السؤال باسم الله الأعظم

وسمع آخر يقول في تشهده أيضا : ( أبو داود والنسائي وأحمد والبخاري في الأدب المفرد ) ( اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت [ وحدك لا شريك لك ] [ المنان ] [ يا ] بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم [ إني أسألك ] [ الجنة وأعوذ بك من النار ] . [ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( تدرون بما دعا ؟ ) قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ( والذي نفسي بيده ] لقد دعا الله باسمه العظيم ( وفي رواية : الأعظم ) الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى}

الثلاثاء، 13 فبراير 2024

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها 12- من كتاب الأطعمة والصيد والذبائح الي اخر الصفحة



ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية

 وعلومها

12- من كتاب الأطعمة والصيد والذبائح

 

1- باب في الطافي من صيد البحر

85- (1) عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أو جَزَرَ1 عنه فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فيه وَطَفَا فلا تَأْكُلُوهُ".

ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - تضعيف عبد الحق لرفع هذا الحديث، وأن الصواب وَقْفُهُ على جابر رضي الله عنه، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أُسْنِدَ من وجه ضعيفٍ: عن يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن جابر. ومن حديث: عبد العزيز بن عبد الله بن حمزة بن صهيب، وهو ضعيفٌ.

ثم نَقَلَ ابن القَيِّم اعتراض ابن القطَّان على عبد الحق، إذ قال: "فإنْ كان عبد الحق ضَعَّفَ المرفوع لكونه من رواية أبي الزبير: فقد تناقض، لتصحيحه الموقوف، وهو عنه. وإن عَنَى به ضعف يحيى بن سليم: تناقض أيضاً، فكم من حديث صححه من روايته، ولم يخالف يحيى بن سليم في رفعه عن إسماعيل بن أمية إلاّ من هو دونه، وهو إسماعيل بن عَيَّاش، وأما إسماعيل بن أميَّة: فلا يُسْأَلُ عن مثله".

ثم تَعَقَّبَ ابن القَيِّم ابن القطان، فقال: "وهذا تَعَنُّتٌ من ابن القطان، والحديثُ إنما ضُعِّفَ لأن الناس رووه موقوفاً على جابر، وانفرد برفعه يحيى بن سليم، وهو مع سوء حفظه قد خَالَفَ الثقات، وانفرد عنهم، ومثل هذا لا يحتجُّ به أهل الحديث، فهذا هو الذي أراده

__________

1 أي: ما انكشف عنه الماءُ من حيوان البحر، يُقال: جَزَرَ الماءُ، يجزر جَزْرًا: إذا ذهب ونقص. ومنه الجزر والمدُّ، وهو رجوع الماءِ إلى خلفٍ. (النهاية 1/268) .

(3/87)

أبو داود وغيره من تضعيف الحديث"1.

ثم أَخَذَ في توجيه صنيع عبد الحق في كَوْنِهِ صَحَّحَ حديث يحيى بن سليم في غير هذا الموضع وَضَعَّفَهُ هنا، فَبَيَّنَ أن هذه هي "طريقةُ أئمةِ الحديث العارفين بعلله: يُصَحِّحُونَ حديثَ الرَّجُلِ في موضع، ويضعفون حديثه في موضع آخر إذا انفرد أو خالف الثقات ... "2.

قلت: هذا الحديث مداره على: أبي الزبير، ووهب بن كيسان3، كلاهما عن جابر رضي الله عنه.

أما حديث أبي الزبير: فقد رُوِيَ عنه من عِدَّة طرق:

الطريق الأول: أخرجه أبو داود، وابن ماجه في (سننيهما) 4، والطبراني في (الأوسط) 5، ثلاثتهم من طريق:

أحمد بن عبدة، عن يحيى بن سليم6، عن إسماعيل بن أمية7، عن

__________

1 تهذيب السنن: (5/324 - 325) .

2 المصدر السابق: (5/ 325 - 326) .

3 القُرشي مولاهم، أبو نعيم، المدني الْمُعَلِّم، ثقةٌ، من كبار الرابعة، مات سنة 127هـ/ع. (التقريب 585) .

4 د: (4/165) ح 3815 ك الأطعمة، باب في أكل الطافي من السمك. جه: (2/1081) ح 3247 ك الصيد، باب الطافي من صيد البحر.

(3/410) ح 2880.

6 الطائفي، نزيل مكة، صدوقٌ سيء الحفظ، من التاسعة، مات سنة 193هـ أو بعدها/ ع. (التقريب 591) .

7 ابن عمرو بن سعيد بن العاص، الأموي، ثقةٌ ثبتٌ، من السادسة، مات سنة 144هـ / ع. (التقريب 106) .

(3/88)

أبي الزبير، عن جابر به، ولفظه هو المذكور أول البحث.

ومن طريق أبي داود أخرجه: الدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 1، وابن عبد البر في (التمهيد) 2.

الطريق الثاني: أخرجه الدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3 من طريق: أبي أحمد الزبيري4، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير به.

الطريق الثالث: أخرجه الترمذي في (علله) 5 من طريق: الحسين ابن يزيد6، عن حفص بن غياث، عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير به، ولفظه: "ما اصطدتموه وهو حيٌّ فكلوه، وما وجدتموه ميتاً طافياً فلا تأكلوه".

الطريق الرابع: من رواية يحيى بن أبي أنيسة7، عن أبي الزبير به، أشار إليه البيهقي في (سننه) 8.

__________

1 قط: (4/268) ح 8. هق: (9/255) .

(16/225) .

3 قط: (4/268) ح 7. هق: (9/255) .

4 هو: محمد بن عبد الله بن الزبير.

(2/636) .

6 ابن يحيى الطَحَّان الأنصاري، الكوفي، لَيِّنُ الحديثِ، من العاشرة، مات سنة 244هـ / د ت. (التقريب 169) .

7 أبو زيد الجزري، ضعيفٌ، من السادسة، مات سنة 146هـ/ ت. (التقريب 588) .

(9/256) .

(3/89)

الطريق الخامس: من رواية الأوزاعي عن أبي الزبير به، أشار إليه البيهقي - أيضاً - في (سننه) 1.

فهذه طرقُ حديث أبي الزبير، عن جابر، ولا يخلو واحدٍ منها من عِلَّةٍ، وقد بين الأئمة ما فيها:

أما رواية يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية: فقال أبو داود عقب إخراجها: "روى هذا الحديث: سفيان الثوري، وأيوب، وحماد، عن أبي الزبير، أوقفوه على جابر". وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن إسماعيل إلا يحيى". وقال الدارقطني: "لا يصحُّ رفعه، رَفَعَهُ يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية، وَوَقَفَهُ غيره"2. وقال البيهقي: "يحيى بن سليم كثير الوهم، سيئ الحفظ، وقد رواه غيره عن إسماعيل بن أمية موقوفاً"3.

والرواية التي أشار إليها البيهقي رحمه الله، أَخْرَجَهَا الدارقطني في (سننه) 4 من طريق: إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه موقوفاً من قوله، قال الدارقطني: " ... موقوف، هو الصحيح".

فقد خالف إسماعيل بن عياش يحيى بن سليم، فجاء به عن

__________

(9/256) .

2 سنن الدارقطني: (4/268) .

3 السنن: (9/256) .

(4/269) ح 9.

(3/90)

إسماعيل بن أمية موقوفاً، ورواية ابن عياش هذه عن غير الشاميين، فهي ضعيفةٌ عند العلماء، وقد قال ابن القطان - في رَدِّهِ على عبد الحق -: "ولم يخالف يحيى بن سليم في رفعه عن إسماعيل بن أمية إلا من هو دونه، وهو إسماعيل بن عياش"1. وَأَعَلَّه كذلك صاحب (الجوهر النقي) 2 بأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن غير الشاميين.

قلت: فلذلك لا تُعَلُّ رواية يحيى بن سليم بمخالفة إسماعيل بن عياش له عن إسماعيل بن أمية، ولكن تعلُّ رواية إسماعيل بن أمية بمخالفة الأئمة الجهابذة له: الثوري، وأيوب السختياني، وحماد بن سلمة، وعبيد الله بن عمر وغيرهم؛ إذ جاءوا به عن أبي الزبير، عن جابر موقوفاً، وهذا الذي سَلَكَه أبو داود - رحمه الله - في إعلال رواية يحيى بن سليم الطائفي.

وحينئذٍ يمكن لنا أن نقول: إن رواية هؤلاء الأثبات لهذا الحديث عن أبي الزبير موقوفاً، تُقَوِّي رواية ابن عياش له عن إسماعيل بن أمية موقوفاً، لموافقتها رواية هؤلاء الحفاظ، وعند ذلك ينسب الوهم ليحيى ابن سليم في رفعه عن إسماعيل بن أمية؛ فإنه كان سيئ الحفظ، كما قال غيرُ واحدٍ من أهل العلم3.

وأما رواية أبي أحمد الزبيري، عن الثوري، عن أبي الزبير: فقد

__________

1 بيان الوهم والإيهام: (3/577) ح 1366.

(9/256) .

3 انظر: تهذيب التهذيب: (11/226 - 227) .

(3/91)

ضَعَّفَهَا العلماءُ أيضاً، فقال الدارقطني: "لم يُسْنِده عن الثوري غير أبي أحمد، وخالفه وكيعٌ، والعَدَنِيَّان1، وعبد الرزاق، ومؤمل، وأبو عاصم وغيرهم: عن الثوري رووه موقوفاً، وهو الصواب"2. ونقل البيهقي عن سليمان بن أحمد اللَّخْمي- شيخ شيخ البيهقيِّ في هذا الحديث - قوله: "لم يرفع هذا الحديث عن سفيان إلا أبو أحمد"3.

وقد كان أبو أحمد الزبيري هذا يخطئ في حديث الثوري4، وقد خالف - مع ذلك - الأثبات من أصحاب الثوري - وعلى رأسهم وكيع - لذا وجب تقديم رواية الجماعة، والحكم على روايته بالخطأ، وهذا ما سَلَكَهُ الدارقطني رحمه الله.

وأما روايةُ ابن أبي ذئب عن أبي الزبير: فقد ضَعَّفَهُا الإمام البخاري، فقال: "ليس هو بمحفوظ، ويروي عن جابر خلاف هذا، ولا أعرفُ لابن أبي ذئب عن أبي الزبير شيئاً"5.

قلت: وفي الإسناد "الحسين بن يزيد الطحان" لَيَّنَهُ أبو حاتم6، وتبعه الحافظ ابن حجر7.

__________

1 هما: عبد الله بن الوليد العدني، ويزيد بن أبي حكيم العدني. (تهذيب الكمال11/163– 164) .

2 سنن الدارقطني: (4/268) .

3 سنن البيهقي: (9/255) .

4 تهذيب التهذيب: (9/255) .

5 علل الترمذي: (2/636) .

6 الجرح والتعديل: (1/2/67) .

7 التقريب: (ص 169) .

(3/92)

وأما رواية ابن أبي أنيسة، عن أبي الزبير: فقد ضَعَّفَها البيهقي قائلاً: "ويحيى ابن أبي أنيسة متروكٌ لا يحتجُّ به"1.

وضعف أيضاً رواية الأوزاعي، فقال: "رواه بقية بن الوليد، عن الأوزاعي، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً، ولا يحتجُّ بما ينفرد به بقية، فكيف بما يخالف فيه"2.

فهذا مجملُ القولِ في طرق هذا الحديث عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً، وقد تَبَيَّنَ عدمُ انتهاض أيٍّ منها للحجة، وبخاصة إذا عورضت برواية الثقات الأثبات - الذين تقدم ذكرهم - له عن جابر موقوفاً.

وأما الطريق الثاني: من طرق هذا الحديث عن جابر رضي الله عنه، وهي رواية وهب بن كيسان: فقد أخرجها الدارقطني في (سننه) 3، والطحاويُّ في (أحكام القرآن) 4، وابن عدي في (الكامل) 5، من طريق: إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عبيد الله بن حمزة6، عن وهب، عن جابر مرفوعاً. وهو عند ابن عديّ: عن وهب، ونعيم بن عبد الله.

__________

1 السنن: (9/256) .

2 المصدر السابق.

(4/267) ح 6.

4 كما في نصب الراية: (4/203) .

(5/1923) .

6 ابن صهيب بن سنان الحمصي، ضعيفٌ، ولم يرو عنه غير إسماعيل بن عياش، من السابعة/ ق. (التقريب 358) .

(3/93)

وقد ضُعِّفَ هذا الطريق أيضاً، قال ابن أبي حاتم: "سألت أبا زرعة عن حديث رواه إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عبيد الله، عن وهب بن كيسان ونعيم بن عبد الله ... ؟ قال أبو زرعة: هذا خطأٌ، إنما هو موقوفٌ عن جابر فقط، وعبد العزيز بن عبيد الله: واهي الحديث"1. وقال ابن عدي: "هذا إنما يرفعه عبد العزيز بن عبيد الله، عن وهب بن كيسان ونعيم بن عبد الله"2. ثم قال - بعد أن سرد له أحاديث -: "وهذه الأحاديث التي ذكرتها لعبد العزيز: مناكير كلها، وما رأيت أحداً يحدث عنه غير إسماعيل بن عياش"3. وقال الدارقطني: "تفرد به عبد العزيز بن عبيد الله، عن وهب، وعبد العزيز ضعيفٌ، لا يحتجُّ به"4. وضعفه كذلك البيهقي5 بعبد العزيز هذا، وكذا ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 6.

فهذا كلام الأئمة رحمهم الله: أبو داود، والبخاريُّ، وأبو زرعة، وابن عدي، والدارقطني، والبيهقي في تضعيف هذا الحديث مرفوعاً، وتصحيح رواية الوقف، مع ما تقدم من كلام عبد الحق رحمه الله، وكأن البغوي مال إليه ترجيح الوقف أيضاً، فقال: "ورواه سفيان

__________

1 علل ابن أبي حاتم: (2/46) ح 1620. وانظر: (2/49) ح 1630.

2 الكامل: (5/1923) .

3 الكامل: (5/1924) .

4 سنن الدارقطني: (4/268) .

5 السنن: (9/256) .

(2/175- 176) ح1105.

(3/94)

الثوري، وأيوب، وحماد: عن أبي الزبير، وأوقفوه على جابر"1. وضعفه مرفوعاً أيضاً: الشيخ الألباني2 رحمه الله.

قال البيهقي رحمه الله - بعد أن رَجَّحَ وقفه -: "وقول الجماعة من الصحابة على خلاف قول جابر، مع ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" 3. وقال الحافظ ابن حجر: "وإذا لم يصحّ إلا موقوفاً، فقد عارضه قول أبي بكر وغيره، والقياس يقتضي حله؛ لأنه سمك، لو مات في البر لأكل بغير تذكية، ولو نضب عنه الماء، أو قتلته سمكة أخرى فمات لأكل، فكذلك إذا مات وهو في البحر"4.

فتحصَّلَ من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أصاب في إعلاله الرواية المرفوعة، وتقديم الموقوفة عليها، وأن ابن القطان لم يُصب حين ذهب إلى تقوية المرفوع، وبالله التوفيق.

__________

1 شرح السنة: (11/245) .

2 ضعيف ابن ماجه: (ح 699) ، وضعيف الجامع: (ح 5021) .

3 السنن: (9/256) . وانظر: التمهيد: (16/226 - 228) .

4 فتح الباري: (9/619) .

(3/95)

2- باب الفأرة تقع في السمن فتموت فيه

86- (2) عن ميمونة رضي الله عنها: "أن فأرةً وقعت في سَمْنٍ فماتت، فَسُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "أَلْقُوهَا وَمَا حَولَهَا، وَكُلُوهُ".

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "اخْتُلِفَ فيه إسناداً ومتناً، والحديث من حديث: الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه سمع ابن عباس يُحَدِّثُ عن ميمونة، ولفظه: "أن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها؟ فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوه". رواه الناسُ عن الزهري بهذا المتن والإسناد، ومتنه خرجه البخاريُّ في (صحيحه) ، والترمذي، والنسائي. وأصحاب الزهري كالمجمعين على ذلك.

وخالفهم معمرٌ في إسناده ومتنه، فرواه عن: الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال فيه: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه".

ولما كان ظاهر هذا الإسناد في غاية الصحة، صَحَّحَ الحديث جماعةٌ، وقالوا: هو على شرط الشيخين، وحكي عن محمد بن يحيى الذُّهَلِي تصحيحه. ولكن أئمة الحديث طعنوا فيه، ولم يروه صحيحاً، بل رأوه خطأ محضاً"1. ثم نقل كلام الأئمة: البخاري، والترمذي في إعلاله، وردَّ على ابن حبان في تصحيحه إياه.

__________

1 تهذيب السنن: (5/ 336 - 340) .

(3/96)

وقال مرة: "ولم يصح فيه التفصيل بين الجامد والمائع"1.

قلت: هذا الحديث مداره على الزهري، ويُروى عنه على أوجه مختلفة:

الوجه الأول: عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود2، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه عن الزهري هكذا: مالكٌ، وابن عيينة، والأوزاعي، وعبد الرحمن بن إسحاق، ومعمر في رواية، وغيرهم.

أما مالك، فقد اختلف عنه:

فرُوي عنه: عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة مرفوعاً.

وروي عنه: عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون ذكر "ميمونة".

وروي عنه: عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مقطوعاً، أسقطوا منه ابن عباس، وميمونة.

ورواه يحيى القطان، وجويرية: عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن ابن عباس: أن ميمونة استفتت النبي صلى الله عليه وسلم.

فهذه أوجه الاختلاف على مالك في رواية هذا الحديث، ذكرها

__________

1 إعلام الموقعين: (4/279) .

2 الهُذَلي، أبو عبد الله المدني، ثقةٌ فقيهٌ ثبتٌ، من الثالثة، مات سنة 94هـ، وقيل غير ذلك/ ع. (التقريب 372) .

(3/97)

الدارقطني في (علله) 1، ثم قال: "والصحيحُ: عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة".

وقال ابن عبد البر: "وهذا اضطرب شديد عن مالك في إسناد هذا الحديث.... والصواب فيه: ما قاله يحيى ومن تابعه"2.

وأما رواية ابن عيينة، عن الزهري: فأخرجها الحميدي في (مسنده) 3 - ومن طريقه: البخاريّ في (صحيحه) 4، والطبراني في (الكبير) 5 - قال: ثنا سفيان، ثنا الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنها به.

وأخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه) 6 - ومن طريقه الطبراني في (الكبير) 7 - قال: حدثنا سفيان به، بنحو ما تقدم. وسقط من الطبراني لفظة "فماتت"، وهي في المصنف.

وأخرجه أحمد في (المسند) 8: حدثني سفيان به.

