السؤال باسم الله الأعظم

وسمع آخر يقول في تشهده أيضا : ( أبو داود والنسائي وأحمد والبخاري في الأدب المفرد ) ( اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت [ وحدك لا شريك لك ] [ المنان ] [ يا ] بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم [ إني أسألك ] [ الجنة وأعوذ بك من النار ] . [ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( تدرون بما دعا ؟ ) قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ( والذي نفسي بيده ] لقد دعا الله باسمه العظيم ( وفي رواية : الأعظم ) الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى}

الثلاثاء، 13 فبراير 2024

3.ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها الفصل الثاني: آراء ابن القيم وإفاداته ومنهجه في الجرح والتعديل

 


ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية

 وعلومها

الفصل الثاني: آراء ابن القيم وإفاداته ومنهجه في 

الجرح والتعديل

المبحث الأول: آراء ابن القيم في الجرح والتعديل

المطلب الأول: في جواز الجرح، وأنه ليس من الغيبة المحرمة.

...

الفصل الثاني: آراء ابن القَيِّم وإفاداته ومنهجه في الجرح والتعديل

ويتضمن هذا الفصل: عرضُ آراء ابن القَيِّم - رحمه الله - وإفاداته في علم "الجرح والتعديل" وقواعده، ومقارنة ذلك بآراء الأئمة الآخرين المعنيين بهذا الفن.

وقد وُجِدت هذه الآراء، وتلك الإفادات مبثوثةً في أثناء كتبه، وذلك عند بحثه ومعالجته للقضايا الحديثية، ونقده للأسانيد وحكمه عليها.

فإنه - رحمه الله - في أثناء تناوله لرجال الأسانيد، وكلامه فيهم جرحاً وتعديلاً، كان رُبَّمَا دَعَتْهُ الحاجة إلى ذكر قاعدة من قواعد الفن، وبيان رأيه فيها، وذلك: إما لتأييد حكمه على رجل، أو لرد تُهْمَةٍ ألصقت بآخر، أو لغير ذلك من الأغراض التي تبعث على الاستشهاد بقواعد هذا الفن.

والغَرَضُ من عرضِ ذلك: التعريفُ بمكانة ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب، ومدى تَمَكُّنِهِ منه، وإِلْمَامِهِ بقواعده، وكيفية تطبيقه لتلك القواعد في أثناء تعامله مع النصوص الحديثية، وحكمه على أسانيدها.

ومن أغراض ذلك أيضاً: تأكيد أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد بَنَى كلامه في الرجال - جرحاً وتعديلاً - على قواعد هذا الفن وأسسه، فلم يكن مجرد ناقل لكلام الأئمة في الرجال دون تمحيص ودراية، بل كان - رحمه الله - على وعي تام، وإدراك كامل لمعاني كلامهم، ومدلولات ألفاظهم، والضوابط التي كانت تحكم كلامهم في الرجال جرحاً وتعديلاً.

(1/515)

وقد جعلت الكلام في هذا الفصل من خلال مبحثين:

المبحث الأول: آراء ابن القَيِّم في الجرح والتعديل.

المبحث الثاني: منهجه في الجرح والتعديل.

(1/516)

المطلب الأول: في جواز الجرح، وأنه ليس من الغيبة المحرمة

أكثر علماء السَّلف على جواز الكلام في الرواة جرحاً وتعديلاً، وذلك صوناً للأحاديث النبوية عن أن يُدْخَل فيها ما ليس منها، قال ابن أبي حاتم رحمه الله: "ولما كان الدين هو الذي جاءنا عن الله عز وجل، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بنقل الرواة، حق علينا معرفتهم، ووجب الفحص عن النَّاقِلَةِ، والبحث عن أحوالهم، وإثبات الذين عرفناهم بشرائط العدالة والثبت في الرواية ... وأن يُعْزَل عنهم الذين جَرَحَهُم أهل العدالة، وكشفوا لنا عن عَوْرَاتِهِم ... "1.

والأصل في ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي استأذن عليه: "ائذنوا له فبئس رجل العشيرة". قال الخطيب رحمه الله: "ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: بئس رجل العشيرة؛ دليل على أن إخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم والدين من النصيحة للسائل؛ ليس بغيبة". قال: "وكذلك أئمتنا في العلم بهذه الصناعة، إنما أطلقوا الجرح فيمن ليس بعدل؛ لئلا يتغطى أمره على من لا يخبره فيظنه من أهل العدالة فيحتج بخبره ... "2.

وكذلك حديث فاطمة بنت قيس لما استشارته في خطبة معاوية وأبي جهم لها، فقال لها صلى الله عليه وسلم: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه،

__________

1 مقدمة الجرح والتعديل: (ص5) . وانظر مقدمة ابن الصلاح: (ص193) معرفة الثقات والضعفاء من رواة الحديث.

2 الكفاية: (ص83 - 84) .

(1/519)

وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحى أسامة بن زيد ... " الحديث. قال الخطيب: "في هذا الخبر دلالة على إجازة الجرح للضعفاء على جهة النصيحة؛ لتجنب الرواية عنهم، وليعدل عن الاحتجاج بأخبارهم ... "1.

وقال المعلمي اليماني: "أول من تكلم في أحوال الرجال القرآن، ثم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أصحابه"2.

وقد عَبَّر ابن القَيِّم - رحمه الله - عن مذهب الجمهور في ذلك، فقال - عند كلامه على الفوائد المستنبطة من قصة الثلاثة الذين خُلِّفُوا في غزوة تبوك -: "ومنها: جوازُ الطعْنِ في الرَّجُلِ - بما يَغْلُب على اجتهادِ الطاعن - حَمِيَّة3، أو ذبًّا عن الله ورسوله، ومن هذا: طعنُ أهلِ الحديث فيمن طَعَنُوا فيه من الرواة، ومن هذا: طعنُ ورثةِ الأنبياء، وأهلِ السنة في أهل الأهواء والبدع، لله لا لحظوظهم وأغراضهم"4.

ويشير ابن القَيِّم - رحمه الله - بذلك إلى قول رجل من بني سلمة في كعب بن مالك: "يا رسول الله، حَبَسَه بُرْدَاهُ، ونظره في عطفه، وذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك: "ما فعل كعب؟ " 5.

__________

1 الكفاية: (ص84 - 85) .

(4) علم الرجال وأهميته: (ص18) .

3 الْحَمِيَّة: الأنفة. (المصباح المنير: 1/153) .

4 زاد المعاد: (3/575) .

5 صحيح البخاري: ك المغازي، باب حديث كعب بن مالك …ح4418. فتح الباري: (8/114) .

(1/520)

وقد أكد الأئمة - رحمهم الله - جواز ذلك، وبيان الغرض الباعث عليه، وردوا على من منع ذلك وعابه، وهاك بعض أقوالهم في ذلك:

قال الإمام الترمذي رحمه الله: "وقد عاب بعض من لا يفهم على أهل الحديث الكلام في الرجال، وقد وجدنا غير واحد من الأئمة من التابعين قد تكلموا في الرجال ... ". ثم ساق - رحمه الله - جملة من هؤلاء الأئمة، وأقوالهم فيمن جرحوهم، ثم قال: "وإنَّمَا حملهم على ذلك عندنا - والله أعلم - النصيحة للمسلمين، لا يُظَنُّ بهم أنهم أرادوا الطعن على الناس أو الغِيبة، إنما أرادوا عندنا: أن يُبَيِّنُوا ضعف هؤلاء لكي يُعْرَفوا". ثم ساقَ بإسناده إلى يحيى القطان رحمه الله، أنه قال: "سألت سفيان الثوري، وشعبة، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة: عن الرجل تكون فيه تهمة أو ضعف، أَسْكُتُ أو أُبَيِّن؟ قالوا: بَيِّنَ"1.

وقال الخطيب البغدادي: "وقد أَنْكَرَ قومٌ لم يتبحروا في العلم قولَ الحفاظ من أئمتنا، وأولي المعرفة من أسلافنا: إن فلاناً الراوي ضعيف، وفلاناً غير ثقة، وما أشبه هذا من الكلام، ورأوا ذلك غيبةً لمن قيل فيه ... "2. قال: "وليس الأمر على ما ذهبوا إليه؛ لأن أهل العلم أجمعوا على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به، وفي ذلك دليل على جواز الجرح لمن لم يكن صدوقاً في روايته،

__________

1 علل الترمذي: انظر جامع الترمذي: (5/738 - 739) .

2 الكفاية: (ص81) باب وجوب تعريف المزكِّي ما عنده من حال المسئول عنه.

(1/521)

مع أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وَرَدَتْ مُصَرِّحَةً بتصديق ما ذكرنا، وبضدِّ قول من خالفنا"1.

والآثار عن أئمة السلف - رحمهم الله - في جواز ذلك - بل ووجوبه - كثيرة لا تُحْصَى2.

ولقد أحسنَ ابن القَيِّم رحمه الله بدقيق فهمه، وحسن استنباطه، حينما استدل بهذه القصة على جواز ذلك؛ إذ إن كلام الرجل في كعب ابن مالك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبحضرته – ذَبًّا عن الله ورسوله وغَضَباً لهما: لو كان ذلك من الغيبة المحرمة، لما سكتَ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أقرَّه، فدلَّ ذلك - أوضح دلالة - على جوازه لمصلحة شَرْعِيَّةٍ، ولا شك أن بيان حال نقلة السُّنن، وحملة الآثار من أعظم تلك المصالح.

فالحاصل: أن ابن القَيِّم - رحمه الله تعالى - قد وافق أئمة الحديث والجَرْحِ والتعديل في هذه المسألة، وهي: جوازُ جَرْحِ الرواة، وكشف عيوبهم، وبيان ضعفهم، نصيحة لله ورسوله، وذَبًّا عن شريعة الإسلام.

__________

1 الكفاية: (ص83) .

2 راجع للوقوف عليها: شرح علل الترمذي: (ص76 - 81) .

(1/522)

المطلب الثاني: هل يثبتُ الجَرْحُ والتَّعْدِيْلُ بقولِ الواحد؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال ثلاثة:

أولها: أنه لا يقبل في جرح الرواة وتعديلهم أقل من اثنين، قياساً على الشهادات.

ثانيها: أنه يكفي في الجرح والتعديل قول الواحد، في الرواية والشهادة على السواء.

ثالثها: التفريق في ذلك بين الرواية والشهادة: فيقبلُ في جرح الرواة وتعديلهم قول الواحد، ولا يقبل في الشهادة إلا اثنان1.

والرَّاجِح هو المذهب الثالث، نَقَلَهُ الخطيب عن كثير من أهل العلم، ثم قال: "والذي نَسْتَحِبُّهُ: أن يكون من يُزَكِّي الْمُحَدِّثَ اثنين للاحتياط، فإن اقْتُصِرَ على تزكية واحد: أَجَزَأَ"2. وقال ابن الصلاح: "وهو الصحيح الذي اختاره الحافظ أبو بكر الخطيب وغيره ... ؛ لأن العدد لم يُشْتَرَطْ في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح راويه وتعديله، بخلاف الشهادات"3. ورجحه كذلك: العراقي4، وابن حجر5، والسخاوي6.

__________

1 الكفاية: (ص 160-161) . ومقدمة ابن الصلاح: (ص52) .

2 الكفاية: (ص 161) .

3 مقدمة ابن الصلاح: (ص52) .

4 شرح الألفية: (1/295) .

5 نزهة النظر مع النخبة: (ص72) .

6 فتح المغيث (1/290) .

(1/523)

وقد اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة رأي الجمهور: وهو الاكتفاء بقول الواحد في الجرح والتعديل.

قال مرة: " ... فإن التعديل من باب الإخبار والحُكْم، لا من باب الشهاد ة، ولا سِيَّمَا التعديل في الرواية؛ فإنه يُكْتَفَى فيه بالواحد ولا يزيد عن أصل نصاب الرواية"1.

يعني: لَمَّا كان يُكْتَفَى في قبول الرواية بالواحد، فكذلك تعديلُ رَاوِيهَا وجرحُهُ لا يشترط له أكثر من واحد.

فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يوافق اختياره اختيار الجمهور في هذه المسألة، وهي: الاكتفاء في الجرح والتعديل بقول الواحد، وعدم اشتراط أكثر من ذلك فيهما.

__________

1 زاد المعاد: (5/456 - 457) .

(1/524)

المطلب الثالث: بماذا تثبت العدالة؟

الصحيح المشهور: أن العدالة تثبتُ بأحد أمرين:

1- فتارةً تثبت بتنصيص الْمُعَدِّلِين على عدالته، وقد تَقَدَّم أنه يُكتفى في ذلك بقول الواحدِ على الصحيح.

2- وتارة تثبت العدالة بالاستفاضة والشهرة، "فمن اشتهرتْ عَدَالَتُهُ بين أهل النقل أو نحوهم من أهل العلم، وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة، اسْتُغْنِي فيه بذلك عن بَيِّنَةٍ شاهدة بعدالته تنصيصاً"1. فمثل: مالك، والثوري، وابن عيينة، وشعبة، والأوزاعي، والليث، وابن المبارك، ويحيى القطان، وأحمد، وابن مهدي، والشافعي، ووكيع، "ومن جَرَى مجراهم في: نباهة الذِّكْرِ، واستقامةِ الأمر، والاشتهارِ بالصِّدق والبصيرةِ والفهم، لا يُسْأَل عن عدالتهم، وإنما يُسْأَل عن عدالةِ من كان في عِدَاد المجهولين، أو أَشْكَلَ أَمْرُهُ على الطالبين"2.

قال ابن الصلاح: "وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي، وعليه الاعتماد في فن أصول الفقه. وممن ذكر ذلك من أهل الحديث: أبو بكر الخطيب الحافظ"3.

وأما ابن القَيِّم - رحمه الله-: فقد تَوَسَّعَ في إثبات العدالة،

__________

1 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) .

2 الكفاية: (ص147) .

3 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) .

(1/525)

فذهب إلى أنها تثبت لكل من عُرِفَ بحملِ العِلْمِ، والعناية به، واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" 1.

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "فأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ العلم الذي جاء به يحمله عُدُولُ أُمَّتِهِ من كلِّ خَلَفٍ، حتى لا يضيعَ ويذهب، وهذا يتضمن تعديله صلى الله عليه وسلم لحملة العلم الذي بُعِثَ به ... فكل من حَمَل العلم المشار إليه، لا بد أن يكون عدلاً، ولهذا اشتهر عند الأمة عدالة نَقَلتِهِ وحَمَلَتِهِ، اشتهاراً لا يَقْبَلُ شَكَّاً ولا امتراء، ولا ريب أن من عَدَّلَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُسمعُ فيه جَرْحٌ، فالأئمة الذين اشتهروا عند الأمة بنقل العلم النبوي وميراثه، كلهم عدول بتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا يقبل قدح بعضهم في بعض، وهذا بخلاف من اشتهر عند الأمة جَرْحُه والقدحُ فيه: كأئمة البدعِ، ومن جرى مجراهم من المتهمين في الدين، فإنهم ليسو عند الأمة من حملة العلم، فما حَمَل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عدل"2.

ثم حَدَّدَ - رحمه الله - مفهوم العدالة، فقال: "ولكن قد يُغْلَط في مُسَمَّى العدالة، فَيُظَنُ أن المراد بالعدل: من لا ذنب له! وليس كذلك، بل هو عَدْلٌ مؤتمن على الدين، وإن كان منه ما يتوب إلى الله منه، فإن هذا لا يُنَافي العدالة، كما لا ينافي الإيمان والولاية"3.

__________

1 أخرجه ابن عبد البر في (التمهيد) : (1/59) ، والخطيب في (شرف أصحاب الحديث) (ص29) ، من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو، وغيرهما، وسيأتي الكلام عليه بعد قليل.

2 مفتاح دار السعادة: (1/163) .

3 المصدر السابق.

(1/526)

فقد تَضَمَّنَ كلام ابن القَيِّم هذا أموراً:

- أنَّ العدالة تثبت لكل من عُرِفَ بحمل العلم النبوي.

- وأنَّ هذه العدالة ثابتةٌ لهذه الطائفة بشهادَتِهِ وخبره صلى الله عليه وسلم.

- وأنَّ هذه العدالةَ لا يُنَافِيهَا الوقوع في الذنوب الصغيرة التي يتوب العبد منها.

وقد سبقَ ابنَ القَيِّم - رحمه الله - إلى القول بذلك: ابنُ عبد البر، فقال: "كل حامل علم، معروف العناية به، فهو عدل، محمول في أمره أبداً على العدالة، حتى يتبين جرحه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "يحملُ هذا العلم من كل خلف عُدُولُه" 1".

وقد تُعُقِّبَ ابن عبد البر في ذلك، فقال ابن الصلاح: "وفيما قاله اتساع غير مرضي"2.

وبيان المآخذ على ما ذهب إليه ابن القَيِّم - وسبقه إليه ابن عبد البر - من وجوه:

أولها: ضَعْفُ الحديث الذي بنوا عليه هذا القول، وهو حديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ... ". وقد روي مرسلاً ومسنداً3.

__________

1 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) . وانظر التمهيد: (1/58-59) .

2 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) .

3 ينظر دراسة هذا الحديث والكلام عليه: فيما علقته على (البدر المنير) : (1/214-219) .

(1/527)

فقد ضَعَّفَ هذا الحديث: ابن القطان1، والحافظ ابن كثير2، والعراقي3وغيرهم.

وصَحَّحَ الإمام أحمد الرواية المرسلة4. وذهب جماعة إلى أن الحديث يقوى بمجموع طرقه، ويصل إلى درجة الحسن، قال ذلك: العلائي5، والقسطلاني6، والسخاوي7، والقاسمي8، وغيرهم.

وقد مال ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى تقويته أيضاً، فقال: "يُروى عنه من وجوهٍ شَدَّ بعضها بعضاً"9.

ثانيها: أنه على فرض ثبوت هذا الحديث، فإنه لا يصحُّ حَمْلُه على الخبر "لوجودِ من يحمل العلم وهو غير عدل وغير ثقة ... فلم يبق له محمل إلا على الأمر، ومعناه: أنه أمرٌ للثقات بحملِ العلمِ؛ لأن العلم إنما يُقْبَلُ عن الثقات"10.

ويؤيد ذلك: مجيئهُ من بعض الطرق بصيغة الأمر: "ليحمل هذا العلم ... " 11.

__________

1 التقييد والإيضاح: (ص139) .

2 الباعث الحثيث: (ص94) .

3 التقييد والإيضاح: (ص138) .

4 شرف أصحاب الحديث: (ص29) .

5 بغية الملتمس: (ص34) .

6 إرشاد الساري: (1/4) .

7 الهداية في علم الرواية: (ق16/ب) .

8 قواعد التحديث: (ص49) .

9 طريق الهجرتين: (ص619) .

10 فتح المغيث: (1/294- 295) .

11 الجرح والتعديل: (1/1/17) .

(1/528)

وَحَمَلَهُ بعضهم على إرادة الغالب، فقال السخاوي: " ... بل لا مانع أيضاً من كونه خبراً على ظاهره، ويُحْمَل على الغالب، والقصد: أنه مَظِنَّةٌ لذلك"1.

على أن ما ذهب إليه ابن القَيِّم رحمه الله - ومن قبله ابن عبد البر - قد أَيَّدَهُما فيه جماعة، منهم: ابن الْمَوَّاق، فقال كمقالة ابن عبد البر2.

وقال المزي: "هو في زماننا مرضي، بل ربما يتعين"3.

وقال ابن الجزري: "ما ذهب إليه ابن عبد البر هو الصواب، وإن رَدَّهُ بعضهم"4.

وقال ابن سيد الناس: "لست أراه إلا مرضياً"5.

وقال النووي رحمه الله: "وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة العلم وحفظه، وعدالة ناقليه، وأن الله - تعالى - يُوَفِّقُ له في كلِّ عصرٍ خَلَفَاً من العدول يحملونه، وينفون عنه التحريف ... وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع ولله الحمد، وهذا من أعلام النبوة. ولا يَضُرُّ - مع هذا - كون بعض الفُسَّاقِ يَعْرِفُ شيئاً من العلم؛ فإن الحديث إنما هو

__________

1 فتح المغيث: (1/295) .

2 التقييد ولإيضاح: (ص139) .

3 فتح المغيث: (1/297) .

4 المصدر السابق.

5 المصدر السابق.

(1/529)

إخبار: بأن العدول يحملونه، لا أن غيرهم لا يعرفُ شيئاً منه"1.

قال السخاوي - عقب مقالة النووي هذه -: "على أنه يقال: ما يَعْرِفُهُ الفُسَّاقُ من العلم ليس بعلم حقيقة؛ لعدم عَمَلِهِم به ... وَصَرَّحَ به الشافعي في قوله:

ولا العلم إلا مع التُّقَى ... ولا العَقْلُ إلا مع الأَدَبِ"2

وقال الحافظ الذهبي: "إنه حق - ولا يدخلُ فيه المستور، فإنه غير مشهور بالعناية بالعلم - فكلُّ من اشتهر بين الحفاظ بأنه من أصحاب الحديث، وأنه معروفٌ بالعناية بهذا الشأن، ثم كشفوا عن أخباره فما وجدوا فيه تَلْيِيناً، ولا اتَّفَقَ لهم علم بأن أحداً وَثَّقَهُ: فهذا الذي عَنَاه الحُفَّاظ، وأنه يكونُ مقبول الحديث إلى أن يلوح فيه جَرْحٌ"3.

فظهر بذلك أن ابن القَيِّم - رحمه الله - له في قوله هذا مُؤَيِّدون، وأنه لم ينفرد بذلك، وأن هذا المذهب قَوَّاهُ جماعة لا يستهان بهم من أئمة هذا الشأن.

وبنظرةٍ فاحصة إلى كلام هؤلاء الأئمة يتبين لنا: أنه لا منافاةَ بين حملِ هذا الحديث على الخبر على الحقيقة، وبين ما وَقَعَ من حَمْل بعض ساقطي العدالة لهذا العلم، وذلك إذا أخذنا في الاعتبار بعض الأمور، منها:

أولاً: أن يُحْمَلَ هذا الخبر على الغالب، أي: غالبُ من يحمل هذا العلم، أو: أَنَّ من يَحْمِلُهُ تغلبُ عليه العدالة، قال السخاوي: "والقصد:

__________

1 تهذيب الأسماء واللغات: (1/17) .

2 فتح المغيث: (1/295) .

3 فتح المغيث: (1/297) .

(1/530)

أنه مظنة لذلك"1.

ثانياً: ما قَرَّرَه النووي - رحمه الله - من أن: معرفة بعض الفُسَّاِق بهذا العلم، لا يتنافى مع إخباره صلى الله عليه وسلم بحمل العدول إياه؛ فإنَّ معرفتهم بهذا العلم غيرُ داخلة في هذا الحمل. هذا على فرض صحة تسمية ما يحمله هؤلاء الفساق علماً.

فَتَلَخَّص من ذلك: أن ما ذهب إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - من ثبوت العدالة لكل من عرف بحمل هذا العلم، والاشتغال به، قد يكون مقبولاً إذا حُمل على ما تقدم ذكره. ومع ذلك فإن ما ذهب إليه الجمهور، من أنه لابُدَّ - لإثبات العدالة - من التنصيص على ذلك، أو الاعتماد على الشهرة والاستفاضة: هو الأقرب إلى الاحتياط، ولذلك قال ابن أبي الدم2 - في رَدِّهِ على ابن عبد البر-: "وهو غير مرضي عندنا؛ لخروجه عن الاحتياط"3. والله أعلم.

ويلتحق بمسألة ثبوت العدالة مسألة أخرى وهي:

إذا روى العدل عن رجل وَسَمَّاهُ، هل تُعْتَبُر روايتهُ عنه تعديلاً له؟

__________

1 فتح المغيث: (1/297) .

2 العلامة، شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم، الهمداني الحموي الشافعي. حَدَّث بالقاهرة وكثير من بلاد الشام، وولي قضاء حماة، وكان إماماً في المذهب الشافعي، توفي سنة (642هـ) .

له ترجمة في سير أعلام النبلاء (23/25) ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/124) .

3 فتح المغيث: (1/296) .

(1/531)

في المسألة ثلاثة أقوال1:

الأول: أنه ليس بتعديل له؛ لأنه يجوز أن يروي عن غير عدل، وهذا هو قول أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم، وصححه ابن الصلاح2، وقال النووي: "هو الصحيح"3.

الثاني: أنه تعديل له مطلقاً، وهذا قول بعض أهل الحديث، وبعض أصحاب الشافعي. واحتجوا لهذا القول: بأن العدل لو كان يَعْلَم فيه جرحاً لَذَكَرَهُ. وَرَدَّهُ الخطيب، فقال: "وهذا باطل؛ لأنه يجوز أن يكون العدل لا يعرف عدالته، فلا تكون روايته عنه تعديلا ولا خبراً عن صدقه، بل يروي عنه لأغراض يقصدها. كيف وقد وُجِدَ جماعة من العدول الثقات رووا عن قوم أحاديث أَمْسَكوا في بعضها عن ذكر أحوالهم، مع علمهم بأنها غير مرضية، وفي بعضها شهدوا عليهم بالكذب في الرواية، وبفساد الآراء والمذاهب"4.

ثم ساق - رحمه الله - أمثلة مما وقع فيه ذلك.

الثالث: التفصيل؛ فإن كان ذلك العدل الذي روى عنه لا يروي إلا عن عدول، كانت روايته تعديلاً، وإلا فلا. وهذا المختار عند الأصوليين: كالسيف الآمدي، وابن الحاجب وغيرهما5. قال السخاوي: "بل وذهب إليه جمع من المحدثين، وإليه ميل الشيخين، وابن خزيمة في

__________

1 شرح الألفية: (1/320-321) .

2 مقدمة ابن الصلاح: (ص53) .

3 التقريب: (ص13) .

4 الكفاية: (ص 150-151) .

5 شرح ألفية العراقي: (1/321-322) .

(1/532)

صحاحهم، والحاكم في مستدركه ... "1.

وقد اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - القول الثاني: وهو أن ذلك يكون تعديلاً له مطلقاً؛ فإنه قال:

" ... ورواية العدل عن غيره تعديل له، ما لم يعلم فيه جرح"2.

وقال مرة في حديث رواه أبو إسحاق السبيعي، عن العالية في بيع العينة:

"وأما العالية: فهي امرأة أبي إسحاق السبيعي، وهي من التابعيات، وقد دَخَلَت على عائشة، وروى عنها أبو إسحاق، وهو أعلمُ بها ... ولا سيما عند من يقول: رواية العدل عن غيره تعديل له، والكَذِبُ لم يكن فاشياً في التابعين فُشُوّه فيمن بعدهم"3.

ويدلُّ كلامه - رحمه الله - في أكثر من مناسبة على اختياره هذا المذهب وقوله به، فمن أمثلة ذلك:

أنه - رحمه الله - استدل على ثقة "سعد بن سعيد"4برواية جماعة من الأَجِلَّةِ عنه، فقال رحمه الله - رداً على من ضَعَّفَه -: " ... لكنه ثقة صدوق ... روى عنه: شعبة، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وابن جريج، وسليمان بن بلال، وهؤلاء أئمة هذا الشأن"5.

__________

1 فتح المغيث: (1/313) .

2 زاد المعاد: (5/181) .

3 تهذيب السنن: (5/105) .

4 الأنصاري، صدوق سيئ الحفظ. التقريب: (231) .

5 تهذيب السنن: (3/311) .

(1/533)

ومن أمثلة ذلك أيضاً: أنه رد تضعيف مغراء العبدي1 بقوله: "قد روى عنه أبو إسحاق السبيعي على جلالته"2.

فهذا هو اختيار ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة، وقد تَقَدَّمَ ضعف هذا المذهب وعدمُ صحته، وذلك لأمور، منها:

1- جوازُ أن يكون العدل لا يَعْرِفُ عَدَالة من روى عنه، فلا تكون روايته عنه تعديلاً له ولا خبراً عن صدقه.

2- أن العدل قد يَرْوِي عَمَّن تكون حالُهُ غير مرضية - مع علمه بحاله - ومع ذلك يمسك عن ذكر ذلك وبيانه. أشار إلى هذين الوجهين الخطيب كما تقدم.

3- وأمر ثالث ذكره أبو بكر الصيرفي، وهو: أن الرواية تعريف - أي مطلق تعريف - تزول جهالة العين بها بشرطه. أما العدالة: فلا تثبت إلا بالخبرة، ومجرد الرواية عنه لا تدل على الخبرة3.

ولكن: إذا كان العدل قد عُرِفَ بأنه لا يَرْوِي إلا عن ثقة عنده، فهل تكون روايته عَمَّنَ روى عنه تعديلاً له؟

تقدم عند الكلام على المذهب الثالث في هذه المسألة: أن جماعة ذهبوا إليه من الأصوليين والمحدثين، قال الخطيب البغدادي: "إذا قال

__________

1 الكوفي، أبو المخارق، مقبول. التقريب: (542) .

