابر شاهدٌ آخر عن معاوية رضي الله عنه موقوفٌ عليه، أشار إليه السخاوي في (المقاصد الحسنة) 4 فقال - بعد أن ساق حديث جابر وابن عباس الماضيين -: "وأحسن من هذا كله عند شيخنا: ما أخرجه الفاكهي، من رواية ابن إسحاق، حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: لما حجَّ معاوية فحججنا معه، فلما طافَ بالبيت ... " فذكره، وفيه أن معاوية أمر بدلوٍ من زمزم، فشربه، ثم قال: "زمزم شفاء، وهي لما شُرِبَ له". قال السخاوي: "بل قال شيخنا: إنه حسن مع كونه موقوفاً. وأفرد فيه جزءاً".قلت: ومما يشهد لمعناه: حديث أبي ذر رضي الله عنه يرفعه: "إنها مباركة وهي طعام طُعْمٍ، وشفاء سُقْمٍ". واستشهد به ابن حجر للحديث المتقدم5، وهو في (مسند الطيالسي) 6.__________1 إرواء الغليل: (4/332) .2 المقاصد الحسنة: (ح 928) .3 إرواء الغليل: (4/324) .(ص 568) .5 كما في المقاصد الحسنة (ص 568) .(ح 457) .

(2/469)

فالحاصل: أن هذا الحديث يَتَقَوَّى بمجموع هذه الطرق، فيكون حسناً لغيره، لا لذاته كما يفهم من كلام ابن القَيِّم رحمه الله1؛ إذ إنَّ طُرُقَهُ كلها لم تَسْلَم من الضَّعْفِ.وحَسَّنَه الحافظ المنذري في (كلامه على أحاديث المهذب) 2. وقال الحافظ ابن حجر: "ومرتبة هذا الحديث: أنه باجتماع هذه الطرق يصلح للاحتجاج به"3. وقال مرة: "غريب، حسنٌ بشواهده"4.بقي التنبيه على أمرٍ وقع لابن القَيِّم رحمه الله، وهو قوله في هذا الحديث: "وقد ضَعَّفَ هذا الحديث طائفة بعبد الله بن المُؤَمَّل راويه عن محمد بن المنكدر". كذا قال، وقد عُلِمَ مما سبق أنَّ ابن المُؤَمَّل إنما يرويه عن أبي الزبير، وأن الذي رواه عن ابن المنكدر هو ابن أبي الموالي.__________1 وانظر: إرواء الغليل: (4/324) .2 أفاد ذلك ابن الملقن - رحمه الله - في (البدر المنير) : ج4 (ق 412) .3 المقاصد الحسنة: (ص 568) .4 فيض القدير: (5/404) .

(2/470)

12- باب فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلمذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - فضلَ مكة، والبيت الحرام، وأنه أَفْضَلُ بقاع الأرض على الإطلاق، فقال: "وَثَبَتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، ففي (سنن النسائي) ، و (المسند) بإسناد صحيح، عن:60 - (15) عبد الله بن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "صلاة في مَسْجِدي هذا أفضل من أَلف صلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إلا المسجدَ الحرامَ، وصلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مَسْجِدي هذا بمائة صلاةٍ ". ورواه ابن حبان في صحيحه1.قلت: هذا الحديث أخرجه: أحمد في (مسنده) 2، وابن حبان في (صحيحه) 3، والبيهقي في (سننه) 4، وابن عبد البر في (التمهيد) 5، كلهم من طريق: حَمَّاد بن زيد، عن حبيب الْمُعَلَّم6.__________1 زاد المعاد: (1/48) .(4/5) .3 الإحسان: (3/71) ح 1618.(5/246) .(6/25) .6 أبو محمد البصري، مولى معقل بن يسار، اختلف في اسم أبيه، فقيل: زائدة، وقيل: زيد، صدوق، من السادسة، مات سنة 130 هـ / ع. (التقريب 152) .

