( قصص الانبياء تحقيق الشيخ
الالباني{ج1 الانبياء في القران
والتوجيهات الالهية و} {الخلاصة في حياة الأنبياء} ) الأنبياء فى التوراة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة اصطفى الله عز وجل أنبياءه من بين سائر خلقه، وحباهم بأن جعلهم حملة دينه إلى الناس، وأسبق أقوامهم إليه، وجعل منهم قدوة للعالمين { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } (الأنعام:90). وهذا الذي يقتضيه العقل في هؤلاء الذين اختارهم الله لهداية خلقه، أن يكونوا أحسن الناس سيرة، وأصدقهم طوية.... كيف لا، وقد جاء الحديث في التوراة عن عصمة الكهنة وبراءتهم من الآثام، لأنهم حاملو الشريعة ومبلغوها للناس، وهم - ولا ريب - دون منزلة الأنبياء ، يقول سفر ملاخي عن لاوي وسبطه: "عهدي معه للحياة والسلام، وأعطيته إياهما للتقوى، فاتقاني، ومن اسمي ارتاع هو، شريعة الحق كانت في فيه، وإثم لم يوجد في شفتيه، سلك معي في السلام والاستقامة، وأرجع كثيرين عن الإثم، لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة، ومن فمه يطلبون الشريعة، لأنه رسول رب الجنود" (ملاخي 2/5-7). وتثني التوراة في بعض نصوصها على بعض هؤلاء الأنبياء، فعن داود قال: " أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً " ( صموئيل (2) 7/14 ). وعن نوح قال: " كان نوح رجلاً باراً كاملاً في أجياله، وسار نوح مع الله " ( التكوين 6/9). وعن إبراهيم تقول التوراة بأن الله قال له في المنام " يا إبرام أنا ترس لك، أجرك كثير جداً " (التكوين 15/1 ). وعن إسحاق " وباركه الرب " ( التكوين 26/12 )...إلى غير ذلك لكن ذلك كله يضيع في بحر الرذائل التي تلصقها التوراة زوراً بحملة رسالات الله من الأنبياء والمرسلين الذين اصطفاهم الله لبلاغ وحيه (1/2) نوح عليه السلام في التوراة فقد تحدثت التوراة عن سكر نوح وتعريه داخل خبائه فأبصره ابنه الصغير حام، وأخبر أخويه بما رأى فجاءا بظهريهما وسترا أباهما، فلما أفاق من سكرته وعرف ما فعل ابنه حام الصغير قال : "ملعون كنعان (ابن الجاني حام)، عبد العبيد يكون لإخوته... وليكن كنعان عبداً لهم ". والقصة بتمامها: "وابتدأ نوح يكون فلاحاً وغرس كرماً. وشرب من الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه. فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجاً. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما، ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما، ووجهاهما إلى الوراء. فلم يبصرا عورة أبيهما. فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال: ملعون كنعان (أب الفلسطينيين الذي لا علاقة له بالحادثة، الذي لم يولد حينذاك)، عبد العبيد يكون لإخوته. وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبداً لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام.وليكن كنعان عبدا لهم" ( التكوين 9/25 - 26 )، فبدلاً من أن يوجه ابنه الصغير للتصرف الصحيح مع الوالد حين سكره وعربدته، صب لعناته على كنعان ابن حام، كنعان الذي لعله لم يخلق بعد، فما ذنب هذا! بل وما ذنب أبيه الذي لم يكن ليستحق هذا كله ؟ وماذا عن الأب الذي شرب الخمر. ما الذي يستحقه؟؟ (1/3) إبراهيم عليه السلام وأما إبراهيم فتزعم التوراة أنه قال وأخطأ في حق الله لما أراد إهلاك قوم لوط، وخاطبه بأسلوب الناصح الغليظ، بأسلوب لا يقبل عاقل أن يخاطبه به صديقه أو ابنه، فضلاً عن عبده الضعيف "فتقدم إبراهيم وقال: أفتهلك البار مع الأثيم. عسى أن يكون خمسون باراً في المدينة، أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين باراً الذين فيه؟ حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر: أن تميت البار مع الأثيم، فيكون البار كالأثيم. حاشا لك. أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً" (التكوين 18/23). (1/4) لوط عليه السلام وأما لوط عليه السلام النبي الذي حارب الشذوذ، فتذكر التوراة أنه لما أهلك الله قومه لجأ إلى مغارة مع ابنتيه فسقتاه الخمر، وضاجعتاه ولم يعلم بذلك، وولد من هاتين الفاحشتين عمي ومؤاب، ومنهما انحدر العمويون والمؤابيون أعداء بني إسرائيل، فاسمع إلى السفر : " وصعد لوط من صوغر، وسكن في الجبل وابنتاه معه. لأنه خاف أن يسكن في صوغر. فسكن في المغارة هو وابنتاه. وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض. هلم نسقي أبانا خمراً، ونضطجع معه.فنحيي من أبينا نسلاً. فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة. ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: إني قد اضطجعت البارحة مع أبي.نسقيه خمرا الليلة أيضاً، فادخلي اضطجعي معه.فنحيي من أبينا نسلاً. فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة أيضاً. وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. فحبلت ابنتا لوط من أبيهما. فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب.وهو أبو الموآبيين (أعداء بني إسرائيل) إلى اليوم. والصغيرة أيضا ولدت ابناً، ودعت اسمه بن عمي.وهو أبو بني عمون (وهم أيضاً أعداء بني إسرائيل) إلى اليوم" ( التكوين 19/30 - 37 ). ويذكر السفر تبريراً لهذه الفاحشة أن الكبيرة منهما قالت لأختها :" أبونا قد شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض.... نحيي من أبينا نسلاً " (التكوين 19/31 - 32) فيصور النص الأرض وقد خلت من الرجال، أو أن المغارة سيمكث فيها لوط وابنتاه إلى الأبد. (1/5) يعقوب عليه السلام وأما يعقوب عليه السلام أصل بني إسرائيل، فهو أيضاً لم يسلم من مخازي التوراة، ولم يشفع له أبوته لهم، فتذكر التوراة أنه اشترى بكورية أخيه عيسو الذي يكبره من أبيه إسحاق ( التكوين 25/32 - 33 ). ثم تذكر أنه سرق البركة من أخيه الأكبر عيسو عندما خدع أباه إسحاق، فأوهمه أنه عيسو، ولم يستطع إسحاق أن يفرق بين ابنه ملمس الأكبر وجلد المعزي الذي وضعه يعقوب على يده (انظر : التكوين 27/16 - 24 ). فبارك يعقوب، وهو يظنه عيسو، وقال له: " رائحة ابني كرائحة حقل، قد باركه الرب، فليعطك الله من ندى السماء، ومن دسم الأرض، وكثرة حنطة وخمر، ليستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل، وكن سيداً لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين" ( التكوين 27/27 - 29 ). ثم بعد برهة جاء عيسو أباه فاكتشف الخدعة، ولكن بعد فوات الأوان. وهكذا فالبركة سرقت، وهذا يعتبر كذباً على الله واهب البركة، لا على إسحاق، ويتساءل المسلمون لماذا لم يسترد إسحاق بركته ؟ ثم ما هذه البركة التي تثمر خمراً واستعباداً للشعوب ؟ وهذه البركة لا يبدو لها عظيم أثر في حياة يعقوب، فقد جوزي على خديعته لأبيه، فخدعه خاله لابان، وزوجه ابنته الكبرى، وهي غير التي عقد له عليها. أي وقع في الزنا من غير عمد له (انظر : التكوين 29/24 ). وقد رد الصاع لخاله حينما خدعه في غنمه. ( انظر : التكوين 30/37 - 42 ). ثم لما شاخ اعتدى شكيم على ابنته واغتصبها. (انظر: التكوين 34/2 ). ثم زنى أحد أبنائه، وهو يهوذا بكنته ثامار، وأحبلها اثنين من أبنائه. (انظر: التكوين 38/18 ). ثم اعتدى ابنه البكر رؤابين على بلهة سرية يعقوب، واضطجع معها، ولم يحرك يعقوب ساكناً. (انظر : التكوين 35/21 - 22 ). فأين أثر البركة المسروقة في هذا كله؟ (1/6) موسى وهارون كما تسيء التوراة إلى موسى أعظم أنبياء بني إسرائيل، وتذكر كلمات لا يمكن أن تصدر من موسى لما فيها من إساءة أدب مع الله، منها: " فقال موسى للرب : لماذا أسأت إلى عبدك ؟ ولماذا لم أجد نعمة في عينيك حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب علي ؟ ألعلي حبلت بجميع هذا الشعب ؟ أو لعلي ولدته.. فإن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتلاً، إن وجدتُ نعمة في عينيك فلا أرى بليتي " (العدد 11/10 - 15)، فهل يتحدث عبد مع ربه بمثل هذا؟ وتذكر التوراة أن موسى في حربه مع أهل مديان - الذين مكث فيهم سنين - أمر بقتلهم شر قتلة، وحين لم ينفذ الجيش أمره " فسخط موسى على وكلاء الجيش رؤساء الألوف ورؤساء المئات القادمين من جند الحرب، وقال لهم موسى : هل أبقيتم كل أنثى حية؟ فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلاً بمضاجعة ذكر اقتلوها. لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن لكم حيات" ( العدد 31/14 – 18). ولم يخبر السفر عن طريقة التمييز بين الأبكار وغيرهن، فهل يأمر نبي بمثل هذا ؟ وأما هارون القدوس كما في سفر المزامير" هرون قدوس الرب" (المزمور 106/16)، فإن سفر الخروج يفتري عليه، ويتهمه بأنه الذي صنع العجل لبني إسرائيل ليعبدوه، فيقول: "قال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها. فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم، وأتوا بها إلى هارون، فأخذ ذلك من أيديهم، وصوّره بالإزميل، وصنعه عجلا مسبوكاً، فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر" (الخروج 32/2-4)، فهل هذا صنيع يصنعه قدوس الرب؟ ثم تذكر التوراة المحرفة أن الله حرم موسى وهارون من دخول الأرض المقدسة لخيانتهما لله وعدم إيمانهما: "فقال الرب لموسى وهارون: من أجل أنكما لم تؤمنا بي، حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل، لذلك لا تدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها" (العدد 20/12). (1/7) وفي موضع آخر يؤكد هذا السبب لحرمانهما من دخول الأرض المباركة، فيقول:" لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل عند ماء مريبة قادش، في برية صين، إذ لم تقدساني في وسط بني إسرائيل" (التثنية 32/51). وتذكر التوراة في قصة غريبة مبهمة من غير مقدمات لها، ومفادها أن الله أراد قتل موسى وهو في صحراء سيناء، حين كان متجهاً لدعوة فرعون كما أمره الرب، والذي أنقذه من القتل ذكاء زوجته صفورة وسرعة بديهتها، يقول السفر: "حدث في الطريق في المنزل أن الرب التقاه، وطلب أن يقتله، فأخذت صفّورة صوّانة، وقطعت غرلة ابنها، ومسّت رجليه، فقالت: إنك عريس دم لي، فانفكّ عنه عندما قالت: عريس دم من أجل الختان " (الخروج 4/24-26)، ولم يبين السفر سبب هذه الغضبة الإلهية، واكتفى ببيان هذه الطريقة الغريبة في استرضاء الرب، تعالى عن ذلك علواً كبيراً. (1/8) يشوع بن نون وأما يشوع وصي موسى فإن اسمه يقترن في التوراة بسلسلة من المجازر التي طالت النساء والأطفال والرجال والحيوان، وكنموذج لهذه المجازر نحكي قصة مجزرة أريحا التي لم ينج فيها سوى راحاب الزانية ومن يلوذ بها، وأما ما عداها فقد أمر يشوع : " حرّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم بحد السيف ". (يشوع 6/21 ). وفي مذبحة أخرى مشابهة "وصعد الشعب إلى المدينة، كل رجل مع وجهه، وأخذوا المدينة. وحرّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف" (يشوع 6/20-21). وفي موضع آخر تزعم التوراة أن يشوع قال لهم: " أحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها " (يشوع 6/24). ويستمر سفر يشوع في عرض سلسلة من المجازر التي طالت النساء والأطفال الأبرياء، وكل ذلك بأمر من يشوع، وحاشاه عليه السلام " وأخذ يشوع مقيدة في ذلك اليوم وضربها بحد السيف وحرّم ملكها هو وكل نفس بها.لم يبق شارداً. وفعل بملك مقيدة كما فعل بملك أريحا. ثم اجتاز يشوع من مقيدة وكل إسرائيل معه إلى لبنة، وحارب لبنة. فدفعها الرب هي أيضا بيد إسرائيل مع ملكها فضربها بحد السيف وكل نفس بها. لم يبق بها شارداً، وفعل بملكها كما فعل بملك أريحا. ثم اجتاز يشوع وكل إسرائيل معه من لبنة إلى لخيش ونزل عليها وحاربها. فدفع الرب لخيش بيد إسرائيل فأخذها في اليوم الثاني وضربها بحد السيف وكل نفس بها حسب كل ما فعل بلبنة. حينئذ صعد هورام ملك جازر لإعانة لخيش وضربه يشوع مع شعبه حتى لم يبق له شارداً. (1/9) ثم اجتاز يشوع وكل إسرائيل معه من لخيش إلى عجلون فنزلوا عليها وحاربوها وأخذوها في ذلك اليوم وضربوها بحد السيف وحرّم كل نفس بها في ذلك اليوم حسب كل ما فعل بلخيش. ثم صعد يشوع وجميع إسرائيل معه من عجلون إلى حبرون وحاربوها، وأخذوها وضربوها بحد السيف مع ملكها وكل مدنها وكل نفس بها.لم يبق شارداً حسب كل ما فعل بعجلون، فحرّمها وكل نفس بها. ثم رجع يشوع وكل إسرائيل معه إلى دبير وحاربها. وأخذها مع ملكها وكل مدنها وضربوها بحد السيف، وحرّموا كل نفس بها.لم يبق شارداً. كما فعل بحبرون كذلك فعل بدبير وملكها وكما فعل بلبنة وملكها. فضرب يشوع كل أرض الجبل والجنوب والسهل والسفوح وكل ملوكها.لم يبق شارداً، بل حرّم كل نسمة كما أمر الرب إله إسرائيل " (يشوع 10/28- 40). وقد رأينا بعد هذه السلسلة الطويلة من المجازر، والتي تذكر بمجازر اليهود اليوم كيف نسب السفر هذه الجازر المريعة لأمر الرب، فقال في آخره: " كما أمر الرب إله إسرائيل " ( يشوع 10/40 ). (1/10) داود عليه السلام وأما داود عليه السلام والذي يصفه القرآن بالأواب، فتخصه التوراة بقبائح لم تذكر لغيره منها أنه لما أراد الزواج من ابنة شاول ملك إسرائيل الأول ( طالوت ) قدم إليه مهراً عجيباً فلقد " قام داود، وذهب هو ورجاله، وقتل من الفلسطينيين مائتي رجل، وأتى داود بغلفهم (الجلدة التي تقطع في الختان)، فأكملوها للملك لمصاهرة الملك " ( صموئيل (1) 18/27 ). ويحكي سفر صموئيل عن رقص النبي داود وتكشف عورته، وهو فرح باسترجاع التابوت من يد الفلسطينيين، وقد استاءت زوجه ميكال من هذا المنظر، واحتقرته لأجله " كان داود يرقص بكل قوته أمام الرب ... أشرفت ميكال بنت شاول من الكوة ، ورأت الملك داود يطفر ويرقص أمام الرب ، فاحتقرته في قلبها .. وقالت : ما كان أكرم ملك إسرائيل اليوم حتى تكشف اليوم في أعين إماء عبيده ، كما يتكشف أحد السفهاء " ( صموئيل (2) 6/14 - 20 ). ثم تحكي التوراة قصة داود مع أوريا الحثي وزوجته "وكان في وقت المساء إن داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحمّ. وكانت المرأة جميلة المنظر جداً. فأرسل داود وسأل عن المرأة فقال واحد: أليست هذه بثشبع بنت اليعام امرأة أوريا الحثّي. فأرسل داود رسلاً وأخذها، فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهّرة من طمثها.ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت: إني حبلى. فأرسل داود إلى يوآب يقول: أرسل إلي أوريا الحثي، فأرسل يوآب أوريا إلى داود. فأتى أوريا إليه.. وقال داود لأوريا: انزل إلى بيتك واغسل رجليك.فخرج أوريا من بيت الملك وخرجت وراءه حصة من عند الملك. (1/11) ونام أوريا على باب بيت الملك مع جميع عبيد سيده ولم ينزل إلى بيته. فأخبروا داود قائلين: لم ينزل أوريا إلى بيته. فقال داود لأوريا: أما جئت من السفر. فلماذا لم تنزل إلى بيتك. فقال أوريا لداود: إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي؟ وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر. فقال داود لأوريا: أقم هنا اليوم أيضاً وغداً أطلقك، فأقام أوريا في أورشليم ذلك اليوم وغده. ودعاه داود فأكل أمامه وشرب وأسكره. وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده وإلى بيته لم ينزل، وفي الصباح كتب داود مكتوباً إلى يوآب وأرسله بيد أوريا. وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه، فيضرب ويموت". (صموئيل(2)11/2-26). وكان كما أراد، ومات أوريا، وضم داود تلك الزانية إلى زوجاته، ومنها أنجب سليمان، الذي يشرفه كتاب الأناجيل ، فيجعلونه أحد أجداد المسيح. ثم تحكي الأسفار عن مجازر يشيب لها الولدان فعلها داود بالعمويين، فقد " أخرج الشعب الذي فيها ووضعهم تحت مناشير ونوارج حديد وفؤوس حديد، وأمرَّهم في أتون الآجر، وهكذا صنع بجميع مدن عمون، ثم رجع داود، جميع الشعب إلى أورشليم " (صموئيل (2) 12/31). سبحانك هذا بهتان عظيم. (1/12) لكن العجب العجاب أن كل ما نسبته الأسفار زوراً لنبي الله داود، لم يمنعها من وصفه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وجعله المثل الأعلى والمقياس الأوفى الذي يوزن به ملوك بني إسرائيل، فقد ذكرت الأسفار أن الله لم يمزق مملكة سليمان إكراماً لأبيه الذي حفظ وصايا الله، فتقول: " ولا آخذ كل المملكة من يده، بل أصيره رئيساً كل أيام حياته، لأجل داود عبدي، الذي اخترته، الذي حفظ وصاياي وفرائضي" (الملوك (1) 11/34)، ويؤكد سفر الملوك استقامة داود على فرائض الله، وتنعي على سليمان أنه لم يكن مثل أبيه الذي اتبع أوامر الله بالتمام، فتقول: "عمل سليمان الشر في عيني الرب، ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه" (الملوك (1) 11/6). (1/13) سليمان عليه السلام وأما سليمان النبي الحكيم الذي يشهد له القرآن والتوراة بالحكمة (انظر الأيام (2) 2/12). فقد كان له نصيب أكبر من سلسلة المخازي التوراتية، فقد جعلته التوراة عابداً لأصنام نسائه اللاتي بلغن ألفاً، كما بنى المعابد لعبادتها، فغضب عليه الرب وسخط، تقول التوراة: "كانت له سبع مائة من النساء السيدات وثلاث مائة من السراري فأمالت نساؤه قلبه، وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه. فذهب سليمان وراء عشتورث إلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين، وعمل سليمان الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه، حينئذ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي تجاه أورشليم، ولمولك رجس بني عمون، وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كنّ يوقدن ويذبحن لآلهتهنّ. فغضب الرب على سليمان، لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين وأوصاه في هذا الأمر أن لا يتبع آلهة أخرى، فلم يحفظ ما أوصى به الرب، فقال الرب لسليمان: من أجل أن ذلك عندك ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها، فإني أمزق المملكة عنك تمزيقاً وأعطيها لعبدك" (الملوك (1) 11/3-11). وكانت الأسفار قد أثنت على سليمان، وذكرت بشارة الله لأبيه داود بهذا الابن الذي سيبني بيت الله، وتصفه بالبر والطهارة الذي عبرت عنه بلفظة البنوة لله، وهو ما يراد منه كما هو معهود في التوراة، تقول البشارة لداود: "هوذا يولد لك ابن، يكون صاحب راحة، وأريحه من جميع أعدائه حواليه، لأن اسمه يكون سليمان، فأجعل سلاماً وسكينة في إسرائيل في أيامه، هو يبني بيتاً لاسمي، وهو يكون لي ابناً، وأنا له أباً" (الأيام (1) 22/9-10). (1/14) ونتساءل : فما فائدة النبوات بعد ذلك كله ؟ وهل هذا يصدر عن وحي السماء ؟ ثم لو كان ذلك الذي ذكرته التوراة من المخازي حقاً فما فائدة ذكره ؟ ما الفائدة منه حتى يسطره الله في وحيه؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. (1/15) ( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ) التوجيهات الإلهية للفرد المسلم من خلال القصص القرآني في سورة القصص التوجيهات الإلهية للفرد المسلم من خلال القصص القرآني في سورة القصص بقلم المحامي الدكتور مسلم اليوسف http://www.saaid.org/Doat/moslem abokotaiba@hotmail.com { المقدمة } الحمد لله حمداً كثيراً على نعمه التي لا تعد ولا تحصى , وصلى الله على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . وبعد : إن الحياة على هذه الأرض بالنسبة للشاب العصري حياة صعبة كثيرة العقبات والمتاهات ولابد للمسلم الذي يبتغي حياة حسنة ونعيماً أبدياً في الآخرة من الأخذ بكل ما في القرآن الكريم من هدى ونور فيجعلها المقياس الذي يقيس أفعاله والمصباح الذي ينير دربه . لقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة سمحة سهلة تتسع لكل مطالب الناس وتفي بمستلزمات الحياة سواء كان ذلك يتصل بتنظيم الدنيا أو الدين . هذه الرسالة العظيمة فصلت بكل ما يتعلق بالشؤون الدينية الصرفة تفصيلاً دقيقاً يجعل المؤمن على بصيرة في أمره . وعلى هدى مستقيم وهي في الوقت نفسه قد أجملت ما يتعلق بتنظيم الدنيا واستغلال خيرات الكون لتتيح للمسلم سبيل التقدم والتطور . ولكي يستطيع المسلم أن يتقدم ويتطور لابد له من دراسة القرآن دراسة عميقة وفق دراسة وفهم السلف الصالح . لذلك حاولت دراسة هذه السورة الكريمة دراسة موضعية , وحاولت أن استنتج ما في هذه السورة الكريمة من توجيهات إلهية للفرد المسلم من خلال قصصها الكريمة . فقسمت البحث إلى ثلاثة أبواب وأعطيت كل باب منها عنواناً ملائماً لمضمون الآيات أيضاً قسمت كل باب منها إلى مباحث تلائم الموضوع , فكان البحث على النحو التالي : الباب الأول : سبعة مباحث . الباب الثاني : خمسة مباحث . الباب الثالث : مبحثين فقط . وبدأت تلك المباحث والأبواب بتمهيد عرفت فيه القصة لغة واصطلاحاً وبينت بعض خصائص القصة القرآنية وأهدافها , ثم بدأت بالباب الأول وأعطيته عنواناً ملائماً لموضوع الآيات وكذلك كانت باقي الأبواب . (1/1) أما عن طريقة معالجتي للأبحاث فكانت على النحو التالي : لقد استعنت بأمهات كتب التفسير لفهم وشرح الآيات وكذلك استعنت ببعض الكتب الحديثة التي تعالج القصة عموماً والقصة القرآنية خصوصاً وحاولت جهدي أن استخلص التوجيهات الإلهية من الآيات فكان هذا البحث المتواضع . وأخيراً ختمت البحث بخاتمة لخصت بها البحث وبينت أهميته للفرد المسلم فأرجو أن يكون عملي هذا لوجه الله تعالى مفيداً لعموم المسلمين . والله من وراء القصد . د. مسلم اليوسف ... حلب سورية ... هاتف : 00963955453111 { التمهيد } القصة فن من الفنون له مكانته العالية الشامخة في الآداب العالمية حتى اعتبارها كثير من النقاد المعاصرين " سيدة الآداب المنثور " دون ريب , لهذا اتخذها كبار الكتاب وسيلة للتعبير واشتهر عن طريقها معظم الأدباء العالميين .(1) وليست هذه المكانة الهامة للقصة قاصرة على زمن معين دون سواه , بل هي كما يرى والترابن(2): " أكثر الأنواع الأدبية فعالية في عصرنا الحديث بالنسبة للوعي الأخلاقي ذلك لأنها تجذب القارئ لتدمجه في الحياة المثلى التي يتصورها الكاتب كما تدعوه ليضع خلائقه تحت الاختبار , إلى جانب أنها تهبنا من المعرفة ما لا يقدر على هبته أي نوع أدبي سواها وتبسط أمامنا الحياة الإنسانية في سعة وامتداد وعمق وتنوع ".(3) القصة لغة واصطلاحا واطلاقات القرآن الكريم عليها : يستعمل القرآن الكريم في التعبير عن هذا اللون من موضوعاته الكلمات الدالة المعبرة عن الحقائق والمقاصد الضخمة التي تشتمل عليها .(4) القصة لغة : نذكر من هذه الكلمات " قصص – قص أثر أي تتبعه . قال تعالى : " فارتدا على آثارهما قصصاً " . __________ (1) - سلام , محمد زعلوم , دراسات في القصة العربية الحديثة , القاهرة ص3 . (2) - كتاب انكليزي . (3) - المرجع السابق ص3 . (4) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , جامعة دمشق , كلية الشريعة عام 1988 م0ص0220 . (1/2) والقصة : الآمر الحديث وقد اقتصيت الحديث : رويته على وجهه . والقصص , بكسر القاف جمع القصة التي تكتب والأقصوصة جمع أقاصيص القصة القصيرة .(1) القصة اصطلاحاً : يعرف الأدباء المعاصرون القصة تعريفات شتى لعل أقربها إلى جوهر القصة الحديثة هي : " حكاية نثرية طويلة تستمد من الخيال أو الواقع أو منهما معاً , وتبنى على قواعد معينة من الفن الكتابي ".(2) أما القصص القرآني فهو من القصص الواقعي التاريخي كما صرح بذلك القرآن في آياته .(3) خصائص القصة القرآنية وأهدافها : إن أكثر خصائص القصة القرآنية وضوحاً هي : أولاً – الإيجاز : إن خاصة الإيجاز المعجز فيما أورده القرآن الكريم من أخبار الأمم وقصص الرسل والأيام الغابرة من الخصائص الجديرة بأن تلفت نظر الباحث ليتعمق بها بكل ما فيها من آلام وآمال وعبر ومواقف عظيمة وعصبية .(4) ثانياً – وحدة الغاية في كل ما ورد في القرآن الكريم من أخبار وأنباء وقصص(5)فهي دعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى . وهذه الغاية تتكون من عناصر أهمها : 1- أن الله واحد لا شريك له . 2- أن قدرة الله سبحانه وتعالى عظيمة غير متناهية . 3- أن الرسل عباد للرحمن يرسلهم على الناس لتهديهم إلى الدين القويم وهؤلاء الرسل أسرة واحدة يكمل بعضهم بعضاً . 4- أن هؤلاء الرسل لبشريتهم حينما يدعون الناس إلى الدين الصحيح يجدون صداً وعزوفاً , ثم لا يلبثان أن يصبحا عداوة وكرهاً . 5- أن الله جل جلاله يؤيد رسله بمعجزات لإثبات صدقهم . 6- أن الرسل يصبرون أمام جحود وعناد الكافرين(6). __________ (1) - الجوهري , تجديد الصحاح في اللغة والعلوم دار الحضارة العربية بيروت مج 2/ 313 – 314 . (2) - المرجع السابق ص 314 . (3) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , ص 221 . (4) - رضوان , فتحي , القصة القرآنية , القاهرة – دار الهلال 1978 م , ص 12 . (5) - المرجع السابق ص 8 . (6) - المرجع السابق ص 24 . (1/3) 7- ولعل الغاية الكبرى والهدف الأعظم للقصة القرآنية هو : إعجاز القرآن , وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . 8- تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية نفوس صحبه وإخوانه من خلال نصر الله تعالى لرسله وأوليائه وزجر الضالين والمعاندين وزحزحتهم عن مواقفهم فتتأثر النفوس بحسب ما تحتاج إليه . إذ يتولى عليها بيان نصر المؤمنين وخذلان الكافرين " وإحقاق الحق وإزهاق الباطل ويتكرر رفع راية العدل وسحق قوة الظلم من خلال القصص التي يذكرها القرآن , بل بما يقع فيه التصريح بهذا التنبيه وإثارة هذه العقبة في كثير من مناسبات القصص(1). 9- بث القيم الدينية الواضحة وترسيخ أسس الدين القويم بما يقع في طيات القصص من حوار ومواعظ يصغي إليها السامع ويتابعها القارئ سواء أكان موافقاً أو مخالفاً مؤمناً أو جاحداً لما في طبيعة القصص القرآنية من التشويق والإثارة .(2) إن القرآن الكريم اصطفى من الأحداث التاريخية الهامة في حياة المخلوقات ما يخدم الدعوة الإسلامية ويرسخ عقيدتها ويوجه المسلم توجيهاً صحيحاً ويفتح للناس طرقاً للعبرة والعظة منها كما أنه تخير من هذه الأحداث ما رآه صالحاً لبناء الصورة المحققة لهذه الغاية .(3) * ... * * الباب الأول موسى و فرعون البحث الأول طغيان فرعون بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " طسم {1} تلك آيت الكتب المبين {2} نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون {3} إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناهم ويستحي نساهم إنه كان من المفسدين {4} ونريد أن نحق على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم الوارثين {5} ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهمان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون {6} . __________ (1) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , ص222 . (2) - المرجع السابق ص222. (3) - الخطيب , عبد الكريم , القصص القرآني في منطوقه ومفهومه , بيروت لبنان 1975 ص 73 . (1/4) بين يدي هذه الآيات المعجزات التي فيها كثير من التوجيهات الإلهية للفرد المسلم تنير له دربه الذي قد يظلم وقد تكتنفه كثيراً من الصعوبات والأخطار والمهالك الجسدية والنفسية وغيرها ولولا رحمة الله سبحانه وتعالى علينا بإنزال هذه الآيات المباركات لتكون لنا شعلة من الضياء لتنير لنا درب السعادة والهناء ولكي تكون موجهاً للفرد المسلم في حياته الدنيوية وصعوباتها المختلفة . لكانت حياة صعبة سوداء أليمة على عباد الله الصالحين . قال تعالى : " تلك آيات الكتب المبين " فهذا الكتاب واضح جلي للمؤمنين به كاشف " عن حقائق الأمور وعلم ما قد كان وما هو كائن "(1). وهو مبين للذين آمنوا " الحق من الباطل والحلال من الحرام , وقصص الأنبياء ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم "(2). فهذه أخبار موسى عليه والسلام وفرعون تتلى على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ليعتبر بما فيها من المواعظ والحكم المؤمنين(3). فرعون طاغية كغيره من الطغاة في كل العصور والأزمان " تكبر وطغى"(4). " وجاوز الحد في الظلم والعسف "(5). واستكبر في البلاد وجعل أهلها فرقاً يقرب بعضها إليه ويسخر بعضها الآخر ويستضعف منهم بني إسرائيل فيذبح ذكورهم ويستبقي نساءهم(6). " أنه كان من المفسدين " . __________ (1) - ابن كثير , أبو الغداء إسماعيل , تفسير القرآن العظيم , دار الفكر , بيروت ج 3 / 379 . (2) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن , الهيئة المصرية , العامة للكتاب 1987 , ج13 / 247 . (3) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسيره القرآن الكريم , القاهرة 1992 م ص 575 . (4) ابن جزي , محمد بن أحمد , تفسير ابن جوزي , دار الكتاب العربي , بيروت 1983 . ص 514 . (5) - الخوارزمي الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن ص 575 . (6) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن ص 575 . (1/5) لذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد بني إسرائيل لتصور فاسد(1). لا يعني عن قضاء الله وقدره شيئاً إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون . يقول تعالى : " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " . فالله جل جلاله أراد أن يتفضل على الذين استضعفهم فرعون وجنوده فجعلهم هداة إلى الخير(2). " وولاة وملوكاً(3)" . فهذه الآية الكريمة توجه المسلم إلى معرفة قدرة الله سبحانه وتعالى وأن أمره نافذ فإذا أراد خيراً بعبد فلا يمكن لأي مخلوق مهما كان على درجة عالية من العلم والقوة والبطش أن يقف سداً مانعاً لوصول الخير على ذلك المؤمن فعندما يقرأ المؤمن هذه الآية تسري في عروقه فتكون له سكناً ودواء ليواصل طريقه الشاق في هذا العصر الأليم الذي ضاع فيه أبناء هذا الدين ووقعوا في هاوية المادية ونسوا كتاب الله وسنة رسول الله ولم يعتبروا بما حصل للطغاة والمفسدين من أمثال فرعون وهامان وجنودهما " من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم "(4). __________ (1) - البيضاوي , عبد الله بن عمر بن محمد بن علي , أبو الخير , ناصر الدين تفسير البيضاوي , دار المعرفة , ج2 / 209 . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن العظيم , ص 575 . (3) - النسفي , أبو البركان عبد الله بن أحمد بن محمود , المسمى مدارك التنزيل وحقائق التأويل , دار الفكر , بيروت , ج2 / 226 . (4) - البيضاوي , عبد الله بن عمر بن محمد بن علي , أبو الخير , ناصر الدين تفسير البيضاوي , ج2 / 209 , وانظر , الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي مفاتيح الغيب المعروف بالتفسير الكبير , الطبعة الثانية بالمطبعة العامرية الشرقية – 1324 هجرية . ج / 6 / 425 . (1/6) فهذا نبي الله موسى قتل فرعون من أجله ألوفاً من أطفال بني إسرائيل ثم تربى على فراشه وفي داره أكل طعامه وشرب فكان أمر الله . فأهلك على يديه فرعون وآله " لتعلم أن رب السموات العلا هو القاهر الغالب العظيم القوي العزيز الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن(1)" . إن هذه الآيات البينات تبين لنا أن النسب والقرابة من الأنبياء والرسل لانتفع الذين كفروا , فهذا فرعون تبنى موسى ورباه في داره وعلى سريره فلم يغن ذلك عنه من الله شيئاً كذلك لا تنفعنا قرابتنا ونسبنا من رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إن لم نكن مؤمنين بالله ومحمد رسول الله . ففرعون قد علا في الأرض يظلم ويستبد ويتخذ من رعيته سيوفاً يضرب بعضها بعضاً " وتلك عادة الطغيان في كل زمان ومكان لا يدع الرعية تتماسك وتتحاب خوفاً من تكتلها على إزالة سلطانه والقضاء على غطرسته "(2). بيد أن الله جل جلاله قد قتله وجعله عبرة لمن يعتبر فتلك سنة الله سبحانه في الطغاة والجاحدين سمعناها من خلال فرعون وآله ورأيناها في رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وعايشناها في حياتنا الحاضرة " فحياتنا الحاضرة أكبر شاهد وأوضح مثال فهي سنة مطردة يعامل الله بها كل من حاد عن طريقه وطغى "(3). أو أبعد الناس عن طريق الإسلام والهدى والرشاد . لنأخذ بعض الآيات ولنحاول أن نستظل بها في هذا العصر الأليم . قال تعالى : " نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون" ولكن من هم أولئك الذين يستطيعوا أن يستفيدوا من توجيهات تلك الآيات والخالق العظيم قد ذكرهم في كثير من الآيات . قال تعالى : __________ (1) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل , تفسير القرآن العظيم ج3 / 380 . (2) - شلتوت , محمود إلى القرآن الكريم , دار الهلال , 1964 , ص141 . (3) - المرجع السابق ص 141 . (1/7) " ألم " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يؤمنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون "(1). وهكذا نرى أن الذين يستفيدون من الحكم والتوجيهات الإلهية هم الذين يؤمنون بالغيب بكل ما فيه وهم الذين يقيمون الصلاة ومما رزقهم ربهم ينفقون . وذكر البيان الإلهي أيضاً شروطاً أخرى هي الإيمان بجميع الكتب التي أنزلت قبل القرآن الكريم والإيمان اليقيني باليوم الآخر هؤلاء هم الذين يستفيدون من التوجيهات الإلهية المتواجدة في الآيات البينات . قال تعالى : " إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساهم إنه كان من المفسدين " . تأمل أخي المؤمن هذه الصورة المنقوشة في هذه الآية تجد لها بكل تأكيد نسخا في كل العصور على مر الأزمان فلكل عصر من العصور فرعون وفي هذا العصر الأليم ليس فرعونا واحداً بل فراعنة . لقد تكاثر علينا الفراعنة حتى وجد في داخل كل منا فرعونه الخاص به يقاومه حيناً ويغلبه حينا ويغلب حيناً آخر . الروح الفرعونية تسري في عروقنا مع الدماء تلوث دمانا وهوانا وأفكارنا وعقولنا . لقد اختلت مشيتنا وزاغ نظرنا وتلعثم لساننا . نسينا لغتنا أهملنا قرآننا وسنة نبينا , ركضنا مع الراكضين وزحفنا مع الزاحفين وغلبنا مع المغلوبين . تاهوا وتهنا , ضاعوا فضعنا . قالوا فقلنا . فعلوا ما فعلينا , هجموا ما هجمنا , انتصروا ما انتصرنا . شلت أقدمنا ونشفت أقلامنا وتعفنت جروحنا ما بقى من أوصاف المهزومين صفة إلا ونسبت إلينا . خططوا فنفذنا , ابتدعوا فاعتقدنا , قالوا فسمعنا وحفظنا . __________ (1) - سورة البقرة , الآية – 1 – 5 . (1/8) ولكن لكل شيء نهاية ولكل فرعون موسى ألا حانت ساعتك يا فرعون هذا العصر . جميع الأمة من شبابها وكهولها , أطفالنا ونساها تنادي موسى العصر . لقد حان موعدك يا فرعون لقد حان موعدك يا فرعون . لقد قتل فرعون الأبناء واستحي النساء وأفسد في الأرض ما أفسد استضعف البشر وجعلهم شيعاً . وفراعنة هذا العصر يقلدون إمامهم الأكبر ذبحونا في البوسنة والهرسك قتلوا الأبناء وفتكوا بالنساء وأفسدوا في الأرض ما أفسدوا وها أنا الآن أتصفح كتاب أسمه " إستراتيجية التنصير في العالم الإسلامي "(1). اقرأ فيه المؤامرات التي تحاك على جوهرة التوحيد الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله , المؤامرة تلو المؤامرة تنسج وتحاك في الخارج ثم تصدر إلينا ليشتريها المسلمون ونحن ههنا قاعدون متوكلون لا نحرك ساكناً . أخي المؤمن : أنت ترى كم نحن مستضعفون في الأرض يذبح أبنونا في كل مكان وتستحي نسائنا وتمحى عقولنا وثقافتنا بأيدينا . ألم يحن بعد ساعة التأمل والتفكير . أخي المؤمن : بدون تردد تعال نقول ونفعل ما قال الخالق العظيم في كتابه الكريم . " فقل تعالوا ندع أبنانا وأبناكم ونسأكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين "(2). " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً من دون الله فإن تولوا فقالوا اشهدوا بأنا مسلمون "(3). والله سبحانه وتعالى سيكون معنا , قال تعالى : " ونريد أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين " . فالله سبحانه وتعالى يمن على الذين اضعفوا في الأرض نجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين . __________ (1) - عمارة , محمد , إستراتيجية التنصير في العالم الإسلامي , مركز دراسات العالم الإسلامي الطبعة الأولى شتاء 1992 م . (2) سورة آل عمران . الآية 61 . (3) سورة آل عمران . الآية 63 . (1/9) ونحن أمة الإسلام استضعفنا في الأرض وحان موعد العودة إلى كتاب الله وسنة رسول الله ليمن الله علينا فيجعلنا أئمة ويجعلنا الوارثين كما فعل مع أجدادنا الصالحين . أخي المسلم عد إلى كتاب الله وسنة رسول الله وسوف يمكن لنا الله تعالى الأرض مهما كان عدوما جباراً وقوياً فالله سبحانه وتعالى عز وجل قال تعالى : " ونمكن لهم الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " . فالله سبحانه وتعالى مكن المستضعفين في الأرض فجعلهم أئمة يهدون إلى الخير بأمر ربهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . ونحن أيضاً سيرضى علينا الخالق العظيم فيمكن لنا ديننا الذي أرضاه لنا فيجعلنا أئمة ندعو إلى الخير بالمعروف وننهى عن المنكر والله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء . * * * المبحث الثاني كيد الظالمين في نحورهم بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين {7} فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزنا ً إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين {8} وقالت امرأت فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون {9} " . بين أناملي هذه الآيات العظام المعجزات التي تحوي بين طياتها توجيهات لا تقوم بثمن لما فيها من النكث البلاغية والصور البيانية والحكم التي توجه المسلم نحو حياة أفضل وأسهل . يقول جل جلاله : " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " . روي أن فرعون لما أكثر من قتل مواليد بني إسرائيل خافت القبط أن يغني بني إسرائيل فيلون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الوضيعة الشاقة . (1/10) فقالوا لفرعون إنه يوشك أن استمر هذا الحال أن يغني شيوخ بني إسرائيل وغلمانهم يقتلون نساؤهم لا يمكن أن يقمن بما تقوم به رجالهم من الأعمال الشاقة فيخلص إلينا ذلك فأمر بقتل الوالدان عاماً وتركهم عاماً فولد هارون في السنة التي يتركون فيها الولدان وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها الولدان(1). وألهم الله سبحانه وتعالى أم موسى عليه السلام أن أرضعيه مطمئنة الفؤاد فإذا خشيت عليه من فرعون أن يعرف أمره ضعيه في صندوق وألقيه في النيل غير خائفة ولا محزونة . فقد تكفل الله بحفظه ورده إليها وأنه جل جلاله مرسله إلى بني إسرائيل(2). والجدير بالذكر هنا أن قوله تعالى : " وأوحينا إلى أم موسى ليس بوحي نبوه بل ألهمناها وقذفنا في قلبها فالنساء لا يمكن أن يكن مرسلات أو نبيات بل يمكن أن يكن صالحات ووليات . فقذفته في اليوم خوفاً عليه وطمعاً في نجاته فأخذه أتباع فرعون ليتحقق ما قدره الله سبحانه وتعالى بأن يكون موسى عليه السلام هاديا ورسولاً للمؤمنين وعدوا لدوداً لفرعون وآله مثيراً لأحزانهم(3)وهادماً دنياهم ودينهم ففرعون وهامان وأمثالهم في كل مكان وزمان كانوا خاطئين في كل شيء " عاصين ربهم في أفعالهم " . فعاقبهم الله سبحانه وتعالى فربى عدوهم ومزيل ملكهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم(4). __________ (1) - ابن كثير , أبو الغداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم ج 3/ 38 بتصرف . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 576 . (3) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 576 . (4) - النفسي , أبو البركات , عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 / 227 . وأنظر , الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 4225 . (1/11) " وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك " . ذلك لما رأته قالت لزوجها هذا الطفل مبعث سرور لي ولك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداة الله به كما هداها ولكنه أبى إلا للشقاء الذي كتبه الله عليه(1)" . فهداها الله به وأسكنها الجنة بسببه عليه السلام فقبل فرعون ذلك وهو " على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه "(2). من دون أن يشعر بأن هلاكهم وفناء ملكهم على يديه(3). ذلك أن وعد الله حق فقد تكفل الله سبحانه تعالى لأم موسى بحفظه ورده إليها فكان أمر الله مفعولاً فرده إليها لتربية وتشبع عينيها منه ثم شب موسى وأرسل فكان رحمة لزوجة فرعون وحزناً لفرعون وأتباعه إلى يوم الدين . أخي المسلم هيا بنا لنقف تحت ظلال هذه الآيات لنريح عقولنا ونستنبط ما نستطيع من توجيهات لعلها تكون لنا عوناً في هذا العصر المظلم . قال الخالق العظيم : " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فالقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " . توجهنا هذه الآية الكريمة بأن علينا إتباع أوامر الله سبحانه وتعالى مهما كانت حتى ولو ظاهرها خطر وفناء ذلك أن الله سبحانه وتعالى وعده حق فإذا وعد كان حق لقد أوحى إلى أم موسى أن ألقيه في اليم إذا خفت عليه ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك سالماً وجاعلوه من المرسلين فالخالق العظيم وعد أم موسى بسلامة موسى فكان وعده حق . والله سبحانه وتعالى وعدنا بالنصر وإظهار الدين على كل الأديان ولوضع الكافرون المكائد والمصائد في عقول وطرق المسلمين . __________ (1) - وانظر الخوارزمي , جار الله محمود , الكاشف , ج3 / 166 . (2) - الخوارزمي , جار الله محمود , الكاشف ج3 / 166 . (3) - ابن جزي , محمد بن أحمد بن جزي , تفسير ابن جزي ص 514 . وانظر مجمع البيان ج6 / 261 , وتفسير القرطبي ج13 / 254 . (1/12) حفروا الحفائر ووضعوا المصائد وخططوا الخطط ورجالهم نفذوا ما خططوا لهم بيد أن وعد الله حق فلا بد أن ينصرنا عليهم ولو كره الكافرون . في الماضي البعيد احتلوا أرضنا واستعمروا شعبنا ونهبوا ثروتنا فاستطاع الأجداد بعون الله تعالى اقتلاعهم فوضعوا تلاميذهم من أبناء جلدتنا ورثوهم الضلال الذي يريدون فكان الذي كان وحصل الذي حصل بيعت فلسطين بأرخص الأسعار وفككت البلدان وفرقت على الطغاة والحاقدين . ولكن هل نستسلم أو نيأس والله سبحانه وتعالى قد وعدنا بالنصر وإظهار دين الحق على كل الأديان . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال عصابة من المسلمين يقاتلن على الحق ظاهرين على من ناوءاهم إلى يوم القيامة "(1). وسنظل نؤمن بالله وبوعده وبنصره القريب . وقال تعالى : " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد "(2). * * * المبحث الثالث إن وعد الله حق بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " وأصبح فؤاد أم موسى فراغاً إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين { 10 } وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون { 11 } وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون { 12 } فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون {13}". أمام عيني هذه الآيات الكرام التي تبرهن بأن وعد الله حق لا ريب فيه فهذه أم موسى قد أصبح فؤادها فارغاً " من كل شيء إلا ذكر موسى "(3). __________ (1) - رواه المسلم . (2) - سورة غافر – آية 51 . (3) - أنظر ابن كثير , أبو الغداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم ج 3 / 381 . 43- القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن , ج13 / 255 . (1/13) لما دهمها من الجزع بوقوع ولدها في يد الطاغية فرعون ولكن رحمة الله واسعة فقد ربط على قلبها بالإيمان(1)ورزقها الصبر واليقين(2)لتكون من المؤمنين . وقالت لأخته اتبعي أثره وخذي خبره وتطلبي شأنه من نواحي البلد فصبرت به عن بعد(3)وآل فرعون لا يشعرون بها { وحرمنا عليه المراضع من قبل } . أي تحريما قدرياً ذلك لكرامته وعلو شأنه عليه السلام عند ربه عز وجل وصيانة له أن يرتضع غير ثدي أمه لأن الله سبحانه وتعالى جعل الرضاعة سبباً إلى رجوعه إلى أمه لترضعه وهي آمنة مطمئنة(4) { ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون } أي لتعالم بأن وعد الله حق بأنه سبحانه وتعالى سوف يرده إلى أمه لتقربه عينها وليطمئن فؤادها ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه حق فيرتابون " وذلك لإعراضهم عن النظر في آيات الله سبحانه وتعالى "(5). فالآيات السالفة توجهنا نحن شباب هذه الأمة لنسير سيراً منتظماً مستقيماً لا يهمنا في إتباع الحق والعمل به لومة لائم , إن الله جل جلاله يساعد المؤمنين وينقذهم من المهالك والصعاب ولعل أصدق مثال على ذلك قصة الصديقة أم موسى كادت لتبدي به لولا أن ربط الله سبحانه وتعالى على قلبها بالإيمان والنصر لتكون من المؤمنين المصدقين بوعد الله بأنه جل جلاله سيرده إليهما سالماً غانماً لتقربه عينها ويطمئن فؤادها . لنقف عند بعض الآيات الكرام ولنستنتج ما بها من التوجيهات . __________ (2) - ابن جزي , محمد بن أحمد , تفسير ابن جزي , ص514 . (3) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن ج13 / 255 . (4) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 381 . (5) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 429 , وانظر تفسير الكشاف ج3 / 168 , (1/14) قال تعالى : " وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً وإن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين " . لنتأمل هذه الصورة التعبيرية الكريمة . فهذه أم موسى قد أصبح فؤادها فارغاً من كل شيء غلا من ذكر موسى وتصوره بيد أن رحمة الله أوسع من كل شيء فقد رزقها الصبر واليقين لتكون من المؤمنين . أخي المسلم كم سمعت من أم مجاهد ودعت ولدها الوداع الأخير ولولا فضل الله عليها ورحمته لأصبح مصيرها مجهولاً . قال تعالى : " فرددناه إلى أمه كي تقرعينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون " . نعم والله أكثر الناس لا يعلمون بأن وعد الله حق إذا ما أراد شيئاً أنه يقول له كن فيكون فنحن هاهنا ضعفاء تفترسنا الذئاب البشرية وتفتك بأجسادنا الجرائم التي زرعت فيها . أرضنا محتلة ونفوسنا مستزلة ونحن ضعفاء على رغم من كثرتنا لا نملك من المال إلا القليل ومن السلاح إلا العتيق ولا نملك من القول إلا حروفه ومن الفعل إلا صوته . والله أنزل علينا كتاباً قيماً لنتدبره ولنعلم أن وعد الله حق ولسوف يردنا إلى ديننا الذي ارتضاه لنا رداً حسناً ولسوف ينصرنا بفضله على أعدائنا لنقيم الحق ونزهق الباطل بكافة أشكاله وألوانه ذلك أن وعد الله حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون . * * * المبحث الرابع جزاء المحسنين بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " ولما بلغ أشده واستوى آتينه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين {14} ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان غنه عدو مضل مبين {15} قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم {16} قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين {17} " . (1/15) بين أناملي وفي قلبي هذه الآيات المبشرات التي تبشر بالخير والفلاح والعلم والحكم لعباد الله المؤمنين المحسنين فهذا نبي الله موسى عليه السلام لما بلغ " كمال القوة الجسمانية والبدنية والعقلية "(1). وهبه الله جل جلاله فقها وعلماً بدينه ودين آبائه(2). كذلك فإن الله عز وجل يجزي المحسنين " قال الزجاج جعل الله تعالى إيتاء العلم والحكمة محازاة على الإحسان لأنهما يؤديان إلى الجنة(3)" . فالنبوة أعلى الدرجات البشرية فلا بد أن تكون مسبوقة بالكمال والعلم والسيرة الحسنة المرضية التي هي أخلاق الكبراء والحكماء ولكن هنا لابد من الإشارة إلى اللبس الذي يقع به البعض في تفسير قوله تعالى : " وكذلك نجزي المحسنين " . من تفسيرها بأن النبوة يمكن اكتسابها عن طريق الإحسان بيد أن هذا اللبس يمكن أن يزال بالفهم الصحيح للآية المذكورة ذلك " أن المراد بالحكم والعلم لو كان هو النبوة لوجب حصول النبوة لكل من كان من المحسنين لقوله وكذلك نجزي المحسنين لأن قوله وكذلك إشارة على ما تقدم ذكره من الحكم والعلم ثم بين إنعامه عليه قبل قتل القبطي "(4). وفي أحد الأيام دخل موسى عليه السلام السوق فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما من شيعته والآخر من قوم فرعون فاستعان به الإسرائيلي على خصمه فأعانه عليه بضربة بقبضة يده فقتله من غير قصد(5). __________ (1) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 429 . وانظر تفسير البيضاوي ج2 / 209 . (2) -في تفسير الكشاف { العلم } التوراة و{ الحكم } السنة . (3) - النسفي , أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 / 229 وفي تفسير البيضاوي { نجزي المحسنين } مثل ذلك الذي فعلنا بموسى وأمه , نجزي المحسنين على إحسانهم . (4) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب ج6 / 430 . (5) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن , ص577 . (1/16) فأسف موسى وقال : " إن إقدامي على هذا من عمل الشيطان إن الشيطان لعدو ظاهر العداوة واضح الضلال "(1). فندم موسى عليه السلام على ما فعل وتاب إلى الله توبة صادقة نصوحاً فأجاب الله سبحانه تعالى دعوته وغفر له إن الله هو الغفور الرحيم(2). فقال موسى عليه السلام " يا رب بحق إنعامك علي بالحكمة والعلم وفقني للخير والصواب فإذا وفقتني فلن أكون عونا للكافرين "(3). ذلك أن موسى عليه السلام كان يركب ركوب فرعون ويصحبه كالوالد لذلك تاب إلى الله تعالى(4). وقال : " فلن أكون ظهيراً للمجرمين " . إن الإنسان لا يبلغ أشده ويستوي ويؤتيه الله تعالى العلم والحكمة أو يؤتيه الرياسة حتى يصبح معقد أمل شيعته وقلبه شعبه(5)وخصوصاً إذا ما أنعم الله عليه بالإحسان فعمل بما علم عندها يرزق بفضل الله الحكمة ولعل هذا القانون الإلهي يجب أن أكون دافعاً وموجهاً لشباب هذه الأمة لكي تتعلم فإذا علمت وعلمت بما علمت وهبت من الله جل جلاله العلم والحكمة فتقود الأمة إلى سيرتها الأولى لتكون خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن النكر . والجدير بالأهمية في هذه الآية هي رحمة الله الواسعة , فموسى أخطأ فغفر الله سبحانه وتعالى له الخطأ الذي ارتكبه فالله جل وعلا غفور رحيم واسع المغفرة يقبل التوبة من التائب " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فاني أتوب في اليوم مائة مرة "(6). __________ (1) - المرجع السابق , ص577 . (2) - انظر , الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب ج6 / 430 – 431 – وكذلك تفسير الكشاف ج3 / 168 (3) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن العظيم , ص 577 . (4) - الزمخشري , أبو القاسم جار الله محمود , الكشاف , ج3 / 168 , انظر تفسير النسفي , ج2 ص230 . (5) - رضوان , يحيى , القصص القرآنية , ص40 . (6) - رواه مسلم { 2702 } (1/17) فهذا رسول الله يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة ترى نحن أبناء هذه الأمة كم مليار مرة بحاجة للتوبة ليتوب الله علينا وينقذنا من هذا الجحيم الذي نحن فيه . عن أبي موسى عبد الله قيس الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها "(1) فأسرع أخي المسلم بالتوبة والاستغفار عسى أن يتوب جل جلاله علينا , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر "(2). لنضع بيم جوانحنا معاني هذه الآية الكريمة ولنحاول الوقوف في ظلال الآية : " ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين " . فموسى عليه السلام لما بلغ كمال القوة الجسمانية والعقلية والبدنية , وهبه الله فقهاً وعلماً بدنية ودين آبائه . قال تعالى : وكذلك نجزي المحسنين " عند هذه الآية العظيمة لنقف وقفة متأمل . أعلم أخي المسلم أن المحسنين جزاؤهم الفوز بالدارين ولكن كيف نصل إلى مرتبة الإحسان وكيف نكون من المحسنين ونحن في عصر الصعوبات المادية والنفسية كيف نصل على مرتبة الإحسان وكيف نكون من المحسنين ونحن في عصر الصعوبات والعقبات كيف نصل إلى مرتبة الإحسان وقد تربينا على حب الشهوات وجمع الأموال والجري وراء السلطة والجاه . كيف نصل لمرتبة الإحسان وقد نسينا كتاب الله وسنة رسول الله وكل ما فعلناه هو أننا شهدنا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله قولاً فقط . لا جرم أن الله سبحانه وتعالى يزيد الذين اهتدوا هدى وبفضل الله سبحانه وتعالى اهتدينا ونحاول بكل الطرق أن نصل إلى مرتبة الإحسان . __________ (1) - رواه مسلم { 2760 } (2) - رواه الترمذي 3531 وانظر رياض الصالحين ص13 . (1/18) أخي المسلم عليك بإخلاص وصدق الطوية وإياك ثم إياك والرياء وعليك بتلاوة القرآن وكثرة الدعاء وترتيل أذكار الصباح والمساء واحتفظ بتفسير صغير مثل تفسير الجلالين وكتاب رياض الصالحين وأقرأ كتاب تهذيب سيرة ابن هشام فيه من العبر والدروس مالا تعد ولا تحصى وعليك بكتاب حياة الصحابة لمحمد يوسف الكاندهلوي وكتب تاريخ أمتك . أخي المسلم لا تضيع وقتك سدى وطالع في أمهات الكتب الإسلامية وعد إلى دين الله . وأحفظ جوارحك من المعاصي ليحفظها الله لك نشيطة قوية . أخي المسلم لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي وابتعد عن المحرمات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فما تركت بعدي فتنه أضر على الرجال من النساء " . وعند سلوك هذا السلوك تعالى لنرفع أيدينا على الخالق العظيم ونقول اللهم يا من وهب موسى علماً وحكماً هب لنا علماً وحكماً وانصرنا على أعدائنا يا أرحم الراحمين . * * * المبحث الخامس من يتوكل على الله فهو حسبه بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى : (1/19) " فأصبح في المدينة خائفاً يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لقوي مبين {18} فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين {19} وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين {20} فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين {21} ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهدني سواء السبيل {22} ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير {23} فسقى لهما ثم تولى على الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير {24} فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين {25} قالت أحداهما يأبت استأجره أن خير من استأجرت القوي الأمين {26} قال إني أريد أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين {27} قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل {28} . " أمامي هذه الآيات المباركات التي تقص قصة موسى عليه والسلام في أخطر مرحلة من حياته إلا وهي مرحلة الخوف والهروب . فبعد أن قتل موسى عليه السلام القبطي أصبح فارغاً يتوقع في أي لحظة أن يقع عليه الأذى من فرعون وآله . (1/20) فوجد الإسرائيلي الذي طلب مده بالنصرة بالأمس يستغيث به مرة ثانية على مصري آخر فهزه موسى قائلاً له : إنك لشديد الغواية(1)" قتلت بسببك بالأمس رجلاً وتدعوني اليوم لآخر "(2). ومع هذا أخذته الرأفة بالإسرائيلي وأراد أن يفع القبطي ويبطش به فظن الإسرائيلي أن موسى يقصده فقال ليدفع عن نفسه الأذى والقتل قال : يا موسى أتريد أن تقتلني وتبطش بي كما قتلت نفساً بالأمس(3)وما تريد إلا أن تكون طاغية في الأرض ما تريد أن تكون من دعاة الخير والإصلاح(4) فتدفع التخاصم بالتي أحسن . قد يتبادر إلى أذهن السؤال التالي : كيف يجوز لنبي الله موسى عليه السلام أن يقول لرجل من قومه يستعين به إنك لغوي مبين ؟ . ربما كان الجواب على ذلك أن قوم موسى كانوا جفاة القلب غلاظاً ودليل هذا الاستنتاج قولهم لموسى بعد أن شاهدوا الآيات العظام أجعل لنا إلها كما لهم آلهة فالمراد بالغوي المبين ذلك والله أعلم(5). __________ (1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 578 . (2) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن , ج 13 / 265 وانظر تفسير النسفي , ج2 / 230 . (3) - الطبرسي , أبو علي الفضل بن الحسن , مجمع البيان في تفسير القرطبي ج 13 ص 265 . (4) - النسفي , أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 , المصلحين في كظم الغيظ , وانظر تفسير القرطبي ج13 , ص265 . (5) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر , مفاتيح الغيب , ج6 / 432 . (1/21) ومرت لحظات عصيبة فإذا برجل من آل فرعون جاء مسرعاً ليخبر موسى عليه السلام " بأن القوم يتشاورون لقتلك ويقول له اخرج من المدينة فراراً من القتل إني لك من الناصحين(1)فخرج من مصر وحيداً من الصحبة والمال داعياً ربه متضرعاً عسى أن يخلصه منهم ويحفظه(2). فتوجه تلقاء مدين متوكلا على ربه , فهداه بفضله " إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة فجعله هادياً مهدياً(3)" . وبعد الكثير من المشعات والصعاب وصل عليه السلام إلى مدين فوجد على جانب البئر جماعة كثير من أناس مختلفين يسقون مواشيهم ووجد في مكان أسفل من مكانهم امرأتين تدفعان غنمهما بعيداً عن الماء فقال لهما موسى عليه السلام لماذا تدفعان غنمكما عن الماء . فأجابتا : لا نستطيع الزحام ولا نسقي حتى يسقي الرعاة ذلك أن أبانا شيخ طاعن في السن لا يستطيع الرعي والسقي فتطوع نبي الله موسى يسقي أغنامهن ثم ركن إلى ظل شجرة ليريح جسده من الجهد والتعب(4). " ولما رجعت المرأتان سريعاً بالغنم إلى أبيهما أنكر حالهما بسبب مجيئهما سريعاً فسألهما عن خبرهما فقصتا عليه ما فعل موسى عليه والسلام فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها "(5). __________ (1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن العظيم , ج 3 / 313 . (2) - البيضاوي , عبد الله بن عمر بن محمد بن علي , أبو الخير , ناصر الدين تفسير البيضاوي , ج2 / 215 . (3) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 313 . (4) الزمخشري , أبو القاسم جار الله محمود , الكشاف , ج3 / 170 . وأنظر المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 578 . وتفسير النفسي . ج2 / 432 . (5) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 384 . (1/22) فجاءته إحدى الفتاتين , فقالت له : إن أبي يدعوك إليه ليجزيك أجر ما سقيت لنا . " وهذا تأدب في العبارة لم تطلبه طلباً مطلقاً لئلا يوهم ريبة بل قالت : أن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا "(1). فلما ذهب إليه وقص عليه قصته مع عدو الله فرعون وهروبه من مصر قال والد الفتاتين : لا تخف , نجوت من الظالمين إذ لا سلطان لفرعون علينا هنا . وقال له شعيب عليه والسلام " إني أريد أن أزوجك من إحدى ابنتي هاتين على أن يكون مهرها العمل عندي ثماني سنوات فان أتممتها عشرا فمن عندك تطوعاً وما أريد أن ألزمك بأطول الأجلين وستجدني إن شاء الله من الصالحين المحسنين المؤمنين للعهد "(2). فقال له موسى عليه السلام : ذلك الذي عاهدتني عليه قائم بيني وبينك فأي الأجلين قضيت أكون وفيت بعهدي والله على ما نقول شهيد . ومما فسر – إذا صح التعبير – من الآيات الكرام أستطيع أن أستنتج التوجيهات الإلهية التالية : 1- إن من يتوكل على الله حق التوكل لا يضل ولا يشقى فهذا موسى عليه السلام خرج من مصر خائفاً ليس معه مالٌ أو طعام فدعا ربه متضرعاً " عسى ربي أن يهديني سواء السبيل " فهداه الله بفضله وبرحمته وكذلك المحسنين . 2- إن الله سبحانه وتعالى لا يترك عباده الصالحين يتخبطون في ظلمات الليالي فموسى عليه السلام أحس بأن الأرض ضاقت بما رحبت وأنه قد ابتلى بهذه الجريمة التي ارتكبها عن غير قصد فساق الله إليه رجلاً فنصحه بالابتعاد عن مصر خوفاً من أذى فرعون وآله فنجى موسى من هذا الشرك بفضل الله تعالى ورحمته وكذلك المحسنين(3). __________ (1) - المرجع السابق , ج3 / 384 . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 578 . (3) - رضوان , فتحى , القصة القرآنية , ص55 . (1/23) 3- أن نساعد الضعفاء من دون أي مقابل أو عوض إلا لمرضاة الله , فهذا موسى عليه السلام وجد على الماء امرأتين تذودان فسقى لهما وانصرف إلى الظل وهو لا يبغي غلا مرضاة الله جل جلاله وكذلك المحسنون . 4- جواز الأسترحة في الدنيا بعد المشقات والتعب فموسى بعد أن سقى للمرأتين تولى على الظل ليستريح(1). 5- جواز العمل بالخبر الواحد فهذا نبي الله موسى عليه السلام جاءته إحدى الفتاتين تدعوه على أبيها فذهب معها . 6- لا بأس بالمشي مع المرأة في حال الحاجة الشديدة مع الاحتياط والتورع(2). 7- وتبين لنا الآية الكريمة " أن خير من استئجرت القوي الأمين " الصفات التي يجب أن يتحلى بها الإنسان الذي يتصدى لقيادة الأمة فبدون الكفاءة والأمانة لا يستقيم الأمر وعدم تحلي القيادة بهاتين الصفتين يؤدي إلى ضعف والتخلف والكفاءة وحدها لا تكفي إذا لم تصحبها الأمانة والأمانة وحدها لا تكفي بل لا بد من تزاوج الكفاءة مع الأمانة مع شخص القائد المسلم " وقد أشارت إلى ذلك ابنة شعيب عليه السلام حينما طلبت من أبيها أن يتعاقد مع موسى عليه السلام للعمل عنده وسجل القرآن الكريم " يا أبت استأجره إن خير من استئجرت القوي الأمين(3). * * * المبحث السادس اللقاء المقدس بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : __________ (1) - النسفي , أبو البركان عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل , وحقائق التأويل , ج2 / 232 . (2) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 430 . وانظر تفسير النسفي , ج2 / 232 . (3) - بليق , عز الدين , موازين القرآن الكريم , دار الفتح للطباعة والنشر بيروت لبنان 1984 , ج2 / 165 . (1/24) " فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور ناراً قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون {29} فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين {30} وأن ألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملإيه إنهم كانوا قوماً فاسقين {32} قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون {33} وأخي هارون هو أفصح في لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون {34} قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطناً فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون {35} . " أمامي هذه الآيات البينات التي تهز وجدان كل من فيه ذرة إيمان لما فيها من عبر وتوجهات وحكم إلهية . فموسى عليه السلام قد أتم الأجل المشروط " وظهرت أنوار النبوة فسار بأهله ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه(1)" . __________ (1) - النسفي , أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل وحقائق التأويل ج2 / 234 . (1/25) فأبصر وهو في الطريق من ناحية جبل الطور ناراً فقال لأهله امكثوا هنا إني آنست ناراً سأذهب باتجاهها لعلي آتيكم بجذوة منها تستدفئون فلما وصل موسى إلى النار سمع من ناحية الجانب الأيمن من شجرة النابتة في البقعة المباركة بجانب الجبل نداء علوياً يقول له : " يا موسى إن الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين الفعال لما يشاء لا إله غيره ولا رب سواه تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله سبحانه وتعالى "(1). ألق عصاك فألقاها فقلبت بأمر الله ثعبانا يسعى فلما أبصرها موسى على هيئتها الرهيبة خاف وفر فزعاً ولم ينظر وراءه " فقيل له يا موسى أقبل على النداء وعد إلى مكانك ولا تخف , إنك في عداد الآمنين من كل مكروه(2). وهذا الذي حصل لموسى خوف طبيعي أمام كل شيء مجهول أو مخيف يهدد الإنسان في ذاته ووجوده وهو ليس قاصراً على العامة من الناس بل اعتدى بعض الأنبياء كموسى كما أسلفنا(3). إن الله سبحانه وتعالى قد وضع لموسى عليه السلام منهجاً تدريبياً قبل أن يذهب إلى فرعون فعندما ذهب موسى إلى النار حوار بينه وبين الله جل جلاله وكان الغرض من الحوار أن يأنس موسى للرسالة القادمة إليه وأن يتدرب على مواجهة الكفر ورجاله . وأستطيع بعون الله تعالى أن استخلص من قصة رحيق الآيات الكريمة سالفة الذكر : __________ (1) - ابن كثيرة أبو الفداء , إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج2 / 388 وانظر مجمع البيان ج5 / 287 " أني أنا الله رب العالمين " أي المتكلم لك هو الله مالك العالمين , وخالق الخلائق أجمعين تعالى وتقدس عن أي يحل في كل أيكون في مكان . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن العظيم , ص 580 . (3) - الشريف , عدنان , من علم النفس القرآني , دار العلم للملايين 1987 م بيروت لبنان , ص 64 . (1/26) 1- أجاز الشارع الحكيم أن يسامر الرجل بأهله حيث يشاء لماله من فضل القوامة وزيادة الدرجة إلا أن يلتزم لها أمراً فالمؤمنون عند عهودهم(1). 2- إن الله سبحانه وتعالى إن شاء يجيب دعوة المؤمن إذا دعا . فهذا موسى عليه السلام ترجى ربه الكريم بأن يشد عضده بأخيه هارون فأجابه سبحانه وتعالى بفضله ورحمته إلى ذلك . 3- إن الخوف سنه من السنن الموضوعة في بني آدم وليس عيباً فيه فهذا موسى وهو نبي الله وكليمه خاف ورعب وذلك لإنسانية وضعفه . * * * المبحث السابع عاقبة الظالمين بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " فلما جاءكم موسى بآيتنا باينت قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين {36} وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون {37} وقال فرعون يأيها الملأ ما عملت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فأجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكافرين {38} واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون {39} فأخذناه وجنوده فنبذنهم في اليم فأنظر كيف كان عاقبة الظالمين {40} وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون {41} واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين {42} . " يخبرنا البيان الإلهي عن مجيء موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وآله وما آتاهما الله تبارك وتعالى من المعجزات الباهرة والدلالات القاهرة. __________ (1) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن , ج13 / 281 . (1/27) فراقب فرعون وآله تلك المعجزات وتحققوا منها بأنها من عند الخالق جل جلاله بيد أنهم عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى الطغيان والتكبر والابتعاد عن أتباع الحق(1)فقالوا " ما هذا إلا سحر تعلمه أنت ثم تفتريه على الله كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله "(2). ولم نسمع فيما تدعيه وتدعوا إليه في آبائنا الذين كانوا قبلنا " إنما قالوا ذلك مع اشتهار قصة نوح وهود وصالح وغيرهم من النبيين الذين دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته "(3). على أن القوم جحدوا وبهتوا وما وجدوا ما يدفعون به جاءهم من البينات غلا قولهم سحر مفترى وبدعة لم نسمع بمثلها من قبل فقال لهم موسى عليه السلام : ربي يعلم بأني قد جئت بهذه الآيات الدالة على الحق والهدى من عنده جل جلاله وهو دليل واضح مبرهن على صدقي إن كذبتموني وجحدتم ويعلم الله سبحانه تعالى أن العاقبة الحميدة لنا ولأهل الحق إنه لا يفوز بالخير الكافرون المشركون بالله عز وجل(4). ويخبرنا سبحانه وتعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعواه الربوبية لنفسه فاستجاب قومه بقلة عقولهم وضيق أفقهم(5). __________ (1) - ابن كثير , أبو الفداء , إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 389 . (2) - الزمخشري , أبو القاسم جار الله محمود , الكشاف , ج3 / 389. (3) - الطبرسي , أبو على الفضل بن الحسن , مجمع البيان في تفسير القرآن ج5 / 295 . وأنظر تفسير الكشاف , ج3 / 176 . (4) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 581 . (5) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 390 . (1/28) لهذا قال لهم : " يا أيها الملأ ما عملت لكم من إله غيري " ذلك أن فرعون كانت من عادته كلما ظهرت حجة موسى أن يتعلق لرفع تلك الحجة بافتراء يروجه على أسماع قومه فادعى الإلوهية . بيد أنه لم يكن ليدعي أنه الخالق للسموات والأرض والخالق لذوات الناس وأفعالهم بل هو الإله المعبود " " فالرجل كان ينفي الصانع ويقول لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم "(1). وهذا هو عهد الظالمين في العصور قديماً وربما تغيرت الأساليب والمناهج بيد أن المضمون واحد ففراعنة العصر الحديث تشربوا بأفكار فرعون مصر . صحيح أن بعض لم ينكر وجود الخالق لكنهم صنعوا أفظع من ذلك فحاولوا تشويه الشرائع السماوية والقائمين عليها والتابعين لها من عباد الله فحاولوا عزلهم عن مجتمعهم وجماعاتهم بكافة الرسائل وشتى الأساليب بالشدة واللين بالمكر وبالسخف والطغيان بيد أن الله جل جلاله قد تفضل علينا بهذه الآيات البينات لتبين لنا إن النصر والغلبة لعباد الله الصالحين وأن للكافرين اللعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين . فهذا إمام الطغيان يخاطب وزيره هامان خطاب الجبابرة قائلاً له ابني لي صرحاً شامخاً عالياً لأصعد إليه " لعلي أطلع على إله موسى ". القصص 38 . { وهذا تلبيس من فرعون وإبهام على العوام وأن الذي يدعوا إليه موسى يجري مجراه في الحاجة إلى المكان والجهة }. ولعل هذه الآية العظيمة تذكرنا بعصرنا من بناء الكافرين للصواريخ والسفن الفضائية ومحاولاتهم بلوغ النجوم والكواكب والاتصال بمخلوقات الفضاء بحسب زعمهم وهمهم الذي أوحاه وزينه الشيطان لهم , ولكن ما نهاية المطاف مع هؤلاء لا جرم بأن نهايتهم كنهاية فرعون وأتباعه , يقول تعالى : " فأخذته وجنوده فنبذهم في اليم فأنظر كيف كان عقبة الظالمين "(2). __________ (1) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 442 . (2) - سورة القصص , آية 40 . (1/29) فتدبر أخي المسلم نهاية الطغيان والكبر فهذا فرعون إمام الظالمين انتزع من سلطانه واستدراج هو وجنوده إلى هلاكهم . ولسوف ينتزع الله سبحانه وتعالى بفضله ورحمته على أيدينا نحن أبناء هذه الآمة أتباع فرعون ومقلديه من الكافرين والجاحدين والمنافقين . قال تعالى : " وجعلناهم أئمة يدعون على النار ويوم القيامة لا ينصرون ". أي جعلناهم زعماء يتبعون على الكفر فيكون عليهم وزرهم ووزر من إتباعهم ويوم القيامة لا يجدون من ينصرهم ويخرجهم من هذا العذاب(1). لقد جعلهم جل جلاله من المطر ودين المخلدين في النار جهنم وبئس المصير . فقصة موسى وفرعون تحوي بين طياتها عبراً كثيرة لأولى الألباب . فيها عبر للمستضعفين الصابرين وإنذار غليظ للمفسدين في الأرض وأن عاقبة الحسنة للمؤمنين المتقين والعقاب المهيمن للطغاة الظالمين . إن التعاون بين الحاكم وأركان دولته يجب أن يكون ضمن إطار البر والتقوى , ضمن إطار الصالح العام على أن لا يتعدى إلى الإثم والعدوان ففرعون عندما أخذه الله سبحانه وتعالى أخذه أخذ عزيز مقتدر وأغرقه في اليم وأغرق معه آله وجنوده الذين كانوا أداة طيعة في تذبيح الأبناء واستحياء النساء وتعذيب الأبرياء فأصبحوا شركاءه في الهلاك كما كانوا شركاءه في الفساد والطغيان(2). أخي المسلم لنقف قليلاً في ظلال بعض آيات هذه السورة الكريمة . __________ (1) - البيضاوي , عبد الله بن عمر بن علي , تفسير البيضاوي , ج2 / 217 , وانظر تفسير القرطبي , ج13 , 289 . وانظر إلى القرآن الكريم للشيخ محمود شلتوت ص 124 . (2) بليق ، عز الدين , موازين القرآن ج2 / 153 . (1/30) قال تعالى : " فلما جاءهم موسى بآيتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعت بهذا من آبائنا الأولين قال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون " . فنلاحظ أن البيان الإلهي يصور لنا جحود فرعون وقومه وحججهم الواهية وتنعتهم ليضرب لنا مثلاً أعلى نستطيع أن نقيس عليه أي حدث مشابه لهذا الحدث العظيم . فملحدين هذا العصر لم ينكروا والأديان فقط بل أنكروا الله تعالى و جاوؤنا بحجج سخيفة ليبرهنوا أن هذا العالم وما فيه لم يخلق بل وجد عن طريق المصادفة أو عن طريق التفاعل الذاتي أو أنه قديم لا خالق له . ومنهم من يأتينا بأمثلة سخيفة ليبرهنوا لنا أن الأرض جاءت بمحض المصادفة . قال : لو جئنا بحروف مطبعة ونثرناها على أرض معينة ثم تركناها للريح تبعث بها كيف شاءت ثم نظرنا وتمعنا لوجدنا أن الريح العمياء قد رتبت الحروف بشكل يعطي معنى معيناً وبعد فترة من الزمن ربما تتشكل كلمة ثانية وربما ثالثة ورابعة . وهكذا وعلى هذا النسق تكونت السموات والأرض . انظر أخي المسلم إلى هذا المثال السخيف عن خلق السموات والأرض وما فهين . فعندما نقول بأن هناك حروفاً مطبعية فهذا يعني أن هناك صانع لهذه الحروف وهناك من أعطى لهذه الحروف معان معينة وهنالك من أرسل ريحاً ثابتة وهناك من ثبت الحروف المطبعة فكلما شكلت كلمة ثبتت إلى أختها حتى تشكلت تلك العبارة أو الجملة أو القصيدة وبعد هذا كيف نفسر كل هذه العوامل والأشياء التي أمامنا . قال تعالى على لسان فرعون : " وقال فرعون يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين " . لاحظ أخي المسلم أن فرعون يريد أن يبني بناءاً عالياً ليطلع على خالق السموات والأرض ويقول أيضاً " وإني لأظنه من الكاذبين " . (1/31) فهذا هو إمام الكافرين يدعو مقلديه إلى النار وإلى السير خلفه واتخاذ منهجه منهاجاً وشريعة فهذه دولة الكفر " الإتحاد السوفيتي " رغم اتساع مساحتها وقوة بطشها قد انتهت في يوم وليلة بدون حرب ولا خسائر ولسوف يتم الله نعمته علينا فيردنا إلى ديننا رداً حسناً . إن الله على كل شيء قدير . * * * الباب الثاني محمد صلى الله عليه وسلم والمكذبين المبحث الأول جحود الكافرين بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون {43} وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين {44} ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلوا عليهم آيتنا ولكنا كنا مرسلين {45} وما كنت بجانب الطور غذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما آتهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون {46} ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آيتك ونكون من المؤمنين {47} فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظهراً وقالوا إنا بكل كافرون {48} قل فأتوا بكتب من عندنا الله هو أهدى منهما اتبعه إن كنتم صادقين {49} فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدىً من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين {50} ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون {51} . " يخبرنا مالك الملك ذو الجلال والإكرام عما أنعم به على عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السلام من إنزال التوراة عليه بعدما أهلك فرعون وآله وغيره من الأمم السابقة لتكون نوراً للقلوب المظلمة التي تبحث عن النور والهدى فكانت هذه الآيات برهاناً على أن الكتب السماوية كلها من مشكاة واحدة فهي كتب نور وهداية تهدي للتي هي أقوم . (1/32) ينبه الله سبحانه وتعالى عن حقيقة واضحة جلية وهي صدق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضراً مع موسى عليه السلام في المكان الغربي من الجبل حين عهد الله إليه بأمر الرسالة فكيف يكذب هؤلاء الجاحدين بهذه الرسالة العظيمة ورسولها وهو يتلو عليهم من أنباء السابقين بكل ما فيها من عبر وحكم فأي دليل أعظم من هذا يا أخي على صدق رسالة رسولنا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وسلم . فكتاب الله يحوي أخبار الأمم الغابرة التي لم يقص قصصها أحد بهذا الوضوح وهذا العلاج الغني لمواقف وأحداث القصة . لقد خلق الله جل جلاله أمما كثيرة في أجيال طال عليها الزمن فنسوا وتناسوا ما جاءهم من الهدى وما أخذ عليهم من العهود والمواثيق ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن معهم أو مقيماً فيهم حتى يخبر أهل مكة بأخبار مدين ذلك إن الله سبحانه وتعالى قد أرسله بالحق وانزل عليه قرآناً عربياً مبيناً ولم يكن رسولنا عليه الصلاة والسلام حاضراً بجانب الطور عندما نادى الله موسى واصطفاه لرسالته لكن جل جلاله قد أعلم بيننا هذه الأنبياء بالوحي الآمين لتكون رحمة للبشرية لعلهم يتذكرون(1). قال تعالى " ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فتبع آياتك ونكون من المؤمنين " . أخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقوه من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولاً ولم ينزل عليهم كتاباً "(2). __________ (1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 582 . (2) - ابن القيم , محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد , التفسير القيم , تحقيق محمد حامد الفقي , لجنة التراث العربي , بيروت , ص 401 . (1/33) إن ربنا جل وعلا قد قطع عليهم هذه الحجة بإرسال الرسل وأنزل الكتب والصحف لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ونحن أمة الإسلام بقاؤنا واستمرارنا حجة دامغة على الكافرين يوم القيامة . لذلك يأمرنا الله بأن نأمر الناس بالمعروف وننهاهم عن المنكر ونبشر المخلوقات من أنس وجن بالإسلام ونعرفهم بالله وملكوته وإنعامه على مخلوقاته لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . عندما أنزل الفرقان على رسولنا الكريم قال الكفار والجاحدون " لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من الكتاب المنزل جملة واحدة من سائر المعجزات كقلب العصامية واليد البيضاء , وفلق البحر تظليل الغمام وغيرها من الآيات فجاءوا بالاقتراحات المبينة على التعنت والغباء فقالوا له لولا أنزل عليك كنز أو جاء معك ملك وما أشبه ذلك من الآيات الباهرات والحجج القاهرات التي أجراها تعالى على يدي موسى عليه السلام لتكون حجة وبرهاناً له على فرعون وملئه وبني إسرائيل ,ومع هذا لم ينجح في فرعون وملئه بل كفروا بموسى وأخيه(1)إن الله جل جلاله وعلا يوجهنا ويعرفنا على هؤلاء الجاحدين وأمثالهم في كل العهود والعصور وكيف كذبوا وجحدوا وبالمقابل كيف صبر الرسل وربطوا واتقوا الله فانتصروا بفضل الله ورحمته وكذلك المحسنون عليهم تقوى الله وإتباع هداه ولسوف يكون النصر حليفهم إن شاء الله تعالى . لقد أنزل تعالى الفرقان متواصلاً بعضه إثر بعض حسبما تقتضيه حكمة الله سبحانه وتعالى : ومتتابعاً وعداً وعيدا وقصصا وعبرا ليتدبروا ويؤمنوا بما فيه من هدى وخير وحياة طيبة في الدنيا والآخرة . أخي المسلم تعالى لنقف في ظلال هذه الآيات ولنحاول أن نطلع على ما بها من توجيهات إلهية للفرد المسلم . __________ (1) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 447 , وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج2 / 390 . (1/34) قال تعالى : " فإن لم يستجيبوا لك فأعلم إنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين " . أعلم أخي المسلم أن الذي لا يستجيب إلى الله ولا إلى رسوله فمن هؤلاء من يقول بوجوب استمرار فضل الدين عن الدنيا للحفاظ على الوحدة الوطنية ومنع التمييز بين أفراد الشعب الواحد , فالإنسان عندهم هو المدبر لجميع أموره وهو المتصرف في شؤونه ومن هنا ابتدعوا فكرة حكم الشعب فـ { حكم الشعب تعني أن الشعب هو سيد نفسه أي هو الذي يسن القوانين و { بالشعب } تعني أن الشعب هو الذي يحكم بما ابتدعوا من القوانين و { للشعب } تعني أن الشعب هو الذي يحكم بما سن من القوانين. فهل في الإسلام ديمقراطية ؟ نقول : أن فكرة الديمقراطية هي فكرة مبتدعة تنسجم مع فكرة فصل الدين عن الحياة فهي وليدتها وتأخذ حكمها ولأنها فرع لأصل مردود يعتبر معتنقها كافراً . ومعلوم أن فكرة فصل الدين عن الحياة هي نقيض لعقيدة المسلمين التي تتمثل بـ { لا إله إلا الله محمد رسول الله } . والفكرة التي تتولد من عقيدة المسلمين وتنسجم معها هي " أن الحكم إلا لله أمراً ألا تعبدوا إلا إياه وذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " . فقوله تعالى : " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " تعني أنه لا اعتبار لرأي الأكثرية تجاه ما قرره رب العالمين من أوامر وأحكام وغيرها . ففي النظام الإسلامي الكلمة العليا هي لله وحده والأمر والنهي والتحليل والتحريم هي للعلي القدير وليس لمخلوق سواء أكان فرداً أو جماعة أدنى نوع من أنواع المشاركة في التشريع مع الله تعالى فالله سبحانه وتعالى هو الذي يحكم " إن الحكم إلا لله " . ولا يملك أحد أن يعقب على حكمه فكيف يجتمع ليل الديمقراطية المزيفة مع نهار وضوء الإسلام الساطع . * * * المبحث الثاني صفات وأخلاق مؤمني أهل الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : (1/35) " الذين أتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون {52} وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين {53} أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون {54} وإذا سمعوا اللغوا أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلم عليكم لا نبتغي الجاهلين {55} إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين {56} . " يخبرنا العليم الحكيم عن مؤمنين أهل الكتاب وإيمانهم بالتوراة والإنجيل وبكل ما فيه من هدى وبشرى ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم . وإذا ما تُلي القرآن عليهم قالوا مسارعين " آمنا به لأنه الحق من ربنا ونحن عرفنا محمداً وكتابه قبل نزوله(1)" . فإسلامنا به سابق على تلاوته . فهذه الآيات البينات توجهنا لنؤمن بجميع الكتب السماوية وما فيها من هدى وتوجيهات وأنباء الغيب . " أولئك يؤتون أجرهم مرتين " بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم(2). فيدفعون بالصبر والمنطق الحسن(3)أذى المشركين وجحودهم . فهذه الآية توجهنا إلى كيفية معاملة المشركين والجاحدين في الحال ضعفنا وقوتهم وذلك بالقول الحسن والمناقشة العلمية والصبر والصلاة والنصر حليف المؤمنين إن شاء الله تبارك وتعالى(4). __________ (1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 583 . (2) - النسفي , أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 / 240 . (3) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد , الجامع لأحكام القرآن , ج13 / 291 . (4) - ابن الجوزي , عبد الرحمن علي بن عبد الله , ناسخ القرآن وشرحه تحقيق حسين سليم أسد الداراني – دار الثقافة العربية دمشق 1990 . (1/36) فعلينا نحن شباب هذه الأمة في هذا العصر الأليم بعد أن نسينا كتاب الله وسنة رسول الله لأسباب كثيرة نحمل نحن قسماً كبيراً من هذه الأسباب ولا جرم بأن الآباء والأجداد يحملون القسم الأعظم لأنهم أكسبوا عادات ليست من إسلامنا وعلمونا علماً ليس من علمنا وسلوكنا دروباً لم تشق لنا وسلطوا على أنفسهم وعلينا أعداء الله أعداءنا بذنوبهم لتركهم تعاليم الخالق العظيم وسنة رسوله الكريم فمرضوا وورثنا عنهم المرض والشفاء بيد الله عسى ربنا أن يعفوا عنا ويجعلنا من الذين يؤثرون العمل الصالح ويقابلون السيئة بالعفو والإحسان وينفقون في سبيل الله كل ما أعطاهم من قوة ومال وعلم وعمل إنه سميع مجيد . يقول تعالى : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " القصص الآية 56. أي أنك أيها الرسول شديد الحرص على هداية الذي تحب بيد أنك لا تستطيع أن تدخل في الإسلام كل من تحب لأن ذلك بيد الله وحده فهو يهدي للإيمان من علم فيهم قبول الهداية واختيارها فيدبر الأمور على ما يعلمه من صلاح العباد(1). فهذه الآية الكريمة تعلمنا وتوجهنا لربط الأمور بأسبابها وأن نعمل بكل طاقاتنا التي وهبنا الله إياها فإذا ما هدي أحد الكافرين أو الفاسقين على يدينا فهذا من رضا الله علينا وإذا ما فشلنا بهدايته فتلك إرادة الخالق وحكمته . قد يخطر على بال أحد العامة من الناس في القرآن العظيم شبه تناقض كما في قوله تعالى : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " القصص الآية 56 . وقوله جل جلاله : " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " . __________ (1) - أنظر , الزمخشري , أبو القاسم جار الله محمود والخوارزمي , ج3 / 185 . وكذلك مجمع البيان ج5 / 304 . وكذلك تفسير البيضاوي ج2 / 220 والمنتخب في تفسير القرآن ص 583 . (1/37) والحقيقة الساطعة أن القرآن الكريم بعيد كل البعد عن أي تناقض وأن أي تناقض يتهمه به أي إنسان فإن الحقيقة هي أن سبب هذا التناقض المتوهم هو الإنسان نفسه بسبب جهله حيناً وقلة مداركه العقلية حيناً آخر وغيرها من الأسباب ذلك أن خلو القرآن من أي تناقض هو أساس أعجاز القرآن ودليل صدقه يقول تعالى : " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً "(1). إن الهداية قسمان : 1- هداية دلالة . 2- هداية إعانة . وهداية الدلالة تكون للناس جميعاً يقول تعالى في سورة فصلت الآية {17} " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " . ووظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم – إذا ما صح التعبير – هي هداية دلالة وتذكير وإنذار " إنك لتهدي إلى صراط مستقيم "(2). أما الهداية الحقيقية – هداية الإعانة – فتكون من خالقنا الواحد القهار فقط. فالله جل جلاله هو الهادي(3)ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك هداية الإعانة بل هداية الدلالة . يقول تعالى : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " . نقف أخي المسلم تحت ظل هذه الآية الكريمة برهة " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " . يخبرنا العليم الحكيم أن أي منا لا يستطيع أن يهدي من يحب إلى الصراط المستقيم فكل شيء بيد الله سبحانه وتعالى . بيد أن هذا لا يعني يا أخي أن نجعل هذا حجة فنتقاعس عن دعوة الناس إلى الإسلام ودعوة المسلمين إلى العودة إلى الشريعة بكافة السبل والطرق فعلينا دعوتهم إلى الدين الحنيف والله سبحانه وتعالى إن شاء سيهديهم على الطريق القويم . * * * المبحث الثالث ما عند الله خير وأبقى بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : __________ (1) - سورة النساء , آية 182 . (2) - سورة الشورى , آية 57 . (3) - بليق , عز الدين , موازين القرآن , ج1/41 – 42 – 43 . (1/38) " وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرماً آمنا يجبا إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون {57} وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مسكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين {58} وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلوا عليهم آيتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون {59} وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون {60} . يخبرنا الله تعالى عن جحود مشركي أهل مكة وأعذارهم الكاذبة لعدم أتباعهم دين الله مع علمهم بأنه دين الحق(1)وأن محمداً رسول الله مرسل للناس كافة وقالوا أيضاً " إن اتبعناك على دينك أخرجنا العرب من بلدنا وغلبونا على سلطتنا "(2). وهم كاذبون فيما يأتون به من حجج فقد ثبتهم الله تعالى ببلادهم بجعل بلدهم حرماً يأمنون فيه من الإغارة والقتال والعرب من حولهم يتغازون ويتناحرون وهم في حرمهم لا يخافون , تحمل إليهم الثمرات والخيرات المتنوعة من كل صوب . فيا لهذه الحجة الواهية كيف يستقيم أن يسلبهم الله سبحانه وتعالى الأمن ويعرضهم للمهالك إذا ما أسلموا وهو سبحانه أنعم عليهم بالخير والأمن وهم مشركون ولكن أكثر الناس لا يعلمون الحق ولو علموا لما خافوا التخطف(3). __________ (1) - الزمخشري , جار الله محمود الخوارزمي , الكشاف ج3 / 185 . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 584 . (3) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 584 . وانظرت تفسير البيضاوي 2/ 219 والكشاف ج3 / 185 . (1/39) فيا لهذه الآية العظيمة التي تذكرنا بحالة المسلمين اليوم وخصوصاً عندما تدعوهم للتمسك بكتاب الله وسنة رسوله فيقولون لا نستطيع إلا أن نجاري العصر والتطور ومصادقة أوربا وغيرها من الدول المتقدمة ونسوا بأن الله جل جلاله قد مكن لهم دينهم وورثهم أرضاً لم يلمسوها لولا نعمة الله عليهم بها لقد رزق المسلمون من القوة المادية التي إذا ما شنعت بالإسلام لاستطاعت أن تضيء العالم أجمع بالنور والهدى . لم يعتبر هؤلاء بمصائر الأمم السابقة من عاد وثمود وغيرهم من الأمم التي " طغت وأشركت وكفرت بنعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق "(1). فهذه ديارهم خاوية للمارين بها ولم يبق مالك بعدهم إلا الله ذو الجلال والإكرام(2). وأعلم يا أخي بأن علينا دوام الحمد والشكر لله جل جلاله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى فهذه الأمم السابقة قد طغت وأشركت وكفرت بنعمة الله فأصبحت ديارهم خاوية لا تصلح للسكن ولم يبق لهم وارث إلا الله بعد أن أفنى بطغيانهم كل ولا مولود وما كان الله سبحانه ليهلك تلك القرى إلا بعد أن ينذرهم بالرسل المؤيدين بالمعجزات الباهرات وأحجج القاهرات فيظهروا الحق ويبطلوا الباطل بفضل الله ورحمته . فإذا لم يؤمنوا بعد كل هذا البرهان واستمروا في جحودهم أتاهم أمر الله فأهلكهم وما يعبدون . يخاطبنا البيان الإلهي بخطاب عظيم فيقول جل وعلا : " وما أوتيتم من شيء فمتع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون " . __________ (1) - ابن كثير , أبو الغداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 395 وانظر الجامع لاحكام القرآن للقرطبي , ج13 / 300 . وانظر مفاتيح الغيب للرازي , ج6 / 247 . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 584 . (1/40) أي كل شيء رزقتموه من نعم الدنيا وزخرفها فهو متاع محدود على أمد قريب فلا يصرفنكم عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ولا يصرفنكم عن العمل الصالح متاع الدنيا وزخرفها فما عند الله خير وأبقى من ذلك(1). فهذه الآية قاعدة توجيهية عظيمة يستفيد من تطبيقاتها كل المؤمنين وخصوصاً في هذا العصر المنصف بالمادية والتحديات للمسلمين . فالشاب المسلم مطروح أمامه كل شيء يؤدي إلى المهالك من نساء سافرات وفجور صارخ ومعاصي تصول باسم الحرية والديمقراطية وكل ما سلف ينادي هل من مجيب ؟ بيد أن العاقل المؤمن يقول لنفسه أعوذ بالله السميع العليم من فتن الدنيا وغرورها والفوز الحقيقي هو مرضاة الله تعالى بالخوف من ناره والطمع في جنته " ذلك أن منافع الدنيا كالذرة بالقياس إلى البحر فظهر من هذا أن منافع الدنيا لا نسبة بينها وبين منافع الآخرة البتة . فكان من الجهل العظيم ترك منافع الآخرة لاستبقاء منافع الدنيا ولما نبه سبحانه على ذلك قال : آفلا تعقلون . يعني أن من لا يرجح منافع الآخرة على متاع الدنيا كان يكون خارجاً عن حد العقل .