2 الصلاة: (ص119) .

3 فتح المغيث: (1/313) .

(1/534)

العَالِمُ: كل من أروي عنه وأُسَمِّيه فهو عدلٌ رضاً مقبولُ الحديثِ، كان هذا القول تعديلاً منه لكل من روى عنه وسماه"1.

وقال الحافظ ابن حجر: "من عرف من حاله أنه لا يروي إلا عن ثقة، فإنه إذا روى عن رجل وصف بكونه ثقة عنده، كمالك، وشعبة، والقطان، وابن مهدي، وطائفة ممن بعدهم"2.

وابن القَيِّم - رحمه الله - قد أخذ بهذا القول وأَعْمَلَه؛ فإنه قال في داود بن الحصين: "وروى عنه مالك، وهو لا يروي إلا عن ثقة عنده"3.

وقد جاء عن الإمام مالك - رحمه الله - ما يفيد ذلك، فقد سأله بشر بن عمر الزهراني عن رجل؟ فقال: "رأيته في كتبي؟ " قال: لا. قال: "لو كان ثقة لرأيته في كتبي"4.

ولكن هل هذه القاعدة على عمومها في حق كل من قيل فيه إنه لا يروي إلا عن ثقة؟؟

قال الحافظ الذهبي - رحمه الله - عقب مقالة مالك هذه: "فهذا القول يعطيك بأنه لا يروي إلا عَمَّن هو عنده ثقة، ولا يلزم من ذلك أنه يروي عن كل الثقات، ثم لا يلزم مما قال أن كل من روى عنه، وهو

__________

1 الكفاية: (ص154) .

2 لسان الميزان: (1/15) .

3 رسالة في الأحاديث الموضوعة: (ق48/ ب)

4 مقدمة الجرح والتعديل: (ص24) ، وسير أعلام النبلاء: (8/71-72) .

(1/535)

عنده ثقة، أن يكون ثقة عند باقي الحفاظ، فقد يخفى عليه من حال شيخه ما يظهر لغيره، إلا أنه - بكل حال - كثير التَّحَرِّي في نقد الرجال"1.

ولهذا قال السخاوي - رحمه الله -: "من كان لا يروي إلا عن ثقة - إلا في النادر -: الإمام أحمد ... ومالك، ويحيى القطان"2. فاحترز بقوله: "إلا في النادر.

فظهرَ من ذلك أن هذه القاعدة أغلبية، وليست كُلِّيَّة في حق من قيل ذلك في حقه، وإذا كان كذلك فلا يصحُّ الاعتماد عليها في الحكم بعدالة كل من روى عنه واحد من أولئك الأئمة.

ويتلخص من ذلك: أن القول الأول - وهو عدم اعتبار رواية العدل تعديلا لمن روى عنه - هو الصواب والأقرب للاحتياط، كما تقدم بيانه. وأن القول الثاني - وهو الذي اختاره ابن القَيِّم - غير صحيح، والأخذ به ينافي الاحتياط في الرواية. وأما القول الثالث: فهو تَوَسُّطٌ بين القولين، لكن يراعى تقييده وعدم إطلاقه، فيحمل على الغالب في حق من قيل فيه، ولذلك فإنه لا يعمل به بمجرده دون مراعاة أقوال الأئمة الآخرين في الرجل، وغير ذلك من الاعتبارات، كما هو واضح في كلام الذهبي المتقدم، والله أعلم.

__________

1 سير أعلام النبلاء: (8/72) .

2 فتح المغيث: (1/314) .

(1/536)

المطلب الرابع: إذا خالف رأي أو الراوي أو فتواه روايته، هل يوجب ذلك القدح في روايته؟

...

المطلب الرابع: إذا خالفَ رأي الراوي أو فتواه روايته، هل يوجب ذلك القدح في روايَتِهِ؟

وهذه المسألة لها تعلق بالمسألة التي سبقتها - وهي: هل رواية العدل عمن سماه تعديل له؟ - وكذلك هنا: هل فتوى العالم وفق حديث، أو عمله بمقتضاه يوجب تصحيحاً لهذا الحديث، وتعديلاً لرواتِهِ؟؟ وهل عمله أو فتواه على خلافه يوجب ضعفاً لروايته، وقدحاً في رواته؟؟

والذي يعنينا في هذا المقام هو مسألة: مخالفة فتوى الراوي أو عمله لروايته، هل يوجب ذلك ضعفَ روايته؟؟

فقد تناول ابن القَيِّم هذه القضية في مناسبات عدة، واختار: أن ذلك غير قادح ولا مؤثر في صحة حديثه، وبالتالي في عدالة رواته.

قال - رحمه الله - في فتوى ابن عباس رضي الله عنهما: ألا يصوم أحد عن أحد، مع أنه راوي حديث الصيام عن الميت1:

"فغاية هذا أن يكون الصحابي قد أفتى بخلاف ما رواه، وهذا لا يقدح في روايته؛ فإن روايته معصومة، وفتواه غير معصومة"2.

ثم يذكر ابن القَيِّم بعض الأسباب التي قد تحمل الراوي على ترك العمل بروايته، فيقول:

__________

1 صحيح مسلم: (2/804) ح 1148، ك الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت.

2 الروح: (ص 184) .

(1/537)

"ويجوز أن يكون قد نسي الحديث، أو تَأَوَّلَه، أو اعتقد له معارضاً راجحاً في ظنه"1.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها، في أن الْحُرَّةَ تَعْتَدُّ بثلاث حيض، وأنها خالفت ذلك، فقالت: "الأَقْرَاء: الأطْهار". فقد خالف رأيها روايتها، قال ابن القَيِّم رحمه الله: "ليس هذا بأول حديث خالفه راويه، فَأُخِذَ بروايته دون رأيه"2.

وقد ساق - رحمه الله - في (إعلام الموقعين) 3 ما يزيد على عشرين مثالاً لمخالفة رأي الراوي وفتواه لروايته، وقُدِّمَت في كل ذلك روايتُهُ على رَأْيِه.

وما ذهب إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذه المسألة موافق لما ذهب إليه أئمة هذا الشأن:

فقد قال الخطيب البغدادي: "إذا روى رجل عن شيخ حديثاً يقتضي حُكماً من الأحكام، فلم يعمل به، لم يكن ذلك جرحاً منه للشيخ؛ لأنه يحتمل أن يكون ترك العمل بالخبر:

- لخبر آخر يعارضه، أو عموم، أو قياس.

__________

1 الروح: (ص 184) .

2 زاد المعاد: (5/611-612) .

(3/ 38-39) .

(1/538)

- أو لكونه منسوخاً عنده.

- أو لأنه يرى أن العمل بالقياس أولى منه، وإذا احتمل ذلك لم نجعله قدحاً في راويه"1.

وقال ابن الصلاح: " ... وكذلك مخالفته للحديث، ليست قدحاً منه في صحته، ولا في راويه"2.

وقد خالف في ذلك ابن رجب الحنبلي رحمه الله، فإنه قال في آخر كتابه (شرح علل الترمذي) 3: "قاعدة - في تضعيف حديث الراوي إذا روى ما يخالف رأيه". ثم قال: "قد ضَعَّفَ الإمام أحمد وأكثر الحفاظ أحاديث كثيرة بمثل هذا". ثم ذكر أمثلة لذلك.

وقد حَقَّقَ ابن القَيِّم - رحمه الله - أن في ذلك عن الإمام أحمد روايتين، وذكر أن الراجح عنده في ذلك: الأخذ برواية الراوي دون رأيه، فقال رحمه الله: "وأصل مذهبه، وقاعدته التي بنى عليها: أن الحديث إذا صحَّ لم يَرُدَّه لمخالفة راويه له، بل الأخذ عنده بما رواه، كما فعل في رواية ابن عباس وفتواه في بيع الأَمَةِ، فأخذ بروايته: أنه لا يكون طلاقاً، وترك رأيه"4.

__________

1 الكفاية: (ص 186) .

2 مقدمة ابن الصلاح: (ص53) .

(ص529) .

4 إعلام الموقعين: (3/35) .

(1/539)

وقال مرة: "والمشهور عنه: أن العِبْرَة بما رواه الصحابي لا بقوله، إذا خالف الحديث ... "1.

فهذا ما يتعلق بالإمام أحمد رحمه الله، وأن عنه في ذلك روايتين، المشهور منهما ما وافق رأى الأكثرين، وهو الذي اختاره ابن القَيِّم رحمه الله.

وأما غيره من الحفاظ الذين قال عنهم ابن رجب إنهم "أكثر الحفاظ": فلم يتبين لي من هم؟ وأما الأحاديث التي ضَعَّفُوها، فإنهم - والله أعلم - لم يضعفوها لمجرد مخالفة راويها لها، بل قد يكونوا ضعفوها لكونها ضعيفة في نفسها، فإذا صح - مع ذلك - عن راويها العمل على خلافها، تَأَكَّدَ حينئذ ضعفها، أما أن تكون هذه الروايات صحيحة في نفسها، ثم يَرُدُّونها لمخالفة راويها لها، ويقدحون بذلك في صحتها: فلا.

فَتَلَخَّص من ذلك: أن اختيار ابن القَيِّم - رحمه الله – في هذه المسألة قد وافق اختيار الخطيب، وابن الصلاح، وابن كثير وغيرهم، وهو الصواب، والله أعلم.

__________

1 إغاثة اللهفان: (1/293) .

(1/540)

المطلب الخامس: هل يشترطُ ذكر سببِ الْجَرْح والتعديل؟

هل يشترط ذكر سبب الجرح والتعديل؟ وأنه لا بد أن يكون مُفَسَّراً، أم أنهما يقبلان مُبْهَمين غير مفسرين؟ في المسألة مذاهب أربعة:

الأول: يقبلُ التعديل من غير ذكر سببه، وأما الجرح فلا يقبل إلا مفسراً مبين السبب. وهذا مذهب الجمهور من المحدثين وغيرهم.

- أما عدم اشتراط التفسير في التعديل: فلأن أسباب التعديل كثيرة يصعب ذكرها؛ إذ لو طُلب إليه ذلك، للزمه أن يقول في حقِّ الْمُعَدَّل: "يفعل كذا وكذا"، فيعد ما يجب عليه فعله. "وليس يفعل كذا ولا كذا" فيعد ما يجب عليه تركه، وهذا لا شك فيه عُسْرٌ ومشقة. أما الجرح: فإنه يحصل بأمر واحد، فلا يشق في الغالب ذكره1.

- وأما اشتراطه في الجرح: فلأن الناس مختلفون في أسباب الجرح، فيطلق أحدهم الجرح بناءً على ما اعتقده جرحاً، وليس هو بجرح في نفس الأمر، فمطالبته إذن ببيان السبب مزيل لهذا المحذور؛ إذ بالنظر في السبب المذكور يُعْرَف ما إذا كان الجرح قادحاً أم لا2.

ويؤيد ضرورة ذلك: أنه ربما اسْتُفْسِرَ الجارح عن سبب جرحه، فذكر ما لا يصلح جارحاً، فمن ذلك: أن شعبة قيل له: لم تركت حديث

__________

1 مقدمة ابن الصلاح: (ص50) ، وشرح ألفية العراقي، له: (1/300) .

2 مقدمة ابن الصلاح: (ص51) ، وفتح المغيث: (1/299) .

(1/541)

فلان؟ فقال: "رَأَيْته يركضُ على بِرْذَوْن، فتركت حديثه"1. ومنه: أن مسلم بن إبراهيم سألوه عن حديث الصالح المُرِّيِّ؟ فقال: "ما يُصْنع بصالح، ذكروه يوماً عند حماد بن سلمة، فامتخط حماد"2.

إلى غير ذلك من الأمثلة التي لا يُعَدُّ الجرح فيها قدحاً في الراوي3.

الثاني: عكس الأول، فيجب بيان سبب العدالة، ولا يجب بيان سبب الجرح، قالوا:

- لأن أسباب العدالة يكثر التصنع فيها، فيسارع الناس إلى الثناء على الظاهر4.

الثالث: أنه لا بدَّ من ذكر أسباب الجرح والتعديل معاً، حكاه الخطيب والأصوليون. قالوا:

- فكما يَجْرَحُ الجارح بما لا يقدح، فكذلك الْمُعَدِّل قد يُوَثِّقُ بما لا يقتضي العدالة5؛ كما استدل أحمد بن يونس على عدالة عبد الله العُمَري وثقته بقوله:"لو رأيتَ لحيته، وخضابه، وهيئته، لعرفت أنه ثقة".

__________

1 الكفاية: (ص182) . والبرذون: الدابة، ويطلق على غير العربي من الخيل والبغال، عظيم الخلقة. والجمع: براذين، والأنثى برذونة. (لسان العرب: برذن، والمعجم الوسيط: برذن) .

2 الكفاية: (ص185) .

3 انظر (الكفاية) : (ص181-186) فقد عقد باباً لذلك.

4 شرح ألفية العراقي: (1/303) ، وفتح المغيث: (1/301) .

5 فتح المغيث: (1/302) .

(1/542)

وهذا لا شك مما لا يعتمد عليه في إثبات العدالة، قال الخطيب: "لأن حسن الهيئة مما يشترك فيه العدل والمجروح"1.

الرابع: عكس الثالث، فلا يجب ذكر السبب في واحد منهما، إذا كان الجارح والمعدل عالماً بأسباب الجرح والتعديل، بصيراً مرضياً في أفعاله واعتقاده2.

والراجح من هذه الأقوال: هو القول الأول الذي ذهب إليه الجمهور، قال الخطيب البغدادي: "هو الصواب عندنا، وإليه ذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونُقَّاده، مثل: محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري ... "3. وقال ابن الصلاح: "التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور". قال: "وأما الجرح فإنه لا يقبلُ إلا مفسراً مبيَّنَ السبب ... وهذا ظاهرٌ مقررٌ في الفقه وأصوله"4. وقال العراقي: "هو الصحيح المشهور"5.

وقد اختار ابن القَيِّم - رحمه الله - مذهب الجمهور، وصرح به في عدة مواضع، فقال في "عبد الحميد بن جعفر":

__________

1 الكفاية: (ص165) .

2 شرح ألفية العراقي: (1/304) ، وتدريب الراوي: (1/308) .

3 الكفاية: (ص179) .

4 مقدمة ابن الصلاح: (ص50-51) .

5 شرح الألفية: (1/300) .

(1/543)

"وثقَهُ يحيى بن معين في جميع الروايات عنه، ووثقه الإمام أحمد أيضاً، واحتج به مسلم في صحيحه، ولم يُحفَظ عن أحد من أئمة الجرح والتعديل تضعيفه بما يوجب سقوط روايته ... وحتى لو ثبت عن أحد منهم إطلاق الضعف عليه، لم يقدح ذلك في روايته ما لم يُبَيِّن سبب ضعفه، وحينئذ يُنظر فيه: هل هو قادحٌ أم لا؟ "1.

فابن القَيِّم - رحمه الله - يؤكد هنا أن الجرح لا يقبلُ إلا مُفَسَّراً، ويذكر تعليل ذلك: بأنه قد لا يكون جرحاً قادحاً مؤثراً، ولا يمكن معرفة ذلك إلا بذكر سببه وتفسيره.

ومثال آخر يقرر فيه ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا القول ويؤكده، فيقول في حق "محمد بن عمرو بن عطاء" - وقد نقل عن يحيى بن سعيد تضعيفه له -: " ... تضعيف محمد بن عمرو بن عطاء: ففي غاية الفساد؛ فإنه من كبار التابعين المشهورين بالصدق والأمانة والثقة، وقد وَثقَه أئمة الحديث: كأحمد، ويحيى بن سعيد ... وتضعيف يحيى بن سعيد له - إن صحَّ عنه - فهو رواية، المشهور عنه خلافها، وحتى لو ثبت على تضعيفه فأقام عليه، ولم يبينْ سَبَبَهُ لم يُلْتَفت إليه، مع توثيق غيره من الأئمة له ... "2.

ويُبْرِزُ لنا ابن القَيِّم - رحمه الله - ثمرة عدم قبول الجرح إلا

__________

1 تهذيب السنن: (1/360) .

2 تهذيب السنن: (1/360) .

(1/544)

مفسراً وفائدته، وأن ذلك هو السبيل لمعرفة ما إذا كان الجرح قادحاً أم لا، فيقول في تضعيف شعبة "للمنهال بن عمرو" بسماعه صوت طنبور من بيته، أو أنه سمع صوت قراءة بالتطريب: "ومعلوم أن شيئاً من هذا لا يقدح في روايته ... ولعله مُتَأوِّلٌ فيه ... وقد يمكن أن لا يكون ذلك بحضوره، ولا إِذنه، ولا عِلْمه. وبالجملة: فلا يُرَدُّ حديث الثقات بهذا وأمثاله"1.

وقال مرة: "وهذا لا يوجب القدح في روايته، واطِّراح حديثه"2.

ولما ردَّ ابن حزم رواية "أبي الطفيل، وأبي عبد الله الجدلي" بأنهما كانا في جيش المختار3، وأن الجدلي كان حامل رَايَتِه قال ابن القَيِّم - رحمه الله - يرد عليه: "فَرَدُّ رواية الصاحب، والتابع الثقة بذلك باطل"4.

وقد وافقه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - على أن الجرح بمثل هذا ليس بقادح، فقال: "ولا يقدح ذلك فيهما إن شاء الله"5.

فهذه الأمثلة وغيرها للجرح غير القادح تُوَضِّح لنا دقة مسلك

__________

1 تهذيب السنن: (7/140) .

2 الروح: (ص64) .

3 الذي أرسله إلى مكة ليمنع ابن الحنفية مما أراد به ابن الزبير. (تهذيب التهذيب 12/148) .

4 تهذيب السنن: (1/117) .

5 تهذيب التهذيب: (12/149) .

(1/545)

الجمهور في اشتراط تفسير الجرح، وبيان سببه.

وإذا عرفنا رأيَ ابن القَيِّم - رحمه الله - وطريقته في هذه المسألة، وأنه مع الجمهور في ضرورة تفسير الجرح، وأن التعديل يقبل على الإبهام، فإنه لا يفوتنا أن ننبه على أمر مهم، وهو:

هل يُطْلب تفسير الجرح دائماً، وفي كل راوٍ مُجَرَّح، أم أن هناك ضابطاً لهذا الأمر؟

هذا ما أجاب عنه ابن القَيِّم - رحمه الله - حين قال: "وهذا إنما يُحْتَاج إليه - يعني طلب تفسير الجرح - عند الاختلاف في توثيق الرَّجُل وتضعيفه، وأما إذا اتَّفَق أئمة الحديث على تضعيف رجل، لم يُحْتَج إلى ذكر سبب ضعفه. هذا أولى ما يُقَال في مسألة التضعيف المطلق"1.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - مثل ذلك، إذ قال: "فإنْ خلا المجروح عن التعديل: قُبِل الجرح فيه مُجْمَلاً غير مبين السبب، إذا صَدَرَ من عارف على المختار؛ لأنه إذا لم يكن فيه تعديل فهو في حَيِّزِ المجهول، وإعمال قول الْمُجَرِّح أولى من إهماله"2. وقال مرة: " ... فوجه قولهم: إن الجرح لا يقبل إلا مفسراً: هو فيمن اخْتُلِفَ في توثيقه وتجريحه"3.

__________

1 تهذيب السنن: (1/360) .

2 نزهة النظر: (ص73) .

3 لسان الميزان: (1/ 16) .

(1/546)

وهذا الضابط الذي وَضَعَه ابن القَيِّم - رحمه الله - لاشتراط تفسير الجرح، والتفصيل الذي فَصَّلَهُ، ووافقه عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله، استحسنه غيرُ واحد، وعدَّه اللَّكنوي قولاً خامساً في المسألة1، بعد أن قال: " ... لكنه تحقيق مستحسن، وتدقيق حسن"2.

فتلخص من ذلك: أن ابن القَيِّم قد وافق الجمهور على عدم قبول الجرح إلا مفسراً، ثم أضاف إلى ذلك ضابطاً حسناً، وتفصيلاً دقيقاً، في مسألة طلب تفسير الجرح، وهو: أنه يستغنى عن طلب التفسير في حالة الاتفاق على التضعيف، وهو نفسه الذي عبر عنه الحافظ ابن حجر "بالخلوِّ من التوثيق"، وقد جاء ذلك لبيان أن التفسير لا يشترط طلبُهُ على الإطلاق.

وقد تضمن كلامه - رحمه الله - الإشارة إلى حالة تعارض أقوال المعدلين والمجرحين في الراوي، فيطلب حينئذ تفسير الجرح للترجيح، وسيأتي الكلام على تعارض الجرح والتعديل في المطلب التالي.

__________

1 فقد مضى أن في مسألة اشتراط ذكر سبب الجرح والتعديل أربعة أقوال. (انظر ص 541) .

2 الرفع والتكميل: (ص110) .

(1/547)

المطلب السادس: في تعارض الجرح والتعديل

إذا تعارض الجرحُ والتعديل في راو، فَجَرَحَهُ جماعة، وعَدَّلَه آخرون، فللعلماء في ذلك أربعة أقوال:

الأول: أن الجرح مُقَدَّم مطلقاً، سواء زاد عدد الْمُعَدِّلين على الْمُجَرِّحين، أو نقص عنه، أو استويا. هذا قول الجمهور كما قال الخطيب1، وقال ابن الصلاح: "هو الصحيح"2.

وذلك:

- لأن مع الجارح زيادة علم لم يَطَّلِع عليها الْمُعَدِّل، فهو قد علم ما علمه المعدل من حاله الظاهرة، وزاد عليه علم ما لم يعلمه من اختبار أمره.

- ولأن إخبار الْمُعَدِّل عن العدالة الظاهرة لا ينفي صدق قول الجارح فيما أخبر به، فوجب تقديم قول الجارح3.

الثاني: إذا كان عدد الْمُعَدِّلين أكثر، قُدِّم التعديل على الجرح. قالوا:

- لأن كثرة المعدلين تُقَوِّي حالهم، وتوجب العمل بخبرهم. وقِلَّة الجارحين تضعف خبرهم.

__________

1 الكفاية: (ص 175- 177) .

2 مقدمة ابن الصلاح: (ص52) .

3 الكفاية: (ص175) .

(1/548)

قال الخطيب - بعد أن حكى هذا القول عن طائفة -: "وهذا خطأ ... وبُعْدٌ ممن تَوَهَّمَهُ؛ لأن الْمُعَدِّلِين - وإن كثروا - ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون"1.

الثالث: يُقَدَّم الأحفظ. نقله السيوطي2 عن البلقيني، وظاهره أنه إذا زاد المعدلون أيضاً.

الرابع: أنهما يتعارضان فلا يُرَجَّح أحدهما على الآخر إلا بِمُرَجِّحٍ، نقله العراقي عن ابن الحاجب3، وهذا أيضاً فيما إذا كان عدد المعدلين أكثر، قال السخاوي:

"ووجهه: أن مع الْمُعَدِّلِ زيادة قوة بالكثرة، ومع الجارح زيادة قوة بالإطلاع على الباطن"4.

والراجح هو مذهب الجمهور، كما تقدم في كلام الخطيب، وابن الصلاح، وقال السيوطي: "هو الأصح عند الفقهاء والأصوليين"5.

ولكن ينبغي عدم القول بتقديم الجرح على التعديل مطلقاً، بل لابد من تقييد ذلك: بكون الجرح مُفَسَّراً مبيناً، من عارفٍ بأسبابه. وإلى هذا أشار الحافظ ابن حجر بقوله: "والجرح مقدم على التعديل، وأطلق ذلك جماعة، ولكن مَحَله: إن صدر مَبَيَّناً، من عارف بأسبابه"6.

__________

1 الكفاية: (ص 177) .

2 تدريب الراوي: (1/310) .

3 شرح الألفية: (1/313) .

4 فتح المغيث: (1/308) .

5 تدريب الراوي: (1/309) .

6 نزهة النظر مع النخبة: (ص73) .

(1/549)

وقال السخاوي: "لكن ينبغي تقييد الحكم بتقديم الجرح بما إذا فُسِّرَ ... أما إذا تعارضا من غير تفسير: فالتعديل - يعني مقدم - كما قاله المزي وغيره"1.

وقال السيوطي: "وإذا اجتمع في الراوي جرح مفسر وتعديل: فالجرح مقدم، ولو زاد عدد المعدل"2.

ولم أقف لابن القَيِّم - رحمه الله - على رأي صريح في هذه المسألة - مسألة تعارض الجرح والتعديل - إلا أن كلامه في المسألة السابقة - مسألة اشتراط تفسير الجرح - يمكن أن يعطينا تصوراً عن رأيه في هذا الموضوع.

فقد قَرَّرَ ابن القَيِّم فيما مضى: أن الجرح لا ينبغي قبوله إلا مفسراً، وأن تفسير الجرح إنما يطلب عند الاختلاف في الراوي، وتعارض أقوال المجرحين والمعدلين فيه؛ وذلك للنظر في الأسباب التي أبداها المجرح هل هي قادحة أم لا؟ 3.

وبهذا يلتقي قول ابن القَيِّم في هذه المسألة مع قول الجمهور القائلين بتقديم الجرح على التعديل عند التعارض، مع تقييد ذلك بكون الجرح مفسراً، وأسبابه قادحة مؤثرة4.

__________

1 فتح المغيث: (1/307) .

2 تدريب الراوي: (1/309) .

3 انظر كلام ابن القَيِّم المتقدم في ص: (543- 547) .

4 انظر ما تقدم في ص: (548 - 549) .

(1/550)

على أن تقديم الجرح على التعديل، أو إعمال التعديل والإعراض عن الجرح، يكون محكوماً - في بعض الأحيان - ببعض الضوابط والأمور التي ينبغي أن تراعى عند التعرض لهذه المسألة.

ونستطيع - من خلال النظر في كلام ابن القَيِّم في الرجال، وتحليل بعض أقواله - أن نستخلص بعض هذه الضوابط وتلك الملاحظات، فمن ذلك:

أولاً: أن أقوال الأئمة في الراوي قد تَرِدُ مقيدة، فيجب مراعاة تلك القيود عند التعارض.

تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه المسألة في أكثر من مناسبة، وبَيَّنَ أن الرجل قد يحتج به فيما رواه عن شيخ، ويترك في شيخ آخر. أو يوثق في روايته عن أهل بلد، ويضعف - هو بعينه - فيما رواه عن أهل بلد آخر.

ونَبَّهَ - رحمه الله - على ضرورة مراعاة ذلك في كلام الأئمة وحكمهم على الرواة، وأنه لا ينبغي في مثل ذلك معارضة أقوال بعضهم ببعض، بل يُعمل بكل قول باعتبار.

قال رحمه الله -: "وهذه مسألة غير مسألة تعارض الجرح والتعديل، بل يظن قاصر العلم أنها هي، فيعارض قول من جَرَحَهُ بقول من عَدَّلَه، وإنما هي مسألة غيرها، وهي: الاحتجاج بالرجل فيما رواه عن بعض الشيوخ، وترك الاحتجاج به بعينه فيما رواه عن آخر"1.

__________

1 الفروسية: (ص44) .

(1/551)

ومن الصور التي ذكرها ابن القَيِّم - رحمه الله - لتلك المسألة:

1- تضعيف حديث الراوي في بعض الشيوخ، وتوثيقه في غيرهم.

وذلك أن الراوي يكون ثقة في نفسه، لكنه يُضَعَّف في روايته عن بعض الشيوخ دون بقية شيوخه.

ويبيِّن ابن القَيِّم - رحمه الله - أن من الأسباب التي تجعل حديث الرجل ضعيفاً في شيخ بعينه: كونه غير معروف بالرواية عنه، وحفظ حديثه وإتقانه، وملازمته له1.

ومن الأمثلة التي وردت عند ابن القَيِّم لهذه الصورة:

أ- سفيان بن حسين2عن الزهري:

قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "ثقة صدوق، وهو في الزهري ضعيف لا يحتج به؛ لأنه إنما لَقِيَه مرة بالموسم، ولم يكن له من الاعتناء بحديث الزهري، وصحبته، وملازمته له، ما لأصحاب الزهري الكبار: كمالك، والليث، ومعمر، وعقيل، ويونس، وشعيب"3.

__________

1 الفروسية: (ص44) .

2 ابن حسن، أبو محمد أو أبو حسن، الواسطي، ثقة في غير الزهري باتفاقهم، من السابعة /خت م 4. التقريب: (ص244) .

3 الفروسية: (ص44) . وينظر حول ذلك: تهذيب التهذيب: (4/107) ، وهدي الساري: (ص457) ، وشرح علل الترمذي: (ص455) ، والثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم: (ص364-370) .

(1/552)

ب- قبيصة بن عقبة1 عن سفيان الثوري:

قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "ومثل هذا: تضعيف قبيصة في سفيان الثوري، واحْتُجَّ به في غيره، كما فَعَل أبو عبد الرحمن النسائي"2.

2- توثيق حديث الرجل في أهل بلد، وتضعيفه في غيرهم.

ومثال ذلك عند ابن القَيِّم:

- إسماعيل بن عَيَّاش3:

قال ابن القَيِّم: " ... وهذا كإسماعيل بن عياش، فإنه عند أئمة هذا الشأن حجة في الشاميين أهل بلده، وغير حجة فيما رواه عن الحجازيين والعراقيين، وغير أهل بلده"4.

فالحاصل: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يقرر أنه إذا وجد في الرجل من أمثال هؤلاء جرح وتعديل، فإنه لا يُقَدَّمُ أحدهما على الآخر مطلقاً، بل تارة يقدم الجرح، وتارة يقدم التعديل، وذلك طبقاً للموازين التي مر ذكرها، والتي تضبط إطلاقات الأئمة في هذا الصدد.

__________

1 السوائي، أبو عامر الكوفي، صدوق ربما خالف، مات سنة 215 هـ- /ع. التقريب: (ص453) .

2 الفروسية: (ص 44) . وينظر حول ذلك: تهذيب التهذيب: (8/347) ، وهدي الساري: (ص436) ، والثقات الذين ضعفوا في بعض شيوخهم: (ص141-149) .

3 الحمصي، صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم /ى 4 التقريب: (ص109) .

4 الفروسية: (ص44) . وانظر: شرح علل الترمذي: (ص428) .

(1/553)

ثانياً: عدم معارضة أقوال أئمة الشأن الْمُعْتَبَرين بقول غيرهم.

إذا تعارض قول جماعة من الأئمة المعتبرين، وقول واحد ممن دونهم في هذا الشأن، فإن الأخذ بقول هؤلاء الأئمة - مع علمهم وإمامتهم في هذا الشأن - أولى من الأخذ بقول من دونهم، وكذا من كان مُتَأَخِّراً عنهم زمناً.

قال ابن القَيِّم رحمه الله - رَدًّا على ابن حزم في تضعيفه عمرو بن شعيب -: "وإذا تَعَارَضَ معنا في الاحتجاج برجل قولُ ابن حزم، وقول: البخاري، وأحمد، وابن المديني، والْحُمَيدي، وإسحاق بن راهويه وأمثالهم، لم يُلْتَفَت إلى سواهم"1.

وقال مرة في ابن إسحاق - وقد نقل عن ابن عيينة قوله: ما سمعت أحداً يتكلم في ابن إسحاق إلا في قوله في القدر -: "ولا ريب أن أهل عصره أعلم به ممن تكلم فيه بَعْدَهُم"2.

فهكذا نجد ابن القَيِّم - رحمه الله - يُقَرِّر: أن مَتَانَة الإمام الْمُتَكَلِّم في الرجل، ورسوخ قدمه، وطول باعه في الفَنِّ، مع مُعَاصَرَتِهِ للراوي - أو قرب عهده به - أَدْعى إلى تقديم قوله على قول غيره ممن ليس بهذه المثابة.

ثالثاً: مراعاة صحة سند القول المنسوب إلى أئمة الجرح والتعديل.

قد يَرِدُ قول لا يصح سنده إلى الإمام المنسوب إليه، فلا يجوز

__________

1 زاد المعاد: (5/456) .

2 تهذيب السنن: (7/95) .

(1/554)

حينئذ اعتماد هذا القول قي الترجيح عند التعارض؛ لأنه - والحالة هذه - كعدمه.

فمن ذلك: حكاية تكذيب محمد بن إسحاق، من رواية سليمان ابن داود، قال: قال لي يحيى بن سعيد القطان: أشهد أن محمد بن إسحاق كَذَّاب. قلت: وما يدريك؟ قال: قال لي وهيب بن خالد. فقلت لوهيب: ما يدريك؟ قال: قال لي مالك بن أنس. فقلت لمالك بن أنس: ما يدريك؟ قال: قال لي هشام بن عروة. قلت لهشام بن عروة: وما يدريك؟ قال: حَدَّثَ عن امرأتي فاطمة ابنة المنذر، ودَخَلَتْ عليَّ وهي ابنة تسعِ سنين، وما رآها حَتَّى لَقِيَتْ الله.

قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "إن سليمان بن داود - رَاوِيها عن يحيى - هو: الشاذكوني، وقد اتُّهِم بالكذب، فلا يجوز القدح في الرجل بمثل رواية الشاذكوني"1.

وقد وافق الذهبيُّ ابنَ القَيِّم على تكذيب هذه الحكاية، فقال: "معاذ الله أن يكون يحيى وهؤلاء بدا منهم هذا بناءً على أصل فاسدٍ واهٍ، ولكن هذه الخرافة من صَنْعَةِ سليمان، وهو الشاذكوني - لا صَبَّحَه الله بخير -؛ فإنه مع تَقَدُّمه في الحفظ مُتَّهَمٌ عندهم بالكذب، وانظر كيف سلسل الحكاية؟! "2.

__________

1 تهذيب السنن: (7/ 97) .

2 سير أعلام النبلاء: (7/49) .

(1/555)

فهكذا ينبهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى أنه لا يُعْتَمَد على جرح لا يصح سنده، فَيُعَارَض به أقوال الأئمة الآخرين ممن وَثقَ الرَّجُلَ.

وبعد، فهذه بعض الضوابط التي تيسر الوقوف عليها من كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - فيما يتعلق بمسألة تعارض الجرح والتعديل، والتي ينبغي التنبه لها عند الوقوف على أقوال متعارضة للأئمة في الرجل، والله أعلم.

(1/556)

المطلب السابع: في حكم رواية الْمُبْتَدِعِ

مناسبة الكلام على رواية المبتدع في مبحث الجرح والتعديل: أن "البِدْعَةَ" من أسباب الطَّعْنِ في الراوي وجرحه، وبالتالي رَدِّ حديثه بشروطه.

والبدعة إما أن تكون مُكَفِّرةً، أو غير مكفرةٍ.

فالبدعة المكفرة1:

الجمهور على عدم قبول رواية صاحبها، قال النووي: "مَنْ كَفَر ببدعته لم يحتج به بالاتفاق"2. وقال ابن كثير: "المبتدع إن كفر ببدعته، فلا إشكال في ردِّ روايته"3.

واختار الحافظ ابن حجر - رحمه الله - التفصيل في ذلك، فقال: "والتحقيق: أنه لا يُرَدُّ كل مُكَفَّرٍ ببدعته ... فالمعتمد: أن الذي تُرَدُّ روايته: من أَنْكَرَ أمراً متواتراً من الشرع، معلوماً من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه. فأما من لم يكن بهذه الصفة، وانضم إلى ذلك ضَبْطُه لما يرويه، مع وَرَعِهِ وتقواه: فلا مانع من قبوله"4.

__________

1 قال ابن حجر: "لا بد أن يكون ذلك التكفير متفقاً عليه من قواعد جميع الأئمة، كما في غلاة الروافض من دعوى بعضهم حلول الإلهية في عليٍّ أو غيره، أو الإيمان برجوعه إلى الدنيا قبل يوم القيامة، أو غير ذلك".

هدي الساري (ص 385) ، وانظر: فتح المغيث: (1/332 - 333) .

2 التقريب: (ص13) .

3 اختصار علوم الحديث: (ص99) .

4 نزهة النظر: (ص50) .

(1/557)

وَسَبَقَهُ إلى هذا المعنى ابنُ دقيق العيد، فقال: "والذي تَقَرَّرَ عندنا: أنه لا تُعْتَبَرُ المذاهب في الرواية؛ إذ لا نُكَفِّرُ أحداً من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة. فإذا اعتقدنا ذلك، وانضم إليه التقوى والورع والضبط والخوف من الله تعالى، فقد حصل معتمد الرواية ... "1.

وأما البدعة غير الْمُكَفِّرة: فللعلماء في قبول رواية صاحبها أقوال:

أولها: عدم قبولها مطلقاً:

قالوا: لأن في الرواية عنه ترويجاً لأمره، وتنويهاً بذكره.

وقد رَدَّ العلماء هذا القول، قال ابن الصلاح: "بعيدٌ مباعد للشائع عن أئمة الحديث؛ فإن كُتُبَهُم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة ... "2. وقال ابن حجر: "وهو بعيد"3.

الثاني: تقبل مطلقاً ما لم يكن مُسْتَحِلاًّ للكذب لنصرةِ مذهبه.

قالوا: لأن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه4. وعزاه بعضهم للشافعي، لقوله: "أقبلُ شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم"5.

__________

1 الاقتراح: (ص333-334) .

2 مقدمة ابن الصلاح: (ص55) .

3 نزهة النظر: (ص50) .

4 المصدر السابق.

5 مقدمة ابن الصلاح: (ص54) .

(1/558)

الثالث: التفصيل، فتقبل رواية من لم يكن داعية إلى بدعته، ولا تقبل رواية الداعية.

وهذا مذهب الأكثرين من العلماء، قال ابن الصلاح: "وهذا المذهب الثالث أعدلها وأولاها"1.

وَفَصَّل ابن حجر - رحمه الله - في غير الداعية أيضاً، فقال: "الأكثر على قبول غير الداعية، إلا إنْ روى ما يقوِّي بدعته فَيُرَدُّ على المذهب المختار"2.

وبالنظر إلى استبعاد الأئمة للمذهب الأول، فإنه يتحصل لدينا من مجموع المذهبين الباقيين أن رواية المبتدع تُقبل بشروط ثلاثة:

1- أن يكون صاحبُها ممن لا يستحل الكذب لنصرة مذهبه، فيقبلُ أهلُ الصدق منهم.

2- أن يكون غير دَاعِيَةٍ إلى بدعته.

3- أن لا يروي ما يؤيد بدعته ويوافقها ويُقَوِّيها.

وقد عرض ابن القَيِّم - رحمه الله - لهذه القضية في مناسبات مختلفة، والذي يظهر من مجموع كلامه: هو القول بقبول رواية المبتدع بالشروط التي مر ذكرها.

فمن كلامه - رحمه الله - في قبول رواية أصحاب البدع غير المكفرة:

__________

1 مقدمة ابن الصلاح: (ص55) .

2 نزهة النظر: (ص51) .

(1/559)

"وقد رُمِي جماعة من الأئمة الْمُحْتَجِّ بروايتهم بالقدر: كابن أبي عروبة، وابن أبي ذئب، وغيرهما. وبالإرجاء: كَطَلْق بن حبيب وغيره، وهذا أشهر من أن يذكر نظائره، وأئمة الحديث لا يردون حديث الثقة بمثل ذلك"1.

وقال مرة: "رواية أهل البدع مقبولة، فكم في الصحيح من رواية الشيعة الغلاة، والقدرية، والخوارج، والمرجئة، وغيرهم ... ؛ إذ مجرد كونهم شيعة لا يوجب رد حديثهم"2.

يعني: إذا لم يكن داعية، ولم يرو ما يؤيد بدعته؛ فإن ما خُرِّجَ في الصحيح من رواية هذا الضرب، محمول على هذا3.

ومقصوده بالشيعة الغلاة: من كان من هؤلاء في زمان السلف، وهم يختلفون عمن وجد منهم في الأزمنة المتأخرة، قال الذهبي رحمه الله:

"فالشيعي الغالي في زمان السلف وَعُرْفِهم: هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب علياً رضي الله عنه، وتَعَرَّض لِسَبِّهم.

والغالي في زماننا وعرفنا: هو الذي يُكَفِّرُ هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضالٌّ مُعَثَّرٌ"4.

__________

1 تهذيب السنن: (1/361) .

2 تهذيب السنن: (3/101) .

3 انظر: هدي الساري: (ص385) .

4 الميزان: (1/ 6) .

(1/560)

واعتبر - رحمه الله - التشيع الغالي في عهد السلف من البدع الصغرى، وأنه لا يُتْرَكُ حديثهم. وأما الرَّفْضُ الكامل، والحطُّ على الشيخين فقد عَدَّه بدعةً كبرى، فلا يحتج بأصحابها ولا كرامة1.

وقد جاء عن ابن القَيِّم - رحمه الله - ما يؤكد عدم قبوله رواية المبتدع إذا روى ما يؤيد بدعته، فإنه - رحمه الله - قال عن الأجلح بن عبد الله - وكان شيعياً -:

"وأما حديث الأجلح بن عبد الله بن أبي الهذيل، عن علي رضي الله عنه، أنه قال: "ما أعرف أحداً من هذه الأمة عَبَدَ الله بعد نَبِيِّهَا غَيْري، عبدتُ الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين": فالأجلح وإن كان صدوقاً، فإنه شيعي، وهذا الحديث معلوم بطلانه بالضرورة؛ فإن علياًرضي الله عنه لم يعبد الله قبل جميع الصحابة سبع سنين"2.

فتبين من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يتفق مع أكثر العلماء وجمهورهم في قبول رواية المبتدع بشروطها، كما دل عليه كلامه الذي نقلناه عنه.

__________

1 الميزان: (1/5-6) .

2 أحكام أهل الذمة: (2/505) .

(1/561)

المطلب الثامن: في ذكر فوائدَ متفرقة في الجرح والتعديل

الفائدة الأولى: في عدم جواز ذكر الجرح في الرجل، والسكوت عن التعديل.

من المعلوم أنه إذا كان الراوي فيه جرح وتعديل، فإنه لابد لمن يتعرض للكلام فيه - مُصَنِّفاً كان أم ناقلاً - أن يَذْكر كل ما قيل فيه جرحاً وتعديلاً، لا أن يذكر الجرح ويُعْرض عن التعديل، أو يذكر التعديل ويسكت عن الجرح.

ولا شك أن هذا الصنيع مذموم مِنْ فاعله؛ إذ يترتب عليه - في الحالة الأولى وهي: ذكر الجرح - ظن من لا معرفة له بهذا الشأن أن هذا الراوي مجمع على ضعفه، فيبني على ذلك حُكْمَهُ بِرَدِّ حديثه، وإسقاط روايته.

ولذلك فقد عاب الحافظ الذهبي - رحمه الله - ابن الجوزي لسلوكه هذا المسلك في كتابه (الضعفاء) ، فقال في ترجمة أبان بن يزيد العطار: "وقد أورده - أيضاً - العلامة أبو الفرج بن الجوزي في الضعفاء، ولم يذكر فيه أقوال من وَثَّقَه. وهذا من عيوب كتابه: يسرد الجرح، ويسكتُ عن التوثيق"1.

ولما طَعَنَ الكوثري في "أسد بن موسى" بنقله كلام ابن حزم في جرحه، وسكوته عن نقل كلام من وَثَّقَهُ، كشف حاله العلامة المعلمي في (التنكيل) 2. ثم قال: "وقد أساء الأستاذ إلى نفسه جداً؛ إذ يقتصر على

__________

1 الميزان: (1/16) . وانظر: تهذيب التهذيب: (1/102) .

(1/206) .

(1/562)

كلمة ابن حزم في صدد الطعن، مع علمه بحقيقة الحال، ولكن! ".

ولقد بَيَّنَ ابن القَيِّم - رحمه الله - رأيه في هذه القضية بوضوح، ونَبَّه على خطورة هذا المسلك، وذلك عند كلامه على حديث عبد الله ابن أنيس في كلام الله - عز وجل - بصوت، ومحاولة بعضهم إعلاله بضعف عبد الله بن محمد بن عقيل، والقاسم بن محمد، فقال رحمه الله: "ولا التفاتَ إلى ما أعلَّه به بعض الجهمية ظلماً منه وهضماً للحق، حيث ذكَر كلام الْمُضَعِّفين لعبد الله بن محمد بن عقيل، والقاسم بن محمد، دون من وَثقَهُمَا وأثنى عليهما، فيوهم الغِرَّ1 أنهما مجمعٌ على ضَعْفِهِمَا لا يحتجُّ بحديثهما"2.

الفائدة الثانية: في أن ثقة الراوي لا تعني صحة كل ما روى.

إذا حَكَم الأئمة للراوي بأنه ثقة، فهل يعني ذلك بالضرورة صحة كل حديث رواه؟

وهذا السؤال يدعونا إلى سؤال آخر، وهو: هل الراوي الذي حُكِمَ له بالثقة لا يجوز عليه الخطأ والوهم؟

وهذان السؤالان مرتبطان تمام الارتباط، وسأحاول الجواب عنهما بشيء من البيان، وذلك من خلال تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - للمسألة.

__________

1 رجل غِرٌّ - بالكسر - وغَرِيرٌ: أي غيرُ مُجَرِّبٍ. (مختار الصحاح: ص471) .

2 مختصر الصواعق: (2/ 404) .

(1/563)

فقد تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه القضية في أكثر من مناسبة، وأكد أن الثقة قد يغلط ويهم، وتقع العلل في حديثه، فقال رحمه الله: " ... فإن الثِّقَةَ قد يغلط وَيَهِمُ، ويكون الحديثُ من حديثه معلولاً عِلَّة مؤثرة فيه، مانعة من صحته"1.

ويؤكد - رحمه الله - هذا المعنى في مناسبة أخرى، فيقولُ - عند الكلام على من وَهِمَ في تحريم متعة النساء، وقال: إنها حُرِّمَت عام حجة الوداع -: "وهو وهم من بعض الرواة، سَافَرَ فيه وهمه من فتحِ مكة إلى حجة الوداعِ ... وَسَفَرُ الوهمِ من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن واقعة إلى واقعة، كثيراً ما يَعْرِضُ للحُفَّاظِ فمن دونهم"2.

وقد تناول الحافظ الذهبي - رحمه الله - هذه القضية أيضاً، فكان مما قال - في معرض رَدِّه على العقيلي لإدخاله عليّ بن المديني في كتاب (الضعفاء) -: "وأنا أشتهي أن تُعَرِّفَني: من هو الثَّقَةُ الثَّبْتُ الذي ما غَلِطَ ولا انفرد بما لا يُتَابَعُ عليه، بل الثقةُ الحافظ إذا انفردَ بأحاديث كان أَرْفَعَ له، وأكمل لرُتْبَتِهِ، وأدلَّ على اعتنائه بعلم الأثر ... "3.

وقال أيضاً: " ... ولا مِنْ شرط الثقة: أن يكون معصوماً من الخطايا والخطأ"4.

__________

1 رسالة الموضوعات: (ق 39/ أ) .

2 زاد المعاد: (3/459) .

3 الميزان: (3/140) .

4 المصدر السابق: (3/141) .

(1/564)

فإذا تَقَرَّر ذلك، فإنه لا ينبغي الحكم على كل حديث بالصحة بمجرد توثيق الأئمة لراويه، بل ينبغي مراعاة كون هذا الحديث مما لا علة له، ويكون خالياً من الشذوذ والنكارة.

ويشيرُ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى الغلط الحاصل للبعض نتيجة لهذا التصور الخاطئ فيقول: " ... أن يرى مثل هذا الرجل قد وُثِّقَ وشُهِدَ له بالصدق والعدالة، أو خُرِّجَ حديثه في الصحيح، فيجعلُ كلَّ ما رواه على شرط الصحيح. وهذا غلط ظاهر؛ فإنه إنما يكون على شرط الصحيح: إذا انتفت عنه العلة، والشكوك، والنكارة، وتوبع عليه ... "1.

ثم يستدل - رحمه الله - على أنَّ توثيق الراوي، وإخراجَ حديثه في الصحيح لا تناقض بينه وبين تخطئتِهِ أحياناً، وإعلال حديثه، بقوله: "فالبخاري يُوَثِّقُ جماعة، ويُعَلِّلُ هو بعينه بعضَ حديثهم، ويُضَعِّفُهُ، وكذلك غيره من الأئمة، ولا تنافي عندهم بين الأمرين، بل هذا عندهم من علم الحديث، وفقه علله، التي بها يُمَيِّزُهُ نُقَّاده وأطباؤه"2.

ويقول أيضاً - في الرد على من جَعَلَ كل راوٍ أخرج له مسلم واحتج به على شرطه في كل حديث يرويه -: "فإن مسلماً إذا احتج بثقة، لم يلزمه أن يصحح جميع ما رواه3، ويكون كل ما رواه على شرطه؛ فإن الثقة قد يَغْلَطُ ويَهِمُ،

__________

1 الفروسية: (ص 45) .

2 الفروسية: (ص 52-53) .

3 يعني الراوي.

(1/565)

ويكون الحديث من حديثه معلولاً علة مؤثرة فيه، مانعة من صحته، فإذا احتج بحديث من حديثه غير معلول، لم يكن الحديث المعلول على شرطه"1.

فتبين بعد هذا العرض: أن الثقة جائز عليه الوهم والغلط، وما دام الأمر كذلك، فلا مانع من إعلال ما تَبَيَّنَ أنه أخطأَ فيه، ولا يُجْعَلُ هذا المعلول صحيحاً اعتماداً على مجرد ثقة هذا الراوي، والله أعلم.

الفائدة الثالثة: إذا أخطأ الراوي في حديث، فإن ذلك لا يُوجِبُ جَرْحاً لازماً له.

وهذه المسألة لها صلة بالتي مضت، وهي على العكس منها: هل تضعيف الحديث بكون الراوي أخطأ فيه يورثه جرحاً لازماً له لا ينفك عنه، فَيُرَدُّ بذلك كل حديث رواه، حتى ولو كان صحيحاً سالماً من الخطأ؟

فقد تقرر فيما سبق: أن الثقة يغلط، وأن الحُكْمَ بثقتِهِ لا يمنعُ إعلال ما أخطأ فيه أو وهم، وكذلك الحال هنا: فإن إعلال حديث أخطأ فيه الثقة أو وهم، لا يجعله مجروحاً، ولا يجعل كل حديث له مردوداً.

فكما أَنَّا في الحالة الأولى لم نعتبر ثقة الراوي فيما أخطأ فيه، فكذلك الأمر هنا: لا نعتبرُ خطأه مُؤَثِّراً فيما أصاب فيه، ووافَقَ فيه غَيْرَهُ.

وقد تناولَ ابن القَيِّم - رحمه الله - هذه المسألة عند كلامِهِ على المسألة التي سبقتها، فَبَيَّنَ - رحمه الله - أن ذلك يقعُ ممن لا نظر عنده،

__________

1 رسالة الموضوعات: (ق 39/ أ) .

(1/566)

وممن قصر ذوقه وفهمه عن ذوق وفهم أئمة العلل في نقدهم للمرويات، ثم بين غلط من يقع في ذلك، فقال: "النوع الثاني من الغَلَطِ: أن يَرَى الرَّجُلَ قد تُكُلِّمَ في بعض حديثه، وضُعِّفَ في شيخ أو في حديث، فيجعل ذلك سبباً لتعليل حديثه وتضعيفه أين وجده، كما يفعله بعض المتأخرين من أهل الظَّاهر وغيرهم"1.

وقال مرة: "والطائفة الثانية: يرون الرجل قد تُكُلِّمَ فيه بسبب حديث رواه، وضُعِّفَ من أجله، فيجعلون هذا سبباً لتضعيف حديثه أين وجدوه، فيضعفون من حديثه ما يجزم أهل المعرفة بصحته"2.

ثم يُقَرِّرُ - رحمه الله - الصواب في ذلك، فيقول: "كون الرجل يخطئ في شيء، لا يمنع الاحتجاج به فيما ظهر أنه لم يخطئ فيه"3.

وقال أيضاً: "وأئمة الحديث على التفصيل والنقد، واعتبار حديث الرجل بغيره، والفرق بين ما انفرد به أو وافق فيه الثقات"4.

ولقد نبه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - على هذه القاعدة الجليلة النافعة، فقال:

__________

1 الفروسية: (ص45) .

2 تهذيب السنن: (5/326) .

3 تهذيب السنن: (3/312) .

4 الفروسية: (ص45) .

(1/567)

"فإذا جُرِحَ الرجل بكونه أخطأ في حديث أو وهم أو تفرد، لا يكون ذلك جرحاً مُسْتَقَراً، ولا يُرَدُّ به حديثه"1.

ومن الأمثلة الظاهرة لإيضاح هذه القاعدة وبيانها عند ابن القَيِّم رحمه الله: كلامه عن "عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي" - وقد تُكُلِّم فيه من أجل حديث الشفعة - فقال رحمه الله: "عبد الملك أجلُّ وأوثق من أن يُتَكَلَّمَ فيه، وكان يُسَمَّى "الميزان" لإتقانه وضبطه وحفظه، ولم يتكلمْ فيه أحدٌ قطُّ إلا شعبة، وتكلم فيه من أجل هذا الحديث - يعني حديث الشفعة - وهو كلام باطل.

فإنه إذا لم يضعفه إلا من أجل هذا الحديث، كان ذلك دوراً باطلا؛ فإنه لا يثبت ضعف الحديث حتى يثبت ضعف عبد الملك، فلا يجوز أن يستفاد ضعفه من ضعف الحديث ... ؛ فإن الرجل من الثقات الأثبات الحفاظ، الذين لا مَطْمَحَ للطعن فيهم، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وخَرَّجَ له عدة أحاديث ... "2.

وثمة مثال آخر، وهو ما جاء عن ابن حبان - رحمه الله - في تضعيف "بهز بن حكيم" بسبب روايته حديث "إنا آخذوها وشطر إبله"، وقوله: بأنه لولا هذا الحديث لأدخله في الثقات. فَرَدَّه ابن القَيِّم - رحمه الله - بقوله: "كلام ساقط جداً؛ فإنه إذ لم يكن لضعفه سبب إلا روايته هذا الحديث، وهذا الحديث إنما رُدَّ لضعفه، كان هذا دوراً

__________

1 لسان الميزان: (1/ 17- 18) .

2 تهذيب السنن: (5/ 166 - 167) .

(1/568)

باطلاً ... وهذا غير موجب للضعف بحال"1.

فالحاصل: أن خطأ الراوي في حديث، لا يقضي عليه بالضعف، ولا يُجعل في عداد المجروحين بسبب ذلك، وبخاصة إذا لم يكن هناك سبب لضعفه سوى روايته لهذا الحديث، والله أعلم.

الفائدة الرابعة: لا يلزمُ من كون الراوي لم يُذْكَر في "الصحيحين" أن يكون مجروحاً.

هل من لم يُخَرَّج عنه في "الصحيحين" يكون مجروحاً؟

من المعلوم المقرر: أن البخاريَّ ومسلماً - رحمهما الله - لم يستوعبا الصحيح في كتابيهما، وذلك باعترافهما وإقرارهما2.

وما دام الأمر كذلك، وأنه بقيت أحاديث صحيحة كثيرة خارج كتابيهما، فإنه - وتبعاً لذلك - قد بقي رواة كثيرون ثقات عدول لم يخرج عنهم في "الصحيحين".

قال الحافظ الذهبي رحمه الله: "ومن الثقات الذين لم يُخَرَّجْ لهم في "الصحيحين" خَلْقٌ، منهم: من صَحَّحَ لهم الترمذي وابن خزيمة ... "3.

فإذا تقرر ذلك، فإنه لا يلزم من كون الراوي غير مخرج له في "الصحيحين"، أو أحدهما، أن يكون مجروحاً.

وقد أكد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا المعنى، فقال في شأن

__________

1 تهذيب السنن: (2/194) .

2 انظر مقدمة ابن الصلاح: (ص10) .

3 الموقظة: (ص 81) .

(1/569)

"يعقوب بن عتبة" - وقد حاول بعضهم تضعيف حديث بكونه تفرد به، وأنه ليس ممن خرج له في الصحيحين -:

"هذا ليس بِعِلَّةٍ باتفاق المحدثين؛ فإن يعقوب بن عتبة لم يُضَعِّفْهُ أحد، وكم من ثقة قد احتجوا به وهو غير مخرج عنه في الصحيحين"1.

ومثل هذا قول الذهبي - رحمه الله - في ترجمة أشعث بن عبد الملك الحمراني من "ميزانه"2: "إنما أوردته لذكر ابن عدي له في "كامله"، ثم إنه ما ذَكَرَ في حقه شيئاً يدلُّ على تليينه بوجه، وما ذكره أحد في كتب الضعفاء أبداً. نعم ما أخرجا له في "الصحيحين"، فكان ماذا؟ ".

وهذا واضحٌ بَيِّن، والله تعالى أعلم.

الفائدة الخامسة: في عدم الاعتماد في الرواية على الصالحين والزُّهَّاد.

إنَّ الغالب على أمثال هؤلاء - ممن اشتهروا بالصلاح والزهد والعبادة - الغلط والوهم في الحديث. كما قال ابن رجب3 رحمه الله.

وقد نَبَّهَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على أنه لا ينبغي الاغترار بصلاح الرجل وتقواه وزهده، إن لم يكن معروفاً بحمل الحديث

__________

1 تهذيب السنن: (7/ 98) .

(1/ 267) .

3 شرح علل الترمذي: (ص480) .