__________

1 ج5 (ق 180/ب) .

2 التمهيد: (9/34) .

(1/149 - 150) ح 312.

4 ك الذبائح والصيد: ح 5538.

(23/429) ح 1043.

(8/280) ح 4444.

(24/15) ح 25.

(6/329) .

(3/98)

وأخرجه أبو داود في (سننه) 1: حدثنا مسدد، والترمذي في (جامعه) 2: حدثنا سعيد المخزومي وأبو عمار، والنسائي في (سننه) 3: أخبرنا قتيبة، كلهم عن: سفيان، عن الزهري به، بنحو ما تقدم، غير أن أبا داود سقطت من عنده لفظة: "فماتت".

وأخرجه الطيالسي في (مسنده) 4: حدثنا سفيان ... فذكره، لكنه قال فيه: "أن فأرة وقعت في سمن جامد لآل ميمونة". فزاد فيه كلمة "جامد"، لكن قال الحافظ ابن حجر: "ورواه الحميدي والحفاظ أصحاب ابن عيينة بدونها"5. وسيأتي أن حجاج بن منهال تابع الطيالسي على هذه اللفظة عن سفيان.

وأخرجه ابن حبان في (صحيحه) 6 من طريق إسحاق بن راهويه، قال: أخبرنا سفيان ... عن ميمونة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تموت في السمن؟ فقال: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان ذائباً فلا تقربوه".

قال ابن حجر عن رواية إسحاق، عن سفيان هذه: "تفرد بالتفصيل عن سفيان دون حفاظ أصحابه، مثل أحمد والحميدي ومسدد

__________

(4/180) ح 3841 ك الأطعمة، باب الفأرة تقع في السمن.

(4/256) ح 1798 ك الأطعمة، باب الفأرة تموت في السمن.

(7/178) .

(ح 2716) .

5 فتح الباري: (1/344) .

6 الإحسان: (2/335) ح 1389.

(3/99)

وغيرهم"1. وقال مرة: "هذه الزيادة في رواية ابن عيينة غريبة"2. هذا ما يتعلق برواية ابن عيينة.

وأما رواية الأوزاعي، عن الزهري: فأخرجها الإمام أحمد في (مسنده) 3 عن محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي، عن الزهري ... بالإسناد السابق إلى ميمونة: أنها استفتتْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في فأرة سقطت في سمن لهم جامد ... الحديث.

فهؤلاء أشهر الرواة عن الزهري: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنها به.

وخالف هؤلاء جميعاً - من بين أصحاب الزهري -: معمرُ بن راشد، فقال فيه: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، وهو:

الوجه الثاني عن الزهري:

أخرجه من هذا الطريق: عبد الرزاق في (مصنفه) 4 عنه، ولفظه: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع في السمن، قال: "إذا كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه".

__________

1 فتح الباري: (9/669) .

2 المصدر السابق: (9/668) .

(6/330) .

(1/84) ح 278.

(3/100)

ومن طريق عبد الرزاق أخرجه: أبو داود في (سننه) 1، وابن حبان في (صحيحه) 2 والبيهقي في (سننه) 3.

وأخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه) 4: حدثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري بإسناد عبد الرزاق، لكن بدون تفصيل، ففيه: أنه سئل عن فأرة ماتت في السمن؟ فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوه". فيكون هذا اختلافاً على معمر في متن هذا الحديث5، وستأتي الإشارة إلى أنه اختلف عليه في إسناده أيضاً.

وأهل العلم إزاء هذا الاختلاف في هذا الحديث فريقان:

فطائفة منهم رجحوا رواية الجماعة من أصحاب الزهري: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن ميمونة. وحكموا على رواية معمر بالوهم والغلط، قال الترمذي: "حديث غير محفوظ"6. وسأل عنه البخاريَّ، فقال: "حديث معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة: وَهِمَ فيه معمر، ليس له أصل"7. وقال

__________

(4/181) ح 3842.

2 الإحسان: (2/335) ح 1390، 1391.

(9/353) .

(8/280) ح 4445.

5 وقد نَبَّهَ على هذا الاختلاف الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : (6/669) .

6 جامع الترمذي: (4/257) .

7 علل الترمذي: (2/758 - 759) .

(3/101)

أبو حاتم: "وهمٌ، والصحيح: الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم"1. وذهب إلى هذا: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال باضطراب معمر وخطئه في هذا الحديث2. وذكر الحافظُ ابن حجر أن أبا زرعة الرازي، والدارقطني قالا بذلك أيضاً، ولم أجد قول واحد منهما، إلا أن الدارقطني قد صحح هذا الطريق بالنسبة للخلاف الحاصل فيه عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتيبة، لكنه لم يتعرض - فيما وقفت عليه من نسخة (العلل) - لرواية الزهري، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة3.

وطائفةٌ أخرى ذهبت إلى أن الطريقين محفوظان عن معمر، منهم: محمد بن يحيى الذهلي، فقال: "والطريقان عندنا محفوظان إن شاء الله، لكن المشهور: حديث ابن شهاب، عن عبيد الله"4. وصححه أيضاً: الإمام أحمد5، وابن حبان رحمهما الله، فإنه ترجم له بقوله: "ذكر الخبر الدال على أن الطريقين اللذين ذكرناهما لهذه السنة جميعاً محفوظان". ثم أخرج تحت هذه الترجمة رواية معمر للطريقين كليهما6. واختار

__________

1 علل ابن أبي حاتم: (2/12) ح 1507.

2 انظر: مجموع الفتاوى: (21/490، 516، 526) .

3 انظر: علل الدارقطني: ج 5 (ق 180/ب - 181/أ) .

4 التمهيد: (9/35) ، وانظر: فتح الباري: (1/344) وفيه قوله: "لكن طريق ... ميمونة أشهر".

5 مسائل الإمام أحمد - رواية عبد الله: (1/17) رقم 20.

6 الإحسان: (2/335) ح 1391.

(3/102)

تصحيح الطريقين أيضاً: ابن رجب الحنبلي1 رحمه الله.

وقد اختار ابن القَيِّم توهيمَ معمر، وتصويب رواية غيره عن الزهري، وقد مضى كلامه أول هذا البحث، وسيأتي مزيد كلام له في هذا.

واستدلَّ الفريق الأول على ترجيح رواية من رواه: عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة بأدلة، منها:

الأول: ما جاء في رواية الحميدي لهذا الحديث، عن سفيان - ومن طريقه البخاريُّ والطبراني - من أنه قيل لسفيان: فإن معمراً يحدِّثه2: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة؟ قال: ما سمعت الزهري يقول إلا: عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد سمعته منه مراراً. فهذا سفيان بن عيينة - رحمه الله - يجزم بأنه لم يسمعه من الزهري إلا من حديث ميمونة.

الثاني: ما أخرجه البخاري في (صحيحه) 3: حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن يونس، عن الزهري: عن الدابة4 تموت في الزيت والسمن، وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها؟ قال: "بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل" عن حديث عبيد الله بن عبد الله.

__________

1 شرح علل الترمذي: (ص 485 - 486) .

2 أي: يحدِّث به.

3 ك الصيد والذبائح، ح 5539.

4 أي: في حكم الدابة.

(3/103)

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "واحتجاجه - أي الزهري - بالحديث من غير تفصيل: دليلٌ على أن المحفوظ من رواية الزهري إنما هو الحديث المطلق الذي لا تفصيل فيه، وأنه مذهبه، فهو رأيه وروايته، ولو كان عنده حديث التفصيل بين الجامد والمائع لأفتى به واحتجَّ به، فحيثُ أفتى بحديث الإطلاق، واحتجَّ به: دلَّ على أن معمراً غلط عليه في الحديث إسناداً ومتناً"1. وقال الحافظ ابن حجر: "وهذا يقدح في صحة من زاد في هذا الحديث عن الزهري التفرقة بين الجامد والذائب ... لأنه لو كان عنده مرفوعاً، ما سوَّى في فتواه بين الجامد وغير الجامد"2.

الثالث: من أدلة هذا الفريق: أن معمراً قد اضطرب في هذا الحديث في الإسناد والمتن، فقد قال عبد الرزاق: "وقد كان معمر- أيضاً- يذكره عن الزهري، عن عبيد الله ... عن ابن عباس، عن ميمونة. وكذلك أخبرناه ابن عيينة"3. فهذا اضطراب سنده.

وأما اضطراب متنه: فقال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... قد اضطرب حديث معمر، فقال عبد الرزاق عنه: فلا تقربوه. وقال عبد الواحد بن زياد عنه: وإن كان ذائباً أو مائعاً لم يؤكل. وقال البيهقي: وعبد الواحد بن زياد أحفظ منه. يعني: من عبد الرزاق. وفي بعض طرقه: فاستصبحوا به. وكل هذا غير محفوظ في حديث الزهري"4.

__________

1 تهذيب السنن: (5/337) .

2 فتح الباري: (9/669) .

3 المصنف: (1/84) ح 279.

4 تهذيب السنن: (5/337) .

(3/104)

ثم ساق ابن القَيِّم - رحمه الله - حديثاً آخر في معنى حديث أبي هريرة الْمُفَصَّل فقال: "وأما الحديث الذي رواه ابن وهب، عن عبد الجبار بن عمر، عن ابن شهاب، عن سالم، عن:

87- (3) ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن فَأْرَةٍ وَقَعَتْ في سَمْنٍ؟ فقال: "أَلْقُوها وما حَولَهَا، وكُلُوا ما بَقِيَ" فقيل: يَا نبيَّ الله، أَرَأَيْتَ إن كان السَّمْنُ مَائِعَاً؟ قال: "انْتَفِعُوا به، ولا تَأْكُلُوهُ".

قال ابن القَيِّم: "فعبد الجبار بن عمر: ضعيفٌ، لا يحتجُّ به. وَرُوِيَ من وجهٍ آخرَ ضعيف: عن ابن جريج، عن ابن شهاب. قال البيهقي: والصحيح عن ابن عمر من قوله في فأرة وقعت في زيت، قال: "استصبحوا به، وادهنوا به أدمكم""1.

قلت: هذا هو:

الوجه الثالث: من أوجه رواية هذا الحديث عن الزهري: وقد أخرجه: ابن وهب في (موطئه) كما ذكر ذلك ابن عبد البر في (التمهيد) 2، ومن طريقه: أخرجه البيهقي في (سننه) 3، من طريق: عبد الجبار بن عمر4 به.

__________

1 تهذيب السنن: (5/340) .

(9/36) .

(9/354) .

4 الأيلي، الأموي مولاهم ضعيفٌ، من السابعة، مات بعد الستين/ ت ق. (التقريب332) .

(3/105)

وقد ضَعَّفَهُ جماعة من العلماء: قال أبو حاتم: " ... وَهْمٌ، والصحيح: الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة"1. وقال محمد بن يحيى الذهلي: "وهذا الإسناد عندنا غير محفوظ، وهو خطأ، ولا يُعرف هذا الحديث من حديث سالم، وعبد الجبار ضعيفٌ جداً"2. وقال الدارقطني: "ورواه عبد الجبار بن عمر، عن الزهري ... ووهم فيه"3. وقال البيهقي: "عبد الجبار بن عمر غير محتج به"4.

وأما الطريق الآخر الذي أشار إليه ابن القَيِّم: فأخرجه الدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 5، من طريق: يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن ابن شهاب ... بمثل إسناد عبد الجبار المتقدم.

قال البيهقي: "والطريق إليه - يعني إلى ابن جريج - غيرُ قويٍّ، والصحيح عن ابن عمر: من قوله، موقوفاً عليه غير مرفوع". واختار الحافظ ابن حجر تصحيح الوقف6.

فتلخص من ذلك: أن الصحيح في هذا الحديث: عن الزهري،

__________

1 علل ابن أبي حاتم: (2/12) ح 1507.

2 التمهيد: (9/36) .

3 العلل: ج 5 (ق180/ب) .

4 السنن: (9/354) .

5 قط: (4/291) ح 80. هق: (9/354) .

6 فتح الباري: (9/669) .

(3/106)

عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنهم. بدون ذكر التفصيل بين الجامد والمائع. وهو الذي اختاره ابن القَيِّم رحمه الله.

ومع ذلك، فإن الجمهور على العمل برواية التفصيل والأخذ بمقتضاها1؛ قال ابن عبد البر رحمه الله: "في هذا الحديث معانٍ من الفقه، منها ما اجْتُمِعَ عليه، ومنها ما اخْتُلِفَ فيه، فأما ما اجتمع عليه العلماء من ذلك: أن الفأرة، ومثلها من الحيوان كله يموت في سمنٍ جامدٍ، أو ما كان مثله من الجامدات، أنها تُطْرَحُ وما حولها من ذلك الجامد، ويؤكل سائره إذا استيقن أنه لم تصل الميتة إليه، وكذا أجمعوا: أن السَّمْنَ - وما كان مثله - إذا كان مائعاً ذائباً، فماتتْ فيه فأرةٌ - أو وقعت وهي ميتة - أنه قد نجس كله، وسواء وقعت فيه ميتة، أو حية فماتت، يتنجس بذلك، قليلاً كان أو كثيراً. هذا قول جمهور الفقهاء، وجماعة العلماء"2. والله أعلم.

__________

1 انظر: فتح الباري: (1/344) .

2 التمهيد: (9/40) .

(3/107)

3- باب في الأكل مع المجذوم

88- (4) عن جابر رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ، فَأَدْخَلَهَا مَعه في القَصْعَةِ".

قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... حديثٌ لا يثبتُ ولا يصحُّ، وغايةُ ما قال فيه الترمذيُّ: إنه غريب، لم يصححه ولم يحسنه، وقد قال شعبة: اتَّقُوا هذه الغرائب. قال الترمذيُّ: ويُروى هذا من فِعْلِ عمر، وهو أثبتُ"1.

قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في (سننهم) 2، وابن حبان في (صحيحه) 3، والحاكم في (المستدرك) 4، والعقيلي في (الضعفاء) 5، وابن عدي في (الكامل) 6، والبيهقي في (شعب الإيمان) 7، كلهم من طريق:

__________

1 زاد المعاد: (4/153) .

2 د: (4/239) ح 3925 ك الطب، باب في الطيرة. ت: (4/266) ح 1817 ك الأطعمة، باب ما جاء في الأكل مع المجذوم. جه: (2/1172) ح 3542، ك الطب، باب الجذام.

3 الإحسان: (7/641) ح 6087.

(4/136 - 137) .

(4/242) .

(6/2404) .

(3/513) ح 1294.

(3/108)

الْمُفَضَّل بن فضالة، عن حبيب بن الشَّهيد1، عن محمد بن المنكدر، عن جابر: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ2 فَوَضَعَهَا مَعَه في القَصْعَةِ، وقال: كُلْ ثقةً بالله، وتَوَكُّلاً عليه". هذا لفظ أبي داود، وابن ماجه. وعند الترمذي، وابن حبان، والحاكم، والعقيلي، والبيهقي: "كُلْ بسم الله، ثقة بالله ... ".

قال أبو عيسى الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث يونس بن محمد3، عن المفضل بن فضالة، والمفضل بن فضالة هذا شيخٌ بصريٌّ. والمفضل بن فضالة شيخ آخر مصري أوثقُ من هذا وأشهر. وقد روى شعبة هذا الحديث عن حبيب بن الشهيد عن ابن بريدة: أن عمر4 أخذ بيد مجذوم. وحديث شعبة أثبت عندي وأصحّ".

وهذا الكلام بحروفه - مع تقديم وتأخير - هو كلام الإمام البخاريِّ رحمه الله؛ فإنَّ الترمذي أخرجَ هذا الحديث في (علله) 5 وقال: "سألتُ محمداً عن هذا الحديث ... " فذكره.

__________

1 الأزدي، أبو محمد البصري، ثقةٌ ثبت، من الخامسة، مات سنة 145هـ / ع. (التقريب151) .

2 يقال: رجلٌ أَجْذَمٌ وَمَجْذُومٌ وَمُجَذَّمٌ إذا تَهَافَتَتْ أَطْرَافُهُ من داءِ الجُذَامِ. (لسان العرب: ص 578، مادة: جذم) .

3 ابن مسلم البغدادي، أبو محمد المؤدب، ثقة ٌثبتٌ، من صغار التاسعة، مات سنة 207هـ / ع. (التقريب 614) .

4 في بعض نسخ الترمذي: "ابن عمر". والمثبت هو الصواب؛ فإنه هكذا في رواية الترمذي في (العلل) ، وكذا في (تحفة الأشراف) : (2/358) ، وهو الذي نقله ابن القَيِّم عن الترمذي.

(2/770) ك الأطعمة، باب ما جاء في الأكل مع المجذوم.

(3/109)

وقال ابن عدي: "هذا لا أعلم يرويه غير حبيب، ولمفضل بن فضالة عن هشام، عن عروة نسخة ... غير أني لم أر في حديثه أنكر من هذا الحديث، والذي أمليته - يعني حديث الأكل مع المجذوم - وباقي حديثه مستقيم".

وأخرجه ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 1 بإسناده إلى الحاكم، ثم قال: "قال الدارقطني: تفرد بن المفضل، قال يحيى: ليس المفضل بذاك".

قلت: وقد تُوبع المفضل بن فضالة على روايته هذه، فأخرجه ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 2 من حديث: عبيد الله بن تمام، عن إسماعيل المكي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر به، ولفظه: "كُلْ بسم الله، إيماناً بالله، وتوكلاً عليه".

ولكن هذا الإسناد ضعيفٌ جداً؛ فإن عبيد الله بن تمام، أبا عاصم الواسطي: ضعفه الدارقطني، وأبو حاتم، وأبو زرعة3. وإسماعيل المكي: هو ابن مسلم، قال ابن الجوزي عقب إخراجه: "قال أحمد: إسماعيل المكي منكر الحديث. قال يحيى: لم يزل مختلطاً، وليس بشيء ... وقال النسائي: متروك الحديث"4. فلا تفيد هذه المتابعة الحديث شيئاً.

وأما رواية شعبة، عن حبيب بن الشهيد، عن ابن بريدة، عن

__________

(2/386) ح 1456، ك المرض، حديث في الأكل مع المجذوم.

(2/387) .

3 الميزان: (3/4) .

4 انظر أقوال العلماء فيه في: تهذيب التهذيب: (1/331 - 333) .