(2/471)

وأخرجه الطيالسي في (مسنده) 1 عن: الربيع بن صبيح2. كلاهما - حبيب والربيع - عن:عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن الزبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم به، ووقع عند الطيالسي قول عطاء: "بينما ابن الزبير يخطبنا إذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " الحديث، قال عطاء في آخره: "فكأنه مائة ألف". وعند ابن حبان: "وَصَلاةٌ في ذاكَ أَفْضَل من مائةِ صلاةٍ في هذا ".وعزاه الهيثمي في (مجمع الزوائد) 3 لأحمد، والطبراني، والبزار، وأما ما قاله ابن القَيِّم - رحمه الله - من أن هذا الحديث في (سنن النسائي) فإنني لم أقف عليه فيه بعد البحث، ولا هو في (السنن الكبرى) له فيما بحثت، ولم يذكره المزيُّ في (تحفة الأشراف) في مسند ابن الزبير، فلعله سبق قلم من ابن القَيِّم رحمه الله.وإسناد هؤلاء الجماعة - ما عدا الطيالسي - صحيح على شرط الشيخين، وإلى ذلك أشار الهيثمي رحمه الله، فقال: "ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح"4.ولكن رُوِيَ هذا الحديث عن عطاء من وجهٍ آخر موقوفاً على__________1 ح (1367) .2 السَّعْدِي، البصري، صدوق سيء الحفظ، وكان عابداً مجاهداً، من السابعة، مات سنة 160هـ / خت ت ق. (التقريب 206) .(4/4 - 5) .4 مجمع الزوائد: (4/4-5) .

(2/472)

ابن الزبير، أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 1 عن: ابن جريج. وابن عبد البر في (التمهيد) 2 من طريق: حجاج بن أرطاة3، كلاهما عن: عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن الزبير موقوفاً عليه. ولفظ عبد الرزاق: عن عطاء، أنه سمع ابن الزبير يقول على المنبر: "صلاة في المسجد الحرام خيرٌ من مائة صلاة فيما سواه من المساجد". قال: ولم يُسَمِّ مسجد المدينة، فَيُخَيَّلُ إليَّ أَنَّمَا يريد مسجد المدينة. ولفظ ابن عبد البر: "الصلاة في المسجد الحرام تفضل على مسجد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بمائة ضِعْفٍ". قال عطاء: فنظرنا في ذلك، فإذا هي تفضل على سائر المساجد بمائة ألف ضِعْفٍ.قال ابن عبد البر: "هكذا رواه عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن الزبير، واخْتُلِفَ في رفعه عن عطاء ... وَمَنْ رَفَعَهُ عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أحفظ وأثبت من جهة النقل. وهو أيضاً صحيح في النظر؛ لأنَّ مثله لا يُدْرَكُ بالرأي، ولا بد فيه من التوقيف، فلهذا قلنا: إن مَنْ رَفَعَهُ أولى، مع شهادة أئمة الحديث لِلَّذي رفعه بالحفظ والثقة"4. وقال أيضاً: "ولكن الحديث لم يُقِمْهُ ولا جَوَّدَهُ إلا حبيب المعلم، عن عطاء، أقام إسناده، وجود لفظه"5. وقال: "فأسند حبيب المعلم هذا الحديث وَجَوَّدَهُ،__________(5/121) ح 9133.(6/23) .3 ابن ثور بن هبيرة، النخعي، أبو أرطاة الكوفي، القاضي، أحد الفقهاء، صدوق كثير الخطأ والتدليس، من السابعة، مات 145هـ/ بخ م4. (التقريب 152) .4 التمهيد: (6/23) .5 المصدر السابق: (6/ 24) .