(1/570)

وحفظه وإتقانه؛ إذ إن صلاحه وزهده لا يلزم منه أن يكون ثقة في الحديث، فقال: " ... فقد يكون الرجل صالحاً، ويكون مُغَفَّلاً: ليس تَحَمُّلُ الحديث، وحفظُهُ، وروايته من شأنه"1.

وعقد الحافظ الخطيب - رحمه الله - في "كفايته"2 باباً للتنبيه على ذلك، فقال: "باب ترك الاحتجاج بمن لم يكن من أهل الضبط والدراية، وإن عُرِفَ بالصلاح والعبادة". ثم ذكر تحت هذا الباب جملة من الأخبار عن أهل العلم في التنبيه على ذلك، منها قول يحيى بن سعيد: "ما رأيت الصالحين في شيء أشد فتنة منهم في الحديث"3.

ونقل ابن رجب عن أبي عبد الله بن منده قوله: "إذا رأيت في حديث: حدثنا فلان الزاهد، فاغسل يدك منه"4.

ولكن، لا يعني ذلك أنَّ أهلَ الحديث وحُفَّاظَهُ وجهابذته ليسو من أهل الصلاح والعبادة، ولكن المقصود: من لم يكن من أهل الحفظِ والإتقانِ منهم.

__________

1 زاد المعاد: (5/540) .

(ص 247) .

3 الكفاية: (ص 247) .

4 شرح علل الترمذي: (ص480) .

(1/571)

2.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

المبحث الثاني: في بيان منهج ابن القيم في الجرح والتعديل

المطلب الأول: في مكانة ابن القيم ـ رحمه الله ـ في نقد الرجال

...

المبحث الثاني: في بيان منهج ابن القَيِّم في الجرح والتعديل

والغرض من هذا المبحث: إبرازُ الناحية العملية التطبيقية في الجرح والتعديل عند ابن القَيِّم، مع بيان ما اتَّسَم به منهجه في هذا الباب، ودراسة بعض عباراته في الحكم على الرجال، مع محاولة عَرْضِ نماذج من الرجال الذين تكلم فيهم بجرح أو تعديل من سائر كتبه التي وقفت عليها ونظرت فيها.

وقد رأيت أن يكون الكلام في هذا المبحث مشتملاً على عدة مطالب:

المطلب الأول: في مكانة ابن القَيِّم -رحمه الله - في نقد الرجال.

المطلب الثاني: في منهج ابن القَيِّم في نقد الرجال.

المطلب الثالث: بعض الأساليب التي استعملها ابن القَيِّم في الجرح والتعديل.

المطلب الرابع: في ذكر بعض الفوائد المتفرقة في الرجال.

(1/573)

المطلب الأول: مكانةُ ابن القَيِّم في نقدِ الرِّجَال

لقد خاضَ ابن القَيِّم - رحمه الله - غمار هذا الفن بعد أن استقرت قواعده، وَدُوِّنَت أقوال الجهابذة النقاد في الرجال جرحاً وتعديلاً، فلم يبق أمام من جاء بعد: إلا النظر في أقوال المتقدمين، والاعتماد عليها في الحكم على الرواة.

وبذلك بقيت جهود المتأخرين - ممن صَنَّفَ في الرجال - محصورة في: تهذيب هذه المؤلفات السابقة واختصارها، أو الجمع بينها، ونحو ذلك من فنون التصنيف وأغراضه المختلفة.

ولكن ذلك لا يمنع من القول: بأنه قد بَرَزَتْ - أيضاً - جهود لبعض الجهابذة النقاد، الذين كان لهم أثرٌ واضحٌ في تحرير وتنقيح الكثير من قواعد هذا الفن، ووضع كل راو في مرتبته اللائقة به، والترجيح بين الأقوال المختلفة في الراوي، إلى غير ذلك من الجهود الموفقة في هذا الباب. وكان على رأس هؤلاء الأئمة: الحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر رحمهما الله تعالى.

وعلى الرغم من قيام هذه المحاولات العديدة في زمن ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أنه لم يضع كتاباً في الرجال، وإنما جاءت أقواله وإفاداته منثورة في أثناء كتبه، عند كلامه على الأحاديث.

ولكن عدم وجود مُصَنَّفٍ لابن القَيِّم في هذا الباب لا يَنْفِي أن له فيه مشاركة فعالة، فقد كانت له شخصيته الواضحة المتميزة، وإسهاماته

(1/574)

العديدة في الكلام على الرجال جرحاً وتعديلاً، بحيث لو جُمِعَت أقواله المنثورة في أثناء كتبه، لأعطت صورة حقيقية عن جهد ابن القَيِّم وإفاداته في هذا الباب، ولجاءت مرجعاً لا يُستهان به في هذا الفن.

والذي يَهُمُّنَا في هذا المقام: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - بالرغم من وجود هذا القدر الهائل من المؤلفات في الرجال، واطِّلاعه عليها، وإفادته منها، لم يكن مجرَّد ناقلٍ لأقوال غيره فحسب، وإنما كانت له شخصيته النقدية المتميزة، الأمر الذي أعطى لأحكامه النقدية قِيمة حقيقية، وفائدة لا يمكن إغفالها.

وتتلخص أهمية أقوال ابن القَيِّم في الجرح والتعديل وأحكامه فيما يلي:

1- اجتهاد ابن القَيِّم - رحمه الله - في شأن بعض الرواة المختلف فيهم جرحاً وتعديلاً، بحيث أعطى لنا - بعد الدراسة والنظر - حُكْماً في هؤلاء: إما بترجيح أحد الأقوال على غيره، أو بالجمع بين تلك الأقوال المتعارضة.

فمن أمثلة ما قام فيه بالترجيح:

ما جاء في كلامه على "زيد بن الحواري"، فإنه نقل فيه اختلاف العلماء، ثم رجح جانب التعديل، فقال: "وحسبه رواية شعبة عنه"1.

وقال عن "سعد بن سعيد الأنصاري" مرجحاً تعديله:"ثقة

__________

1 حادي الأرواح: (ص272) .

(1/575)

صدوق روى له مسلم، وروى عنه: شعبة، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وابن جريج، وسليمان ابن بلال. وهؤلاء أئمة هذا الشأن"1.

ويرجح - رحمه الله - جانب توثيق "عمرو بن شعيب"، فيقول عند كلامه على حديث سقوط الحضانة بالتزويج: "وقد صَرَّح بأن الجد هو عبد الله بن عمرو - يعني في الحديث المذكور -، فبطل قول من يقول: لعله محمد والد شعيب، فيكون الحديث مرسلاً. وقد صحَّ سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو، فبطل قول من قال: إنه منقطع، وقد احتجَّ به البخاري خارج "صحيحه" ونصَّ على صحة حديثه، وقال: كان عبد الله بن الزبير الحميديُّ، وأحمد، وإسحاق، وعلي بن عبد الله يحتجون بحديثه، فمن الناس بعدهم؟! "2.

وقال عن عكرمة: "فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه"3.

2- بيان ابن القَيِّم - رحمه الله - مرتبة كثير من الرواة في عبارة موجزة جامعة، وقد يكون ذلك: بكلمة أو كلمتين أو أكثر، وذلك نتيجة دراسته لأقوال العلماء ونظره فيها، ثم الخروج بهذا الحكم المختصر الجامع.

ولاشكَّ أن لذلك فائدةً كبيرة، وبخاصة لمن يريد الحكم في الراوي

__________

1 تهذيب السنن: (3/311) .

2 زاد المعاد: (5/ 434) .

3 إغاثة اللهفان: (1/296) ، وسيأتي مزيد كلام على ذلك عند منهجه في الجرح والتعديل.

(1/576)

خالصاً، دون الدخول إلى تلك الكتب المطولة، والبحث فيها.

وهذه الأحكام المختصرة المعتصرة تُمَثِّل جانباً كبيراً من كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الرجال، ومن أمثلة ذلك: قوله في الراوي: "ثقة"1، أو: "ضعيف"2، أو: "لا يحتج به"3. أو: "متروك"4، إلى غير ذلك من الأحكام التي صاغها - رحمه الله - بعد دراسة الرجل، مختصراً بذلك تلك الأقوال المتعددة التي قيلت فيه.

3- اعتماد بعض الأئمة الحفاظ على أقوال ابن القَيِّم في الجرح والتعديل؛ كالحافظ ابن حجر رحمه الله، فقد نقل عنه في (لسان الميزان) 5 في ترجمة "العلاء بن إسماعيل العطار"، حيث قال فيه: "مجهول". ونقل عنه أيضاً في: (تهذيب التهذيب) 6، في ترجمة عبد الرحمن بن طلحة الخزاعي، فقال: "قال أبو عبد الله بن القَيِّم في كتاب "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم": مجهول لا يعرف في غير هذا الحديث، ولم يذكره أحد من المتقدمين".

ولا شك أن نقل مثل ابن حجر - مع سعة اطلاعه، وطول باعه في هذا الفن - عن ابن القَيِّم رحمه الله، لَيُعَدُّ دليلاً على القِيمة العلمية لإسهامات ابن القَيِّم وأقواله في نقد الرجال.

__________

1 زاد المعاد: (5/511) .

2 تهذيب السنن: (1/59) ، (3/217) .

3 زاد المعاد: (2/417) .

4 زاد المعاد: (1/197) ، تهذيب السنن: (1/209) .

(4/182) .

(6/201) .

(1/577)

4- العبارات القوية والفريدة التي أطلقها ابن القَيِّم على بعض الرواة، ومنها ما لم يستعمله أحد - فيما أعلم - قبله. ولاشك أن هذه العبارات تمثل إضافات جديدة - لها قيمتها - إلى قاموس ألفاظ الجرح والتعديل1.

5- تعقبات ابن القَيِّم واستدراكاته على بعض الأئمة، والتنبيه على بعض الأوهام التي وقعت لبعضهم في الجرح والتعديل.

فمن ذلك: أن ابن حزم - رحمه الله - حكَم على مُطَرِّف بن مصعب - في سند حديث عند ابن ماجه - بالجهالة، فَتَعَقَّبَهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - قائلاً:"ليس هو بمجهول، ولكنه ابن أخت مالك، روى عنه البخاري، وبشر بن موسى، وجماعة. قال أبو حاتم: صدوق مضطرب الحديث ... وكأن أبا محمد بن حزم رأى في النسخة: مطرف بن مصعب فَجَهَّلَهُ، وإنما هو: مطرف أبو مصعب، وهو مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار"2.

ومن ذلك أيضاً: أن الحاكم أبا عبد الله قال في عاصم بن كليب: "لم يخرج حديثه في الصحيح". فقال ابن القَيِّم رحمه الله: "وليس كما قال، فقد احتج به مسلم، إلا أنه ليس في الحفظ كابن شهاب وأمثاله"3.

__________

1 وسيأتي التنبيه على بعض هذه الألفاظ عند دراسة عباراته في الجرح والتعديل. (انظر ص: 593) .

2 زاد المعاد: (2/132) .

3 تهذيب السنن: (1/368) .

(1/578)

ورد على ابن حزم تضعيفه "الحارث بن أبي أسامة" بقوله: "فإنما اعتمد في ذلك على كلام أبي الفتح الأزدي، ولا يلتفت لذلك"1. والأمثلة في هذا الصدد كثيرة.

تلك أبرز الفوائد التي اشتمل عليها كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الرجال، والتي يمكن أن تعطينا تصوراً عاماً عن أهمية ما جاء عن ابن القَيِّم - رحمه الله - من كلام في نقد الرجال وبيان مراتبهم.

وأخيراً أستطيع القول: إن ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذه المشاركات الفعالة في الجرح والتعديل، يُعَدُّ واحداً من نُقَّادِ هذا الفنِّ المعتبرين الذين لا ينبغي إغفال جهدهم في هذا المجال.

__________

1 تهذيب السنن: (1/ 187) .

(1/579)

المطلب الثاني: منهج ابن القَيِّم في نقد الرجال

تقدَّم أن كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الحكم على الرواة لم يأت نتيجة عمل مخصص لهذا الغرض، بمعنى: أننا لم نجد كلام ابن القَيِّم على الرجال مجموعاً مفرداً في مُؤَلَّف، حتى نتمكن من الوقوف على منهجه وأسلوبه من خلال ذلك، وإنما وُجِدَت أقواله في الرجال منثورة في أثناء كتبه، في أماكن متفرقة ومناسبات شتى، وذلك تبعاً لظروف دراسة كل حديث والحكم عليه.

ومع ذلك، فإنه يمكننا أن نُحَدِّد المنهج العام الذي التزمه، والخصائص الْمُمَيِّزَة لعمله في هذا الباب، وذلك من خلال استعراض النقاط التالية:

أولاً: لم يلتزم ابن القَيِّم - رحمه الله - طريقة واحدة في الحكم على الراوي. فتارة ينقل أقوال العلماء في الرجل، وتارة يحكم عليه هو بنفسه، وذلك بكلمة أو كلمتين، أو أكثر، وذلك بحسب ظروف كل راو، وما يقتضيه المقام.

ثانياً: قد يختلف حكم ابن القَيِّم - رحمه الله - على الرجل الواحد من مكان لآخر ومن مناسبة لأخرى. وليس ذلك من التناقض، ولكن يحصل ذلك لاختلاف الظروف والمناسبات، فكل حكم من هذه الأحكام يكون خاضعاً لتلك الظروف التي صَدَرَ فيها.

ومن أمثلة ذلك: كلامه في الحجاج بن أرطاة، فبينما هو يضعفه

(1/580)

في مواطن عدة1 - وذلك حيث ينفرد أو يخالف غيره - نجده يُقَوِّي أمره في مواطن أخرى، وذلك عندما يروي ما رواه الناس، ولا ينفرد بما يُنْكَرُ عليه.

فقد قال رحمه الله في حديث جابر رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة فطاف لهما طوافاً واحداً": "فيه الحجاج بن أرطاة، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن ما لم ينفرد بشيء، أو يخالف الثقات"2.

وقال - رحمه الله - في الحديث نفسه في موضع آخر: "وهذا وإن كان فيه الحجاج بن أرطاة، فقد روى عنه: سفيان، وشعبة، وابن نمير، وعبد الرزاق، والخلق عنه. قال الثوري: وما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه. وعيب عليه التدليس، وقلَّ من سلم منه ... وقال أبو حاتم: إذا قال: حدثنا، فهو صادق لا نرتاب في صدقه وحفظه"3.

فهكذا نجده يقبله في الشواهد والمتابعات، ويثني عليه، ويقوِّي حاله، ويضعفه حيث ينفرد ولا يُتَابَع.

ثالثاً: قد يلجأ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى الترجيح بين أقوال الأئمة عند التعارض. ويكون اختياره وترجيحه في الغالب مطابقاً لما يدعمه الدليل، وتؤيده قواعد الفن.

__________

1 انظر مثلاً: تحفة المودود: (ص 175-176) .، وزاد المعاد: (1/50، 438) ، والفروسية: (ص45) .

2 زاد المعاد: (2/111) .

3 زاد المعاد: (2/147) .

(1/581)

ومن أمثلة ذلك: قوله في صالح مولى التوأمة: "للحفاظ في صالح هذا ثلاثة أقوال، ثالثها أحسنها، وهو: أنه ثقةٌ في نفسه ولكنه تَغَيَّرَ بآخرته، فمن سمع منه قديماً فسماعه صحيح، ومن سمع منه أخيراً ففي سماعه شيء. فمن سمع منه قديماً: ابن أبي ذئب، وابن جريج، وزياد بن سعد، وأدركه مالك، والثوري بعد اختلاطه"1.

ورجَّحَ جانبَ التعديل في عكرمة قائلاً: "فإن الناس احتجوا بعكرمة، وصَحَّحَ أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قَدْحِ من قَدَحَ فيه"2.

ورجَّح توثيق عمرو بن شعيب على تضعيفه، فقال: "الجمهور يحتجون به ... واحتج به الأئمة كلهم في الديات"3. وقال مرة مؤكداً هذا الاختيار: "ونحن نحتج بعمرو بن شعيب"4.

وكذا اختار توثيق محمد بن إسحاق، إمام المغازي، فقال: "وثناء الأئمة على ابن إسحاق، وشهادتهم له بالإمامة، والحفظ، والصدق، أضعاف أضعاف القدح فيه"5.

رابعاً: قد يلجأ ابن القَيِّم إلى الجمع بين الأقوال التي ظاهرها التعارض في الرجل المختلف فيه. بحيث يحمل كل قول منها على وجه

__________

1 جلاء الأفهام: (ص15) .

2 إغاثة اللهفان: (1/296) .

3 تهذيب السنن: (6/374) .

4 زاد المعاد: (5/ 429) .

5 أحكام أهل الذمة: (1/332) .

(1/582)

يحتمله، فيخرج من هذه الأقوال بحكم يمثل "قولاً وسطاً" في هذا الراوي، فلا هو يضعف مطلقاً، ولا يُوَثَّقُ مطلقًا.

فمن ذلك: قوله في عبد الله بن لهيعة: "وحديثُ ابن لهيعة يُحْتَجُّ منه بما رواه عنه العبادلة: كعبد الله بن وهب، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقرئ"1.

ويقول في محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: "ثقةٌ حافظٌ جليلٌ، ولم يزل الناس يحتجون بابن أبي ليلى على شيء ما في حفظه يُتَّقَى منه ما خَالَفَ فيه الأثبات، وما تفرد به عن الناس"2.

فَبَيَّن - رحمه الله - أنه يعتبر به إذا وافق غيره، ولم يأت بما ينكر عليه، وأنه يترك من حديثه ما خالف فيه أو انفرد عن الناس، فلا يكون حجة في ذلك.

ويقول في سفيان بن حسين: "في الزهري: ضعيف"3.

ثم يُبَيِّن وجه الجمع بين قول من وَثقَهُ وقول من ضَعَّفَهُ، فيقول: "ولا تنافي بين قول من ضعفه وقول من وثقه؛ لأن من وثقه جمع بين توثيقه في غير الزهري وتضعيفه فيه"4.

فهكذا يبين - رحمه الله - أن بعض الرواة لا يعارضُ تضعيفُهُم

__________

1 إعلام الموقعين: (2/406-407) .

2 زاد المعاد: (5/150) .

3 تهذيب السنن: (3/ 344) .

4 الفروسية: (ص44) .

(1/583)

توثيقَهُم؛ إذ كل منهما له وجه ومحمل، فإذا أخذ ذلك في الاعتبار أمكن الجمع بين الأقوال المتعارضة في الرجل، وهذا يحتاج إلى إحاطة كاملة ومعرفة تامة بمقاصد العلماء فيما يطلقونه من أقوال في الرواة ووجه كل قول منها، وبخاصة عند الاختلاف في الراوي، وقد مضى كلام ابن القَيِّم في التنبيه على ذلك.

خامساً: غالباً ما يقوم ابن القَيِّم - رحمه الله - بالدفاع عن الراوي الذي يرى أنه قد ضُعِّفَ تعنتاً، وأن من جرحه لم يأت بما يقدح فيه.

فيجتهد - رحمه الله - في الذَّبِّ عنه، وإثبات ثقته، وله في ذلك أسلوبه المتميز، وعباراته القوية التي تتسم بوضوح الْحُجَّة وقوةِ الدليل.

فمن ذلك: قوله في الردِّ على من ضعف ابن إسحاق: "إن ابن إسحاق بالموضع الذي جعله الله: من العلمِ والأمانة ... قال علي بن المديني: لم أجد له سوى حديثين منكرين. وهذا في غاية الثناء والمدح، إذ لم يجد له - على كثرة ما روى - إلا حديثين منكرين"1. وقال أيضاً: "ثقة لم يجرح بما يوجب ترك الاحتجاج به ... "2.

وقال - رحمه الله - في الدفاع عن المنهال بن عمرو - وقد حاول بعضهم جَرْحَهُ بسماع صوت طنبور من بيته -: "وليس في شيء من هذا ما يقدح فيه"3. وقال مرة - بعد أن نقل توثيقه عن الأئمة -:

__________

1 تهذيب السنن: (7/ 94- 95) .

2 جلاء الأفهام: (ص6) .

3 تهذيب السنن: (1/ 92) .

(1/584)

"وبالجملة: فلا يرد حديث الثقات بهذا وأمثاله"1.

ويقول مدافعاً عن عكرمة مولى ابن عباس: "وإن قَدَحْتُم في عكرمة - ولعلكم فاعلون - جَاءَكُم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتججتم به - أنتم وأئمة الحديث - من روايته، وارتضاء البخاري إدخال حديثه في صحيحه"2. ويقول أيضاً: "وطَعَنَ - يعني: بعضهم - في عكرمة، ولم يصنع شيئاً"3.

ويقول عن عبد الملك بن أبي سليمان - وقد ضعفوه بحديث الشفعة -: "وتلك شكاة ظاهر عنه عارها"4.

وقال عن إبراهيم بن طهمان - وقد ضعفه ابن حزم -: "لله ما لقي إبراهيم بن طهمان من أبي محمد بن حزم، وهو من الحفاظ الأثبات الثقات ... "5.

وكذلك نجده - رحمه الله - عندما يُعَارَضُ الثقة بشخص ضعيف، فإنه يرد ذلك بشدة، مؤكداً ضعف هذا المعارض، ومن أقواله في ذلك:

قوله في عَطَّاف بن خالد - وقد خالف الثقات فزاد في الإسناد

__________

1 تهذيب السنن: (7/ 140) .

2 زاد المعاد: (5/ 264) .

3 زاد المعاد: (2/ 434) .

4 زاد المعاد: (2/ 146) . وهذه العبارة شطر بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وتمامه:

وعَيَّرَهَا الواشون أَنِّي أُحِبُّها ... وتلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عَنْكَ عارُها

يقال: ظهر عني هذا العيب، إذا لم يعلق بي ونبا عني. (لسان العرب: ظهر) .

5 زاد المعاد: (5/ 708) .

(1/585)

رجلاً -: "فأما عطاف: فلم يرض أصحاب الصحيح إخراج حديثه، ولا هو ممن يُعَارض به الثقات الأثبات ... "1.

وقال في أبي شيخ الهنائي - وقد روى عن معاوية النهي عن أن يُقْرن بين الحج والعمرة -: "وأبو شيخ: شيخ لا يحتج به، فضلاً عن أن يُقَدَّم على الثقات الحفاظ الأعلام ... "2.

سادساً: الشمول، والإحاطة، وغزارة المعلومات في عباراته التي يطلقها على الرواة. بحيث تشتمل عبارة واحدة - مثلاً - على معلومات متكاملة عن الراوي، وبذلك يكون لهذه العبارات أثر كبير في تجلية صورة الراوي وتوضيحها.

فيقول - رحمه الله - في إبراهيم بن طهمان: "من الحفاظ الأثبات الثقات الذين اتفق الأئمة الستة على إخراج حديثهم، واتفق أصحاب الصحيح - وفيهم الشيخان - على الاحتجاج بحديثه، وشهد له الأئمة بالثقة والصدق، ولم يحفظ عن أحد منهم فيه جرح ولا خدش، ولا يُحْفَظُ عن أحد من المحدثين قط تعليل حديث رواه، ولا تضعيفه به"3.

فهذه الجملة - على وجازتها - قد أحاطت بأحوال الْمُتَرْجَم وبَيَّنت مرتبته، وأعطت صورة كاملة عنه، فهو:

1- من الحفاظ الأثبات الثقات المشهود لهم بالثقة والصدق.

__________

1 تهذيب السنن: (1/ 363) .

2 زاد المعاد: (2/ 138) .

3 زاد المعاد: (5/ 708) .

(1/586)

2- أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.

3- احتج به الشيخان في (صحيحيهما) .

4- لم يُحْفظ عن أحد من الأئمة فيه خدش ولا قدح.

5- ولا ضَعَّفَ أحد من الأئمة حَديثاً رواه، ولا أعله به.

ومثل ذلك: قوله في "بقية بن الوليد": "ثقة في نفسه، صدوقٌ حافظٌ، وإِنَّمَا نُقِمَ عليه التدليس، مع كثرةِ روايته عن الضعفاء والمجهولين، وأما إذا صَرَّح بالسماع فهو حجة"1.

وقال في "حميد بن صخر": "ضَعَّفَهُ النسائي، ويحيى بن معين. ووثقه آخرون. وأنكر عليه بعض حديثه. وهو ممن لا يحتج به إذا انفرد"2.

فقد أفادت هذه العبارة أن حميداً هذا:

__________

1- اخْتُلِفَ فيه، فوثقه جماعة وضعفه آخرون.

2- وأنه أنكرت عليه أحاديث.

3- والخلاصة في أمره: أنه لا يحتج بما ينفرد به.

وبعد، فهذا ما أمكنَ التنبيه عليه فيما يتعلق بالخطوط العامة للمنهج الذي سار عليه ابن القَيِّم - رحمه الله - في نقد الرجال والحكم عليهم، ولعل ذلك يُسْهِم في تقديم صورة واقعية للناحية النقدية عند ابن القَيِّم، ويلقي الضوء على شخصيته المتميزة في هذا الجانب المهم من

1 تهذيب السنن: (1/ 129) .

2 زاد المعاد: (1/ 359) .

(1/587)

مباحث علوم الحديث، والذي يمثل الأساس المتين للحكم على المرويات ونقدها وتمحيصها.

وبعد هذا العرض العام لمنهجه - رحمه الله - في ذلك، يمكن استخلاص أبرزِ السِّمَات والخصائص التي اتسمت بها شخصيته النقدية، وأقوالُهُ في الرجال، فمن ذلك:

1- سعَةُ اطِّلاعه على أقوال الأئمة، وإلمامه بما قيل في الراوي، فنجده - مثلاً - يقول في "حبيب بن أبي حبيب": "كَذَّاب وضَّاع باتفاق أهل الجرح والتعديل"1. وقد يكون قصده بذلك جمهورهم وأكثرهم، ولكن هذا لا ينفي ما قدمنا.

ومثله ما تقدم من قوله في "إبراهيم بن طهمان": "لم يُحْفَظ عن أحد منهم فيه جرح ولا خدش"2.

2- كثرة مصادره في الرجال، فنجده - رحمه الله - ينظرُ في الرجل الواحد عدة مصادر، فمن ذلك: أنه قال في رجل - وقد اختلف في اسمه -: "وهكذا هو في: "تاريخ البخاري"، "وكتاب ابن أبي حاتم"، "والثقات" لابن حبان، "وتهذيب الكمال" لشيخنا أبي الحجاج المزي"3.

3- تَمَيُّزُ شخصيته - رحمه الله - في نقد الرواة؛ فلم يكن مجرد ناقل لأحكام غيره، بل كان له أثر بارزٌ في تمحيص هذه الأقوال ونقدها، وقد مرت أمثلة لذلك.

__________

1 مختصر الصواعق: (2/391) .

2 زاد المعاد: (5/708) .

3 جلاء الأفهام: (ص12) .

(1/588)

4- مَعْرِفَتُهُ - رحمه الله - بكثير من ضوابط الجرح والتعديل، وإعماله هذه الضوابط أثناء حكمه على الرواة، ومن هذه القواعد والضوابط:

أ - أنَّ الْجَرْحَ غير القادح لا أثر له في رد الرواية.

ب - الوَهْمُ اليسير لا يؤثر على ثقة الراوي وإتقانه؛ إذ إن ذلك لا يسلم منه أحد.

ج - عدم قبول رواية الْمُبْتَدِع إذا روى ما ينصر بدعته.

د - عدمُ قبول الجَرْحِ إلا مفسراً، وبِخَاصة في الراوي الْمُخْتَلَفِ فيه.

وقد تقدم الكلام على هذه الضوابط وذكر أمثلة لها في المبحث الماضي.

5- معرفته - رحمه الله - بكثير من دقائق هذا الفن وأموره التي لا غنى عنها للناقد والْمُتَكَلِّمِ في الرجال، فمن ذلك:

أ - معرفته بأوطان الرواة وبلدانهم، فيقول مثلاً: "هذا إسناد شامي"1.

ب - معرفته بطبقات الرواة، واستفادته من ذلك في أحكامه على الرجال، والأمن من الخلط بين المشتبهين، فمن ذلك: أن ابن الجوزي اشتبه عليه عبد الله بن وهب الإمام، بعبد الله بن وهب النسوي الوضاع، فَغَلَّطَهُ ابن القَيِّم - رحمه الله - في ذلك، مستدلاً بأن الحديث من رواية:

__________

1 تهذيب السنن: (1/169) .

(1/589)

أصبغ بن الفرج، ومحمد بن عبد الله بن الحكم وغيرهما من أصحاب عبد الله بن وهب الإمام. وأما النسوي: فهو متأخر، فإنه من طبقة يحيى بن صاعد1.

ج - معرفته - رحمه الله - بمراتب الرواة، ودرجاتهم في الحفظ، وَمَنِ الْمُقَدَّم منهم عند الاختلاف، فمن ذلك: قوله في أصحاب شعبة: "وغندر أصحُّ الناس حديثاً في شعبة"2. ويقول في أصحاب قتادة: "وهشام - يعني الدستوائي - وإن كان مقدماً في أصحاب قتادة، فليس همام وجرير إذا اتفقا بدونه"3.

__________

1 انظر: تهذيب السنن: (5/251-252) .

2 تهذيب السنن: (3/312) .

3 تهذيب السنن: (3/404) .

(1/590)

المطلب الثالث: بعض الأساليب التي استعملها ابن القَيِّم في الجرح والتعديل

لم يقتصر ابن القَيِّم في حكمه على الرواة على مجرد التصريح بعبارات التوثيق والتضعيف، وإنما كانت له - إلى جانب ذلك - أساليب أخرى.

ويمكن إيجاز بعض تلك الأساليب فيما يلي:

1- الاكتفاء بالإشارة إلى وجود الراوي - المراد جرحه أو تعديله - في الحديث أو الإسناد.

قال في شعبة: "ولكنه حديث فيه شعبة"1. يريد بذلك مدحه وتوثيقه.

وقال - رحمه الله - في تضعيف الحجاج بن أرطأة: "ولكن في إسناد حديث الترمذي: الحجاج بن أرطاة"2.

وقال في حديث: "رواه الترمذي، ولكن دَرَّاجاً أبا السمح بالطريق"3.

وفي مثل ذلك يُعرف مراده رحمه الله - من جرح أو تعديل - بالقرائن المحيطة بذلك الراوي.

وهذه الطريقة استعملها ابنُ القَيِّم - رحمه الله - في الجرح

__________

1 حادي الأرواح: (ص274) .

2 زاد المعاد: (2/287) .

3 حادي الأرواح: (ص 270) . وقوله: "بالطريق" أي هو في إسناد هذا الحديث، ففيه إشارة لتضعيفه بهذا الراوي، مع كون الترمذي رواه.

(1/591)

والتعديل على السواء، ولكن هناك بعض الأساليب ورد استعمال ابن القَيِّم لها في التعديل خاصة، فمن ذلك:

2- تكرار اسم الشخص، إشارة إلى ثقته وإمامته وإتقانه. فقد قال في شعبة: "وشعبة هو شعبة"1. وقال في حديث: "فإذا رجحنا بالحفظ والإتقان، فشعبة شعبة"2. وقال عن الإمام مالك رحمه الله: "ومالك مالك"3.

3- التعبير عن ثقة الراوي بإخراج الشيخين أو أحدهما له. وقد استعمل - رحمه الله - هذا الأسلوب في مناسبات عدة، فمن ذلك قوله في عمرو بن أبي سلمة التنِّيسي: "محتجٌّ به في الصحيحين"4. وقال في سليمان بن كثير: "اتفق الشيخان على الاحتجاج بحديثه"5.

4- التعبير عن ثقة الراوي برواية الأئمة المشهورين - أو أحدهم - عنه. فقد قال - رحمه الله - في مَغْرَاء العبدي: "روى عنه أبو إسحاق السبيعي على جلالته"6. وقال مرة في تقوية شأن حجاج بن أرطاة: "وهذا وإن كان فيه الحجاج بن أطارة، فقد روى عنه: سفيان، وشعبة، وابن نمير، وعبد الرزاق، والخلق"7.

__________

1 تهذيب السنن: (5/407) .

2 إعلام الموقعين: (2/ 369) .

3 تهذيب السنن: (2/330) .

4 زاد المعاد: (5/283) .

5 الفروسية: (ص52) .

6 الصلاة: (ص119) .

7 زاد المعاد: (2/147) .

(1/592)

فهذه بعض الأساليب التي اعتمدها ابن القَيِّم - رحمه الله - في التعبير عن جرح الرواة أو تعديلهم، وذلك إلى جانب من صرح فيهم بلفظ التوثيق أو التجريح.

التنبيه على بعض العبارات الخاصة بابن القَيِّم رحمه الله.

ويحسنُ في هذا المقام التنبيه على بعض العبارات التي استعملها ابن القَيِّم، مما يغلب على الظن أنها مما تميز - رحمه الله - بها، وأنه لم يُسبق إليها.

ولاشك أن ذلك يُلْقِي المزيدَ من الضوء على أهمية كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - في الرجال، ومدى ما له من جهد وإسهام بارز في هذا الفن المهم، فمن هذه العبارات:

1- قوله: "فلانٌ من الحُفَّاظ الثقاتِ الذين لم تُغْمَزْ قَنَاتُهُم".

وأصل الغمز: العصر باليد. والقناة: هي قناة الرمح، أي خشبته. ورمح غير مغموز القناة: إشارة إلى استقامته، ونفيٌ لاعوجاجه ولينه1.

فقول ابن القَيِّم - رحمه الله - عن الرواة "لم تغمز قناتهم": نفي لضعفهم ولينهم، وإثبات لثقتهم وقوتهم.

فهي من عبارات التعديل عنده، فقد قالها - رحمه الله - في رجل حاول البعض إعلال حديث بتفرده به، وهو: جعفر بن إياس2، فقصد

__________

1 انظر: (لسان العرب) : (ص 3296) مادة: غمز. "والمغرب": (2/112-113) . مادة: غمز. (بتصرف) .

2 تهذيب السنن: (3/425) .

(1/593)

ابن القَيِّم بعبارته: أن هذا الراوي على درجة من الثقة والتثبت لا يضر معها تفرده، وإنما يضر تفرد من كان مجروحاً، وليس هذا كذلك.

2- قوله: "ما سَوَّى اللهُ ولا حُفَّاظُ دينه بين فلانٍ وفلانٍ".

قال ذلك في المقارنة بين راويين لبيان أن أحدهما ثقة، والآخر ضعيف، فلا يمكن مقارنته بهذا الضعيف وتشبيهه به.

فقد قال ابن حبان في شأن داود بن الحصين، وزيد بن جبير - وقد وقعا في حديث -: "يجب تجنب رواية زيد وداود جميعاً". فَرَدَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - ذلك بقوله: "ما سَوَّى الله ولا حفاظُ دينه بين زيد ابن جبير وداود بن الحصين". ثم أخذ في نقل أقوال الأئمة في توثيق داود ابن الحصين، ثم قال بعد ذلك: "وأما زيد بن جبير: فقال البخاري وغيره: متروك ... " وسرد أقوال الأئمة في تضعيفه1.

3- قوله: "ارْتَقَى مِنْ حَدِّ الضَّعْفِ إلى حَدِّ التَّرْكِ".

وَصَفَ بذلك الجارودَ بن يزيد2، وقد كَذَّبَه جماعة، وحكم آخرون بأنه متروك3، وكانت كلمات بعضهم توحي بمجرد ضَعْفِه.

وقد قال فيه ابن القَيِّم هذه الكلمة بمناسبة روايته حديثاً في عدم وقوع الطلاق إذا استثنى الْمُطَلِّق، فكأن ابن القَيِّم - رحمه الله - أراد أن يؤكد بكلمته هذه: أن مجيئه بمثل هذه الطامات مما يعزز الحكم بكونه

__________

1 رسالة الموضوعات: (ق48) .

2 إعلام الموقعين: (4/69) .

3 انظر: الميزان: (1/384) .

(1/594)

"متروكاً" لا يحل الاحتجاج به، وأن كلمة "ضعيف" قليلة في حقه.

كما أن هذه العبارة من ابن القَيِّم - رحمه الله - تحملُ نوعاً من السخرية والتهكم؛ إذ إن التَّرقي عادة يكون إلى الأحسن والأعلى.

4- قوله: "لم يُسْفِرْ1 صباحُ صِدْقِهِ في الرواية".

قال هذه العبارة في عمر بن صبح2 كناية عن كذبه، والتصاق هذا الوصف به، وإقامته على ذلك.

وهذا من الأساليب البلاغية التي استعملها - رحمه الله - في نقد الرواة، حيث لجأ إلى الطِّباق والتورية للتعبير عن جرح هذا الرجل.

5- قوله: "كُسَيْرٌ عن عُوَيْرٍ"3.

قالها في "العرزمي عن الكلبي"4، وفي "سليمان بن عيسى السجزي عن عبد الرحيم العمي"5.

وهاتان الكلمتان مأخوذتان من مَثَلٍ عربيٍّ قديم، وهو قولهم: "عُوَيْرٌ وكُسَيْرٌ، وكلٌّ غَيْرُ خَيْر". وهو من الأمثال التي تُعَبِّرُ عن الخلة غير المحمودة، كما قال أبو عبيد البكري6، ثم ذكر قصة هذا المثل ومناسبته.

__________

1 أسفر الصبح: أضاء. (مختار الصحاح: ص301) .

2 تهذيب السنن: (6/ 324) .

3 وهما تصغير: "مكسور"، و "أعور".

4 تهذيب السنن: (5/ 409) .

5 جلاء الأفهام: (ص 237) .

6 فصل المقام في شرح كتاب الأمثال: (ص378) .

(1/595)

وقال الجوهري: "يقال في الخصلتين المكروهتين: كُسَير وعوير، وكل غير خير"1.

وقد تَبَيَّن من صنيع ابن القَيِّم - رحمه الله - استعمال هاتين الكلمتين للجرح الشديد، ولاسيما في حق من كان متهماً بالكذب.

وبعد، فهذا ما أمكنَ التنبيه عليه من ألفاظ الجرح والتعديل التي يغلب على الظن: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد انفرد بها، والله أعلم.

__________

1 انظر: لسان العرب: (ص 3164) مادة: عور.

(1/596)

المطلب الرابع: في ذكر بعض الفوائد الْمُتَفَرِّقَةِ في الكلام على الرواة

وقد رأيت أن أختمَ هذا الفصل ببعض الفوائد المتفرقة، مما يتعلق بكلامه - رحمه الله - في ضبط بعض الأسماء الْمُشْكِلَة، أو تقييد بعض ما جاء من ذلك مُهْمَلاً، إلى غير ذلك من الفوائد الْمُهِمَّات في هذا الباب، فمن ذلك:

الفائدة الأولى: في ذكر جماعة من الرواة ينسبون إلى أمهاتهم.

وهذه الفائدة - وما سيأتي بعدها - ذكرها في كتابه "بدائع الفوائد"1 في بحث عارض.

أما الذين نسبوا إلى أمهاتهم:

أولاً: من الصحابة:

1- بلال بن حمامة2، وأبوه: رباح.

2- ابن أم مكتوم3، وأبوه: عمرو.

__________

1 انظر: بدائع الفوائد: (2/221-222) .

2 أبو عبد الله، مولى أبي بكر، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. له ترجمة في: الاستيعاب: (1/141) ، سير أعلام النبلاء: (1/347) ، تهذيب التهذيب: (1/502) ، الإصابة: (1/165) .

3 عمرو - وقيل: عبد الله - بن قيس بن زائدة بن الأصم بن رواحة، القرشي، المؤذن. وكان ضريراً.

له ترجمة في: الإصابة: (2/ 308، 351) ، وسير أعلام النبلاء: (1/360) .

(1/597)

3- بشير بن الخصاصية1، وأبوه: معبد.

4- الحارث بن البرصاء2، وأبوه: مالك.

5- خفاف بن ندية3، وأبوه: عمير.

6- شرحبيل بن حسنة4، وأبوه: عبد الله.

7- مالك بن نميلة5، وأبوه: ثابت.

8 - معاذ ومعوذ ابنا عفراء6، وأبوهما: الحارث.

9 - يعلى بن مُنَيَّة7، وأبوه: أمية.

__________

1 له ترجمة في: الاستيعاب: (1/150) ، الإصابة: (1/ 159) ، تهذيب التهذيب: (1/467) .

2 هو الحارث بن مالك بن قيس الليثي.

له ترجمة في: الاستيعاب: (1/295) ، الإصابة: (1/289) ، تهذيب التهذيب: (2/155) .

3 له ترجمة في: الاستيعاب: (1/ 434) ، الإصابة: (1/ 452) .

4 هو شرحبيل بن عبد الله بن المطاع بن عمرو بن كندة، حليف بني زهرة. وجزم غير واحد بأن "حسنة" أمه. وقيل: بل تبنته وليس بابن لها.

له ترجمة في: الاستيعاب: (1/139) ، الإصابة: (2/143) ، تهذيب التهذيب: (4/324) .

5 هو مالك بن ثابت المزني، حليف بني معاوية بن عوف بن مالك. يعد في الأنصار، قتل يوم أحد.

له ترجمة في: الاستيعاب: (3/ 375) ، الإصابة: (3/357) .

6 وأبوهما: الحارث بن رفاعة بن سواد.

ترجمة معاذ في: الاستيعاب: (3/363) ، والإصابة: (3/ 428) . ومعوذ ترجمته في: الإصابة: (3/ 450) .

7 هو: يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام الحنظلي، حليف قريش.

له ترجمة في: الاستيعاب: (1/ 661) ، الإصابة: (1/668) ، تهذيب التهذيب: (11/399) .

(1/598)

10 - عبد الله بن بحينة1، وأبوه: مالك.

ثانياً: من غير الصحابة، وهم:

11- إسماعيل بن علية2، وأبوه: إبراهيم.

12- منصور بن صفية3، وأبوه: عبد الرحمن.

13- محمد بن عائشة4، وأبوه: حفص.

14- إبراهيم بن هراسة5، وأبوه: سلمة.

15- محمد بن عثمة6، وأبوه: خالد.

__________

1 هو: عبد الله بن مالك بن القشب، أبو محمد الأزدي.

له ترجمة في: الإصابة: (1/364) ، تهذيب التهذيب: (5/381) .

2 هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم.

له ترجمة في: سير أعلام النبلاء: (9/107) ، الميزان: (1/216) ، تهذيب التهذيب: (1/275-279) .

3 هو: منصور بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث القرشي العبدري. وأمه: صفية بنت شيبة.

له ترجمة في: ثقات ابن حبان: (7/ 476) ، تهذيب التهذيب: (10/310) .

4 له ترجمة في: الجرح والتعديل: (3/2/236) ، ثقات ابن حبان (9/62) .

5 أبو إسحاق الشيباني الكوفي. له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/1/143) ، الضعفاء الصغير للبخاري: (ص30) ، الضعفاء المتروكين - للنسائي: (ص13) ، الميزان: (1/72) .

6 الحنفي البصري. له ترجمة في: الجرح والتعديل: (3/2/243) ، تهذيب التهذيب: (9/142) .

(1/599)

الفائدة الثانية: في تقييد بعض الأسماء المهملة، ممن يشتركون في الاسم.

وفائدة معرفة ذلك: الأمن من الوقوع في الاشتباه، خاصة إذا كانوا ممن يروون عن شيخ واحد.

وممن ذكرهم ابن القَيِّم - رحمه الله - من هذا الصنف1:

1- جماعة يروون عن أبي هريرة ممن يسمون بـ"عطاء":

* عطاء، عن أبي هريرة: "في كل صلاة قراءة".

* وعطاء، عنه مرفوعاً: "لا يجتمع حب هؤلاء الأربعة إلا في قلب مؤمن". فذكر الخلفاء الأربعة.

* وعطاء، عنه مرفوعاً: "إذا أُقِيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة".

* وعطاء، عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في: اقرأ باسم ربك".

* وعطاء، عنه مرفوعاً: "إذا مضى ثلث الليل، يقول الله تعالى: ألا داع ... ".

قال رحمه الله:

فالأول: ابن أبي رباح2.

والثاني: الخراساني3.

__________

1 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) .

2 انظر ترجمته في: الجرح والتعديل: (3/1/330) ، ثقات ابن حبان: (5/198) ، الميزان: (3/70) ، تهذيب التهذيب: (7/199) .

3 وهو عطاء بن أبي مسلم الخراساني، نزيل الشام.

له ترجمة في: الجرح والتعديل: (3/1/334) ، المجروحين: (2/ 130) ، الميزان: (3/73) ، تهذيب التهذيب: (7/212) .

(1/600)

والثالث: ابن يسار1.

والرابع: ابن ميناء2.

والخامس: مولى أم صبية3.

2- عدة نساء يروين عن عائشة ممن يسمين: "عَمْرَة"4:

عمرة: أنها دخلت مع أمها على عائشة، فسألتها: ما سمعتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الفرار من الطاعون؟ قالت: سمعته يقول: "كالفرار من الزحف".

وعمرة قالت: خرجتُ مع عائشة سنة قتل عثمان إلى مكة، فمررنا بالمدينة، ورأينا المصحف الذي قتل وهو في حجره، فكانت أول قطرة قطرت على هذه الآية: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:137] . قالت عمرة: فما مات منهم رجل سَوِيًّا.

__________

1 الهلالي، أبو محمد المدني، مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. انظر ترجمته في: جزء من اسمه عطاء - للطبراني: (ص12) ، الجرح والتعديل: (3/1/338) ، سير أعلام النبلاء: (4/448) ، تهذيب التهذيب: (7/217) .

2 المدني، وقيل: البصري، الدوسي، أبو معاذ.

له ترجمته في: الجرح والتعديل: (3/1/336) ، ثقات ابن حبان: (5/ 200) ، تهذيب التهذيب: (7/216) .

3 المدني، الجهني.

له ترجمته في: الجرح والتعديل: (3/1/339) ، ثقات ابن حبان: (5/202) ، الميزان: (3/78) ، تهذيب التهذيب: (7/221) .

4 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) .

(1/601)

وعمرة عن عائشة: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الوصال".

قال رحمه الله: الأولى: بنت عبد الرحمن1.

الثانية: بنت قيس العدوية2.

الثالثة: بنت أرطأة3.

الرابعة: يقال لها: الصحاحية4.

3- ذكر جماعة رووا عن ثابت، عن أنس ممن يسمون بـ"حماد"5.

حماد، عن ثابت، عن أنس: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم في النخل صوتاً ... " الحديث.

حماد، عن ثابت، عن أنس: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الرحمن صفرة ... " الحديث.

__________

1 ابن أسعد بن زرارة الأنصارية المدنية.

لها ترجمة في: ثقات ابن حبان: (5/288) ، وسير أعلام النبلاء: (4/507) ، تهذيب التهذيب: (12/438) .

2 لها ترجمة في: تهذيب التهذيب: (12/440) .

3 لم أقف عليها.

4 كذا ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - رابعة، والمتقدم ذكرهن ثلاثة فقط، فلعل حديثها سقط في الطباعة، والله أعلم.

5 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) .

(1/602)

حماد، عن ثابت، عن أنس يرفعه: "مثل أمتي كالمطر".

قال ابن القَيِّم رحمه الله:

الأول: ابن سلمة1.

الثاني: ابن زيد2.

الثالث: الأبح3.

الفائدة الثالثة: من روى عن شيخين متفقي الاسم: أحدهما ثقة، والآخر ضعيف4.

فمن هؤلاء:

1- قتادة5:

يروي عن عكرمة مولى ابن عباس6.

__________

1 هو حماد بن سلمة بن دينار البصري.

له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/2/ 140) ، والميزان: (1/590) ، وتهذيب التهذيب: (3/11) .

2 هو: حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، أبو إسماعيل البصري.

له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/1/176) ، سير أعلام النبلاء: (7/456) ، تهذيب التهذيب: (3/9) .

3 هو: حماد بن يحيى الأبح، أبو بكر السلمي.

له ترجمة في: الجرح والتعديل: (1/2/151) ، الميزان: (1/601) ، تهذيب التهذيب: (3/21) .

4 انظر: بدائع الفوائد: (3/222) .

5 ابن دعامة السدوسي.

6 يعني: وهو ثقة.

(1/603)

وعن عكرمة بن خالد1: ضعيف2.

2- وكيع3:

يروى عن النضر بن عربي4: ثقة.

وعن النضر بن عبد الرحمن5: ضعيف.

3- حفص بن غياث:

يروى عن أشعث بن عبد الرحمن6: ثقة.

وعن أشعث بن سوار7: ضعيف.

وبعد، فهذه بعض الفوائد المتعلقة بالرجال مما وجد في كلام ابن القَيِّم رحمه الله تعالى.

__________

1 ابن العاص بن هشام المخزومي، ثقة خ م د ت س. (التقريب: 396) .

2 كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله، ولكن الأمر على خلاف ذلك؛ فإن في الرواة آخر يسمى: عكرمة بن خالد أيضاً، وهو: عكرمة بن خالد بن سلمة المخزومي وهذا هو الضعيف، وهو قريب للأول. وقد وهم بعضهم فَضَعَّفَ الثقة ظاناً أنه هو هذا الضعيف، وهذا الثقة هو الذي يروى عنه قتادة. انظر: الميزان: (3/90) ، تهذيب التهذيب: (7/258-259) .

3 هو: ابن الجراح بن مليح.

4 الباهلي مولاهم، أبو روح، الحراني، لا بأس به، مات سنة 168 هـ- /د ت (التقريب: 562) .

5 أبو عمر الخزاز، متروك/ ت. (التقريب: 562) .

6 لم يتبين لي من هو؟ وحفص بن غياث يروي عن ثلاثة يسمون أشعث وهم: ابن سوار، وابن عبد الله الحداني، وابن عبد الملك الحمراني. انظر: تهذيب الكمال: (7/56 - 57) .

7 الكندي، النجار، الأثرم، قاضي الأهواز.

(1/604)

3.

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

المجلد الثاني

الباب الثاني: آراء ابن القيم ومنهجه في الحديث وعلومه

الفصل الثالث: منهج ابن القيم في تخريج الحديث والحكم عليه

المبحث الأول: منهج ابن القيم في تخريج الحديث وعزوه.

...

الفصل الثالث: منهج ابن القَيِّم في تخريج الحديث والحكم عليه

والمقصود في هذا الفصل: بيان المنهج الذي سلكه ابن القَيِّم في الحكم على الأحاديث، وبيان درجتها: من الصحة، أو الضعف، أو غيرهما، وما يلتحق بذلك من الكلام على منهجه في بيان العلل.

وذلك كله من خلال ما وقفت عليه من كلامه على الأحاديث في كتبه المختلفة.

ويسبق ذلك: الكلام على منهجه في تخريج الأحاديث وعزوها.

وقد جعلت هذا الفصل في مبحثين:

المبحث الأول: منهج ابن القَيِّم في تخريج الحديث وعزوه.

المبحث الثاني: منهجه في الحكم على الحديث.

(2/7)

المبحث الأول: منهجه في تخريج الحديث وعزوه

لما كانت العلاقة وثيقة بين التخريج وبين التوصل إلى الحكم على الحديث، رأيت أن يكون الكلام على التخريج، ومنهج ابن القَيِّم في ذلك أول مباحث هذا الفصل، وذلك كالتمهيد للكلام على الحكم على الحديث إن شاء الله.

والمراد بالتخريج هنا: عزو الحديث إلى مصادره الأصلية - التي جمعها أصحابها بأسانيدها - والدلالة على موضعه فيها، مع بيان درجته عند الحاجة1.

فيكون المقصود من التخريج بهذا المعنى: التوصل إلى الحكم على الحديث، وبيان درجته من الصحة أو الضعف؛ إذ عن طريق التخريج يمكن للباحث الوقوف على طرق الحديث وجمع أسانيده، ومن ثَمَّ دراسة هذه الطرق والحكم من خلالها على الحديث وبيان حاله، مع ما في ذلك من فائدة الوقوف على شواهد الحديث ومتابعاته، فقد يرتقي بها الحديث من حال الضعف إلى حال القوة والاحتجاج.

ولقد قام ابن القَيِّم - رحمه الله - بمهمة التخريج للأحاديث التي أوردها في كتبه، وخلال أبحاثه المختلفة على خير وجه، واعتنى بذلك عناية فائقة، وتنوع أسلوبه في ذلك تبعاً لظروف كل بحث.

وفيما يلي ذكر منهجه في التخريج على وجه الإجمال:

__________

1 انظر (أصول التخريج) للدكتور/ محمود الطحان: (ص 12- 13) ، و (دراسات في علوم الحديث) للدكتور/ عجمي دمنهوري: (ص 72-73) .

(2/9)

أولاً: إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما، فإن ابن القَيِّم - في الغالب - يكتفي بالعزو إليهما، ولا يتعداهما إلى غيرهما إلا في القليل النادر، كأن يحتاج إلى التنبيه على فائدة زائدة وليست عندهما.

- ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لا إله إلا الله ... " قال: "رواه البخاري ومسلم"1. والحديث مخرج في: سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي2.

- وقال في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مسلم، يَشْهَدُ ألا إله إلا الله، وَأَنِّي رَسُولُ الله إلا بِإِحدى ثلاث ... ": "أخرجاه في الصحيحين"3. والحديث مَخَرَّجٌ أيضاً: عند النسائي وابن ماجه4، وغيرهما.

- وَخَرَّجَ حديث علي رضي الله عنه في "النهي عن لباس المعصفر" من (صحيح مسلم) وحده5. والحديث أخرجه أيضاً: أبو داود والنسائي6.

- وعزا حديث أم سلمة رضي الله عنها "في القسم للبكر والثيب" لمسلم وحده7.

__________

1 الصلاة: (ص 17) .

2 د: (3/101) ح 2640، ت: (5/3) ح2606، س (5/ 14) .

3 الصلاة: (ص 17) .

4 س: (7/90) ، جه: (2/847) ح 2534.

5 زاد المعاد: (1/138) .

6 د: (4/322) ح 4044، س: (8/204) .

7 زاد المعاد: (5/ 149) .

(2/10)

والحديث أخرجه: مالك، وأبو داود1.

- وقال: "وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيهِ صِيامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" 2. والحديث مُخَرَّج: عند أبي داود، وأحمد3 وغيرهما.

والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحْصَى.

وأما حين يحتاج ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى التنبيه على لفظة زائدةٍ، أو جملة مغايرةٍ، وليس ذلك في الصحيحين، فإنه يضيف إليهما غيرهما من المصادر التي فيها تلك الزيادة، فمن ذلك:

- أنه ساقَ حديث أبي هريرة مرفوعاً: "يقول الله: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِين مَا لا عَينٌ رَأَتْ ... ". ساقه بطوله، ثم قال: "رواه بهذا اللفظ والسياق: الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصدره في الصحيحين"4.

- وقال رحمه الله: " ... ما رواه مسلم في صحيحه: "أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله! ليس لي قائد يقودني إلى المسجد ... " وهذا الرجل هو ابن أم مكتوم ... وفي مسند أحمد، وسنن أبي داود: عن عمرو بن أم مكتوم قال ... "5.

__________

1 طأ: (2/529) ح 14، د: (2/ 594) ح 2122.

2 الروح: (ص 161) .

3 د: (2/ 791) ح 2400، حم: (6/ 69) .

4 حادي الأرواح: (ص 206) .

5 الصلاة: (ص 117) .

(2/11)

فقد عزا الحديث إلى أحمد وأبي داود بعد عزوه إلى مسلم، وذلك لما اشتملت عليه روايتهما من زيادة وبيان؛ حيث جاء عندهما التصريح باسم الرجل.

فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - يكتفي بالتخريج من الصحيحين ويَسْتَغْنِي بهما عن غيرهما، إلا إذا دَعَتْ الضرورةُ إلى الزيادة عليهما، فإنه يفعل ذلك.

ثانياً: لم يلتزم ابن القَيِّم - رحمه الله - بتخريجِ كُلِّ حديث أورده في كتبه، بل إنه - في بعض الأحيان - يذكرُ الحديث مُسْتَدِلاً بهِ لِمَسْأَلة، دون أن يعزوه لأحدٍ ممن خرجه1.

والْمُطَالِع لكتبه - رحمه الله - يجد اهتماماً كبيراً بتخريج الأحاديث التي أوردها في مباحثه، فيكون ما وقعَ له من ذلك: إِمَّا لِشهرةِ الحديث وصحَّتِهِ فيستغني بذلك عن تخريجه، أو لرغبته في الاختصار، أو لأنه خَرَّجَهُ في موضع آخر من كتبه، أو لغير ذلك من الأسباب الكثيرة.

ثالثاً: وكما أنه - رحمه الله - قد يذكر الحديث ساكتاً عن تخريجه، فإنه قد يصرح بعدم وقوفه عليه ولا معرفته بمن خرجه، فمن أمثلة ذلك:

__________

1 انظر أمثلة لذلك في: زاد المعاد: (1/ 188، 189، 191، 240، 262، 285) ، (3/76، 77، 78، 79، 91، 115، 320) ، (4/332) . والوابل الصيب: (ص99) ، وروضة المحبين: (ص 276، 277) وحادي الأرواح: (ص 230) .

(2/12)

- قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: "مَنْ أَجْلَبَ عَلَى الخيل يوم الرِّهان فليس منا" قال: "ذَكَرَهُ صاحب المغني، ولا أعرف مَنْ خَرَّجَهُ"1.

- وقال في حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً: في إطراق الفحل، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ إِكْرَاماً فَلا بَأْسَ" قال: "ولا أعرفُ حال هذا الحديث، ولا من خَرَّجَهُ"2.

أما إذا كان شَاكَّاً وغير متأكد من وجود الحديث في المصدر الذي يعزو إليه، فِإِنَّهُ لا يجزمُ بنسبته إليه، ومن ذلك قوله في حديث: "وأظنه في المسند"3.

رابعاً: طولُ نَفَسِهِ - رحمه الله - واستيعابه في التخريج، فيتوسع أحياناً في تخريجِ الحديثِ الواحد توسعاً كبيراً، حتى إنه ليكادُ يأتي على رواياته، ويستوفي جميع طرقه.

ومن أمثلة ذلك:

- حديث: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَب". قال رحمه الله: "رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنس بن مالك، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وعلي بن أبي طالب، وأبو سعيد الخدري، وأبو ذر، وصفوان بن عَسَّال،

__________

1 الفروسية: (ص 99) .

2 زاد المعاد: (5/ 796) .

3 مدارج السالكين: (2/ 327) .

(2/13)

وعبد الله بن يزيد الخطمي ... " فَعَدَّ تسعة عشر صَحَابياً، ثُمَّ أخذ في تخريج رواية كل صحابي، وبيان درجتها1.

- وحديث النهي عن لحوم الحمر الأهلية، قال رحمه الله:" ... رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم: عليُّ بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، والبراء بن عازب، وابن أبي أوفى ... " فعد عِشْرِين صحابياً، ثم أخذ في تخريجها حديثاً حديثاً2.

- وحديث: "أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ" ساقه - رحمه الله - من طريق: شداد بن أوس، وأبي هريرة، وعائشة، وأسامة بن زيد، وأبي موسى، ومعقل بن سنان، وابن عباس، وبلال رضي الله عنهم أجمعين، مع ذكر من أخرجَ كلَّ رواية من هذه الروايات3.

- وقال - رحمه الله - مرة: " وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بفسخ الحجِّ إلى العمرة أربعة عشر من أصحابه، وأحاديثهم كُلُّهَا صِحَاحٌ، وهم: عائشةُ، وحفصة أَمَّا المؤمنين، وعلي بن أبي طالب، وفاطمة، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد، والبراء، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وسبرة بن معبد الجهني، وسراقة بن مالك المدلجي رضي الله عنهم"4.

__________

1 تهذيب السنن: (8/ 23 - 26) .

2 تهذيب السنن: (5/ 317- 324) .

3 تهذيب السنن: (3/ 243-245) .

4 زاد المعاد: (2/ 178-187) .

(2/14)

ثُمَّ أَخَذَ في سَرْدِ أحاديثهم حَدِيثاً حديثاً، مع تخريجها والكلام عليها.

وهكذا نجده - رحمه الله - يتوسع في إيراد طرق الحديث في مناسبات عديدة، ويكون ذلك منه رحمه الله:

- إما لمحاولة استقصاء أحاديث الباب، واستيعاب المرويات في الموضوع الذي هو بصدد بحثه؛ كما فعل ذلك كثيراً في (تهذيب السنن) 1.

- وإما تأييداً ونصرةً لما يختاره في مسألة مُخْتَلَفٍ فيها، كما هو الحال في المثالين الأخيرين من الأمثلة التي سُقْتَهَا قبل قليل.

- أو لغير ذلك من الأغراض.

خامساً: قد يعزو الحديث إلى أحد الأئمة المشهورين دون تصريح باسم كتابه. فيقول مثلا: "قال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ... "2. ويقول: "قال ابن شاهين: حدثنا عبد الله بن سليمان ابن الأشعث ... "3. ويقول: "قال عبد الرحمن بن أبي حاتم ... "4. ويقول: "قال أبو نعيم: حَدَّثَنَا محمد بن معمر ... "5.

__________

1 انظر مثلاً: (3/ 77، 120) ، (7/ 60، 130، 135، 228، 312) .

2 جلاء الأفهام: (ص 50) .

3 جلاء الأفهام: (ص53) .

4 جلاء الأفهام: (ص 228) .

5 حادي الأرواح: (ص 199) .

(2/15)

ولكنَّ الكثير الغالبَ: أنه يعزو الحديث إلى مصدره، ويذكر الكتابَ الذي خَرَّجَهُ، كما هو ظاهرٌ بَيِّنٌ لمن طَالَعَ كتبه.

سادساً: تنوع طرق نقله للحديث من مصادره.

- فتارة يسوقُ الحديثَ بإسناد صاحب الكتاب الذي أخرجه، وتارةً يكتفي بذكر صحابيِّ الحديث فقط.

ويُلاحظ أنه - رحمه الله - يُكْثِرُ من ذكر أسانيد الأحاديث في بعض كتبه دون بقيتها، فنجد أن ذلك يكثر - مثلا - في (حادي الأرواح) ، وفي (جلاء الأفهام) ، وغيرهما من الكتب التي أفردها لجمع أحاديث موضوع بعينه، أي: الكتب التي تَتَّسِمُ بوحدة الموضوع.

ولعل السبب في ذلك: أن هذه الكتب يغلبُ عليها المادةُ الحديثية، دون الكلام والشرح والأخذ والردِّ، مِمَّا هو موجود في غيرها من كتبه، فيكونُ - لأجل ذلك - قد أولاها عنايته، واهتم بسردها مسندة.

ويُلاحظ أيضاً: أنه لا يسوق - غالباً - أسانيدَ الأحاديث الْمُتَّفَقِ على صِحَّتِهَا، أو التي أخرجها أحد صَاحِبَي الصحيح.

- وتارةً نجده يُسقط حَتَّى ذكر الصحابي، ويُعَلِّقُ الحديثَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: "ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال"1. ويقول: "وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في غزوة فقال ... "2. ويقول: "قال النبي صلى الله عليه وسلم ... "3.

__________

1 الصلاة: (ص 35) .

2 الوابل الصيب: (ص 150) .

3 الوابل الصيب: (ص 185) .

(2/16)

ولكنَّ ذلك قليل إذا قُورِنَ بِمَا صَرَّح فيه بذكرِ الصحابي.

- وقد ينقل - رحمه الله - بعضَ الأحاديث بإسناده الْمُتَّصِل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وغالباً ما يعبر عن ذلك بقوله: "روينا". قال مرة: "وقد روي لنا عنه - يعني نَبِيِّ الله إبراهيم عليه السلام - حديثاً وقع لنا متصل الرواية إليه، رويناه في كتاب الترمذي وغيره ... "1.

فهذه بعض الملاحظات عن أسلوبه في النقل عن المصادر، والعزو إليها، والتخريج منها، وتنوع ذلك منه رحمه الله.

سابعاً: قد يذكر الحديث عند تخريجه إياه بالمعنى، ولا يلتزم بذكر لفظه2.

وهذا - والله أعلم - يقع في بعض الأحاديث التي يذكرها من حفظه خاصة، دون التي ينقلها من مصادرها.

ومع ذلك، فإن الغالب عليه - رحمه الله - المحافظة على لفظ الحديث، ونَقْلِهِ بِنَصِّهِ، كما يظهرُ ذلك عند المقارنة بين كثيرٍ من النصوص الحديثية، ومصادرها التي نقل عنها وعزا إليها.

__________

1 جلاء الأفهام: (ص 149) .

2 انظر مثلا: زاد المعاد: (1/ 318) وقارن مع الترمذي: (2/281) ح420، والزاد: (1/215) وقارن مع ابن حبان: (الإحسان: 4/180) ، والزاد: (2/108) وقارن مع أبي داود: (2/505) ح 1992، والمنار المنيف: (ص83) وانظر حاشية رقم 5 من الكتاب المذكور.

(2/17)

على أنه - رحمه الله - قد يَرِدُ عنه ما يدلُّ على نقله الحديث بالمعنى، فنجده يقول مثلا: "أو كما قال صلى الله عليه وسلم"1.

وقد ينصُّ صراحةً على أن ما ذكره هو معنى الحديث دون لفظه، فمن ذلك:

- قوله في حديث: "النَّظرةُ سَهْمٌ مسمومٌ من سِهَامِ إبليس، فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عن محارمِ امرأة لله، أورثَ الله قلبه حلاوةً إلى يوم يلقاه" قال: "هذا معنى الحديث"2.

- وقال مرة: "وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم حديث معناه: أن الله جعلَ طعامَ ابن آدم، وما يخرجُ منه مثلاً للدنيا ... "3.

ثامناً: الدقة في تمييز الروايات، وبيان الفرق بين ألفاظها، ونسبة كل لفظ إلى الكتاب الذي أخرجه.

- فيقول مثلا: "هذا الحديث في الصحيحين، واللفظ لمسلم"4.

- ويقول في حديث آخر: "رواه الإمام أحمد وأبو داود، وروى النسائي وابن ماجه أَوَّلَهُ"5.

__________

1 مفتاح دار السعادة: (1/181) .

2 الجواب الكافي: (ص 229) .

3 طريق الهجرتين: (ص 455) .

4 مختصر الصواعق: (1/ 61) .

5 الروح: (ص 55) .

(2/18)

- ويقول في حديث آخر: "رواه ابنُ ماجه، والترمذي وهذا لفظه"1.

- وعزا حديث أكلِ الحسنِ أو الحسينِ من تَمْرِ الصدقة للبخاري بلفظ: "فقال: أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة". ثم قال: "ورواه مسلم، وقال: "إنا لا تحل لنا الصدقة" 2.

وبعد، فهذه أهم الخطوات التي سَارَ عليها ابن القَيِّم - رحمه الله - في تخريجه للأحاديث وعزوها إلى مظانها من كتب السنن، والمسانيد وغيرها من المصادر، وما اتَّسَمَ به منهجه في ذلك.

وفي ختام ذلك أُورِدُ بعض الملحوظات اليسيرة، وهي وإن كانت مما يؤخذ على ابن القَيِّم رحمه الله، إلا أنها لا تكادُ تُذْكَرُ في جانب جهده الْمُوَفَّقِ في هذا الباب، وكفى المرء نُبْلاً أن تُعَدَّ مَعَايِبُه.

فمن هذه الملحوظات والمآخذ:

1- أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد يطلق عزو الحديث لمؤلف من المؤلفين دون تحديد للكتاب الذي أُخْرِج فيه هذا الحديث، وقد يؤدي ذلك إلى وقوع شيء من الالتباس، وبخاصة إذا كان لهذا المؤلف أكثرُ من كتاب، فمن أمثلة ذلك:

__________

1 الروح: (ص 108) .

2 جلاء الأفهام: (ص 111) . وانظر مزيداً من الأمثلة على ذلك في: حادي الأرواح: (ص159، 166، 206، 250) ، وزاد المعاد: (3/ 285) ، والصلاة: (ص147، 159) ، وتهذيب السنن: (7/ 81، 150، 151، 330) .

(2/19)

- ما ذكره من دعائه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، وقوله: "اللهم إِنَّكَ تَسْمَعُ كلامي، وترى مكاني، وتَعْلَم سِرِّي وعلانيتي ... ". فقد قال عقبه: "ذكره الطبراني"1.

ومعلوم أن للطبراني معاجمَ ثلاثة، وله كتاب (الدعاء) الذي هو مظنة لوجود هذا الحديث، فلا شكَّ أن إطلاق العزو للطبراني - والحالة هذه - يوقع في نوع التباس، فلا يُدرى في أي كتب الطبراني هو؟

فهذا الحديثُ الذي عزاه للطبراني: مُخَرَّجٌ في معجميه: (الكبير) 2، و (الصغير) 3، فلزم تقييده لأجل ذلك.

- ومن ذلك: عزوه حديث معاوية بن قرة في قتل من عَرَّسَ بامرأة أبيه. للنسائي دون تحديد4، مع أن الحديثَ في (سننه الكبرى) 5. فكان لابد من تقييده دفعاً لالتباسه بالصغرى، إذ هي المرادة عند الإطلاق.

- ومثله: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين ركعتين، ثم ينصرف فيستاك" وأن ذلك كان في صلاة الليل، فقد عزاه إلى (سنن النسائي) 6. مع أن الحديث ليس في (الصغرى) كما هو المتبادر عند الإطلاق، وإنما هو في الكبرى7.

__________

1 زاد المعاد: (2/ 237) .

(11/ 174) ح 11405.

(1/247) .

4 تهذيب السنن: (6/267) .

(6/444 – 445) ح 7182 – 7186.

6 المنار المنيف: (ص 27) .

(1/237) ح 404، (2/135) ح 1345.

(2/20)

- وعزا حديث عمران بن حصين في ثواب السلام إلى النسائي، فقال: "رواه النسائي"1. وليس الحديث في السنن كما هو المتبادر، وإنما هو في (عمل اليوم والليلة) 2 له، ولم أر من عزاه للسنن.

- وذكر حديث: "كان إذا عَرَّسَ3 بليلٍ اضطجع على شقه الأيمن، وإذا عَرَّسَ قبيل الصبح نَصَبَ ذراعه ووضع رأسه على كفه" قال: "هكذا قال الترمذي"4. وليس هذا الحديث في (جامع الترمذي) كما يُفْهَمُ من إطلاقه، وإنما أخرجه في (الشمائل) 5.

- وقريب من ذلك أيضاً: قوله عن حديث: "وفي بعض المسانيد ... "6. هكذا بدون تحديد.

2- قد يعزو - رحمه الله - الحديثَ إلى المصدر الأدنى رتبةً، والأبعدِ شهرةً، مع وجوده في الكتب المتقدمة رتبة وشهرة، كالصحيحين مثلا. فمن ذلك:

- أنه عزا حديث أنس رضي الله عنه: "مَا صَليت خلفَ رجلٍ أوجز صلاة

__________

1 زاد المعاد: (2/ 417) .

(ص 287) ح 337.

3 التعريس: نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة. (النهاية 3/206، عرس) .

4 زاد المعاد: (1/ 158) .

(ص222) ح 247.

6 زاد المعاد: (1/ 168) .

(2/21)

من رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " عزاه لأبي داود1. مع أن الحديث بإسناده ولفظه مخرج في (صحيح مسلم) 2.

- وعزا حديث الرَّجُلِ الذي كان يُتَّهَم بأم ولد النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم علياً لقتله، وأنه وجده مجبوب الذكر. عزاه لابن أبي خيثمة وابن السكن3. مع أن الحديث في (صحيح مسلم) 4، وقد نبه على ذلك محقق (الزاد) .

- وعزا حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقوله لمروان بن الحكم: "ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل ... " عزاه لأصحاب السنن5، مع أن الحديث مخرج في (صحيح البخاري) 6.

3- قد تقع لابن القَيِّم - رحمه الله - أوهام في العزو والتخريج، فمن ذلك:

- حديث: "قَسَمَ الله الخير، فَجَعَله عشرة، فَجَعَل تسعة أعشاره في الشام، وبقيته في سائر الأرض". عزاه للإمام أحمد في (مسنده) 7. وليس الحديث في المسند فيما بحثت عنه، ونَبَّهَ على ذلك العلامة أحمد شاكر في تعليقه على (تهذيب السنن) .

__________

1 الصلاة: (ص 148) .

(1/ 344) ح196 (473) .

3 زاد المعاد: (5/ 16) .

(4/ 2139) ح 59 (2771) .

5 زاد المعاد: (1/ 211) .

6 ك الأذان، باب القراءة في المغرب، ح764 (فتح الباري2/246) .

7 تهذيب السنن: (3/ 355) .

(2/22)

- وعزا حديث أنس رضي الله عنه: "مَا زَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقنتُ في الفجر حَتَّى فَارَقَ الدنيا". للترمذي1. وليس الحديث في الترمذي2.

- وعزا حديث إسرائه صلى الله عليه وسلم من بيت أم هانئ إلى الصحيح3، وليس هو في واحد منهما، وقد نَبَّهَ عليه محقق (زاد المعاد) .

- وقال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر فبدا له الفجر قال: "سَمِعَ سَامعٌ بحمد الله ونعمته ... ". قال: "إسناد صحيح على شرط مسلم"4. وظاهر عبارته أن مسلماً لم يخرجه، وأنه على شرط كتابه، مع أن الحديث مُخَرَّج في (صحيح مسلم) 5.

وأقول: الغالبُ أن ذلك لا يقعُ - على قِلَّته وَنُدْرَتِهِ - لابن القَيِّم إلا فيما كتبه من حفظه؛ حيث إنه كان لا يَكُفُّ عن الكتابة والتأليف حالَ السفر، وفي غياب الكتب، كما نَصَّ على ذلك في (زاد المعاد) وغيره، فهو لأجل ذلك معذور، ومن ذا الذي يسلم من الوهم والخطأ؟! وهذه الأوهام اليسيرة إنما هي قطرة في بحر حفظه وإتقانه وقوة استحضاره، وشيء لا يكاد يذكر إذا قيس بكثرة ما كتب وسطر، رحمه الله تعالى، وأجزل له الأجر والمثوبة، وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

__________

1 زاد المعاد: (1/ 275) .

2 انظر: نصب الراية: (2/131 -132) .

3 زاد المعاد: (3/434) .

4 الوابل الصيب: (ص 198) .

(4/ 2086) ح 69 (2718) .

(2/23)

المبحث الثاني: فِي بَيَانِ مَنْهَجِهِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الحديث

لا شكَّ أَنَّ الحكم على الحديث، وبيان صحته من ضَعْفِه، وصدقه من كذبه، ليس مقصوداً لذاته، وإنما وراء ذلك غاية عظيمة، ألا وهي: أن يعبد الإنسان ربه على بصيرة وهدى، مُتَّبِعاً في ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، معرضاً عما سواه.

إذ لولا تسخيرُ الله لهؤلاء الأئمة الجهابذة النُّقَّاد - الذين مَيَّزُوا الصحيحَ من المعلول، والصدق من الكذب - لقال من شَاءَ فِي دِين الله مَا شاء، ولَعُبِدَاللهُ - سبحانه - بالأهواءِ والبدعِ، التي ما أنزل بها من سلطان، ولا جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولكن ينبغي أن يُرْجَعَ في معرفة ذلك إلى أئمة هذا الشأن وأربابه العارفين به، المشهود لهم بالتَّقَدُّمِ ورسوخِ القدم في الكشف عن خباياه، ومعرفة خفاياه.

وقد نَبَّهَ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى هذا المعنى، وأشار إليه، فقال - عند كلامه على حديث: "مَنْ عَشِقَ فَكَتَم ... " -:

"والتحاكم في ذلك إلى أهلِ الحديث، لا إلى العارين الغرباء منه"1.

__________

1 روضة المحبين: (ص 194) .

(2/25)

وقال في موضع آخر - عند كلامه على الحديث نفسه -:

"وكلامُ حفاظ الإسلام في إنكار هذا الحديث هو الميزان، وإليهم يرجعُ في هذا الشأن، وما صَحَّحَهُ - بل ولا حَسَّنَهُ - أحدٌ ممن يُعَوَّلُ في علم الحديث عليه، ويُرجع في التصحيح إليه"1.

وقد مضى ذِكْرُ كلامه - رحمه الله - في بيان أهمية الوقوف على الإسناد في الحكم على الحديث2؛ إذ عن طريق النظر في الإسناد يتمكن الناقدُ من كشف عِلَّةِ الحديث، ومعرفة صحته من ضعفه.

وقد قام ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذه المهمة الجليلة - مهمة الحكم على الحديث وبيان درجته - خير قيام، فلا يكاد يخلو بحث من الأبحاث التي تَعَرَّضَ لها، ولا مناسبة من المناسبات التي تستدعي مناقشة أدلة الخصم، ولا موضوعٍ من الموضوعات التي نَذَرَ على نفسه أن يستوفي الكلام فيها، إلا وهو قائمٌ بهذه المهمة على أَتَمِّ الوجوه، فجمع بذلك: بين العلم بالحديث، والفقه فيه، ومعرفةِ عِلَلِهِ، وتمييز صحيحه من سقيمه.

بيان منهجه في الحُكْمِ على الحديث:

لسنا - ونحن بصدد الكلام عن ذلك - أمام كتاب واحد ينحصر فيه جهد ابن القَيِّم في هذا الباب، ولكننا أمام مقدار هائلٍ من المؤلفات في فنون مختلفة: من فقه، وحديث، وعقيدة، ولغة، وغير ذلك.

__________

1 الجواب الكافي: (ص 367) .

2 انظر ص: (1/335 - 336) .

(2/26)

ومع هذا، فإنه يمكن تحديدُ المنهج العام لابن القَيِّم في الحكم على الحديث فيما يلي:

أولاً: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - مع اهتمامه بالحكم على أكثر الأحاديث التي أوردها في كتبه، وعنايته بذلك عناية فائقةً، قد تَرَكَ جملةً كبيرةً من الأحاديث فلم يحكم عليها، مع إيراده بعضها مورد الاستدلال بها1، وستأتي بعد قليل إشارةٌ إلى بعض الأحوال والظروف التي يسكت فيها عن الأحاديث أو يَقِلُّ حكمه عليها.

ثانياً: قد يصرح ابن القَيِّم - رحمه الله - بعدم مَعرفَتِهِ بحال الحديث ودرجته من الصحة أو الضعف. فيقول مثلاً: "لا أعرف حال هذا الحديث"2. ويقول: "والله أعلم بحال هذين الحديثين"3. ويقول: "وَرَدَ ... في حديث لا نعلم صِحَّتَهُ"4. إلى غير ذلك من الأمثلة5. وهذا من كمال تواضعه، وتمام نصحه، وعلو شأنه رحمه الله تعالى.

ثالثاً: تفاوت أحكامه - قلة وكثرة - بحسب موضوع الكتاب؛ فبينما يكثرُ من الحكمِ على الحديث، وبيان درجته في الكتب والمباحث التي

__________

1 وقد جمعت الأحاديث التي سكت عليها ابن القَيِّم - رحمه الله - في كتبه فبلغت شيئاً كثيراً.

2 زاد المعاد: (5/ 796) - وانظر: أحكام أهل الذمة: (2/ 449) .

3 زاد المعاد: (4/ 348) .

4 زاد المعاد: (4/ 395) .

5 انظر منها: زاد المعاد: (1/ 141، 177) ، (4/ 31، 228) .

(2/27)

تُعنى بالأحكام الفقهية، والتوحيد والعقيدة، وما شابه ذلك من المباحث التي تتعلق بالحلال والحرام، نجد أن حكمه على الحديث والكلام عليه يقلُّ في الكتب والمباحث التي تتناول: الزهد والرقائق، والترغيب والترهيب، والفوائد العامة ونحو ذلك.

فبينما نجد كتباً مثل: (زاد المعاد) و (تهذيب السنن) و (الصلاة) و (جلاء الأفهام) و (اجتماع الجيوش الإسلامية) ، و (إعلام الموقعين) تمتلأُ بتلك الأحكام الحديثية، وبيانُ علل كثير من الأحاديث، وصحيحها من ضعيفها، فإن كتباً أخرى، مثل: (بدائع الفوائد) و (الجواب الكافي) و (مدارج السالكين) ، و (روضة المحبين) وأمثالها تَقِلُّ فيها هذه الأحكام بالنسبة لسابقتها.

وليس هذا من باب الإهمال والإغفال، أو قِلَّةِ العناية، وإنما هذا ما تقتضيه ظروف البحث في الغالب؛ فابن القَيِّم حينما يواجه خصوماً ومخالفين فيما يتعلق بأحكام الدين، يتطلب الأمر مزيداً من الجهد في بيان ضعف أدلتهم، وفي المقابل تقرير صِحَّة ما يستند إليه، أو رَدِّ الطعن الموجه إليه. في حين أنه لا يكون محتاجاً إلى كل هذا الجهد وهو يتحدث عن: أمراض القلوب وأدوائها، وتشخيص الدواء الناجع لعلاجها، وأنواع المحبة وأقسامها، وتفسير بعض الآيات وبيان بعض أسرارها، وشرحِ بعض الألفاظ اللغوية وبيان إعرابها، إلى غير ذلك من البحوث والمؤلفات التي هذا حالها.

(2/28)

رابعاً: ثبات أحكامه الحديثية وعدم تغيرها؛ فإن ابن القيم قد يتناول الحديث الواحدَ بالكلام في أكثر من كتاب من كتبه، ومع ذلك: نجد أَنَّ حُكْمَهُ على الحديثِ، وطريقةَ معالجته له - تصحيحاً أو تضعيفاً - لا يكادُ يختلفُ من موضعٍ لآخر في الكثير الغالب، وَإِن وَقَعَ خلاف ذلك، فإنَّه يكون نادراً جداً.

وهذا - بلا شك - يؤكد حقيقة مهمة، وهي: الاستقرار والثبات في أحكام ابن القَيِّم الحديثية، وعدم التناقض والتضارب، بحيث يقل - بل يندر - وقوع اضطراب في أحكامه على الحديث الواحد.

ومن أمثلة ذلك:

- حديث: "مَنْ عَشِقَ وَكَتَمَ وَعَفَّ وَصَبَرَ ... ". فقد تناوله ابن القَيِّم - رحمه الله - في كتبه: (الجواب الكافي) 1، و (روضة المحبين) 2، و (زاد المعاد) 3. وَجَاءَ كَلامُهُ في الحكم عليه، وبيان علته، وإثباتِ بطلانه، جاء كلامه في ذلك متفقاً - إلى حَدٍّ كبير - في هذه المواضع الثلاثة.

ومن الأمثلة على ذلك أيضاً:

- حديث "لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ له". فقد عالجه بالطريقة نفسها في: (إغاثة اللهفان) 4، و (زاد المعاد) 5، و (إعلام الموقعين) 6.

__________

1 ص: (367) .

(ص 193- 194) .

(4/275- 278) .

(1/270) .

(5/109) .

(3/44) .

(2/29)

- وحديث أبي مالك الأشعري "في ذَمِّ الغِنَاء والملاهِي". فقد تَكَلَّم عليه في: (إغاثة اللهفان) 1، و (تهذيب السنن) 2 و (روضة المحبين) 3، و (الكلام على مسألة السماع) 4.

- وحديث: "أَفْطَر الحاجمُ والمحجوم". فقد ذكره وحكم عليه وَتَوَسَّعَ فيه في: (زاد المعاد) 5، و (تهذيب السنن) 6.

- وحديث تلقين الميت بعد دفنه. تكلم عليه في: (زاد المعاد) 7، و (الروح) 8، و (تحفة المودود) 9.

إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي تكرر فيها حكمُ ابن القَيِّم على الحديث الواحد في مواضع شَتَّى، مع اتِّسَاق كلامه وتوافقه، وعدم اختلاف حكمه.

خامساً: اختلاف عبارات ابن القيم في الحكم على الحديث وتنوعها؛ فلم تكن الأحكام الحديثية التي صَدَرَتْ عن ابن القَيِّم - رحمه الله - على شَاكِلَةٍ واحدة، وَإِنَّمَا اختلفت عباراته وأحكامه: طولاً وقصراً، وإجمالاً وتفصيلاً.

__________

(1/258- 263) .

(5/270- 272) .

(ص147- 148) .

(ص 410، 472) .

(3/502) .

(3/243- 257) .

(1/522- 523) .

(ص 16) .

(ص 149) .

(2/30)

فبينما نجده - رحمه الله - يحكمُ على حديث بكلمةٍ واحدةٍ أو كلمتين أو أكثر، نجده في حديث آخر يُسَطِّرُ أوراقاً كثيرةً في الكلام على هذا الحديث، وبيان ما فيه، وتقرير صحته أو ضعفه.

ولا شَكَّ أن هذا التفاوتَ والتباينَ خاضع للظروف والأحوال الخاصة بكل حديث:

- فيطيلُ مثلاً في تقرير صحة الحديث وإثباته: إذا كان مما طُعِنَ فيه بما يرى أنه كلام لا يثبتُ مثله في ميزان النقد، فيقوم بَرَدِّ هذه العلل والجواب عنها، وإثبات صِحَّة الحديث أو حسنه.

- وكذا يطيل في بيان ضعف الحديث، وسردِ علله وتفصيلها: حين يجدُ أن هذا الحديث يعارضُ ما يرى أنه أَصَحُّ منه وأثبت، فيبالغ حينئذٍ في إثباتِ الصحيح، ورد ما يعارضه مما يكون معلولاً.

أما الأحاديث التي يكون الحكم عليها مُسَلَّمَاً لا نزاع فيه، فإنَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - يطلق حكمه عليها في إيجاز واختصار.

- وأيضاً: فإنه يطيلُ النَّفَس، ويوسع الكلام على الأحاديث المتعلقة بالعقيدة والأحكام، بخلاف الأحاديث التي ليست كذلك، فإنَّ الحكم عليها غالباً ما يكون مقتضباً.

- وأيضاً: فإنَّه قد يختصرُ الكلامَ على الحديث في موضع، اعتماداً على أنه قد فَصَّلَ الكلام عليه في موضع آخر من كتبه، أو من الكتاب نفسه، وقد يُنَبِّهُ - في مثل ذلك - في موضع الاختصار على موضع البسط ويشير إليه، ومن أمثلة ذلك:

(2/31)

أنه عند كلامه على حديث: "نومه صلى الله عليه وسلم جُنُبَاً دون أن يَمَسَّ ماءً". قال في كتابه (زاد المعاد) 1: "وهو غلط عند أئمة الحديث، وقد أشبعنا الكلامَ عليه في كتاب تهذيب سنن أبي داود ... "2.

سادساً: في كثير من الأحيان ينقل ابن القَيِّم أقوال الأئمة في الحكم على الحديث: تأييداً لحكمه، وتأكيداً لاختياره، فمن ذلك:

- قوله في حديث "قَدْ أَفْطَرَ" - يعني: الذي قَبَّلَ وهو صائم - قال: "فلا يصحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وقال الدارقطني ... : لا يثبت هذا. وقال البخاري: هذا لا أُحَدِّثُ به، هذا حديث منكر"3.

- وقال في حديث جابر رضي الله عنه في استثناء كلب الصيد مما نُهِيَ عن ثمنه: "لا يصحُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء كلبِ الصيد بوجهٍ، أمَّا حديث جابر: فقال الإمام أحمد - وقد سئل عنه -: هذا من الحسن بن أبي جعفر، وهو ضعيف. وقال الدارقطني: الصواب أنه موقوف على جابر. وقال الترمذي: لا يصحُّ إسناد هذا الحديث"4.

- وقال في حديث: "مَنْ دَخَلَ السُّوق فَقَال: لا إله إلا الله ... ": "فهذا الحديث معلول أعله أئمة الحديث ... قال الترمذي: هذا حديث غريب ... وقد روي من طريق: عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، لكنه

__________

(1/154) .

2 انظره: (1/154-155) .

3 زاد المعاد (2/58) .

4 زاد المعاد: (5/770) .

(2/32)

معلول أيضاً". ثم نقل عن أبي زرعة وأبي حاتم قولهما: "هذا حديث منكر". وعن ابن أبي حاتم قوله: "هذا الحديث خطأُُ"1.

إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في هذا الجانب.

سابعاً: قد لا يصرح ابن القَيِّم - رحمه الله - برأيه واختياره في الحكم على الحديث، بل يكتفي بعرض آراء المصححين والمضعفين لهذا الحديث، وأجوبة كُلِّ فريق عن الآخر، دون أن يَنُصَّ صراحة على حكمه واختياره في هذا الحديث.

وفي مثل ذلك ندرك رأى ابن القَيِّم - رحمه الله - ببعض القرائن التي تظهر من خلال كلامه، أو بحكمه على الحديث نفسه في موضع آخر.

- ومن أمثلة ذلك: "حديث القلتين"2.فقد أَخَذَ ابن القَيِّم -رحمه الله- في عرض آراء المصححين له، معبراً عنهم بقوله: "قال المحددون"، ثم عَرَضَ أجوبة المضعفين للحديث، معبراً عنهم بقوله: "قال المانعون من التحديد بالقلتين". لكن دلت عباراته - فيما بعد - على أنه لا يرى التحديد بالقلتين، فَفُهِمَ أنه مع من يضعفون هذا الحديث.

- ومن ذلك أيضاً: كلامه على حديث "الأوعال". فقد عرض رأى من رَدَّهُ وحججهم، ثم قال: "قال المثبتون ... ". ثم ساق رأى من صححه، وَرَدَّهم على مضعفيه، وقد فُهِمَ أخذه بتصحيح هذا الحديث من

__________

1 المنار المنيف: (ص 41-42) .

2 تهذيب السنن: (1/56-74) .

(2/33)

بعض كلامه، كقوله في الردِّ على من ضعفه بالوليد بن أبي ثور: "فأيُّ ذنب للوليد في هذا؟ وأي تعلق عليه؟ وإنما ذنبه: روايته ما يخالف قول الجهمية، وهي علته المؤثرة عندهم"1.

وهذا ظاهرٌ في إثباته الحديث، وذلك من رَدِّهِ على الجهمية نفاة الصفات.

ثم جاء تصحيحه له صريحاً في مواضع أخرى؛ فإنه قال في (اجتماع الجيوش) 2: "حديث حسن صحيح". وقال في موضع آخر: "رواه أبو داود بإسناد جيد"3.

فالمقصود: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - حين لا يُصَرِّح برأيهِ في الحكم على الحديث، ولا ينصُّ على ذلك، فإنَّ النَّاظِرَ في كلامه عليه مراعاة أمرين:

- الأول: التَّنَبُّهُ لبعض القرائن الموجودةِ في كلامهِ، مما يُعِينُ على معرفةِ اختياره.

- الثاني: البحثُ في كُتُبِهِ الأخرى عن كلام له حول الحديث نفسه، فقد يُحْكَمُ عليه هناك.

ثامناً: قد يَكْتَفِي ابن القَيِّم بتصدير الحديث بلفظةٍ تفيدُ صِحَّتَهُ أو ضعفه، دون إصدار حكمٍ صريح عليه.

__________

1 تهذيب السنن: (7/93) .

(ص 93) .

3 مختصر الصواعق: (2/ 356) .

(2/34)

- فمن ذلك: استعماله كلمة: (ثَبَتَ) في التعبير عن صحة الحديث، وقد تَبَيَّنَ لي بالتتبع أنه يستعملها - في الكثير الغالب - في الحديثِ الذي خُرِّجَ في (الصحيحين) أو أحدهما1.

وربَّمَا ضَمَّ إلى هذه الكلمة التصريح بكونه في (الصحيحين) ، فيقول: "وثبت عنه في الصحيحين ... "2.

- وقد تَرِدُ هذه الكلمة عنده مقرونةً ببيان صِحَّةِ الحديثِ، كقوله: "ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث بهز بن حكيم ... أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة". ثم قال: "قال أحمد، وعلى بن المديني: هذا إسناد صحيح"3.

- ومن الألفاظِ التي استعملها في هذا الصدد أيضاً: (صِيَغُ التمريض) للتعبير عن ضَعْفِ الحديث، فقد أَكْثَرَ من استعمال كلمة: (يُذْكَر) 4، وكلمة: (رُوِيَ) 5 مقتصراً على ذلك في التعبير عن ضَعْفِ الحديث.

- وقد ينص - مع ذلك - على ضعف الحديث، إضافة إلى تصديره بصيغة التمريض، فمن ذلك:

__________

1 انظر مثلاً: زاد المعاد: (1/285) ، (2/334، 335، 384، 387) .

2 زاد المعاد: (2/383) .

3 زاد المعاد: (5/ 5) .

4 انظر مثلاً: زاد المعاد: (2/370، 375، 376، 383، 393، 401، 404، 415، 440، 456) ، (3/125) ، (4/148، 156، 165، 212) .

5 انظر مثلاً: زاد المعاد: (2/77، 406، 466) ، والوابل الصيب: (ص27) ، والكلام على مسألة السماع: (ص199، 112) .

(2/35)

قوله: "ويُذْكَرُ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند فطره: "اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت ... " ولا يثبت"1.

وقوله: "ويُذْكَر عنه: "من خيرِ خصالِ الصَّائمِ السواك"، رواه ابن ماجه من حديث مجالد، وفيه ضَعْفٌ"2.

وقوله: "ويُذْكَر عنه: "أنه كان يُكَبِّر من صلاة الفجرِ يوم عرفة إلى العصر من أيام التشريق، فيقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد"، وهذا وإن كان لا يصحُّ إسنادُهُ، فالعمل عليه"3.

وقال: "وقد رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم "أنه كان يُسَلِّمُ تسليمةً واحدةً تلقاءَ وجهه"، ولكن لم يثبت عنه ذلك من وجه صحيح"4.

وقال: "وقد رُوِيَ عنه: "أنه صلى على معاوية بن معاوية الليثي وهو غائب"، ولكن لا يصح ... "5.

وقال: "وقد رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يصوم السبت والأحد كثيراً، يقصد بذلك مخالفة اليهود والنصارى ... " وفي صحة هذا الحديث نظر"6.

__________

1 زاد المعاد: (2/51) .

2 زاد المعاد: (2/63) .

3 زاد المعاد: (2/ 395) .

4 زاد المعاد: (1/ 259) .

5 زاد المعاد: (1/520) .

6 زاد المعاد: (2/78) .

(2/36)

فهذه بعضُ الأمثلة لما استعمله ابن القَيِّم - رحمه الله - من ألفاظ للدلالة على درجة الحديث: إما مكتفياً بهذه الألفاظ وحدها، أو ضَامًّا إليها التصريح بصحة الحديث أو ضعفه.

تاسعاً: قد يلجأ ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى بعض الأساليبِ لِتَأكيدِ الحًُكْمِ الذي أصدره على الحديث.

ومن أبرز الأساليب التي استعملها في ذلك: الحلف على ثبوت الحديث أو عدمه، فيستعمل - رحمه الله - أقوى المؤكدات في إثبات الحكم الذي توصل إليه وارتضاه في الحديث.

وكان أكثرُ استعماله لهذه الطريقة في الأحاديث التي لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو التي وقع فيها غلط ووهم، فمن ذلك:

- قوله في حديث أبي هريرة: في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، فقال: "يفرق بينهما": "منكر لا يحتمل أن يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً ... فوالله ما قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سمعه أبو هريرة، ولا حدث به"1.

- وقال في حديث عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثاً "أن لها السكنى والنفقة":

"فنحن نشهدُ بالله شهادةً نُسْأَلُ عنها إذا لقيناه: أن هذا كذبٌ على

__________

1 زاد المعاد: (5/520-521) .

(2/37)

عمر رضي الله عنه، وكذبٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم"1.

- وقال في حديث معاوية رضي الله عنه، أنه قَصَّرَ عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام العشر: "فنحن نحلف بالله: أن هذا ما كان في العشر قط"2.

فهذه بعضُ الأمثلة للأحكام الحديثية التي حَلَفَ عليها ابن القَيِّم رحمه الله، وهي تَدُلُّ على تَمَكُّنِه في هذا الباب، وسعةِ اطِّلاعِهِ عَلَى الْمَرْوِيَّات، والقدرة على تَمْييزِ صحيحها من سقيمها، وصَوَابها من غلطها، بحيث يُمْكِنُهُ - بكل ثقة - أن يجزم بحكمه، حالفاً بالله تعالى، ومشهداً إِيَّاه على حكمه.

عاشراً: قد يحكمُ على الحديث من خلال النَّظر إلى مَتْنِه، دون دراسة إسناده والنظرِ في حالِ رواته.

وقد سبق - عند الكلام على "الحديث الموضوع" - بيانُ الضوابطِ التي وضعها - رحمه الله - لمعرفةِ كونِ الحديثِ موضوعاً دون النظر في إسناده3، فإنَّ مَا أَودعه في كتابه (المنار المنيف) من ذلك يُمَثِّل منهجاً متكاملاً لنقد المتن والحكم عليه بِمَعْزِل عن إسناده.

ولم تكن تجربةُ ابن القَيِّم في نقد المتن محصورةً في هذا الكتاب

__________

1 زاد المعاد: (5/539) .

2 زاد المعاد: (2/137) .

3 انظر ص: (1/460 - 469) .

(2/38)

وحده، بل إنه قد انتهج ذلك في سائر كتبه وأبحاثه، كما يُشَاهد ذلك كُلُّ مَنْ طَالَعَ كتاباته.

من المعايير التي استعملها لنقد المتن في غير كتابه (المنار) :

1- استدلاله على بطلانِ الْمَتْنِ بكونه مما يَسْتحِيلُ وقُوعُه عَقْلاً:

- ففي قصة قدوم وفد هَمْدَان على النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان من إسلامهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بقتال ثقيف، قال ابن القَيِّم - رحمه الله - منتقداً هذا المتن: "ولم تكن همدان أن تقاتلَ ثقيفاً، ولا تُغِير على سرحهم؛ فإنَّ هَمْدَان باليمن، وثقيفاً بالطائف"1.

- وفي قصة قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، وخروجِ النساء والصبيان لِتَلَقِّيهِ وهم ينشدون:

طَلَعَ البَدْرُ عَلَينَا ... مِنْ ثَنِيَّاتِ الوَدَاعِ

قال ابن القَيِّم: "وبعض الرواة يَهِمُ في هذا ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه إلى المدينة من مكة، وهو وَهْمٌ ظاهرٌ؛لأن ثَنِيَّات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادمُ من مكة إلى المدينة، ولا يَمُرُّ بها إلا إذا تَوَجَّهَ إلى الشام"2.

فاستدلَّ - رحمه الله - على بطلانِ وغلطِ هذين الحديثين: باستحالة حصول ما تَضَمَّنَاه عقلاً.

__________

1 زاد المعاد: (3/623) .

2 زاد المعاد: (3/551) .

(2/39)

2- استدلاله على بطلان المتن بكونه مما يستحيل وقوعه زمنياً:

- ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نأكلُ مما قَتَلَ الله؟ فأنزل الله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ} [الأنعام: 121] ".، قال ابن القَيِّم - رحمه الله - في إعلال هذا الحديث من جهة متنه: "إنَّ سورة الأنعام مَكِّيَّة باتفاق، ومجيءُ اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومجادلتهم إياه إنما كان بعد قدومه المدينة، وأما بمكة فَإِنَّمَا كان جدالُهُ مع المشركين عُبَّاد الأصنام"1.

- وفي حديث الترمذي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مكة يوم الفتح وعبد الله بن رواحة بين يديه ينشد ... ". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وهذا وَهْمٌ؛ فإنَّ ابن رواحة قُتِلَ في هذه الغزوة - يعني مؤتة - وهي قبل الفتح بأربعة أشهر، وإنما كان يُنْشَدُ بين يديه شِعْرُ ابن رواحة، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل النقل"2.

3- استدلالُهُ على بطلان المتن بكونه قد وَقَعَ مِثْلُهُ ولم يأخذْ حُكْمَهُ:

- فاستدل - رحمه الله - على استحالة أن يكون كُلٌّ من: هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع من أهل بدر: بأن النبي صلى الله عليه وسلم هَجَرَهُمَا، ولو كانا من أهل بدر ما فَعَلَ ذلك معهما؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يَهْجُر حَاطِباً وقد جَسَّ عليه3.

__________

1 تهذيب السنن: (4/113) .

2 زاد المعاد: (3/386) .

3 زاد المعاد: (3/577) .

(2/40)

فهذه بعض الأساليب التي اعتمدها ابن القَيِّم في نقد المتن والاستدلال على غلطه، دون النظر إلى إسناده.

حادي عشر: رُبَّمَا استعمل ابن القَيِّم - رحمه الله - في حكمه على الأحاديث بعض العبارات التي تفيدُ التصحيح النسبي، كقوله في حديث: "هذا أصحُّ من كذا". أو: "أَمْثَل منه"، ونحو ذلك.

وقد مضى معنا في مبحث الحديث الصحيح نقل ضوابط مهمة عن ابن القَيِّم في ذلك، وأن هذا لا يلزم منه أن يكون هذا الْمُقَدَّمُ على غيره صحيحاً، بل يكون ضعيفاً ويقال له: "أصحُّ من غيره"، وذلك بالنسبة لهذا الغير1.

وَتَقَدَّمَ - أيضاً - عند الكلام على منهجه في (المنار المنيف) نقل بعض أمثلة من ذلك، وأن أحاديث البابِ قد تكونُ كُلها ضعيفة أو باطلة، ومع ذلك فإنه يذكر أمثلها أو أحسنها ولا يعني ذلك – أبداً- صحة هذا المقدم2.

ومن أمثلة ذلك أيضاً: أنه ذَكَرَ حديثين في الوتر، وَحَكَمَ ببطلانهما، وهما: حديث "نَهَى عن البُتَيْرَاء"، وحديث: "وترُ الليل ثلاثٌ كوتر النهار صلاة المغرب". ثُمَّ قال في الثاني منهما: "وهذا الحديث ... أصحُّ من الأول"3. هذا مع حكمه ببطلانهما.

__________

1 انظر ص: (1/374 – 375) .

2 انظر ص: (1/305 – 306) .

3 إعلام الموقعين: (2/373-374) .

(2/41)

وبعدُ، فهذا مَا تَيَسَّرَ التَنْبِيه عليه حول منهج ابن القَيِّم - رحمه الله - في الحكم على الحديث وبيان درجته، ويمكنُ مراجعة المزيد من أحكامه الحديثية وأمثلة لها فيما تَقَدَّمَ ذكره عند الكلام على آرائه في علوم الحديث وقواعده، وكذا فيما يأتي في باب دراسة الأحاديث التي حَكَمَ عليها إن شاء الله.

(2/42)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها

الفصل الربع: منهج ابن القيم في شرح الحديث، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه

المبحث الأول: منهجه في شرح الحديث، وبيان معانيه.

...

الفصل الرابع: مَنْهَج ابن القَيِّم في شَرْحِ الحديث، وبيانِ معانيهِ، واسْتِخْرَاجِ أَحْكَامِهِ، وَطُرُقِ اسْتِدْلالِهِ بِهِ، وَمَا يَلْحَقُ بِذلِك

لقد اتَّسَمَتْ مؤلفات ابن القَيِّم - رحمه الله - وأبحاثُهُ باشتمالها على معالجة النصوص الحديثية، والكلامِ عليها، وذلك من خلال: بيان معانيها، وشرح غريبها، واستخراج أحكامها وفوائدها، واستنباط الفقه منها، والكَشْفِ عن وجه دلالة تلك النصوص على الحكم الشرعي، إلى غير ذلك من الأمور الْمُهِمَّاتِ التي لا غِنَى عنها للَّناظرِ في الأحاديث النبوية والمطالع لها.

ويمكننا أن نُمَيِّزَ المنهجَ الذي سار عليه ابن القَيِّم في ذلك كُلِّهِ من خلال المباحث التالية:

المبحث الأول: منهجه في شرحِ الحديثِ، وبيان معانيه.

المبحث الثاني: منهجه في بيان غريب الحديث.

المبحث الثالث: منهجه في التعريف بالأماكن والبقاع.

المبحث الرابع: منهجه في الاستدلال بالنصوص الحديثية على آرائه.

المبحث الخامس: منهجه في التوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض.

(2/45)

المبحث الأول: مَنْهَجُهُ فِي شَرْحِ الحديثِ وبَيَانِ مَعَانِيه

إن النَّاظِر في كتب ابن القَيِّم - رحمه الله - والمطالع لها يلاحظُ أنَّ الشَّرْحَ الكُلِّي الْمُتَكَامِل، وعلى وجه التفصيل، لم يحتل رقعةً واسعةً ضمن أبحاثه، وذلك أَنَّ ابن القَيِّم رحمه الله - في الكثير الغالب - يُوردُ النصوص الحديثية:

- مستدلاً بها على رأي يراه، أو مبدأٍ يقرره.

- أو رَادًّا بها على الرأي المخالف، فيبرهنُ على أَنَّ النصوص على خلاف هذا الرأي.

- أو مُبَيِّنَاً وجه دلالة النَّصِّ على مذهبٍ ما.

- أو مُوَضِّحِاً بها حديثاً آخر ومؤكداً إياه، فيسرد الأحاديثَ الموافقةَ له في الباب.

إلى غير ذلك من المقاصد التي اشتملت عليها مؤلفاته رحمه الله.

ولذلك فَإِنَّ إفراد النصوص الحديثية بالشرحِ والبيانِ على وجه التفصيل، لم يكن شُغل ابن القَيِّم الأول، وأنه وإنِ اشتملت أبحاثه - في الغالب - على مقاصد الشرح وعناصرِه الأساسية - كما سيأتي ضمن موضوعات هذا المبحث - إلا أن تلك العناصر لم تكن تجتمعُ وتتكاملُ في الحديث الواحد إلا في القليل؛ إذ كان - رحمه الله - يتناول كل حديث بما يناسب حاله، وبما يقتضيه المقام: من بيان فائدة، أو تنبيه على حكم، أو تعقب لرأي.

(2/47)

نماذج من شروح ابن القَيِّم للأحاديث النبوية:

ويمكننا أن نستعرضَ في هذا المقام بعض الأمثلة من شرحِ ابنِ القَيِّم لبعض الأحاديث التي تَكَامَلَ فيها شرحه، وذلك للوقوفِ على العناصر الأساسية التي تُمَيِّزُ منهجه في ذلك، فمن ذلك:

- حديث: "مِفْتَاحُ الصَّلاة الطُّهور، وتَحْرِيْمُهَا التكبيرُ، وَتَحْلِيلُهُا التَّسْلِيم".

قال ابن القَيِّم رحمه الله: " اشتمل هذا الحديث على ثلاثة أحكام:

الحكم الأول: أن مِفْتَاحَ الصلاة الطهور.

والمفتاح: ما يُفْتَحُ به الشيء المغلق، فيكونُ فاتحاً له، ومنه: "مِفْتَاح الجنة: لا إله إلا الله".

وقوله: "مِفْتَاح الصَّلاة الطُّهور" يفيد الحَصْرَ، وأنه لا مفتاحَ لها سواهُ، من طريقين:

- أحدهما: حصرُ المبتدأ في الخبر إذا كانا معرفتين، فَإِنَّ الخَبَرَ لابُدَّ أن يكون مساوياً للمبتدأ أو أَعَمَّ منه… فإذا كان المبتدأُ مُعَرَّفًا بما يقتضي عمومه -كاللام، وكل ونحوهما - ثم أخبر عنه بخبر، اقتضى صحةُ الإخبار أن يكونَ إخباراً عن جميع أفراد المبتدأ؛ فإنه لا فردَ من أفراده إلا والخبرُ حاصل له.

وإذا عُرِفَ هذا، لَزِمَ الحصرُ، وأنه لا فردَ من أفراد ما يُفتتح به الصلاة إلا وهو الطهور

(2/48)

- والثاني: أن المبتدأَ مضافٌ إلى الصلاة، والإضافة تَعُمُّ، فكأنَّه قيل: جميعُ مفتاح الصلاة هو الطهور. وإذا كان الطهور هو جميع ما يُفْتَحُ به، لم يكن لها مفتاح غيره ….

وإذا عرف هذا، ثَبَتَ أن الصلاة لا يمكنُ الدخولُ فيها إلا بالطهور.

وهذا أدل على الاشتراط من قوله: "لا يقبلُ الله صلاة أحدكم إذا أَحْدَثَ حتى يتوضأ" من وجهين:

- أحدهما: أن نفي القبولِ قد يكونُ لفواتِ الشرط وعدمه، وقد يكونُ لمقارنة مُحَرَّمٍ يمنعُ من القبول: كالإباق، وتصديق العَرَّاف، وشربِ الخمر ... ونحوه.

- الثاني: أن عَدَمَ الافتتاح بالمفتاح يقتضي أنه لم يحصل له الدخول فيها، وأنه مصدود عنها ... وأما عدم القبول فمعناه: عدم الاعتداد بها، وأنه لم يرتبْ عليها أثرها المطلوب منها، بل هي مردودة عليه

فإن قيل: فهل في هذا الحديث حجةٌ لمن قال: إن عادم الطَّهورين لا يُصَلِّي حتى يقدر على أحدهما؛ لأن صَلاتَهُ غيرُ مفتتحة بمفاتحها، فلا تقبلُ منه؟

قيل: قد اسْتَدَلَّ به من يرى ذلك، ولا حجةَ فيه.

ولابُدَّ من تمهيد قاعدة يتبين بها مقصود الحديث، وهي: أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ الله - تعالى - ورسوله، أو جَعَلَهُ شرطاً للعبادة، أو رُكْنَاً فيها، أو وَقَفَ صِحَّتَهَا عليه: هو مُقَيَّدٌ بحال القدرة؛ لأنها الحالُ التي يُؤْمَرُ فيها به.

(2/49)

وأما في حال العجز فغيرُ مقدورٍ ولا مأمورٍ، فلا تَتَوقفُ صحةُ العبادة عليه. وهذا كوجوب القيام والقراءة والركوع والسجود عند القدرة، وسقوط ذلك بالعجز. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار". ولو تَعَذَّرَ عليها الخمارُ صَلَّتْ بدونه، وَصَحَّتْ صلاتها ... ونظائره كثيرة، فيكون "الطهور مفتاح الصلاة" هو من هذا

وفي الحديث دليلٌ على اعتبار النِّيَّةِ في الطهارة بوجهٍ بديعٍ؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم جَعَل الطهور مفتاح الصلاة التي لا تُفْتتح ويُدْخَل فيها إلا بِهِ، وما كان مفتاحاً للشيء كان قد وُضِعَ لأجله وأُعِدَّ له. فَدَلَّ على أن كونه مفتاحاً للصلاة هو جهة كونه طهوراً، فإنه إنما شُرِعَ للصلاة، وجُعِلَ مفتاحاً لها، ومن المعلوم: أن ما شُرِع للشيء ووضع لأجله لابد أن يكون الآتي به قاصداً ما جُعِلَ مفتاحاً له ومُدْخِلاً إليه، هذا هو المعروف حِسَّاً، كما هو ثابت شرعاً. ومن المعلوم أن من سَقَطَ في ماء - وهو لا يريد التطهر - لم يأتْ بما هو مفتاح الصلاة، فلا تفتح له الصلاة، وصار هذا كمن حكى عن غيره أنه قال: لا إله إلا الله. وهو غير قاصد لقولها، فإنها لا تكون مفتاحاً للجنة منه، لأنه لم يقصدها… فهكذا هذا يجب أن لا يكونَ مُتَطَهِّرَاً، وهذا بحمد الله بَيِّنٌ.

فصل

الحكم الثاني: قوله: "وَتَحْرِيْمُهَا التَّكْبِيرُ".

وفي هذا من حصرِ التحريمِ في التَّكْبِير نظيرُ ما تَقَدَّمَ في حصرِ مفتاحِ الصلاة في الطهور من الوجهين. وهو دليل بَيِّنٌ أنه لا تحريم لها إلا

(2/50)

التكبير. وهذا قول الجمهور وعَامَّةِ أهل العلم قديماً وحديثاً. وقال أبو حنيفة: ينعقدُ بكلِّ لفظٍ يدلُّ على التعظيم، فاحتج الجمهور عليه بهذا الحديث.

ثم اختلفوا، فقال أحمد ومالك وأكثر السلف: يتعينُ لفظ "الله أكبر" وحدها، وقال الشافعي: يتعين أحد اللفظين: "الله أكبر" و"الله الأكبر" …

والصحيح قول الأكثرين، وَأَنَّه يتعين "الله أكبر" لخمس حجج:

- إحداها: قوله: "تحريمها التكبير"، واللامُ هنا للعهد، فهي كاللامِ في قوله: "مفتاح الصلاة الطهور" ... وهكذا التكبير هنا: هو التكبير المعهود، الذي نقلته الأمة نقلاً ضرورياً خلفاً عن سلف عن نبيها صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقوله في كل صلاة، لا يقولُ غيره ولا مرةً واحدةً ... وهذا حُجَّة على من جوز "الله الأكبر" و "الله الكبير"؛ فإنه وإن سُمِّيَ تكبيراً، لكنه ليس التكبير المعهود المراد بالحديث".

ثم ذَكَر بقية الحجج الخمس، ثم قال:

"وفي افتتاحِ الصلاةِ بهذا اللفظ، المقصود منه استحضار هذا المعنى وتصوره: سِرٌّ عظيمٌ يعرفُهُ أهل الحضور، الْمُصَلُّونَ بقلوبهم وأبدانهم؛ فإنَّ العَبْدَ إذا وَقَفَ بين يدي الله - عز وجل - وقد عَلِمَ أنه لا شيء أكبر منه، وَتَحَقَّقَ قلبه ذلك، وَأُشْرِبُهُ سِرُّه، استحيى من الله، وَمَنَعَهُ وقاره وكبرياؤه أن يشغلَ قَلْبَهُ بغيره. وما لم يستحضر هذا المعنى واقف بين يديه بجسمه، وقلبه يهيم في أودية الوَسَاوِسَ والخَطَرَاتِ، وبالله المستعان، فلو

(2/51)

كان الله أكبرُ من كلِّ شيءٍ في قلب هذا، لما اشتغل عنه، وَصَرَفَ كُلَّيَةَ قلبه إلى غيره

فصل

الحكم الثالث: قوله: "وتحليلها التسليم".

والكلام في إفادَتِهِ الحصر كالكلام في الجملتين قبله.

والكلام في التسليم على قسمين:

- أحدهما: أنه لا يَنْصَرِفُ من الصلاة إلا بالتسليم. وهذا قولُ جمهورِ العلماءِ. وقال أبو حنيفة: لا يتعيَّنُ التسليم، بل يخرجُ منها بالْمُنَافِي لَهَا، من حَدَثِ أو عملٍ مبطلٍ ونحوه".

ثم ذَكَرَ حجج أبي حنيفة على قوله هذا، وجواب الجمهور عنها، ثم قال:

فصل

وقد دَلَّ هذا الحديث على أَنَّ كُلَّ ما تحريمه التكبير وتحليله التسليم، فمفتاحه الطهور، فيدخل في هذا: الوترُ بركعة، خلافاً لبعضهم… ويدخل في الحديث أيضاً: صلاةُ الجنازة؛ لأنَّ تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ...

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مِفْتَاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" هو فصل الخطاب في هذه المسائل وغيرها، طرداً وعكساً، فكل ما كان تحريِمُهُ التكبيرُ وتحليله التسليم، فلا بُدَّ من افتتاحه بالطهارة".

(2/52)

ثم أَخَذَ - رحمه الله - في ذكر بعض العبادات الأخرى، وبيان اندراجها تحت هذا الأصل، وعلاقتها به، فذكر من ذلك:

- الطواف بالبيت.

- وسجود التلاوة والشكر1.

وبعد عرض هذا المثال، يمكن استخلاص المنهج العامِّ لابن القيِّم في شرح الحديث، والجوانب التي اشتمل عليها شرحه، وذلك فيما يلي:

1- شرحُ المفردات اللغوية التي تحتاج إلى بيانٍ.

2- بيانُ بعض الأوجه النحوية التي لها علاقة بالشرح، وتوجيه بعض العبارات في هذا الباب.

3- بيانُ الأحكام الفقهية التي يشتملُ عليها الحديث.

4- الاستشهاد - أثناء الشرح - ببعض النصوص الحديثية التي تَدْعَمُ كَلامَهُ، وَتُوَضِّحُ مراده.

5- بيانُ مذاهبِ الأئمة في الأحكام التي يشتملُ عليها الحديث، مع بيان الراجح منها.

6- بيان الأدلة التي يستندُ عليها في ترجيح الرَّاجِحِ من هذه المذاهب.

__________

1 تهذيب السنن: (1/ 45 - 56) .

(2/53)

7- بيانُ بعض القواعد التي تُعِينُ على فهمِ الحديث، وَتُبَيِّن مرادَ الشارعِ منه، ومدى انطباق هذه القواعد على ما شَابَهَ ذلك من النصوص.

8- قَد يستطردُ أثناء الشرح فيوردُ بعض القضايا التي تتعلق بالحديث، مع مناقشتها، وبيان الراجح فيها عند الخلاف.

تلك أبرزُ النقاط، وأهمُ الخطوات التي سَارَ عليها ابن القَيِّم - رحمه الله - في شرحِ الحديث، وهي وإن كانت مُسْتَخْلَصَةً من خلال مثال واحدٍ، إلا أنَّ هذا المنهجَ هو الغالب عليه في كلامه على الأحاديث وشرحها.

ويمكن أن تنظر مزيد من الأمثلة على هذا المنهج في كلامه على الأحاديث الآتية:

- حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: "من أَسْلَفَ في شيء فلا يصرفه إلى غيره" 1.

- وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "لا يَحِلُّ سلفٌ وبيعٌ، ولا شرطان في بيع ... " 2الحديث.

- وحديث الحارث الأشعري مرفوعاً: "إِنَّ الله - سبحانه - أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات، أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها…" 3. الحديث بطوله.

__________

1 تهذيب السنن: (5/ 111 - 118) .

2 تهذيب السنن: (5 / 144 - 158) .

3 الوابل الصيب: (ص 21 -52) .

(2/54)

- وحديث: "كفى ببارقةِ السيوف على رأسه فتنة" 1. يعني: الشهيد.

- وحديث قدومِ وفد بني المنتفق على النبي صلى الله عليه وسلم2.

هذا فيما يتعلق بشرحه الحديث على وجه التفصيلِ والشمولِ والإحاطة، وبيان المعاني التي اشتمل عليها، والأحكام التي تَضَمَّنَهَا، والفوائدِ المستخرجة منه. ويمكنُ الوقوف على قسطٍ كبير من هذا الكلام المبسوط، والشرحِ المستوفى في كتابه (تهذيب السنن) على وجه الخصوص، ولعله - رحمه الله - قد أشار إلى ذلك في مقدمة هذا الكتاب حين قال:

"وبسطت الكلام على مواضع جليلة، لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتاب سواه، فهي جديرةٌ بأن تُثْنَى عليها الخناصرُ، ويُعَضَّ عليها بالنواجذ"3.

أما الأحاديث التي شَرَحَهَا شَرْحَاً مجملاً مختصراً، أو بالغ في إبراز معنىً فيها بعينه وتوضيحه، فمن أمثلتها:

- حديث: "أحبُّ الدين إلى الله: الحنيفية السمحة".

قال رحمه الله: "فهي حنيفية في التوحيد وعدمِ الشرك، سَمْحَةٌ في العمل وعدم الآصارِ والأغلالِ بتحريمهم من الطيبات الحلال. فَيُعْبَدُ

__________

1 الروح: (ص 107، 109 - 110) .

2 زاد المعاد: (3 / 673 - 686) .

3 تهذيب السنن: (1/ 9-10) .

(2/55)

سبحانه بما أَحَبَّهُ، ويستعانُ على عبادته بما أَحَلَّهُ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون: 51] . وهذا هو الذي فَطَرَ الله عليه خَلْقَهُ، وهو محبوبٌ لكلِّ أحدٍ، مستقر سنته في كل فطرة؛ فإنه يتضمن التوحيد، وإخلاص القصد، والحب لله وحده، وعبادته وحده بما يحب أن يعبد به ... "1.

والأمثلة من هذا القبيل كثيرة2.

ومما يَحْسُنُ التنبيهُ عليه ونحن بصدد الكلام على منهجه في شرح الحديث:

اهْتِمَامُهُ بذكرِ الفوائد والنُّكَتِ التي تشتمل عليها الأحاديث، فإنه في كثير من الأحيان -بعد أن يسوقَ الحديث في المسألة - يذكر ما تَضَمَّنَهُ من فوائد وأحكام، فمن ذلك:

- أنه ذكر النصوصَ الواردةَ في غزوة تبوك، ثم أشارَ إلى الفوائد المستنبطة منها، فذكر من ذلك ما يزيد على أربعين فائدة3.

- وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاة" ذَكَرَ - رحمه الله - جملةً

__________

1 شفاء العليل: (ص500) .

2 انظر منها: شفاء العليل: (ص63، 472) ، وروضة المحبين: (ص53-54، 173) ، والروح: (ص318) ، وجلاء الأفهام: (ص144، 156، 235) ، وزاد المعاد: (1/316-317) ، (2/407، 443، 462) ، (4/28، 35، 42، 92، 218) ، والصلاة: (21، 177) ، وإعلام الموقعين: (1/243) .

3 زاد المعاد: (3/558-592) .

(2/56)

كبيرةً من الفوائد والأحكام التي يشتملُ عليها هذا القول1.

- وفي قصة الْمُحْرِم الذي سَقَطَ عن راحلته فمات ... , قال: "وفي هذه القصة اثنا عشر حكماً ... "2فَسَرَدَهَا.

والأمثلة في هذا الباب كثيرة3.

__________

1 تهذيب السنن: (2/434-435) .

2 زاد المعاد: (2/238-246) .

3 انظر منها: زاد المعاد: (2/77، 437) ، (4/48-61) ، (5/53، 135، 193، 358) ، وحادي الأرواح: (ص48) ، وتهذيب السنن: (1/45، 344) .

(2/57)

المبحث الثاني: مَنْهَجُهُ في بَيَانِ غَرِيبِ الحَدِيثِ

لقد كان ابنُ القَيِّم في كثير من الأحيان يقفُ عند الألفاظ الغريبةِ الغامضةِ التي تَمُرُّ في النصوص الحديثية، فيكشفُ غموضها ويوضح معناها.

أما عن المنهج الذي سَلَكَهُ في بيان الألفاظ الغريبة، فقد كان على النحو التالي:

1- تنوع طريقة ابن القَيِّم - رحمه الله - من حيث البسط والاختصار؛ فتارةً يشرحُ اللفظةَ الغريبةَ بكلمةٍ أو كلمتين أو جملة قصيرة:

- فيقول في حديث: "إذا بايعت فقل: لا خِلابة": "أي: لا خديعة"1.

- ويقول في حديث: "كلُّ خطبة ليس فيها تَشَهُّدٌ، فهي كاليد الجذماء": "اليد الجذماء: المقطوعة"2.

- وقال في حديث عائشة رضي الله عنها: "وكانَ إِذَا تَعَرَّقْتُ عَرْقَاً3 أَخَذَهُ فَوَضَعَ فمه موضع فمها": "العَرْق: العظم الذي عليه لحم"4.

__________

1 روضة المحبين: (ص49) .

2 جلاء الأفهام: (ص207) .

3 العَرْقُ: - بالسكون - العظم إذا أُخِذَ عنه معظمُ اللحم، وجمعه: عُرَاق. وتَعَرَّقَهُ: إذا أخذ عنه اللحم بأسنانه. (النهاية 3/220، عرق) .

4 زاد المعاد: (1/152) .

(2/59)

- وقال في حديث احتجامه صلى الله عليه وسلم في الأخدعين والكاهل: "والكَاهِلُ: هو ما بين الكتفين"1.

إلى غير ذلك من الأمثلة على بيانه الغريب بإيجازٍ واختصار2.

وتارةً أخرى يطيلُ النَّفَسَ في ذكر معنى الكلمة، وبيان وجوهها، ومن ذلك:

- حديث: "الْمُهَجِّرُ إلى الجمعة كالمُهْدي بدنة" فقد أفاض-رحمه الله- في شرح معنى التهجير، واشتقاقِ هذه الكلمة ومعانيها، وَطَوَّلَ في نقل أقوال العلماء في ذلك3.

وهو إنما يلجأ إلى ذلك لحاجة وضرورة تدعوه إلى مثل هذه الإطالة؛ فإن قوماً حملوا هذا الحديث على أن المراد به: الذهابُ في الهاجرة، وهو وقت الزَّوَال، فأرادَ أن يُثْبِتَ أن المراد بالتهجير: التبكير والمبادرة إلى كلِّ شيء.

- وفي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه في قسمة الضحايا، وقوله: فبقي عتود، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ضَحِّ به أنت". قال ابن القَيِّم رحمه الله: "العَتُودُ من ولدِ المَعْزِ: ما قَوِيَ وَرَعَى، وأتى عليه حولٌ، قاله الجوهري". ثم نَقَلَ أقوالاً أخرى في معنى ما قاله الجوهري، ثم قال: "فيكون هو الثَّنِيُّ

__________

1 زاد المعاد: (1/ 164) .

2 وانظر أيضاً: حادي الأرواح: (ص 245) ، وزاد المعاد: (1/ 347، 484) .

3 زاد المعاد: (1/ 403 - 406) .

(2/60)

من المعز، فتجوز الضَّحِيَّةُ به"1.

فنجده قد استقصى الأقوال في معنى هذه الكلمة لَمَّا أراد أن يثبتَ هذا الحكم، وهو جواز التضحية بالعتود.

- وسلك الطريقة نفسها في شرح معنى "الإهاب" في حديث الدِّبَاغ2.

فهكذا نجده يشرح الكلمة الغريبة بإيجاز واختصارٍ تارةً، وتارة يُفَصِّلُ ويتوسعُ في بيان معناها حين يقتضي المقامُ ذلك.

2- قيامه بضبط الكلمة الغريبة وتقييدِهَا بالحروف، وذلك حينما يخشى من التباسها بغيرها:

- فيقول في كلامه على حَجَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم: "وَلَبَّدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ بِالغِسْلِ- وهو بالغين المعجمة، على وزن: كِفْل - وهو: ما يُغْسَلُ بِهِ الرأس من خِطْمِيٍّ ونحوه، ويُلَبَّدُ به الشعرُ حَتَّى لا ينتشر"3.

- ويقول في حديث وفد بني المنتفق: "الشَّرَبة - بفتح الراء -: الحوض الذي يجتمع فيه الماء، وبالسكون والياء: الحنظلة"4.

3- اعتماده في شرح الغريب على أئمة اللغة وأرباب الشأن،

__________

1 تهذيب السنن: (4/ 103) .

2 انظر: تهذيب السنن: (6/ 67- 68) .

3 زاد المعاد: (2/ 158) .

4 زاد المعاد: (3/ 678) .

(2/61)

سواء منهم من عُرِفَ بالتصنيف في (غريب الحديث) : كأبي عبيد1، وابن الأثير2. أو غيرهم من أئمة اللغة الذين لم يُصَنِّفُوا فيه: كالجوهري في (صحاحه) 3، والأزهري في (تهذيب اللغة) 4، وغيرهم.

ولكنه في الكثير الغالب يشرحُ الكلمة بنفسه، دون نقلٍ عن أحد، أو قد يكون ناقلا عن غيره دون تصريح5.

4- التنبيه على ما يقع من غلطٍ في ضبطِ كلمةٍ غريبةٍ في الحديث، وبيان وجهَ الصواب فيها، فمن ذلك:

- ما جاء في الحديث: " ... كيف تُعْرَضُ صَلاتُنَا عَلَيْكَ وقد أَرِمْتَ" - يعني: بَلِيتَ -، فقد بَيَّنَ - رحمه الله - أن بعضهم غَلِطَ في لفظ الحديث، فقال: " ... فقالوا اللفظ به: أَرَمَّتَ، بفتح الراء، وتشديد الميم وفتحها، وفتح التاء ... "، ثم أَخَذَ في بيان خطأ هذا القول، ووجه الصواب في ذلك6.

__________

1 انظر: حادي الأرواح: (ص 233، 248) .

2 انظر: زاد المعاد: (1/ 161) .

3 انظر: حادي الأرواح: (ص 253) ، وزاد المعاد: (4/ 37) .

4 انظر: زاد المعاد: (1/ 404) .

5 وانظر مزيداً من الأمثلة على شرحه الغريب في: زاد المعاد: (2/247) ، (4/37، 113) ، وروضة المحبين: (ص 57، 84، 365) ، وحادي الأرواح: (ص 180، 204، 231) ، وإغاثة اللهفان: (1/ 262) .

6 تهذيب السنن: (2/ 154) .

(2/62)

المبحث الثالث: مَنْهَجُهُ في التعريفِ ببعضِ الأماكنِ والبقاعِ التي تَرِدُ في النصوص الحديثية، وضبط ذلك

اهْتَمَّ ابن القَيِّم رحمه الله - في ضمن كلامه على الحديث - بضبط أسماء الأماكن والمواضع التي تردُ في النصوص الحديثية، مع تحديد وبيان موقعها والدلالة عليها.

وكان ربما اكتفى بتحديد الموضع فقط:

- كقوله في (حُنَين) و (أوطاس) : "وهما موضعان بين مكة والطائف"1.

- وقوله: "أن وادي وجّ - وهو وادٍ بالطائف - حَرَمٌ يحرم صيده"2.

إلا أَنَّهُ في مناسبات أخرى قد يقومُ بضبطِ اسمِ المكان عندما يَخْشَى التباسُهُ بغيره، أو لغير ذلك من الأسباب:

- فقال في حديث جابر رضي الله عنه: "آجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه من خديجة بنت خويلد سفرتين إلى جرش ... ": "قال في النهاية: جُرَش - بضم الجيم وفتح الراء -: من مخاليف اليمن، وهو بفتحهما: بلد بالشام.

__________

1 زاد المعاد: (3/ 465) .

2 زاد المعاد: (3/ 508) .

(2/63)

قلت: إن صحَّ الحديث، فإنما هو المفتوح الذي بالشام"1.

وَإِنَّمَا قَامَ بِضَبْطِ ذلك وتحريره: لِيُبَيِّنَ أن المقصود في هذا الحديث "جَرَش" الشام؛ وذلك لأنَّه كان بصدد الكلام عن سَفَرِ النبي صلى الله عليه وسلم بتجارة خديجة إليها، فَنَبَّهَ على ذلك حتى لا تلتبس بـ "جُرَش" المضمومة التي باليمن.

- وقال عند كلامه على غزوة دُومة الجندل: "وهي بضم الدَّال، وأما دَومة - بالفتح - فمكانٌ آخر"2.

- وقال عن "ذات السلاسل": "وهي وراء وادي القرى، بضم السِّين الأولى وفتحها، لغتان، وبينها وبين المدينة عشرة أيام"3.

فهكذا يقوم - رحمه الله - بضبط اسم المكان عند خشية التباسه بغيره، أو عندما يكون في ضبطه أكثر من لغة.

__________

1 زاد المعاد: (1/ 161) .

2 زاد المعاد: (3/ 255) .

3 زاد المعاد: (3/ 386) .

(2/64)

المبحث الرابع: مَنهَجُهُ في الاستدلالِ بِالنُّصُوصِ الْحَدِيْثِيَّةِ عَلَى آرَائِهِ واخْتِيَارَاتِه

لقد كان ابن القَيِّم - رحمه الله - في بحوثهِ وآرائهِ وتقريراتهِ، يعتمد اعتماداً كبيراً - مع القرآن - على النصوصِ الحديثية، يستدل بها على ما يذهب إليه ويراه صواباً، ويردُّ بها على المخالفين ويدحض بها دعاواهم.

وكان من أهم السمات التي ميزت منهجه في سياق الأدلة، والاستنباط منها، وبيان أوجه الدلالة فيها، ما يلي:

1- كان ابن القَيِّم - رحمه الله - يعرضُ القضيةَ التي يريدُ تقريرها، أو الرأيَ الذي يختاره ويذهب إليه، ثم يسوقُ الأدلة على ذلك:

- فيقول مثلاً: "وكان هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في ابتداء السلام أن يقول: السَّلام عليكم ورحمة الله. وكان يَكْرَهُ أن يقولَ المبتدئ: عليك السلام. قال أبو جُزَيّ الهُجَيمِي: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: عليكَ السَّلام يا رسول الله. فقال: "لا تَقُلْ عَلَيك السَّلام؛ فإن عَليك السلام تحية الموتى" 1.

- وقال: "للصوم تأثيرٌ عجيبٌ في حفظِ الجوارحِ الظاهرةِ، والقوى الباطنة ... وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصَّوم جُنَّة" 2.

- وقال مرة: "وبالجملة: فَتَنْبيهُ الشَّارع وحكمته يقتضي أن الفِطْرَ لأجل الجهاد أولى منه لمجرد السفر، فكيف وقد أشار إلى العلة، وَنَبَّهَ

__________

1 زاد المعاد: (2/420) .

2 زاد المعاد: (2/29) .

(2/65)

عليها، وَصَرَّحَ بِحُكْمِهَا، وَعَزَمَ عليهم بأن يفطروا لأجلها. ويَدُلُّ عليه: ما رواه عيسى بن يونس، عن شعبة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم فتح مكة: "إِنَّهَ يَومُ قِتَال فَأَفْطِرُوا "1.

ففي هذه الأمثلة وغيرها: نرى أَنَّ ابن القَيِّم - رحمه الله - يُقَرِّرُ المسألة، أو يضعُ القاعدة، أو يُبَوِّبُ الباب، ثم يسوقُ لذلك الأدلة من الأحاديث النبوية.

2- ومع ذلك، فإنه - في مواطن أخرى - يقومُ بإيراد الحديث في مطلع كلامه، ثم يَتَكَلَّمُ عن أحكامه، وفقهه، ووجه الاستدلال منه، فمن ذلك:

- أَنَّه عند كلامه على حكمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في حضانة الولد: ساقَ جملة أحاديث في الباب، ثم بدأَ في الكلامِ على الأحكام التي تشتمل عليها هذه الأحاديث2.

- وعند كلامه على أحكام الرضاعة، وما يحرمُ بها: ذكر أحاديث عِدَّة، ثم قال: "فَتَضَمَّنَتْ هَذِه السُّنَنُ الثَّابِتَة أَحْكَامَاً عديدة ... "3 ثم أَخَذَ في بيان هذه الأحكام.

__________

1 زاد المعاد: (2/ 54) .

2 زاد المعاد: (5 / 432 - 465) فما بعدها.

3 زاد المعاد: (5/ 552 - 556) .

(2/66)

- وَكَذَا صَنَع في الكلام على حكم استبراءِ المرأة من السبي قبل وطئها1.

3- ومما تميز به ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا الباب: الإكثار من الأدلة التي يوردها للمسألة الواحدة:

- فعند كلامه على صِفَةِ حَجَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه أَحْرَمَ قَارِنًا لبضعة وعشرين حديثاً صحيحة صريحة في ذلك"2.ثم أَخَذَ في سَرْدِهَا.

- وأورد ثمانية عشر حديثاً في إثبات عذاب القبر3.

- وَسَاق في بيان فضل السِّواك وتأكيده ثَمَانِيَة عشر حديثاً أيضاً4. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً.

فهكذا كان رحمه الله: إذا تناول مسألةً، فَإِنَّهُ يورد في الاستدلالِ عليها قدراً كبيراً من الأحاديث النبوية على وجه الخصوص؛ إذ اعتماده في ذلك على النصوص في المقام الأول.

4- لم يكتف ابن القَيِّم بِمُجَرَّدِ سَوْق النصوصِ الحديثية في معرض الاستدلال، بل إنه - في بعض الأحيان - يُبَيِّنُ وجه الاستدلال من النص

__________

1 زاد المعاد: (5/ 711 - 745) .

2 زاد المعاد: (2/ 107 - 115) .

3 تهذيب السنن: (7/ 142 - 146) .

4 المنار المنيف: (ص 23 - 28) .

(2/67)

للمسألة المستدل لها، وبخاصة إذا لم تكن دلالة النص صريحة:

- فيقول مثلاً: عِنْد سِيَاقِه أَدِلَّة كفر تارك الصلاة -: "الدليلُ العاشر: قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا: فَهُوَ المسلم ... " قال: "ووجه الدلالة فيه من وجهين ... "1 فذكرهما.

وعلى ذلك أمثلة أخرى2.

5- التَّدَرُّجُ في سياقِ الأدلةِ حسب قوتها وأهميتها، وقد مضى الكلام على ذلك عند عرض منهجه - رحمه الله - في التأليف3.

__________

1 الصلاة: (ص 48) .

2 انظر مثلاً: الصلاة: (ص 19، 120، 121، 125) .

3 انظر (1/213) .

(2/68)

المبحث الخامس: مَنْهَجُهُ في التوفيقِ والجمعِ بينَ الأحاديث التي ظَاهِرُهَا التَّعَارض

تَقَدَّمَتْ الإشارة - عند الكلام على "مختلف الحديث" - إلى كلام ابن القَيِّم - رحمه الله - ورأيه في الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وذكرنا هناك جملة من المرجحات التي استعملها في الترجيح عند التعارض1.

وأنبه هنا على بعض المعالم الرئيسة لمنهج ابن القَيِّم في الجمع والتوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، مع ذكر بعض الأمثلة من كلامه.

- فقد كان - رحمه الله - حريصاً على التأليف بين الأحاديث المتعارضة، ونفي التضادِّ عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، مُقَرِّراً أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يَضْرِبُ بعضُهَا بعضاً، وإِنَّمَا تتفقُ وتتآلف.

- وبالرغم من أن التعارضَ لا يكون مُعْتَبَراً إلا بَين حديثين صحيحين، إلا أَنَّ ابن القَيِّم كان رُبَّمَا قَامَ بالجمع بين خبرين أحدهما ضعيف، أو لا يُقَاِوم الآخر في الصحة.

ويكون هذا - في الغالب - من باب التَنَزُّلِ منه، فيقررُ عدم صحة الْمُعَارِض، ثم يقول: بأنه على فرض ثبوته، أو على القول بتسليم صحته، فإن الجمع بينه وبين معارضه ممكن على نحو كذا وكذا، أو يجعل

__________

1 انظر: (1/502 - 508) .

(2/69)

الجمع والتأويل معلقاً على ثبوته، فيقول مثلاً: إن صَحَّ الخبر فتأويله كذا، أو: وجهه كذا1.

ومن أمثلة الأحاديث التي قام بالتأليف والتوفيق بين ما ظَاهِرُهُ التعارض منها:

1- أحاديث الإذن في الرُّقْيَة، كحديث عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرها أن تَسْتَرْقِي من العين". وحديث جابر رضي الله عنه: "رَخَّصَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لآل حزم في رقية الحَيَّة". وغير ذلك من الأحاديث.

وما جاء في النهي عن ذلك، كما في حديث جابر رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الرُّقَى".

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "فهذا لا يعارضُ هذه الأحاديث؛ فَإِنَّه إنما نَهَى عن الرُّقى التي تتضمنُ الشِّرْكَ، وتعظيمَ غيرِ الله سبحانه، كغالبِ رُقَى أهل الشرك.

والدليل على هذا: ما رواه مسلم في (صحيحه) 2 من حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا عليَّ رُقَاكُم، لا بأسَ بالرُّقَى ما لم يكن فيه شرك" …

__________

1 انظر مثلا: تهذيب السنن: (5/ 361 -362) ، والفروسية: (ص 101) .

(4/ 1727) ح64 (2200) ك السلام، باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك.

(2/70)

وهذا المسلك في هذه الأحاديث وأمثالِهَا: فيما يكون الْمَنْهِيُّ عنه نوعاً، والمأذون فيه نوعاً آخر، وكلاهما داخلٌ تحت اسمٍ واحدٍ، من تَفَطَّنَ له زال عنه اضطرابٌ كثيرٌ، يَظُنُّهُ من لم يُحِطْ عِلماً بحقيقة الْمَنْهِيِّ عنه من ذلك الجنس، والمأذون فيه: متعارضاً، ثم يسلكُ مسلك النسخ، أو تضعيف أحد الأحاديث"1.

2- الأحاديث الواردة في أكل الْمُحْرِم لحمَ الصيد، وما جاء من المنع من ذلك.، قال رحمه الله:

قال رحمه الله: "فَحَيْثُ أَكَلَ: ُعُلِمَ أَنَّهُ لم يُصَدْ لأجلهِ، وحيث امتنع: عُلِمَ أنه صيد لأجله. فهذا فعله، وقوله في حديث جابر يدل على الأمرين، فلا تعارض بين أحاديثه صلى الله عليه وسلم بحال"2.

وحديث جابر الذي أشار إليه: هو ما أخرجه أبو داود في (سننه) 3 عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: "صَيْد البَرِّ لَكُم حلالٌ ما لم تصيدُوه، أو يُصَادُ لكم".

3- حديث: "من كان له شَعْرٌ فليكرمه" وحديث: "النَّهْي عن التَّرَجُّلِ إلا غِبّاً".

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "والصَّواب: أنه لا تعارض بينهما بحال، فإن العبدَ مأمورٌ بإكرامِ شعره، وَمَنْهِيٌّ عن المبالغةِ والزيادةِ في الرفاهية والتنعيم، فيكرم شعره ولا يتخذُ الرَّفَاهِية والتنعيم ديدنه، بل يترجل غباً.

__________

1 تهذيب السنن: (5/ 367) .

2 تهذيب السنن: (2/ 365) .

(2/ 427) ح 1851 ك الحج، باب لحم الصيد للمحرم.

(2/71)

هذا أولى ما حمل عليه الحديثان، وبالله التوفيق"1.

إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في هذا الباب2.

وبعدُ، فهذه أبرزُ المسائل المتعلقة بكلام ابن القَيِّم - رحمه الله - على الحديث: شرحاً، واستدلالاً، واستنباطاً، وجمعاً وتوجيهاً عند التعارض، وغير ذلك، مع بيان منهجه في كل مسألة من تلك المسائل، والله أعلم.

__________

1 تهذيب السنن: (6/ 85) .

2 انظر منها: زاد المعاد: (1/208، 275 - 285) ، إعلام الموقعين: (2/334 -335) ، تهذيب السنن: (1/137- 138) ، بدائع الفوائد: (2/ 222 - 223) ، مفتاح دار السعادة: (2/ 264-269) .

(2/72)

الباب الثالث: دراسة جملة من الأحاديث المختارة مما تكلم عليه ابن القيم

المدخل

...

الباب الثالث: دِرَاسَةُ جملة من الأحاديث المختارة مِمَّا تَكَلَّم عَلَيه ابن القَيِّم

ويتضمن هذا الباب أحاديث منتقاة من:

1- كتاب الطهارة.

2- كتاب الحيض.

3- كتاب الصلاة.

4- كتاب الزكاة.

5- كتاب الصوم.

6- كتاب الحج.

7- كتاب الجهاد

8- كتاب الجنائز.

9- كتاب النكاح.

10- كتاب الطلاق.

11- كتاب البيوع.

12- كتاب الأطعمة والصيد والذبائح.

13- كتاب الأيمان والنذور.

14- كتاب العتق.

15- كتاب الحدود والديات.

16- كتاب الأدب.

17- كتاب الفرائض.

18 - كتاب الأذكار.

19- كتاب الفضائل.

20- كتاب التفسير.

21- كتاب التوحيد والأسماء والصفات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج2. باقي صحيح السيرة النبوية تحقيق الشيخ الألباني مراجع ومدقق {من 130. الي234.}

  ج2. صحيح السيرة {ج2. باقي صحيح السيرة النبوية  تحقيق  الشيخ الألباني مراجع ومدقق {من 130. الي234.} صفحة رقم -130 - قال : قلت : من غف...