(3/110)

عمر رضي الله عنه في أكله مع المجذوم - التي صَوَّبَهَا البخاريُّ والترمذي -: فلم أقف على من أخرجها، لكن أخرج العقيليُّ من طريق: عبد الرحمن بن زياد، عن شعبة، عن حبيب بن الشهيد، عن عبد الله بن بريدة قال: "كان سلمان يعملُ بيديه، ثم يشتري طعاماً، ثم يبعث إلى الْمُجَذَّمين فيأكلون معه"1 فجعل "سلمان" مكان "عمر" ثم قال العقيلي عقبه: "هذا أصلُ الحديث، وهذه الرواية أولى". قال الشيخ الألباني: "ولعله الصواب؛ فإن إسناده صحيحٌ، وعبد الرحمن بن زياد هذا: هو الرصاصي، قال أبو حاتم: صدوق. وقال أبو زرعة: لا بأس به"2.

وأما قصة أكل عمر مع المجذوم: فقد أخرج عبد الرزاق في (المصنف) 3 عن معمر، عن أبي الزناد: أن عمر قال لمعيقيب4 الدَّوسي: "ادن مني، فلو كان غيرك ما قعد مني إلا كقيد رمح". وكان أجذم.

وهذا مرسلٌ؛ فإنَّ أبا الزناد لم يدرك ابن عمر ولم يره كما قال أبو حاتم5، فكيف بروايته عن عمر؟!

__________

1 الضعفاء: (4/242 - 243) .

2 السلسلة الضعيفة: (3/282) ح 1144.

(10/405) ح 19510.

4 ابن أبي فاطمة الدوسي، حليف بني عبد شمس، من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين، وشهد المشاهد، وولي بيت المال لعمر، ومات في خلافة عثمان أو علي/ع. (التقريب 542) .

5 المراسيل: (ص 111) .

(3/111)

فإذا تَقَرَّرَ عندنا ضعفُ حديث جابر هذا، علمنا أن قول الحاكم: "صحيح الإسناد". وموافقة الذهبي له، وقول ابن حجر: "حسن"1، وقول السيوطي: "صحيح"2: ليس بصواب، وأنَّ الصواب: ما ذهب إليه ابن القَيِّم من ضَعْفِ هذا الحديث، والله أعلم.

__________

1 كما نقله صاحب فيض القدير: (5/41) .

2 في الجامع الصغير مع فيض القدير: (5/41) . وقد ضعفه الشيخ الألباني. (ضعيف الجامع الصغير رقم 4200) .

(3/112)

كتاب الايمان والنذور

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

13- من كتاب الأيمان والنذور

1 - باب النذر في المعصية، ومن رأى أن عليه الكفارة

89 - (1) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نَذْرَ في مَعْصِيَةٍ، وكَفَّاَرُتُه كَفَّاَرُة يَمَيٍن" 1.

استدل ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذا الحديث للقائلين بوجوب الكفارة في نذر المعصية، وذهب إلى صِحَّةِ الحديثِ بطرقهِ وشواهِدِهِ كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

وذكر - رحمه الله - عند كلامه على حكم طلاق الغضبان حديث:

90- (2) عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نَذْرَ في غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ".

قال ابن القَيِّم: "وهو حديث صحيحٌ، وله طرقٌ"2.

وقد أورده - رحمه الله - للاستدلال به على أنَّ طلاق الغضبان لا يقع، وذلك بطريق الأولى، فقال: "فإذا كان النذر – الذي أثنى الله على من أوفى به، وأمر رسوله بالوفاء بما كان منه طاعة – قد أَثَرَّ الغضب في انعقاده، لكون الغضبان لم يقصده ... فالطلاق بطريق الأولى والأحرى"3.

__________

1 تهذيب السنن: (4/373 – 376) .

2 الإغاثة الصغرى: (ص 39 – 40) .

3 الإغاثة الصغرى: (ص 41) .

(3/115)

قلت: أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في (سننهم) 1، وأحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3، من طرق:

عن يونس بن يزيد4، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة به.

وهذا الإسناد رجاله ثقاتٌ، إلا أنه معلولٌ، كما قال الحافظ ابن حجر5 رحمه الله. وقد بَيَّنَ الأئمة عِلَّتَهُ، فقال الترمذي عقبه: "هذا حديث لا يصحُّ؛ لأنَّ الزهريَّ لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة". وقال النسائيُّ: "وقد قيل: إنَّ الزهريَّ لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة" وقال البيهقي مثل ذلك.

قلت: فيكون هذا الإسناد منقطعاً.

ودليلهم على عدم سماع الزهري هذا الحديث من أبي سلمة: أنه قد روى عن الزهري على غير هذا الوجه.

__________

1 د: (3/594) ح 3290، 3291، باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية. ت: (4/103) ح 1524، باب ما جاء عن رسول الله أن لا نذر في معصية. س: (7/26- 27) ، باب كفارة النذر. جه: (1/686) ح 2125، باب النذر في المعصية. كلهم في كتاب الأيمان والنذور، إلا ابن ماجه، فهو عنده في (الكفارات) .

(6/247) .

(10/69) .

4 ابن النَّجَّاد الأيلي، أبو يزيد، مولى آل أبي سفيان، ثقةٌ، إلا أنَّ في روايته عن الزهري وهماً قليلاً، وفي غير الزهري خطأ، من كبار السابعة، مات سنة 159هـ على الصحيح/ ع. (التقريب 614) .

5 انظر: فتح الباري: (11/587) ، والتلخيص الحبير: (4/175) .

(3/116)

فرواه عبد الله بن أبي عتيق1، وموسى بن عقبة، كلاهما عن الزهري، عن سليمان بن أرقم2، عن يحيى بن أبي كثير3، عن أبي سلمة، عن عائشة به.

أخرجه بهذا الإسناد: أبو داود، والترمذي، والنسائي، والبيهقي في (سننهم) 4. قال البخاريُّ – بعد أن ساقه من طريق سليمان بن أرقم هذه-: "والحديث هو هذا"5. وكذا صححه الدارقطني فقال – بعد أن ساق وجوه الاختلاف فيه -: "والصحيح: حديث ابن أبي عتيق، وموسى بن عقبة، عن الزهري"6.

فَتَبَيَّنَ من ذلك: أن الزهريَّ – رحمه الله – إنما سمع الحديث من سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، "فَدَلَّسَهُ بإسقاط اثنين" - كما قال ابن حجر7- ورواه عن أبي سلمة مباشرة.

ونازع الشيخ الألباني في القول بتدليس الزهريِّ هنا، وأنه يحتمل

__________

1 عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، أبو بكر، صدوقٌ فيه مزاحٌ، من الثالثة/ خ م س ق. (التقريب 321) .

2 البصري، أبو معاذ، ضعيفٌ، من السابعة/ د ت س. (التقريب 250) .

3 أبو نصر اليمامي.

4 د: (3/595) ح 3292، ت: (4/103) ح 1525، س: (7/27) ، هق: (10/69) .

5 جامع الترمذي: (4/103) ، وانظر العلل له: (2/651 – 652) .

6 علل الدارقطني: ج5 (ق 72) .

7 فتح الباري: (11/587) . وانظر: جامع التحصيل: (ص 331) .

(3/117)

أن يكون له فيه إسنادان، أحدهما: عن سليمان بن أرقم، عن يحيى، عن أبي سلمة، والآخر: عن أبي سلمة مباشرة قال: "ويؤيد هذا أنه قد صَرَّحَ بالتحديث في رواية له" فذكر رواية عند النسائي1 وفيها قول الزهري: "حدثنا أبو سلمة"2.

قلت: وما ذكره الشيخ الألباني – رحمه الله – لو صحَّ لكانَ دليلاً على سماع الزهريَّ الحديث من أبي سلمة، لكن يبدو أنَ كلمة "حَدَّثَنا" مُصَحَّفَةٌ، وصوابها: "حَدَّثَ"، كذا نقله المزِّي في (تحفة الأشراف) 3، ونقله الدارقطني في (علله) 4 فقال: " ... وقال أبو ضمرة: عن يونس، عن ابن شهاب قال: حدث أبو سلمة". وحينئذٍ تكونُ هذه اللفظة من الزهري دليلاً على عدم سماعه منه لا العكس.

وَيُؤَكِّدُ ذلك: أنَّ أبا داود قال عقب رواية الزهري عن أبي سلمة هذه: "وسمعت أحمد بن شبويه يقول: قال ابن المبارك - يعني في هذا الحديث -: حَدَّثَ أبو سلمة. فدلَّ على أن الزهريَّ لم يسمعه من أبي سلمة"5. والله أعلم.

على أن طريق سليمان بن أرقم المتصلة هذه معلولة - أيضاً - بأمور:

__________

1 سنن النسائي: (7/27) .

2 إرواء الغليل: (8/216) .

(12/367) .

4 ج 5 (ق 72) .

5 سنن أبي داود: (3/595) .

(3/118)

أولها: اتِّفَاقُهم على ضعف "سليمان بن أرقم": قال البخاريُّ - عقب حكايته هذه الطريق -: "وسليمان بن أرقم متروكٌ، ذاهب الحديث"1. وكذا قال النسائي - عقب روايته الحديث -: "سليمان ابن أرقم متروك الحديث"، وقال ابن حجر: "ضعيف باتفاقهم"2.

ثانيها: أنَّ سليمان بن أرقم - مع ضعفه - قد وَهِمَ في هذا الحديث؛ فإنَّ غير واحدٍ من أصحاب يحيى بن أبي كثير خالفوه في إسناده، فرووه عن: محمد بن الزبير الحنظلي، عن أبيه، عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو داود – عقب إخراج حديث سليمان بن أرقم -: "قال أحمد بن محمد المروزي: إنما الحديث حديث على بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران بن حصين" قال أبو داود: "أراد: أن سليمان بن أرقم وَهِمَ فيه، وحمله عنه الزهري، وأرسله عن أبي سلمة، عن عائشة"3. ثم قال أبو داود: "روى بقية، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن محمد بن الزبير، بإسناد علي بن المبارك مثله".

قلت: والحديث من طريق علي بن المبارك، ومن طريق الأوزاعي

__________

1 علل الترمذي: (2/652) .

2 فتح الباري: (11/587) . وينظر كلام العلماء عليه مُفَصَّلاً في تهذيب التهذيب: (4/168 – 169) .

3 سنن أبي داود: (3/596) .

(3/119)

أخرجه: النسائي في (سننه) 1، وأخرجه البيهقي من طريق الأوزاعي2 فقط.

وحديث يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن الزبير هذا: هو الذي ساقه ابن القَيِّم - رحمه الله - بلفظ "لا نَذْرَ في غضبٍ ... ". وسيأتي بيان هذا اللفظ.

فَرَجَعَ بذلك حديث أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، إلى حديث: محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران بن حصين.

إلا أنَّ حديث عمران هذا معلوٌلٌ - أيضاً - بثلاث علل، وهي:

1- ضعف إسناده. 2- انقطاعه. 3- اضطرابه سنداً ومتناً. وبيان ذلك:

أولاً: ضعف إسناده: فإنَّ "محمدَ بن الزبير الحَنْظَلِيّ" ضَعَّفَهُ غيرُ واحدٍ من العلماء، حتى قال البخاريُّ: "منكر الحديث"، وقال أبو حاتم: "في حديثه إنكار"3. وقال الحافظ ابن حجر: "متروك"4.

وكذلك أبوه الزبير: لم يرو عنه إلا ابنه محمد، وذكره أبو العرب

__________

(7/27 – 28) .

2 سنن البيهقي: (10/70) .

3 تنظر أقوال العلماء فيه في (تهذيب التهذيب) : (9/167) .

4 التقريب: (ص 478) .

(3/120)

في كتابه (الضعفاء) 1. وقال ابن حجر: "لَيِّنُ الحديث"2.

ثانياً: انقطاعه: فقال النسائي: "قيل: إن الزبير لم يسمع هذا الحديث من عمران بن حصين"3. وقال البيهقي مثل ذلك، ثم ساق بإسناده إلى يحيى بن معين أنه قال: "قيل لمحمد بن الزبير الحنظلي: سمع أبوك من عمران بن حصين؟ قال: لا"4.

ومما يدلُّ على انقطاعه: ما أخرجه النسائي5، والبيهقي6 من حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن الزبير، عن أبيه، عن رجل صَحِبَهُ، عن عمران به. هذا سياق البيهقي، وعند النسائي: "عن أبيه، عن رجل من أهل البصرة قال: صحبت عمران بن حصين، وفيه قصة، ولفظه: "لا نذر في غضب ... ".

وأخرج النسائي7 من حديث عبد الوارث بن سعيد، عن محمد بن الزبير، عن أبيه، أن رجلاً حَدَّثَهُ: أنه سأل عمران. ولفظه: "لا نَذْرَ في غَضَبٍ ... ".

__________

1 انظر: تهذيب التهذيب: (3/320 – 321) .

2 التقريب: (ص 214) .

3 سنن النسائي: (7/28) .

4 سنن البيهقي: (10/70) . وانظر: تهذيب التهذيب: (3/320) .

(7/28) .

(10/70) .

(7/29) .

(3/121)

قال أبو حاتم الرازي - بعد أن بَيَّنَ وجوهَ الاختلاف فيه على محمد بن الزبير-: "حديث عبد الوارث أشبه، لأنه قد بَيَّنَ عورة الحديث"1.

ثالثاً: اضطرابه سَنَدَاً وَمَتْنَاً: أما اضطراب إسناده: فإنه رُوِيَ عن محمد بن الزبير على أوجه مختلفة، وقد ذكرنا بعضها فيما مضى، ونضيف إليها هنا:

- أنه رواه سفيان الثوري، عن محمد بن الزبير، عن الحسن، عن عمران بن حصين به، أخرجه النسائي2، وأحمد3، والحاكم4، والبيهقي5. ولفظه: "لا نذر في معصية ولا غضب ... ".

- وأخرجه النسائي6 من طريق: منصور بن زاذان، عن الحسن، عن عمران بن حصين، لم يذكر محمد بن الزبير.

قال البيهقي: "وهذا - أيضاً - منقطعٌ، ولا يصحُّ عن الحسن عن عمران سماع من وجه صحيح يثبت مثله"7. ثم ساق بإسناده

__________

1 علل ابن أبي حاتم: (1/440) .

2 السنن: (7/29) .

3 المسند: (4/443) .

4 المستدرك: (4/305) .

5 السنن: (10/70) .

(7/29) .

7 سنن البيهقي: (10/70 – 71) .

(3/122)

إلى علي بن المديني - رحمه الله - القول بعدم صحة ذلك1.

- وخالف هؤلاء - أيضاً - علي بن زيد بن جدعان، فجعله عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه النسائي2، ثم قال: "عليُّ بن زيد ضعيف، وهذا الحديثُ خطأ، والصواب: عمران بن حصين".

وأما اضطراب متنه: فقد جاء لفظه مرةً: "لا نذر في معصية ... "، ومرة جاء: "لا نذر في غضب ... "، وجاء مرةً: "لا نذر في معصية ولا غضب ... ". وتقدمت كل هذه الألفاظ.

وقد أشار الحافظ العراقيُّ إلى الاضطراب في حديث محمد بن الزبير هذا3. وقال الشيخ الألباني - بعد أن ذكر بعض وجوه الاختلاف في إسناده -: "وهذا اضطراب شديد يسقط الحديث بمثله لو كان من رواية ثقة؛ لأنَّ الاضطراب في روايته يدل على أنه لم يحفظه، فكيف إذا كان الراوي واهياً، وهو محمد بن الزبير؟ "4.

ونعود الآن إلى موقف ابن القَيِّم - رحمه الله - من هذين الحديثين، وما استند إليه في تصحيحهما:

__________

1 وانظر: المراسيل لابن أبي حاتم: (ص 38) .

2 السنن: (7/29 – 30) .

3 كما في فيض القدير: (6/437) .

4 إرواء الغليل: (8/213) .

(3/123)

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "هذه الآثار قد تَعَدَّدَتْ طرقها، ورواتها ثقاتٌ"1. كذا قال رحمه الله.

قلت: أما تعدد طرقها: فقد تَبَيَّنَ مما مضى أن طرق هذه الأحاديث وإن تعددت، فإنها مختلفة مضطربة، فلم يزدد الحديث بها إلاّ اضطراباً، كما ظهر لنا أن الحديثين – بكل طرقهما – إنما يرجعان إلى طريق واحدٍ هو: محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران بن حصين.

وأما ثقة رواتها: فقد وُجِدَ الأمر على خلاف ذلك، ففي طريق عائشة: "سليمان بن أرقم" المتروكُ الذي لا تقوم به حجة، وفي طريق عمران بن حصين: "محمد بن الزبير" الضعيفُ، "وأبوه" المجهول.

ثم قال ابن القَيِّم: "وإن كان الزهريُّ لم يسمعه من أبي سلمة، فإنَّ له شواهدَ تُقَوِّيِهِ"2 وذكر من هذه الشواهد حديث عمران بن حصين.

قلت: قد تقدم ضعف حديث عمران وشدة اضطرابه، وعلمنا أن حديث عائشة هو نفسه حديث عمران بن حصين، وإنما غَلِطَ فيه سليمان ابن أرقم، وخالفه غيره. فكيف يكون أحد الحديثين شاهداً للآخر؟!

ثم أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى شاهدٍ آخر، وهو: ما أخرجه

__________

1 تهذيب السنن: (4/374) .

2 تهذيب السنن: (4/374) .

(3/124)

ابن الجارود في (المنتقى) 1 من طريق: موسى بن أعين، ثنا خطاب2، ثنا عبد الكريم، عن عطاء بن أبي رباح:

91- (3) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النذرُ نَذْرَان: فما كان لله كفارته الوفاء، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين".

قال الشيخ الألباني: "وهذا إسناد صحيحٌ، رجاله كلهم ثقات رجال البخاريِّ، غير خَطَّاب، وهو ابن القاسم الحراني، وهو ثقة كما قال ابن معين وأبو زرعة في رواية عنه، وقال البرذعي عنه: منكر الحديث، يقال: إنه اختلط قبل موته. وذكره ابن حبان في الثقات"3. ثم اعترض على ابن حجر في جزمه باختلاط خطاب هذا حيث إنه لم يذكره به سوى أبي زرعة، ومع ذلك لم يجزم به.

قلت: وأخرج هذا الحديث البيهقيُّ في (سننه) 4 - من طريق ابن الجارود - وَضَعَّفَهُ!

ثم ذكر ابن القَيِّم شاهداً آخر. وَصَحَّحَ إسناده، وهو ما رواه الطحاوي:

__________

(ح 935) .

2 ابن القاسم الحرَّاني، قاضيها، ثقةٌ اختلط قبل موته، من الثامنة/ د س. (التقريب194) .

3 السلسلة الصحيحة: (ح479) .

(10/72) .

(3/125)

92- (4) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ نَذَرَ أن يطيعَ الله فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَر أن يعصي الله فلا يعصه، ويُكَفِّر عن يمينه".

قال ابن القَيِّم: "وهو عند البخاري إلا ذكر الكفارة"1. ثم نقل عن عبد الحق قوله: "وهذا أصحُ إسناداً، وأحسن من حديث أبي داود" يعني: حديث الزهري، عن أبي سلمة المتقدم.

قلت: هذا الحديث أخرجه الطحاوي في (مشكل الآثار) 2 من طريق: حفص بن غياث، قال: سمعت ابن مُجَبَّر3، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها به.

وأخرجه البخاري في (صحيحه) 4 من طريق: طلحة بن عبد الملك5، عن القاسم، عن عائشة به، بدون هذه الزيادة التي فيها ذكر الكفارة.

وابن مجبر - راويه عن القاسم عند الطحاوي - هو: عبد الرحمن ابن مجبّر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، روى عن: سالم بن عبد الله،

__________

1 تهذيب السنن: (4/374 – 375) .

(1/470 – 471) ، (3/37) .

3 وقع في المشكل: "ابن محرز"، والصواب ما أثبته. انظر: (الجوهر النقي 10/71) ، (وفتح الباري 11/581) .

4 ك الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة. ح 6696 (الفتح: 11/581) .

5 الأيلي، ثقة، من السادسة / خ 4. (التقريب 282) .

(3/126)

وروى عنه: مالك بن أنس، وثقه عمرو بن علي1، وكذا ابن حبان2.

وقد روى الحديث: طلحةُ بن عبد الملك الأيلي - كما عند البخاري - وتابعه عليه: أيوب السختياني3، كلاهما عن القاسم به، ولم يذكرا هذه الزيادة، فإمَّا أن يُقال: ابن مجبر ثقة فزيادته مقبولة، وإما أن يقال: إنه قد خالف من هو أوثقُ منه وأكثر عدداً فتردُّ زيادته، ولعلَّ هذا الأخير هو ما تطمئن إليه النفس، وقد قال ابن القطان رحمه الله: "عندي شكُّ في رفع هذه الزيادة"4.

وبعد، فهذا ما انتهى إليه البحث، مع الإمام ابن القَيِّم -رحمه الله- في هذه القضية، وخلاصة ذلك:

أن حديث أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها في كفارة النذر غير صحيح، بل فيه ضعفٌ واضطراب، ولا يصلح حديث عمران بن حصين شاهداً له؛ لأن حديث عائشة رضي الله عنها قد رجع إلى حديث عمران. هذا مع ضعف حديث عمران أيضاً.

أما الشواهد التي ساقها ابن القَيِّم: فلا يصلح أكثرها لتقوية هذا الحديث، وقد ثبت منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما إذا ترجح

__________

1 الجرح والتعديل: (2/2/287) .

2 الثقات: (7/76) .

3 وروايته عند ابن حبان: (الإحسان 6/287) ح 4373.

4 التلخيص الحبير: (4/175) ح 2057.

(3/127)

توثيق خطاب بن القاسم. وكذلك حديث عائشة - عند الطحاوي - فقد يصلح شاهداً إذا قيل بقبول الزيادة فيه من الثقة.

ثم إن مضمون هذا الحديث - وهو القول بالكفارة في نذر المعصية - قد ذهب إليه: الإمام أحمد، وإسحاق، وبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والجمهور على خلاف ذلك، مع اتفاقهم على الشطر الأول من الحديث وهو: أنه لا يجب الوفاء بنذر المعصية1، والله أعلم.

__________

1 انظر: جامع الترمذي: (4/104 – 105) ، وفتح الباري: (11/587) .

(3/128)

من كتاب العتق

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

14- من كتاب العتق

1 - باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم

93- (1) عن سمرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُو حُرُّ ".

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "هذا الحديث له خمسُ عللٍ:

إحداها: تَفَرد حماد بن سلمة به، فإنه لم يحدث به غيره1.

العلة الثانية: أنه اختلف فيه حماد وشعبة، عن قتادة، فشعبة أرسله، وحمادٌ وصله، وشعبةُ هو شعبةُ.

العلة الثالثة: أن سعيد بن أبي عروبة خالفهما، فرواه: عن قتادة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله.

العلة الرابعة: أن محمدَ بن يسار رواه: عن معاذ، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن قوله. وقد ذكر أبو داود هذين الأثرين.

العلة الخامسة: الاختلاف في سماع الحسن من سمرة"2.

قلت: هذا الحديث أخرجه: أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في: (جامعه) 4، و (علله) 5، والنسائي في (الكبرى) 6، وأحمد، والطيالسي

__________

1 ومراده: أنه تفرد بوصله، وأنه لم يُحَدِّث به كذلك غيره.

2 تهذيب السنن: (5/407) .

(4/259) ح 3949 ك العتق، باب فيمن ملك ذا رحم محرم.

(3/637) ح 1365 ك الأحكام، باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم.

(1/561) .

(5/14) ح 4881.

(3/131)

في (مسنديهما) 1، وابن الجارود في (المنتقى) 2، والطبراني في (الكبير) 3، والبيهقي في (سننه) 4 - من طريق أبي داود - من طرق، عن:

حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن5، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم به، ولفظه كما تقدم، لكن وقع في إحدى روايات الإمام أحمد: "فهو عتيقٌ" بدل: "فهو حر".

ووقع عند أبي داود من طريق موسى بن إسماعيل - أحد رواته عن حماد -: "عن سمرة بن جندب فيما يحسب حماد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ".

قال أبو داود: "لم يُحَدِّث ذلك الحديث إلا حماد بن سلمة، وقد شكَّ فيه". وقال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه مسنداً إلا من حديث حماد بن سلمة". وسأل الترمذي البخاريَّ عنه؟ فلم يعرفه عن الحسن، عن سمرة إلا من حديث حماد بن سلمة"6. ونقل المنذري عن علي بن المديني قوله: "هذا عندي منكرٌ"7.

__________

1 حم: (5/15، 18، 20) . طس: (ح 910) .

(ح 973) .

(7/248) ح 6852.

(10/289) .

5 ابن أبي الحسن البصري، واسم أبيه: يسار، الأنصاري مولاهم، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهورٌ، وكان يُرْسِلُ كثيراً ويُدَلِّس، وهو رأس أهل الطبقة الثالثة، مات سنة110هـ / ع. (التقريب 160) .

6 علل الترمذي: (1/561) .

7 مختصر السنن: (5/408) .

(3/132)

وكلام هؤلاء الأئمة - رحمهم الله - ظاهرٌ في كون حماد تَفَرَّدَ بوصل هذا الحديث، وعبارة الترمذي صريحة في ذلك، فإن هذا الحديث يُروى من وجه آخر عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، بدون ذكر "سمرة". وقد نقل المنذري وغيره عن أبي داود أنه قال: "شعبة أحفظ من حماد بن سلمة". قال المنذري: "يعني أنَّ شعبة رواه مرسلاً"1. وقال الخطابي: "أراد أبو داود من هذا: أنَّ الحديثَ ليس بمرفوع، أو ليس بمتصل، إنما هو: عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم"2.

قلت: وكلمة أبي داود هذه لم أرها هكذا، والذي في (السنن) قوله: "سعيد أحفظ من حماد". وذلك أن أبا داود – رحمه الله – أخرجه من طريق: سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن موقوفاً عليه3. وأخرجه مرة أخرى عن سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد والحسن مثله4. وأخرجه - قبل هذين الأثرين - من حديث سعيد أيضاً، عن قتادة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: "من ملك ذا رحم ... " الحديث5. وأشار إلى الموقوف على عمر: الترمذيُّ6، والبخاريُّ7،

__________

1 مختصر السنن: (5/408) .

2 معالم السنن: (5/408) .

3 سنن أبي داود: (4/261) ح 3951.

4 سنن أبي داود: (ح3952) .

5 المصدر السابق: (ح3950) .

6 في جامعه: (3/638) .

7 علل الترمذي: (1/561) .

(3/133)

لكنهما قالا: عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن عمر رضي الله عنه، فلعلها رواية أخرى عن قتادة. فهذه الروايات من طريق سعيد هي التي قال أبو داود عقبها: "سعيد أحفظ من حماد".

فَتَحَصَّلَ من ذلك أن هذا الحديث يُروى عن قتادة على عدة أوجه:

1- حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، مرفوعاً.

2- شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ولم أقف على هذه الرواية، ولكن تَقَدَّمَ نقل المنذري لكلام أبي داود فيها، وكذا كلام الخطابي.

3- سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن من قوله. مقطوعاً.

4- سعيد، عن قتادة، عن الحسن وجابر بن زيد من قولهما.

5- سعيد، عن قتادة، عن عمر بن الخطاب من قوله، وتقدم أن أبا داود أخرج هذه الروايات الثلاث الأخيرة، وأخرجها أيضاً: النسائي في (سننه الكبرى) 1.

6- سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن عمر رضي الله عنه موقوفاً عليه. ولم أقف على هذه الرواية أيضاً، لكن ذكرها البخاري والترمذي كما تقدم.

__________

(5/14 – 15) ح 4883 – 4886.

(3/134)

فهذه وجوه رواية هذا الحديث عن قتادة، والخوف أن يكون ذلك اضطراباً في هذا الحديث، لكن الذي يهمنا في هذا المقام: أن هذا الحديث لا يصحُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم موصولاً، فهو ما بين: موقوف على عمر رضي الله عنه، أو مُرْسَل: عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقد ضَعَّفَ مراسليه جماعة -1 أو مقطوع من كلام الحسن رحمه الله. وقد تَقَدَّمَ كلامُ أبي داود في ترجيح الرواية المرسلة، وكذا ترجيح الموقوف من طريق سعيد، وقال الحافظ ابن حجر: "وَرَجَّحَ جمعٌ من الحفاظ أنه موقوف"2.

وحتى لو حُكِمَ للرواية الموصولة، فإنها تبقى معلولةً – كما أشار ابن القَيِّم – بالخلاف في سماع الحسن من سمرة؛ فإنَّ كثيرين لا يثبتون له سماعاً منه، والحسن مدلس، وقد عنعن في هذا الحديث.

وَثَمَّةَ شاهدٌ لحديث سمرة هذا، يُروى عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولم يتعرض له ابن القَيِّم رحمه الله:

وهو ما أخرجه: النسائي في (الكبرى) 3، وابن ماجه في (سننه) 4، وابن الجارود في (المنتقى) 5، والحاكم في (المستدرك) 6،

__________

1 انظر جامع التحصيل: (ص 100 – 101) .

2 بلوغ المرام مع سبل السلام: (4 / 1501) ح 1339.

(5/13) ح 4877.

(2/844) ح 2525.

(ح 972) .

(2/214) .

(3/135)

والبيهقي في (سننه) 1، وَعَلَّقَهُ الترمذي في (جامعه) 2، كلهم من طريق: ضمرة بن ربيعة3، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً بمثل حديث سمرة. ووقع عند ابن الجارود، والبيهقي: "فهو عتيق ".

وقد ضَعَّفَ الأئمة هذا الحديث - عن ابن عمر رضي الله عنهما - وأنكروه: فأنكره الإمام أحمد وردَّه ردّاً شديداً، وقال: "لو قال رجلٌ: إن هذا كذبٌ، لما كان مخطئاً"4. وذُكِرَ له مرة، فقال: "ليس من ذا شيء، وَهِمَ ضمرة"5. وقال الترمذي: "ولم يُتابع ضمرة على هذا الحديث، وهو حديث خطأ عند أهل الحديث"6. وقال النسائي: "لا نعلم أن أحداً روى هذا الحديث عن سفيان غير ضمرة، وهو حديث منكر"7. ونقل البيهقي عن الطبراني - وقد رواه من طريقه - قوله: "لم يرو هذا الحديث عن سفيان إلا ضمرة"8. وقال البيهقي: "وهم فيه

__________

(10/289) .

(3/638) .

3 الفلسطيني.

4 تهذيب التهذيب: (4/461) .

5 مسائل أبي داود للإمام أحمد: (ص 314) .

6 جامع الترمذي: (3/638) .

7 السنن الكبرى: (5/13) ح 4877.

8 سنن البيهقي: (10/289) .

(3/136)

راويه ... المحفوظ بهذا الإسناد: حديث نهى عن بيع الولاء وهبته"1. وقال البوصيري: "هذا إسناد فيه مقال"2.

ومع ذلك، فقد صححه الحاكم! فقال: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي! وصححه كذلك: عبد الحق، وابن حزم3، وابن القطان4. والقول ما قاله هؤلاء الأئمة، من أنَّ هذا الحديث منكرٌ؛ فإنَّ ضمرة وإن كان صدوقاً، فإنه كان يَهِمُ، وعنده بعض المناكير5، ولعل هذا من مناكيره، والله أعلم.

فتلخص من ذلك: أنَّ حديث سمرة بن جندب هذا معلولٌ كما ذكر ابن القَيِّم رحمه الله، وأن ما وُجدَ له من شاهد عن ابن عمر: منكرٌ، فلا يصلح لتقويته، وبذلك يبقى الحديث على ضعفه، والله أعلم.

ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - حديثاً آخر في هذا الباب، وَأَعَلَّهُ، فقال: "وقد روى البيهقيُّ وغيره، من حديث أبي صالح، عن:

94- (2) ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: جاء رجلٌ - يقال له: صالح - بأخيه فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أَعْتِقَ أخي هذا، فقال: "إِنَّ اللهَ أَعْتَقَهُ حِينَ مَلَكْتَهُ ".

__________

1 سنن البيهقي: (10/289) .

2 مصباح الزجاجة: (2/67) . ط / يوسف الحوت.

3 المحلى: (10/223) . تحقيق / حسن زيدان.

4 التلخيص الحبير: (4/212) .

5 تهذيب التهذيب: (4/461) .

(3/137)

قال ابن القَيِّم: "ولكن في هذا الحديث بَلِيَّتَانِ عظيمتان: العرزمي - وهو عبد الرحمن بن محمد - عن الكلبيِّ: كُسَيْرٌ عن عُوَيْرٍ"1.

قلت: هذا الحديث: أخرجه الدارقطني في (سننه) 2 – ومن طريقه: البيهقي3 – من طريق:

عبد الرحمن بن محمد4 العرزمي، عن أبي النضر5، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما به.

قال الدارقطني عقبه: "العرزميُّ تركه ابن المبارك، ويحيى القطان، وابن مهدي. وأبو النضر هو: محمد بن السائب الكلبي، المتروك أيضاً، وهو القائل: كل ما حَدَّثْتُ عن أبي صالح كذب".

وَتَعَقَّبَ ابن القطان عبد الحق بأنه ذَكَرَ هذا الحديث ولم يُبَيِّنْ علته، ثم أَعَلَّهُ بنحو ما أعله به الدراقطني6.

__________

1 تهذيب السنن: (5/409) .

(4/129) ح 15.

3 السنن: (10/290) .

4 ابن عبيد الله الفزاري، العَرْزَمي. يروي عن: جابر الجعفي، وعبد الملك بن أبي سليمان، وجماعة. روى عنه: ابنه محمد، وعبيد الرحمن بن صالح العتكي وغيرهما. قال أبو حاتم: "ليس بقوي". وضعفه الدارقطني. الجرح والتعديل: (2/2/282) ، والضعفاء والمتروكين للدارقطني: (ص 275) رقم 339.

5 هو: محمد بن السائب بن بشر الكلبي، أبو النضر الكوفي، النسَّابة، مُتَّهَمٌ بالكذب، ورمي بالرفض، من السادسة، مات سنة 146هـ/ ت فق. (التقريب 479) .

6 بيان الوهم والإيهام: (3/553) ح 1332.

(3/138)

فَتَحَصَّلَ من ذلك: أن الأمر على ما وصف ابن القَيِّم رحمه الله، وأن هذا الحديث لا يصحُّ؛ لأن في إسناده مَتْرُوكَيْن كما تقدم، والله أعلم.

(3/139)

15.من كتاب الحدود والدياااااااات

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

15- من كتاب الحدود والديات

1 - باب الشفاعة في الحدود

95- (1) عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دون حَدٍّ من حُدُودِ الله، فَقَد ضَادَّ1 اللهَ في أَمْرِهِ".

قال ابن القيم رحمه الله: "رواه أحمد وغيره بإسناد جيد"2.

قلت: الحديث بهذا اللفظ أخرجه: الطبراني في (الكبير) 3، والحاكم في (المستدرك) 4، كلاهما من طريق:

عبد الله بن جعفر5، عن مسلم بن أبي مريم6، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن ابن عمر رضي الله عنهما به.

وسكت عنه الحاكم والذهبي، وهو ضعيفٌ بهذا الإسناد؛ للاتفاق على ضعفِ عبد الله بن جعفر المديني.

وقد رُوي عن ابن عمر من وجه آخر، من غير طريق عبد الله بن

__________

1 ضَادَّه، مضادَّةً: إذا باينه مخالفةً. (المصباح المنير: 2/359) .

2 إعلام الموقعين: (4/404) .

(12/270) ح 13084.

(4/383) .

5 ابن نَجِيح السَّعدي مولاهم، أبو جعفر المديني، والد عليٍّ، بصريٌ، أصله من المدينة، ضعيف، من الثامنة، يقال: تَغَيَّر حفظه بآخرة، مات سنة 178هـ/ت ق. (التقريب 298) .

6 المدني، مولى الأنصار، ثقة، من الرابعة/ خ م د س ق. (التقريب 530) .

(3/143)

جعفر، فقد أخرجه: أبو داود في (سننه) 1 من طريق:

المثنى بن يزيد2، عن مطر الوراق، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما بمعنى الحديث المتقدم، وفيه زيادة، وهي: "وَمَنْ أَعَانَ عَلى خُصُومَةٍ بِظُلمٍ، فقد بَاء بغضب الله عزوجل".

وهذا الإسناد ضعيف أيضاً؛ لضعف مطر الوراق، وجهالة المُثَنَّى بن يزيد.

ولكنه جاء من طريق ثالث صحيحٍ، وهو ما أخرجه: أحمد في (مسنده) 3، وأبو داود في (سننه) 4والحاكم في (المستدرك) 5،كلهم من طريق: زهير بن معاوية، عن عمارة بن غُزَيَّة6، عن يحيى بن راشد7، عن ابن عمر رضي الله عنهما به. ولفظه: "من حالتْ شفاعته دون حدٍّ

__________

(4/23) ح 3598 ك الأقضية، باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها.

2 بصري أو مدني، مجهولٌ، من الثامنة/ د س. (التقريب 519) .

(2/70) .

(4/23) ح 3597.

(2/27) .

6 ابن الحارث الأنصاري المازِني، المدني، لا بأسَ به، وروايته عن أنس مرسلةٌ، من السادسة، مات سنة 140هـ / خت م 4. (التقريب 409) .

7 ابن مسلم الليثي، أبو هشام الدمشقي، الطويل، ثقة، من الرابعة / د. (التقريب590) .

(3/144)

من حدود الله، فقد ضادَّ الله في أمره، ومن مات وعليه دَيْنٌ، فليس ثمَّ دينار ولا درهم، ولكنها الحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطلٍ وهو يعلم لم يزل في سخط الله حَتَّى يَنْزِعَ، ومن قال في مؤمنٍ ما ليس فيه حبس في رَدْغَةِ الخَبَال1 حتى يأتي بالمخرج مما قال".

قال أبو عبد الله الحاكم: "حديث صحيحُ الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي رحمه الله. وقال الحافظ المنذري: " ... إسناد جيدٌ"2. وقال الشيخ الألباني: "إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم، غير يحيى بن راشد، وهو ثقةٌ"3. وسبق أنَّ ابن القيم جَوَّدَ هذا الإسناد.

فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث صحيحٌ، وأن الضَّعْفَ الواقعَ في بعض طرقه ينجبر بمجيئه من طريقٍ آخر صحيحٍ جَوَّدَهُ ابن القيم - رحمه الله - فأصاب، والله أعلم.

__________

1 الرَّدَْغَةُ - بسكون الدال وفتحها - طينٌ ووحلٌ كثير، وتجمع على رَدَغٌ ورِدَاغٌ. (النهاية 2/215) . والخَبَال في الأصل: الفساد، ويكون في الأفعال والأبدان والعقول، ومعناه في الحديث: عصارة أهل النار. (النهاية 2/8) .

2 الترغيب والترهيب: (3/198) .

3 إرواء الغليل: (7/349) .

(3/145)

2 - باب في قطع جاحد العارية

96- (2) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كانت امرأة مخزومية تَسْتَعِير الْمَتَاع وَتَجْحَدُهُ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد فَكَلَّمُوه، فَكَلَّم أَسَامةُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يا أسامة‍! لا تَزَالُ تَكَلَّمُ في حَدٍّ من حدودِ الله" ثم قامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطيباً، فقال: "إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بأنَّه إذا سَرَقَ فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضَّعيفَ قَطَعُوه، والذي نفسي بيدهِ، لو كانت فَاطِمَةُ ابنةُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعَ يَدَهَا".

ذكر ابن القيم - رحمه الله - أن طائفةً من الناس أعَلَّت هذا الحديث، فقالوا: إن معمراً تفرد من بين سائر الرواة بذكر "العارية"، وخالفه سائر أصحاب الزهري فقالوا: "سرقت"، ومعمر لا يقاوِمُ هؤلاء.

قالوا: ثم إن الحديث لو ثبت، فإن وصف العارية إنما هو لمجرد التعريف بالمرأة، لا أنه سبب قطع يدها1.

ثم أخذ ابن القيم - رحمه الله - في الجواب عن ذلك، فقال: "فأما تعليله بما ذُكِرَ: فباطلٌ". ثم بَيَّنَ أن معمراً تُوبع على هذه اللفظة، وسيأتي الكلام على هذه المتابعات إن شاء الله.

__________

1 تهذيب السنن: (6/209) .

(3/146)

ثم ذكر ابن القيم - رحمه الله - أن لحديث عائشة شاهداً من رواية ابن عمر رضي الله عنهما، بمثل رواية معمر، وبَيَّنَ أنَّ هذا اللفظ روي أيضاً عن سعيد بن المسيب مرسلاً عند النسائي1، وبذلك تزول دعوى تفرد معمر بهذه الرواية.

ثم أخذ في الجواب على بقية ما أُعِلَّ به هذا الحديث، وسيأتي كلامه أثناء البحث إن شاء الله.

قلت: هذا الحديث معروفٌ من حديث عائشة رضي الله عنها، ومداره على: الزهري، عن عروة بن الزبير، عنها. وقد رُوِيَ - كما تقدم - على وجهين: "أَنَّ امرأةً سرقت"، و "أَنَّ امرأةً كانت تستعير المتاعَ فتجحده".

أما رواية السَّرقة: فقد أخرجها أصحاب الكتب الستة2، والدارمي في (مسنده) 3 من طريق: الليث. وأخرجه البخاري، ومسلم

__________

1 تهذيب السنن: (6/210) .

2 خ: ك أحاديث الأنبياء، ح 3475 (الفتح 6/513) . وفي ك فضائل الصحابة، باب ذكر أسامة بن زيد ح 3732 (فتح الباري: 7/87) . م: (3/1315) ح 1688 (8) ، باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود. د: (4/537) ح 4373، ك الحدود، باب في الحد يشفع فيه. ت: (4/37) ح 1430، ك الحدود، باب كراهية أن يشفع في الحدود. س: (8/73) ك قطع السارق، باب ما يكون حرزاً، وما لا يكون. جه: (2/851) ح 2547، ك الحدود، باب الشفاعة في الحدود.

(2/94) ح 2307، ك الحدود، باب الشفاعة في الحدود دون السلطان.

(3/147)

في (صحيحيهما) 1، والنسائي في (سننه) 2 من طريق: يونس بن يزيد. وأخرجه النسائي3 من طريق: إسماعيل بن أمية، ومن طريق: إسحاق بن راشد. كلهم عن: الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أَهَمَّهُم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فذكر الحديث بنحو ما تقدم، وزاد ابن ماجه وحده في آخر قول محمد بن رمح - راويه عن الليث -: "سمعت الليث بن سعد يقول: قد أعاذها الله - عزوجل - أن تسرق، وكل مسلم ينبغي له أن يقول هذا" يعني: فاطمة رضي الله عنها.

كذا رواه هؤلاء الجماعة: الليث، ويونس، وإسماعيل بن أمية، وإسحاق بن راشد: عن الزهري بلفظ: "سرقت".

وخالف هؤلاء جميعاً: معمر بن راشد، فقال فيه: "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده". أخرجه: عبد الرزاق في (مصنفه) 4: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة به، ولفظه هو المذكور

__________

1 خ: ك الشهادات، باب شهادة القاذف والسارق والزاني، ح2648 (الفتح 5/255) ، وفي ك المغازي، ح4304 (الفتح8/24) . م: (3/1315) ح1688 (9) .

(8/74) .

(8/74) .

(10/201) ح 18830 ك اللقطة، باب الذي يستعير المتاع ثم يجحده.

(3/148)

أول هذا البحث. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه: مسلم في (صحيحه) 1، وأبو داود في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3 - ومن طريقه البيهقي في (سننه) 4 - من طرق، عن عبد الرزاق به.

وقد ادُّعِيَ - كما مرَّ في كلام ابن القيم رحمه الله - أن معمراً قد تَفَرَّدَ عن الزهري بهذا اللفظ، فقال النوويُّ: " ... إن جماعةً من الأئمة قالوا: هذه الرواية شاذة؛ فإنها مخالفة لجماهير الرواة، والشاذة لا يُعْمَلُ بها"5. ونقل ابن حجر مثل ذلك عن: ابن المنذر، والمحب الطبري، والقاضي عياض. وقال القرطبي: "رواية أنها سرقت أكثر وأشهر من رواية الجحد، فقد انفرد بها معمر وحده من بين الأئمة الحفاظ، وتابعه على ذلك من لا يُقْتَدى بحفظه: كابن أخي الزهري ونمطه. هذا قول المحدثين"6.

ودعوى انفراد معمر بهذا لا تصحُ؛ فإنه قد وافقه عليه جماعة كما بَيَّنَ ابن القيم رحمه الله، ومن هؤلاء الذين تابعوه:

__________

(3/1316) ح 1688 (10) .

(4/538) ح 4374. و (4/557) ح 4397.

(6/162) .

(8/280) .

5 شرح مسلم: (11/188) .

(69 فتح الباري: (12/90 - 91) .

(3/149)

1- شعيب بن أبي حمزة1: أخرجه النسائي في (سننه) 2 من حديث: بشر بن شعيب3، عن أبيه، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: استعارت امرأةٌ على ألسنة أناسٍ يُعْرَفُون وهي لا تُعْرَف حُلِيّاً، فباعته وأخذت ثمنه، ... الحديث، وفي آخره: "ثم قطعت تلك المرأة".

2- يونس بن يزيد4: أخرج حديثه أبو داود في (سننه) 5 من طريق: الليث، حدثني يونس، عن ابن شهاب ... فذكره بنحو حديث شعيب الذي قبله، وأخرجه البيهقي في (سننه) 6 من طريق أبي داود.

ولكن اختلف على يونس في هذا الحديث سنداً ومتناً: فرواه أبو داود عن الليث عن يونس هكذا، وخالف اللَّيْثَ: عبد الله بن وهب7، وعبد الله بن المبارك8، فروياه عن: يونس، عن الزهري، عن عروة، عن

__________

1 الأموي مولاهم، واسم أبيه: دينار، أبو بشر الحمصي، ثقةٌ عابدٌ، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهري، من السابعة، مات سنة 162هـ أو بعدها/ ع. (التقريب 267) .

(8/73) .

3 أبو القاسم الحمصي، ثقة، من كبار العاشرة، توفي سنة 213هـ / خ ت س. (التقريب 123) .

4 هو: الأيلي.

(4/556) ح 4396.

(8/280) .

7 تقدمت روايته عند البخاري برقم (2648) .

8 تقدمت روايته عند البخاري برقم (4304) .

(3/150)

عائشة: أن امرأة سرقت في غزوة الفتح ... الحديث.

قال البيهقي - رحمه الله - عن رواية ابن وهب وابن المبارك هذه: "وروايتهما أولى بالصحة من رواية أبي صالح"1.

3- أيوب بن موسى2: وقد اختُلِفَ على أيوب في روايته - أيضاً - سنداً ومتناً، فأخرجه البخاري في (صحيحه) 3 عن علي بن المديني، حدثنا ابن عيينة، قال: ذهبت أسأل الزهري عن حديث المخزومية فصاح بي. قلت لسفيان: فلم تحمله عن أحدٍ؟ قال: وجدته في كتاب كان كتبه أيوب بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: "أن امرأة من بني مخزوم سرقت ... " الحديث.

وأخرجه النسائي في (سننه) 4 من حديث إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان قال: "كانت مخزومية تستعير متاعاً وتجحده" ... قيل لسفيان: من ذكره؟ قال: أيوب بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة إن شاء الله تعالى. ثم أخرجه النسائي5 من حديث: محمد بن منصور، عن سفيان، عن أيوب بن موسى هكذا متصلاً، وفيه: "أن امرأة سرقت".

__________

1 سنن البيهقي: (8/281) .

2 ابن عمرو بن سعيد بن العاص، أبو موسى المكي الأموي، ثقة، من السادسة، مات سنة 132هـ / ع. (التقريب 119) .

3 ح رقم 3733 (الفتح 7/87) .

(8/72) .

5 السنن: (8/72) .

(3/151)

ثم أخرجه من طريق: رزق الله بن موسى، عن سفيان، عن أيوب بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعه، قالوا: ما كنا نريد أن يبلغ منه هذا. قال: "لو كانت فاطمة لقطعتها"1. وأخرجه أحمد في (مسنده) 2: ثنا سفيان فذكره بمثل حديث رزق الله بن موسى، وزاد في آخره: "ثم قال سفيان: لا أدري كيف هو".

قال الحافظ العراقي: "وابن عيينة لم يسمعه من الزهري، ولا ممن سمعه من الزهري، إنما وجده في كتاب أيوب بن موسى، ولم يصرح بسماعه من أيوب بن موسى، ولهذا قال في رواية أحمد: لا أدري كيف هو"3.

4- ابن أخي الزهري: وهذه المتابعة أخرجها ابن أيمن في (مصنفه) كما قال ابن حجر4.

فهؤلاء أربعةٌ تابعوا معمراً على روايته هذا الحديث بلفظ "العارية": يونس بن يزيد، وشعيب بن أبي حمزة، وأيوب بن موسى، وابن أخي الزهري. أما رواية يونس، وأيوب، فقد اختلف عليهما كما مضى، وسلمت رواية شعيب، وابن أخي الزهري. وشعيب من أثبت

__________

1 سنن النسائي: (8/72) .

(6/41) .

3 فتح الباري: (12/90) .

4 فتح الباري: (12/90) .

(3/152)

الناس في الزهري - كما قال ابن معين1 رحمه الله - فلو لم توجد إلا روايته لكانت كافيةً لدفع دعوى التفرد عن رواية معمر، فكيف وقد انضم إليها غيرها؟

وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - من هذه المتابعات: رواية أيوب ابن موسى، وشعيب بن أبي حمزة، ردًّا على من أعلَّ الحديث بتفرد معمر، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك أول البحث.

فثبت أن الحديثين محفوظان عن الزهري، لذا فإنه لا سبيل لإعلال أحدهما بالآخر، بل إن الجمع بينهما أولى، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "والذي اتَّضَحَ لي: أن الحديثين محفوظان عن الزهري، وأنه كان يُحَدِّثُ تارةً بهذا وتارةً بها، فَحَدَّثَ يونس عنه بالحديثين، واقتصرتْ كلُّ طائفة من أصحاب الزهري - غير يونس - على أحد الحديثين"2.

ثم نقل ابن حجر - رحمه الله - عن بعض الْمُحَدِّثِين أنه عَكَسَ القضية على من طَعَنَ في رواية معمر، فقال: لم يختلف على معمر ولا على شعيب، وهما في غاية الجلالة في الزهري، وقد وافقهما ابن أخي الزهري. وأما الليث ويونس - وإن كانا في الزهري كذلك - فقد اختلف عليهما فيه. وأما إسماعيل بن أمية وإسحاق بن راشد3: فدون معمر وشعيب في الحفظ. ثم قال رحمه الله: "وعلى هذا، فيتعادل الطريقان، ويتعين

__________

1 سؤالات ابن الجنيد لابن معين (رقم 507) .

2 فتح الباري: (12/90) .

3 وقد روياه عن الزهري بلفظ "السرقة".

(3/153)

الجمعُ، فهو أولى من اطِّراح أحد الطريقين"1.

قلت: ومعنى هذا الكلام: أنَّا إذا استثنينا رواية من اختلف عليه من الطرفين، فإنه يتحصل عندنا: أن معمراً، وشعيب بن أبي خالد روياه بلفظ "العارية"، وفي مقابلهما: إسماعيل بن أمية، وإسحاق بن راشد، وقد روياه بلفظ "السرقة"، وهما دون الأولين، وهذا إيراد متينٌ، وبه تزداد رواية معمر - ومن تابعه - قوةً، ويبعد أيُّ احتمال لإعلالها. هذا فيما يتعلق بالجواب عمَّا أُعِلَّتْ به رواية العارية.

وأما ما ذهبوا إليه من تأويل رواية العارية - على فرض ثبوتها -: بأن القطع كان للسرقة لا للعارية، وأن ذكر العارية إنما هو للتعريف المجرد بالمرأة، فإنَّ هذه محاولة للجمع بين الروايتين بعد تسليم ثبوت رواية العارية، وقد قرر البيهقيُّ - رحمه الله - ذلك بقوله: "ويحتمل أن يكون رواية من روى العارية على تعريفها، والقطع كان سبب سرقتها التي نُقلت في سائر الروايات، فلا تكون مختلفة، ويكون التقدير: أن امرأةً مخزومية كانت تستعير المتاعَ وتجحده - كما رواه معمر - سرقتْ - كما رواه غيره - فقطعت، يعني للسرقة"2.

وقد ردَّ ابن القيم - رحمه الله - هذا التأويل ودفعه، فقال: "وأما قولهم: إن ذكر جحد العارية للتعريف، لا أنه الْمُؤَثِّرُ: فكلامٌ في غاية الفساد، لو صحَّ مثله - وحاشا وكلاَّ - لذهب من أيدينا عامة الأحكام

__________

1 فتح الباري: (12/91) .

2 السنن: (8/281) .

(3/154)

المترتبة على الأوصاف، وهذه طريقة لا يرتضيها أئمة العلم، ولا يرُدُّونَ بمثلها السنن، وإنما يسلكها بعض الْمُقَلِّدين من الأتباع"1.

ثم أَكَّدَ ابن القيم - رحمه الله - كون جحد العارية سبب القطع بما جاء في رواية ابن عمر رضي الله عنهما: أن امرأة كانت تستعير الحُلِيَّ للناس ثم تمسكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتب هذه المرأة إلى الله ورسوله، وتَرُدُّ ما تأخذ على القوم" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها" 2. وفي رواية أخرى أنه قال: "لتتب هذه المرأة، ولتؤدي ما عندها". مراراً، فلم تفعل، فأمر بها فقطعت3.

فهذا الحديث صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطعها من أجل جحدها العارية، قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا يُبْطِلُ قول من قال: إن ذكر هذا الوصف للتعريف المجرد"4.

ولكن ذكر البيهقي أن حديث ابن عمر هذا قد اختلف عن نافع في إسناده5.

ثم ذهب ابن القيم - رحمه الله - إلى أن الجمع بين الخبرين ممكنٌ، ذلك أنه لا تنافي بين جحد العارية وبين السرقة؛ فإن ذلك داخلٌ في اسم

__________

1 تهذيب السنن: (6/211) .

2 أخرجه النسائي في سننه: (8/71) .

3 أخرجه النسائي أيضاً: (8/71) .

4 تهذيب السنن: (6/210) .

5 سنن البيهقي: (8/281) .

(3/155)

السرقة، قال: "فإن هؤلاء الذين قالوا: إنها جحدت العارية، وذكروا أن قطعها لهذا السبب، قالوا: إنها سرقت، فأطلقوا على ذلك اسم السرقة. فثبت لغةً: أن فاعل ذلك - يعني جحد العارية - سارقٌ، وثبت شرعاً أن حَدَّهُ قطع اليد"1.

وَتَعَقَّبَهُ الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: "كذا قال، ولا يخفى بُعْدُهُ"2.

فتلخص من ذلك: أن حديث المخزومية التي قطعت ثابتٌ، وأن ما ذُكِرَ فيه من أن هذه المرأة كانت تجحد العارية: صحيحٌ لا وجه لإعلاله، كما قَرَّرَه ابن القيم رحمه الله، وتأكد من خلال هذه الدراسة.

ولكن مع ثبوت هذا الحديث، يبقى الخلاف في: هل قَطْعُ هذه المرأة كان للسرقة، أو لجحد العارية؟ الجمهور على أنها قطعت للسرقة، وأن ما ذكر من جحدها للعارية صفة لها، لا أنه سبب القطع. وأيضاً: فإن جاحد العارية لا يقطع قياساً على المختلس والمنتهب والخائن، الذين جاء النص بعدم قطعهم. وأيضاً: لو قيل بقطع جاحد العارية لقطع جاحد غير العارية، ولا يقولون به. فهذا مذهب جمهور العلماء: أنه لا قطع على جاحد العارية3.

__________

1 تهذيب السنن: (6/211) .

2 فتح الباري: (12/92) .

3 فتح الباري: (12/90) .

(3/156)

وتمسك ابن القيم - رحمه الله - بظاهر الحديث، ولم يرَ فرقاً بين السارق والجاحد في القطع، وهو مذهب الإمام أحمد والظاهرية، والله أعلم.

(3/157)

3 - باب ما جاء في الرجل يزني بجارية امرأته

97- (3) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه في رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، أَنَّهُ قَال: لأَقْضِيَنَّ فيكَ بِقَضِيَّةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: "إِنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَكَ جَلَدْتُكَ مِائَة، وإن لم تكن أحلتها لك رَجَمْتُكَ بِالْحِجَارِةِ"، فوجدوه قد أحلتها له، فَجَلَدَهُ مائة.

ذكر ابن القيم هذا الحديث، وعزاه إلى (المسند) و (السنن الأربعة) ، ثم نقل كلام الأئمة في تضعيفه: فالترمذي والنسائي أعلاَّه بالاضطراب، والبخاري قال بانقطاعه، وأعله أبو حاتم بجهالة خالد بن عُرْفُطَة. ثم ذكر عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه أخذ بهذا الحديث في ظاهر مذهبه. ثم أخذ - رحمه الله - في الدفاع عن هذا الحديث والتوجه إلى تقويته، فقال: "فإن الحديث حسنٌ، وخالد بن عرفطة قد روى عنه ثِقَتَان: قتادة، أبو بشر، ولم يُعرفْ فيه قدحٌ، والجهالة ترتفع عنه برواية ثقتين"1.

قلت: هذا الحديث مداره على حبيب بن سالم2، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، ويرويه عن حبيب بن سالم جماعة:

__________

1 زاد المعاد: (5/37 - 38) .

2 الأنصاري، مولى النعمان بن بشير وكاتبه، لا بأس به، من الثالثة/ م 4. (التقريب151) .

(3/158)

فأخرجه الترمذي في (جامعه) 1، والنسائي وابن ماجه في (سننيهما) 2، وأحمد في (مسنده) 3، من طريق: قتادة، عن حبيب بن سالم، أنه قال: رُفِعَ إلى النعمان بن بشير رجلٌ وقع على جارية امرأته، فقال: لأقضين ... الحديث، ووقع في رواية أحمد: "رُفِعَ إلى النعمان رجلٌ أَحَلَّت له امرأته جاريتها". أما لفظ النسائي عن النعمان: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في رجل ... " بدون ذكر قصة الرجل الذي رُفع إليه.

وهذا الإسناد منقطعٌ؛ فإنَّ قتادة لم يسمع هذا الحديث من حبيب ابن سالم، كما قال البخاري4 رحمه الله، وقد سأله عنه الترمذي؟ فقال: "أنا أنفي هذا الحدث، إنما رواه قتادة، عن خالد بن عرفطة، عن حبيب ابن سالم"5.

وحديث قتادة، عن خالد بن عرفطة هذا: أخرجه أبو داود، والنسائي في (سننيهما) 6، وأحمد، والدارمي في (مسنديهما) 7، كلهم من طريق:

__________

(4/54) ح 1451 ك الحدود، باب الرجل يقع على جارية امرأته.

2 س: (6/124) ك النكاح، باب إحلال الفرج. جه: (2/853) ح 2551 ك الحدود، باب من وقع على جارية امرأته.

(4/272) .

4 انظر: جامع الترمذي: (4/54) .

5 علل الترمذي: (2/614) .

6 د: (4/604) ح 4458. س: (6/124) .

7 حم: (4/275 - 276) ، مي: (2/102) ح 2334.

(3/159)

أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن خالد بن عرفطة1، عن حبيب ابن سالم: أن رجلاً يقال له عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته، فرفع إلى النعمان ... الحديث، وفي آخره: قال قتادة: "كتبتُ إلى حبيب ابن سالم فكتب إليَّ بهذا".

وخالد بن عرفطة: جَهَّلَهُ أبو حاتم، والبزار2، قال أبو حاتم: "خالد بن عرفطة مجهولٌ، لا نعرف أحداً يقال له خالد بن عرفطة إلا واحد، الذي له صحبة"3. وقال الذهبي: "لا يُعرف"4.

وأما ما قاله ابن القيم رحمه الله، من أن خالداً هذا روى عنه ثقتان، وبذلك تزول عنه الجهالة: فإنه غير مُسَلَّم؛ لأنه وإن ارتفعت عنه جهالة العين برواية أكثر من واحد، فإنه يبقى مجهول الحال؛ لأنه لم يوثقه أحد، فالحكم بصحة هذا الإسناد أو حسنه متوقف على العلم بحال خالد هذا، نعم وثقه ابن حبان5، ولكن قد علم أن ابن حبان لا يعتمد قوله في ذلك، لما عُرِفَ من توثيقه المجهولين، فكيف إذا عورض توثيقه بتجهيل مثل أبي حاتم، والبزار لهذا الرجل؟

وقد رُوي الحديث عن قتادة على غير هذين الوجهين:

__________

1 مقبولٌ، من السادسة/ بخ د س. (التقريب 189) .

2 انظر: تهذيب التهذيب: (3/107) .

3 الجرح والتعديل: (1/2/340) ، وعلل ابن أبي حاتم: (1/448) .

4 المغني: (1/204) .

5 الثقات: (6/258) .

(3/160)

فأخرجه النسائي في (الكبرى) 1، والبيهقي في (سننه) 2 من طريق:

همام بن يحيى، عن قتادة، عن حبيب بن سالم، عن حبيب بن يساف3: أن رجلاً وَطِئ جارية امرأته، فرفع إلى النعمان ... الحديث.

وقد سُئِلَ أبو حاتم عن حديث همام عن قتادة، وحديث أبان عن قتادة الماضي، فقال: "حديث همام أشبه". ثم قال: "وحبيب بن يساف مجهولٌ، لا أعلم أحداً روى عنه غير قتادة هذا الحديث الواحد"4.

قلت: ومع جهالة حبيب بن يساف، فقد رواه هَمَّام من وجه آخر، فرواه عن قتادة، عن حبيب بن يساف، عن حبيب بن سالم، فعكسه. أخرجه البيهقي في (سننه) 5 بإسناده إلى همام.

فهذه أربعة أوجه عن قتادة في رواية هذا الحديث.

وقد روى من وجه آخر عن حبيب بن سالم، فأخرجه الترمذي في (جامعه) 6، و (علله) 7، والنسائي في (الكبرى) 8، والطيالسي في

__________

(5/237) ح 5528.

(8/239) .

3 مجهولٌ، من الثالثة/ س. (التقريب 152) .

4 علل ابن أبي حاتم: (1/448) .

(8/239) .

(4/54) ح 1452.

(2/614) .

(5/237) ح 5527.

(3/161)

(مسنده) 1 - ومن طريقه البيهقي2 - كلهم من طريق:

هشيم، عن أبي بشر3، عن حبيب بن سالم: أن امرأة أتت النعمان بن بشير فقالت: إن زوجي وقع على جاريتي بغير إذني، فقال النعمان: إن عندي في هذا قضاءً شافياً أخذته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لم تكوني أذنتِ له رجمته، وإن كنتِ أذنتِ له جلدته مائة".فقال لها الناس: ويحك! أبو ولدك يرجم؟ فجاءت فقالت: قد كنت أذنت له، ولكني حملتني الغيرة على ما قلت. فجلده مائة. وهذا سياق أبي داود الطيالسي.

وهذا الإسناد منقطعٌ أيضاً، قال الترمذي: "وأبو بشر لم يسمع من حبيب بن سالم هذا أيضاً، إنما رواه عن خالد بن عرفطة". وكذا قال البيهقي في (سننه) وفي (المراسيل) 4 لابن أبي حاتم، بإسناده إلى شعبة، أنه قال: "لم يسمع أبو بشر من حبيب بن سالم". وفي (تهذيب التهذيب) 5 قول يحيى بن سعيد: "كان شعبة يضعف أحاديث أبي بشر عن حبيب بن سالم".

__________

(ح 796) .

2 في سننه: (8/239) .

3 هو: جعفر بن إياس، أبو بشر بن أبي وَحْشِيَّة، ثقةٌ، من أثبت النَّاس في سعيد بن جبير، وَضَعَّفَهُ شعبة في حبيب بن سالم وفي مجاهد، من الخامسة، مات سنة 125هـ وقيل: 126هـ / ع. (التقريب 139) .

(ص 26) .

(2/83) .

(3/162)

وقد رواه عنه شعبة نفسه متصلاً، فأخرجه أبو داود والنسائي في (سننيهما) 1، وأحمد، والدارمي في (مسنديهما) 2، والحاكم في (المستدرك) 3 - وأخرجه البيهقي4 من طريق أحمد - كلهم من طريق:

شعبة، عن أبي بشر، عن خالد بن عرفطة، عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه ذكر قصة الرجل الذي وقع على جارية امرأته.

فرجع الحديث بذلك إلى خالد بن عرفطة الماضي ذكره، وقد تَقَدَّمَ من كلام أبي حاتم، والبزار، والذهبي: أنه مجهول، فَيُتَعَجَّبُ حينئذٍ من الحاكم رحمه الله، إذ قال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي، مع قوله في خالد بن عرفطة: "لا يعرف". كما تقدم نقل ذلك عنه.

ويتلخص من ذلك: أن هذا الحديث يدور إسناده ما بين: الضعف، والانقطاع، والاضطراب، وقد تقدمت أقوال بعض الأئمة في ذلك، ويضاف هنا قول الترمذي - عقب تخريجه هذا الحديث -: "حديث النعمان في إسناده اضطراب". وقال النسائي: "أحاديث النعمان

__________

1 د: (4/605) ح 4459. س: (6/123) .

2 حم: (4/277) . مي: (2/103) ح 2335.

(4/365) .

(8/239) .

(3/163)

هذه مضطربة"1. وقال الخطابي: "هذا حديث غير متصل، وليس العمل عليه"2.

ولذلك فإن حكم ابن القيم - رحمه الله - على هذا الحديث بالحُسْنِ فيه نظرٌ، ومع أنه قد وقف على أقوال الأئمة في إعلاله - بل ونقلها - إلا أنه لم يتعرض في جوابه إلا للقول بجهالة خالد بن عرفطة، مع أنَّ إعلاله بالاضطراب قوي، والله أعلم.

98- (4) عن سلمة بن الْمُحَبِّق رضي الله عنه: "أَنَّ رَسول الله قَضى في رَجُلٍ وَقَع على جَارِيَةِ امرأته: إنِ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا، فَهِي حُرَّةٌ، وعليه لسيدتها مثلها، وإن كانت طَاوَعَتْهُ، فهي له، وعليه لسيدتها مثلها".

ذكر ابن القيم هذا الحديث وَعَلَّقَ القول به على ثبوت صِحَّتِه، فقال: "وأما حديث سلمة بن المحبق، فإنْ صَحَّ، تَعَيَّنَ القولُ به ولم يعدل عنه". ثم نقل أقوال الأئمة: النسائي، وأحمد، وابن المنذر، والخطابي، والبيهقي في تضعيف هذا الحديث.

ثم بَيَّنَ - رحمه الله - أن جماعةً قبلوه، وهؤلاء فريقان: فريق قال بأنه منسوخ، وفريق ثانٍ قال هو مُحْكَمٌ، وَبَيَّنَ وجهه.

هكذا يعرض ابن القيم موقف العلماء من هذا الحديث، ويُبْدي تَوَقُّفَهُ فيه، على أنه - في نظره - إن صحَّ تعين القول به؛ لأنه موافق

__________

1 تحفة الأشراف: (9 / 17 - 18) .

2 معالم السنن: (6/269) .

(3/164)

للقياس، ولا يضرُّ حينئذٍ كثرة المخالفين1.

على أنَّ ابن القيم - رحمه الله - في موضع آخر يرى احتمال تحسين هذا الحديث، فيقول: "وضعَّفه بعضهم من قِبَلِ إسناده، وهو حديثٌ حسنٌ، يَحْتَجُّون بما هو دونه في القوة، ولكن لإشكاله أقدموا على تضعيفه، مع لينٍ في سنده"2

والظاهر أن هذا الحكم الأخير هو اختياره؛ لأنه حتى حينما كان متوقفاً عن تصحيح هذا الحديث، نجد أنه كان يميل إلى العمل به، وأن العمل بمقتضاه هو الذي يوافق القياس.

قلت: هذا الحديث مداره على الحسن بن أبي الحسن البصري، واختلف عليه:

فقيل: عنه، عن سلمة بن المحبق. أخرجه أبو داود والنسائي في (سننيهما) 3، وأحمد في (مسنده) 4، والترمذي في (علله) 5 من طريق: سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة. وأخرجه أحمد في (المسند) 6، والطبراني في (الكبير) 7، والبيهقي في (السنن) 8 من طريق: عمرو بن دينار.

__________

1 زاد المعاد: (5/39 - 40) .

2 إعلام الموقعين: (2/24) .

3 د: (4/607) ح 4461. س: (6/125) .

(5/6) .

(2/616) .

(5/6) .

(7/51) ح 6337، 6338.

(8/240) .

(3/165)

وأخرجه ابن ماجه، والدارقطني في (سننيهما) 1 من طريق: عبد السلام بن حرب، عن هشام بن حسان. وأخرجه أحمد في (المسند) 2 من طريق: المبارك بن فضالة، كلهم عن:

الحسن البصري، عن سلمة بن الْمُحَبَّق، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو اللفظ المتقدم، لكن وقع عند أبي داود: "وإن كانت طاوعته فهي ومثلها من ماله لسيدتها". وكذا عند النسائي، لكن بلفظ: " ... وإن كانت طاوعته فهي لسيدتها ومثلها من ماله". وأما لفظ هشام بن حسان عند ابن ماجه والدارقطني فهكذا: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه رجل وقع على جارية امرأته، فلم يحدّه".

وهذا الإسناد منقطع؛ فإن بين الحسن وسلمة فيه: قبيصة بن حريث، قال الترمذي: "سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث؟ فقال: رواه الفضل بن دلهم، ومنصور بن زاذان، وسلام بن مسكين: عن الحسن، عن قبيصة بن حريث، عن سلمة بن المحبق، وهو أصحُّ من حديث قتادة"3. وقال ابن أبي حاتم في (علله) 4: "قلت - يعني لأبيه-: الحسن عن سلمة مُتَّصِل؟ قال: لا، حدثنا القاسم بن سلام، عن أبيه، عن الحسن، قال: حدثني قبيصة بن حريث، عن سلمة بن المحبق، عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأدخل بينهما قبيصة بن حريث، فاتَّصَل الإسناد. قلت: -

__________

1 جه: (2/853) ح 2552. قط: (3/84) ح 11.

(3/476) .

3 علل الترمذي: (2/616) .

(1/447 - 448) ح 1346.

(3/166)

القائل ابن أبي حاتم - الحسن سمع من سلمة، وقال1 محمد بن مسلم الطائفي: عن عمرو بن دينار، عن الحسن: سمعت سلمة بن المحبق؟ قال: هذا عندي غلط غير محفوظ".

ومما يؤكد ما ذهب إليه البخاري وأبو حاتم رحمهما الله: أنه وقع في رواية الطبراني - وهي من طريق علي بن المديني، عن عمرو بن دينار، عن الحسن -: قال علي بن المديني: فقلت لسفيان: فإنَّ قتادةَ يقول: عن الحسن، عن قبيصة بن حريث، عن سلمة بن المحبق؟ فقال لسفيان: قال عمرو: بينهما إنسان أو رجل؟ فقال له الهذلي - يعني أبا بكر الهذلي -: بينهما قبيصة بن حريث. قال سفيان: وإنما عُرِفَ هذا الهذلي أنه من قوم سلمة2.

وأخرج الحديث بهذا الإسناد المتصل: عبد الرزاق في (مصنفه) 3، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن، عن قبيصة بن حريث4، عن سلمة بن المحبق رضي الله عنه به، باللفظ المذكور أول البحث. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه: أبو داود، والنسائي في (سننيهما) 5، وأحمد في (مسنده) 6،

__________

1 هذه الجملة واقعة موقع التعليل لما قبلها؛ فكأنه قال: لأن الطائفي قال: عن عمرو بن دينار ... إلخ. والجملة في سياق السؤال.

2 المعجم الكبير: (7/52) .

(7/342) ح 13417.

4 ويقال: حريث بن قبيصة، والأول أشهر، الأنصاري، البصري، صدوقٌ، من الثالثة، مات سنة 67هـ / د ت س. (التقريب 453) .

5 د: (4/605) ح 4460. س: (6/124) .

(5/6) .

(3/167)

والطبراني في (الكبير) 1. فثبت بذلك أنَّ قتادة عنده - أيضاً - فيه رواية متصلة، وأن ذلك هو الصحيح عنه.

وأخرجه الطبراني في (الكبير) 2، وابن أبي حاتم في (العلل) 3 عن أبيه، والبيهقي في (السنن) 4 من طريق: سلام بن مسكين5، عن الحسن، عن قبيصة، عن سلمة بن المحبق رضي الله عنه به، وفيه قصة، وهي: أن امرأة أرسلت جاريتها مع زوجها في سفر تخدمه، فوقع بالجارية، فأخبرت المرأة النبي صلى الله عليه وسلم ... فذكره، وفي آخره: "ولم يقم فيه حَدّاً".

فثبتَ بذلك اتصال الحديث من وجهين عن الحسن رحمه الله، وأن الأئمة: البخاري، وأبا حاتم رَجَّحَا هذه الرواية الموصولة، ورأيا أنها أصح من تلك.

فهذان وجهان عن الحسن في رواية هذا الحديث، وقد رُوي عنه على وجه ثالث، فأخرجه الطبراني في (الكبير) 6، والبيهقي في

__________

(7/51) ح 6336.

(7/52) ح 639.

(1/247 - 248) .

(8/240) .

5 ابن ربيعة الأزدي، البصري، أبو روح، ثقةٌ رُمِيَ بالقدر، من السابعة، مات سنة 167هـ / خ م د س ق. (التقريب 261) .

(7/51) ح 6335.

(3/168)

(السنن) 1، من طريق: شعبة، عن:

قتادة، عن الحسن، عن جون بن قتادة2، عن سلمة بن المحبق به.

وجون هذا: قال عنه الإمام أحمد: "لا يُعرف"3. وذكره علي بن المديني ضمن المجهولين من شيوخ الحسن البصري4. ولعلَّ هذا من الاضطراب في هذا الحديث على قتادة، عن الحسن، وقد حكم عليه العقيلي بذلك كما سيأتي.

وقد تقدم معنا أن جماعةً من أهل العلم ضَعَّفُوا هذا الحديث ولم يثبتوه، وبالنظر إلى كلامهم، نجد أنهم حملوا في هذا الحديث على "قبيصة بن حريث" فذهب الإمام أحمد، والخطابي، والبيهقي إلى أنه لا يُعرف، وقال البخاري: "في حديثه نظر". كما نقل عنهم ذلك ابن القيم5 رحمه الله، ومن قبله المنذري6.

وقبيصة هذا: لم يرو عنه إلا الحسن، ولم يوثقه - مع ذلك -

__________

(8/240) .

2 ابن الأعور بن ساعدة التميمي ثم السعدي، البصري، لم تصح صحبته، ولأبيه صحبة، وهو مقبول، من الثانية/ د س. (التقريب 143) .

3 الميزان: (1/427) ، وتهذيب التهذيب: (2/122) .

4 تهذيب التهذيب: (2/122) .

5 زاد المعاد: (5/39) .

6 مختصر السنن: (6/271) .

(3/169)

أحدٌ إلا ابن حبان1، وذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أن أبا العرب التميمي نقل توثيقه عن العجلي2، ولم أجده في (ثقات) العجلي، وقد ذكره ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 3 ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً على عادته في أمثاله. فالظاهر - والله أعلم - أن الرجل مجهولٌ كما حَكَمَ به غيرُ واحد من الأئمة: أحمد، والخطابي، والبيهقي، وجهله كذلك: ابن القطان4، وضعفه ابن حزم5. بالإضافة إلى قول البخاري: "في حديثه نظر"6.

ولذلك ضَعَّفَ الأئمة هذا الحديث كما تقدم، وقال النسائي - وقد ساق الحديث من طرق-: "ليس في هذا الباب شيء صحيح يحتجُّ به"7. وقال ابن المنذر: "لا يثبت"8. وقال الخطابي: "منكر"9. وقال العقيلي: "حديث فيه اضطراب"10. هذا بالإضافة إلى ما تقدم من تضعيف الإمام أحمد والبخاري له.

__________

1 الثقات: (5/319) .

2 تهذيب التهذيب: (8/346) .

(3/2/125) .

4 بيان الوهم والإيهام: (4/135) .

5 فقال: "ضعيف مطروح" (تهذيب التهذيب: 8/346) .

6 الميزان: (3/383) .

7 السنن الكبرى: (6/448) .

8 مختصر السنن: (6/272) .

9 معالم السنن: (6/271) .

10 الضعفاء: (3/484) .

(3/170)

فتلخص: أن هذا الحديث ضعيفٌ، كما ذهب إليه أكثر أهل العلم، وعلى هذا، فاحتمال تحسينه - كما يرى ابن القيم - تَبَيَّنَ مِمَّا قَرَّروهُ - أنه مرجوح، وربما ظهرَ له هذا أولاً ثم رجع عنه؛ فقد تقدم أنه - رحمه الله - توقف فيه مرةً، وعَلَّقَ القول به على ثبوت صحته، وبناءً على ذلك فلا يحكم بمخالفته - رحمه الله - لهؤلاء الأئمة، والله أعلم.

(3/171)

4- باب فيمن تزوج بامرأة أبيه

99- (5) عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: "بَيْنَمَا أَنَا أَطُوفُ على إبلٍ لي ضَلَّتْ، إذ أَقْبَلَ رَكْبٌ - أو فوارس - معهم لواء، فجعلَ الأعرابُ يُطِيفونَ بي لِمَنْزِلَتِي من النبي صلى الله عليه وسلم، إِذْ أَتَوا قُبَّةً، فاسْتَخْرَجُوا منها رَجُلاً، فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَسَأَلْتُ عنه، فذكروا أنه أَعْرَسَ بامرأةِ أبيهِ".

ذكر المنذري في (مختصر السنن) 1 أن هذا الحديث قد اخْتُلِفَ فيه اختلافاً كثيراً، فروي عن البراء على عدة أوجه.

فقال ابن القيم - رحمه الله - معقباً عليه:

"وهذا كُلُّه يدلُّ على أن الحديثَ محفوظٌ، ولا يوجبُ هذا تركه بوجهٍ".

ثم أخذ في التوفيق بين الأوجه التي ظاهرها التعارض في إسناد الحديث، ثم قال: "والحديث له طرقٌ حسان يُؤَيِّدُ بعضها بعضاً"2 فساق جملة منها.

قلت: هذا الحديث يروى عن عديّ بن ثابت3، واختلف عليه:

__________

(6/268 - 269) .

2 تهذيب السنن: (6/266 - 267) .

3 الأنصاري، الكوفي، ثقةٌ رُمِيَ بالتشيع، من الرابعة، مات سنة 116هـ/ ع. (التقريب 388) .

(3/172)

فأخرجه الترمذي في (جامعه) 1، وابن ماجه في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3، والدارقطني في (السنن) 4، وابن أبي حاتم في (العلل) 5 من طرق، عن:

أشعث بن سَوَّار، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أنه قال: مرَّ بي خالي أبو بردة بن نيار6 ومعه لواء، فقلت: أين تريد؟ قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجلٍ تَزَوَّجَ امرأة أبيه، أن آتيه برأسه". هذا لفظ الترمذي، وابن أبي حاتم.

كذا وقعت رواية أشعث عند هؤلاء الجماعة، وأخرجه ابن أبي حاتم7، والبيهقي في (سننه) 8 من طريق:

أبي خالد الأحمر، عن عدي بن ثابت، عن يزيد بن البراء، عن خاله: "أن رجلاً تزوج امرأة أبيه أو امرأة ابنه، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقتله". كذا بجعل "يزيد بن البراء" مكان أبيه، وبالشكِّ في متنه.

__________

(3/634) ح 1362 ك الأحكام، باب فيمن تزوج امرأة أبيه.

(2/869) ح 2607 ك الحدود، باب من تزوج امرأة أبيه من بعده.

3) 4/292) .

(3/196) ح 337.

(1/403) ح 1207.

6 البلوي، حليف الأنصار، صحابيُّ، اسمه: هانئ، وقيل: الحارث بن عمرو، وقيل: مالك بن هبيرة، مات سنة 41 وقيل بعدها/ ع. (التقريب 621) .

7 العلل: (1/403) ح 1207.

(8/237) .

(3/173)

وقد وقع في البيهقي: " ... عن يزيد بن البراء، عن البراء" على الجادة، وهو خطأ، فقد جاء عند ابن أبي حاتم على الصواب بدون ذكر البراء، وسيأتي من كلام أبي حاتم ما يدلُّ على صحة ذلك.

وقد تابع أشعثَ بن سَوَّار على الإسناد الأول - عدي بن ثابت، عن البراء -:السُّدِّيُّ1. فأخرجه النسائي في (سننه) 2، وابن حبان في (صحيحه) 3، والحاكم في (المستدرك) 4، من طريق:

الحسن بن صالح، عن السُّدِّيُّ، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لقيت خالي ومعه الراية ... الحديث.

قال الحاكم: "حديث صحيحٌ على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.

قلت: ومع أنه على شرط مسلم، إلا أنَّ السُّدِّي قد تَكَلَّمَ فيه غير واحدٍ، واحتمله بعضهم5.

وثَمَّةَ متابعة أخرى لأشعث بن سوار على روايته هذه، فقد

__________

1 هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، أو محمد الكوفي، صدوقٌ يَهِمُ، ورمي بالتشيع، من الرابعة، مات سنة 127هـ / م 4. (التقريب 108) .

(6/109) .

3 الإحسان: (6/165) ح 4100.

(2/191) .

5 انظر: تهذيب التهذيب: (1/313 - 314) .

(3/174)

أخرجه الإمام أحمد في (مسنده) 1 - ومن طريقه الحاكم في (المستدرك) 2 - من طريق:

شعبة، عن ربيع بن ركين، قال: سمعت عدي بن ثابت يحدث عن البراء بن عازب، قال: مرَّ بنا ناسٌ منطلقون ... الحديث.

والربيع هذا: هو الربيع بن رُكَيْن بن ربيع بن عميلة الفزاري، ذكره ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 3 ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وبقية الإسناد ثقات.

فهذا حديث أشعث بن سوار - ومن تابعه على روايته -: عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب رضي الله عنه، على خلاف في رواية أشعث تقدم بيانه.

وقد خالف هؤلاء جميعاً: زيد بن أبي أنيسة4، فأخرجه أبو داود، والنسائي في (سننيهما) 5، والدارمي في (مسنده) 6، والحاكم في (المستدرك) 7، كلهم من طريق:

__________

(4/292) .

(2/191 - 192) .

(1/2/460) .

4 الجَزَري، أبو أسامة، أصله من الكوفة، ثم سكن الرُّها، ثقةٌ له أفراد، من السادسة، مات سنة 119هـ، وقيل: 124هـ / ع. (التقريب 222) .

5 د: (4/602) ح 4457. س: (6/110) .

(2/76) ح 2245 ك النكاح، باب الرجل يتزوج امرأة أبيه.

(4/357) .

(3/175)

عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عدي بن ثابت، عن يزيد بن البراء1، عن أبيه، قال: لقيت عمي ومعه راية، فقلت له: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجلٍ نكح امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه، وآخذ ماله". هكذا، فزاد في إسناده "يزيد بن البراء" بين عدي والبراء. وزاد في متنه: "الأمر بأخذ ماله".

وجاء أول السند عند الحاكم هكذا: "حدثني ابن أبي أنيسة"، وكأنه شيخه، وفي أول سنده سقطٌ ولا بدّ؛ فأين الحاكم من ابن أبي أنيسة؟!

ويزيد بن البراء: وَثَّقَه العجلي2، وابن حبان3، وبقية الإسناد ثقاتٌ.

وقد قَدَّمَ أبو حاتم - رحمه الله - حديثَ ابن أبي أنيسة هذا على حديث أشعث بن سَوَّار ومن وافقه، فقد سأله ابن أبي حاتم عن حديث أبي خالد الأحمر، عن أشعث، عن عدي بن ثابت، عن يزيد بن البراء عن خاله. وحديث حفص بن غياث، عن أشعث، عن عدي، عن البراء، فقال رحمه الله: "وَهِمَا جميعاً، إنما هو كما رواه زيدُ بن أبي أنيسة، عن عديّ، عن يزيد بن البراء، عن البراء، عن خاله أبي بردة. ومنهم من يقول: عن عمه أبي بردة"4.

__________

1 ابن عازب، الأنصاري، الكوفي، صدوقٌ، من الثالثة/ د س. (التقريب 600) .

2 تاريخ الثقات: (ص 477) .

3 الثقات: (5/534) .

4 علل ابن أبي حاتم: (1/403) ح 1207.

(3/176)

وقد تَقَدَّمَ أنَّ أشعثَ بن سوار مع ضَعْفِهِ، اخْتُلِف عليه في رواية هذا الحديث إسناداً ومتناً، والمتابعون له: ما بين متكلم فيه، وهو: السُّدِّيُّ، ومجهول - أو كالمجهول - وهو الربيع بن ركين.

وأما ابن أبي أنيسة: فهو ثقةٌ، ولم يُخْتلف عليه مع ذلك، ولذلك قَدَّمَ أبو حاتم حديثه على حديث غيره، وإذا أمكن ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى، فإنه لا يبقى هناك تعارض.

وأما ما وقع في حديث ابن أبي أنيسة من قول بعضهم: "خالي" بدل "عمي" - كما أشار إليه أبو حاتم قبل قليل -: فإنه لا يضرُّ، وقد أجاب عنه ابن القيم رحمه الله، فقال: " ... فإنَّ البراء بن عازب حَدَّثَ به عن أبي بردة ... وهو عمه وخاله، وهذا واقعٌ في النسب"1.

ومع ذلك: فقد روى الحديث من وجه آخر عن البراء بن عازب رضي الله عنه، فقد أخرجه: أبو داود في (سننه) 2، وأحمد في (مسنده) 3، والدارقطني في (سننه) 4، والحاكم في (المستدرك) 5 من طرق، عن:

__________

1 تهذيب السنن: (6/266) . فقد يجتمع في شخصٍ واحدٍ أنه خال لشخص آخر وعمٌّ له بالرضاعة في الوقت نفسه.

(4/602) ح 4456.

(4/295) .

(3/196) ح 338.

(2/192) و (4/356) .

(3/177)

مُطَرِّف بن طريف1، عن أبي الجهم2، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: بينا أنا أطوف على إبل لي ... الحديث. ولفظه هو الذي سقناه أول هذا البحث. وهو سياق أبي داود، وعند الباقين نحوه.

وهذا إسنادٌ رجالهُ ثقاتٌ رجال الصحيحين، خلا أبي الجهم، ومع ذلك فهو ثقة، قال الذهبي - رحمه الله - في (تلخيص المستدرك) 3: "قلت: إسناده مليح". وقال مرة: "صحيح"4.

وقد حَسَّنَ ابن القيم هذا الطريق؛ فإنه قال: "والحديث له طرق حسان يقوِّي بعضها بعضاً، منها: مطرف عن أبي الجهم، عن البراء ... "5.

وقد أورد ابن القيم - رحمه الله - لهذا الحديث شاهداً من رواية معاوية بن قرة عن أبيه، عن جده، بنحو حديث البراء المتقدم، ثم نقل عن ابن معين قوله: "هذا إسناد صحيح"6. قلت: وقال البوصيري

__________

1 الكوفي، أبو بكر أو أبو عبد الرحمن، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار السادسة، مات سنة 141هـ أو بعد ذلك/ ع. (التقريب 534) .

2 هو: سليمان بن الجهم بن أبي الجهم الأنصاري الحارثي، الجوزجاني، مولى البراء، ثقةٌ، من الثالثة/ د س ق. (التقريب 250) .

3 المستدرك: (2/192) .

4 المصدر السابق: (4/356) .

5 تهذيب السنن: (6/266) .

6 زاد المعاد: (5/15) .

(3/178)

أيضاً: "إسناد صحيح رجاله ثقات"1.

فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الحديث وإن كان في بعض طرقه اضطراب، فإن له طرقاً أخرى صحيحة لا مطعن فيها، ولا علة لها، فيكون الاعتماد عليها في الحكم بصحة هذا الحديث - أو حُسْنِهِ على الأقل - كمال حكم ابن القيم - رحمه الله - بحسن هذه الطرق، وذهب إلى أنها يؤيد بعضها بعضاً. ثم أيَّد ذلك بشاهد قويٍّ من حديث معاوية ابن قرة عن أبيه عن جده.

__________

1 مصباح الزجاجة: (2/78) . طبعة الحوت.

(3/179)

5- باب في أنه لا يقتل المسلم بالكافر

ذكر ابن القيم - رحمه الله - بعضَ الأحاديث الواردة في قتل المسلم بالكافر، وَبَيَّنَ أنها معلولة، قال: "وأما الحديث الذي ذكره أبو داود في (المراسيل) عن:

100- (6) عبد الله بن عبد العزيز الحضرمي، قال: قَتَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ خيبرَ مسلماً بكافرٍ، قَتَلَهُ غِيلَةً1، وقال: "أنا أَوْلَى، وَأَحقُّ من أَوْفَى بِذِمَّتِه": فمرسل لا يثبت" 2.

قلت: أخرجه أبو داود في (المراسيل) 3 من طريق:

ابن وهب، عن عبد الله بن يعقوب4، عن عبد الله بن عبد العزيز بن صالح5 به، وفيه: "أنا أولى أو أحق".

ووقع في (تحفة الأشراف) 6 أن ذلك كان يوم "حنين"، والذي أثبته ابن القيم - رحمه الله - هو الموجود في نسختين من (المراسيل) ،

__________

1 أي: في خُفْيَةٍ واغتيالٍ، وهو أن يُخْدَعَ ويقتل في موضعٍ لا يراه فيه أحدٌ. (النهاية 3/403) .

2 تهذيب السنن: (6/330) .

(ح 251) باب الديات: في المسلم يقاد بالكافر إذا قتله.

4 ابن إسحاق المدني، مجهول الحال، من التاسعة/ د ت. (التقريب 330) .

5 الحضرمي، حجازيٌّ، مجهولٌ، من الرابعة، أَرْسَلَ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً / مد. (التقريب311) .

(13/257) .

(3/180)

ولكن وقع في (تهذيب التهذيب) 1 ما يوافق نقل المزي، وكذا في (نصب الراية) 2، فالظاهرُ أنه الصواب، وقد رَجَّحَه محقق (تحفة الأشراف) .

وهذا الحديث - مع إرساله - في إسناده مجهولان: "الحضرمي" مُرسِلُه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، و"عبد الله بن يعقوب" الراوي عنه، وبهما أَعَلَّهُ ابن القطان رحمه الله3.

ثم أشار ابن القيم - رحمه الله - إلى مرسلٍ آخر يرويه ابن البيلماني، ثم قال: "ولا يصحُ من الوجهين: الإرسال، وابن البيلماني"4. ولم يذكر ابن القيم لفظه، وهو:

101- (7) عن عبد الرحمن بن البيلماني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ برجلٍ من المسلمين قَتَلَ معاهداً من أهل الذمة، فَقَدَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم، فضَرَب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى من وَفَّى بِذِمَّتِه".

قال ابن القيم رحمه الله: "وقد أسنده بعضهم من حديث ابن البيلماني، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يصحُّ، وهذا الحديث مداره على ابن البيلماني، والْبَلِيَّة فيه منه، وهو مجمعٌ على ترك الاحتجاج به، فضلاً عن تقديم روايته على أحاديث الثقات الأئمة، المخرجة في

__________

(6/86) .

(4/336) .

3 بيان الوهم والإيهام: (3/70) ح 739.

4 تهذيب السنن: (6/330) .

(3/181)

الصحاح كلها"1.

قلت: قد رُوِيَ حديث ابن البيلماني هذا مرسلاً، ومسنداً.

أما المرسل: فقد أخرجه أبو داود في (المراسيل) 2 - ومن طريقه: الحازمي في (الاعتبار) 3 - من طريق: ابن وهب، عن سليمان بن بلال. وأخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه) 4- ومن طريقه: الدارقطني في (سننه) 5 - من طريق: عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج. وأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) 6 - ومن طريقه: الدارقطني7، والبيهقي8، والحازمي9 - عن: الثوري. وأخرجه البيهقي في (سننه) 10 من طريق: سعيد بن منصور، عن عبد العزيز بن محمد. كلهم عن:

ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن البيلماني11، عن

__________

1 تهذيب السنن: (6/330) .

(ح 250) .

(ص 189) .

(5/408) ح 27460 - تحقيق: الحوت.

(3/135) ح 167.

(10/101) ح 18514.

(3/135) ح 166.

8 السنن: (8/30) .

9 الاعتبار: (ص 189) .

10 (8/30) .

11 مولى عمر، مدني نزل حرّان، ضعيفٌ، من الثالثة/ 4. (التقريب 337) .

(3/182)

النبي صلى الله عليه وسلم به، واللفظ المذكور هو لفظ أبي داود، وفي آخره: "قال ابن وهب: تفسيره أنه قتله غيلة". وألفاظ الباقين بنحوه.

وأخرجه الشافعي في (مسنده) 1، والبيهقي في (سننه) 2 من طريق: إبراهيم بن محمد، عن:

محمد بن المنكدر، عن ابن البيلماني، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو لفظ أبي داود.

فهكذا روي هذا المرسل عن ربيعة، ومحمد بن المنكدر، كلاهما عن ابن البيلماني به، لكن روى البيهقي بإسناده إلى أبي عبيد القاسم بن سلاّم، أنه قال: " ... بلغني عن ابن أبي يحيى أنه قال: أنا حَدَّثتُ ربيعة بهذا الحديث. فإنما دار الحديث على ابن أبي يحيى، عن عبد الرحمن بن البيلماني ... "3.

ومهما يكن من أمر، فإن هذا المرسلَ ضعيفٌ، لوجود ابن البيلماني في إسناده، فإنه ضعيف عند جمهور العلماء4، ولذلك قال الدارقطني عقبه: "وابن البيلماني ضعيفٌ لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله". ونقل البيهقي في (سننه) 5 عن صالح بن محمد جزرة أنه قال: "عبد الرحمن بن البيلماني حديثه منكر، وروى عنه

__________

(ص 343) من ك الديات والقصاص.

(8/30) .

3 سنن البيهقي: (8/31) .

4 انظر أقوالهم فيه في تهذيب التهذيب: (6/149 - 150) .

(8/31) .

(3/183)

ربيعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بمعاهد، وهو مرسلٌ منكر".

وفي الطريق الآخر: "إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى" وهو متروك الحديث باتفاقهم، فإذا نظرنا في كلام أبي عبيد الماضي: في أن ربيعة إنما أخذه من ابن أبي يحيى، وأنَّ الحديث حديث ابن أبي يحيى، فإنَّ هذا الإسناد يكون معلولاً بهذين الرجلين: ابن أبي يحيى، وابن البيلماني، هذا بالإضافة إلى كونه مرسلاً غير مسند. هذا فيما يتعلق بالطريق المرسل.

وأما الطريق المسند: فقد أخرجه الدارقطني في (سننه) 1 - ومن طريقه البيهقي في (سننه) 2 - من طريق:

عمَّار بن مطر، عن إبراهيم بن محمد، عن ربيعة، عن ابن البيلماني، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتَلَ مسلماً بمعاهدٍ، وقال: "أَنَا أَكْرَم مَن وَفَّى بذمته".

وهذه الرواية الموصولة فيها عدة علل، كما بَيَّنَ ذلك الأئمة رحمهم الله:

قال الدارقطني: "لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى، وهو متروك الحديث، والصواب: عن ربيعة، عن ابن البيلماني - مرسلٌ - عن النبي صلى الله عليه وسلم"3. ثم ذكر ضعف ابن البيلماني، وقد سبق. وقال البيهقي:

__________

(4/134) ح 165.

(8/30) .

3 سنن الدارقطني: (3/135) .

(3/184)

"هذا خطأ من وجهين: أحدهما: وصله بذكر ابن عمر فيه، وإنما هو: عن ابن البيلماني، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. والآخر: روايته عن إبراهيم، عن ربيعة، وإنما يرويه إبراهيم عن: ابن المنكدر، والحمل فيه على عمار بن مطر الرُّهَاوي؛ فقد كان يقلب الأسانيد، ويسرق الأحاديث حتى كثر ذلك في رواياته، وسقط عن حد الاحتجاج به"1. وقال الحازمي - بعد أن ذكر الجماعة الذين رووه مرسلاً -: "وقد خالفهم إبراهيم بن أبي يحيى في ذلك، فرواه عن: ربيعة، عن ابن البيلماني، عن ابن عمر مرفوعاً. وليس ابن أبي يحيى ممن يُفْرح بحديثه"2. وقال الحافظُ ابن حجر: "وَتَبَيَّنَ أنَّ عمار بن مطر خَبَطَ في سنده"3.

قلت: وعمار بن مطر - الذي جاء منه البلاء والخبط في هذا الحديث -: هو أبو عثمان الرُّهَاوي، ضَعَّفَهُ الأئمة ورموا أحاديثه بالنكارة، فقال أبو حاتم: "كان يكذب"4. وقال العقيلي: "يُحَدِّث عن الثقات بمناكير"5. وقال ابن حبان: "يروى عن ابن ثوبان وأهل العراق المقلوبات، يسرق الحديث ويقلبه ... "6. وقال ابن عدي: "متروك

__________

1 سنن البيهقي: (8/30) .

2 الاعتبار: (ص 190) .

3 فتح الباري: (12/262) .

4 الجرح والتعديل: (3/1/394) .

5 الضعفاء: (3/327) .

6 المجروحين: (2/196) .

(3/185)

الحديث ... الضعف على رواياته بَيِّنٌ"1. وقال الدارقطني: "ضعيف"2. وقال الذهبي: "هالك"3.فتلخص أن هذا المسند فيه بلايا: عمار بن مطر الهالك، وابن أبي يحيى المتروك، وابن البيلماني الضعيف، ومع كل ذلك: فإنَّ وَصْلَهُ خطأٌ، وأنَّ الصواب: إرساله، وهذا المرسل ضعيف أيضاً، لا يثبت مثله، وقد تقدم ذلك كله في كلام ابن القيم رحمه الله.__________1 الكامل: (5/ 72 - 73) .2 السنن: (1/211) .3 الميزان: (3/169) .

(3/186)

6 - باب البدء في القسامة بأيمان المدعي102- (8) عن سهل بن أبي حَثْمَةَ: أن نفراً من قومه انطلقوا إلى خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقُوا فيها، فَوَجَدُوا أَحَدَهُم قتيلاً، فقالوا للذين وجدوه عندهم: قتلتم صَاحِبَنَا. فقالوا: ما قَتَلْنَاه ولا علمنا قاتلاً، فانطلقنا إلى نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقال لَهُم: "تَأْتُونِي بِالبَيِّنَة على من قَتَلَ هذا؟ " قالوا: مَا لَنَا بَيِّنة، قال: "فَيَحْلِفُوَن لكم؟ " قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فَكَرِهَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يبطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ مائة من إبل الصَّدَقَةِ.هكذا رُوِيَ هذا الحديث عند أبي داود وجماعة، والمشهور في هذه القصة خلافه، حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بأيمان الْمُدَّعِين، فلما لم يحلفوا طلب أيمان اليهود، ولا ذكر فيه للبينة. ووقع فيه خلاف آخر ستأتي الإشارة إليه.قال ابن القيم رحمه الله: "والصَّوابُ: روايةُ الجماعة الذين هم أئمةٌ أثباتٌ: أنه بدأَ بأَيمان الْمُدَّعِين، فلما لم يحلفوا ثَنَّى بأيمانِ اليهود. وهذا هو المحفوظُ في هذه القصة، وما سواه وَهْمٌ"1.قلت: هذا الحديث أخرجه البخاري في (صحيحه) 2، وأبو داود، والنسائي في (سننيهما) 3، وكذا الدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 4 من__________1 تهذيب السنن: (6/321) .2 ك الديات، باب القسامة، ح 6898 (فتح الباري 12/229) .3 د: (4/661) ح 4523 ك الديات، باب ترك القود بالقسامة. س (8/12) ك القسامة، باب تبدئة أهل الدم في القسامة.4 قط: (3/110) ح 95. هق: (8/120) .

(3/187)

طرق، عن: أبي نعيم1. وأخرجه مسلم في (صحيحه) 2 من طريق: عبد الله بن نمير. كلاهما عن:سعيد بن عبيد3، عن بشير بن يسار4، عن سهل بن أبي حَثْمَةَ5 رضي الله عنه به. واللفظ المذكور هو لفظ أبي داود، ولفظ الباقين مثله، غير أنه جاء عند البخاري: " ... فَكَرِهَ أن يُطَلَّ6 دمه" بدل "يبطل" عند الآخرين. أما مسلم، فإنه لم يسق لفظه في (صحيحه) . وساقه في كتابه (التمييز) بنحو لفظ البخاري، وسيأتي كلامه.هكذا رواه سعيد بن عبيد، عن بشير، وخالفه يحيى بن سعيد القطان، فأخرجه مسلم في (صحيحه) 7، والنسائي في (سننه) 8، والشافعي في (رواية المزني) 9 ثلاثتهم من طريق: عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي. وأخرجه مسلم10 أيضاً، والترمذي11، والنسائي12، ثلاثتهم__________1 هو: الفضل بن دكين.(3/1294) ح 1669 (5) ، ك القسامة والمحاربين ... ، باب القسامة.3 الطائي، أبو الهذيل الكوفي، ثقةٌ، من السادسة / خ د ت س. (التقريب 239) .4 الحارثي، مولى الأنصار، مدني، ثقةٌ فقيهٌ، من الثالثة/ ع. (التقريب 126) .5 ابن ساعدة بن عامر الأنصاري الخزرجي، المدني، صحابي صغير، ولد سنة ثلاث من الهجرة، وله أحاديث، مات في خلافة معاوية / ع. (التقريب 257) .6 يقال: طُلَّ دمهُ، وأُطِلَّ، وأَطَلَّهُ الله: إذا أُهْدِرَ. (النهاية 3/136) .(3/1293) ح 1669.(8/10) .(ص 423) ح 624 باب ما جاء في القسامة.10 ح 1669 (1) .11 في جامعه: (4/30) ح 1422 ك الديات، باب ما جاء في القسامة.12 (8/7) .

(3/188)

من طريق: الليث بن سعد. وأخرجه الترمذي1 وحده من طريق: يزيد ابن هارون. وأخرجه مسلم، والنسائي2، والدارقطني3 من طريق: بشر ابن الفضل. وأخرجه النسائي4، والشافعي5 من طريق: سفيان بن عيينة. كلهم عن:يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حَثْمَةَ - ووقعَ في رواية الليث بن سعد: عن سهل بن أبي حثمة، قال يحيى: وحسبت عن رافع بن خديج - أنهما قالا: خرج عبد الله بن سهل بن زيد، ومحيصة بن مسعود بن زيد، حتى إذا كانا بخيبر تفرقا في بعض ما هنالك.." فساقا الحديث بنحو ما تقدم، وفيه: فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل، فقال لهم: "أتحلفون خمسين يميناً فتستحقون صاحبكم؟ " قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد؟ قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يميناً؟ " قالوا: وكيف نقبلُ أيمان قومٍ كُفَّار؟ فما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عقله6.هذا سياق مسلم، ولفظ الآخرين نحوه.فقد خالف يحيى بن سعيد - في حديثه هذا - سعيد بن عبيد في__________(4/31) .(8/9) .(3/108) ح 91.(8/11) .5 رواية المزني: (ح 622) .6 العقل: الدِّيَة. (النهاية 3/278) .

(3/189)

موضعين: فلم يذكر فيه سُوءَالَهُم البَيِّنَة، وذكر فيه طلبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أيمان الْمُدَّعين.فذهب بعض أهل العلم إلى تقديم رواية يحيى بن سعيد، وقد قَرَّرَ ذلك الإمام مسلم - رحمه الله - في كتابه (التمييز) فقال - بعد أن ساق الحديث بإسناده إلى سعيد بن عبيد -: "هذا خبرٌ لم يحفظه سعيد ابن عبيد على صحته، ودخله الوهمُ حتى أغفل موضع حُكْمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهته. وذلك أن في الخبر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة: أن يحلف المدَّعون خمسين يميناً ويستحقون قاتلهم، فأبوا أن يحلفوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تبرئكم يهود بخمسين يميناً. فلم يقبلوا أيمانهم، فعند ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عقله"1. ثم ساق الحديث من عدة طرق إلى يحيى بن سعيد على نحو ما تقدم، ثم قال: "وَتَواُطُؤ هذه الأخبار التي ذكرناها بخلاف رواية سعيد، يَقْضِي على سعيد بالغلط والوهم في خبر القسامة. وغير مشكل على من عقل التمييز من الحفاظ من نقلة الأخبار، ومن ليس كمثلهم: أن يحيى بن سعيد أحفظ من سعيد بن عبيد، وأرفع منه شأناً في طريق العلم وأسبابه"2.ونقل ابن القيم - رحمه الله - عن النسائي قوله: "لا نعلمُ أحداً تابع سعيد بن عبيد على روايته عن بشير بن يسار"3.__________1 التمييز: (ص 192) .2 التمييز: (ص 194) .3 تهذيب السنن: (6/320) .

(3/190)

وقال المنذري - في كلامه على حديث سعيد بن عبيد-: "وقد ذكرنا ... اتفاق الحفاظ على البداءة بالمدعين"1.فهذا مسلك هؤلاء في هذين الخبرين.ورأى آخرون أنه لا تعارضَ بين الروايتين، وأن الجمع ممكن، فقال البيهقيُّ رحمه الله: "وإن صَحَّتْ رواية سعيد فهي لا تخالف رواية يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، لأنه قد يريد بالبَيِّنَة: الأيمان مع اللَّوث2، كما فسره يحيى بن سعيد، وقد يطالبهم بالبينة - كما في هذه الرواية - ثم يعرض عليهم الأيمان مع وجود اللوث، كما في رواية يحيى بن سعيد، ثم يَرُدُّها على الْمُدَّعَى عليهم عند نكول الْمُدَّعِين، كما في الروايتين"3.وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ... في رواية سعيد بن عبيد: لم يذكر عرض الأيمان على المدعين، كما لم يقع في رواية يحيى بن سعيد طلب البينة أولاً، وطريق الجمع أن يقال: حَفِظَ أحدهم مالم يحفظ الآخر، فيحمل على أنه طلب البينة أولاً فلم تكن لهم بينة، فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم فأبوا". قال: "وقد وجدنا لطلب البينة في هذه القصة شاهداً من وجه آخر، أخرجه النسائي4 من طريق: عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن__________1 مختصر السنن: (6/321) .2 اللَّوْثُ: البَيِّنَة الضعيفة غير الكاملة. (المصباح المنير: 2/560) .3 سنن البيهقي: (8/120) .4 في سننه: (8/12) .

(3/191)

ابن محيصة الأصغر أصبحَ قتيلاً على أبواب خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَقِمْ شاهدين على من قتله، أَدْفَعْهُ إليك بِرِمَّتِهِ". قال: يا رسول الله أنَّى أصيبُ شاهدين، وإنما أصبح قتيلاً على أبوابهم؟ قال: "فتحلف خمسين قسامة". قال: فكيف أحلف على ما لا أعلم. قال: "تستحلف خمسين منهم". قال: كيف وهم يهود؟. قال: "وهذا السندُ صحيحٌ حسنٌ، وهو نصٌ في الحمل الذي ذكرته، فتعين المصير إليه"1.وكأنَّ ابن القيم - رحمه الله - لم يستبعد إمكان الجمع أيضاً؛ فإنه بعد أن نقل كلام البيهقي السابق، قال: "ويدلُّ على ما ذكره البيهقي: حديث النسائي عن عمرو بن شعيب"2. وهذا بعينه مسلك ابن حجر كما مرَّ، إلا أنه - مع ذلك - قد صَوَّبَ ما ذهب إليه الإمام مسلم - رحمه الله - من ترجيح رواية يحيى بن سعيد، وتخطئة ما سواها.قلت: ومسلكُ الجمع وجيهٌ؛ إذ إنَّ الجمع بين الوجوه التي ظاهرها التعارض، أولى من تخطئة الثقة بلا برهانٍ واضحٍ، وبَيِّنَةِ ظاهرة، لا سيما وقد وُجِدَتْ متابعة لرواية سعيد بن عبيد، كما مضى في كلام ابن حجر رحمه الله.ثم إنه قد وقع خلافٌ على يحيى بن سعيد في روايته، ففي رواية حماد بن زيد عند مسلم3 وأبي داود4، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يُقْسِمُ خمسون__________1 فتح الباري: (12/234) .2 تهذيب السنن: (6/321) .3 صحيح مسلم: ح 1669 (2) .4 السنن: (4/655) ح 4520.

(3/192)

منكم على رجلٍ منهم فيدفع برمته". قال البيهقي: "هكذا رواه حماد بن زيد ... والعدد أولى بالحفظ من الواحد"1. يعني أنهم لم يذكروا قوله: "على رجلٍ منهم".وَثَمَّةَ خلاف آخر على يحيى بن سعيد؛ فقد أخرج البيهقي - رحمه الله - هذا الحديث من طريق ابن عيينة، عن يحيى، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "فتبرئكم يهود بخمسين يميناً ... " 2. فَقَدَّمَ أيمان اليهود.قال أبو داود - وقد أشار إلى هذه الرواية -: "وهذا وَهْمٌ من ابن عيينة"3.وقد نقل الشافعي عن ابن عيينة أنه لم يتقنه، فقال: "فكان سفيان يحدثه هكذا، وربما قال: لا أدري أَبَدَأَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصارَ في اليمين أم يهود؟ فقال له: إن الناس يحدثون أنه بدأ الأنصار، قال: فهو ذلك. وربما حَدَّثَهُ ولم يشكّ فيه"4. واستدلَّ البيهقي - رحمه الله - بذلك على أن ابن عيينة لم يتقنه إتقان الجماعة الكثيرين الذين رووه عن يحيى بخلاف ذلك5.__________1 سنن البيهقي: (8/119) .2 سنن البيهقي: (8/119) .3 سنن أبي داود: (4/658) .4 السنن المأثورة (رواية المزني) : (ص 423) .5 سنن البيهقي: (8/119) .

(3/193)

فتلخص من ذلك: أن ابن القيم - رحمه الله - قد اختار رواية من روى البدءَ بأيمان الْمُدَّعِين، ولم يذكر طلبَ البينة، ورأى أنَّ ذلك هو الصواب، وأن ما عدا ذلك وَهْمٌ من قائله. وقد سبقه إلى ذلك: الإمام مسلم، والنسائي رحمهما الله. ومع ذلك، فإن القولَ بالجمع بين الخبرين، وعدم تعارضهما قول لا ينبغي إهماله أيضاً؛ لأن التأليف بين الأخبار أولى؛ لكون ذلك فيه إعمال لها جميعاً كما مضى، والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج2. باقي صحيح السيرة النبوية تحقيق الشيخ الألباني مراجع ومدقق {من 130. الي234.}

  ج2. صحيح السيرة {ج2. باقي صحيح السيرة النبوية  تحقيق  الشيخ الألباني مراجع ومدقق {من 130. الي234.} صفحة رقم -130 - قال : قلت : من غف...