(2/473)

ولم يُخَلِّطْ في لفظه ولا معناه، وكان ثقة"1. ثم أخذ في نقل أقوال الأئمة في توثيق حبيب. ثم قال: "ولم يُرو عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهٍ قَوىٍّ ولا ضعيف، ما يعارض هذا الحديث، ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم. وهو حديث ثابت لا مطعن فيه لأحدٍ، إلا لِمُتَعَسِّفٍ لا يُعَرَّجُ على قوله في حبيب المعلم ... وقد رواه الحجاح بن أرطاة، عن عطاء، مثل رواية حبيب المعلم سواء"2.قلت: وقد تابعَ حبيباً على رفعه الربيع بن صبيح، كما تقدم عند الطيالسي، ومع ذلك، فإنه لا يمتنع أن يكون رُوِيَ عن ابن الزبير على الوجهين، فمع أنه كان عنده مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان ربما لا يرفعه، وبخاصة أنه قاله في خطبة له على المنبر، وإلا فإنه مما لا مجال فيه للرأي، ولابدَّ فيه من توقيف كما تقدم في كلام ابن عبد البر رحمه الله. ويؤكده: أن حجاج بن أرطاة قد روى المرفوع أيضاً، فدلَّ ذلك على أن الحديث عن ابن الزبير على الوجهين.فَتَلَخَّص من ذلك: أن الحديث صحيح الإسناد، كما قال ابن القَيِّم رحمه الله، ولا مطعن لأحدٍ فيه، وما رُوي من ذلك موقوفاً على ابن الزبير لا يُعَلُّ به المرفوع، فإما الجمع بينهما، أو ترجيح المرفوع، وهو ظاهرٌ، والله تعالى أعلم.__________1 التمهيد: (6/25) .2 المصدر السابق: (6/26) .

(2/474)

من كتاب الجهااااد

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

من كتاب الجهاد

1 ـ باب ما جاء في حلية السيف

...

1 - باب ما جاء فِي حلية السيف

61- (1) عن أنس رضي الله عنه، أنه قال: "كانت قَبِيعَةُ1 سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة".

حَكَمَ جماعة من الحفاظ بعدم صحة هذا الحديث مسنداً، وأن الصواب فيه: عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن البصري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.

وقد استعرض ابن القَيِّم - رحمه الله - بعض أقوالهم، ثم قال: "والصواب أن حديث قتادة، عن أنس محفوظ من رواية الثقات الضابطين المتثبتين: جرير بن حازم وهمام، عن قتادة، عن أنس. والذي رواه عن: قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً: هو هشام الدستوائي، وهشام وإن كان مقدماً في أصحاب قتادة، فليس هَمَّام وجرير إذا اتَّفَقَا بدونه"2.

قلت: هذا الحديث أخرجه: أبو داود في (سننه) 3 من طريق: مسلم بن إبراهيم. والترمذي في: (جامعه) 4، وفي (الشمائل) 5 من

__________

1 القَبِيعَةُ: بفتح القاف، وكسر الباء: هي التي تكون على رأس قائم السيف. وقيل: ما تحت شاربي السيف. (النهاية: 4/7) .

2 تهذيب السنن: (3/404) .

(3/68) ح 2583 ك الجهاد، باب في السيف يُحَلَّى.

(4/201) ح 1691.

(ص 101) ح 99 باب ما جاء في صفة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2/477)

طريق: وهب بن جرير. والدارمي في (مسنده) 1 من طريق: أبي النعمان. والبيهقي في (سننه) 2 من طريق: سهل بن بَكَّار، كُلُّهم عن:

جرير بن حازم، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه به.

قال أبو عيسى الترمذي: "حديث حسن غريب".

وقد تابع جريراً على روايته هذه: هَمَّام بن يحيى، فأخرجه النسائي في (سننه) 3 من طريق: عمرو بن عاصم4، عن: همام وجرير، كلاهما عن: قتادة به، ولفظه: " كان نَعْلُ5 سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة، وقبيعة سيفه فضة، وما بين ذلك حِلَقُ فضة".

هكذا رواه جرير وهمام، عن قتادة، عن أنس مرفوعاً. ورواه هشام الدستوائي عن قتادة على خلاف ذلك:

فأخرجه: أبو داود في (سننه) 6 - ومن طريقه: البيهقي7 - والترمذي في (الشمائل) 8 من طريق: معاذ بن هشام. وأخرجه النسائي

__________

(2/140) ح 2461. ك السير، باب في قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(4/143) .

(8/219) ك الزينة، باب حلية السيف.