(2) * * * المبحث الرابع لله الحمد في الأولى والآخرة بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : __________ (1) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن ج13 / 300 أنظر المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 285 . وتفسير ابن جزي ص 522 وأنظر تفسير مفاتيح الغيب للرازي ج6 / 452 . (2) - الرازي , أبو الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 452 . (1/41) " أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين {61} ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون {62} قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون {63} وقيل أدعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون {64} ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين {65} فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتسألون {66} فأما من تاب وأمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين {67} وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله تعالى عما يشركون {68} وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون {69} وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون {70} " . يخبرنا سبحانه وتعالى عن حقيقة عظيمة وهي عدم استواء " من أمن وعمل صالحاً فأستحق وعد الله , الوعد الحسن بالثواب والجنة فهو مدركه كما وعده الله ومن كفر وعمل سيئاً وفتنه متاع الدنيا وزخرفها ثم هو يوم القيامة من المحضرين الهالكين في العذاب(1)" . وفي الآية الثانية يقول الله تعالى مخبراً عما يوبخ به الكفار والمشركين حيث يناديهم : "أين الإله التي كنتم تعبدونها في الدار الدنيا من الأصنام والأنداد هل ينصرونكم أو ينتصرون(2)" . وهذا النداء هو على سبيل التقريع والتهديد فيقول المردة والشياطين ودعاة الكفر " من الذين حق عليهم غضب الله ووعيده أياً ربنا هؤلاء الذين دعوناهم إلى الشرك وزينا لهم الضلال أغوينا لأنه اختاروا الكفر(3)" . __________ (1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص585 . وانظر تفسير النفسي 240 / 242 . (2) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي , تفسير القرآن العظيم ج3/ 337 . (3) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 585 . (1/42) وقبلوه لم يعبدونا بل عبدوا أهواءهم وشهواتهم(1). فأمرهم سبحانه وتعالى على جانب من التوبيخ بدعوة الإلهة التي أشركوها مع الله لتنقذهم من الجحيم وعذابه فوقعوا في حيرة وارتباك فلم يظفروا بجواب وشاهدوا العذاب المعد لهم وتمنوا " لو أنهم كانوا مهتدين مؤمنين لما رأوه أو تمنوا لو كانوا مهتدين , أو تحيروا عند رؤيته وسدروا فلا يهتدون طريقاً(2)بالتصديق أو التكذيب(3). فصارت الأخبار غائبة عنهم لا يهتدون إليها فهي بعيدة عنهم كل البعد وكأنهم عمى فلم يعرفوا ما يقولون منهم في هذا الموقف العظيم { لا يسأل بعضهم بعضاً عن الأنباء لأنهم قد تساووا في الحيرة والعجز عن الجواب}(4). فهذا شأن العصاة والجاحدين والمنافقين . أما الذي يتوب توبة صادقة ويؤمن بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ويعمل الصالحات فهو يأمل أن يكون عند ربه من الفائزين بجنته ورضوانه . ولعل الوقت قد حان لنتكلم بشيء من التفصيل على مسألة الجبر والاختيار: إن الكفار يحتجون بكفرهم بأنه كان جبراً عليهم فلم يكن لهم الخيرة حتى يختاروا الإيمان أو غيره , فالكفر كان قدراً عليهم ولعل حجة هؤلاء قوله تعالى " ما كان لهم الخيرة " والحقيقة أن هذه الآية الكريمة لا تدل على أن الإنسان مرغم ومجبر على أفعاله وليس هذا المراد من الآية بل كان التوجيه هنا أن أمور العالم تجري باختيار الله سبحانه وتعالى وضمن إرادته ومشيئة ووفق حكمته جل جلاله . __________ (1) - انظر تفسير النفسي , بدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج 2/ 242 وانظر تفسير الكشاف ج 3/ 488 . (2) - انظر الزمخشري , جار الله محمود الخوارزمي , الكشاف ج 3 / 188 . (3) - ابن جزي , محمد بن أحمد بن جزي , تفسير ابن جزي , 523 . (4) - ابن جزي , محمد بن أحمد بن جزي , تفسير ابن جزي , ص 523 , وانظر تفسير النفسي مدارك التنزيل وحقائق التأويل ج 2 / 242 . وكذلك تفسير الكشاف ج 3 / 188 . (1/43) وإذا ما كان الأمر كذلك فعلينا الانتفاع من هذه الرحمة فهذه يا أخي رحمة عظيمة أن يسير هذا الكون ضمن مشيئة حكيم عليم روءوف رحيم . فيجب علينا عدم البطر بالنعمة ومنع اليأس من الرحمة إذا ما حدث لنا مكروه بعملنا وذنوبنا . " ولو انتفع الإنسان من طريق الفهم الإيجابي الذي أراده القرآن من قوة العقيدة لكان أحسن قائده وجدوى فهي عقيدة بناءة تثبت الإنسان أمام الأحداث التي تعاكس إرادته ورأيه مثابراً لا يعتريه بأس ولا فتور "(1). لما تثبت أن الله جل جلاله يفعل ما يريد فلا يمكن أن يكون له شريك فيما يفعل أو يريد , قال تعالى : " سبحانه تعالى عما يشركون " . مناسبة للمعنى مصرحة به واستعمل لفظ { سبحان } الذي يدل على التنزيه على أبلغ وجه(2)ويفيد الإبعاد والتعالي وهو هنا تعالي الرتبة كماليه الله جل جلاله وعظيمة ذاته أن يكون له شريك في الملك أو في تصريف الملك أو تدبيره ثم عقب على ما فعله المشركون من عبادة غير الله تعقيباً فيه تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم كما تضمن تهديداً عنيفاً لهم على قبائحهم لأن الله سبحانه يعلم " ما تخفيه قلوبهم وعبر عن القلب بالصدر لأنه يحتوي عليه "(3). فهذا الذي تكن صدورهم من الكفر والشر والصد عن الإسلام وما يعلنون من الكفر والتكذيب كل هذا يعلمه الله تعالى " إلا أننا نلحظ في هذا التعبير قوة في أحاطته تعالى بأسرار الوجود والمخلوقات إذ أن السر والخفاء قد تساوياً عند الله حتى صار السر كأنه أقوى من الجهر فقدم " ما تكن صدورهم " ليوقع الرعب في نفوس الكافرين "(4). __________ (1) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , ص 297 . (2) - راجع تفسير النفسي , مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 / 242 . (3) - ابن جزي محمد بن أحمد , تفسير ابن جزي , ص 523 . (4) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , ص 297 . (1/44) وقد أدى البيان الإلهي المعنى بقوة عظيمة فيها دلالة عظيمة على إطلاع الله سبحانه وتعالى المطلق على ما يفعله هؤلاء وغيرهم ثم أكد ما ذكره أولا من وحدانية الله تعالى في الخلق والإيمان , إلى وحدانيته في الخلق وقد صرح بذلك : " وهو الله " . الله المعبود بالحق ثم أكد ذلك بالعبارة الصريحة " ولا إله إلا هو " ثم بين دليلاً ذاتياً له سبحانه وتعالى بوجوب كونه لا خالق ولا معبود إلا هو " وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم " . أي هو الله الحق المختص بالإلوهية المستحق وحده للحمد من عباده في الدنيا على إنعامه وهدايته وفي الآخرة على عدله ومثوبته وهو وحده صاحب الحكم والفضل بين عباده وإليه المرجع وإليه المصير(1) * * * المبحث الخامس نعم الله لا تعد ولا تحصى بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " قل أرئيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون {71} قل أرئيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون {72} ومن رحمته جعل الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون {73} ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون {74} ونزعنا من كل أمة شهيداً فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون {75} " . __________ (1) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم , والدراسات الأدبية , ص 297 بترصد . (1/45) وبعد هذه القضايا الاعتقادية الأساسية انتقل البيان الإلهي ليبين فضل الله سبحانه وتعالى على المخلوقات ليأخذ بمجامع القلوب وبفكر الإنسان وعقله بعبارات تجلى فيها القوة ولفت النظر إلى دليل وبرهان قوي غاية القوة على وحدانية الله تعالى وفضله وإنعامه على مخلوقاته " يقول سبحانه وتعالى ممتناً على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم وبدونهما بيد أنه لو جعل الليل دائماً عليهم سرمداً إلى يوم القيامة لأضر ذلك بهم ولسئمته النفوس وملته الأرواح "(1). لقد خص الله سبحانه وتعالى النهار بذكر نعمة البصر لأنه محله وفيه سلطان السمع يكون بالليل أكثر بكثير من سلطان البصر ففي الليل نسمع أكثر مما نبصر لأنه وقت هدوء وسكون وقوة سلطان السمع ضعف سلطان البصر والنهار بالعكس يكون سلطان البصر أقوى من سلطان السمع(2). ثم قال جل جلاله " من رحمته " ولم يقل من آيته لأن هذه الآية أية رحمة ونعمة وهنا نجد أن الخطاب الإلهي أنتقل إلى جانب آخر فقدم الليل على النهار أسوة بتقديم أية الليل التي هي أسبق وجوداً من أية النهار ثم عدد نعم الليل والنهار وفوائدهما " لتسكنوا فيه ولتتبعوا من فضله " . السكون في الليل والابتغاء في النهار فأتى في ذلك بحسن التقسيم وحكمته وجعل ذلك كله مصبوغاً بصبغة الرحمة والفضل الإلهي "(3)" وقد نفت الآيات نفياً قوياً باستفهام إنكاري أن يكون لله شريك وتدرجت مع الخصوم لتلزمهم إلزاما مضخماً . __________ (1) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 398 . (2) - انظر التفسير القيم لابن القيم الجوزية ص 402 وانظر تفسير النفسي مدارك التنزيل وحقائق التأويل ج2 / 244 . (3) أنظر تفسير الكشاف للزمخشري ج3 / 181 وكذلك تفسير القرطبي , الجامع لأحكام القرآن 3 / 308 . (1/46) فكل هذه المعبودات التي اتخذتموها من بشر وغير بشر هل واحد منهم يستطيع أن يغير شيئاً من الكون والجواب طبعاً لا .(1). ثم ختم هذا النقاش بأن أوقعهم أمام المصير الذي تظهر فيه الحقائق وأتى بهذه العبارة الرائعة " ويوم يناديهم " لتفيد معنى التهويل والتضخيم والتوبيخ " فيقال لهم : أين الشركاء الذين زعمتموهم آلهة ينصرونكم أو شفعاء يشفعون لكم "(2)" ثم يعرض البيان الإلهي بصورة عظيمة لذلك اليوم العصيب " ونزعنا من كل أمة شهيداً " الموقف في غاية الهول أمام هذا السؤال " هاتوا برهانكم " . على ما اتخذتم من دين وآلهة . فالإنسان سيحاسب على مادان به واعتبره مبدأ واعتقاداً(3). " فعلموا أن الحق لله " أي فبهتوا وتحيروا كما لم يكن لهم من حجة يقيمونها وعلموا يقيناً أن الحق ما أنتم عليه وما أنزله الله , وأن الحجة لله ولرسوله فلزمتهم الحجة لأن المستهود عليه إذا لم يأت بملخص من بيئة الخصم توجهت القضية عليه ولزمه الحكم " " . الباب الثالث موٍسى و قارون المبحث الأول ابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : __________ (1) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , ص200 – 301 بتصرف يسير . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 587 . وانظر تفسير ابن كثير , تفسير القرآن العظيم ج3 / 398 . (3) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم الدراسات الأدبية , ص 298 . (1/47) " إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنؤ بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين {76} وابتغ فيما آتك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين {77} قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون {78} فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم {79} وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقياً إلا الصابرون {80} فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين {81} وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون {82} تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساداً والعقبة للمتقين {83} من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون {84} .. " يعتز الناس عادة في دنياهم بمالهم من جاه ومال وسلطان وكثيراً ما تصرفهم نعم الله إلى البطر ثم إلى الطغيان فيقطعون ما بينهم وبين الله من صلات فينكرون الحق ويتزعمون عصابات الشر والفساد وكثيراً ما عالج القرآن الكريم هذه النزعة في الإنسان فنبه بقصصه إلى عاقبة الطغيان والبطر إلى الجاه مهما عظم والمال مهما كثر فإنه لا يرد عن صاحبه شيئاً من قضاء الله وقدره إذا ما استمر في طغيانه وبطره . (1/48) وإنه لا ينبغي لعاقل مؤمن أن يغير ببسمة الدنيا له مرة أو أكثر بل يجب عليه أن يعرف أن الفلاح لا يكون إلا بالإيمان والتقوى المدعم بالعمل الصالح(1)فهذا قارون كان من قوم موسى وقريباً له(2), فتكبر عليهم غروراً بنفسه وماله وبما أعطاه الله سبحانه وتعالى من الكنوز الزاخرة التي بلغت مفاتيحها من الكثرة بحيث يثقل حملها على الجماعة الأقوياء من الرجال , فاغتر بنعمة الله عليه وكفر بها وجحد . فالإنسان " هو الإنسان إنه يطغى في كل شيء , عندما يجد في نفسه القدرة على ذلك فيضيع في متاهات العقد النفسية فيصبح تبعاً لأهوائه وشهواته وطاغوته النفسي "(3)إن قارون اعتقد طغياناً وكفراً أن بسعيه وكده جمع هذا المال وبحسن تدبيره كان له هذا السلطان فجاء إليه عقلاء القوم ونصحوه قائلين : " لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها وأطمأن وأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب لم تحدثه نفسه بالفرح "(4). واستخدم ما وهبك الله من هذا المال والجاه في طاعته جل جلاله والتقرب إليه بأنواع القربان التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا بما أباحه الله لك من المآكل والمشارب والملابس فإن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً , فآت كل ذي حق حقه "(5)" . __________ (1) - شلتوت , محمود , إلى القرآن الكريم , ص 154.بتصرف . (2) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد , الجامع لأحكام القرآن ج13 / 240 . (3) الشريف , عدنان , من علم النفس القرآني , ص 105 . (4) - الزمخشري , جار الله محمود الخوارزمي , الكشاف ج3 / 190. (5) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل ابن كثير , الدمشقي , تفسير القرآن العظيم ج 3/ 399 . (1/49) " وأحسن إلى عباد الله مثلما أحسن الله إليك ولا تفسد في الأرض بتجاوز حدود الله , إن الله سبحانه لا يرضى عن المفسدين لسوء أعمالهم .(1) فرد عليهم رداً المتكبرين المتحجرين قائلاً : إني لا أفتقر إلى أي شيء مما تقولونه فإن الله سبحانه إنما أعطاني هذا المال لعمله بأني أستحقه ولمحبته لي . وتجاهل أن الله قد اهلك قبله كثيراً ممن كانوا أكثر منه قدرة على كسب المال وخبرة بوجوه استثماره .(2) أعلم أخي المؤمن أن الله سبحانه وتعالى قد يمتحن الإنسان بمظاهر وأساليب شتى . قد يمتحن طائفة من الناس بنوع غير النوع الذي يمتحن فيه هذه الطائفة أو تلك وكل منها يؤدي إلى غاية واحدة ألا وهي معرفة الصادقين الصابرين من المنافقين والكافرين , فيمكن أن يمتحن أحد ليختبر صبره بالفقر أو المرض أو فقد حبيب بنسبة توافق استعداده الفطري , وقد يمتحن الإنسان أيضاً بالغنى والصحة , فإذا اعترف بنعم الله عليه فتح الله سبحانه وتعالى أبواب الرزق والبركة . فعلى المؤمن أن يراقب نفسه ويبعدها عن الشطط ذلك أن الله تعالى قد أكرمه النعم لاختباره وابتلائه بها .(3) فقارون قد وهبه الله جل جلاله مال وجاه كبيرين ومع هذا فقد جحد بنعم الله فسقط في امتحانه فكان عقابه شديداً . وذات يوم خرج قارون على قومه في زينة عظيمة وتجمل بأبهر الثياب فلما رآه من يريد الحياة الدنيا وزينتها حسدوه على هذا المتاع وتمنوا لو كان لهم مثل الذي أعطى .(4) __________ (1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , 587. (2) - راجع تفسير القرطبي , الجامع لأحكام القرآن , ج13 / 315 . (3) - الميداني , عبد الرحمن حسن حنبكة , العقيدة الإسلامية وأسسها دار القلم دمشق 1988 م. ص 597 – 598 بتصرف . (4) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل ابن كثير الدمشقي , تفسير القرآن العظيم ج3 / 399 . (1/50) قارون من المال والحظ العظيم أما عقلاء القوم الذين رزقهم الله العلم النافع فلم يفتنهم ذلك بل عرفوا أن ذلك فتنة وامتحان فتوجهوا إلى المفتونين بالنصح والإرشاد قائلين لهم لا تتمنوا هذا المتاع فإن ما عند الله من ثواب ونعيم قائم أزكى لمن آمن به وعمل صالحاً وتلك نصيحة حقة لا يتقبلها إلا من يجاهدون أنفسهم ويصبرون "(1)" على الطاعات وعن الشهوات وزينة الدنيا وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير "(2)" . فخسف الله سبحانه وتعالى به الأرض فابتلعه هو وملكه وما كان له من جماعة منقطعة إليه يدفعون عنه عذاب الله تعالى الذي نزل به وإنما قال سبحانه ذلك لأنه كان يقدر لنفسه الامتناع بماشيته وجنوده(3). فهذه سنة الله مع الطغاة يخسف بهم وبملكهم وغرورهم بكل ما يدعون إليه من أفكار فاسدة وكلام منمق الأرض ليكونا عبرة لمن يعتبر فهل من يعتبر يا أخي : الذين عايشوا تلك الحادثة الرهيبة يقولون إن الله سبحانه يرزق ويوسع الرزق لمن يشاء من عباده ويقتر على من يشاء وفق حكمته وإرادته سبحانه ويقولون شاكرين لو أن الله أحسن إلينا وفضل علينا بالهداية والإيمان لامتحننا بإجابة ما تمنيناه ولفعل بنا مثل ما فعل بقارون " ويكأنه لا يفلح الكافرون " . __________ (1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 588 . (2) - النسفي , أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 / 245 . (3) - الطبرسي , أبو علي الفضل بن الحسن , مجمع البيان في تفسير القرآن ج5 / 325 . (1/51) يعنون أنه كان كافراً ولا يفلح الكافرون عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة(1)تلك الدار الآخرة أيها الأخوة يختص بها المؤمنين الطائعين الذين لا يطلبون التسلط ولا السلطة إلا بالحق ولا ينحرفون إلى النار بارتكاب المعاصي والذنوب والعاقبة الحميدة للذين تمتلئ قلوبهم خشية من نار الله وطمعاً في مرضاه الله للفوز بنعيم الجنة .(2) فمن جاء بالإيمان الصادق والعمل الصالح له ثواب مضاعف بسببها والذي يأتي بالكفر والمعصية فلا يجزي إلا مثلها ذلك أن الثواب على الحسنة عشر أمثالها ولما كان العقاب على السيئة إنما يتم بعدل الله كان قانون العقاب الرباني عادلا لا يظلم مثقال ذرة فكان أعلى الجزاء على السيئة مثلها .(3) ونستطيع أن نقول بعد هذا إنه لابد من شيئين لتربية النفوس عليها حتى تحظى بالسعادة عند الله سبحانه وتعالى وذلك بتطهير النفس من إرادة الظلم والإفساد في الأرض واتقاء ما يغضب الله وذلك بإهمال أحكامه وشرائعه ونسيان سننه ونظمه الحكيمة . لقد نبه القرآن الكريم على أوصاف المتقين الذين ضمن الله جل جلاله لهم العزة في الدارين فعلينا نحن عباد الرحمن أن نتدبرها لنعرف كيف تكون وتنمو التقوى في القلوب وكيف تبدو آثارها في الإنسان وسلوكه ومعاملته(4). أخي المسلم إن الله يوجهنا لنبتغي فيما آتانا من النعم دار الآخرة ويقول أيضاً " ولا تنسى نصيبك من الدنيا " . __________ (1) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل ابن كثير الدمشقي , تفسير القرآن العظيم ج 3 / 399 . (2) - انظر المرجع السابق , ج 3 / 402 . (3) - الميداني , عبد الرحمن , العقيدة الإسلامية , ص 604 - 605 . (4) - شلتوت , محمود , إلى القرآن الكريم , ص 157 . (1/52) فالخالق العظيم يطالبنا بالتوازن في الحياة نعمر الدنيا والآخرة ولا يجوز تخريب داراً لأعمار أخرى , فالدنيا زائلة دائمة فاجعل كل ما وهبك الله من أجل أعمار الدارين وقل دائماً ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . فإذا وهبت قوتة فاستعملها فيما يرضاه الله , حارب المشركين وأعداء الدين . وإذا وهبت منطقاً حسناً فاستغله في الدعوة إلى الله ودين الحق والذب عنه أمام الذين سنوا أسنانهم وصاغوا عبارتهم بأجمل وأحلى العبارات والمعاني ليضلوا المسلمين عن الصراط المستقيم . أخي المسلم استغل كل ما وهبت لمرضاة الخالق العظيم وأحسن كما أحسن إليك وإياك ثم إياك والفساد فإن الله لا يحب المفسدين ولا تقول كما قال قارون : " إنما أوتيته على علم من عندي " . وأعلم أن الله قد أهلك من هو أشد منك قوة وأكثر منك قدرة على كسب المال وأعلم أخي المسلم أن هذه الدنيا دار امتحان وبلاء فابتغي دار الآخرة واتقي الله حق تقاته حيثما كنت وراقب نفسك وتصرفاتك وأبعدها عن الشطط ذلك أن الله قد أكرم الإنسان بهذه النعم لاختباره وابتلائه . قال تعالى : " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض وفساداً والعاقبة للمتقين من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون " . * * * المبحث الثاني لا تدع مع الله إلهاً آخر بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلل مبين {85} وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيراً للكافرين {86} ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين {87} ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون {88} " . (1/53) يقول جل وعلا آمرا رسوله صلوات الله وسلامه عليه ببلاغ هذه الرسالة السامية على جميع الناس واعداً إياه ووعده حق بأنه سيرده إلى مكة سالماً غانماً(1). ويأمر الله جل جلاله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لمن خالفه وكذبه ربي أعلم بمن يستحق الهداية والرشاد وبمن هو واقع في ضلال الذي يدركه كل عاقل سليم الإدراك(2). من هذه الآية الكريمة نستطيع أن نستنتج توجيهاً إلهياً عظيماً ألا وهو أن الله جل جلاله يعلم من يستحق الهداية ويعلم من هو واقع في ضلال . فيزيد الذين اهتدوا هدى والذين كفروا في طغيانهم يعمهون . يقول تعالى : " ما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتب " . ذلك أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يفكر يوماً بالنبوة وأن يطمع بها كما كان غيره من رجالات قريش يطمعون بها لكن الله اصطفاه وأنزل عليه الفرقان رحمة به وبأمته وبالناس أجمعين فيجب علينا جميعاً يا أخي المسلم أن تذكر هذه النعمة و نثابر على تبليغها في كل زمان ومكان وتحت أي ظروف ولا تكن يا أخي عوناً للكافرين على ما يريدون ويبغون ذلك . إن الكافرين لا يمكن مهما بلغوا من القوة والبطش أن يصدونا عن تبليغ آيات الله والعمل بها . لقد أصبحنا نحن أفراد هذه الأمة مكلفين بالدعوة إلى هذا الدين الحنيف الناس كافة ودعوتهم إلى توحيد إله وأن ليس هناك من يستحق العبادة سواه فكل ما عدا الله هالك وفان والباقي هو الله الواحد الأحد الذي له القضاء النافذ في الدنيا والآخرة وإليه لا محالة مصير الخلق أجمعين . فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شر يره . * * * الخاتمة أخي المسلم أختي المسلمة : __________ (1) - انظر , الطبرسي , أبو علي الفضل بن الحسن , مجمع البيان في تفسير القرآن رادك إلى معاد تعني بأنه سيرده إلى معاد يوم القيامة . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 589 . (1/54) وبعد أن وقفنا على أهم التوجيهات الإلهية للفرد المسلم من خلال سورة القصص , أستطيع أن أقول بأنني لم أقصد من هذا البحث إلا ذكر بعض التوجيهات الإلهية للفرد المسلم من خلال سورة القصص . فالتطرق إلى جميع التوجيهات يحتاج إلى جهد عظيم , ووقت طويل , ومراجع ومصادر كثيرة جداً لا تتلاءم مع طبيعة هذا البحث البسيط . وعلى هذا لم أقصد من هذا البحث إلا المرور السريع على أهم تلك التوجيهات فعسى أن يستفيد منها أفراد هذه الأمة العظيمة , فيغيروا ما بأنفسهم وصدورهم ويتقوا الله جل وعلا . ولنختم بحثنا بهذا الدعاء المأثور عن سلفنا الصالح : " اللهم أهدنا فيمن فديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما أعطيت وقنا شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت " . " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . المحامي الدكتور : مسلم محمد جودت اليوسف . (1/55) ( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ) التوجيهات الإلهية للفرد المسلم من خلال القصص القرآني في سورة القصص التوجيهات الإلهية للفرد المسلم من خلال القصص القرآني في سورة القصص بقلم المحامي الدكتور مسلم اليوسف http://www.saaid.org/Doat/moslem abokotaiba@hotmail.com { المقدمة } الحمد لله حمداً كثيراً على نعمه التي لا تعد ولا تحصى , وصلى الله على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . وبعد : إن الحياة على هذه الأرض بالنسبة للشاب العصري حياة صعبة كثيرة العقبات والمتاهات ولابد للمسلم الذي يبتغي حياة حسنة ونعيماً أبدياً في الآخرة من الأخذ بكل ما في القرآن الكريم من هدى ونور فيجعلها المقياس الذي يقيس أفعاله والمصباح الذي ينير دربه . لقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة سمحة سهلة تتسع لكل مطالب الناس وتفي بمستلزمات الحياة سواء كان ذلك يتصل بتنظيم الدنيا أو الدين . هذه الرسالة العظيمة فصلت بكل ما يتعلق بالشؤون الدينية الصرفة تفصيلاً دقيقاً يجعل المؤمن على بصيرة في أمره . وعلى هدى مستقيم وهي في الوقت نفسه قد أجملت ما يتعلق بتنظيم الدنيا واستغلال خيرات الكون لتتيح للمسلم سبيل التقدم والتطور . ولكي يستطيع المسلم أن يتقدم ويتطور لابد له من دراسة القرآن دراسة عميقة وفق دراسة وفهم السلف الصالح . لذلك حاولت دراسة هذه السورة الكريمة دراسة موضعية , وحاولت أن استنتج ما في هذه السورة الكريمة من توجيهات إلهية للفرد المسلم من خلال قصصها الكريمة . فقسمت البحث إلى ثلاثة أبواب وأعطيت كل باب منها عنواناً ملائماً لمضمون الآيات أيضاً قسمت كل باب منها إلى مباحث تلائم الموضوع , فكان البحث على النحو التالي : الباب الأول : سبعة مباحث . الباب الثاني : خمسة مباحث . الباب الثالث : مبحثين فقط . وبدأت تلك المباحث والأبواب بتمهيد عرفت فيه القصة لغة واصطلاحاً وبينت بعض خصائص القصة القرآنية وأهدافها , ثم بدأت بالباب الأول وأعطيته عنواناً ملائماً لموضوع الآيات وكذلك كانت باقي الأبواب . (1/1) أما عن طريقة معالجتي للأبحاث فكانت على النحو التالي : لقد استعنت بأمهات كتب التفسير لفهم وشرح الآيات وكذلك استعنت ببعض الكتب الحديثة التي تعالج القصة عموماً والقصة القرآنية خصوصاً وحاولت جهدي أن استخلص التوجيهات الإلهية من الآيات فكان هذا البحث المتواضع . وأخيراً ختمت البحث بخاتمة لخصت بها البحث وبينت أهميته للفرد المسلم فأرجو أن يكون عملي هذا لوجه الله تعالى مفيداً لعموم المسلمين . والله من وراء القصد . د. مسلم اليوسف ... حلب سورية ... هاتف : 00963955453111 { التمهيد } القصة فن من الفنون له مكانته العالية الشامخة في الآداب العالمية حتى اعتبارها كثير من النقاد المعاصرين " سيدة الآداب المنثور " دون ريب , لهذا اتخذها كبار الكتاب وسيلة للتعبير واشتهر عن طريقها معظم الأدباء العالميين .(1) وليست هذه المكانة الهامة للقصة قاصرة على زمن معين دون سواه , بل هي كما يرى والترابن(2): " أكثر الأنواع الأدبية فعالية في عصرنا الحديث بالنسبة للوعي الأخلاقي ذلك لأنها تجذب القارئ لتدمجه في الحياة المثلى التي يتصورها الكاتب كما تدعوه ليضع خلائقه تحت الاختبار , إلى جانب أنها تهبنا من المعرفة ما لا يقدر على هبته أي نوع أدبي سواها وتبسط أمامنا الحياة الإنسانية في سعة وامتداد وعمق وتنوع ".(3) القصة لغة واصطلاحا واطلاقات القرآن الكريم عليها : يستعمل القرآن الكريم في التعبير عن هذا اللون من موضوعاته الكلمات الدالة المعبرة عن الحقائق والمقاصد الضخمة التي تشتمل عليها .(4) القصة لغة : نذكر من هذه الكلمات " قصص – قص أثر أي تتبعه . قال تعالى : " فارتدا على آثارهما قصصاً " . __________ (1) - سلام , محمد زعلوم , دراسات في القصة العربية الحديثة , القاهرة ص3 . (2) - كتاب انكليزي . (3) - المرجع السابق ص3 . (4) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , جامعة دمشق , كلية الشريعة عام 1988 م0ص0220 . (1/2) والقصة : الآمر الحديث وقد اقتصيت الحديث : رويته على وجهه . والقصص , بكسر القاف جمع القصة التي تكتب والأقصوصة جمع أقاصيص القصة القصيرة .(1) القصة اصطلاحاً : يعرف الأدباء المعاصرون القصة تعريفات شتى لعل أقربها إلى جوهر القصة الحديثة هي : " حكاية نثرية طويلة تستمد من الخيال أو الواقع أو منهما معاً , وتبنى على قواعد معينة من الفن الكتابي ".(2) أما القصص القرآني فهو من القصص الواقعي التاريخي كما صرح بذلك القرآن في آياته .(3) خصائص القصة القرآنية وأهدافها : إن أكثر خصائص القصة القرآنية وضوحاً هي : أولاً – الإيجاز : إن خاصة الإيجاز المعجز فيما أورده القرآن الكريم من أخبار الأمم وقصص الرسل والأيام الغابرة من الخصائص الجديرة بأن تلفت نظر الباحث ليتعمق بها بكل ما فيها من آلام وآمال وعبر ومواقف عظيمة وعصبية .(4) ثانياً – وحدة الغاية في كل ما ورد في القرآن الكريم من أخبار وأنباء وقصص(5)فهي دعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى . وهذه الغاية تتكون من عناصر أهمها : 1- أن الله واحد لا شريك له . 2- أن قدرة الله سبحانه وتعالى عظيمة غير متناهية . 3- أن الرسل عباد للرحمن يرسلهم على الناس لتهديهم إلى الدين القويم وهؤلاء الرسل أسرة واحدة يكمل بعضهم بعضاً . 4- أن هؤلاء الرسل لبشريتهم حينما يدعون الناس إلى الدين الصحيح يجدون صداً وعزوفاً , ثم لا يلبثان أن يصبحا عداوة وكرهاً . 5- أن الله جل جلاله يؤيد رسله بمعجزات لإثبات صدقهم . 6- أن الرسل يصبرون أمام جحود وعناد الكافرين(6). __________ (1) - الجوهري , تجديد الصحاح في اللغة والعلوم دار الحضارة العربية بيروت مج 2/ 313 – 314 . (2) - المرجع السابق ص 314 . (3) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , ص 221 . (4) - رضوان , فتحي , القصة القرآنية , القاهرة – دار الهلال 1978 م , ص 12 . (5) - المرجع السابق ص 8 . (6) - المرجع السابق ص 24 . (1/3) 7- ولعل الغاية الكبرى والهدف الأعظم للقصة القرآنية هو : إعجاز القرآن , وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . 8- تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية نفوس صحبه وإخوانه من خلال نصر الله تعالى لرسله وأوليائه وزجر الضالين والمعاندين وزحزحتهم عن مواقفهم فتتأثر النفوس بحسب ما تحتاج إليه . إذ يتولى عليها بيان نصر المؤمنين وخذلان الكافرين " وإحقاق الحق وإزهاق الباطل ويتكرر رفع راية العدل وسحق قوة الظلم من خلال القصص التي يذكرها القرآن , بل بما يقع فيه التصريح بهذا التنبيه وإثارة هذه العقبة في كثير من مناسبات القصص(1). 9- بث القيم الدينية الواضحة وترسيخ أسس الدين القويم بما يقع في طيات القصص من حوار ومواعظ يصغي إليها السامع ويتابعها القارئ سواء أكان موافقاً أو مخالفاً مؤمناً أو جاحداً لما في طبيعة القصص القرآنية من التشويق والإثارة .(2) إن القرآن الكريم اصطفى من الأحداث التاريخية الهامة في حياة المخلوقات ما يخدم الدعوة الإسلامية ويرسخ عقيدتها ويوجه المسلم توجيهاً صحيحاً ويفتح للناس طرقاً للعبرة والعظة منها كما أنه تخير من هذه الأحداث ما رآه صالحاً لبناء الصورة المحققة لهذه الغاية .(3) * ... * * الباب الأول موسى و فرعون البحث الأول طغيان فرعون بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " طسم {1} تلك آيت الكتب المبين {2} نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون {3} إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناهم ويستحي نساهم إنه كان من المفسدين {4} ونريد أن نحق على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم الوارثين {5} ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهمان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون {6} . __________ (1) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , ص222 . (2) - المرجع السابق ص222. (3) - الخطيب , عبد الكريم , القصص القرآني في منطوقه ومفهومه , بيروت لبنان 1975 ص 73 . (1/4) بين يدي هذه الآيات المعجزات التي فيها كثير من التوجيهات الإلهية للفرد المسلم تنير له دربه الذي قد يظلم وقد تكتنفه كثيراً من الصعوبات والأخطار والمهالك الجسدية والنفسية وغيرها ولولا رحمة الله سبحانه وتعالى علينا بإنزال هذه الآيات المباركات لتكون لنا شعلة من الضياء لتنير لنا درب السعادة والهناء ولكي تكون موجهاً للفرد المسلم في حياته الدنيوية وصعوباتها المختلفة . لكانت حياة صعبة سوداء أليمة على عباد الله الصالحين . قال تعالى : " تلك آيات الكتب المبين " فهذا الكتاب واضح جلي للمؤمنين به كاشف " عن حقائق الأمور وعلم ما قد كان وما هو كائن "(1). وهو مبين للذين آمنوا " الحق من الباطل والحلال من الحرام , وقصص الأنبياء ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم "(2). فهذه أخبار موسى عليه والسلام وفرعون تتلى على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ليعتبر بما فيها من المواعظ والحكم المؤمنين(3). فرعون طاغية كغيره من الطغاة في كل العصور والأزمان " تكبر وطغى"(4). " وجاوز الحد في الظلم والعسف "(5). واستكبر في البلاد وجعل أهلها فرقاً يقرب بعضها إليه ويسخر بعضها الآخر ويستضعف منهم بني إسرائيل فيذبح ذكورهم ويستبقي نساءهم(6). " أنه كان من المفسدين " . __________ (1) - ابن كثير , أبو الغداء إسماعيل , تفسير القرآن العظيم , دار الفكر , بيروت ج 3 / 379 . (2) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن , الهيئة المصرية , العامة للكتاب 1987 , ج13 / 247 . (3) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسيره القرآن الكريم , القاهرة 1992 م ص 575 . (4) ابن جزي , محمد بن أحمد , تفسير ابن جوزي , دار الكتاب العربي , بيروت 1983 . ص 514 . (5) - الخوارزمي الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن ص 575 . (6) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن ص 575 . (1/5) لذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد بني إسرائيل لتصور فاسد(1). لا يعني عن قضاء الله وقدره شيئاً إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون . يقول تعالى : " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " . فالله جل جلاله أراد أن يتفضل على الذين استضعفهم فرعون وجنوده فجعلهم هداة إلى الخير(2). " وولاة وملوكاً(3)" . فهذه الآية الكريمة توجه المسلم إلى معرفة قدرة الله سبحانه وتعالى وأن أمره نافذ فإذا أراد خيراً بعبد فلا يمكن لأي مخلوق مهما كان على درجة عالية من العلم والقوة والبطش أن يقف سداً مانعاً لوصول الخير على ذلك المؤمن فعندما يقرأ المؤمن هذه الآية تسري في عروقه فتكون له سكناً ودواء ليواصل طريقه الشاق في هذا العصر الأليم الذي ضاع فيه أبناء هذا الدين ووقعوا في هاوية المادية ونسوا كتاب الله وسنة رسول الله ولم يعتبروا بما حصل للطغاة والمفسدين من أمثال فرعون وهامان وجنودهما " من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم "(4). __________ (1) - البيضاوي , عبد الله بن عمر بن محمد بن علي , أبو الخير , ناصر الدين تفسير البيضاوي , دار المعرفة , ج2 / 209 . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن العظيم , ص 575 . (3) - النسفي , أبو البركان عبد الله بن أحمد بن محمود , المسمى مدارك التنزيل وحقائق التأويل , دار الفكر , بيروت , ج2 / 226 . (4) - البيضاوي , عبد الله بن عمر بن محمد بن علي , أبو الخير , ناصر الدين تفسير البيضاوي , ج2 / 209 , وانظر , الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي مفاتيح الغيب المعروف بالتفسير الكبير , الطبعة الثانية بالمطبعة العامرية الشرقية – 1324 هجرية . ج / 6 / 425 . (1/6) فهذا نبي الله موسى قتل فرعون من أجله ألوفاً من أطفال بني إسرائيل ثم تربى على فراشه وفي داره أكل طعامه وشرب فكان أمر الله . فأهلك على يديه فرعون وآله " لتعلم أن رب السموات العلا هو القاهر الغالب العظيم القوي العزيز الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن(1)" . إن هذه الآيات البينات تبين لنا أن النسب والقرابة من الأنبياء والرسل لانتفع الذين كفروا , فهذا فرعون تبنى موسى ورباه في داره وعلى سريره فلم يغن ذلك عنه من الله شيئاً كذلك لا تنفعنا قرابتنا ونسبنا من رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إن لم نكن مؤمنين بالله ومحمد رسول الله . ففرعون قد علا في الأرض يظلم ويستبد ويتخذ من رعيته سيوفاً يضرب بعضها بعضاً " وتلك عادة الطغيان في كل زمان ومكان لا يدع الرعية تتماسك وتتحاب خوفاً من تكتلها على إزالة سلطانه والقضاء على غطرسته "(2). بيد أن الله جل جلاله قد قتله وجعله عبرة لمن يعتبر فتلك سنة الله سبحانه في الطغاة والجاحدين سمعناها من خلال فرعون وآله ورأيناها في رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وعايشناها في حياتنا الحاضرة " فحياتنا الحاضرة أكبر شاهد وأوضح مثال فهي سنة مطردة يعامل الله بها كل من حاد عن طريقه وطغى "(3). أو أبعد الناس عن طريق الإسلام والهدى والرشاد . لنأخذ بعض الآيات ولنحاول أن نستظل بها في هذا العصر الأليم . قال تعالى : " نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون" ولكن من هم أولئك الذين يستطيعوا أن يستفيدوا من توجيهات تلك الآيات والخالق العظيم قد ذكرهم في كثير من الآيات . قال تعالى : __________ (1) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل , تفسير القرآن العظيم ج3 / 380 . (2) - شلتوت , محمود إلى القرآن الكريم , دار الهلال , 1964 , ص141 . (3) - المرجع السابق ص 141 . (1/7) " ألم " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يؤمنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون "(1). وهكذا نرى أن الذين يستفيدون من الحكم والتوجيهات الإلهية هم الذين يؤمنون بالغيب بكل ما فيه وهم الذين يقيمون الصلاة ومما رزقهم ربهم ينفقون . وذكر البيان الإلهي أيضاً شروطاً أخرى هي الإيمان بجميع الكتب التي أنزلت قبل القرآن الكريم والإيمان اليقيني باليوم الآخر هؤلاء هم الذين يستفيدون من التوجيهات الإلهية المتواجدة في الآيات البينات . قال تعالى : " إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساهم إنه كان من المفسدين " . تأمل أخي المؤمن هذه الصورة المنقوشة في هذه الآية تجد لها بكل تأكيد نسخا في كل العصور على مر الأزمان فلكل عصر من العصور فرعون وفي هذا العصر الأليم ليس فرعونا واحداً بل فراعنة . لقد تكاثر علينا الفراعنة حتى وجد في داخل كل منا فرعونه الخاص به يقاومه حيناً ويغلبه حينا ويغلب حيناً آخر . الروح الفرعونية تسري في عروقنا مع الدماء تلوث دمانا وهوانا وأفكارنا وعقولنا . لقد اختلت مشيتنا وزاغ نظرنا وتلعثم لساننا . نسينا لغتنا أهملنا قرآننا وسنة نبينا , ركضنا مع الراكضين وزحفنا مع الزاحفين وغلبنا مع المغلوبين . تاهوا وتهنا , ضاعوا فضعنا . قالوا فقلنا . فعلوا ما فعلينا , هجموا ما هجمنا , انتصروا ما انتصرنا . شلت أقدمنا ونشفت أقلامنا وتعفنت جروحنا ما بقى من أوصاف المهزومين صفة إلا ونسبت إلينا . خططوا فنفذنا , ابتدعوا فاعتقدنا , قالوا فسمعنا وحفظنا . __________ (1) - سورة البقرة , الآية – 1 – 5 . (1/8) ولكن لكل شيء نهاية ولكل فرعون موسى ألا حانت ساعتك يا فرعون هذا العصر . جميع الأمة من شبابها وكهولها , أطفالنا ونساها تنادي موسى العصر . لقد حان موعدك يا فرعون لقد حان موعدك يا فرعون . لقد قتل فرعون الأبناء واستحي النساء وأفسد في الأرض ما أفسد استضعف البشر وجعلهم شيعاً . وفراعنة هذا العصر يقلدون إمامهم الأكبر ذبحونا في البوسنة والهرسك قتلوا الأبناء وفتكوا بالنساء وأفسدوا في الأرض ما أفسدوا وها أنا الآن أتصفح كتاب أسمه " إستراتيجية التنصير في العالم الإسلامي "(1). اقرأ فيه المؤامرات التي تحاك على جوهرة التوحيد الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله , المؤامرة تلو المؤامرة تنسج وتحاك في الخارج ثم تصدر إلينا ليشتريها المسلمون ونحن ههنا قاعدون متوكلون لا نحرك ساكناً . أخي المؤمن : أنت ترى كم نحن مستضعفون في الأرض يذبح أبنونا في كل مكان وتستحي نسائنا وتمحى عقولنا وثقافتنا بأيدينا . ألم يحن بعد ساعة التأمل والتفكير . أخي المؤمن : بدون تردد تعال نقول ونفعل ما قال الخالق العظيم في كتابه الكريم . " فقل تعالوا ندع أبنانا وأبناكم ونسأكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين "(2). " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً من دون الله فإن تولوا فقالوا اشهدوا بأنا مسلمون "(3). والله سبحانه وتعالى سيكون معنا , قال تعالى : " ونريد أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين " . فالله سبحانه وتعالى يمن على الذين اضعفوا في الأرض نجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين . __________ (1) - عمارة , محمد , إستراتيجية التنصير في العالم الإسلامي , مركز دراسات العالم الإسلامي الطبعة الأولى شتاء 1992 م . (2) سورة آل عمران . الآية 61 . (3) سورة آل عمران . الآية 63 . (1/9) ونحن أمة الإسلام استضعفنا في الأرض وحان موعد العودة إلى كتاب الله وسنة رسول الله ليمن الله علينا فيجعلنا أئمة ويجعلنا الوارثين كما فعل مع أجدادنا الصالحين . أخي المسلم عد إلى كتاب الله وسنة رسول الله وسوف يمكن لنا الله تعالى الأرض مهما كان عدوما جباراً وقوياً فالله سبحانه وتعالى عز وجل قال تعالى : " ونمكن لهم الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " . فالله سبحانه وتعالى مكن المستضعفين في الأرض فجعلهم أئمة يهدون إلى الخير بأمر ربهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . ونحن أيضاً سيرضى علينا الخالق العظيم فيمكن لنا ديننا الذي أرضاه لنا فيجعلنا أئمة ندعو إلى الخير بالمعروف وننهى عن المنكر والله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء . * * * المبحث الثاني كيد الظالمين في نحورهم بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين {7} فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزنا ً إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين {8} وقالت امرأت فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون {9} " . بين أناملي هذه الآيات العظام المعجزات التي تحوي بين طياتها توجيهات لا تقوم بثمن لما فيها من النكث البلاغية والصور البيانية والحكم التي توجه المسلم نحو حياة أفضل وأسهل . يقول جل جلاله : " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " . روي أن فرعون لما أكثر من قتل مواليد بني إسرائيل خافت القبط أن يغني بني إسرائيل فيلون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الوضيعة الشاقة . (1/10) فقالوا لفرعون إنه يوشك أن استمر هذا الحال أن يغني شيوخ بني إسرائيل وغلمانهم يقتلون نساؤهم لا يمكن أن يقمن بما تقوم به رجالهم من الأعمال الشاقة فيخلص إلينا ذلك فأمر بقتل الوالدان عاماً وتركهم عاماً فولد هارون في السنة التي يتركون فيها الولدان وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها الولدان(1). وألهم الله سبحانه وتعالى أم موسى عليه السلام أن أرضعيه مطمئنة الفؤاد فإذا خشيت عليه من فرعون أن يعرف أمره ضعيه في صندوق وألقيه في النيل غير خائفة ولا محزونة . فقد تكفل الله بحفظه ورده إليها وأنه جل جلاله مرسله إلى بني إسرائيل(2). والجدير بالذكر هنا أن قوله تعالى : " وأوحينا إلى أم موسى ليس بوحي نبوه بل ألهمناها وقذفنا في قلبها فالنساء لا يمكن أن يكن مرسلات أو نبيات بل يمكن أن يكن صالحات ووليات . فقذفته في اليوم خوفاً عليه وطمعاً في نجاته فأخذه أتباع فرعون ليتحقق ما قدره الله سبحانه وتعالى بأن يكون موسى عليه السلام هاديا ورسولاً للمؤمنين وعدوا لدوداً لفرعون وآله مثيراً لأحزانهم(3)وهادماً دنياهم ودينهم ففرعون وهامان وأمثالهم في كل مكان وزمان كانوا خاطئين في كل شيء " عاصين ربهم في أفعالهم " . فعاقبهم الله سبحانه وتعالى فربى عدوهم ومزيل ملكهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم(4). __________ (1) - ابن كثير , أبو الغداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم ج 3/ 38 بتصرف . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 576 . (3) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 576 . (4) - النفسي , أبو البركات , عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 / 227 . وأنظر , الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 4225 . (1/11) " وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك " . ذلك لما رأته قالت لزوجها هذا الطفل مبعث سرور لي ولك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداة الله به كما هداها ولكنه أبى إلا للشقاء الذي كتبه الله عليه(1)" . فهداها الله به وأسكنها الجنة بسببه عليه السلام فقبل فرعون ذلك وهو " على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه "(2). من دون أن يشعر بأن هلاكهم وفناء ملكهم على يديه(3). ذلك أن وعد الله حق فقد تكفل الله سبحانه تعالى لأم موسى بحفظه ورده إليها فكان أمر الله مفعولاً فرده إليها لتربية وتشبع عينيها منه ثم شب موسى وأرسل فكان رحمة لزوجة فرعون وحزناً لفرعون وأتباعه إلى يوم الدين . أخي المسلم هيا بنا لنقف تحت ظلال هذه الآيات لنريح عقولنا ونستنبط ما نستطيع من توجيهات لعلها تكون لنا عوناً في هذا العصر المظلم . قال الخالق العظيم : " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فالقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " . توجهنا هذه الآية الكريمة بأن علينا إتباع أوامر الله سبحانه وتعالى مهما كانت حتى ولو ظاهرها خطر وفناء ذلك أن الله سبحانه وتعالى وعده حق فإذا وعد كان حق لقد أوحى إلى أم موسى أن ألقيه في اليم إذا خفت عليه ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك سالماً وجاعلوه من المرسلين فالخالق العظيم وعد أم موسى بسلامة موسى فكان وعده حق . والله سبحانه وتعالى وعدنا بالنصر وإظهار الدين على كل الأديان ولوضع الكافرون المكائد والمصائد في عقول وطرق المسلمين . __________ (1) - وانظر الخوارزمي , جار الله محمود , الكاشف , ج3 / 166 . (2) - الخوارزمي , جار الله محمود , الكاشف ج3 / 166 . (3) - ابن جزي , محمد بن أحمد بن جزي , تفسير ابن جزي ص 514 . وانظر مجمع البيان ج6 / 261 , وتفسير القرطبي ج13 / 254 . (1/12) حفروا الحفائر ووضعوا المصائد وخططوا الخطط ورجالهم نفذوا ما خططوا لهم بيد أن وعد الله حق فلا بد أن ينصرنا عليهم ولو كره الكافرون . في الماضي البعيد احتلوا أرضنا واستعمروا شعبنا ونهبوا ثروتنا فاستطاع الأجداد بعون الله تعالى اقتلاعهم فوضعوا تلاميذهم من أبناء جلدتنا ورثوهم الضلال الذي يريدون فكان الذي كان وحصل الذي حصل بيعت فلسطين بأرخص الأسعار وفككت البلدان وفرقت على الطغاة والحاقدين . ولكن هل نستسلم أو نيأس والله سبحانه وتعالى قد وعدنا بالنصر وإظهار دين الحق على كل الأديان . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال عصابة من المسلمين يقاتلن على الحق ظاهرين على من ناوءاهم إلى يوم القيامة "(1). وسنظل نؤمن بالله وبوعده وبنصره القريب . وقال تعالى : " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد "(2). * * * المبحث الثالث إن وعد الله حق بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " وأصبح فؤاد أم موسى فراغاً إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين { 10 } وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون { 11 } وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون { 12 } فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون {13}". أمام عيني هذه الآيات الكرام التي تبرهن بأن وعد الله حق لا ريب فيه فهذه أم موسى قد أصبح فؤادها فارغاً " من كل شيء إلا ذكر موسى "(3). __________ (1) - رواه المسلم . (2) - سورة غافر – آية 51 . (3) - أنظر ابن كثير , أبو الغداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم ج 3 / 381 . 43- القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن , ج13 / 255 . (1/13) لما دهمها من الجزع بوقوع ولدها في يد الطاغية فرعون ولكن رحمة الله واسعة فقد ربط على قلبها بالإيمان(1)ورزقها الصبر واليقين(2)لتكون من المؤمنين . وقالت لأخته اتبعي أثره وخذي خبره وتطلبي شأنه من نواحي البلد فصبرت به عن بعد(3)وآل فرعون لا يشعرون بها { وحرمنا عليه المراضع من قبل } . أي تحريما قدرياً ذلك لكرامته وعلو شأنه عليه السلام عند ربه عز وجل وصيانة له أن يرتضع غير ثدي أمه لأن الله سبحانه وتعالى جعل الرضاعة سبباً إلى رجوعه إلى أمه لترضعه وهي آمنة مطمئنة(4) { ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون } أي لتعالم بأن وعد الله حق بأنه سبحانه وتعالى سوف يرده إلى أمه لتقربه عينها وليطمئن فؤادها ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه حق فيرتابون " وذلك لإعراضهم عن النظر في آيات الله سبحانه وتعالى "(5). فالآيات السالفة توجهنا نحن شباب هذه الأمة لنسير سيراً منتظماً مستقيماً لا يهمنا في إتباع الحق والعمل به لومة لائم , إن الله جل جلاله يساعد المؤمنين وينقذهم من المهالك والصعاب ولعل أصدق مثال على ذلك قصة الصديقة أم موسى كادت لتبدي به لولا أن ربط الله سبحانه وتعالى على قلبها بالإيمان والنصر لتكون من المؤمنين المصدقين بوعد الله بأنه جل جلاله سيرده إليهما سالماً غانماً لتقربه عينها ويطمئن فؤادها . لنقف عند بعض الآيات الكرام ولنستنتج ما بها من التوجيهات . __________ (2) - ابن جزي , محمد بن أحمد , تفسير ابن جزي , ص514 . (3) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن ج13 / 255 . (4) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 381 . (5) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 429 , وانظر تفسير الكشاف ج3 / 168 , (1/14) قال تعالى : " وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً وإن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين " . لنتأمل هذه الصورة التعبيرية الكريمة . فهذه أم موسى قد أصبح فؤادها فارغاً من كل شيء غلا من ذكر موسى وتصوره بيد أن رحمة الله أوسع من كل شيء فقد رزقها الصبر واليقين لتكون من المؤمنين . أخي المسلم كم سمعت من أم مجاهد ودعت ولدها الوداع الأخير ولولا فضل الله عليها ورحمته لأصبح مصيرها مجهولاً . قال تعالى : " فرددناه إلى أمه كي تقرعينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون " . نعم والله أكثر الناس لا يعلمون بأن وعد الله حق إذا ما أراد شيئاً أنه يقول له كن فيكون فنحن هاهنا ضعفاء تفترسنا الذئاب البشرية وتفتك بأجسادنا الجرائم التي زرعت فيها . أرضنا محتلة ونفوسنا مستزلة ونحن ضعفاء على رغم من كثرتنا لا نملك من المال إلا القليل ومن السلاح إلا العتيق ولا نملك من القول إلا حروفه ومن الفعل إلا صوته . والله أنزل علينا كتاباً قيماً لنتدبره ولنعلم أن وعد الله حق ولسوف يردنا إلى ديننا الذي ارتضاه لنا رداً حسناً ولسوف ينصرنا بفضله على أعدائنا لنقيم الحق ونزهق الباطل بكافة أشكاله وألوانه ذلك أن وعد الله حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون . * * * المبحث الرابع جزاء المحسنين بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " ولما بلغ أشده واستوى آتينه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين {14} ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان غنه عدو مضل مبين {15} قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم {16} قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين {17} " . (1/15) بين أناملي وفي قلبي هذه الآيات المبشرات التي تبشر بالخير والفلاح والعلم والحكم لعباد الله المؤمنين المحسنين فهذا نبي الله موسى عليه السلام لما بلغ " كمال القوة الجسمانية والبدنية والعقلية "(1). وهبه الله جل جلاله فقها وعلماً بدينه ودين آبائه(2). كذلك فإن الله عز وجل يجزي المحسنين " قال الزجاج جعل الله تعالى إيتاء العلم والحكمة محازاة على الإحسان لأنهما يؤديان إلى الجنة(3)" . فالنبوة أعلى الدرجات البشرية فلا بد أن تكون مسبوقة بالكمال والعلم والسيرة الحسنة المرضية التي هي أخلاق الكبراء والحكماء ولكن هنا لابد من الإشارة إلى اللبس الذي يقع به البعض في تفسير قوله تعالى : " وكذلك نجزي المحسنين " . من تفسيرها بأن النبوة يمكن اكتسابها عن طريق الإحسان بيد أن هذا اللبس يمكن أن يزال بالفهم الصحيح للآية المذكورة ذلك " أن المراد بالحكم والعلم لو كان هو النبوة لوجب حصول النبوة لكل من كان من المحسنين لقوله وكذلك نجزي المحسنين لأن قوله وكذلك إشارة على ما تقدم ذكره من الحكم والعلم ثم بين إنعامه عليه قبل قتل القبطي "(4). وفي أحد الأيام دخل موسى عليه السلام السوق فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما من شيعته والآخر من قوم فرعون فاستعان به الإسرائيلي على خصمه فأعانه عليه بضربة بقبضة يده فقتله من غير قصد(5). __________ (1) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 429 . وانظر تفسير البيضاوي ج2 / 209 . (2) -في تفسير الكشاف { العلم } التوراة و{ الحكم } السنة . (3) - النسفي , أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 / 229 وفي تفسير البيضاوي { نجزي المحسنين } مثل ذلك الذي فعلنا بموسى وأمه , نجزي المحسنين على إحسانهم . (4) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب ج6 / 430 . (5) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن , ص577 . (1/16) فأسف موسى وقال : " إن إقدامي على هذا من عمل الشيطان إن الشيطان لعدو ظاهر العداوة واضح الضلال "(1). فندم موسى عليه السلام على ما فعل وتاب إلى الله توبة صادقة نصوحاً فأجاب الله سبحانه تعالى دعوته وغفر له إن الله هو الغفور الرحيم(2). فقال موسى عليه السلام " يا رب بحق إنعامك علي بالحكمة والعلم وفقني للخير والصواب فإذا وفقتني فلن أكون عونا للكافرين "(3). ذلك أن موسى عليه السلام كان يركب ركوب فرعون ويصحبه كالوالد لذلك تاب إلى الله تعالى(4). وقال : " فلن أكون ظهيراً للمجرمين " . إن الإنسان لا يبلغ أشده ويستوي ويؤتيه الله تعالى العلم والحكمة أو يؤتيه الرياسة حتى يصبح معقد أمل شيعته وقلبه شعبه(5)وخصوصاً إذا ما أنعم الله عليه بالإحسان فعمل بما علم عندها يرزق بفضل الله الحكمة ولعل هذا القانون الإلهي يجب أن أكون دافعاً وموجهاً لشباب هذه الأمة لكي تتعلم فإذا علمت وعلمت بما علمت وهبت من الله جل جلاله العلم والحكمة فتقود الأمة إلى سيرتها الأولى لتكون خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن النكر . والجدير بالأهمية في هذه الآية هي رحمة الله الواسعة , فموسى أخطأ فغفر الله سبحانه وتعالى له الخطأ الذي ارتكبه فالله جل وعلا غفور رحيم واسع المغفرة يقبل التوبة من التائب " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فاني أتوب في اليوم مائة مرة "(6). __________ (1) - المرجع السابق , ص577 . (2) - انظر , الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب ج6 / 430 – 431 – وكذلك تفسير الكشاف ج3 / 168 (3) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن العظيم , ص 577 . (4) - الزمخشري , أبو القاسم جار الله محمود , الكشاف , ج3 / 168 , انظر تفسير النسفي , ج2 ص230 . (5) - رضوان , يحيى , القصص القرآنية , ص40 . (6) - رواه مسلم { 2702 } (1/17) فهذا رسول الله يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة ترى نحن أبناء هذه الأمة كم مليار مرة بحاجة للتوبة ليتوب الله علينا وينقذنا من هذا الجحيم الذي نحن فيه . عن أبي موسى عبد الله قيس الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها "(1) فأسرع أخي المسلم بالتوبة والاستغفار عسى أن يتوب جل جلاله علينا , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر "(2). لنضع بيم جوانحنا معاني هذه الآية الكريمة ولنحاول الوقوف في ظلال الآية : " ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين " . فموسى عليه السلام لما بلغ كمال القوة الجسمانية والعقلية والبدنية , وهبه الله فقهاً وعلماً بدنية ودين آبائه . قال تعالى : وكذلك نجزي المحسنين " عند هذه الآية العظيمة لنقف وقفة متأمل . أعلم أخي المسلم أن المحسنين جزاؤهم الفوز بالدارين ولكن كيف نصل إلى مرتبة الإحسان وكيف نكون من المحسنين ونحن في عصر الصعوبات المادية والنفسية كيف نصل على مرتبة الإحسان وكيف نكون من المحسنين ونحن في عصر الصعوبات والعقبات كيف نصل إلى مرتبة الإحسان وقد تربينا على حب الشهوات وجمع الأموال والجري وراء السلطة والجاه . كيف نصل لمرتبة الإحسان وقد نسينا كتاب الله وسنة رسول الله وكل ما فعلناه هو أننا شهدنا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله قولاً فقط . لا جرم أن الله سبحانه وتعالى يزيد الذين اهتدوا هدى وبفضل الله سبحانه وتعالى اهتدينا ونحاول بكل الطرق أن نصل إلى مرتبة الإحسان . __________ (1) - رواه مسلم { 2760 } (2) - رواه الترمذي 3531 وانظر رياض الصالحين ص13 . (1/18) أخي المسلم عليك بإخلاص وصدق الطوية وإياك ثم إياك والرياء وعليك بتلاوة القرآن وكثرة الدعاء وترتيل أذكار الصباح والمساء واحتفظ بتفسير صغير مثل تفسير الجلالين وكتاب رياض الصالحين وأقرأ كتاب تهذيب سيرة ابن هشام فيه من العبر والدروس مالا تعد ولا تحصى وعليك بكتاب حياة الصحابة لمحمد يوسف الكاندهلوي وكتب تاريخ أمتك . أخي المسلم لا تضيع وقتك سدى وطالع في أمهات الكتب الإسلامية وعد إلى دين الله . وأحفظ جوارحك من المعاصي ليحفظها الله لك نشيطة قوية . أخي المسلم لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي وابتعد عن المحرمات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فما تركت بعدي فتنه أضر على الرجال من النساء " . وعند سلوك هذا السلوك تعالى لنرفع أيدينا على الخالق العظيم ونقول اللهم يا من وهب موسى علماً وحكماً هب لنا علماً وحكماً وانصرنا على أعدائنا يا أرحم الراحمين . * * * المبحث الخامس من يتوكل على الله فهو حسبه بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى : (1/19) " فأصبح في المدينة خائفاً يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لقوي مبين {18} فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين {19} وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين {20} فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين {21} ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهدني سواء السبيل {22} ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير {23} فسقى لهما ثم تولى على الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير {24} فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين {25} قالت أحداهما يأبت استأجره أن خير من استأجرت القوي الأمين {26} قال إني أريد أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين {27} قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل {28} . " أمامي هذه الآيات المباركات التي تقص قصة موسى عليه والسلام في أخطر مرحلة من حياته إلا وهي مرحلة الخوف والهروب . فبعد أن قتل موسى عليه السلام القبطي أصبح فارغاً يتوقع في أي لحظة أن يقع عليه الأذى من فرعون وآله . (1/20) فوجد الإسرائيلي الذي طلب مده بالنصرة بالأمس يستغيث به مرة ثانية على مصري آخر فهزه موسى قائلاً له : إنك لشديد الغواية(1)" قتلت بسببك بالأمس رجلاً وتدعوني اليوم لآخر "(2). ومع هذا أخذته الرأفة بالإسرائيلي وأراد أن يفع القبطي ويبطش به فظن الإسرائيلي أن موسى يقصده فقال ليدفع عن نفسه الأذى والقتل قال : يا موسى أتريد أن تقتلني وتبطش بي كما قتلت نفساً بالأمس(3)وما تريد إلا أن تكون طاغية في الأرض ما تريد أن تكون من دعاة الخير والإصلاح(4) فتدفع التخاصم بالتي أحسن . قد يتبادر إلى أذهن السؤال التالي : كيف يجوز لنبي الله موسى عليه السلام أن يقول لرجل من قومه يستعين به إنك لغوي مبين ؟ . ربما كان الجواب على ذلك أن قوم موسى كانوا جفاة القلب غلاظاً ودليل هذا الاستنتاج قولهم لموسى بعد أن شاهدوا الآيات العظام أجعل لنا إلها كما لهم آلهة فالمراد بالغوي المبين ذلك والله أعلم(5). __________ (1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 578 . (2) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن , ج 13 / 265 وانظر تفسير النسفي , ج2 / 230 . (3) - الطبرسي , أبو علي الفضل بن الحسن , مجمع البيان في تفسير القرطبي ج 13 ص 265 . (4) - النسفي , أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 , المصلحين في كظم الغيظ , وانظر تفسير القرطبي ج13 , ص265 . (5) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر , مفاتيح الغيب , ج6 / 432 . (1/21) ومرت لحظات عصيبة فإذا برجل من آل فرعون جاء مسرعاً ليخبر موسى عليه السلام " بأن القوم يتشاورون لقتلك ويقول له اخرج من المدينة فراراً من القتل إني لك من الناصحين(1)فخرج من مصر وحيداً من الصحبة والمال داعياً ربه متضرعاً عسى أن يخلصه منهم ويحفظه(2). فتوجه تلقاء مدين متوكلا على ربه , فهداه بفضله " إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة فجعله هادياً مهدياً(3)" . وبعد الكثير من المشعات والصعاب وصل عليه السلام إلى مدين فوجد على جانب البئر جماعة كثير من أناس مختلفين يسقون مواشيهم ووجد في مكان أسفل من مكانهم امرأتين تدفعان غنمهما بعيداً عن الماء فقال لهما موسى عليه السلام لماذا تدفعان غنمكما عن الماء . فأجابتا : لا نستطيع الزحام ولا نسقي حتى يسقي الرعاة ذلك أن أبانا شيخ طاعن في السن لا يستطيع الرعي والسقي فتطوع نبي الله موسى يسقي أغنامهن ثم ركن إلى ظل شجرة ليريح جسده من الجهد والتعب(4). " ولما رجعت المرأتان سريعاً بالغنم إلى أبيهما أنكر حالهما بسبب مجيئهما سريعاً فسألهما عن خبرهما فقصتا عليه ما فعل موسى عليه والسلام فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها "(5). __________ (1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن العظيم , ج 3 / 313 . (2) - البيضاوي , عبد الله بن عمر بن محمد بن علي , أبو الخير , ناصر الدين تفسير البيضاوي , ج2 / 215 . (3) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 313 . (4) الزمخشري , أبو القاسم جار الله محمود , الكشاف , ج3 / 170 . وأنظر المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 578 . وتفسير النفسي . ج2 / 432 . (5) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 384 . (1/22) فجاءته إحدى الفتاتين , فقالت له : إن أبي يدعوك إليه ليجزيك أجر ما سقيت لنا . " وهذا تأدب في العبارة لم تطلبه طلباً مطلقاً لئلا يوهم ريبة بل قالت : أن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا "(1). فلما ذهب إليه وقص عليه قصته مع عدو الله فرعون وهروبه من مصر قال والد الفتاتين : لا تخف , نجوت من الظالمين إذ لا سلطان لفرعون علينا هنا . وقال له شعيب عليه والسلام " إني أريد أن أزوجك من إحدى ابنتي هاتين على أن يكون مهرها العمل عندي ثماني سنوات فان أتممتها عشرا فمن عندك تطوعاً وما أريد أن ألزمك بأطول الأجلين وستجدني إن شاء الله من الصالحين المحسنين المؤمنين للعهد "(2). فقال له موسى عليه السلام : ذلك الذي عاهدتني عليه قائم بيني وبينك فأي الأجلين قضيت أكون وفيت بعهدي والله على ما نقول شهيد . ومما فسر – إذا صح التعبير – من الآيات الكرام أستطيع أن أستنتج التوجيهات الإلهية التالية : 1- إن من يتوكل على الله حق التوكل لا يضل ولا يشقى فهذا موسى عليه السلام خرج من مصر خائفاً ليس معه مالٌ أو طعام فدعا ربه متضرعاً " عسى ربي أن يهديني سواء السبيل " فهداه الله بفضله وبرحمته وكذلك المحسنين . 2- إن الله سبحانه وتعالى لا يترك عباده الصالحين يتخبطون في ظلمات الليالي فموسى عليه السلام أحس بأن الأرض ضاقت بما رحبت وأنه قد ابتلى بهذه الجريمة التي ارتكبها عن غير قصد فساق الله إليه رجلاً فنصحه بالابتعاد عن مصر خوفاً من أذى فرعون وآله فنجى موسى من هذا الشرك بفضل الله تعالى ورحمته وكذلك المحسنين(3). __________ (1) - المرجع السابق , ج3 / 384 . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 578 . (3) - رضوان , فتحى , القصة القرآنية , ص55 . (1/23) 3- أن نساعد الضعفاء من دون أي مقابل أو عوض إلا لمرضاة الله , فهذا موسى عليه السلام وجد على الماء امرأتين تذودان فسقى لهما وانصرف إلى الظل وهو لا يبغي غلا مرضاة الله جل جلاله وكذلك المحسنون . 4- جواز الأسترحة في الدنيا بعد المشقات والتعب فموسى بعد أن سقى للمرأتين تولى على الظل ليستريح(1). 5- جواز العمل بالخبر الواحد فهذا نبي الله موسى عليه السلام جاءته إحدى الفتاتين تدعوه على أبيها فذهب معها . 6- لا بأس بالمشي مع المرأة في حال الحاجة الشديدة مع الاحتياط والتورع(2). 7- وتبين لنا الآية الكريمة " أن خير من استئجرت القوي الأمين " الصفات التي يجب أن يتحلى بها الإنسان الذي يتصدى لقيادة الأمة فبدون الكفاءة والأمانة لا يستقيم الأمر وعدم تحلي القيادة بهاتين الصفتين يؤدي إلى ضعف والتخلف والكفاءة وحدها لا تكفي إذا لم تصحبها الأمانة والأمانة وحدها لا تكفي بل لا بد من تزاوج الكفاءة مع الأمانة مع شخص القائد المسلم " وقد أشارت إلى ذلك ابنة شعيب عليه السلام حينما طلبت من أبيها أن يتعاقد مع موسى عليه السلام للعمل عنده وسجل القرآن الكريم " يا أبت استأجره إن خير من استئجرت القوي الأمين(3). * * * المبحث السادس اللقاء المقدس بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : __________ (1) - النسفي , أبو البركان عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل , وحقائق التأويل , ج2 / 232 . (2) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 430 . وانظر تفسير النسفي , ج2 / 232 . (3) - بليق , عز الدين , موازين القرآن الكريم , دار الفتح للطباعة والنشر بيروت لبنان 1984 , ج2 / 165 . (1/24) " فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور ناراً قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون {29} فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين {30} وأن ألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملإيه إنهم كانوا قوماً فاسقين {32} قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون {33} وأخي هارون هو أفصح في لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون {34} قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطناً فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون {35} . " أمامي هذه الآيات البينات التي تهز وجدان كل من فيه ذرة إيمان لما فيها من عبر وتوجهات وحكم إلهية . فموسى عليه السلام قد أتم الأجل المشروط " وظهرت أنوار النبوة فسار بأهله ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه(1)" . __________ (1) - النسفي , أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل وحقائق التأويل ج2 / 234 . (1/25) فأبصر وهو في الطريق من ناحية جبل الطور ناراً فقال لأهله امكثوا هنا إني آنست ناراً سأذهب باتجاهها لعلي آتيكم بجذوة منها تستدفئون فلما وصل موسى إلى النار سمع من ناحية الجانب الأيمن من شجرة النابتة في البقعة المباركة بجانب الجبل نداء علوياً يقول له : " يا موسى إن الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين الفعال لما يشاء لا إله غيره ولا رب سواه تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله سبحانه وتعالى "(1). ألق عصاك فألقاها فقلبت بأمر الله ثعبانا يسعى فلما أبصرها موسى على هيئتها الرهيبة خاف وفر فزعاً ولم ينظر وراءه " فقيل له يا موسى أقبل على النداء وعد إلى مكانك ولا تخف , إنك في عداد الآمنين من كل مكروه(2). وهذا الذي حصل لموسى خوف طبيعي أمام كل شيء مجهول أو مخيف يهدد الإنسان في ذاته ووجوده وهو ليس قاصراً على العامة من الناس بل اعتدى بعض الأنبياء كموسى كما أسلفنا(3). إن الله سبحانه وتعالى قد وضع لموسى عليه السلام منهجاً تدريبياً قبل أن يذهب إلى فرعون فعندما ذهب موسى إلى النار حوار بينه وبين الله جل جلاله وكان الغرض من الحوار أن يأنس موسى للرسالة القادمة إليه وأن يتدرب على مواجهة الكفر ورجاله . وأستطيع بعون الله تعالى أن استخلص من قصة رحيق الآيات الكريمة سالفة الذكر : __________ (1) - ابن كثيرة أبو الفداء , إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج2 / 388 وانظر مجمع البيان ج5 / 287 " أني أنا الله رب العالمين " أي المتكلم لك هو الله مالك العالمين , وخالق الخلائق أجمعين تعالى وتقدس عن أي يحل في كل أيكون في مكان . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن العظيم , ص 580 . (3) - الشريف , عدنان , من علم النفس القرآني , دار العلم للملايين 1987 م بيروت لبنان , ص 64 . (1/26) 1- أجاز الشارع الحكيم أن يسامر الرجل بأهله حيث يشاء لماله من فضل القوامة وزيادة الدرجة إلا أن يلتزم لها أمراً فالمؤمنون عند عهودهم(1). 2- إن الله سبحانه وتعالى إن شاء يجيب دعوة المؤمن إذا دعا . فهذا موسى عليه السلام ترجى ربه الكريم بأن يشد عضده بأخيه هارون فأجابه سبحانه وتعالى بفضله ورحمته إلى ذلك . 3- إن الخوف سنه من السنن الموضوعة في بني آدم وليس عيباً فيه فهذا موسى وهو نبي الله وكليمه خاف ورعب وذلك لإنسانية وضعفه . * * * المبحث السابع عاقبة الظالمين بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " فلما جاءكم موسى بآيتنا باينت قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين {36} وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون {37} وقال فرعون يأيها الملأ ما عملت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فأجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكافرين {38} واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون {39} فأخذناه وجنوده فنبذنهم في اليم فأنظر كيف كان عاقبة الظالمين {40} وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون {41} واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين {42} . " يخبرنا البيان الإلهي عن مجيء موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وآله وما آتاهما الله تبارك وتعالى من المعجزات الباهرة والدلالات القاهرة. __________ (1) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن , ج13 / 281 . (1/27) فراقب فرعون وآله تلك المعجزات وتحققوا منها بأنها من عند الخالق جل جلاله بيد أنهم عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى الطغيان والتكبر والابتعاد عن أتباع الحق(1)فقالوا " ما هذا إلا سحر تعلمه أنت ثم تفتريه على الله كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله "(2). ولم نسمع فيما تدعيه وتدعوا إليه في آبائنا الذين كانوا قبلنا " إنما قالوا ذلك مع اشتهار قصة نوح وهود وصالح وغيرهم من النبيين الذين دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته "(3). على أن القوم جحدوا وبهتوا وما وجدوا ما يدفعون به جاءهم من البينات غلا قولهم سحر مفترى وبدعة لم نسمع بمثلها من قبل فقال لهم موسى عليه السلام : ربي يعلم بأني قد جئت بهذه الآيات الدالة على الحق والهدى من عنده جل جلاله وهو دليل واضح مبرهن على صدقي إن كذبتموني وجحدتم ويعلم الله سبحانه تعالى أن العاقبة الحميدة لنا ولأهل الحق إنه لا يفوز بالخير الكافرون المشركون بالله عز وجل(4). ويخبرنا سبحانه وتعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعواه الربوبية لنفسه فاستجاب قومه بقلة عقولهم وضيق أفقهم(5). __________ (1) - ابن كثير , أبو الفداء , إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 389 . (2) - الزمخشري , أبو القاسم جار الله محمود , الكشاف , ج3 / 389. (3) - الطبرسي , أبو على الفضل بن الحسن , مجمع البيان في تفسير القرآن ج5 / 295 . وأنظر تفسير الكشاف , ج3 / 176 . (4) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 581 . (5) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 390 . (1/28) لهذا قال لهم : " يا أيها الملأ ما عملت لكم من إله غيري " ذلك أن فرعون كانت من عادته كلما ظهرت حجة موسى أن يتعلق لرفع تلك الحجة بافتراء يروجه على أسماع قومه فادعى الإلوهية . بيد أنه لم يكن ليدعي أنه الخالق للسموات والأرض والخالق لذوات الناس وأفعالهم بل هو الإله المعبود " " فالرجل كان ينفي الصانع ويقول لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم "(1). وهذا هو عهد الظالمين في العصور قديماً وربما تغيرت الأساليب والمناهج بيد أن المضمون واحد ففراعنة العصر الحديث تشربوا بأفكار فرعون مصر . صحيح أن بعض لم ينكر وجود الخالق لكنهم صنعوا أفظع من ذلك فحاولوا تشويه الشرائع السماوية والقائمين عليها والتابعين لها من عباد الله فحاولوا عزلهم عن مجتمعهم وجماعاتهم بكافة الرسائل وشتى الأساليب بالشدة واللين بالمكر وبالسخف والطغيان بيد أن الله جل جلاله قد تفضل علينا بهذه الآيات البينات لتبين لنا إن النصر والغلبة لعباد الله الصالحين وأن للكافرين اللعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين . فهذا إمام الطغيان يخاطب وزيره هامان خطاب الجبابرة قائلاً له ابني لي صرحاً شامخاً عالياً لأصعد إليه " لعلي أطلع على إله موسى ". القصص 38 . { وهذا تلبيس من فرعون وإبهام على العوام وأن الذي يدعوا إليه موسى يجري مجراه في الحاجة إلى المكان والجهة }. ولعل هذه الآية العظيمة تذكرنا بعصرنا من بناء الكافرين للصواريخ والسفن الفضائية ومحاولاتهم بلوغ النجوم والكواكب والاتصال بمخلوقات الفضاء بحسب زعمهم وهمهم الذي أوحاه وزينه الشيطان لهم , ولكن ما نهاية المطاف مع هؤلاء لا جرم بأن نهايتهم كنهاية فرعون وأتباعه , يقول تعالى : " فأخذته وجنوده فنبذهم في اليم فأنظر كيف كان عقبة الظالمين "(2). __________ (1) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 442 . (2) - سورة القصص , آية 40 . (1/29) فتدبر أخي المسلم نهاية الطغيان والكبر فهذا فرعون إمام الظالمين انتزع من سلطانه واستدراج هو وجنوده إلى هلاكهم . ولسوف ينتزع الله سبحانه وتعالى بفضله ورحمته على أيدينا نحن أبناء هذه الآمة أتباع فرعون ومقلديه من الكافرين والجاحدين والمنافقين . قال تعالى : " وجعلناهم أئمة يدعون على النار ويوم القيامة لا ينصرون ". أي جعلناهم زعماء يتبعون على الكفر فيكون عليهم وزرهم ووزر من إتباعهم ويوم القيامة لا يجدون من ينصرهم ويخرجهم من هذا العذاب(1). لقد جعلهم جل جلاله من المطر ودين المخلدين في النار جهنم وبئس المصير . فقصة موسى وفرعون تحوي بين طياتها عبراً كثيرة لأولى الألباب . فيها عبر للمستضعفين الصابرين وإنذار غليظ للمفسدين في الأرض وأن عاقبة الحسنة للمؤمنين المتقين والعقاب المهيمن للطغاة الظالمين . إن التعاون بين الحاكم وأركان دولته يجب أن يكون ضمن إطار البر والتقوى , ضمن إطار الصالح العام على أن لا يتعدى إلى الإثم والعدوان ففرعون عندما أخذه الله سبحانه وتعالى أخذه أخذ عزيز مقتدر وأغرقه في اليم وأغرق معه آله وجنوده الذين كانوا أداة طيعة في تذبيح الأبناء واستحياء النساء وتعذيب الأبرياء فأصبحوا شركاءه في الهلاك كما كانوا شركاءه في الفساد والطغيان(2). أخي المسلم لنقف قليلاً في ظلال بعض آيات هذه السورة الكريمة . __________ (1) - البيضاوي , عبد الله بن عمر بن علي , تفسير البيضاوي , ج2 / 217 , وانظر تفسير القرطبي , ج13 , 289 . وانظر إلى القرآن الكريم للشيخ محمود شلتوت ص 124 . (2) بليق ، عز الدين , موازين القرآن ج2 / 153 . (1/30) قال تعالى : " فلما جاءهم موسى بآيتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعت بهذا من آبائنا الأولين قال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون " . فنلاحظ أن البيان الإلهي يصور لنا جحود فرعون وقومه وحججهم الواهية وتنعتهم ليضرب لنا مثلاً أعلى نستطيع أن نقيس عليه أي حدث مشابه لهذا الحدث العظيم . فملحدين هذا العصر لم ينكروا والأديان فقط بل أنكروا الله تعالى و جاوؤنا بحجج سخيفة ليبرهنوا أن هذا العالم وما فيه لم يخلق بل وجد عن طريق المصادفة أو عن طريق التفاعل الذاتي أو أنه قديم لا خالق له . ومنهم من يأتينا بأمثلة سخيفة ليبرهنوا لنا أن الأرض جاءت بمحض المصادفة . قال : لو جئنا بحروف مطبعة ونثرناها على أرض معينة ثم تركناها للريح تبعث بها كيف شاءت ثم نظرنا وتمعنا لوجدنا أن الريح العمياء قد رتبت الحروف بشكل يعطي معنى معيناً وبعد فترة من الزمن ربما تتشكل كلمة ثانية وربما ثالثة ورابعة . وهكذا وعلى هذا النسق تكونت السموات والأرض . انظر أخي المسلم إلى هذا المثال السخيف عن خلق السموات والأرض وما فهين . فعندما نقول بأن هناك حروفاً مطبعية فهذا يعني أن هناك صانع لهذه الحروف وهناك من أعطى لهذه الحروف معان معينة وهنالك من أرسل ريحاً ثابتة وهناك من ثبت الحروف المطبعة فكلما شكلت كلمة ثبتت إلى أختها حتى تشكلت تلك العبارة أو الجملة أو القصيدة وبعد هذا كيف نفسر كل هذه العوامل والأشياء التي أمامنا . قال تعالى على لسان فرعون : " وقال فرعون يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين " . لاحظ أخي المسلم أن فرعون يريد أن يبني بناءاً عالياً ليطلع على خالق السموات والأرض ويقول أيضاً " وإني لأظنه من الكاذبين " . (1/31) فهذا هو إمام الكافرين يدعو مقلديه إلى النار وإلى السير خلفه واتخاذ منهجه منهاجاً وشريعة فهذه دولة الكفر " الإتحاد السوفيتي " رغم اتساع مساحتها وقوة بطشها قد انتهت في يوم وليلة بدون حرب ولا خسائر ولسوف يتم الله نعمته علينا فيردنا إلى ديننا رداً حسناً . إن الله على كل شيء قدير . * * * الباب الثاني محمد صلى الله عليه وسلم والمكذبين المبحث الأول جحود الكافرين بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون {43} وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين {44} ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلوا عليهم آيتنا ولكنا كنا مرسلين {45} وما كنت بجانب الطور غذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما آتهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون {46} ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آيتك ونكون من المؤمنين {47} فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظهراً وقالوا إنا بكل كافرون {48} قل فأتوا بكتب من عندنا الله هو أهدى منهما اتبعه إن كنتم صادقين {49} فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدىً من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين {50} ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون {51} . " يخبرنا مالك الملك ذو الجلال والإكرام عما أنعم به على عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السلام من إنزال التوراة عليه بعدما أهلك فرعون وآله وغيره من الأمم السابقة لتكون نوراً للقلوب المظلمة التي تبحث عن النور والهدى فكانت هذه الآيات برهاناً على أن الكتب السماوية كلها من مشكاة واحدة فهي كتب نور وهداية تهدي للتي هي أقوم . (1/32) ينبه الله سبحانه وتعالى عن حقيقة واضحة جلية وهي صدق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضراً مع موسى عليه السلام في المكان الغربي من الجبل حين عهد الله إليه بأمر الرسالة فكيف يكذب هؤلاء الجاحدين بهذه الرسالة العظيمة ورسولها وهو يتلو عليهم من أنباء السابقين بكل ما فيها من عبر وحكم فأي دليل أعظم من هذا يا أخي على صدق رسالة رسولنا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وسلم . فكتاب الله يحوي أخبار الأمم الغابرة التي لم يقص قصصها أحد بهذا الوضوح وهذا العلاج الغني لمواقف وأحداث القصة . لقد خلق الله جل جلاله أمما كثيرة في أجيال طال عليها الزمن فنسوا وتناسوا ما جاءهم من الهدى وما أخذ عليهم من العهود والمواثيق ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن معهم أو مقيماً فيهم حتى يخبر أهل مكة بأخبار مدين ذلك إن الله سبحانه وتعالى قد أرسله بالحق وانزل عليه قرآناً عربياً مبيناً ولم يكن رسولنا عليه الصلاة والسلام حاضراً بجانب الطور عندما نادى الله موسى واصطفاه لرسالته لكن جل جلاله قد أعلم بيننا هذه الأنبياء بالوحي الآمين لتكون رحمة للبشرية لعلهم يتذكرون(1). قال تعالى " ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فتبع آياتك ونكون من المؤمنين " . أخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقوه من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولاً ولم ينزل عليهم كتاباً "(2). __________ (1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 582 . (2) - ابن القيم , محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد , التفسير القيم , تحقيق محمد حامد الفقي , لجنة التراث العربي , بيروت , ص 401 . (1/33) إن ربنا جل وعلا قد قطع عليهم هذه الحجة بإرسال الرسل وأنزل الكتب والصحف لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ونحن أمة الإسلام بقاؤنا واستمرارنا حجة دامغة على الكافرين يوم القيامة . لذلك يأمرنا الله بأن نأمر الناس بالمعروف وننهاهم عن المنكر ونبشر المخلوقات من أنس وجن بالإسلام ونعرفهم بالله وملكوته وإنعامه على مخلوقاته لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . عندما أنزل الفرقان على رسولنا الكريم قال الكفار والجاحدون " لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من الكتاب المنزل جملة واحدة من سائر المعجزات كقلب العصامية واليد البيضاء , وفلق البحر تظليل الغمام وغيرها من الآيات فجاءوا بالاقتراحات المبينة على التعنت والغباء فقالوا له لولا أنزل عليك كنز أو جاء معك ملك وما أشبه ذلك من الآيات الباهرات والحجج القاهرات التي أجراها تعالى على يدي موسى عليه السلام لتكون حجة وبرهاناً له على فرعون وملئه وبني إسرائيل ,ومع هذا لم ينجح في فرعون وملئه بل كفروا بموسى وأخيه(1)إن الله جل جلاله وعلا يوجهنا ويعرفنا على هؤلاء الجاحدين وأمثالهم في كل العهود والعصور وكيف كذبوا وجحدوا وبالمقابل كيف صبر الرسل وربطوا واتقوا الله فانتصروا بفضل الله ورحمته وكذلك المحسنون عليهم تقوى الله وإتباع هداه ولسوف يكون النصر حليفهم إن شاء الله تعالى . لقد أنزل تعالى الفرقان متواصلاً بعضه إثر بعض حسبما تقتضيه حكمة الله سبحانه وتعالى : ومتتابعاً وعداً وعيدا وقصصا وعبرا ليتدبروا ويؤمنوا بما فيه من هدى وخير وحياة طيبة في الدنيا والآخرة . أخي المسلم تعالى لنقف في ظلال هذه الآيات ولنحاول أن نطلع على ما بها من توجيهات إلهية للفرد المسلم . __________ (1) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 447 , وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج2 / 390 . (1/34) قال تعالى : " فإن لم يستجيبوا لك فأعلم إنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين " . أعلم أخي المسلم أن الذي لا يستجيب إلى الله ولا إلى رسوله فمن هؤلاء من يقول بوجوب استمرار فضل الدين عن الدنيا للحفاظ على الوحدة الوطنية ومنع التمييز بين أفراد الشعب الواحد , فالإنسان عندهم هو المدبر لجميع أموره وهو المتصرف في شؤونه ومن هنا ابتدعوا فكرة حكم الشعب فـ { حكم الشعب تعني أن الشعب هو سيد نفسه أي هو الذي يسن القوانين و { بالشعب } تعني أن الشعب هو الذي يحكم بما ابتدعوا من القوانين و { للشعب } تعني أن الشعب هو الذي يحكم بما سن من القوانين. فهل في الإسلام ديمقراطية ؟ نقول : أن فكرة الديمقراطية هي فكرة مبتدعة تنسجم مع فكرة فصل الدين عن الحياة فهي وليدتها وتأخذ حكمها ولأنها فرع لأصل مردود يعتبر معتنقها كافراً . ومعلوم أن فكرة فصل الدين عن الحياة هي نقيض لعقيدة المسلمين التي تتمثل بـ { لا إله إلا الله محمد رسول الله } . والفكرة التي تتولد من عقيدة المسلمين وتنسجم معها هي " أن الحكم إلا لله أمراً ألا تعبدوا إلا إياه وذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " . فقوله تعالى : " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " تعني أنه لا اعتبار لرأي الأكثرية تجاه ما قرره رب العالمين من أوامر وأحكام وغيرها . ففي النظام الإسلامي الكلمة العليا هي لله وحده والأمر والنهي والتحليل والتحريم هي للعلي القدير وليس لمخلوق سواء أكان فرداً أو جماعة أدنى نوع من أنواع المشاركة في التشريع مع الله تعالى فالله سبحانه وتعالى هو الذي يحكم " إن الحكم إلا لله " . ولا يملك أحد أن يعقب على حكمه فكيف يجتمع ليل الديمقراطية المزيفة مع نهار وضوء الإسلام الساطع . * * * المبحث الثاني صفات وأخلاق مؤمني أهل الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : (1/35) " الذين أتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون {52} وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين {53} أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون {54} وإذا سمعوا اللغوا أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلم عليكم لا نبتغي الجاهلين {55} إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين {56} . " يخبرنا العليم الحكيم عن مؤمنين أهل الكتاب وإيمانهم بالتوراة والإنجيل وبكل ما فيه من هدى وبشرى ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم . وإذا ما تُلي القرآن عليهم قالوا مسارعين " آمنا به لأنه الحق من ربنا ونحن عرفنا محمداً وكتابه قبل نزوله(1)" . فإسلامنا به سابق على تلاوته . فهذه الآيات البينات توجهنا لنؤمن بجميع الكتب السماوية وما فيها من هدى وتوجيهات وأنباء الغيب . " أولئك يؤتون أجرهم مرتين " بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم(2). فيدفعون بالصبر والمنطق الحسن(3)أذى المشركين وجحودهم . فهذه الآية توجهنا إلى كيفية معاملة المشركين والجاحدين في الحال ضعفنا وقوتهم وذلك بالقول الحسن والمناقشة العلمية والصبر والصلاة والنصر حليف المؤمنين إن شاء الله تبارك وتعالى(4). __________ (1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 583 . (2) - النسفي , أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 / 240 . (3) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد , الجامع لأحكام القرآن , ج13 / 291 . (4) - ابن الجوزي , عبد الرحمن علي بن عبد الله , ناسخ القرآن وشرحه تحقيق حسين سليم أسد الداراني – دار الثقافة العربية دمشق 1990 . (1/36) فعلينا نحن شباب هذه الأمة في هذا العصر الأليم بعد أن نسينا كتاب الله وسنة رسول الله لأسباب كثيرة نحمل نحن قسماً كبيراً من هذه الأسباب ولا جرم بأن الآباء والأجداد يحملون القسم الأعظم لأنهم أكسبوا عادات ليست من إسلامنا وعلمونا علماً ليس من علمنا وسلوكنا دروباً لم تشق لنا وسلطوا على أنفسهم وعلينا أعداء الله أعداءنا بذنوبهم لتركهم تعاليم الخالق العظيم وسنة رسوله الكريم فمرضوا وورثنا عنهم المرض والشفاء بيد الله عسى ربنا أن يعفوا عنا ويجعلنا من الذين يؤثرون العمل الصالح ويقابلون السيئة بالعفو والإحسان وينفقون في سبيل الله كل ما أعطاهم من قوة ومال وعلم وعمل إنه سميع مجيد . يقول تعالى : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " القصص الآية 56. أي أنك أيها الرسول شديد الحرص على هداية الذي تحب بيد أنك لا تستطيع أن تدخل في الإسلام كل من تحب لأن ذلك بيد الله وحده فهو يهدي للإيمان من علم فيهم قبول الهداية واختيارها فيدبر الأمور على ما يعلمه من صلاح العباد(1). فهذه الآية الكريمة تعلمنا وتوجهنا لربط الأمور بأسبابها وأن نعمل بكل طاقاتنا التي وهبنا الله إياها فإذا ما هدي أحد الكافرين أو الفاسقين على يدينا فهذا من رضا الله علينا وإذا ما فشلنا بهدايته فتلك إرادة الخالق وحكمته . قد يخطر على بال أحد العامة من الناس في القرآن العظيم شبه تناقض كما في قوله تعالى : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " القصص الآية 56 . وقوله جل جلاله : " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " . __________ (1) - أنظر , الزمخشري , أبو القاسم جار الله محمود والخوارزمي , ج3 / 185 . وكذلك مجمع البيان ج5 / 304 . وكذلك تفسير البيضاوي ج2 / 220 والمنتخب في تفسير القرآن ص 583 . (1/37) والحقيقة الساطعة أن القرآن الكريم بعيد كل البعد عن أي تناقض وأن أي تناقض يتهمه به أي إنسان فإن الحقيقة هي أن سبب هذا التناقض المتوهم هو الإنسان نفسه بسبب جهله حيناً وقلة مداركه العقلية حيناً آخر وغيرها من الأسباب ذلك أن خلو القرآن من أي تناقض هو أساس أعجاز القرآن ودليل صدقه يقول تعالى : " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً "(1). إن الهداية قسمان : 1- هداية دلالة . 