4 ابن عبيد الله الكلابي القيسي، أبو عثمان البصري، صدوقٌ في حفظهِ شَيء، من صغار التاسعة، مات سنة 213 هـ / ع. (التقريب 423) .

5 نَعْل السيف: الحديدة التي تكون في أسفل القِرَابِ. (النهاية 5/82) .

(3/69) ح 2584.

7 السنن: (4/143) .

(ص 101) ح 100.

(2/478)

في (سننه) 1 من طريق: يزيد بن زريع2، كلاهما عن: هشام الدستوائي، عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن3، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.

وقد حَكَمَ الأئمة للرواية الُمُرْسَلة على الأخرى، فقال أبو داود: "أقوى هذه الأحاديث: حديث سعيد بن أبي الحسن، والباقية ضعاف"4. وقال النسائي: "هذا حديث منكر - يعني المتصل- والصواب: قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن"5. وفي (علل أحمد) 6: قال عبد الله: "حدثني أبي، عن عفان، قال: جاء أبو جُزَيّ7 إلى جرير بن حازم يشفع لإنسان يُحَدِّثُه، فقال جرير: حدثنا قتادة، عن أنس قال: "كانت قبيعة ... "، قال أبو جُزَيّ: كَذَبَ والله، ما حدثناه قتادة إلا عن سعيد بن أبي الحسن. قال أبي: وهو قول أبي جُزَيّ". يعني أصاب، وأخطأ جرير.

فهذه متابعة من أبي جُزَيّ لهشام الدستوائي، وأشار إلى روايته

__________

(8/219) .

2 البصري، أبو معاوية، ثقةٌ ثبت، من الثامنة، مات سنة 182هـ /ع. (التقريب601) .

3 البصري، أخو الحسن، ثقةٌ، من الثالثة، مات سنة 100 هـ/ ع. (التقريب234) .

4 السنن: (3/69) .

5 تحفة الأشراف: (1/301) .

(1/86) .

7 هو: نصر بن طريف، الباهلي، البصري، القَصَّاب، ضَعَّفَهُ غيرُ واحدٍ، واتَّهَمه آخرون بالكذب.

له ترجمة في: الجرح والتعديل: (4/1/466) ، والميزان: (4/251) .

(2/479)

هذه: الدارقطني في (علله) 1، وأيد الإمام أحمد - رحمه الله - رواية الإرسال، وصَدَّقَ أبا جُزَيّ في قوله.

وقال الدارمي - عقب روايته -: "هشام الدستوائي خالفه ... وزعم الناس أنه هو المحفوظ". وقال أبو بكر البزار: "إنما يُرْوَى عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً، وهو الصواب"2. وقال الدارقطني: "اخْتُلِفَ فيه على قتادة ... ورواه هشام الدستوائي، ونصر بن طريف: عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً، وهو الصواب"3. وقال البيهقي: "تَفَرَّدَ به جرير بن حازم، عن قتادة ... والحديث معلول". ثم ذكر المرسل وقال: "وهو المحفوظ"4.

وقد تَقَدَّمَ أن جريراً لم ينفرد بذلك، وإنما تابعه: هَمَّامُ بن يحيى، كما عند النسائي رحمه الله، وَقَدَّمَ المرسل أيضاً: الحافظ المنذري، وقال: "إنه الصواب". كما نقله عنه صاحب (البدر المنير) 5.

وعند النظر، نجدُ أن الراجح ما رَجَّحَهُ هؤلاء الأئمة رحمهم الله؛ فإن جريراً في حديثه عن قتادة ضعف، قال عبد الله بن الإمام أحمد: "سألت ابن معين عنه؟ فقال: ليس به بأس. فقلت: إنه يحدث عن قتادة، عن أنس أحاديث مناكير. فقال: ليس بشيء، هو عن

__________

1 ج 4 (ق30/أ) .

2 البدر المنير: (2/464) .

3 علل الدارقطني: ج4 (ق 30/أ) .

4 سنن البيهقي: (4/143) .

(2/465) .

(2/480)

قتادة ضعيف"1. وقال الميموني عن أحمد: "كان حديثه عن قتادة غير حديث الناس، يوقف أشياء، ويسند أشياء"2. وقال الأثرم عن أحمد: "كان يُحَدِّثُ بالتوهم أشياء عن قتادة يُسْنِدُها، بواطيل"3. وقال ابن عدي: " ... هو مستقيم الحديث صالحٌ فيه، إلا روايته عن قتادة، فإنه يروي عنه أشياء لا يرويها غيره"4. وقال الذهبي: "وفي الجملة: لجرير، عن قتادة أحاديث منكرة"5.

فالغالب - والله أعلم - أن الخطأ في ذلك من جرير، وأنه أخطأ فيه عن قتادة، وقد تقدم أن أبا جُزَيّ كَذَّبَه لما حَدَّثَ به أمامه عن: قتادة، عن أنس، وَصَوَّبَ الإمام أحمد أبا جُزَيّ في ذلك كما مضى.

فإن قِيْلَ: قد تَابَعَهُ همام بن يحيى، عن قتادة؟ قيل: همامٌ وإن كان ثقة، فإنه ربما وَهِمَ، وَتَكَلَّمَ بعضهم في حفظه. وهو وإن كان ثبتاً في قتادة، فليس هو مثل هشام الدستوائي فيه6، حتى إن شعبة - على جلالته، وفضله، وحفظه لحديث قتادة - يقول: "هشام الدستوائي أعلم بقتادة، وأكثر مجالسة له مني"7. ولما ذكر عليُّ بن المديني أصحاب قتادة، قال: "كان هشام أرواهم عنه ... "8.

__________

1 تهذيب التهذيب: (2/70) .

2 المصدر السابق: (2/72) .

3 شرح علل الترمذي: (ص365) .

4 الكامل: (2/130) .

5 الميزان: (1/393) .

6 انظر: تهذيب التهذيب: (11/68 - 70) .

7 شرح علل الترمذي: (ص364) .

8 تهذيب التهذيب: (11/69) .

(2/481)

ومع ذلك، فقد تَفَرَّدَ عن همام: عمرو بن عاصم القيسي، وفي حفظه شيء1، وسأل الآجريُّ أبا داود عنه؟ فقال: "لا أنشط لحديثه". ثم سأله عنه وعن الحوضي في هَمَّام؟ فقدم الحوضي2.

وما دام الرَّجل - أعني عمرو بن عاصم - بهذه المثابة، فلا يبعد أن يكون وَهِمَ فيه على همام بن يحيى، ولذلك قال الإمام النسائي: "وما رواه عن همام غير عمرو بن عاصم"3.

فالحاصل: أن هذا الحديث وَصَلَهُ عن قتادة، عن أنس: جرير ابن حازم، وتابعه عليه همام بن يحيى. وخالفهم في ذلك: هشام الدستوائي، فرواه عن قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن مرسلاً، وهو الراجح.

فإذا تقرر ذلك، فإن ما قاله ابن القَيِّم - رحمه الله - من تقوية الرواية الموصولة، غير مُسَلَّمٍ، لما تَقَدَّمَ.

ومع ذلك، فقد روي هذا الحديث من طريق أبي أمامة بن سهل، ومزيدة العصري وغيرهما4، مما يقوى حديث أنس المتصل، ويثبت أن له أصلاً، والله أعلم.

__________

1 كما تقدم في ترجمة ابن حجر له، وانظر: تهذيب التهذيب: (8/58) .

2 سؤالات الآجري لأبي داود: (ص236 - 237) .

3 انظر: تحفة الأشراف: (1/301) .

4 انظر تفصيل ذلك في: التلخيص الحبير: (1/52) ح 50.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج2. باقي صحيح السيرة النبوية تحقيق الشيخ الألباني مراجع ومدقق {من 130. الي234.}

  ج2. صحيح السيرة {ج2. باقي صحيح السيرة النبوية  تحقيق  الشيخ الألباني مراجع ومدقق {من 130. الي234.} صفحة رقم -130 - قال : قلت : من غف...