2- هداية إعانة . وهداية الدلالة تكون للناس جميعاً يقول تعالى في سورة فصلت الآية {17} " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " . ووظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم – إذا ما صح التعبير – هي هداية دلالة وتذكير وإنذار " إنك لتهدي إلى صراط مستقيم "(2). أما الهداية الحقيقية – هداية الإعانة – فتكون من خالقنا الواحد القهار فقط. فالله جل جلاله هو الهادي(3)ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك هداية الإعانة بل هداية الدلالة . يقول تعالى : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " . نقف أخي المسلم تحت ظل هذه الآية الكريمة برهة " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " . يخبرنا العليم الحكيم أن أي منا لا يستطيع أن يهدي من يحب إلى الصراط المستقيم فكل شيء بيد الله سبحانه وتعالى . بيد أن هذا لا يعني يا أخي أن نجعل هذا حجة فنتقاعس عن دعوة الناس إلى الإسلام ودعوة المسلمين إلى العودة إلى الشريعة بكافة السبل والطرق فعلينا دعوتهم إلى الدين الحنيف والله سبحانه وتعالى إن شاء سيهديهم على الطريق القويم . * * * المبحث الثالث ما عند الله خير وأبقى بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : __________ (1) - سورة النساء , آية 182 . (2) - سورة الشورى , آية 57 . (3) - بليق , عز الدين , موازين القرآن , ج1/41 – 42 – 43 . (1/38) " وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرماً آمنا يجبا إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون {57} وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مسكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين {58} وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلوا عليهم آيتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون {59} وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون {60} . يخبرنا الله تعالى عن جحود مشركي أهل مكة وأعذارهم الكاذبة لعدم أتباعهم دين الله مع علمهم بأنه دين الحق(1)وأن محمداً رسول الله مرسل للناس كافة وقالوا أيضاً " إن اتبعناك على دينك أخرجنا العرب من بلدنا وغلبونا على سلطتنا "(2). وهم كاذبون فيما يأتون به من حجج فقد ثبتهم الله تعالى ببلادهم بجعل بلدهم حرماً يأمنون فيه من الإغارة والقتال والعرب من حولهم يتغازون ويتناحرون وهم في حرمهم لا يخافون , تحمل إليهم الثمرات والخيرات المتنوعة من كل صوب . فيا لهذه الحجة الواهية كيف يستقيم أن يسلبهم الله سبحانه وتعالى الأمن ويعرضهم للمهالك إذا ما أسلموا وهو سبحانه أنعم عليهم بالخير والأمن وهم مشركون ولكن أكثر الناس لا يعلمون الحق ولو علموا لما خافوا التخطف(3). __________ (1) - الزمخشري , جار الله محمود الخوارزمي , الكشاف ج3 / 185 . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 584 . (3) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 584 . وانظرت تفسير البيضاوي 2/ 219 والكشاف ج3 / 185 . (1/39) فيا لهذه الآية العظيمة التي تذكرنا بحالة المسلمين اليوم وخصوصاً عندما تدعوهم للتمسك بكتاب الله وسنة رسوله فيقولون لا نستطيع إلا أن نجاري العصر والتطور ومصادقة أوربا وغيرها من الدول المتقدمة ونسوا بأن الله جل جلاله قد مكن لهم دينهم وورثهم أرضاً لم يلمسوها لولا نعمة الله عليهم بها لقد رزق المسلمون من القوة المادية التي إذا ما شنعت بالإسلام لاستطاعت أن تضيء العالم أجمع بالنور والهدى . لم يعتبر هؤلاء بمصائر الأمم السابقة من عاد وثمود وغيرهم من الأمم التي " طغت وأشركت وكفرت بنعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق "(1). فهذه ديارهم خاوية للمارين بها ولم يبق مالك بعدهم إلا الله ذو الجلال والإكرام(2). وأعلم يا أخي بأن علينا دوام الحمد والشكر لله جل جلاله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى فهذه الأمم السابقة قد طغت وأشركت وكفرت بنعمة الله فأصبحت ديارهم خاوية لا تصلح للسكن ولم يبق لهم وارث إلا الله بعد أن أفنى بطغيانهم كل ولا مولود وما كان الله سبحانه ليهلك تلك القرى إلا بعد أن ينذرهم بالرسل المؤيدين بالمعجزات الباهرات وأحجج القاهرات فيظهروا الحق ويبطلوا الباطل بفضل الله ورحمته . فإذا لم يؤمنوا بعد كل هذا البرهان واستمروا في جحودهم أتاهم أمر الله فأهلكهم وما يعبدون . يخاطبنا البيان الإلهي بخطاب عظيم فيقول جل وعلا : " وما أوتيتم من شيء فمتع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون " . __________ (1) - ابن كثير , أبو الغداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 395 وانظر الجامع لاحكام القرآن للقرطبي , ج13 / 300 . وانظر مفاتيح الغيب للرازي , ج6 / 247 . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 584 . (1/40) أي كل شيء رزقتموه من نعم الدنيا وزخرفها فهو متاع محدود على أمد قريب فلا يصرفنكم عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ولا يصرفنكم عن العمل الصالح متاع الدنيا وزخرفها فما عند الله خير وأبقى من ذلك(1). فهذه الآية قاعدة توجيهية عظيمة يستفيد من تطبيقاتها كل المؤمنين وخصوصاً في هذا العصر المنصف بالمادية والتحديات للمسلمين . فالشاب المسلم مطروح أمامه كل شيء يؤدي إلى المهالك من نساء سافرات وفجور صارخ ومعاصي تصول باسم الحرية والديمقراطية وكل ما سلف ينادي هل من مجيب ؟ بيد أن العاقل المؤمن يقول لنفسه أعوذ بالله السميع العليم من فتن الدنيا وغرورها والفوز الحقيقي هو مرضاة الله تعالى بالخوف من ناره والطمع في جنته " ذلك أن منافع الدنيا كالذرة بالقياس إلى البحر فظهر من هذا أن منافع الدنيا لا نسبة بينها وبين منافع الآخرة البتة . فكان من الجهل العظيم ترك منافع الآخرة لاستبقاء منافع الدنيا ولما نبه سبحانه على ذلك قال : آفلا تعقلون . يعني أن من لا يرجح منافع الآخرة على متاع الدنيا كان يكون خارجاً عن حد العقل .(2) * * * المبحث الرابع لله الحمد في الأولى والآخرة بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : __________ (1) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن ج13 / 300 أنظر المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 285 . وتفسير ابن جزي ص 522 وأنظر تفسير مفاتيح الغيب للرازي ج6 / 452 . (2) - الرازي , أبو الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 452 . (1/41) " أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين {61} ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون {62} قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون {63} وقيل أدعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون {64} ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين {65} فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتسألون {66} فأما من تاب وأمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين {67} وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله تعالى عما يشركون {68} وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون {69} وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون {70} " . يخبرنا سبحانه وتعالى عن حقيقة عظيمة وهي عدم استواء " من أمن وعمل صالحاً فأستحق وعد الله , الوعد الحسن بالثواب والجنة فهو مدركه كما وعده الله ومن كفر وعمل سيئاً وفتنه متاع الدنيا وزخرفها ثم هو يوم القيامة من المحضرين الهالكين في العذاب(1)" . وفي الآية الثانية يقول الله تعالى مخبراً عما يوبخ به الكفار والمشركين حيث يناديهم : "أين الإله التي كنتم تعبدونها في الدار الدنيا من الأصنام والأنداد هل ينصرونكم أو ينتصرون(2)" . وهذا النداء هو على سبيل التقريع والتهديد فيقول المردة والشياطين ودعاة الكفر " من الذين حق عليهم غضب الله ووعيده أياً ربنا هؤلاء الذين دعوناهم إلى الشرك وزينا لهم الضلال أغوينا لأنه اختاروا الكفر(3)" . __________ (1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص585 . وانظر تفسير النفسي 240 / 242 . (2) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي , تفسير القرآن العظيم ج3/ 337 . (3) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 585 . (1/42) وقبلوه لم يعبدونا بل عبدوا أهواءهم وشهواتهم(1). فأمرهم سبحانه وتعالى على جانب من التوبيخ بدعوة الإلهة التي أشركوها مع الله لتنقذهم من الجحيم وعذابه فوقعوا في حيرة وارتباك فلم يظفروا بجواب وشاهدوا العذاب المعد لهم وتمنوا " لو أنهم كانوا مهتدين مؤمنين لما رأوه أو تمنوا لو كانوا مهتدين , أو تحيروا عند رؤيته وسدروا فلا يهتدون طريقاً(2)بالتصديق أو التكذيب(3). فصارت الأخبار غائبة عنهم لا يهتدون إليها فهي بعيدة عنهم كل البعد وكأنهم عمى فلم يعرفوا ما يقولون منهم في هذا الموقف العظيم { لا يسأل بعضهم بعضاً عن الأنباء لأنهم قد تساووا في الحيرة والعجز عن الجواب}(4). فهذا شأن العصاة والجاحدين والمنافقين . أما الذي يتوب توبة صادقة ويؤمن بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ويعمل الصالحات فهو يأمل أن يكون عند ربه من الفائزين بجنته ورضوانه . ولعل الوقت قد حان لنتكلم بشيء من التفصيل على مسألة الجبر والاختيار: إن الكفار يحتجون بكفرهم بأنه كان جبراً عليهم فلم يكن لهم الخيرة حتى يختاروا الإيمان أو غيره , فالكفر كان قدراً عليهم ولعل حجة هؤلاء قوله تعالى " ما كان لهم الخيرة " والحقيقة أن هذه الآية الكريمة لا تدل على أن الإنسان مرغم ومجبر على أفعاله وليس هذا المراد من الآية بل كان التوجيه هنا أن أمور العالم تجري باختيار الله سبحانه وتعالى وضمن إرادته ومشيئة ووفق حكمته جل جلاله . __________ (1) - انظر تفسير النفسي , بدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج 2/ 242 وانظر تفسير الكشاف ج 3/ 488 . (2) - انظر الزمخشري , جار الله محمود الخوارزمي , الكشاف ج 3 / 188 . (3) - ابن جزي , محمد بن أحمد بن جزي , تفسير ابن جزي , 523 . (4) - ابن جزي , محمد بن أحمد بن جزي , تفسير ابن جزي , ص 523 , وانظر تفسير النفسي مدارك التنزيل وحقائق التأويل ج 2 / 242 . وكذلك تفسير الكشاف ج 3 / 188 . (1/43) وإذا ما كان الأمر كذلك فعلينا الانتفاع من هذه الرحمة فهذه يا أخي رحمة عظيمة أن يسير هذا الكون ضمن مشيئة حكيم عليم روءوف رحيم . فيجب علينا عدم البطر بالنعمة ومنع اليأس من الرحمة إذا ما حدث لنا مكروه بعملنا وذنوبنا . " ولو انتفع الإنسان من طريق الفهم الإيجابي الذي أراده القرآن من قوة العقيدة لكان أحسن قائده وجدوى فهي عقيدة بناءة تثبت الإنسان أمام الأحداث التي تعاكس إرادته ورأيه مثابراً لا يعتريه بأس ولا فتور "(1). لما تثبت أن الله جل جلاله يفعل ما يريد فلا يمكن أن يكون له شريك فيما يفعل أو يريد , قال تعالى : " سبحانه تعالى عما يشركون " . مناسبة للمعنى مصرحة به واستعمل لفظ { سبحان } الذي يدل على التنزيه على أبلغ وجه(2)ويفيد الإبعاد والتعالي وهو هنا تعالي الرتبة كماليه الله جل جلاله وعظيمة ذاته أن يكون له شريك في الملك أو في تصريف الملك أو تدبيره ثم عقب على ما فعله المشركون من عبادة غير الله تعقيباً فيه تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم كما تضمن تهديداً عنيفاً لهم على قبائحهم لأن الله سبحانه يعلم " ما تخفيه قلوبهم وعبر عن القلب بالصدر لأنه يحتوي عليه "(3). فهذا الذي تكن صدورهم من الكفر والشر والصد عن الإسلام وما يعلنون من الكفر والتكذيب كل هذا يعلمه الله تعالى " إلا أننا نلحظ في هذا التعبير قوة في أحاطته تعالى بأسرار الوجود والمخلوقات إذ أن السر والخفاء قد تساوياً عند الله حتى صار السر كأنه أقوى من الجهر فقدم " ما تكن صدورهم " ليوقع الرعب في نفوس الكافرين "(4). __________ (1) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , ص 297 . (2) - راجع تفسير النفسي , مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 / 242 . (3) - ابن جزي محمد بن أحمد , تفسير ابن جزي , ص 523 . (4) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , ص 297 . (1/44) وقد أدى البيان الإلهي المعنى بقوة عظيمة فيها دلالة عظيمة على إطلاع الله سبحانه وتعالى المطلق على ما يفعله هؤلاء وغيرهم ثم أكد ما ذكره أولا من وحدانية الله تعالى في الخلق والإيمان , إلى وحدانيته في الخلق وقد صرح بذلك : " وهو الله " . الله المعبود بالحق ثم أكد ذلك بالعبارة الصريحة " ولا إله إلا هو " ثم بين دليلاً ذاتياً له سبحانه وتعالى بوجوب كونه لا خالق ولا معبود إلا هو " وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم " . أي هو الله الحق المختص بالإلوهية المستحق وحده للحمد من عباده في الدنيا على إنعامه وهدايته وفي الآخرة على عدله ومثوبته وهو وحده صاحب الحكم والفضل بين عباده وإليه المرجع وإليه المصير(1) * * * المبحث الخامس نعم الله لا تعد ولا تحصى بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " قل أرئيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون {71} قل أرئيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون {72} ومن رحمته جعل الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون {73} ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون {74} ونزعنا من كل أمة شهيداً فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون {75} " . __________ (1) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم , والدراسات الأدبية , ص 297 بترصد . (1/45) وبعد هذه القضايا الاعتقادية الأساسية انتقل البيان الإلهي ليبين فضل الله سبحانه وتعالى على المخلوقات ليأخذ بمجامع القلوب وبفكر الإنسان وعقله بعبارات تجلى فيها القوة ولفت النظر إلى دليل وبرهان قوي غاية القوة على وحدانية الله تعالى وفضله وإنعامه على مخلوقاته " يقول سبحانه وتعالى ممتناً على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم وبدونهما بيد أنه لو جعل الليل دائماً عليهم سرمداً إلى يوم القيامة لأضر ذلك بهم ولسئمته النفوس وملته الأرواح "(1). لقد خص الله سبحانه وتعالى النهار بذكر نعمة البصر لأنه محله وفيه سلطان السمع يكون بالليل أكثر بكثير من سلطان البصر ففي الليل نسمع أكثر مما نبصر لأنه وقت هدوء وسكون وقوة سلطان السمع ضعف سلطان البصر والنهار بالعكس يكون سلطان البصر أقوى من سلطان السمع(2). ثم قال جل جلاله " من رحمته " ولم يقل من آيته لأن هذه الآية أية رحمة ونعمة وهنا نجد أن الخطاب الإلهي أنتقل إلى جانب آخر فقدم الليل على النهار أسوة بتقديم أية الليل التي هي أسبق وجوداً من أية النهار ثم عدد نعم الليل والنهار وفوائدهما " لتسكنوا فيه ولتتبعوا من فضله " . السكون في الليل والابتغاء في النهار فأتى في ذلك بحسن التقسيم وحكمته وجعل ذلك كله مصبوغاً بصبغة الرحمة والفضل الإلهي "(3)" وقد نفت الآيات نفياً قوياً باستفهام إنكاري أن يكون لله شريك وتدرجت مع الخصوم لتلزمهم إلزاما مضخماً . __________ (1) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 398 . (2) - انظر التفسير القيم لابن القيم الجوزية ص 402 وانظر تفسير النفسي مدارك التنزيل وحقائق التأويل ج2 / 244 . (3) أنظر تفسير الكشاف للزمخشري ج3 / 181 وكذلك تفسير القرطبي , الجامع لأحكام القرآن 3 / 308 . (1/46) فكل هذه المعبودات التي اتخذتموها من بشر وغير بشر هل واحد منهم يستطيع أن يغير شيئاً من الكون والجواب طبعاً لا .(1). ثم ختم هذا النقاش بأن أوقعهم أمام المصير الذي تظهر فيه الحقائق وأتى بهذه العبارة الرائعة " ويوم يناديهم " لتفيد معنى التهويل والتضخيم والتوبيخ " فيقال لهم : أين الشركاء الذين زعمتموهم آلهة ينصرونكم أو شفعاء يشفعون لكم "(2)" ثم يعرض البيان الإلهي بصورة عظيمة لذلك اليوم العصيب " ونزعنا من كل أمة شهيداً " الموقف في غاية الهول أمام هذا السؤال " هاتوا برهانكم " . على ما اتخذتم من دين وآلهة . فالإنسان سيحاسب على مادان به واعتبره مبدأ واعتقاداً(3). " فعلموا أن الحق لله " أي فبهتوا وتحيروا كما لم يكن لهم من حجة يقيمونها وعلموا يقيناً أن الحق ما أنتم عليه وما أنزله الله , وأن الحجة لله ولرسوله فلزمتهم الحجة لأن المستهود عليه إذا لم يأت بملخص من بيئة الخصم توجهت القضية عليه ولزمه الحكم " " . الباب الثالث موٍسى و قارون المبحث الأول ابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : __________ (1) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , ص200 – 301 بتصرف يسير . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 587 . وانظر تفسير ابن كثير , تفسير القرآن العظيم ج3 / 398 . (3) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم الدراسات الأدبية , ص 298 . (1/47) " إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنؤ بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين {76} وابتغ فيما آتك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين {77} قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون {78} فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم {79} وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقياً إلا الصابرون {80} فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين {81} وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون {82} تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساداً والعقبة للمتقين {83} من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون {84} .. " يعتز الناس عادة في دنياهم بمالهم من جاه ومال وسلطان وكثيراً ما تصرفهم نعم الله إلى البطر ثم إلى الطغيان فيقطعون ما بينهم وبين الله من صلات فينكرون الحق ويتزعمون عصابات الشر والفساد وكثيراً ما عالج القرآن الكريم هذه النزعة في الإنسان فنبه بقصصه إلى عاقبة الطغيان والبطر إلى الجاه مهما عظم والمال مهما كثر فإنه لا يرد عن صاحبه شيئاً من قضاء الله وقدره إذا ما استمر في طغيانه وبطره . (1/48) وإنه لا ينبغي لعاقل مؤمن أن يغير ببسمة الدنيا له مرة أو أكثر بل يجب عليه أن يعرف أن الفلاح لا يكون إلا بالإيمان والتقوى المدعم بالعمل الصالح(1)فهذا قارون كان من قوم موسى وقريباً له(2), فتكبر عليهم غروراً بنفسه وماله وبما أعطاه الله سبحانه وتعالى من الكنوز الزاخرة التي بلغت مفاتيحها من الكثرة بحيث يثقل حملها على الجماعة الأقوياء من الرجال , فاغتر بنعمة الله عليه وكفر بها وجحد . فالإنسان " هو الإنسان إنه يطغى في كل شيء , عندما يجد في نفسه القدرة على ذلك فيضيع في متاهات العقد النفسية فيصبح تبعاً لأهوائه وشهواته وطاغوته النفسي "(3)إن قارون اعتقد طغياناً وكفراً أن بسعيه وكده جمع هذا المال وبحسن تدبيره كان له هذا السلطان فجاء إليه عقلاء القوم ونصحوه قائلين : " لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها وأطمأن وأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب لم تحدثه نفسه بالفرح "(4). واستخدم ما وهبك الله من هذا المال والجاه في طاعته جل جلاله والتقرب إليه بأنواع القربان التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا بما أباحه الله لك من المآكل والمشارب والملابس فإن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً , فآت كل ذي حق حقه "(5)" . __________ (1) - شلتوت , محمود , إلى القرآن الكريم , ص 154.بتصرف . (2) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد , الجامع لأحكام القرآن ج13 / 240 . (3) الشريف , عدنان , من علم النفس القرآني , ص 105 . (4) - الزمخشري , جار الله محمود الخوارزمي , الكشاف ج3 / 190. (5) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل ابن كثير , الدمشقي , تفسير القرآن العظيم ج 3/ 399 . (1/49) " وأحسن إلى عباد الله مثلما أحسن الله إليك ولا تفسد في الأرض بتجاوز حدود الله , إن الله سبحانه لا يرضى عن المفسدين لسوء أعمالهم .(1) فرد عليهم رداً المتكبرين المتحجرين قائلاً : إني لا أفتقر إلى أي شيء مما تقولونه فإن الله سبحانه إنما أعطاني هذا المال لعمله بأني أستحقه ولمحبته لي . وتجاهل أن الله قد اهلك قبله كثيراً ممن كانوا أكثر منه قدرة على كسب المال وخبرة بوجوه استثماره .(2) أعلم أخي المؤمن أن الله سبحانه وتعالى قد يمتحن الإنسان بمظاهر وأساليب شتى . قد يمتحن طائفة من الناس بنوع غير النوع الذي يمتحن فيه هذه الطائفة أو تلك وكل منها يؤدي إلى غاية واحدة ألا وهي معرفة الصادقين الصابرين من المنافقين والكافرين , فيمكن أن يمتحن أحد ليختبر صبره بالفقر أو المرض أو فقد حبيب بنسبة توافق استعداده الفطري , وقد يمتحن الإنسان أيضاً بالغنى والصحة , فإذا اعترف بنعم الله عليه فتح الله سبحانه وتعالى أبواب الرزق والبركة . فعلى المؤمن أن يراقب نفسه ويبعدها عن الشطط ذلك أن الله تعالى قد أكرمه النعم لاختباره وابتلائه بها .(3) فقارون قد وهبه الله جل جلاله مال وجاه كبيرين ومع هذا فقد جحد بنعم الله فسقط في امتحانه فكان عقابه شديداً . وذات يوم خرج قارون على قومه في زينة عظيمة وتجمل بأبهر الثياب فلما رآه من يريد الحياة الدنيا وزينتها حسدوه على هذا المتاع وتمنوا لو كان لهم مثل الذي أعطى .(4) __________ (1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , 587. (2) - راجع تفسير القرطبي , الجامع لأحكام القرآن , ج13 / 315 . (3) - الميداني , عبد الرحمن حسن حنبكة , العقيدة الإسلامية وأسسها دار القلم دمشق 1988 م. ص 597 – 598 بتصرف . (4) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل ابن كثير الدمشقي , تفسير القرآن العظيم ج3 / 399 . (1/50) قارون من المال والحظ العظيم أما عقلاء القوم الذين رزقهم الله العلم النافع فلم يفتنهم ذلك بل عرفوا أن ذلك فتنة وامتحان فتوجهوا إلى المفتونين بالنصح والإرشاد قائلين لهم لا تتمنوا هذا المتاع فإن ما عند الله من ثواب ونعيم قائم أزكى لمن آمن به وعمل صالحاً وتلك نصيحة حقة لا يتقبلها إلا من يجاهدون أنفسهم ويصبرون "(1)" على الطاعات وعن الشهوات وزينة الدنيا وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير "(2)" . فخسف الله سبحانه وتعالى به الأرض فابتلعه هو وملكه وما كان له من جماعة منقطعة إليه يدفعون عنه عذاب الله تعالى الذي نزل به وإنما قال سبحانه ذلك لأنه كان يقدر لنفسه الامتناع بماشيته وجنوده(3). فهذه سنة الله مع الطغاة يخسف بهم وبملكهم وغرورهم بكل ما يدعون إليه من أفكار فاسدة وكلام منمق الأرض ليكونا عبرة لمن يعتبر فهل من يعتبر يا أخي : الذين عايشوا تلك الحادثة الرهيبة يقولون إن الله سبحانه يرزق ويوسع الرزق لمن يشاء من عباده ويقتر على من يشاء وفق حكمته وإرادته سبحانه ويقولون شاكرين لو أن الله أحسن إلينا وفضل علينا بالهداية والإيمان لامتحننا بإجابة ما تمنيناه ولفعل بنا مثل ما فعل بقارون " ويكأنه لا يفلح الكافرون " . __________ (1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 588 . (2) - النسفي , أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 / 245 . (3) - الطبرسي , أبو علي الفضل بن الحسن , مجمع البيان في تفسير القرآن ج5 / 325 . (1/51) يعنون أنه كان كافراً ولا يفلح الكافرون عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة(1)تلك الدار الآخرة أيها الأخوة يختص بها المؤمنين الطائعين الذين لا يطلبون التسلط ولا السلطة إلا بالحق ولا ينحرفون إلى النار بارتكاب المعاصي والذنوب والعاقبة الحميدة للذين تمتلئ قلوبهم خشية من نار الله وطمعاً في مرضاه الله للفوز بنعيم الجنة .(2) فمن جاء بالإيمان الصادق والعمل الصالح له ثواب مضاعف بسببها والذي يأتي بالكفر والمعصية فلا يجزي إلا مثلها ذلك أن الثواب على الحسنة عشر أمثالها ولما كان العقاب على السيئة إنما يتم بعدل الله كان قانون العقاب الرباني عادلا لا يظلم مثقال ذرة فكان أعلى الجزاء على السيئة مثلها .(3) ونستطيع أن نقول بعد هذا إنه لابد من شيئين لتربية النفوس عليها حتى تحظى بالسعادة عند الله سبحانه وتعالى وذلك بتطهير النفس من إرادة الظلم والإفساد في الأرض واتقاء ما يغضب الله وذلك بإهمال أحكامه وشرائعه ونسيان سننه ونظمه الحكيمة . لقد نبه القرآن الكريم على أوصاف المتقين الذين ضمن الله جل جلاله لهم العزة في الدارين فعلينا نحن عباد الرحمن أن نتدبرها لنعرف كيف تكون وتنمو التقوى في القلوب وكيف تبدو آثارها في الإنسان وسلوكه ومعاملته(4). أخي المسلم إن الله يوجهنا لنبتغي فيما آتانا من النعم دار الآخرة ويقول أيضاً " ولا تنسى نصيبك من الدنيا " . __________ (1) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل ابن كثير الدمشقي , تفسير القرآن العظيم ج 3 / 399 . (2) - انظر المرجع السابق , ج 3 / 402 . (3) - الميداني , عبد الرحمن , العقيدة الإسلامية , ص 604 - 605 . (4) - شلتوت , محمود , إلى القرآن الكريم , ص 157 . (1/52) فالخالق العظيم يطالبنا بالتوازن في الحياة نعمر الدنيا والآخرة ولا يجوز تخريب داراً لأعمار أخرى , فالدنيا زائلة دائمة فاجعل كل ما وهبك الله من أجل أعمار الدارين وقل دائماً ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . فإذا وهبت قوتة فاستعملها فيما يرضاه الله , حارب المشركين وأعداء الدين . وإذا وهبت منطقاً حسناً فاستغله في الدعوة إلى الله ودين الحق والذب عنه أمام الذين سنوا أسنانهم وصاغوا عبارتهم بأجمل وأحلى العبارات والمعاني ليضلوا المسلمين عن الصراط المستقيم . أخي المسلم استغل كل ما وهبت لمرضاة الخالق العظيم وأحسن كما أحسن إليك وإياك ثم إياك والفساد فإن الله لا يحب المفسدين ولا تقول كما قال قارون : " إنما أوتيته على علم من عندي " . وأعلم أن الله قد أهلك من هو أشد منك قوة وأكثر منك قدرة على كسب المال وأعلم أخي المسلم أن هذه الدنيا دار امتحان وبلاء فابتغي دار الآخرة واتقي الله حق تقاته حيثما كنت وراقب نفسك وتصرفاتك وأبعدها عن الشطط ذلك أن الله قد أكرم الإنسان بهذه النعم لاختباره وابتلائه . قال تعالى : " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض وفساداً والعاقبة للمتقين من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون " . * * * المبحث الثاني لا تدع مع الله إلهاً آخر بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى : " إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلل مبين {85} وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيراً للكافرين {86} ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين {87} ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون {88} " . (1/53) يقول جل وعلا آمرا رسوله صلوات الله وسلامه عليه ببلاغ هذه الرسالة السامية على جميع الناس واعداً إياه ووعده حق بأنه سيرده إلى مكة سالماً غانماً(1). ويأمر الله جل جلاله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لمن خالفه وكذبه ربي أعلم بمن يستحق الهداية والرشاد وبمن هو واقع في ضلال الذي يدركه كل عاقل سليم الإدراك(2). من هذه الآية الكريمة نستطيع أن نستنتج توجيهاً إلهياً عظيماً ألا وهو أن الله جل جلاله يعلم من يستحق الهداية ويعلم من هو واقع في ضلال . فيزيد الذين اهتدوا هدى والذين كفروا في طغيانهم يعمهون . يقول تعالى : " ما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتب " . ذلك أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يفكر يوماً بالنبوة وأن يطمع بها كما كان غيره من رجالات قريش يطمعون بها لكن الله اصطفاه وأنزل عليه الفرقان رحمة به وبأمته وبالناس أجمعين فيجب علينا جميعاً يا أخي المسلم أن تذكر هذه النعمة و نثابر على تبليغها في كل زمان ومكان وتحت أي ظروف ولا تكن يا أخي عوناً للكافرين على ما يريدون ويبغون ذلك . إن الكافرين لا يمكن مهما بلغوا من القوة والبطش أن يصدونا عن تبليغ آيات الله والعمل بها . لقد أصبحنا نحن أفراد هذه الأمة مكلفين بالدعوة إلى هذا الدين الحنيف الناس كافة ودعوتهم إلى توحيد إله وأن ليس هناك من يستحق العبادة سواه فكل ما عدا الله هالك وفان والباقي هو الله الواحد الأحد الذي له القضاء النافذ في الدنيا والآخرة وإليه لا محالة مصير الخلق أجمعين . فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شر يره . * * * الخاتمة أخي المسلم أختي المسلمة : __________ (1) - انظر , الطبرسي , أبو علي الفضل بن الحسن , مجمع البيان في تفسير القرآن رادك إلى معاد تعني بأنه سيرده إلى معاد يوم القيامة . (2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 589 . (1/54) وبعد أن وقفنا على أهم التوجيهات الإلهية للفرد المسلم من خلال سورة القصص , أستطيع أن أقول بأنني لم أقصد من هذا البحث إلا ذكر بعض التوجيهات الإلهية للفرد المسلم من خلال سورة القصص . فالتطرق إلى جميع التوجيهات يحتاج إلى جهد عظيم , ووقت طويل , ومراجع ومصادر كثيرة جداً لا تتلاءم مع طبيعة هذا البحث البسيط . وعلى هذا لم أقصد من هذا البحث إلا المرور السريع على أهم تلك التوجيهات فعسى أن يستفيد منها أفراد هذه الأمة العظيمة , فيغيروا ما بأنفسهم وصدورهم ويتقوا الله جل وعلا . ولنختم بحثنا بهذا الدعاء المأثور عن سلفنا الصالح : " اللهم أهدنا فيمن فديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما أعطيت وقنا شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت " . " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . المحامي الدكتور : مسلم محمد جودت اليوسف . (1/55) الخلاصة في حياء الانبياء ( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ) الخلاصة في حياة الأنبياء آدم (عليه السلام) __________ (1) - برقم (3535) (1/2) أخبر الله -عز وجل- ملائكته بخلق آدم -عليه السلام- فقال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} _[البقرة: 30] فسألت الملائكة الله -عز وجل- واستفسرت عن حكمة خلق بني الإنسان، وقد علمت الملائكة أن مِنَ الخلقِ من يفسدُ في الأرض، ويسفك الدماء، فإنْ كانت الحكمةُ من خلقهم هي عبادة الله، فهم يعبدونه، فقالوا لله: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] فأجابهم الله -عز وجل- عن استفسارهم بأنه -سبحانه- يعلم الحكمة التي تخفى عليهم، فإنه -سبحانه- سيخلق بني البشر،ويجعل فيهم الرسل والأنبياء والصديقين والصالحين والشهداء، والعلماء والعاملين لدين الله، والمحبين له، المتبعين رسله، قال تعالى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. وخلق الله -سبحانه- آدم من تراب الأرض ومائها، ثم صوَّره في أحسن صورة،ثم نفخ فيه الروح، فإذا هو إنسان حي من لحم ودم وعظم، وكان ذلك يوم الجمعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ فِى يَوْمِ الْجُمُعَةِ». _[أخرجه مسلم] (1). وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ جَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ». [أخرجه أبو داود] (2). __________ (1) - صحيح مسلم برقم (2014) (2) - سنن أبى داود برقم (4695) صحيح (1/3) ولما صار آدم حيًّا، ودبَّت فيه الحركة علمه الله -سبحانه- أسماء كل شيء ومسمياته وطرائق استعماله والتعامل معه من الملائكة والطيور والحيوانات وغير ذلك، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] وأراد الله -عز وجل- أن يبين للملائكة الكرام فضل آدم ومكانته عنده، فعرض جميع الأشياء التي علمها لآدم على الملائكة، وقال لهم: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31] فقالوا: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]. فأمر الله آدم أن يخبرهم بأسماء هذه الأشياء التي عجزوا عن إدراكها، فأخذ آدم يذكر اسم كل شيء يعرض عليه، وعند ذلك قال الله -تعالى- للملائكة: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33]. ودار حوار بين آدم -عليه السلام- والملائكة حكاه لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ».] متفق عليه] (1). __________ (1) - صحيح البخارى برقم (6227) ومسلم برقم (7342) (1/4) و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَىْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ أَىْ رَبِّ مَنْ هَؤُلاَءِ قَالَ هَؤُلاَءِ ذُرِّيَّتُكَ فَرَأَى رَجُلاً مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقَالَ أَىْ رَبِّ مَنْ هَذَا فَقَالَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ. فَقَالَ رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ قَالَ سِتِّينَ سَنَةً قَالَ أَىْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمْرِى أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا انْقَضَى عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَالَ أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِى أَرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ قَالَ فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَنَسِىَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ ».(1) و عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ ، قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ : إنَّ الأَرْضَ لاَ تَسَعُهُمْ ، فَقَالَ : إنِّي جَاعِلٌ مَوْتًا ، قَالَ : إذًا لاَ يُهَنِّئُهُمْ الْعَيْشُ ، قَالَ : إنِّي جَاعِلٌ أَمَلاً .(2) __________ (1) - سنن الترمذى (3356 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وهو كمال قال النسمة : النفس والروح = الوبيص : البريق ( فَجَحَدَ آدَمُ )أَيْ ذَلِكَ لِأَنْ كَانَ فِي عَالَمِ الذَّرِّ فَلَمْ يَسْتَحْضِرْهُ حَالَةَ مَجِيءِ مَلَكِ الْمَوْتِ لَهُ ( فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ ) لِأَنَّ الْوَلَدَ سِرُّ أَبِيهِ (2) - مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 13 / ص 315)(35217)صحيح مرسل ومثله لا يقال بالرأي (1/5) وأمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم تشريفاً وتعظيماً له فسجدوا جميعًا، ولكن إبليس رفض أن يسجد، وتكبر على أمر ربه، فسأله الله -عز وجل- وهو أعلم: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} ص:75] فَرَدَّ إبليس في غرور: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76] فطرده الله -عز وجل- من رحمته وجعله طريدًا ملعونًا، قال تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} [ص: 77 - 78]. فازداد إبليس كراهية لآدم وذريته، وحلف بالله أن يزين لهم الشر، فقال إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82 - 83] فقال الله -تعالى- له: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85]،وذات يوم نام آدم -عليه السلام-، فلما استيقظ وجد امرأة تجلس إلى جانبه فسألها: من أنتِ؟ قالت: امرأة، قال: ولِمَ خُلِقْتِ؟ قالت: لتسكن إليَّ، ففرح بها آدم وأطلق عليها اسم حواء؛ لأنها خلقت من شيء حي، وهو ضلع آدم الأيسر (1). __________ (1) - تفسير ابن أبي حاتم برقم (369) وتفسير الطبري - (ج 1 / ص 513) برقم (710) وتفسير ابن كثير - (ج 1 / ص 234) وهو حسن موقوف (1/6) وأمر الله -سبحانه- آدم وزوجته حواء أن يسكنا الجنة، ويأكلا من ثمارها ويبتعدا عن شجرة معينة، فلا يأكلان منها؛ امتحانًا واختبارًا لهما، فقال تعالى: { يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } [البقرة:35] وحذَّر الله -سبحانه- آدم وزوجه تحذيرًا شديدًا من إبليس وعداوته لهما، فقال تعالى: { يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) } طه:[117-119]. وأخذ إبليس يفكر في إغواء آدم وحواء، فوضع خطته الشيطانية؛ ليخدعهما فذهب إليهما، وقال: { يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) }[طه:120] فَصَدَّق آدم وحواء كلام إبليس بعد أن أقسم لهما، ظنًّا منهما أنه لا يمكن لأحد أن يحلف بالله كذبًا، وذهب آدم وحواء إلى الشجرة وأكلا منها.. وعندئذ حدثت المفاجأة؟!! (1/7) لقد فوجئ آدم وحواء بشيء عجيب وغريب، لقد أصبحا عريانين؛ بسبب عصيانهما، وأصابهما الخجل والحزن الشديد من حالهما، فأخذا يجريان نحو الأشجار، وأخذا يقطعان من أوراقها ويستران بها جسديهما، فخاطب الله -عز وجل- آدم وحواء معاتبًا: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)} [الأعراف: 22] فَقَالَ آدَمُ وَزَوْجُهُ نَادِمَيْنِ مُتَضَرِّعَيْنِ: رَبَّنَا إِنَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا بِطَاعَتِنَا لِلشَّيْطَانِ، وَمَعْصِيَتِنا لأَمْرِكَ، وَقَدْ أَنْذَرْتَنَا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا مَا ظَلَمْنَا بِهِ أَنْفُسَنَا، وَتَرْحَمْنَا بِالرِّضا عَنَّا، وَتُوَفِقْنَا لِلهِدَايَةِ، وَتَرْكِ الظُّلْمِ، لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ لأَنْفُسِنَا. فقالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23] (وَهَذِهِ هِيَ الكَلِمَاتُ التِي تَلَقَّاهَا آدَمُ مِنْ رَبِّهِ مُعْتَذِراً لِيَغْفِرَ لَهُ) (1). __________ (1) - وفي تفسير الرازي رحمه الله - (ج 2 / ص 28 - 30): اختلف الناس في عصمة الأنبياء عليهم السلام وضبط القول فيه أن يقال: الاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة: أحدها: ما يقع في باب الاعتقاد، وثانيها: ما يقع في باب التبليغ، وثالثها: ما يقع في باب الأحكام والفتيا، ورابعها: ما يقع في أفعالهم وسيرتهم. أما اعتقادهم الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عند أكثر الأمة. وقالت الفضيلية من الخوارج: إنهم قد وقعت منهم الذنوب، والذنب عندهم كفر وشرك، فلا جرم. قالوا بوقوع الكفر منهم، وأجازت الإمامية عليهم إظهار الكفر على سبيل التقية. أما النوع الثاني: وهو ما يتعلق بالتبليغ، فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب والتحريف، فيما يتعلق بالتبليغ، وإلا لارتفع الوثوق بالأداء، واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمداً كما لا يجوز أيضاً سهواً، ومن الناس من جوز ذلك سهواً، قالوا: لأن الاحتراز عنه غير ممكن. وأما النوع الثالث: وهو ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيه على سبيل التعمد، وأما على سبيل السهو فجوزه بعضهم وأباه آخرون. وأما النوع الرابع: وهو الذي يقع في أفعالهم، فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال: أحدها: قول من جوز عليهم الكبائر على جهة العمد وهو قول الحشوية. والثاني: قول من لا يجوز عليهم الكبائر لكنه يجوز عليهم الصغائر على جهة العمد إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف وهذا قول أكثر المعتزلة. القول الثالث: أنه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا بكبيرة على جهة العمد البتة، بل على جهة التأويل وهو قول الجبائي. القول الرابع: أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ ولكنهم مأخوذون بما يقع منهم على هذه الجهة وإن كان ذلك موضوعاً عن أمتهم وذلك لأن معرفتهم أقوى ودلائلهم أكثر، وأنهم يقدرون من التحفظ على ما لا يقدر عليه غيرهم. القول الخامس: أنه لا يقع منهم الذنب لا الكبيرة ولا الصغيرة لا على سبيل القصد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل والخطأ، وهو مذهب الرافضة. واختلف الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال: أحدها: قول من ذهب إلى أنهم معصومون من وقت مولدهم وهو قول الرافضة , وثانيها: قول من ذهب إلى أن وقت عصمتهم وقت بلوغهم ولم يجوزوا منهم ارتكاب الكفر والكبيرة قبل النبوة، وهو قول كثير من المعتزلة. وثالثها: قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز وقت النبوة، أما قبل النبوة فجائز، وهو قول أكثر أصحابنا وقول أبي الهذيل وأبي علي من المعتزلة والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة ألبتة لا الكبيرة ولا الصغيرة، ويدل عليه وجوه: أحدها: لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة وذلك غير جائز، بيان الملازمة أن درجة الأنبياء كانت في غاية الجلال والشرف، وكل من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش ألا ترى إلى قوله تعالى: {يانساء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] والمحصن يرجم وغيره يحد، وحد العبد نصف حد الحر، وأما أنه لا يجوز أن يكون النبي أقل حالاً من الأمة فذاك بالإجماع. وثانيها: أن بتقدير إقدامه على الفسق وجب أن لا يكون مقبول الشهادة لقوله تعالى: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} [الحجرات: 6] لكنه مقبول الشهادة، وإلا كان أقل حالاً من عدول الأمة، وكيف لا نقول ذلك وأنه لا معنى للنبوة والرسالة إلا أنه يشهد على الله تعالى بأنه شرع هذا الحكم وذاك، وأيضاً فهو يوم القيامة شاهد على الكل لقوله: {لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. وثالثها: أن بتقدير إقدامه على الكبيرة يجب زجره عنها، فلم يكن إيذاؤه محرماً لكنه محرم لقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ الله فِى الدنيا والأخرة} [الأحزاب: 57]. ورابعها: أن محمداً صلى الله عليه وسلم لو أتى بالمعصية لوجب علينا الاقتداء به فيها لقوله تعالى: {فاتبعوني} [آل عمران: 31] فيفضي إلى الجمع بين الحرمة والوجوب وهو محال، وإذا ثبت ذلك في حق محمد صلى الله عليه وسلم ثبت أيضاً في سائر الأنبياء، ضرورة أنه لا قائل بالفرق. وخامسها: أنا نعلم ببديهة العقل أنه لا شيء أقبح من نبي رفع الله درجته وائتمنه على وحيه وجعله خليفة في عباده وبلاده يسمع ربه يناديه: لا تفعل كذا فيقدم عليه ترجيحاً للذته غير ملتفت إلى نهي ربه ولا منزجر بوعيده. هذا معلوم القبح بالضرورة. وسادسها: أنه لو صدرت المعصية من الأنبياء لكانوا مستحقين للعذاب لقوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا} [الجن: 23] ولاستحقوا اللعن لقوله: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18] وأجمعت الأمة على أن أحداً من الأنبياء لم يكن مستحقاً للعن ولا للعذاب فثبت أنه ما صدرت المعصية عنه. وسابعها: أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطيعوه لدخلوا تحت قوله: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]. وقال: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} [هود: 88]، فما لا يليق بواحد من وعاظ الأمة كيف يجوز أن ينسب إلى الأنبياء عليهم السلام. وثامنها: قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الخيرات} [الأنبياء: 90]، ولفظ الخيرات للعموم فيتناول الكل ويدخل فيه فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي، فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل ما ينبغي فعله وتاركين كل ما ينبغي تركه، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم. وتاسعها: قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار} [ص: 47]، وهذا يتناول جميع الأفعال والتروك بدليل جواز الاستثناء فيقال: فلاناً من المصطفين الأخيار إلا في الفعلة الفلانية والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحته، فثبت أنهم كانوا أخياراً في كل الأمور، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم. وقال: {الله يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس} [الحج: 75]، {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين} [آل عمران: 33]. وقال في إبراهيم: {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا} [البقرة: 130]. وقال في موسى: {إِنْى اصطفيتك عَلَى الناس برسالاتي وبكلامي} [الأعراف: 144]. وقال: {واذكر عِبَادَنَا إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الأيدى والأبصار إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار} [ص: 45 47]. فكل هذه الآيات دالة على كونهم موصوفين بالأصطفاء والخيرية، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم. عاشرها: أنه تعالى حكى عن إبليس قوله: {فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82 83]، فاستثنى من جملة من يغويهم المخلصين وهم الأنبياء عليهم السلام. قال تعالى في صفة إبراهيم وإسحاق ويعقوب: {إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار} [ص: 46] وقال في يوسف: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} [يوسف: 24]، وإذا ثبت وجوب العصمة في حق البعض ثبت وجوبها في حق الكل لأنه لا قائل بالفرق. والحادي عشر: قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين} [سبأ: 20]، فأولئك الذين ما اتبعوه وجب أن يقال: إنه ما صدر الذنب عنهم و إلا فقد كانوا متبعين له، وإذا ثبت في ذلك الفريق أنهم ما أذنبوا فذلك الفريق إما الأنيباء أو غيرهم، فإن كانوا هم الأنبياء فقد ثبت في النبي أنه لا يذنب وإن كانوا غير الأنبياء فلو ثبت في الأنبياء أنهم أذنبوا لكانوا أقل درجة عند الله من ذلك الفريق، فيكون غير النبي أفضل من النبي، وذلك باطل بالاتفاق فثبت أن الذنب ما صدر عنهم. الثاني عشر: أنه تعالى قسم الخلق قسمين فقال: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون} [المجادلة: 19] وقال في الصنف الآخر، {أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} [المجادلة: 22] ولا شك أن حزب الشيطان هو الذي يفعل ما يرتضيه الشيطان، والذي يرتضيه الشيطان هو المعصية، فكل من عصى الله تعالى كان من حزب الشيطان، فلو صدرت المعصية من الرسول لصدق عليه أنه من حزب الشيطان ولصدق عليه أنه من الخاسرين ولصدق على زهاد الأمة أنهم من حزب الله وأنهم من المفلحين، فحينئذ يكون ذلك الواحد من الأمة أفضل بكثير عند الله من ذلك الرسول، وهذا لا يقوله مسلم. الثالث عشر: أن الرسول أفضل من الملك فوجب أن لايصدر الذنب من الرسول، وإنما قلنا أنه أفضل لقوله تعالى: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين} [آل عمران: 33]، ووجه الاستدلال به قد تقدم في مسألة فضل الملك على البشر وإنما قلنا إنه لما كان كذلك وجب أن لا يصدر الذنب عن الرسول لأنه تعالى وصف الملائكة بترك الذنب فقال: {لايَسْبِقُونَهُ بالقول} [الأنبياء: 27]. وقال: {لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، فلو صدرت المعصية عن الرسول لامتنع كونه أفضل من الملك لقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِى الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} [ص: 28]. الرابع عشر: روي أن خزيمة بن ثابت شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق دعواه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف شهدت لي» فقال: يا رسول الله إني أصدقك على الوحي النازل عليك من فوق سبع سموات أفلا أصدقك في هذا القدر؟ فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه بذي الشهادتين ولو كانت المعصية جائزة على الأنبياء لما جازت تلك الشهادة. الخامس عشر: قال في حق إبراهيم عليه السلام: {إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] والإمام من يؤتم به فأوجب على كل الناس أن يأتموا به فلو صدر الذنب عنه لوجب عليهم أن يأتموا به في ذلك الذنب وذلك يفضي إلى التناقض. السادس عشر: قوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] والمراد بهذا العهد إما عهد النبوة أو عهد الإمامة، فإن كان المراد عهد النبوة وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين، وإن كان المراد عهد الإمامة وجب أن لا نثبت الإمامة للظالمين وإذا لم تثبت الإمامة للظالمين وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين، لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماماً يؤتم به ويقتدى به. والآية على جميع التقديرات تدل على أن النبي لا يكون مذنباً. أما المخالف فقد تمسك في كل واحد من المواضع الأربعة التي ذكرناها بآيات ونحن نشير إلى معاقدها ونحيل بالاستقصاء على ما سيأتي في هذا التفسير إن شاء الله تعالى: أما الآيات التي تمسكوا بها في باب الاعتقاد فثلاثة: أولها: تمسكوا بالطعن في اعتقاد آدم عليه السلام بقوله: {هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189] إلى آخر الآية. قالوا: لا شك أن النفس الواحدة هي آدم وزوجها المخلوق منها هي حواء، فهذه الكنايات بأسرها عائدة إليهما فقوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما فتعالى الله عما يشركون} [الأعراف: 190] يقتضي صدور الشرك عنهما، والجواب لانسلم أن النفس الواحدة هي آدم وليس في الآية ما يدل عليه بل نقول: الخطاب لقريش وهم آل قصي والمعنى خلقكم من نفس قصي وجعل من جنسها زوجة عربية ليسكن إليها فلما آتاهما ما طلب من الولد الصالح سيما أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي، والضمير في يشركون لهما ولأعقابهما فهذا الجواب هو المعتمد. وثانيها: قالوا إن إبراهيم عليه السلام لم يكن عالماً بالله ولا باليوم الآخر. أما الأول فلأنه قال في الكواكب {هذا ربي} [الأنعام: 77] وأما الثاني فقوله: {أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260]، والجواب: أما قوله: {هذا رَبّى} فهو استفهام على سبيل الإنكار، وأما قوله: {ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى}، فالمراد أنه ليس الخبر كالمعاينة. وثالثها: تمسكوا بقوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الحق مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [يونس: 94]، فدلت الآية على أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان في شك مما أوحى إليه. والجواب: أن القلب في دار الدنيا لا ينفك عن الأفكار المستعقبة للشبهات إلا أنه عليه الصلاة والسلام كان يزيلها بالدلائل. أما الآيات التي تمسكوا بها في باب التبليغ فثلاثة: أحدها: قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى إِلاَّ مَا شَاء الله} [الأعلى: 6، 8] فهذا الاستثناء يدل على وقوع النسيان في الوحي، الجواب: ليس النهي عن النسيان الذي هو ضد الذكر، لأن ذاك غير داخل في الوسع بل عن النسيان بمعنى الترك فنحمله على ترك الأولى. وثانيها: قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52]، والكلام عليه مذكور في سورة الحج على الاستقصاء. وثالثها: قوله تعالى: {عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً، لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ} [الجن: 26 28]. قالوا: فلولا الخوف من وقوع التخليط في تبليغ الوحي من جهة الأنبياء لم يكن في الاستظهار بالرصد المرسل معهم فائدة، والجواب: لم لا يجوز أن تكون الفائدة أن يدفع ذلك الرصد الشياطين عن إلقاء الوسوسة. أما الآيات التي تمسكوا بها في الفتيا فثلاثة، أحدها: قوله: {وَدَاوُودَ وسليمان إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الحرث} [الأنبياء: 78]، وقد تكلمنا عليه في سورة الأنبياء. وثانيها: {قوله في أسارى بدر حين فاداهم النبي صلى الله عليه وسلم {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِى الأرض} [الأنفال: 67]، فلولا أنه أخطأ في هذه الحكومة وإلا لما عوتب، وثالثها: قوله تعالى: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، والجواب عن الكل: أنا نحمله على ترك الأولى. أما الآيات التي تمسكوا بها في الأفعال فكثيرة، أولها: قصة آدم عليه السلام، تمسكوا بها من سبعة أوجه، الأول: أنه كان عاصياً والعاصي لا بد وأن يكون صاحب الكبيرة، وإنما قلنا إنه كان عاصياً لقوله تعالى: {وعصَى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] وإنما قلنا أن العاصي صاحب الكبيرة لوجهين: الأول: أن النص يقتضي كونه معاقباً لقوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] فلا معنى لصاحب الكبيرة إلا ذلك. الوجه الثاني في التمسك بقصة آدم أنه كان غاوياً لقوله تعالى {فغوى} والغي ضد الرشد، لقوله تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256]، فجعل الغي مقابلاً للرشد. الوجه الثالث: أنه تائب والتائب مذنب، وإنما قلنا إنه تائب لقوله تعالى: {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] وقال: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ} [طه: 122] وإنما قلنا: التائب مذنب لأن التائب هو النادم على فعل الذنب، والنادم على فعل الذنب مخبر عن كونه فاعلاً الذنب، فإن كذب في ذلك الإخبار فهو مذنب بالكذب، وإن صدق فيه فهو المطلوب. الوجه الرابع: أنه ارتكب المنهي عنه في قوله: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة} [الأعراف: 22]، {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} [الأعراف: 19]، وارتكاب المنهي عنه عين الذنب. الوجه الخامس: سماه ظالماً في قوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} [البقرة: 35] وهو سمَّى نفسه ظالماً في قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] والظالم معلون لقوله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18] ومن استحق اللعن كان صاحب الكبيرة. الوجه السادس: أنه اعترف بأنه لولا مغفرة الله إياه وإلا لكان خاسراً في قوله: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23]، وذلك يقتضي كونه صاحب الكبيرة. وسابعها: أنه أخرج من الجنة بسبب وسوسة الشيطان وإزلاله جزاء على ما أقدم عليه من طاعة الشيطان، وذلك يدل على كونه صاحب الكبيرة، ثم قالوا: هب أن كل واحد من هذه الوجوه لا يدل على كونه فاعلاً للكبيرة، لكن مجموعها لا شك في كونه قاطعاً في الدلالة عليه، ويجوز أن يكون كل واحد من هذه الوجوه وإن لم يدل على الشيء لكن مجموع تلك الوجوه يكون دالاً على الشيء. والجواب المعتمد عن الوجوه السبعة عندنا أن نقول: كلامكم إنما يتم لو أتيتم بالدلالة على أن ذلك كان حال النبوة، وذلك ممنوع فلم لا يجوز أن يقال: إن آدم عليه السلام حالما صدرت عنه هذه الزلة ما كان نبياً؛ ثم بعد ذلك صار نبياً ونحن قد بينا أنه لا دليل على هذا المقام. وأما الاستقصاء في الجواب عن كل واحد من الوجوه المفصلة فسيأتي إن شاء الله تعالى عند الكلام في تفسير كل واحد من هذه الآيات. (1/8) وبعد الندم والاستغفار، قبل الله توبتهما ودعاءهما، وأمرهما بالهبوط إلى الأرض والعيش عليها. وعاش آدم وحواء على الأرض، وبدءا مسيرة الحياة عليها .. ووُلد لآدم وهو على الأرض أولاد كثيرون، فكان يؤدبهم ويربيهم، ويرشدهم إلى أن الحياة على الأرض امتحان للإنسان وابتلاء له، وأن عليهم أن يتمسكوا بهدى الله، وأن يحذروا من الشيطان ومن وساوسه الضَّارة. (1) وظل آدم يعيش وسط أبنائه يدعوهم إلى الله، ويعرِّفهم طريق الحق والإيمان، ويحذِّرهم من الشرك والطغيان وطاعة الشيطان، إلى أن لقى ربه وتوفي بعد أن أتم رسالته، وترك ذريته يعمرون الأرض ويخلفونه فيها. وعندما صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء في رحلة المعراج مَرَّ بآدم -عليه السلام- في السماء الأولى، وقيل له: هذا أبوك آدم فسلِّمْ عليه، فسلم عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وردَّ آدم -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم- السلام، وقال: (مَرْحَبًا بِالاِبْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِىِّ الصَّالِحِ) _[البخاري] (2). __________ (2) - صحيح البخارى برقم (3887) (1/9) وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى دَعْوَةٍ ، فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ ، فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً وَقَالَ :« أَنَا سَيِّدُ الْقَوْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، هَلْ تَدْرُونَ بِمَنْ يَجْمَعُ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُبْصِرُهُمُ النَّاظِرُ وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِى ، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ أَلاَ تَرَوْنَ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ ، إِلَى مَا بَلَغَكُمْ ، أَلاَ تَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ أَبُوكُمْ آدَمُ ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ ، وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ ، وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ ، أَلاَ تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغَنَا فَيَقُولُ رَبِّى غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلاَ يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ، وَنَهَانِى عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ ، نَفْسِى نَفْسِى ، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِى ، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ . (1/10) فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، أَمَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا بَلَغَنَا أَلاَ تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَيَقُولُ رَبِّى غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلاَ يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، نَفْسِى نَفْسِى، ائْتُوا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَأْتُونِى، فَأَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ». [البخاري] (1). و عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى أَنْتَ آدَمُ الَّذِى أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالاَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ، ثُمَّ تَلُومُنِى عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» مَرَّتَيْنِ. (2) __________ (1) - صحيح البخارى برقم (3340 (2) -صحيح البخارى (3409) ومسلم (6912) وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 461): وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي وَقْت هَذَا اللَّفْظ فَقِيلَ يَحْتَمِل أَنَّهُ فِي زَمَان مُوسَى فَأَحْيَا اللَّه لَهُ آدَم مُعْجِزَة لَهُ فَكَلَّمَهُ أَوْ كَشَفَ لَهُ عَنْ قَبْره فَتَحَدَّثَا أَوْ أَرَاهُ اللَّهُ رُوحَهُ كَمَا أَرَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَة الْمِعْرَاج أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ أَرَاهُ اللَّه لَهُ فِي الْمَنَام وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاء وَحْيٌ وَلَوْ كَانَ يَقَع فِي بَعْضهَا مَا يَقْبَلُ التَّعْبِيرَ كَمَا فِي قِصَّة الذَّبِيح، أَوْ كَانَ ذَلِكَ بَعْد وَفَاة مُوسَى فَالْتَقَيَا فِي الْبَرْزَخ أَوَّلَ مَا مَاتَ مُوسَى فَالْتَقَتْ أَرْوَاحهمَا فِي السَّمَاء، وَبِذَلِكَ جَزَمَ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَالْقَابِسِيُّ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث عُمَر لَمَّا قَالَ مُوسَى أَنْتَ آدَم قَالَ لَهُ مَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا مُوسَى وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَع بَعْدُ وَإِنَّمَا يَقَع فِي الْآخِرَة: وَالتَّعْبِير عَنْهُ فِي الْحَدِيث بِلَفْظِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعه. وَذَكَرَ اِبْن الْجَوْزِيّ اِحْتِمَال اِلْتِقَائِهِمَا فِي الْبَرْزَخ وَاحْتِمَال أَنْ يَكُون ذَلِكَ ضَرْبَ مَثَلٍ وَالْمَعْنَى لَوْ اِجْتَمَعَا لَقَالَا ذَلِكَ، وَخُصَّ مُوسَى بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ أَوَّلَ نَبِيٍّ بُعِثَ بِالتَّكَالِيفِ الشَّدِيدَةِ، قَالَ: وَهَذَا وَإِنْ اُحْتُمِلَ لَكِنَّ الْأَوَّل أَوْلَى، قَالَ: وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ لِثُبُوتِهِ عَنْ خَبَر الصَّادِق وَإِنْ لَمْ يُطَّلَع عَلَى كَيْفِيَّة الْحَال، وَلَيْسَ هُوَ بِأَوَّلِ مَا يَجِب عَلَيْنَا الْإِيمَان بِهِ وَإِنْ لَمْ نَقِف عَلَى حَقِيقَة مَعْنَاهُ كَعَذَابِ الْقَبْر وَنَعِيمه، وَمَتَى ضَاقَتْ الْحِيَل فِي كَشْف الْمُشْكِلَات لَمْ يَبْقَ إِلَّا التَّسْلِيم. وَقَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ مِثْل هَذَا عِنْدِي يَجِب فِيهِ التَّسْلِيم وَلَا يُوقَف فِيهِ عَلَى التَّحْقِيق؛ لِأَنَّا لَمْ نُؤْتَ مِنْ جِنْس هَذَا الْعِلْم إِلَّا قَلِيلًا. قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: هَذَا الْحَدِيث أَصْلٌ جَسِيمٌ لِأَهْلِ الْحَقّ فِي إِثْبَات الْقَدَر، وَأَنَّ اللَّه قَضَى أَعْمَال الْعِبَاد فَكُلُّ أَحَدٍ يَصِير لِمَا قُدِّرَ لَهُ بِمَا سَبَقَ فِي عِلْم اللَّه، قَالَ: وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّة لِلْجَبْرِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَادِئ الرَّأْي يُسَاعِدهُمْ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي " مَعَالِم السُّنَن ": يَحْسَبُ كَثِير مِنْ النَّاس أَنَّ مَعْنَى الْقَضَاء وَالْقَدَر يَسْتَلْزِم الْجَبْر وَقَهْر الْعَبْد وَيُتَوَهَّم أَنَّ غَلَبَة آدَم كَانَتْ مِنْ هَذَا الْوَجْه، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الْإِخْبَار عَنْ إِثْبَات عِلْم اللَّه بِمَا يَكُون مِنْ أَفْعَال الْعِبَاد وَصُدُورهَا عَنْ تَقْدِير سَابِق مِنْهُ، فَإِنَّ الْقَدَر اِسْم لِمَا صَدَرَ عَنْ فِعْل الْقَادِر، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ نَفَى عَنْهُمْ مِنْ وَرَاء عِلْم اللَّه أَفْعَالَهُمْ وَأَكْسَابَهُمْ وَمُبَاشَرَتَهُمْ تِلْكَ الْأُمُورَ عَنْ قَصْد وَتَعَمُّد وَاخْتِيَار، فَالْحُجَّة إِنَّمَا نُلْزِمُهُمْ بِهَا وَاللَّائِمَة إِنَّمَا تَتَوَجَّه عَلَيْهَا، وَجِمَاع الْقَوْل فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا أَمْرَانِ لَا يُبَدَّل أَحَدهمَا عَنْ الْآخَر: أَحَدهمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَسَاس وَالْآخَر بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاء وَنَقْضِهِ، وَإِنَّمَا جِهَة حُجَّة آدَم أَنَّ اللَّه عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُ يَتَنَاوَل مِنْ الشَّجَرَة فَكَيْف يُمْكِنُهُ أَنْ يَرُدَّ عِلْمَ اللَّه فِيهِ، وَإِنَّمَا خُلِقَ لِلْأَرْضِ وَأَنَّهُ لَا يُتْرَك فِي الْجَنَّة بَلْ يُنْقَل مِنْهَا إِلَى الْأَرْض فَكَانَ تَنَاوُله مِنْ الشَّجَرَة سَبَبًا لِإِهْبَاطِهِ وَاسْتِخْلَافه فِي الْأَرْض كَمَا قَالَ تَعَالَى قَبْل خَلْقه (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قَالَ فَلَمَّا لَامَهُ مُوسَى عَنْ نَفْسه قَالَ لَهُ: أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّه عَلَيَّ؟ فَاللَّوْمُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِك سَاقِطٌ عَنِّي إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعَيِّرَ أَحَدًا بِذَنْبٍ كَانَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْخَلْق كُلَّهُمْ تَحْت الْعُبُودِيَّة سَوَاء، وَإِنَّمَا يَتَّجِه اللُّوَّم مِنْ قِبَل اللَّه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إِذْ كَانَ نَهَاهُ فَبَاشَرَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، قَالَ: وَقَوْل مُوسَى وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْس مِنْهُ شُبْهَةٌ وَفِي ظَاهِرِهِ تَعَلُّق لِاحْتِجَاجِهِ بِالسَّبَبِ لَكِنَّ تَعَلُّق آدَم بِالْقَدَرِ أَرْجَح فَلِهَذَا غَلَبَهُ. وَالْغَلَبَة تَقَع مَعَ الْمُعَارَضَة كَمَا تَقَع مَعَ الْبُرْهَان اِنْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ فِي أَعْلَام الْحَدِيث نَحْوه مُلَخَّصًا وَزَادَ: وَمَعْنَى قَوْله " فَحَجَّ آدَم مُوسَى " دَفْع حُجَّتَهُ الَّتِي أَلْزَمَهُ اللَّوْم بِهَا. قَالَ: وَلَمْ يَقَع مِنْ آدَم إِنْكَار لِمَا صَدَرَ مِنْهُ بَلْ عَارَضَهُ بِأَمْرٍ دَفَعَ بِهِ عَنْهُ اللُّوَّمَ. قُلْت: وَلَمْ يَتَلَخَّصْ مِنْ كَلَامِهِ مَعَ تَطْوِيلِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ دَفْعٌ لِلشُّبْهَةِ إِلَّا فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْآدَمِيِّ أَنْ يَلُوم آخَرَ مِثْلَهُ عَلَى فِعْل مَا قَدَّرَهُ اللَّه عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ وَنَهَاهُ. وَلِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُول: وَمَا الْمَانِع إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ أَنْ يُبَاشِرهُ مَنْ تَلَقَّى عَنْ اللَّه مِنْ رَسُوله وَمَنْ تَلَقَّى عَنْ رُسُله مِمَّنْ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُمْ؟ وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا غَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْ التَّوْرَاة أَنَّ اللَّه تَابَ عَلَيْهِ فَكَانَ لَوْمُهُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ نَوْعَ جَفَاءٍ كَمَا يُقَال ذِكْر الْجَفَاء بَعْد حُصُول الصَّفَاء جَفَاء، وَلِأَنَّ أَثَر الْمُخَالَفَة بَعْد الصَّفْح يَنْمَحِي حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَلَا يُصَادِف اللَّوْم مِنْ اللَّائِم حِينَئِذٍ مَحَلًّا اِنْتَهَى. وَهُوَ مُحَصَّل مَا أَجَابَ بِهِ الْمَازِرِيُّ وَغَيْره مِنْ الْمُحَقِّقِينَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَد. وَقَدْ أَنْكَرَ الْقَدَرِيَّة هَذَا الْحَدِيث لِأَنَّهُ صَرِيح فِي إِثْبَات الْقَدَر السَّابِق وَتَقْرِير النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآدَمَ عَلَى الِاحْتِجَاج بِهِ وَشَهَادَته بِأَنَّهُ غَلَبَ مُوسَى فَقَالُوا: لَا يَصِحّ لِأَنَّ مُوسَى لَا يَلُوم عَلَى أَمْر قَدْ تَابَ مِنْهُ صَاحِبه، وَقَدْ قَتَلَ هُوَ نَفْسًا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِهَا، ثُمَّ قَالَ: رَبِّ اِغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ، فَكَيْف يَلُوم آدَم عَلَى أَمْر قَدْ غُفِرَ لَهُ؟ ثَانِيهَا لَوْ سَاغَ اللَّوْم عَلَى الذَّنْب بِالْقَدَرِ الَّذِي فُرِغَ مِنْ كِتَابَته عَلَى الْعَبْد لَا يَصِحّ هَذَا لَكَانَ مَنْ عُوتِبَ عَلَى مَعْصِيَةٍ قَدْ اِرْتَكَبَهَا فَيَحْتَج بِالْقَدَرِ السَّابِق وَلَوْ سَاغَ ذَلِكَ لَانْسَدَّ بَاب الْقِصَاص وَالْحُدُود وَلَاحْتَجَّ بِهِ كُلّ أَحَد عَلَى مَا يَرْتَكِبهُ مِنْ الْفَوَاحِش، وَهَذَا يُفْضِي إِلَى لَوَازِمَ قَطْعِيَّةٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيث لَا أَصْل لَهُ. وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدهَا أَنَّ آدَم إِنَّمَا اِحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمَعْصِيَة لَا الْمُخَالَفَة، فَإِنَّ مُحَصَّل لَوْم مُوسَى إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْإِخْرَاج فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنَا لَمْ أُخْرِجْكُمْ وَإِنَّمَا أَخْرَجَكُمْ الَّذِي رَتَّبَ الْإِخْرَاج عَلَى الْأَكْل مِنْ الشَّجَرة وَاَلَّذِي رَتَّبَ ذَلِكَ قَدَّرَهُ قَبْل أَنْ أُخْلَقَ فَكَيْفَ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ لَيْسَ لِي فِيهِ نِسْبَةٌ إِلَّا الْأَكْل مِنْ الشَّجَرَة وَالْإِخْرَاج الْمُرَتَّب عَلَيْهَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِي. قُلْت: وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَدْفَعُ شُبْهَةَ الْجَبْرِيَّةِ. ثَانِيهَا إِنَّمَا حَكَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآدَم بِالْحُجَّةِ فِي مَعْنَى خَاصّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ فِي الْمَعْنَى الْعَامّ لَمَا تَقَدَّمَ مِنْ اللَّه تَعَالَى لَوْمه بِقَوْلِهِ (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) وَلَا أَخَذَهُ بِذَلِكَ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْجَنَّة وَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْض، وَلَكِنْ لَمَّا أَخَذَ مُوسَى فِي لَوْمه وَقَدَّمَ قَوْله لَهُ أَنْتَ الَّذِي خَلَقَك اللَّه بِيَدِهِ وَأَنْتَ وَأَنْتَ لِمَ فَعَلْت كَذَا؟ عَارَضَهُ آدَم بِقَوْلِهِ أَنْتَ الَّذِي اِصْطَفَاك اللَّه وَأَنْتَ وَأَنْتَ. وَحَاصِل جَوَابه إِذَا كُنْت بِهَذِهِ الْمَنْزِلَة كَيْف يَخْفَى عَلَيْك أَنَّهُ لَا مَحِيدَ مِنْ الْقَدَر، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الْغَلَبَةُ لِآدَمَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَلُوم مَخْلُوقًا فِي وُقُوع مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْ اللَّه تَعَالَى فَيَكُون الشَّارِع هُوَ اللَّائِمَ، فَلَمَّا أَخَذَ مُوسَى فِي لَوْمه مِنْ غَيْر أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي ذَلِكَ عَارَضَهُ بِالْقَدَرِ فَأَسْكَتَهُ. وَالثَّانِي أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ آدَم اِجْتَمَعَ فِيهِ الْقَدَر وَالْكَسْب، وَالتَّوْبَةُ تَمْحُو أَثَرَ الْكَسْبِ، وَقَدْ كَانَ اللَّه تَابَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَدَر، وَالْقَدَر لَا يَتَوَجَّه عَلَيْهِ لَوْم لِأَنَّهُ فِعْل اللَّه وَلَا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَلُ. ثَالِثهَا قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ: هَذَا عِنْدِي مَخْصُوص بِآدَم لِأَنَّ الْمُنَاظَرَة بَيْنهمَا وَقَعَتْ بَعْد أَنْ تَابَ اللَّه عَلَى آدَم قَطْعًا كَمَا قَالَ تَعَالَى (فَتَلْقَى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ) فَحَسُنَ مِنْهُ أَنْ يُنْكِر عَلَى مُوسَى لَوْمَهُ عَلَى الْأَكْل مِنْ الشَّجَرَة لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تِيبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا يَجُوز لِأَحَدٍ أَنْ يَقُول لِمَنْ لَامَهُ عَلَى اِرْتِكَاب مَعْصِيَةٍ كَمَا لَوْ قَتَلَ أَوْ زَنَى أَوْ سَرَقَ: هَذَا سَبَقَ فِي عِلْم اللَّه وَقَدَرِهِ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي فَلَيْسَ لَك أَنْ تَلُومَنِي عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْأُمَّة أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَاز لَوْم مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ بَلْ عَلَى اِسْتِحْبَاب ذَلِكَ كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى اِسْتِحْبَاب مَحْمَدَةِ مَنْ وَاظَبَ عَلَى الطَّاعَة. قَالَ: وَقَدْ حَكَى اِبْن وَهْب فِي كِتَاب الْقَدَر عَنْ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ آدَم بَعْدَ أَنْ تِيبَ عَلَيْهِ. رَابِعهَا إِنَّمَا تَوَجَّهَتْ الْحُجَّة لِآدَم لِأَنَّ مُوسَى لَامَهُ بَعْد أَنْ مَاتَ وَاللَّوْم إِنَّمَا يُتَوَجَّه عَلَى الْمُكَلَّف مَا دَامَ فِي دَار التَّكْلِيف، فَإِنَّ الْأَحْكَام حِينَئِذٍ جَارِيَةٌ عَلَيْهِمْ، فَيُلَام الْعَاصِي وَيُقَام عَلَيْهِ الْحَدّ وَالْقِصَاص وَغَيْر ذَلِكَ، وَأَمَّا بَعْد أَنْ يَمُوت فَقَدْ ثَبَتَ النَّهْي عَنْ سَبِّ الْأَمْوَات " وَلَا تَذْكُرُوا مَوْتَاكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ " لِأَنَّ مَرْجِعَ أَمْرِهِمْ إِلَى اللَّه، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُثَنِّي الْعُقُوبَة عَلَى مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدّ، بَلْ وَرَدَ النَّهْي عَنْ التَّثْرِيب عَلَى الْأَمَة إِذَا زَنَتْ وَأُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْم مُوسَى لِآدَم إِنَّمَا وَقَعَ بَعْد اِنْتِقَاله عَنْ دَار التَّكْلِيف، وَثَبَتَ أَنَّ اللَّه تَابَ عَلَيْهِ فَسَقَطَ عَنْهُ اللَّوْم، فَلِذَلِكَ عَدَلَ إِلَى الِاحْتِجَاج بِالْقَدَرِ السَّابِق وَأَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ غَلَبَ مُوسَى بِالْحُجَّةِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: لَمَّا تَابَ اللَّه عَلَى آدَم صَارَ ذِكْر مَا صَدَرَ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ كَالْبَحْثِ عَنْ السَّبَب الَّذِي دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَخْبَرَ هُوَ أَنَّ الْأَصْل فِي ذَلِكَ الْقَضَاءُ السَّابِقُ فَلِذَلِكَ غَلَبَ بِالْحُجَّةِ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ اِبْن التِّين: إِنَّمَا قَامَتْ حُجَّةُ آدَم لِأَنَّ اللَّه خَلَقَهُ لِيَجْعَلَهُ فِي الْأَرْض خَلِيفَةً، فَلَمْ يَحْتَجَّ آدَم فِي أَكْله مِنْ الشَّجَرَة بِسَابِقِ الْعِلْم لِأَنَّهُ كَانَ عَنْ اِخْتِيَارٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا اِحْتَجَّ بِالْقَدَرِ لِخُرُوجِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ إِنَّ آدَم أَبٌ وَمُوسَى اِبْنٌ وَلَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يَلُوم أَبَاهُ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ وَغَيْره، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّ آدَم أَكْبَرُ مِنْهُ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُ بَعِيد مِنْ مَعْنَى الْحَدِيث، ثُمَّ هُوَ لَيْسَ عَلَى عُمُومه بَلْ يَجُوز لِلِابْنِ أَنْ يَلُوم أَبَاهُ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ، وَقِيلَ إِنَّمَا غَلَبَهُ لِأَنَّهُمَا فِي شَرِيعَتَيْنِ مُتَغَايِرَتَيْنِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا، وَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَة آدَم أَنَّ الْمُخَالِف يَحْتَجُّ بِسَابِقِ الْقَدَر، وَفِي شَرِيعَة مُوسَى أَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ أَوْ أَنَّهُ يُتَوَجَّه لَهُ اللَّوْم عَلَى الْمُخَالِف، وَفِي الْجُمْلَة فَأَصَحُّ الْأَجْوِبَةِ الثَّانِي وَالثَّالِث، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا فَيُمْكِن أَنْ يَمْتَزِجَ مِنْهُمَا جَوَابٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّائِب لَا يُلَام عَلَى مَا تِيبَ عَلَيْهِ مِنْهُ وَلَا سِيَّمَا إِذَا اِنْتَقَلَ عَنْ دَار التَّكْلِيف. وَقَدْ سَلَكَ النَّوَوِيّ هَذَا الْمَسْلَك فَقَالَ: مَعْنَى كَلَام آدَم أَنَّك يَا مُوسَى تَعْلَم أَنَّ هَذَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْل أَنْ أُخْلَقَ فَلَا بُدّ مِنْ وُقُوعه، وَلَوْ حَرَصْت أَنَا وَالْخَلْق أَجْمَعُونَ عَلَى رَدِّ مِثْقَال ذَرَّةٍ مِنْهُ لَمْ نَقْدِرْ فَلَا تَلُمْنِي فَإِنَّ اللَّوْم عَلَى الْمُخَالَفَة شَرْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ، وَإِذَا تَابَ اللَّه عَلَيَّ وَغَفَرَ لِي زَالَ اللَّوْم فَمَنْ لَامَنِي كَانَ مَحْجُوجًا بِالشَّرْعِ. فَإِنْ قِيلَ فَالْعَاصِي الْيَوْم لَوْ قَالَ هَذِهِ الْمَعْصِيَة قُدِّرَتْ عَلَيَّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُط عَنِّي اللَّوْم قُلْنَا الْفَرْق أَنَّ هَذَا الْعَاصِي بَاقٍ فِي دَار التَّكْلِيف جَارِيَة عَلَيْهِ الْأَحْكَام مِنْ الْعُقُوبَة وَاللَّوْم وَفِي ذَلِكَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ زَجْر وَعِظَة، فَأَمَّا آدَم فَمَيِّت خَارِج عَنْ دَار التَّكْلِيف مُسْتَغْنٍ عَنْ الزَّجْر فَلَمْ يَكُنْ لِلَوْمِهِ فَائِدَة بَلْ فِيهِ إِيذَاء وَتَخْجِيل فَلِذَلِكَ كَانَ الْغَلَبَة لَهُ. وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ: لَيْسَ مَعْنَى قَوْله كَتَبَهُ اللَّه عَلَيَّ أَلْزَمَنِي بِهِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَثْبَتَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَم وَحَكَمَ أَنَّ ذَلِكَ كَائِن. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْمُحَاجَجَة إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي الْعَالَم الْعُلْوِيِّ عِنْد مُلْتَقَى الْأَرْوَاح وَلَمْ تَقَع فِي عَالَم الْأَسْبَاب، وَالْفَرْق بَيْنَهُمَا أَنَّ عَالَم الْأَسْبَاب لَا يَجُوز قَطْع النَّظَر فِيهِ عَنْ الْوَسَائِط وَالِاكْتِسَاب، بِخِلَافِ الْعَالَم الْعُلْوِيّ بَعْد اِنْقِطَاع مُوجِب الْكَسْب وَارْتِفَاع الْأَحْكَام التَّكْلِيفِيَّة، فَلِذَلِكَ اِحْتَجَّ آدَمُ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ.قُلْت: وَهُوَ مُحَصَّل بَعْض الْأَجْوِبَة الْمُتَقَدِّم ذِكْرُهَا، وَفِيهِ اِسْتِعْمَال التَّعْرِيض بِصِيغَةِ الْمَدْح يُؤْخَذ ذَلِكَ مِنْ قَوْل آدَم لِمُوسَى " أَنْتَ الَّذِي اِصْطَفَاك اللَّه بِرِسَالَتِهِ " إِلَى آخِر مَا خَاطَبَهُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ اِطَّلَعَ عَلَى عُذْره وَعَرَفَهُ بِالْوَحْيِ فَلَوْ اِسْتَحْضَرَ ذَلِكَ مَا لَامَهُ مَعَ وُضُوح عُذْرِهِ، وَأَيْضًا فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى شَيْءٍ آخَرَ أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لِمُوسَى فِيهِ اِخْتِصَاصٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ لَمْ يَقَع إِخْرَاجِي الَّذِي رُتِّبَ عَلَى أَكْلِي مِنْ الشَّجَرَة مَا حَصَلَتْ لَك هَذِهِ الْمَنَاقِبُ لِأَنِّي لَوْ بَقِيت فِي الْجَنَّة وَاسْتَمَرَّ نَسْلِي فِيهَا مَا وُجِدَ مَنْ تَجَاهَرَ بِالْكُفْرِ الشَّنِيع بِمَا جَاهَرَ بِهِ فِرْعَوْن حَتَّى أُرْسِلْت أَنْتَ إِلَيْهِ وَأُعْطِيت مَا أُعْطِيت، فَإِذَا كُنْت أَنَا السَّبَبَ فِي حُصُول هَذِهِ الْفَضَائِل لَك فَكَيْفَ يَسُوغُ لَك أَنْ تَلُومَنِي. قَالَ الطِّيبِيُّ مَذْهَب الْجَبْرِيَّة إِثْبَات الْقُدْرَة لِلَّهِ وَنَفْيُهَا عَنْ الْعَبْد أَصْلًا، وَمَذْهَب الْمُعْتَزِلَة بِخِلَافِهِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ الْإِفْرَاط وَالتَّفْرِيط عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَالطَّرِيق الْمُسْتَقِيم الْقَصْد، فَلَمَّا كَانَ سِيَاق كَلَام مُوسَى يَؤُولُ إِلَى الثَّانِي بِأَنْ صَدَّرَ الْجُمْلَة بِحَرْفِ الْإِنْكَار وَالتَّعَجُّب وَصَرَّحَ بِاسْمِ آدَم وَوَصَفَهُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا مُسْتَقِلَّة فِي عِلِّيَّة عَدَم اِرْتِكَابه الْمُخَالَفَةَ ثُمَّ أَسْنَدَ الْإِهْبَاط إِلَيْهِ وَنَفْس الْإِهْبَاط مَنْزِلَة دُون فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا أَبْعَدَ هَذَا الِانْحِطَاط مِنْ تِلْكَ الْمَنَاصِب الْعَالِيَة، فَأَجَابَ آدَم بِمَا يُقَابِلُهَا بَلْ أَبْلَغَ فَصَدَّرَ الْجُمْلَة بِهَمْزَةِ الْإِنْكَار أَيْضًا وَصَرَّحَ بِاسْمِ مُوسَى وَوَصَفَهُ بِصِفَاتٍ كُلُّ وَاحِدَة مُسْتَقِلَّة فِي عِلِّيَّة عَدَم الْإِنْكَار عَلَيْهِ، ثُمَّ رَتَّبَ الْعِلْم الْأَزَلِيّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَى بِهَمْزَةِ الْإِنْكَار بَدَلَ كَلِمَة الِاسْتِبْعَاد فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَجِد فِي التَّوْرَاة هَذَا ثُمَّ تَلُومنِي قَالَ: وَفِي هَذَا التَّقْرِير تَنْبِيه عَلَى تَحَرِّي قَصْد الْأُمُور. قَالَ وَخَتَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيث بِقَوْلِهِ " فَحَجَّ آدَم مُوسَى " تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ بَعْض أُمَّتِهِ كَالْمُعْتَزِلَةِ يُنْكِرُونَ الْقَدَر فَاهْتَمَّ لِذَلِكَ وَبَالَغَ فِي الْإِرْشَاد. قُلْت: وَيَقْرُب مِنْ هَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي الرَّدّ عَلَى الْمُرْجِئَة بِحَدِيثِ اِبْن مَسْعُود رَفَعَهُ " سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَاله كُفْر " فَلَمَّا كَانَ الْمَقَام مَقَامَ الرَّدِّ عَلَى الْمُرْجِئَة اِكْتَفَى بِهِ مُعْرِضًا عَمَّا يَقْتَضِيه ظَاهِره مِنْ تَقْوِيَة مَذْهَب الْخَوَارِج الْمُكَفِّرِينَ بِالذَّنْبِ اِعْتِمَادًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ دَفْعِهِ فِي مَكَانه، فَكَذَلِكَ هُنَا لَمَّا كَانَ الْمُرَاد بِهِ الرَّدَّ عَلَى الْقَدَرِيَّة الَّذِينَ يُنْكِرُونَ سَبْق الْقَدَر اِكْتَفَى بِهِ مُعْرِضًا عَمَّا يُوهِمُهُ ظَاهِرُهُ مِنْ تَقْوِيَة مَذْهَب الْجَبْرِيَّة لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ دَفْعِهِ فِي مَكَانِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث عِدَّةٌ مِنْ الْفَوَائِدِ غَيْر مَا تَقَدَّمَ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فَفِيهِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ السُّنَّة فِي أَنَّ الْجَنَّة الَّتِي أُخْرِجَ مِنْهَا آدَم هِيَ جَنَّة الْخُلْد الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ وَيَدْخُلُونَهَا فِي الْآخِرَة، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنْ الْمُعْتَزِلَة وَغَيْرهمْ إِنَّهَا جَنَّةٌ أُخْرَى، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَزَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَرْض، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَام عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَاخِر كِتَاب الرِّقَاق. وَفِيهِ إِطْلَاق الْعُمُوم وَإِرَادَة الْخُصُوص فِي قَوْله " أَعْطَاك عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ " وَالْمُرَاد بِهِ كِتَابُهُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ وَكُلّ شَيْء يَتَعَلَّق بِهِ؛ وَلَيْسَ الْمُرَاد عُمُومه لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ الْخَضِر عَلَى قَوْله " وَإِنِّي عَلَى عِلْم مِنْ عِلْم اللَّه لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ " وَقَدْ مَضَى وَاضِحًا فِي تَفْسِير سُورَة الْكَهْف. وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْحُجَج فِي الْمُنَاظَرَة لِإِظْهَارِ طَلَب الْحَقّ وَإِبَاحَة التَّوْبِيخِ وَالتَّعْرِيضِ فِي أَثْنَاء الْحِجَاجِ لِيُتَوَصَّل إِلَى ظُهُور الْحُجَّة وَأَنَّ اللَّوْم عَلَى مَنْ أَيْقَنَ وَعَلِمَ أَشَدُّ مِنْ اللَّوْم عَلَى مَنْ لَمْ يَحْصُل لَهُ ذَلِكَ. وَفِيهِ مُنَاظَرَة الْعَالِم مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَالِابْنِ أَبَاهُ وَمَحَلّ مَشْرُوعِيَّة ذَلِكَ إِذَا كَانَ لِإِظْهَارِ الْحَقّ أَوْ الِازْدِيَاد مِنْ الْعِلْم وَالْوُقُوف عَلَى حَقَائِق الْأُمُور. وَفِيهِ حُجَّة لِأَهْلِ السُّنَّة فِي إِثْبَات الْقَدَر وَخَلْق أَفْعَال الْعِبَاد. وَفِيهِ أَنَّهُ يُغْتَفَر لِلشَّخْصِ فِي بَعْض الْأَحْوَال مَا لَا يُغْتَفَر فِي بَعْضٍ كَحَالَةِ الْغَضَب وَالْأَسَف وَخُصُوصًا مِمَّنْ طُبِعَ عَلَى حِدَّة الْخُلُق وَشِدَّة الْغَضَبِ، فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا غَلَبَتْ عَلَيْهِ حَالَةُ الْإِنْكَارِ فِي الْمُنَاظَرَة خَاطَبَ آدَمَ مَعَ كَوْنه وَالِدَهُ بِاسْمِهِ مُجَرَّدًا وَخَاطَبَهُ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ لِيُخَاطِبَ بِهَا فِي غَيْر تِلْكَ الْحَالَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَلَ إِلَى مُعَارَضَتِهِ فِيمَا أَبَدَاهُ مِنْ الْحُجَّة فِي دَفْعِ شُبْهَتِهِ. (1/11) و عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ فَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُمْنَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ كَأَنَّهُمُ الذَّرُّ وَضَرَبَ كَتِفَهُ الْيُسْرَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَأَنَّهُمُ الْحُمَمُ فَقَالَ لِلَّذِى فِى يَمِينِهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَلاَ أُبَالِى وَقَالَ لِلَّذِى فِى كَفِّهِ الْيُسْرَى إِلَى النَّارِ وَلاَ أُبَالِى ».(1) و عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَتَادَةَ السُّلَمِيِّ ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ ثُمَّ خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ ظَهْرِهِ ، ثُمَّ قَالَ : هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ وَلا أُبَالِي ، وَهَؤُلاءِ لِلنَّارِ وَلا أُبَالِي ، قَالَ : فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَى مَاذَا نَعْمَلُ ، قَالَ : عَلَى مُوَافَقَةِ الْقَدَرِ(2) وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ، ثُمَّ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ ، تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ . فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ . فَقَالُوا السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ . فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ . فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ »(3). __________ (1) - أحمد (28250 ) حسن = الحمم : جمع الحممة وهو الفحم والرماد وكل ما احترق من النار (2) - المستدرك للحاكم (84) صحيح (3) - صحيح البخارى 4/160(3326) (1/12) وعَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، قَالَ: وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَك , وَوَاحِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَك , فَأَمَّا الَّتِي لِي فَتَعْبُدُنِي لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا , وَأَمَّا الَّتِي لَك فَمَا عَمِلْت مِنْ شَيْءٍ جَزَيْتُك بِهِ , وَأَمَّا الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَك فَمِنْك الْمَسْأَلَةُ وَعَلَيَّ الإِجَابَةُ. (1) ===================== العبرة من قصة آدم عليه السلام الأمر الأول - أن هؤلاء الرسل عليه الصلاة والسلام كانت دعوتهم إلى توحيد الله تبارك وتعالى وكان توحيده سبحانه أول ما دعوا إليه أممهم: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [النمل:36]. التوحيد هو أول ما دعا إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام. الأمر الثاني- أن دينهم جميعا هو الإسلام: إن الدين عند الله الإسلام [آل عمران:19]. ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [البقرة:130 - 132]. شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليه وما أنزلنا به إبراهيم وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [الشورى:13]. __________ (1) - مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 13 / ص 172) (34649) صحيح موقوف ومثله لا يقال بالرأي (1/13) الأمر الثالث- أن هؤلاء الأنبياء والمرسلين يؤمن بعضهم ببعض ويصدق بعضهم بعضا ويبشر أولهم بأخرهم: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [آل عمران:81]. الأمر الرابع- أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة النبوات ورسالته خاتمة الرسالات وناسخة لها وهي رسالة الله للعالمين ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين [الأحزاب:40]. وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [سبأ:28]. قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جمعيا [الأعراف:158]. الأمر الخامس- أن قصص الأنبياء والمرسلين جاءت في هذا القرآن الكريم عبرة وذكرى ومنهجا وتسلية وتصبيرا للدعاة في دعوتهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وكبير الدعاة إلى رب العالمين الذي قال له ربه تبارك وتعالى: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [الأنعام:90]. وهناك اعتبارات عديدة في قصة آدم عليه السلام: *أول اعتبار من هذه الاعتبارات - هو أن الإنسان سيد هذه الأرض، ومن أجله خلق كل شيء فيها - كما تقدم ذلك نصاً - فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي، ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعاً. ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية أو شيء مادي. . لا يجوز أن يعتدي على أي مقوم من مقومات إنسانيته الكريمة، ولا أن تهدر أية قيمة من قيمه لقاء تحقيق أي كسب مادي، أو إنتاج أي شيء مادي، أو تكثير أي عنصر مادي. . فهذه الماديات كلها مخلوقة - أو مصنوعة - من أجله. من أجل تحقيق إنسانيته. من أجل تقريروجوده الإنساني. فلا يجوز إذن أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانية، أو نقص مقوم من مقومات كرامته. (1/14) *والاعتبار الثاني - هو أن دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول . فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها؛ وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها . وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج ، هي التي تقود الإنسان وراءها ذليلاً سلبياً كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر ، بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر! إن النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان بخلافته في الأرض ، عاملاً مهما في نظام الكون ، ملحوظا في هذا النظام . فخلافته في الأرض تتعلق بارتباطات شتى مع السماوات ومع الرياح ومع الأمطار ، ومع الشموس والكواكب . . وكلها ملحوظ في تصميمها وهندستها إمكان قيام الحياة على الأرض ، وإمكان قيام هذا الإنسان بالخلافة . . فأين هذا المكان الملحوظ من ذلك الدور الذليل الصغير الذي تخصصه له المذاهب المادية ، ولا تسمح له أن يتعداه؟! وما من شك أن كلا من نظرة الإسلام هذه ونظرة المادية للإنسان تؤثر في طبيعة النظام الذي تقيمه هذه وتلك للإنسان؛ وطبيعة احترام المقومات الإنسانية أو إهدارها؛ وطبيعة تكريم هذا الإنسان أو تحقيره . . وليس ما نراه في العالم المادي من إهدار كل حريات الإنسان وحرماته ومقوماته في سبيل توفير الإنتاج المادي وتكثيره ، إلا أثراً من آثار تلك النظرة إلى حقيقة الإنسان ، وحقيقة دوره في هذه الأرض! (1/15) كذلك ينشأ عن نظرة الإسلام الرفيعة إلى حقيقة الإنسان ووظيفته إعلاء القيم الأدبية في وزنه وتقديره ، وإعلاء قيمة الفضائل الخلقية ، وتكبير قيم الإيمان والصلاح والإخلاص في حياته . فهذه هي القيم التي يقوم عليها عهد استخلافه : { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . . } وهذه القيم أعلى وأكرم من جميع القيم المادية - هذا مع أن من مفهوم الخلافة تحقيق هذه القيم المادية ، ولكن بحيث لا تصبح هي الأصل ولا تطغى على تلك القيم العليا - ولهذا وزنه في توجيه القلب البشري إلى الطهارة والارتفاع والنظافة في حياته . بخلاف ما توحيه المذاهب المادية من استهزاء بكل القيم الروحية ، وإهدار لكل القيم الأدبية ، في سبيل الاهتمام المجرد بالإنتاج والسلع ومطالب البطون كالحيوان! * إن الله تعالى لم يخلق عباده عبثا ولم يتركهم سدى بل خلقهم لحكمة سامية وغاية عظيمة وهي عبادته سبحانه وإقامة دينه في الأرض وقد بين لهم الطريق إلى ذلك فأرسل الرسل وأنزل الكتب ليبينوا للناس صراط الله المستقيم ويدعوهم إليه ويبشرونهم وينذرونهم ويلفتوا أنظارهم إلى آياته ودلائل وحدانيته سبحانه. (1/16) وبينوا ذلك أتم بيان ودعوا إليه أصدق دعوة وبلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ونصحوا الأمة وجاهدوا في الله حق جهاده ولقوا في سبيل الله ذلك أصناف الأذى وألوان الابتلاء وأنواع الشدائد قابلوها بثبات منقطع النظير وصبر فاق كل تصور فعليهم صلوات الله وسلامه أجمعين وقد حكى القرآن لنا قصص هؤلاء الرسل وجهادهم في سبيل هذه الدعوة والمنهج الذي سلكوه وما دار بينهم وبين أممهم وأقوامهم من صراع في سبيل هذه الدعوة حتى أظهر الله دينه وأعز جنده ونصر رسله وكانت كلمته هي العليا, وإنك لتقرأ القرآن الكريم وتقرأ قصة رسول منهم في أكثر من سورة فتجد أن لها في كل سورة مقصد ومغزى وحكمة وعبرة وعظة تختلف عن السورة الأخرى وهذا من أعجاز هذا الكتاب الكريم كيف لا يكون كذلك وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ومن تتبع آيات القرآن والسنة الصحيحة عن الرسول عليه الصلاة والسلام في قصص هؤلاء الأنبياء رأى العجب العجاب من هذا المنهج القوى وهذه السيرة الطيبة وهذه الدعوى الصادقة إلى دين الله ورأى الحكم والمواعظ ورأى المنهج المستقيم الذي يجب على كل من دعا الله أن يسلكه وأن يتخذه منهجا كيف لا وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر له الأنبياء والرسل قال تعالى: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [الأنعام:90]. (1/17) *وفي التصور الإسلامي إعلاء من شأن الإرادة في الإنسان فهي مناط العهد مع الله، وهي مناط التكليف والجزاء. . إنه يملك الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته، وعدم الخضوع لشهواته، والاستعلاء على الغواية التي توجه إليه. بينما يملك أن يشقي نفسه ويهبط من عليائه، بتغليب الشهوة على الإرادة، والغواية على الهداية، ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه. وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شك فيه، يضاف إلى عناصر التكريم الأخرى. كما أن فيه تذكيراً دائماً بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة، والرفعة والهبوط، ومقام الإنسان المريد ودرك الحيوان المسوق! *وفي أحداث المعركة التي تصورها القصة بين الإنسان والشيطان مذكر دائم بطبيعة المعركة. إنها بين عهد الله وغواية الشيطان بين الإيمان والكفر. بين الحق والباطل. بين الهدى والضلال. . والإنسان هو نفسه ميدان المعركة. وهو نفسه الكاسب أو الخاسر فيها. وفي هذا إيحاء دائم له باليقظة؛ وتوجيه دائم له بأنه جندي في ميدان؛ وأنه هو صاحب الغنيمة أو السلب في هذا الميدان! وأخيراً تجيء فكرة الإسلام عن الخطيئة والتوبة. . إن الخطيئة فردية والتوبة فردية. في تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض. * ليست هنالك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده - كما تقول نظرية الكنيسة - وليس هنالك تكفير لاهوتي، كالذي تقول الكنيسة إن عيسى - عليه السلام - (ابن الله بزعمهم) قام به بصلبه، تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم!. . كلا! خطيئة آدم كانت خطيئته الشخصية، والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر وبساطة. وخطيئة كل ولد من أولاده خطيئة كذلك شخصية، والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة. . تصور مريح صريح. يحمل كل إنسان وزره، ويوحي إلى كل إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس والقنوط. . {إن الله تواب رحيم} (1/18) *وقال بعض العلماء: وقد يتبادر إلى الذهن أن آدم قد ارتكب ما نهى عنه، ارتكاب من يتعمد المخالفة، فيكون أكله من الشجرة معصية، مع أنه من الأنبياء المرسلين، والرسل معصومون من مخالفة أوامر الله. والجواب عن ذلك أن آدم تعمد الأكل من الشجرة، ناسياً النهي عن الأكل منها، وفعل المنهي عنه على وجه النسيان لا يعد من قبيل المعاصي التي يرتكبها الشخص وهو متذكر أنه يرتكب محرماً، إذ أن ارتكاب المحرم عن علم وتذكر هو الذي يجعل مرتكبه مستحقاً للعقاب، والأنبياء معصومون من ذلك. وإذا عاتب الله بعض الأخيار من عباده على ما مصدر منهم على وجه النسيان، فلأن علمهم بالنهي يدعوهم إلى أن يقع النهي من نفوسهم موقع الاهتمام، بحيث يستفظعون مخالفته استفظاعاً يملأ نفوسهم بالنفور منها، ويجعلهم على حذر من الوقوع في بلائها. فالذي وقع من آدم - عليه السلام - هو أنه غفل عن الأخذ بالحزم في استحضار النهي وجعله نصب عينيه حتى أدركه النسيان، ففعل ما نهى عنه غير متعمد للمخالفة، قال - تعالى -: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (115) سورة طه * أن سياسة الأمم على الطريقة المثلى إنما تقوم على أساس راسخ من العلم، وأن فضل العلم النافع فوق فضل العبادة، وأن روح الشر الخبيثة إذا طغت على نفس من النفوس، جعلتها لا ترى البراهين الساطعة، ولا يوجهها إلى الخير وعد، ولا يردعها عن الشر وعيد. *كما يستفاد منها كيف أن الرئيس يفسح المجال لمرؤوسيه المخلصين، يجادلونه في أمر يريد قضاءه، ولا يزيد عن أن يبين لهم وجهة نظره في رفق، وإذا تجاوزوا حدود الأدب اللائق به راعى في عتابهم ما عرفه فيهم من سلامة القلب، وتلقي أوامره بحسن الطاعة. (1/19) *كما يؤخذ منها أن المتقلب في نعمة يجب أن يحافظ عليها بشكر الله ، ولا يعمل عملا فيه مخالفة لأوامر الله؛ لأن مخالفة أوامر الله ، كثيراً ما تؤدى إلى زوال النعمة ، ومن أراد أن تزداد النعم بين يديه ، فعليه أن يلتزم طاعة الله وشكره .(1) *وتكرار القصة الواحدة في مواضع متعددة من هذا القبيل فأما من ناحية البلاغة فإبراز المعنى الواحد في صور متعددة وأساليب متنوعة وتفنن شيق وألفاظ مختلفة رفيعة غاية في البلاغة. وأما من ناحية الإعجاز فإيراد المضمون الواحد في صور متعددة مع عجز العرب عن الإتيان بصورة واحدة منها أبلغ في التحدي. علماً بأن العرب في ذلك الوقت وصلوا إلى قمة التفنن في البلاغة وحازوا قصب السبق في الفصاحة وملأوا الدنيا نثراً ونظماً. وأما من ناحية البيان فتكرار القصة الواحدة يلفت الانتباه إليها ويشعر بالاهتمام بها. ويُمكَّن الاعتبار بها في النفس ويرسخها فيها على أساس أن ما تكرر تقرر. ومن الحكم أيضا لتكرار القصة الواحدة في سور متعددة تناسب كل سياق مع السورة التي ورد فيها من حيث الطول والقصر والإطناب والإيجاز إلى غير ذلك من الحكم الكثيرة الجليلة. والله تعالى أعلم.(2) ================ قصة ابني آدم __________ (1) - انظر في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 32) و الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 64-65) (2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 502)رقم الفتوى 1902 الحكمة من تكرار القصص في القرآن (1/20) قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) [المائدة/27-31]. يُبِيِّنُ اللهُ تَعَالَى عَاقِبَةَ البَغْي وَالحَسَدِ وَالظُّلْمِ ، فِي خَبْرِ ابْنَي آدَمَ ( قَابِيلَ وَهَابِيلَ ) ، وَكَيْفَ عَدا أحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ فَقَتَلَهُ بَغْياً عَلَيهِ ، وَحَسَداً لَهُ ، فِيمَا وَهَبَهُ اللهُ مِنَ النِّعْمَةِ ، وَتَقَبَّلَ القُرْبَانَ الذِي أَخْلَصَ فِيهِ صَاحِبُهُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فَفَازَ المَقْتُولُ بِغُفْرَانِ اللهِ لَهُ خَطَايَاهُ ، وَبِالدُّخُولِ إلَى الجَنَّةِ ، وَعَادَ القَاتِلُ وَقَدْ خَسِرَ الدَّارَيْنِ الدُّنْيا وَالآخِرَةَ . (1/21) فَقَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ : أقْصُصْ عَلى البُغَاةِ الحَسَدَةِ مِنَ اليَهُودِ وَأَمْثَالِهِمْ وَأشْبَاهِهِمْ خَبَرَ ابْنَيْ آدَمَ الذِي يَرْوِيهِ النَّاسُ وَيَتَنَاقَلُونَهُ ، لَقَدْ قَرَّبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُرْبَاناً إلى اللهِ(1)، فِي أَمْرٍ اخْتَلَفَا عَلَيْهِ ، فَتَقَبَّلَ اللهُ مِنْ أَحَدِهِمَا قُرْبَانَهُ ( وَهُوَ هَابِيلُ ) وَلَمْ يَتَقَبَّلْ قُرْبَانَ الآخَرِ ( قَابِيلَ ) ، بِأَنْ أَنْزَلَ اللهُ نَاراً مِنَ السَّمَاءِ فَأَكَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ ، وَلَمْ تَمَسَّ النَّارُ قُرْبَانَ قَابِيلَ . فَغَضِبَ قَابِيلُ ، وَهَدَّدَ أَخَاهُ بِالقَتْلِ ، فَقَالَ لَهُ هَابِيلُ : إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ القُرْبَانَ وَالصَّدَقَاتِ مِنَ المُتَّقِينَ ، الذِينَ أَخْلَصُوا العِبَادَةَ للهِ ، وَاتَّقَوْا الشِّرْكَ ، وَخَافُوا عِقَابَ اللهِ ، وَاجْتَنَبُوا المَعَاصِي . __________ (1) - قال أبو حيان : وقد طول المفسرون في سبب تقريب هذا القربان - من قابيل وهابيل - وملخصه : أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى ، وكان آدم يزوج ذكر هذا البطن أنثى ذلك البطن الآخر . ولا يحل للذكر نكاح توأمته : فولد مع قابيل أخت جميلة ، وولد مع هابيل أخت دون ذلك . فأبى قابيل إلا أن يتزوج توأمته لا توأمه هابيل ، وأن يخالف سنة النكاح ونازع قابيل وهابيل في ذلك ، فاتفقا على أن يقدما قربانا - فأيهما قبل قربانه تزوجها ، والقربان الذي قرباه هو زرع لقابيل - وكان صاحب زرع - وكبش هابيل - وكان صاحب غنم - فتقبل من أحدهما وهو هابيل ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل . وكانت علامة التقبل أن تأكل نار نازلة من السماء القربان المتقبل وتترك غير المتقبل .الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 1234) (1/22) وَإذِا أَرَدْتَ أنْ تَبْسِطَ إليَّ يَدَكَ وَتَمُدَّهَا بِالشَّرِّ ، وَإذَا نَوَيْتَ قَتْلِي ، فَإنِّي لَنْ أُقَابِلَكَ عَلَى صَنِيعِكَ الفَاسِدِ بِمِثْلِهِ ، فَأَكُونُ أنَا وَأَنْتَ سَوَاءً فِي الخَطِيئَةِ ، وَإنِّي أَخَافُ اللهَ مِنْ أنْ أَصْنَعَ بِكَ مَا تُرِيدُ أَنْتَ أنْ تَصْنَعَهُ بِي ، وَلِذَلِكَ فَإنِّي أَصْبِرُ وَأَحْتَسِبُ . وَإنِّي إذْ أَرْفُضُ مُقَابَلَةَ الجَرِيمَةِ بِمِثْلِهَا ، فَإنَّنِي إنَّمَا أُرْيدُ أنْ تَتَحمَّلَ إِثْمَ قَتْلِي ، وَالإِثْمَ الذِي عَلَيْكَ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَمْنَ أَجْلِهِ لَمْ يَتَقَبَّلَ اللهُ قُرْبَانَكَ ، فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ، وَهَذَا هُوَ الجَزَاءُ الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لِلْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ . وَلَكِنَّ قَابِيلَ لَمْ يَخَفْ النَّارَ التِي خَوَّفُه بِهَا أَخْوُهُ ، وَلَمْ يَنْزَجِرْ ( وَقِيلَ إنَّ القَاتِلَ يَحْمِلُ فِي الآخِرَةِ إِثْمَ مَنْ قَتَلَهُ وَمَا عَلَيهِ مِنْ ذُنُوبٍ وَآثَامٍ وَحُقُوقٍ لِلْعِبَادِ ، لأَنَّهُ بِقَتْلِهِ مَنَعَهُ مِنْ أنْ يَرْجِعَ إلى اللهِ بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ ، وَوَفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ العِبَادِ إنْ أرَادَ ذَلِكَ ) . فَحَسَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ ، وَشَجَّعَتْهُ عَلَيهِ ، بَعْدَ أنْ سَمِعَ مِنْ أخِيهِ المَوْعِظَةَ فَلَمْ يَتَّعِظْ ، وَلَمْ يَزْدَجِرْ ، فَقَتَلَهُ ، فَأصْبَحَ القَاتِلُ مِنَ الخَاسِرِينَ فِي الدُّنيا بِفَقْدِهِ أخَاهُ ، وَفِي الآخِرَةِ إذْ أصْبَحَ مِنْ أهْلِ النَّارِ . (1/23) ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَسْتَفِيدَ مِنْ تَجَارِبِ غَيْرِهِ ، فَلَمَّا مَاتَ الأخُ القَتِيلُ ، تَرَكَهُ القَاتِلُ فِي العَرَاءِ ، وَهُوَ لاَ يَعْرِفُ كَيْفَ يَدْفِنُهُ ، فَبَعَثَ اللهُ غُرَابَيْنِ فَاقْتَتَلاَ ، فَقَتَلَ أحَدُهُما صَاحِبَهُ ، فَحَفَرَ لَهُ حُفْرَةً ألْقَاهُ فِيهَا ، ثُمَّ حَثَا عَلَيهِ التُّرَابَ . فَلَمَّا رَآهُ ابْنُ آدَمَ القَاتِلُ قَالَ : يَا وَيْلَتَا أَعَجِزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هَذا الغُرَابِ فَأوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي؟ فَنَدِمَ عَلَى مَا فَعَل . وقال تعالى تعليقا على القصة : {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (32) سورة المائدة (1/24) يُخْبِرُ تَعَالَى : أنَّهُ بِسَبَبِ قِتْلِ ابْنِ آدَمَ أخَاهُ ، شَرَعَ اللهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَقَضَى عَلَيْهِمْ ، أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ مِنْ قِصَاصٍ أوْ إِفْسَادٍ فِي الأَرْضِ ، وَاسْتَحَلَّ قَتْلَهَا ، بِلاَ سَبَبٍ وَلاَ جِنَايَةٍ ، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ، لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ نَفْسٍ . وَمَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا ، وَكَانَ سَبباً فِي حَيَاةِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، بِإِنْقَاذِهَا مِنْ مَوْتٍ ، فَكَأنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ، لأنَّ البَاعِثَ عَلَى الامتِنَاعِ عَنِ القَتْلِ هُوَ اعْتِقَادُهُ بِأنَّ ذَلِكَ شَرٌّ وَأنَّ اللهَ حَرَّمَهُ ، وَلِذَلِكَ فَإنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَسْلَمُونَ مِنْ شَرِّهِ ، وَيَأمَنُونَ أذَاهُ ، وَلأنَّ البَاعِثَ عَلَى إنْقَاذِ النَّفْسَ مِنَ المَوْتِ الذِي كَانَ يَتَهَدَّدُهَا هُوَ الرَّحْمَةُ وَالشَّفَقَةُ ، وَالوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرَائِعِ ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أنَّهُ مُسْتَعِد لإنْقَاذِ كُلِّ نَفْسٍ إنِ اسْتَطَاعَ ، وَلِذَلِكَ يَكُونُ كَأنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً . وَلَقَدْ جَاءَتْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رُسُلُهُمْ بِالحُجَجِ وَالبَرَاهِينِ وَالدَّلاَئِلَ الوَاضِحَةِ . وَلَكِنَّ الكَثِيرينَ مِنْهُمْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُسْرِفِينَ فِي فَسَادِهِمْ فِي الأَرْضِ . وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ، لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ »(1). __________ (1) - صحيح البخارى (3335) ومسلم (4473 ) وقال النووي في شرح مسلم - (ج 6 / ص 88): وَهَذَا الْحَدِيث مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام ، وَهُوَ : أَنَّ كُلّ مَنْ اِبْتَدَعَ شَيْئًا مِنْ الشَّرّ كَانَ عَلَيْهِ مِثْل وِزْر كُلّ مَنْ اِقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَمَل مِثْل عَمَله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ، وَمِثْله مَنْ اِبْتَدَعَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْر كَانَ لَهُ مِثْل أَجْر كُلّ مَنْ يَعْمَل بِهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ، وَهُوَ مُوَافِق لِلْحَدِيثِ الصَّحِيح : " مَنْ سَنَّ سُنَّة حَسَنَة وَمَنْ سَنَّ سُنَّة سَيِّئَة " وَلِلْحَدِيثِ الصَّحِيح " مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْر فَلَهُ مِثْل أَجْر فَاعِله " وَلِلْحَدِيثِ الصَّحِيح : " مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى هُدًى وَمَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى ضَلَالَة " . وَاللَّهُ أَعْلَم . (1/25) --------------- بعض الدروس والعبر *-تخصيص الغراب دون غيره في قصة ابني آدم إن الله سبحانه وتعالى العليم الحكيم اللطيف الخبير لم يضرب لنا مثلا في كتابه أو يقص علينا قصة إلا لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها. وبخصوص ذكر الغراب فيها دون غيره من الطيور والحيوانات: فقد جاء في تفسير التحرير والتنوير : كأنَّ اختيار الغراب لهذا العمل إما لأن الدفن حيلة في الغربان من قبل، وإما لأن الله تعالى اختاره لمناسبة ما يعتري الناظر إلى سواد لونه من الانقباض بما للأسيف الخاسر من انقباض النفس، ولعل هذا هو الأصل في تشاؤم العرب بالغراب، فقالوا: غراب البين . وفي روح المعاني: والحكمة من كون الغراب هو المبعوث دون غيره من الحيوانات كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب، وذلك مناسبة لهذه القصة . والغراب بطبيعته يبحث في الأرض دائما بمنقاره ورجليه عن رزقه، وربما دفن الأماكن التي نبشها، ولعل من الحكم في ذلك أن على المسلم أن يتعلم من كل ما حوله ولو كان دونه في المنزلة، فإن الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها. فقد بعث الله تعالى هذا الحيوان لابن آدم الأول ليتعلم منه كيفية دفن الموتى والتي هي فريضة على جميع الناس على الكفاية، فيجب دفن الإنسان ولو كان غير مسلم، كما قال سبحانه وتعالى: ألَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا {النبأ: 25-26}. وقال: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ {عبس: 21}. والحاصل أن قصص القرآن الكريم كلها عظات وعبر ودروس إذا تأمل فيها المؤمن . (1/26) *وخص بنو إسرائيل بالذكر مع أن الحكم عام - لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوبا، وكان قبل ذلك قولا مطلقا، ولأنهم أكثر الناس سفكا للدماء، وقتلا للمصلحين، فقد قتلوا كثيرا من الأنبياء، كما قتلوا أكثر المرشدين والناصحين، ولأن الأسباب التي أدت إلى قتل قابيل لهابيل من أهمها الحسد، وهو رذيلة معروفة فيهم، فقد حملهم حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم على الكفر به مع أنهم يعرفون صدقة كما يعرفون أبناءهم، كما حملهم على محاولة قتله ولكن الله - تعالى نجاه من شرورهم. وما أشبههم في قتلهم للذين يأمرونهم بالخير بقابيل الذي قتل أخاه هابيل؛ لأنه أرشده إلى ما يصلحه (1). *- مشروعية التقرب الى الله تعالى بما يحب أن يتقرب به إليه تعالى. *- عظم جريمة الحسد وما يترتب عليها من الآثار السيئة. *- قبول الأعمال الصالحة يتوقف على الإِخلاص فيها لله تعالى. *- بيان أول من سن جريمة القتل وهو قابيل ولذا ورد: ما من نفساً ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل «نصيب» ذلك بأنه أول من سن القتل. *- مشروعية الدفن وبيان زمنه. *- خير ابني آدم المقتول ظلماً وشرهما القاتل ظلماً. (2) - - - - - - - - - - - - - - - - ( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ) الخلاصة في حياة الأنبياء نوحُ (عليه السلام) __________ (1) - صحيح البخارى 6/ 22 (4476) (2) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3678) سؤال رقم 36836 - هل إدريس أول الرسل؟ و مجموع فتاوى الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله 1/ 315 (1/31) كان ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر رجالا صالحين أحبهم الناس، فلما ماتوا حزنوا عليهم حزنًا شديداً، واستغل الشيطان هذه الفرصة فوسوس للناس أن يصنعوا لهم تماثيل تخليداً لذكراهم، ففعلوا، ومرت السنوات، ومات الذين صنعوا تلك التماثيل، وجاء أحفادهم، فأغواهم الشيطان وجعلهم يظنون أن تلك التماثيل هي آلهتهم فعبدوها من دون الله، وانتشر الكفر بينهم، فبعث الله إليهم رجلا منهم، هو نوح -عليه السلام- فاختاره الله واصطفاه من بين خلقه، ليكون نبيًّا ورسولا، وأوحى إليه أن يدعو قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وظل نوح -عليه السلام- يدعو قومه إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام، فقال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (59) سورة الأعراف، فاستجاب لدعوته عدد من الفقراء والضعفاء، أما الأغنياء والأقوياء فقد رفضوا دعوته، كما أن زوجته وأحد أبنائه كفرا بالله ولم يؤمنا به، وظلَّ الكفار يعاندونه، وقالوا له: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (27) سورة هود. ولم ييأس نوح -عليه السلام- من عدم استجابتهم له، بل ظل يدعوهم بالليل والنهار، وينصحهم في السرِّ والعلن، ويشرح لهم برفق وهدوء حقيقة دعوته التي جاء بها، إلا أنهم أصرُّوا على كفرهم، واستمروا في استكبارهم وطغيانهم، وظلوا يجادلونه مدة طويلة، وأخذوا يؤذونه ويسخرون منه، ويحاربون دعوته. (1/32) وذات يوم ذهب بعض الأغنياء إلى نوح -عليه السلام- وطلبوا منه أن يطرد الفقراء الذين آمنوا به؛ حتى يرضى عنه الأغنياء ويجلسوا معه ويؤمنوا بدعوته فقال لهم نوح: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) [هود/29 - 32] فغضب قومه واتهموه بالضلال، وقالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} (60) سورة الأعراف. فقال لهم: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)} [الأعراف/61 - 63]، واستمر نوح -عليه السلام- يدعو قومه يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام، دون أن يزيد عدد المؤمنين، وكان إذا ذهب إلى بعضهم يدعوهم إلى عبادة الله، ويحدثهم عن الإيمان به، وضعوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا كلامه، وإذا ذهب إلى آخرين يحدثهم عن نعم الله عليهم وعن حسابهم يوم القيامة، وضعوا ثيابهم على وجوههم حتى لا يروه، واستمر هذا الأمر طويلا حتى قال الكفار له: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (32) سورة هود. (1/33) فقال لهم نوح: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) [هود/32 - 35]}، وحزن نوح -عليه السلام- لعدم استجابة قومه وطلبهم للعذاب، لكنه لم ييأس، وظل لديه أمل في أن يؤمنوا بالله -تعالى- ومرت الأيام والسنون دون نتيجة أو ثمرة لدعوته، واتَّجه نوح -عليه السلام- إلى ربه يدعوه، ويشكو له ظلم قومه لأنفسهم، فأوحى الله إليه: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (36) سورة هود. وظل نوح -عليه السلام- يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين (950 سنة) دون أن يجد منهم استجابة، فقال: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) [الشعراء/117، 118]} ودعا عليهم بالهلاك، فقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) [نوح/26 - 28]}،فأمره الله أن يصنع سفينة، وعلَّمه كيف يتقن صنعها، وبدأ نوح -عليه السلام- والمؤمنون معه في صنع السفينة، وكلما مر الكفار عليهم سخروا منهم واستهزءوا بهم؛ إذ كيف يصنعون سفينة وهم يعيشون في صحراء جرداء لا بحر فيها ولا نهر، وزاد استهزاؤهم حينما عرفوا أن هذه السفينة هي التي سوف ينجو بها نوح ومن معه من المؤمنين حينما ينزل عذاب الله بالكفار. (1/34) وأتمَّ نوح -عليه السلام- صنع السفينة، وعرف أن الطوفان سوف يبدأ، فطلب من كل المؤمنين أن يركبوا السفينة، وحمل فيها من كل حيوان وطير وسائر المخلوقات زوجين اثنين، واستقر نوح -عليه السلام- على ظهر السفينة هو ومن معه، وبدأ الطوفان، فأمطرت السماء مطرًا غزيرًا، وتفجرت عيون الماء من الأرض وخرج الماء منها بقوة، فقال نوح: {ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (41) سورة هود. وبدأت السفينة تطفو على سطح الماء، ورأى نوح -عليه السلام- ابنه، وكان كافرًا لم يؤمن بالله، فناداه: {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42]، فامتنع الابن ورفض أن يلبي نداء أبيه، وقال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء} [هود:43]، فقد ظن أن الماء لن يصل إلى رءوس الجبال وقممها العالية، فحذره نوح -عليه السلام- وقال له: {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} (43) سورة هود. ورأى المشركون الماء يملأ بيوتهم، ويتدفق بسرعة رهيبة، فأدركوا أنهم هالكون فتسابقوا في الصعود إلى قمم الجبال، ولكن هيهات .. هيهات، فقد غطى الماء قمم الجبال، وأهلك الله كلَّ الكافرين والمشركين، ونجَّى نوحًا -عليه السلام- والمؤمنين؛ فشكروا الله على نجاتهم، وصدر أمر الله -تعالى- بأن يتوقف المطر، وأن تبتلع الأرض الماء: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (44) سورة هود، وابتلعت الأرض الماء، وتوقفت السماء عن المطر، ورست السفينة على جبلٍ يسَمَّى الجودي. (1/35) ثم أمر الله نوحًا -عليه السلام- ومن معه من المؤمنين بالهبوط من السفينة، قال تعالى: {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (48) سورة هود، وناشد نوح -عليه السلام- ربه في ولده، وسأله عن غرقه استفسارًا واستخبارًا عن الأمر، وقد وعده أن ينجيه وأهله، فقال سبحانه: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) [هود/46، 47]} وكان ابن نوح من الكافرين فلم يستحق رحمة الله، فامتثل نوح لأمر الله، وهبط من السفينة ومعه المؤمنون، وأطلق سراح الحيوانات والطيور، لتبدأ دورة جديدة من الحياة على الأرض، وظل نوح عليه السلام يدعو المؤمنين، ويعلمهم أحكام الدين، ويكثر من طاعة الله من الذكر والصلاة الصيام إلى أن توفي ولقي ربه وهو راض عنه. ---------------- بعض الدروس والعبر من قصة نوح عليه السلام (1/36) أول هؤلاء الرسل نوح عليه الصلاة والسلام الذي بعثه الله ليرد الناس إلى طريق التوحيد إلى صراط الله المستقيم بعد أن ظهر الشرك لأول مرة في تاريخ البشر فقد جاء في الصحيح عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" وقد مكثوا على الإسلام والتوحيد تلك المدة ليس للشرك بينهم مكان ولكن الشيطان لم يهدأ له بال ولم يقر له قرار والناس على توحيد الله فزين لهم ولبس واخترع الوسائل وزينها ليوصلهم في نهاية الأمر إلى الشرك والعياذ بالله تعالى فجاء إلى قوم نوح بعد أن مات منهم قوم صالحون وأوحى إليهم وزين لهم أن ينصبوا أنصابا وأن يمثلوا صورا وتماثيل لأولئك الصالحين كما جاء في الصحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - صَارَتِ الأَوْثَانُ الَّتِى كَانَتْ فِى قَوْمِ نُوحٍ فِى الْعَرَبِ بَعْدُ ، أَمَّا وُدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ ، وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِى غُطَيْفٍ بِالْجُرُفِ عِنْدَ سَبَا ، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ ، لآلِ ذِى الْكَلاَعِ . أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِى كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا ، وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ(1). __________ (1) - صحيح البخاري (4920) (1/37) هذه الوسوسة وهذا التزيين جاء إليهم الشيطان في أول الأمر بدافع الاقتداء بأولئك الصالحين ليصوروا صورهم لعلهم يتذكرونهم فيعبدون الله كعبادتهم وبقي على ذلك حتى انقرض هذا الجيل فلما جاء الجيل الذي بعده جاء إليهم وقال: إن من كانوا قبلكم كانوا يعبدون هذه الأنصاب ومازال بهم حتى عبدوها وهذا المسلك يسلكه الشيطان مع كثير من الناس في ذلك الزمن وفي هذا الزمن وفي كل زمن يأتي إليهم أول الأمر بوسائل يندفعون إليها ويحبونها فيقمص الباطل قميص الحق ويلبس البدعة ثوب السنة ويحليها بالتزين والاستحسان ويقدمها إليهم بدافع حسن النية وسلامة المقصد ويدفعهم إليها بذلك حتى يقعوا في الشرك والعياذ بالله هذا هو مسلك الشيطان وما أكثر ضحاياه في كل زمان ومكان. ما أكثر الذين يطيعون الشيطان بدافع الاستحسان إنه يأتي إلى الإنسان من السبيل الذي يندفع إليه ويزين له ويزخرف حتى يوقعه في المعصية ثم يتبرأ منه فبعث الله نوحا عليه الصلاة والسلام ليرد الناس إلى الصراط المستقيم. - إن قوم نوح هؤلاء . . هم ذرية آدم . . وآدم - كما نعلم من قصته في سورة الأعراف من قبل - وفي سورة البقرة كذلك - قد هبط إلى الأرض ليقوم بمهمة الخلافة فيها - وهي المهمة التي خلقه الله لها وزوده بالكفايات والاستعدادات اللازمه لها - بعد أن علمه ربه كيف يتوب من الزلة التي زلها , وكيف تلقى من ربه كلمات فتاب عليه بها . وكيف أخذ عليه ربه العهد والميثاق - هو وزوجه وبنوه - أن(يتبع) ما يأتيه من هدى الله , ولا يتبع الشيطان وهو عدوه وعدو بنيه إلى يوم الدين . (1/38) وإذن فقد هبط آدم إلى الأرض مسلما لله متبعا هداه . . وما من شك أنه علم بنيه الإسلام جيلا بعد جيل ; وأن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية في الأرض ; حيث لم تكن معها عقيدة أخرى ! فإذا نحن رأينا قوم نوح - وهم من ذرية آدم بعد أجيال لا يعلم عددها إلا الله - قد صاروا إلى هذه الجاهلية - التي وصفتها القصة في هذه السورة - فلنا أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها وأصنامها وتصوراتها وتقاليدها جميعا . وأنها انحرفت عن الإسلام إليها بفعل الشيطان المسلط على بني آدم ; وبفعل الثغرات الطبيعية في النفس البشرية . تلك الثغرات التي ينفذ منها عدو الله وعدو الناس , كلما تراخوا عن الاستمساك بهدى الله , واتباعه وحده , وعدم اتباع غيره معه في كبيرة ولا صغيرة . . ولقد خلق الله الإنسان ومنحه قدرا من الاختيار - هو مناط الابتلاء - وبهذا القدر يملك أن يستمسك بهدي الله وحده فلا يكون لعدوه من سلطان عليه , كما يملك أن ينحرف - ولو قيد شعرة - عن هدى الله إلى تعاليم غيره ; فيجتاله الشيطان حتى يقذف به - بعد أشواط - إلى مثل تلك الجاهلية الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم - النبي المسلم - بعد تلك الأجيال التي لا يعلمها إلا الله . (1/39) وهذه الحقيقة . . حقيقة أن أول عقيدة عرفت في الأرض هي الإسلام القائم على توحيد الدينونة والربوبية والقوامة لله وحده . . تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم "علماء الأديان المقارنة " وغيرهم من التطوريين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طورا متأخرا من أطوار العقيدة . سبقته أطوار شتى من التعدد والتثنية للآلهة . ومن تأليه القوى الطبيعية وتأليه الأرواح , وتأليه الشموس والكواكب . . إلى آخر ما تخبط فيه هذه "البحوث" التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة ; يهدف إلى تحطيم قاعدة الأديان السماوية والوحي الإلهي والرسالات من عند الله وإثبات أن الأديان من صنع البشر ; وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار الزمان ! (1/40) وينزلق بعض من يكتبون عن الإسلام مدافعين ; فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ الأديان - وفق ذلك المنهج الموجه! - من حيث لا يشعرون! وبينما هم يدافعون عن الإسلام متحمسين يحطمون أصل الاعتقاد الإسلامي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم. حين يقرر أن آدم - عليه السلام - هبط إلى الأرض بعقيدة الإسلام. وأن نوحا - عليه السلام - واجه ذراري آدم الذين اجتالهم الشيطان عن الإسلام إلى الجاهلية الوثنية بذلك الإسلام نفسه. . القائم على التوحيد المطلق. . وأن الدورة تجددت بعد نوح فخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية ; وأن الرسل جميعا أرسلوا بعد ذلك بالإسلام. . القائم على التوحيد المطلق. . وأنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل الاعتقاد - إنما كان الترقي والتركيب والتوسعفي الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة - وأن ملاحظة ذلك التطور في العقائد الجاهلية لا يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور في أصل العقيدة. إنما يدل على أن عقيدة التوحيد على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الأجيال التالية - حتى بعد انحراف الأجيال عنها - ترقي عقائدهم الجاهلية ذاتها ; حتى تصير أقرب إلى أصل التوحيد الرباني. أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعا! وقد وجدت هكذا كاملة منذ وجدت , لأنها ليست نابعة من أفكار البشر ومعلوماتهم المترقية ; إنما هي آتية لهم من عند الله سبحانه. فهي حق منذ اللحظة الأولى , وهي كاملة منذ اللحظة الأولى. . هذا ما يقرره القرآن الكريم ; ويقوم عليه التصور الإسلامي. فلا مجال - إذن - لباحث مسلم - وبخاصة إذا كان يدافع عن الإسلام! - أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم , إلى شيء مما تخبط فيه نظريات علم الأديان المقارنة. تلك النظريات النابعة من منهج موجه كما أسلفنا! (1) __________ (1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 261) (1/41) ----------------- وقفات مع قصة نوح عليه السلام الوقفة الأولى - في مبدأ دعوته فقد بدأ دعوته بالدعوة إلى توحيد الله حين جاء والناس قد ضلوا عن سواء الصراط ووقعوا في الشرك بالله فكان أول ما قال لهم: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [المؤمنون:23]. لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [الأعراف:59]. ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم [هود:25 - 26]. ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه أن انذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب عظيم قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون [نوح]. أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هذه الدعوة التي كانت بدايتها دعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى دعاهم إلى التوحيد وجاهد في سبيله وهكذا دعوة الأنبياء والرسل كما جاء ذكره وهكذا يجب أن تكون كل دعوة إلى الله تعالى يجب أن تبدأ بدعوة الناس إلى عبادة الله وإلى أفراده في العبادة حتى يستسلم ذلك الإنسان لربه فإذا استسلم قلبه واستسلمت جوارحه أصبح مستعدا لطاعة الله والرجوع إلى منهج الله وما أكثر تقصير الدعاة في هذا الجانب وما أقل اهتمام كثير منهم بهذا الأمر العظيم الذي اهتم به رسل الله وجعلوه مفتاح دعوتهم. (1/42) الوقفة الثانية -في منهجه وأسلوبه في دعوته عليه الصلاة والسلام وذلك في أمور أولها التأكيد لقومه بأن هدفه من دعوته حرصه عليهم وحب الخير لهم وإنقاذهم من الهلاك والخوف عليهم من عذاب الله ومقته إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [الأعراف:59]. إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم [هود:26]. وقطع الطمع عما في أيديهم وبيان أن أجره إنما يطلبه من الله وما أسألكم عليه من أجر إن أجري على رب العالمين [الشعراء:109]. فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله [يونس:72]. ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله [هود:9]. وهكذا ينبغي أن يكون كل داع إلى الله تبارك وتعالى ينبغي أن يقطع طمعه عما في أيدي الناس وأن يرتفع بدعوته من الأرض إلى السماء ليرتفع هو معها لترتفع هذه الدعوة وليرتفع رأسه مع هذه الدعوة كما كان رسل الله عليهم الصلاة والسلام وإن أهم ما ينبغي أن يحرص عليه كل من يدعو إلى الله أن يزهد في الدنيا وأن يزهد عما في أيدي الناس جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا علمته أحبني الله وأحبني الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ازْهَدْ فِى الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِى أَيْدِى النَّاسِ يُحِبُّوكَ ».(1)، وكم من دعوة حطمتها الأطماع الدنيئة وضيعتها الأهداف الوضيعة وثانيها أنه عليه الصلاة والسلام رفيقا بقومه متلطفا معهم عله يصل إلى قبول منهم لدعوته وكان يظهر الشفقة والرحمة بهم ويبين لهم في الوقت نفسه حقيقة دعوته وحقيقة نفسه ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذن لمن الظالمين [هود:31]. __________ (1) - سنن ابن ماجه (4241) (1/43) وهذا كذلك مما ينبغي للدعاة أن يلتزموا به ويحرصوا عليه أن لا يعلقوا الناس بأطماع زائلة ولا بأهداف منقطعة بل يعلقوهم بربهم سبحانه وتعالى ويجعلوا طمعهم واتصالهم به سبحانه وتعالى لأنها دعوة الله وينبغى أن تتعلق الآمال فيها بالله وأن لا تتعلق بدنيا ولا بأحد من أهلها فإن الدنيا وأهلها زائلون وكذلك من أسلوبه ومنهجه في دعوته أنه كان يذكر قومه بنعمة الله عليهم ويلفت أنظارهم إلى آيات الله في السماوات والأرض ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا [نوح:13-16]. إلى آخر تلك الآيات يذكرهم بنعمة الله عليهم ويلفت أنظارهم إلى آيات الله سبحانه في هذا الكون علهم ينتفعوا بذلك ويرجعوا إلى هذا الصراط المستقيم. (1/44) والوقفة الثالثة- أيها الأخوة في مواقف دعوته عليه الصلاة والسلام صبره العظيم في سبيل هذه الدعوة مع طول هذه المدة طول مدة دعوته فهي كما قال الله تعالى: ألف سنة إلا خمسين عاما كانت هذه الدعوة ألف عامٍ إلا خمسين عاما قضاها نوح عليه السلام صابرا محتسبا في سبيل هذه الدعوة ينوع الأساليب مع قومه ويكرر الدعوة ويواصل الجهاد علهم يقبلون دعوته قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا [نوح:5 - 9]. هذا الجهاد الطويل سرا وجهرا ليلا ونهارا مع كل ما كان يلاقي من الأذى ومن المهن وفي طول هذه المدة العظيمة كان صبره منقطع النظير يصبر على قومه ويدعوهم طمعا في هدايتهم وكان من أولي العزم الذين أمر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالتأسي بهم في الصبر فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [الأحقاف:35]. وما أحوج دعاة الإسلام إلى هذا الزاد العظيم إلى الصبر على دعوتهم فلا يتملكهم اليأس حينما يرون إعراضا من الناس أو يرون أذية أو يرون امتحانا فإن تلك سنة الله في خلقه حتى مع رسله الذين هم صفوة الخلق وأحب الناس إلى الله وأفضل خلق الله عليهم صلاة الله وسلامه. (1) - - - - - - - - - - - - ( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ) الخلاصة في حياة الأنبياء هودُ (عليه السلام) __________ (1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 764) من وحي قصة نوح (1/45) في أرض اليمن، وفي مكان يسمَّى (الأحقاف) كان يقيم قوم عاد الأولى الذين يرجع نسبهم إلى نوح، وكانوا يسكنون البيوت ذوات الأعمدة الضخمة، قال تعالى: { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) [الفجر/7-9] } ،ويبنون القصور العالية والحصون المرتفعة، ويتفاخرون ببنائها، قال تعالى: { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) [الشعراء/128، 129] } ، ويملكون حضارة عظيمة، وقد برعوا في الزراعة بسبب توفر الماء العذب الغزير وكثر لديهم الخير الوفير، وكثرت الأموال والأنعام، وأصبحت منطقتهم حقولا خصبة خضراء، وحدائق زاهرة وبساتين وعيونًا كثيرة. وأعطى الله أهل هذه القبيلة بنية جسدية تختلف عن سائر البشر، فكانوا طوال الأجسام أقوياء.. إذا حاربوا قومًا أو قاتلوهم هزموهم، وبطشوا بهم بطشًا شديدًا، قال تعالى: { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) }[الشعراء: 130-134]. (1/46) وبرغم هذه النعم الكبيرة والخيرات الكثيرة التي أعطاهم الله إياها، لم يشكروا الله -تعالى- عليها، بل أشركوا معه غيره؛ فعبدوا الأصنام، وكانوا أول من عبد الأصنام بعد الطوفان، وارتكبوا المعاصي والآثام، وأفسدوا في الأرض، فأرسل الله لهم هودًا -عليه السلام- ليهديهم إلى الطريق المستقيم وينهاهم عن ضلالهم ويأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، ويخبرهم بأن الله -سبحانه- هو المستحق للشكر على ما وهبهم من قوة وغنى ونعم، فقال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (65) سورة الأعراف، فتساءلوا: ومن أنت حتى تقول لنا مثل هذا الكلام؟ ! فقال هود -عليه السلام- {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)} [الشعراء: 125 - 126]، فرد عليه قومه بغلظة واستكبار: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) [الأعراف/66]}، فقال لهم هود: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)} [الأعراف:67 - 68]. (1/47) فاستكبر قومه، وأنكروا عبادة الله، وقالوا له: {قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (53) سورة هود، وقالوا له: وما الحالة التي أنت فيها، إلا أن آلهتنا قد غضبت عليك، فأصابك جنون في عقلك، فذلك الذي أنت فيه، فلم ييأس هود -عليه السلام- وواصل دعوة قومه إلى طريق الحق، فأخذ يذكرهم بنعم الله -تعالى- عليهم؛ لعلهم يتوبون إلى الله ويستغفرونه، فقال: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) [الشعراء/132 - 134]} ثم قال: {{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} (52) سورة هود. (1/48) ولم يجد هود -عليه السلام- فيهم إلا قلوبًا ميتة متحجرة متمسكة بغيها وضلالها، وإصرارها على عبادة الأصنام، إذ قابلوا نصحه وإرشاده لهم بالتطاول عليه والسخرية منه، فقال لهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) [هود/54 - 58]} فاستكبروا وتفاخروا بقوتهم وقالوا لهود: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (15) سورة فصلت وأخذوا يسخرون منه ويستعجلون العذاب والعقوبة في سخرية واستهزاء فقالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (70) سورة الأعراف .. فقال هود -عليه السلام-: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} (71) سورة الأعراف، وبدأ عذاب الله لقوم عاد بأن أرسل عليهم حرًّا شديدًا، جفَّت معه الآبار والأنهار، وماتت معه الزروع والثمار، وانقطع المطر عنهم مدة طويلة، ثم جاء سحاب عظيم، فلما رأوه استبشروا به، وفرحوا، وظنوا أنه سيمطر ماءً، وقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] .. (1/49) لقد ظنوا أن السحب ستأتي لهم بالخير، لتروي عطشهم وتسقي إبلهم وخيولهم، وزرعهم وبساتينهم، ولكنها كانت تحمل لهم العذاب والفناء، فجاءتهم ريح شديدة استمرت سبع ليالٍ وثمانية أيام دائمة دون انقطاع، تدمر كل شيء أمامها حتى أهلكتهم، قال تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)} [الأحقاف: 24 - 25]. ونجَّى الله هودًا ومن آمنوا معه، قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} (72) سورة الأعراف، وسار هود -عليه السلام- ومن معه من المؤمنين إلى مكان آخر يعبدون الله فيه ويسبحونه. -------------- وقفات مع قصة هود عليه السلام * نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة. . دعوة توحيد العبادة والعبودية لله , المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول: (قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). . ولقد كنا دائما نفسر "العبادة " لله وحده بأنها "الدينونة الشاملة " لله وحده. في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة. ذلك أن هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي. . فإن "عبد" معناها: دان وخضع وذلل. وطريق معبد طريق مذلل ممهد. وعبده جعله عبدا أي خاضعا مذللا. . (1/50) والواقع إنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات , وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان ! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد . وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن ; وفي منهج حياتهم كله للدنيا والآخرة سواء . إن توحيد الألوهية , وتوحيد الربوبية , وتوحيد القوامة , وتوحيد الحاكمية , وتوحيد مصدر الشريعة , وتوحيد منهج الحياة , وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة . . . إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل , وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود ; وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان . . لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه , فالله سبحانه غني عن العالمين . ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة "بالإنسان" إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها . *ونقف أمام الحقيقة التي كشف عنها هود لقومه وهو يقول لهم:(ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم , ولا تتولوا مجرمين) . . إنها حقيقة العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية , وحقيقة اتصال طبيعة الكون ونواميسه الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين . . وهي حقيقة في حاجة إلى جلاء وتثبيت ; وبخاصة في نفوس الذينيعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ; والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه العلاقة أو على الأقل تستشعرها . . (1/51) إن الحق الذي نزل به هذا الدين غير منفصل عن الحق المتمثل في ألوهية الله - سبحانه - والحق الذي خلقت به السماوات والأرض , المتجلي في طبيعة هذا الكون و نواميسه الأزلية . . والقرآن الكريم كثيرا ما يربط بين الحق المتمثل في ألوهية الله - سبحانه - والحق الذي قامت به السماوات والأرض ; والحق المتمثل في الدينونة لله وحده . . والحق المتمثل في دينونة الناس لله يوم الحساب بصفة خاصة , والحق في الجزاء على الخير والشر في الدنيا والآخرة . . وذلك في مثل هذه النصوص: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين . لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا . . إن كنا فاعلين . . بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق , ولكم الويل مما تصفون , وله من في السماوات والأرض , ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون . يسبحون الليل والنهار لا يفترون . أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ? لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا , فسبحان الله رب العرش عما يصفون . لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . أم اتخذوا من دونه آلهة ? قل:هاتوا برهانكم . هذا ذكر من معي وذكر من قبلي , بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون . وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) . . . [ الأنبياء 16 - 25 ] . (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب , ثم من نطفة , ثم من علقة , ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة , لنبين لكم , ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى , ثم نخرجكم طفلا , ثم لتبلغوا أشدكم , ومنكم من يتوفى , ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم - من بعد علم - شيئا , وترى الأرض هامدة , فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت , وأنبتت من كل زوج بهيج . . ذلك بأن الله هو الحق , وأنه يحيي الموتى , وأنه على كل شيء قدير , وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور) . . . [ الحج:7 - 5 ] (1/52) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم , وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم . ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم . الملك يومئذ , لله يحكم بينهم , فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين . والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا , وإن الله لهو خير الرازقين . ليدخلنهم مدخلا يرضونه , وإن الله لعليم حليم . ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله , إن الله لعفو غفور . ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل , وأن الله سميع بصير . ذلك بأن الله هو الحق , وأن ما يدعون من دونه هو الباطل , وأن الله هو العلي الكبير . ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ? إن الله لطيف خبير . له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد . ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره , ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه , إن الله بالناس لرؤوف رحيم . وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم , إن الإنسان لكفور . لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه , فلا ينازعنك في الأمر , وادع إلى ربك , إنك لعلى هدى مستقيم . . . . . [ الحج:54 - 67 ] . (1/53) وهكذا نجد في هذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم العلاقة الواضحة بين كون الله سبحانه هو الحق , وبين خلقه لهذا الكون وتدبيره بنواميسه ومشيئته بالحق , وبين الظواهر الكونية التي تتم بالحق . وبين تنزيل هذا الكتاب بالحق , وبين الحكم بين الناس في الدنيا والآخرة بالحق . . فكله حق واحد موصول ينشأ عنه جريان قدر الله بما يشاء , وتسليط القوى الكونية بالخير والشر على من يشاء ; وفق ما يكون من الناس من الخير والشر في دار الابتلاء . ومن هنا كان ذلك الربط بين الاستغفار والتوبة , وبين المتاع الحسن وإرسال السماء مدرارا . . . فكل أولئك موصول بمصدر واحد هو الحق المتمثل في ذات الله سبحانه وفي قضائه وقدره , وفي تدبيره وتصريفه , وفي حسابه وجزائه , في الخير وفي الشر سواء . *ونقف أمام تلك المواجهة الأخيرة من هود لقومه ; وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم كامل , وفي تحد سافر , وفي استعلاء بالحق الذي معه , وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة: (قال:إني أشهد الله , واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه , فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون . إني توكلت على الله ربي وربكم , ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها , إن ربي على صراط مستقيم . فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم , ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا , إن ربي على كل شيء حفيظ) . . إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلا أمام هذا المشهد الباهر . . رجل واحد , لم يؤمن معه إلا قليل , يواجه أعتى أهل الأرض وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم , كما جاء عنهم في قول الله تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في السورة الأخرى: ( (1/54) كذبت عاد المرسلين. إذ قال لهم أخوهم هود: ألا تتقون ? إني لكم رسول أمين , فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين. أتبنون بكل ريع آية تعبثون ? وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون. وإذا بطشتم بطشتم جبارين. فاتقوا الله وأطيعون. واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون. أمدكم بأنعام وبنين. وجنات وعيون. إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قالوا: سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين. إن هذا إلا خلق الأولين. وما نحن بمعذبين)!. . [الشعراء:123 - 138] فهؤلاء العتاة الجبارون الذين يبطشون بلا رحمة ; والذين أبطرتهم النعمة ; والذين يقيمون المصانع يرجون من ورائها الامتداد والخلود!. . هؤلاء هم الذين واجههم هود - عليه السلام - هذه المواجهة. في شجاعة المؤمن واستعلائه وثقته واطمئنانه ; وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة - وهم قومه - وتحداهم أن يكيدوه بلا إمهال. وأن يفعلوا ما في وسعهم فلا يباليهم بحال! لقد وقف هود - عليه السلام - هذه الوقفة الباهرة , بعدما بذل لقومه من النصح ما يملك ; وبعد أن تودد إليهم وهو يدعوهم غاية التودد. . ثم تبين له عنادهم وإصرارهم على محادة الله وعلى الاستهتار بالوعيد والجرأة على الله. . لقد وقف هود - عليه السلام - هذه الوقفة الباهرة لأنه يجد حقيقة ربه في نفسه , فيوقن أن أولئك الجبارين العتاة المتمتعين المتبطرين إنما هم من الدواب! وهو مستيقن أنه ما من دابة إلا وربه آخذ بناصيتها ; ففيم يحفل إذن هؤلاء الدواب ?! وان ربه هو الذي استخلفهم في الأرض , وأعطاهم ما أعطاهم من نعمة ومال وقوة وبنين وقدرة على التصنيع والتعدين! للابتلاء لا لمطلق العطاء. وأن ربه يملك أن يذهب بهم ويستخلف غيرهم إذا شاء , ولا يضرونه شيئا , ولا يردون له قضاء. . ففيم إذن يهوله شيء مما هم فيه , وربه هو الذي يعطي ويسلب حين يشاء كيف شاء ?. . (1/55) إن أصحاب الدعوة إلى الله لا بد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو حتى يملكوا أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم . . أمام القوة المادية . وقوة الصناعة . وقوة المال . وقوة العلم البشري . وقوة الأنظمة والأجهزة والتجارب والخبرات . . وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة ; وأن الناس - كل الناس - إن هم إلا دواب من الدواب ! وذات يوم لا بد أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة ; فإذا القوم الواحد أمتان مختلفتان . . أمة تدين لله وحده وترفض الدينونة لسواه . وأمة تتخذ من دون الله أربابا , وتحاد الله ! ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد الله بالنصر لأوليائه , والتدمير على أعدائه - في صورة من الصور التي قد تخطر وقد لا تخطر على البال - ففي تاريخ الدعوة إلى الله على مدار التاريخ ! لم يفصل الله بين أوليائه وأعدائه إلا بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة فاختاروا الله وحده . . وكانوا هم حزب الله الذين لا يعتمدون على غيره والذين لا يجدون لهم ناصرا سواه ..(1) * إن الدينونة لله تحرر البشر من الدينونة لغيره ; وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية وحريته الحقيقية , هذه الحرية وتلك اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر - غير النظام الإسلامي - يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية , في صورة من صورها الكثيرة . . . سواء عبودية الاعتقاد , أو عبودية الشعائر , أو عبودية الشرائع . . فكلها عبودية ; وبعضها مثل بعض ; تخضع الرقاب لغير الله ; بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير الله . والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين ! لا بد للناس من دينونة . والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في شر ألوان العبودية لغير الله ; في كل جانب من جوانب الحياة ! __________ (1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 264) (1/56) إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط. ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون في عالم البهيمة: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} (12) سورة محمد. ولا يخسر الإنسان شيئا كأن يخسر آدميته , ويندرج في عالم البهيمة , وهذا هو الذي يقع حتما بمجرد التملص من الدينونة لله وحده , والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة. وأخيرا فإن توحيد العبادة والدينونة لله وحده , ورفض العبادة والدينونة لغيره من خلقه , ذو قيمة كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأرباب الزائفة. كي يوجه بجملته إلى عمارة الأرض , وترقيتها , وترقية الحياة فيها. (1) - - - - - - - - - - - - - ( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ) الخلاصة في حياة الأنبياء صالح عليه السلام في منطقة الحِجْر التي تقع بين الحجاز والشام، والتي تسمى الآن (بمدائن صالح) كانت تعيش قبيلة مشهورة تسمى ثمود، يرجع أصلها إلى سام بن نوح، وكانت لهم حضارة عمرانية واضحة المعالم، فقد نحتوا الجبال واتخذوها بيوتًا، يسكنون فيها في الشتاء؛ لتحميهم من الأمطار والعواصف التي تأتي إليهم من حين لآخر واتخذوا من السهول قصورًا يقيمون فيها في الصيف. وأنعم الله -عز وجل- عليهم بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، فأعطاهم الأرض الخصبة، والماء العذب الغزير، والحدائق والنخيل، والزروع والثمار، ولكنهم قابلوا النعمة بالجحود والنكران، فكفروا بالله -سبحانه- ولم يشكروه على نعمه وعبدوا الأصنام، وجعلوها شريكة لله، وقدَّموا إليها القرابين، وذبحوا لها الذبائح وتضرعوا لها، وأخذوا يدعونها، فأراد الله هدايتهم، فأرسل إليهم نبيًّا منهم، هو صالح -عليه السلام- وكان رجلاً كريمًا تقيًّا محبوبًا لديهم. __________ (1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 269) (1/57) وبدأ صالح يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك ما هم فيه من عبادة الأصنام، فقال لهم: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (73) سورة الأعراف، فرفض قومه ذلك، وقالوا له: يا صالح قد كنت بيننا رجلا فاضلاً كريمًا محبوبًا نستشيرك في جميع أمورنا لعلمك وعقلك وصدقك، فماذا حدث لك؟! وقال رجل من القوم: يا صالح ما الذي دعاك لأن تأمرنا أن نترك ديننا الذي وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا، ونتبع دينًا جديدًا ؟! وقال آخر: يا صالح قد خاب رجاؤنا فيك، وصِرْتَ في رأينا رجلا مختلَّ التفكير. (1/58) كل هذه الاتهامات الباطلة وجهت لنبي الله صالح -عليه السلام- فلم يقابل إساءتهم له بإساءة مثلها، ولم ييأس من استهزائهم به وعدم استجابتهم له، بل ظل يتمسك بدين الله رغم كلامهم، ويدعوهم إلى عبادة الله الواحد الأحد، ويذكِّرهم بما حدث للأمم التي قبلهم، وما حلَّ بهم من العذاب بسبب كفرهم وعنادهم، فقال لهم: {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (74) سورة الأعراف، ثم أخذ صالح يذكِّرهم بنعم الله عليهم، فقال لهم: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)} [الشعراء:146 - 153]. (1/59) ثم أراد أن يبين لهم الطريق الصحيح لعبادة الله، وأنهم لو استغفروا الله وتابوا إليه فإن الله سيقبل توبتهم، فقال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (61) سورة هود، فآمنت به طائفة من الفقراء والمساكين، وكفرت طائفة الأغنياء، واستكبروا وكذبوه، وقالوا: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)} [القمر: 24 - 26]. وحاولت الفئة الكافرة ذات يوم أن تصرف الذين آمنوا بصالح عن دينهم وتجعلهم يشكون في رسالته، فقالوا لهم: {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ} _[الأعراف:75] أي: هل تأكدتم أنه رسول من عند الله؟ فأعلنت الفئة المؤمنة تمسكها بما أُنْزِلَ على صالح وبما جاء به من ربه، وقالوا: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 75] فأصرَّت الفئة الكافرة على ضلالها،وقالوا معلنين كفرهم وضلالهم: {إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (76) سورة الأعراف،ولما رأى صالح -عليه السلام- إصرارهم على الضلال والكفر قال لهم: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} (63) سورة هود. (1/60) وكان صالح -عليه السلام- يخاطب قومه بأخلاق الداعي الكريمة، وآدابه الرفيعة ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة تارة، ويجادلهم تارة أخرى في موضع الجدال، مؤكدًا على أن عبادة الله هي الحق، والطريق المستقيم. ولكن قومه تمادوا في كفرهم، وأخذوا يدبرون له المكائد والحيل حتى لا يؤمن به أكثر الناس، وذات يوم كان صالح -عليه السلام- يدعوهم إلى عبادة الله، ويبين لهم نعم الله الكثيرة، وأنه يجب شكره وحمده عليها، فقالوا له: يا صالح ما أنت إلا بشر مثلنا، وإذا كنت تدعي أنك رسول الله، فلابد أن تأتينا بمعجزة وآية. فسألهم صالح -عليه السلام- عن المعجزة التي يريدونها، فأشاروا على صخرة بجوارهم، وقالوا له: أخْرِجْ لنا من هذه الصخرة ناقة طويلة عُشَراء، وأخذوا يصفون الناقة المطلوبة ويعددون صفاتها، حتى يعجز صالح عن تحقيق طلبهم، فقال لهم صالح: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم أتؤمنون بي وتصدقونني وتعبدون الله الذي خلقكم؟ فقالوا له: نعم، وعاهدوه على ذلك، فقام صالح -عليه السلام- وصلى لله -سبحانه- ثم دعا ربه أن يجيبهم إلى ما طلبوا. وبعد لحظات حدثت المعجزة، فخرجت الناقة العظيمة من الصخرة التي أشاروا إليها، فكانت برهانًا ساطعًا، ودليلاً قويًّا على نبوة صالح، ولما رأى قوم صالح هذه الناقة بمنظرها الهائل آمن بعض قومه، واستمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم، ثم أوحى الله إلى صالح أن يأمر قومه بأن لا يتعرضوا للناقة بسوء، فقال لهم صالح: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} (64) سورة هود. (1/61) واستمر الحال على هذا وقتًا طويلاً، والناقة تشرب ماء البئر يومًا، ويشربون هم يومًا، وفي اليوم الذي تشرب ولا يشربون كانوا يحلبونها فتعطيهم لبنًا يكفيهم جميعًا، لكن الشيطان أغواهم، فزين لهم طريق الشر، وتجاهلوا تحذير صالح لهم فاتفقوا على قتل الناقة، وكان عدد الذين أجمعوا على قتل الناقة تسعة أفراد، قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (48) سورة النمل، ثم اتفقوا مع باقي القوم على تنفيذ مؤامرتهم، وقد تولى القيام بهذا الأمر أشقاهم وأكثرهم فسادًا .. وفي الصباح، تجمع قوم صالح في مكان فسيح ينتظرون مرور الناقة لتنفيذ مؤامرتهم، وبعد لحظات مرت الناقة العظيمة فتقدم أحدهم منها، وضربها بسهم حاد أصابها في ساقها، فوقعت على الأرض، فضربها آخر بالسيف حتى ماتت، وعلم صالح بما فعل قومه الذين أصروا على السخرية منه والاستهزاء به، وأوحى الله إليه أن العذاب سوف ينزل بقومه بعد ثلاثة أيام، فقال صالح -عليه السلام- لهم: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} (65) سورة هود، ولكن القوم كذبوه واستمروا في سخريتهم منه والاستهزاء به، ولما دخل الليل اجتمعت الفئة الكافرة من قوم صالح، وأخذوا يتشاورون في قتل صالح، حتى يتخلصوا منه مثلما تخلصوا من الناقة، ولكن الله -عز وجل- عَجَّلَ العذاب لهؤلاء المفسدين التسعة، فأرسل عليهم حجارة أصابتهم وأهلكتهم .. (1/62) ومرت الأيام الثلاثة، وخرج الكافرون في صباح اليوم الثالث ينتظرون ما سيحل عليهم من العذاب والنكال، وفي لحظات جاءتهم صيحة شديدة من السماء، وهزة عنيفة من أسفلهم، فزهقت أرواحهم، وأصبحوا في دارهم هالكين مصروعين.. قال تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) [النمل/45-53] } . (1/63) وهكذا أهلك الله -عز وجل- قوم صالح بسبب كفرهم وعنادهم وقتلهم لناقة الله، والاستهزاء بنبيهم صالح -عليه السلام- وعدم إيمانهم به، واشتراكهم في قتل الناقة، فهم ما بين منفذ للجريمة، ما بين محرض وما بين ساخر فأخذوا بجريرتهم جميعا، فعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ حَدَّثَنِى مَوْلًى لَنَا أَنَّهُ سَمِعَ عَدِيًّا يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلاَ يُنْكِرُوهُ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ» (1). وبعد أن أهلك الله الكافرين من ثمود، وقف صالح -عليه السلام- ومن معه من المؤمنين ينظرون إليهم، فقال صالح -عليه السلام-: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} (79) سورة الأعراف. وعَنْ جَابِرٍ قَالَ َمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْحِجْرِ قَالَ «لاَ تَسْأَلُوا الآيَاتِ وَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ وَتَصْدُرُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَعَقَرُوهَا فَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْماً وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْماً فَعَقَرُوهَا فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَهْمَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ إِلاَّ رَجُلاً وَاحِداً كَانَ فِى حَرَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ». قِيلَ مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «هُوَ أَبُو رِغَالٍ فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ» (2). __________ (1) - مسند أحمد (18192) حسن لغيره (2) - مسند أحمد (14525) صحيح (1/64) وعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ - رضى الله عنهم أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ قَالَ: «لاَ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ». ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ، وَهْوَ عَلَى الرَّحْلِ» (1). ============ ( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات ) الخلاصة في حياة الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) كان آزر يعيش في أرض بابل بالعراق، يصنع الأصنام ويبيعها للناس ليعبدوها وكان له ولد صغير اسمه (إبراهيم) وهبه الله الحكمة وآتاه الرشد منذ الصغر، وذات يوم دخل إبراهيم على أبيه آزر، فرآه يصنع التماثيل، فتعجب إبراهيم من أمر هذه التماثيل، وقال في نفسه: لماذا يعبدها الناس وهي لا تسمع ولا تنطق، ولا تضر ولا تنفع؟! وكيف تكون آلهة، والناس هم الذين يصنعونها؟! وصارت هذه الأسئلة تراود الفتى الصغير دون إجابة. ولما كبر إبراهيم وشبَّ أخذ يفكر في هذا الأمر، ويبحث عن الإله الحق الذي يستحق العبادة، فذهب إلى الصحراء الواسعة، وجلس ينظر إلى السماء، فرأى الكواكب والنجوم، واستنكر أن تكون هي ربه الذي يبحث عنه، لأنها مخلوقة مثله تعبد خالقها، فتظهر بإذنه وتغيب بإذنه، وظل إبراهيم في الصحراء ينظر إلى السماء يفكر ويتدبر عسى أن يهتدي إلى ربه وخالقه، فهداه الله -سبحانه- إلى معرفته، وجعله نبيًّا مرسلاً إلى قومه، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الله رب العالمين. __________ (1) - صحيح البخارى (3380) (1/65) وأنزل الله -سبحانه- على إبراهيم صحفًا فيها آداب ومواعظ وأحكام لهداية قومه، وتعليمهم أصول دينهم، وتوصيتهم بوجوب طاعة الله، وإخلاص العبادة له وحده، والبعد عن كل ما يتنافى مع مكارم الأخلاق، وعاد إبراهيم إلى بيته، وقلبه مطمئن، ولما دخل البيت وجد أباه، فتقدم منه إبراهيم وأخذ ينصحه ويقول له: { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) } [مريم:42-45] فردَّ عليه أبوه غاضبًا، وقال: { أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) } [مريم:46]. لكن إبراهيم لم يقابل تلك القسوة بمثلها، بل صبر على جفاء أبيه، وقابله بالبر والرحمة، وقال له: { سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) } [مريم:47-48] وخرج إبراهيم من عند أبيه متوجهًا إلى المعبد، حتى يدعو قومه إلى عبادة الله، ولما دخل عليهم وجدهم عاكفين على أصنام كثيرة، يعبدونها ويتضرعون إليها، ويطلبون منها قضاء حوائجهم، فتقدم منهم إبراهيم، وقال لهم: { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) } [الأنبياء:52] فرد عليه القوم وقالوا: { وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) } [الأنبياء:53]. (1/66) فوضَّح لهم إبراهيم أن عبادة هذه الأصنام ضلال وكفر، وأن الله -سبحانه- الذي خلق السماوات والأرض هو المستحق للعبادة وحده فغضب قومه منه، واستكبروا وأصروا على كفرهم وعنادهم، فلمَّا وجد إبراهيم إصرارهم على عبادة الأصنام، خرج وهو يفكر في نفسه أن يحطم هذه الأصنام، وكان اليوم التالي يوم عيد، فأقام القوم احتفالا كبيرًا خارج المدينة، وذهب إليه جميع الناس، وخرج إبراهيم وحده إلى شوارع المدينة فلم يجد فيها أحدًا، فانتهز هذه الفرصة وأحضر فأسًا، ثم ذهب إلى المعبد الذي فيه الأصنام دون أن يراه أحد، فوجد أصنامًا كثيرة، ورأى أمامها طعامًا كثيرًا وضعه قومه قربانًا لها وتقربًا إليها، لكنها لم تأكل. فأقبل إليها إبراهيم، وتقدم منها، ثم قال لها مستهزئًا: { أَلَا تَأْكُلُونَ} (91) سورة الصافات، وانتظر قليلا لعلهم يردون عليه، لكن دون جدوى، فعاد يسأل ويقول: {مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ} (92) سورة الصافات ، ثم أخذ يكسر الأصنام واحدًا تلو الآخر، حتى صارت كلها حطامًا إلا صنمًا كبيرًا تركه إبراهيم ولم يحطمه، وعلق في رقبته الفأس، ثم خرج من المعبد، ولما عاد القوم من الاحتفال مرُّوا على المعبد، ودخلوا فيه ليشكروا الآلهة على عيدهم وفوجئوا بأصنامهم محطمة ما عدا صنمًا واحدًا في رأسه فأس معلق، فتساءل القوم و{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) الأنبياء }فقال بعض القوم: سمعنا فتى بالأمس اسمه إبراهيم كان يسخر منها، ويتوعدها بالكيد والتحطيم، وأجمعوا أمرهم على أن يحضروا إبراهيم ويسألوه، ويحققوا معه فيما حدث. (1/67) وفي لحظات ذهب بعض القوم وأتوا بإبراهيم إلى المعبد، ولما وقف أمامهم سألوه: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ؟! فرد إبراهيم: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ، ثم أشار بإصبعه إلى الصنم الكبير المعلق في رقبته الفأس، ثم قال: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ، فرد عليه بعض الناس وقالوا له: يا إبراهيم أنت تعلم أن هذه الأصنام لا تنطق ولا تسمع، فكيف تأمرنا بسؤالها؟ فانتهز إبراهيم هذه الفرصة وقال لهم: { أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) } [الأنبياء: 66-67] فسكتوا جميعًا ولم يتكلموا، ونكسوا رءوسهم من الخجل والخزي، ومع ذلك أرادوا الانتقام منه، لأنه حطم أصنامهم، وأهان آلهتهم، فقال نفر من الناس: ما جزاء إبراهيم، وما عقابه الذي يستحقه؟ فقالوا: { حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68]. ثم ذهب جنود المعبد بإبراهيم إلى الصحراء، وجمعوا الحطب والخشب من كل مكان، وأشعلوا نارًا عظيمة، وجاءوا بآلة اسمها المنجنيق، ليقذفوا إبراهيم منها في النار، ولما جاء موعد تنفيذ الحكم على إبراهيم، اجتمع الناس من كل مكان ليشهدوا تعذيبه، وتصاعد من النار لهب شديد، فوقف الناس بعيدًا يشاهدون النار، ومع ذلك لم يستطيعوا تحمل حرارته، وجاءوا بإبراهيم مقيدًا بالحبال ووضعوه في المنجنيق، ثم قذفوه في النار، فوقع في وسطها، فقال إبراهيم: حسبي اللَّه ونعم الوكيل(1). __________ (1) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِىَ فِى النَّارِ حَسْبِىَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .صحيح البخارى 49/6(4564 ) (1/68) فأمر الله النار ألا تحرق إبراهيم ولا تؤذيه، قال تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء:69 - 70] فأصبحت النار بردًا وسلامًا عليه، ولم تحرق منه شيئًا سوي القيود التي قيدوه بها، وظلت النار مشتعلة عدة أيام، وبعد أن انطفأت خرج منها إبراهيم سالمًا، لم تؤذه، وتحدث الناس عن تلك المعجزة وعن نجاة إبراهيم من النار، وأراد النمرود ملك البلاد أن يناقش إبراهيم في أمر دعوته، فلما حضر إبراهيم أمام الملك سأله: من ربك؟ فقال إبراهيم مجيبًا: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] فقال الملك: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] وأمر الملك الجنود أن يحضروا رجلين من المسجونين، ثم أمر بقتل رجل وترك الآخر، ثم نظر إلى إبراهيم وقال له: ها أنا ذا أحيي وأميت، قتلت رجلا، وتركت آخر!! فلم يرد إبراهيم على غباء هذا الرجل، ولم يستمر في جداله في هذا الأمر، بل سأله سؤالاً آخر أعجزه ولم يستطع معه جدالاً، قال له إبراهيم: {فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] فبهت النمرود، وسكت عن الكلام اعترافًا بعجزه، وقرر إبراهيم الهجرة من هذه المدينة لأنه لم يؤمن به سوى زوجته سارة وابن أخيه لوط -عليه السلام- وهاجر إبراهيم ومعه زوجته سارة وابن أخيه لوط، وأخذ ينتقل من مكان إلى مكان آخر، حتى استقر به الحال في فلسطين، فظلَّ بها فترة يعبد الله ويدعو الناس إلى عبادة الله، وإلى طريقه المستقيم. (1/69) ومرت السنون، ونزل قحط بالبلاد، فاضطر إبراهيم إلى الهجرة بمن معه إلى مصر، وكان يحكم مصر آنذاك ملك جبار يحبُّ النساء، وكان له أعوان يساعدونه على ذلك، فيقفون على أطراف البلاد، ليخبروه بالجميلات اللاتي يأتين إلى مصر، فلما رأوا سارة، وكانت بارعة الجمال، أبلغوا عنها الملك وأخبروه أن معها رجلاً، فأصدر الملك أوامره بإحضار الرجل، وفي لحظات جاء الجنود بإبراهيم إلى الملك، ولما رآه سأله عن المرأة التي معه، فقال إبراهيم: إنها أختي. فقال الملك: ائتني بها. (1/70) فذهب إبراهيم إلى سارة، وأبلغها بما حدث بينه وبين الملك، وبما ذكره له بأنها أخته، فذهبت سارة إلى القصر، ولما رآها الملك انبهر من جمالها، وقام إليها، فقالت له: أريد أن أتوضأ وأصلي، فأذن لها، فتوضأت سارة وصلَّت، ثم قالت: (اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِى إِلاَّ عَلَى زَوْجِى فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَىَّ الْكَافِرَ)(1). __________ (1) - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلاَّ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ قَوْلُهُ حِينَ دُعِىَ إِلَى آلِهَتِهِمْ (إِنِّى سَقِيمٌ) وَقَوْلُهُ ( فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وَقَوْلُهُ لِسَارَةَ إِنَّهَا أُخْتِى. قَالَ وَدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ اللَّيْلَةَ بِامْرَأَةٍ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ. قَالَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ أَوِ الْجَبَّارُ مَنْ هَذِهِ مَعَكَ قَالَ أُخْتِى. قَالَ أَرْسِلْ بِهَا. قَالَ فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ وَقَالَ لَهَا لاَ تُكَذِّبِى قَوْلِى فَإِنِّى قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِى إنْ عَلَى الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِى وَغَيْرُكِ. قَالَ فَلَمَّا دَخَلَتْ إِلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا. قَالَ فَأَقْبَلَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّى وَتَقُولُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِى إِلاَّ عَلَى زَوْجِى فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَىَّ الْكَافِرَ. قَالَ فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ ». قَالَ أَبُو الزِّنَادِ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ إِنَّهَا قَالَتِ « اللَّهُمَّ إِنَّهُ إِنْ يَمُتْ يُقَلْ هِىَ قَتَلَتْهُ..قَالَ فَأُرْسِلَ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّى وَتَقُولُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِى إِلاَّ عَلَى زَوْجِى فَلاَ تُسَلَّطْ عَلَىَّ الْكَافِرَ. قَالَ فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ ». قَالَ أَبُو الزِّنَادِ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ إِنَّهَا قَالَتِ « اللَّهُمَّ إِنَّهُ إِنْ يَمُتْ يُقَلْ هِىَ قَتَلَتْهُ. قَالَ فَأُرْسِلَ فَقَالَ فِى الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَىَّ إِلاَّ شَيْطَاناً أَرْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَعْطُوهَا هَاجَرَ - قَالَ - فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ لإِبْرَاهِيمَ أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَدَّ كَيْدَ الْكَافِرِ وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً » مسند أحمد {2/404} (9479) صحيح. (1/71) فاستجاب الله لها، وعصمها وحفظها، فكلما أراد الملك أن يمسك بها قبضت يده، فسألها أن تدعو الله أن تُبسَط يده، ولن يمسها بسوء، وتكرر هذا الأمر ثلاث مرات. فلما علم أنه لن يقدر عليها نادى بعض خدمه، وقال لهم: إنكم لم تأتوني بإنسان، إنما أتيتموني بشيطان، ثم أمر الخدم أن يعطوها هاجر، لتكون خادمة لها. فعادت سارة إلى زوجها دون أن يمسها الملك، فوجدته قائمًا يصلي فلما انتهى نظر إليها، وسألها عما حدث؟ فقالت: إن الله ردَّ كيده عني وأعطاني جارية تسمى هاجر لتخدمني. (1) __________ (1) - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - إِلاَّ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِى ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَوْلُهُ (إِنِّى سَقِيمٌ) وَقَوْلُهُ (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)، وَقَالَ بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ هَا هُنَا رَجُلاً مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا. فَقَالَ مَنْ هَذِهِ قَالَ أُخْتِى، فَأَتَى سَارَةَ قَالَ يَا سَارَةُ، لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِى وَغَيْرُكِ، وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِى، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِى فَلاَ تُكَذِّبِينِى. فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ، فَأُخِذَ فَقَالَ ادْعِى اللَّهَ لِى وَلاَ أَضُرُّكِ. فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ، فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ فَقَالَ ادْعِى اللَّهَ لِى وَلاَ أَضُرُّكِ. فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ. فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِى بِإِنْسَانٍ، إِنَّمَا أَتَيْتُمُونِى بِشَيْطَانٍ .. فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ فَأَتَتْهُ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ مَهْيَا قَالَتْ رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ - أَوِ الْفَاجِرِ - فِى نَحْرِهِ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِى مَاءِ السَّمَاءِ. صحيح البخارى (3358) ومسلم (6294) وقال النووي في شرح مسلم - (ج 8 / ص 100): قَالَ الْمَازِرِيّ: أَمَّا الْكَذِب فِيمَا طَرِيقه الْبَلَاغ عَنْ اللَّه تَعَالَى فَالْأَنْبِيَاء مَعْصُومُونَ مِنْهُ، سَوَاء كَثِيره وَقَلِيله، وَأَمَّا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ، وَيُعَدُّ مِنْ الصِّفَات كَالْكَذْبَةِ الْوَاحِدَة فِي حَقِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَفِي إِمْكَان وُقُوعه مِنْهُمْ وَعِصْمَتِهِمْ مِنْهُ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَف. قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: الصَّحِيح أَنَّ الْكَذِب فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغِ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعه مِنْهُمْ، سَوَاء جَوَّزْنَا الصَّغَائِر مِنْهُمْ وَعِصْمَتهمْ مِنْهُ، أَمْ لَا، وَسَوَاء قَلَّ الْكَذِب، أَمْ كَثُرَ؛ لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ يَرْتَفِعُ عَنْهُ، وَتَجْوِيزه يَرْفَعُ الْوُثُوق بِأَقْوَالِهِمْ. وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثِنْتَيْنِ فِي ذَات اللَّه تَعَالَى وَوَاحِدَة فِي شَأْن سَارَة) فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْكَذَبَات الْمَذْكُورَة إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْم الْمُخَاطَب وَالسَّامِع، وَأَمَّا فِي نَفْس الْأَمْر فَلَيْسَتْ كَذِبًا مَذْمُومًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ وَرَّى بِهَا، فَقَالَ فِي سَارَة: أُخْتِي فِي الْإِسْلَام، وَهُوَ صَحِيح فِي بَاطِن الْأَمْر، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى تَأْوِيل اللَّفْظَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَالْوَجْه الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذِبًا لَا تَوْرِيَةَ فِيهِ لَكَانَ جَائِزًا فِي دَفْع الظَّالِمِينَ، وَقَدْ اِتَّفَقَ الْفُقَهَاء عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ ظَالِم يَطْلُب إِنْسَانًا مُخْتَفِيًا لِيَقْتُلَهُ، أَوْ يَطْلُب وَدِيعَة لِإِنْسَانٍ لِيَأْخُذَهَا غَصْبًا، وَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَجَبَ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ إِخْفَاؤُهُ وَإِنْكَار الْعِلْم بِهِ، وَهَذَا كَذِب جَائِز، بَلْ وَاجِب لِكَوْنِهِ فِي دَفْع الظَّالِم، فَنَبَّهَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَذَبَات لَيْسَتْ دَاخِلَة فِي مُطْلَق الْكَذِب الْمَذْمُوم. قَالَ الْمَازِرِيّ: وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضهمْ هَذِهِ الْكَلِمَات، وَأَخْرَجَهَا عَنْ كَوْنهَا كَذِبًا، قَالَ: وَلَا مَعْنَى لِلِامْتِنَاعِ مِنْ إِطْلَاق لَفْظ أَطْلَقَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت: أَمَّا إِطْلَاق لَفْظ الْكَذِب عَلَيْهَا فَلَا يُمْتَنَعُ لِوُرُودِ الْحَدِيث بِهِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُهَا فَصَحِيحٌ لَا مَانِع مِنْهُ. قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْوَاحِدَة الَّتِي فِي شَأْن سَارَة هِيَ أَيْضًا فِي ذَات اللَّه تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ دَفْعِ كَافِرٍ ظَالِمٍ عَنْ مُوَاقَعَة فَاحِشَة عَظِيمَة، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي غَيْر مُسْلِم، فَقَالَ: مَا فِيهَا كَذْبَة إِلَّا بِمَا حَلَّ بِهَا عَنْ الْإِسْلَام أَيْ يُجَادِلُ وَيُدَافِعُ. قَالُوا: وَإِنَّمَا خَصَّ الِاثْنَتَيْنِ بِأَنَّهُمَا فِي ذَات اللَّه تَعَالَى لِكَوْنِ الثَّالِثَة تَضَمَّنَتْ نَفْعًا لَهُ، وَحَظًّا مَعَ كَوْنهَا فِي ذَات اللَّه تَعَالَى. وَذَكَرُوا فِي قَوْله: (إِنِّي سَقِيمٌ) أَيْ سَأَسْقُمُ لِأَنَّ الْإِنْسَان عُرْضَة لِلْأَسْقَامِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الِاعْتِذَار عَنْ الْخُرُوج مَعَهُمْ إِلَى عِيدهمْ، وَشُهُود بَاطِلهمْ وَكُفْرهمْ. وَقِيلَ: سَقِيم بِمَا قُدِّرَ عَلَيَّ مِنْ الْمَوْت. وَقِيلَ: كَانَتْ تَأْخُذُهُ الْحُمَّى فِي ذَلِكَ الْوَقْت. وَأَمَّا قَوْله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) فَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة وَطَائِفَة: جُعْل النُّطْق شَرْطًا لِفِعْلِ كَبِيرهمْ، أَيْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ. وَقَالَ الْكَسَائِيّ: يُوقَفُ عِنْد قَوْله: بَلْ فَعَلَهُ أَيْ فَعَلَهُ فَاعِله، فَأَضْمَرَ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيَقُولُ: كَبِيرُهُمْ هَذَا، فَاسْأَلُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْفَاعِل. وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهَا عَلَى ظَاهِرهَا، وَجَوَابهَا مَا سَبَقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (1/72) وبعد فترة رجع إبراهيم إلى فلسطين مرة أخرى وأثناء الطريق استأذنه ابن أخيه لوط في الذهاب إلى قرية سدوم ليدعو أهلها إلى عبادة الله، فأعطاه إبراهيم بعض الأنعام والأموال، وواصل هو وأهله السير إلى فلسطين، حتى وصلوا إليها واستقروا بها، وظل إبراهيم -عليه السلام- في فلسطين فترة طويلة. وأحبَّ الله إبراهيم -عليه السلام- واتخذه خليلاً من بين خلقه، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125] وذات يوم، أراد إبراهيم أن يرى كيف يحيي الله الموتى، فخرج إلى الصحراء يناجي ربه، ويطلب منه أن يريه ذلك، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (260) سورة البقرة. ففعل إبراهيم ما أمره ربه، وذبح أربعة من الطيور ووضع أجزاءها على الجبال، ثم عاد إلى مكانه مرة أخرى، ووقف متجهًا ناحية الجبال، ثم نادى عليهن، فإذا بالحياة تعود لهذه الطيور، وتجيء إلى إبراهيم بإذن ربها، وكانت سارة زوجة إبراهيم عقيمًا لا تلد، وكانت تعلم رغبة إبراهيم وتشوقه لذرية طيبة، فوهبت له خادمتها هاجر ليتزوجها، لعل الله أن يرزقه منها ذرية صالحة، فتزوج إبراهيم هاجر، فأنجبت له إسماعيل فسعد به إبراهيم سعادة كبيرة لأنه جاء له بعد شوق شديد وانتظار طويل. وبدأتِ الغيرةُ تدبُّ في نفس سارة عليها السلام - ككل امرأة تغار -فأمر الله -عز وجل- إبراهيم أن يأخذ زوجته هاجر وولدها إسماعيل ويهاجر بهما إلى مكة، فأخذهما إبراهيم إلى هناك. (1/73) فعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لَتُعَفِّىَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ ، وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهْىَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِى أَعْلَى الْمَسْجِدِ ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ ، وَ وَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِى الَّذِى لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَىْءٌ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا ، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ آللَّهُ الَّذِى أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ . قَالَتْ إِذًا لاَ يُضَيِّعُنَا . ثُمَّ رَجَعَتْ ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ ({رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (37) سورة إبراهيم . (1/74) وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِى السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا ، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى - أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ - فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِى الأَرْضِ يَلِيهَا ، فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِىَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا ، فَهَبَطَتْ مِنَ ، الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِىَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا ، ثُمَّ سَعَتْ سَعْىَ الإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ ، حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِىَ ، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ ، فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا ، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَذَلِكَ سَعْىُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا » . - فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا ، فَقَالَتْ صَهٍ . تُرِيدَ نَفْسَهَا ، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ ، فَسَمِعَتْ أَيْضًا ، فَقَالَتْ قَدْ أَسْمَعْتَ ، إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ . فَإِذَا هِىَ بِالْمَلَكِ ، عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ - أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ - حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا ، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ الْمَاءِ فِى سِقَائِهَا ، وَهْوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ - لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا » . (1/75) - قَالَ فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا ، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ ، يَبْنِى هَذَا الْغُلاَمُ ، وَأَبُوهُ ، وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَهْلَهُ . وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ ، حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ - أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ - مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ فَنَزَلُوا فِى أَسْفَلِ مَكَّةَ ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا . فَقَالُوا إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ ، لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِى وَمَا فِيهِ مَاءٌ ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ ، فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ ، فَأَقْبَلُوا ، قَالَ وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ فَقَالُوا أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ فَقَالَتْ نَعَمْ ، وَلَكِنْ لاَ حَقَّ لَكُمْ فِى الْمَاءِ . قَالُوا نَعَمْ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ ، وَهْىَ تُحِبُّ الإِنْسَ » فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ ، فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ ، وَشَبَّ الْغُلاَمُ ، وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ ، وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ ، وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ ، بَعْدَ مَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ خَرَجَ يَبْتَغِى لَنَا . (1/76) ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِى ضِيقٍ وَشِدَّةٍ. فَشَكَتْ إِلَيْهِ. قَالَ فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِى عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَقُولِى لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ، كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ قَالَتْ نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِى كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِى جَهْدٍ وَشِدَّةٍ. قَالَ فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَىْءٍ قَالَتْ نَعَمْ، أَمَرَنِى أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ ذَاكِ أَبِى وَقَدْ أَمَرَنِى أَنْ أُفَارِقَكِ الْحَقِى بِأَهْلِكِ. فَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ، فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَسَأَلَهَا عَنْهُ. فَقَالَتْ خَرَجَ يَبْتَغِى لَنَا. قَالَ كَيْفَ أَنْتُمْ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ، وَهَيْئَتِهِمْ. فَقَالَتْ نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ. وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ. فَقَالَ مَا طَعَامُكُمْ قَالَتِ اللَّحْمُ. قَالَ فَمَا شَرَابُكُمْ قَالَتِ الْمَاءُ. فَقَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِى اللَّحْمِ وَالْمَاءِ. قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ». قَالَ فَهُمَا لاَ يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلاَّ لَمْ يُوَافِقَاهُ. (1/77) قَالَ فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِى عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ قَالَتْ نَعَمْ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِى عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِى كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ. قَالَ فَأَوْصَاكِ بِشَىْءٍ قَالَتْ نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ ذَاكِ أَبِى، وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ، أَمَرَنِى أَنْ أُمْسِكَكِ. ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِسْمَاعِي