السؤال باسم الله الأعظم

وسمع آخر يقول في تشهده أيضا : ( أبو داود والنسائي وأحمد والبخاري في الأدب المفرد ) ( اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت [ وحدك لا شريك لك ] [ المنان ] [ يا ] بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم [ إني أسألك ] [ الجنة وأعوذ بك من النار ] . [ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( تدرون بما دعا ؟ ) قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ( والذي نفسي بيده ] لقد دعا الله باسمه العظيم ( وفي رواية : الأعظم ) الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى}

الثلاثاء، 13 فبراير 2024

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها { من كتاب البيوع

 

ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها 


11-
من كتاب البيوع

 
1 -
باب ما جاء في أداء الأمانة واجتناب الخيانة
79- (1)
قوله صلى الله عليه وسلم: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ".
أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث عند كلامه على مسألة الظَّفْر1، واستدل به على أنَّ من جُحِدَ له مالٌ، فَتَمَكَّنَ من مال الجاحد، فإنه لا يأخذ منه حقه إذا كان سبب الحق خفياً، بحيث يُتَّهَمُ بالأخذ، وينسب إلى الخيانة ظاهراً، وإن كان في الباطن آخذاً حَقَّه.
وقد أورد هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، وخلص إلى القول بأنه صحيح بشواهده2.
قلت: هذا الحديث يُروى عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو هريرة، وأنس، ورجل سَمِعَ النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم. وأذكرها فيما يلي حسب ترتيب ابن القَيِّم لها:
عن يوسف بن ماهك قال: "كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم، فَأَدَّاهَا إليهم، فأدركت له من أموالهم مثلها، فقلت: اقبض الألف الذي ذهبوا به منك، قال: لا. حدثني أبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ".
__________
1
وهو: الفوز بالمطلوب. لسان العرب: (ص2750) . والمراد هنا: الظفر بِحَقِّهِ الذَّي سُلِبَ منه.
2
إغاثة اللهفان: (2/75 - 78) .

(3/43)


أخرجه أبو داود في (سننه) 1، وأحمد في (مسنده) 2، والدولابي في (الكنى) 3، والبيهقي في (سننه) 4، كلهم من طريق: حميد الطويل، عن يوسف بن ماهك5 به، كذا هو عند أبي داود والدولابي باللفظ السابق، وأما أحمد فعنده: "كنت أنا ورجل من قريش نلي مال أيتام، ... " الحديث.
وقد أخرج الدارقطني6 هذا الحديث، فقال فيه: عن حميد الطويل، عن يوسف بن يعقوب، عن رجل من قريش، عن أبي بن كعب ... بالمرفوع منه، دون ذكر القصة. فهل أبيُّ بن كعب رضي الله عنه هو الصحابيُّ الذي سَقَطَ في الطريق السابق؟؟ قد يكون ذلك محتملاً، ولكن يبقى الراوي عنه مجهولاً.
ولذلك فقد أُعِلَّ هذا الحديث، فقال البيهقي - رحمه الله -: " ... في حكم المنقطع؛ حيث لم يذكر يوسف بن ماهك اسم من حَدَّثَهُ،
__________
(3/804)
ح 3534 ك البيوع والإجارات، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده.
(3/414) .
(1/63) .
(10/270) .
5
ابن بهزاد، الفارسي، المكيِّ، ثقةٌ، من الثالثة، مات سنة 106هـ/ع. (التقريب611) .
6
في سننه: (3/35) ح 141.

(3/44)


ولا اسم من حَدَّثَ عنه من حدثه"1.
ولكن يقال: إن الجهل بحال الصحابي لا يضرُّ، فيبقى معلولاً بشيخ يوسف بن ماهك فقط.
وأعلَّ ابن حجر طريق أبي بن كعب السالف، فقال: "وفي إسناده من لا يُعرف"2. ومع هذا فقد صححه ابن السكن، كما نقل ذلك عنه ابن حجر3، ولا يخفى ما فيه.
وأشار ابن القَيِّم إلى عِلَّتِه هذه فقال: "وهذا وإن كان في حكم المنقطع، فإنه له شاهداً من وجه آخر"4. ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو:
80- (2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَدِّ الأَمَانَةَ لِمَن ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ".
وهذا أخرجه: أبو داود والترمذي في (سننيهما) 5، والدارمي في (مسنده) 6، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 7، والحاكم في
__________
1
سنن البيهقي: (10/271) .
2
التلخيص الحبير: (3/97) .
3
المصدر السابق.
4
إغاثة اللهفان: (2/77) .
5
د: (3/805) ح 3535. ت: (3/555) ح 1264، ك البيوع، باب 38.
(2/178)
ح 2600، ك البيوع، باب في أداء الأمانة واجتناب الخيانة.
7
قط: (3/35) ح 142. هق: (10/271) .

(3/45)


(
المستدرك) 1، والأصبهاني في (الترغيب والترهيب) 2، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 3، كلهم من طريق: طلق بن غَنَّام، عن شريك وقيس بن الربيع4، عن أبي حصين5، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه به.
وقد أَعَلَّ جماعةٌ هذا الحديث، فقال أبو حاتم في طلق بن غَنَّام: "روى حديثاً منكراً عن شريك وقيس، عن أبي حصين، عن أبي صالح ... ولم يرو هذا الحديث غيره"6. وقال البيهقي: "وحديث أبي حصين: تَفَرَّدَ به عنه شريك القاضي وقيس بن الربيع، وقيس ضعيف، وشريك لم يحتج به أكثر أهل العلم بالحديث، وإنما ذكره مسلم بن الحجاج في الشواهد"7. وقال ابن حزم: "هو من رواية: طلق بن غَنَّام، عن شريك وقيس بن الربيع، وكلهم ضعيف"8. وقد انفرد ابن حزم وحده بتضعيف
__________
(2/46) .
(1/120)
ح 223، باب الترغيب في أداء الأمانة.
(2/102)
ح 973.
4
الأَسَدِي، أبو محمد الكوفي، صدوق تَغَيَّرَ لَمَّا كبر وأَدْخَلَ عليه ابنه ما ليس من حديثه فَحَدَّثَ به، من السابعة، مات سنة بضع وستين ومائة/ د ت ق. (التقريب 457) .
5
هو: عثمان بن عاصم بن حصين الأَسَدِي، الكوفي، ثقة ثبتٌ سُنِّيٌّ، وَرُبَّمَا دَلَّسَ، من الرابعة، مات سنة 127هـ ويقال بعدها/ ع. (التقريب 384) .
6
علل ابن أبي حاتم: (1/375) ح 1114.
7
سنن البيهقي: (10/271) .
8
الْمُحَلَّى: (8/647) .

(3/46)


طلق بن غَنَّام، ولم يشاركه في ذلك أحد1.
وقال الترمذي: "حسن غريب". قال ابن القطان: "والمانع من تصحيحه: أن شريكاً، وقيس بن الربيع مختلفٌ فيهما"2. وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. قال الشيخ الألباني: "فيه نظرٌ؛ فإن شريكاً ... إنما أَخْرَجَ له مسلم في المتابعات"3.
قلت: أما شريك وقيس بن الربيع، فقد تَكَلَّمَ الأئمة فيهما من جهة سوء حفظهما، ووجود الخطأ في حديثهما، ولكنَّ اقترانهما في هذا الإسناد يجعل كلَّ واحدٍ منهما يَتَقَوَّى بصاحبه، ولذلك قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وشريك ثقة، وقد قَوِيَ بمتابعة قيسٍ له، وإن كان فيه ضعفٌ"4. وقال ابن التركماني في قيس بن الربيع: "والقول فيه ما قال شعبة، وأنه لا بأس به، وأقلُّ أحواله: أن تكون روايته شاهدةً لرواية شريك"5. وقال الشيخ الألباني: "فأحدهما يُقَوِّي الآخر"6.
وأما ما حكم به أبو حاتم من نكارة هذا الحديث، وأنَّ طلق بن غنام انفرد به، ولم يروه غيره: فلم يتبين لي ما وجه ذلك؛ فإن طلق
__________
1
انظر: تهذيب التهذيب: (5/34) .
2
نصب الراية: (4/119) .
3
إرواء الغليل: (5/381) .
4
إغاثة اللهفان: (2/77) .
5
الجوهر النقي: (10/271) .
6
إرواء الغليل: (5/381) .

(3/47)


ابن غنام ثقة، فلو سلمنا انفراده، برواية ذلك، لم يكن من قبيل الشاذِّ ولا المنكر، فكيف وقد رُوِيَ الحديث من أوجه أخرى كثيرة؟
وقال الشيخ الألباني معقباً على كلام أبي حاتم هذا: "لعلَّ وجهه: أن طلقاً لم يثبت عند أبي حاتم عدالته، فقد أورده ابنه في الجرح والتعديل ... ثم لم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذلك مما لا يضرهُ، فقد ثبتت عدالته بتوثيق من وثقه، لاسيما وقد احتجَّ به الإمام البخاري في صحيحه"1.
فالذي يترجح في حديث أبي هريرة هذا: ما ذهب إليه ابن القَيِّم رحمه الله من أنه وإن كان في إسناده ضعيفان، إلا أنه باقترانهما يُقَوِّي كلُّ منهما صاحبه، وينجبر الضعف الموسوم به كلٌّ منهما إذا انفرد.
ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - شاهداً آخر لهذا الحديث، وهو:
حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما تقدم، ثمَّ أشار إلي ضَعْفٍ في إسناده، إلا أنه - مع ذلك - يَصْلُحُ للاستشهاد به2.
قلت: هذا الحديث أخرجه الطبراني في (المعجم الصغير) 3، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 4، والحاكم في (المستدرك) 5 كلهم من طريق:
__________
1
إرواء الغليل: (5/382) .
2
إغاثة اللهفان: (2/77) .
(1/171) .
4
قط: (3/35) ح 143. هق: (10/271) .
(2/46) .

(3/48)


أيوب بن سويد، عن ابن شوذب1، عن أبي التيَّاح2، عن أنس رضي الله عنه به.
قال الطبراني عقبه: " ... تَفَرَّدَ به أيوب، ولا يروى عن أنس إلا بهذا الإسناد". وقد ضَعَّفَهُ جماعة لأجل أيوب هذا، فقال البيهقي: "رواه أيوب بن سويد، وهو ضعيف"3. وقال ابن الجوزي: "فيه أيوب ابن سويد، قال ابن المبارك: ارم به. وقال يحيى: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة"4. وقال الحافظ ابن حجر: "وفيه أيوب بن سويد، مختلف فيه"5.
قلت: لم أر فيه اختلافاً كثيراً، بل إنَّ الأئمة كالمجمعين على ضَعْفِهِ6، ولعلَّ أحسن ما قيل فيه هو قول ابن عديِّ رحمه الله، إذ قال: "له حديث صالح عن شيوخ معروفين، منهم: يونس بن يزيد بنسخة الزهري، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وابن جريج، والأوزاعي، والثوري، وغيرهم. ويقع في حديثه ما يوافقه الثقات عليه، ويقع فيه ما لا
__________
1
هو: عبد الله بن شَوْذَبَ الخراساني، أبو عبد الرحمن، سكن البصرة ثم الشام، صدوق عابدٌ، من السابعة، مات سنة 156هـ أو 157هـ / بخ4. (التقريب 308) .
2
هو: يزيد بن حميد الضُّبَعي، بصريٌّ، مشهورٌ بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، من الخامسة، مات سنة 128هـ/ع. (التقريب 600) .
3
سنن البيهقي: (10/271) .
4
العلل المتناهية: (2/103) .
5
التلخيص الحبير: (3/97) .
6
انظر: تهذيب الكمال: (3/474 - 477) .

(3/49)


يوافقونه عليه، ويُكتب حديثه في جملة الضعفاء"1. وقال ابن حجر: "صدوق يخطئ".
فمثله يُكْتَبُ حديثه للاعتبار، ويُسْتَشْهَدُ به إن وافقتْ روايته رواية غيره، كما قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "وأيوب بن سويد وإن كان فيه ضعف، فحديثه يَصْلُحُ للاستشهادِ به"2.
ثم وقفت على متابعة جيدة لأيوب بن سويد هذا، وذلك فيما أخرجه الطبراني في (الكبير) 3 من طريق: ضمرة بن ربيعة4، عن ابن شوذب، عن أبي التياح، عن أنس رضي الله عنه به.
فهذا "ضمرة بن ربيعة" - راوية ابن شوذب والمختص به5 - قد رواه عن ابن شوذب، متابعاً بذلك أيوب بن سويد في روايته السالفة.
وَضَمُرَةُ هذا وَثقَهُ غير واحد من الأئمة6، وله أوهام قليلة - كما قال الحافظ ابن حجر: "يهم قليلاً" - لا تؤثر في ثقته وإتقانه،
__________
1
الكامل: (1/363) .
2
إغاثة اللهفان: (2/77) .
(1/234)
ح 760.
4
الفلسطيني، أبو عبد الله، أصله دمشقي، صدوق يَهِمُ قليلاً، من التاسعة، مات سنة 202هـ/ بخ4. (التقريب 280) .
5
انظر: تهذيب التهذيب: (5/255) ترجمة عبد الله بن شوذب.
6
تهذيب التهذيب: (4/461) .

(3/50)


ومثله حديثه لا ينزل عن درجة الحسن، وانضمام رواية أيوب بن سويد السابقة إليه تزيده قوة، وقد صَحَّحَ الحافظ الهيثمي - رحمه الله - إسناد رواية ضمرة هذه، فقال: "رواه الطبراني في الكبير، والصغير، ورجال الكبير ثقات"1.
فيصحُّ بهذه المتابعات حديث أنس، أو يكون حسناً على أقل أحواله، ولم أر أحداً أشار إلى هذه المتابعة أو نَبَّهَ عليها، ممن وقفت على كلامهم على هذا الحديث.
ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - شاهداً آخر لهذا الحديث، وهو: حديث أبي أمامة رضي الله عنه. بنحو ما تقدم.
وهو حديث ضعيفٌ، وممن نصَّ على ضعفه: الإمام البيهقي رحمه الله، فقال: "وهذا ضعيف، لأن مكحولاً لم يسمع من أبي أمامة شيئاً، وأبو حفص الدمشقي هذا: مجهول"2. وقال الحافظ ابن حجر: "رواه البيهقي ... بسند ضعيف"3.
وبعد، فهذه طرق هذا الحديث - أو أشهرها - وهي لا تخلو من ضَعْفٍ، وبعضها أحسن من بعض، وبخاصة حديث أنس وحديث أبي هريرة رضي الله عنهما، ولاشكَّ أن اجتماع هذه الطرق يُقَوَِّي هذا
__________
1
مجمع الزوائد: (4/144 - 145) .
2
السنن: (10/271) .
3
التلخيص الحبير: (3/97) .

(3/51)


الحديث، وهذا ما ذهب إليه ابن القَيِّم - رحمه الله - في هذا البحث؛ إذ ساق هذه الشواهد كلها تَقْوِيةً لهذا الحديث.
وقد أَيَّدَ ابنَ القَيِّم - رحمه الله - في ذلك جماعةٌ، فقال السخاوي عن طرق هذا الحديث: "لكن بانضمامها يقوى الحديث"1. وقال الشوكاني: "ولا يخفى أن وروده بهذه الطرق المتعددة، مع تصحيح إمامين من الأئمة المعتبرين لبعضها، وتحسين إمام ثالثٍ منهم، مما يصير به الحديث منتهضاً للاحتجاج"2. وقال الشيخ الألباني: "وجملة القول: أن الحديث بمجموع هذه الطرق ثابت"3. وقال مرة أخرى: "فالحديث من الطريق الأول - يعني طريق أبي هريرة - حسنٌ، وهذه الشواهد والطرق تُرَقِّيهِ إلى درجة الصحة،، لاختلاف مخارجها، ولخلوها عن متهم"4.
وقد رمز له الحافظ السيوطي بالصحة في (الجامع الصغير) 5. هذا مع ما تقدم من تحسين الترمذي، وتصحيح الحاكم وغيره له.
وأما ما ذهب إليه بعض الأئمة من تضعيف هذا الحديث، كقول الشافعي: "ليس بثابت عند أهل الحديث"6. وقول الإمام أحمد: "باطل،
__________
1
المقاصد الحسنة: (ص76) .
2
نيل الأوطار: (5/335) .
3
إرواء الغليل: (5/383) .
4
السلسلة الصحيحة: (ح 424) .
5
مع فيض القدير: (1/223) ح 308.
6
سنن البيهقي: (10/271) .

(3/52)


لا أعرفه من وجه يصح"1. وقول ابن ماجه: "وله طرقٌ ستة كلها ضعيفة"2: فقد ظهر من هذه الدراسة أنَّ الأمر على خلاف ذلك، وأن هذا الحديث لا ينزل بحال من الأحوال عن درجة الحسن، إن لم يكن صحيحاً، ولذلك ردَّ الحافظ السَّخَاويُّ القول بضعف طرقه كلها قائلاً: "لكن بانضمامها يَقْوى الحديث". وقال الشيخ الألباني ردًّا على ذلك: "فما نُقِلَ عن بعض المتقدمين: أنه ليس بثابت، فذلك باعتبار ما وقع له من طرق، لا بمجموع ما وصل منها إلينا"3. وهذا كلامٌ جيد منه رحمه الله، ومثله قوله: "وهذه الشواهد والطرق ترقيه إلى درجة الصحة، لاختلاف مخارجها، ولخلوها عن متهم". وهذا هو الصواب، والله أعلم.
__________
1
التلخيص الحبير: (3/97) .
2
المقاصد الحسنة: (ص 76) .
3
إرواء الغليل: (5/383) .

(3/53)


2-
باب ما جاء من الرخصة في ثمن الكلب
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - الأحاديث الصحيحة الواردة في تحريم بيع الكلب، وأن ذلك يشمل كلَّ كلب: صغيراً كان أو كبيراً، للصيد أو للماشية أو لغير ذلك.
ثم تناول أدلة القائلين باستثناء كلب الصيد من هذا النهي، وناقش هذه الأدلة مبيناً ضعفها، فمن أدلة هذا الفريق:
81- (3)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، إلاّ كَلْبَ صَيْدٍ".
أورد ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث من طريقين عن أبي هريرة، ونقل عن الإمام أحمدَ تضعيف الأول منهما. وضَعَّفَ الثاني: بالمثنى بن الصباح، ويحيى بن أيوب1.
أما الطريق الأول: فقد أخرجه الترمذي في (جامعه) 2 من طريق: حَمَّاد بن سلمة، عن أبي الْمُهَزِّم، عن أبي هريرة به.
وقد أَعَلَّهُ غير واحد بأبي الْمُهَزِّم، فقال الترمذي عقب إخراجه: "هذا الحديث لا يصحُّ من هذا الوجه، وأبو الْمُهَزِّم: اسمه يزيد بن سفيان3، وتكلم فيه شعبة بن الحجاج وضعفه". وقال ابن حجر:
__________
1
زاد المعاد: (5/770 - 771) .
(3/569)
ح 1281 ك البيوع، باب ما جاء في كراهية ثمن الكلب والسنور.
3
التميمي، البصري، اسمه يزيد - وقيل: عبد الرحمن - بن سفيان، متروك، من الثالثة/ د ت ق. (التقريب 676) .

(3/54)


" ...
لكنه من رواية أبي المهزم عنه، وهو ضعيف"1.
قلت: وأبو الْمُهَزِّم هذا ضعيفٌ بإجماعهم2، بل قال فيه النسائي: "متروك الحديث"3. وقال البخاريّ: "تركه شعبة"4.
وأما الطريق الثاني: فقد ساقه ابن القَيِّم5 من حديث قاسم بن أصبغ بإسناده إلى يحيى بن أيوب، ثنا المثنى بن الصباح6، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثمن الكلب سُحْتٌ7، إلا كلب صيد".
وقد ضَعَّفَ ابن القَيِّم هذا الطريق، فقال: "وأما حديث الْمُثَنَّى ... فباطلٌ؛ لأنَّ فيه يحيى بن أيوب، وقد شَهِدَ مالكٌ عليه بالكذب، وجرحه الإمام أحمد. وفيه المثنى بن الصباح، وضَعْفُهُ عندهم مشهور"8.
__________
1
التلخيص الحبير: (3/4) .
2
انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب: (12/249) .
3
الضعفاء والمتروكين: (ص 111) .
4
الضعفاء الصغير: (ص 254) .
5
زاد المعاد: (5/769) .
6
اليماني الأبناوي، أبو عبد الله أو أبو يحيى، نزيل مكة، ضعيفٌ، اختلط بآخرة، وكان عابداً، من كبار السابعة، مات سنة 149 هـ / د ت ق. (التقريب 519) .
7
السُّحْتُ: الحرام الذي لا يحلُّ كسبه؛ لأنه يَسْحَتُ البركةَ: أي يُذْهِبُهَا. (النهاية2/345) .
8
زاد المعاد: (5/771) .

(3/55)


قلت: أما المثنى بن الصباح: فهو ضعيف باتفاق، وأما يحيى بن أيوب فإنه مختلف فيه، فقد ضَعَّفَهُ جماعة وَوَثَّقَهُ آخرون، ولذلك قال ابن حجر: "صدوق ربما أخطأ". وأما اتهام مالك له بالكذب فلم أقف على قولته تلك، والظاهر أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد تابع ابن حزم في ذلك؛ فقد ضعف الحدث بهذين الرجلين، ونقل مقالة مالك هذه في يحيى1.
وقد أخرجه الدارقطني في (سننه) 2 من طريق: محمد بن سلمة3، عن المثنى بن الصباح، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاث كلهنَّ سحت: كسب الحجام سُحْتٌ، ومهر الزانية سحتٌ، وثمن الكلب- إلا كلباً ضارياً- سحت".
فهذه متابعة من محمد بن سلمة - وهو ثقة - ليحيى بن أيوب الماضي ذكره، ولكن يبقى الإسناد ضعيفاً بالمثنى بن الصباح، ولذلك قال الدارقطني - عقب إخراجه من هذا الطريق-: "المثنى ضعيف".
وَثَمَّةَ متابعة أخرى للمثنى بن الصباح، أخرجها الدارقطني في (سننه) أيضاً4 من طريق: الوليد بن عبيد الله بن أبي رباح، عن عمه
__________
(9/619 - 620) .
(3/73)
ح 275.
3
ابن عبد الله الباهلي مولاهم، الحَرَّاني، ثقة، من التاسعة، مات سنة 191هـ على الصحيح / ر م 4. (التقريب 481) .
(3/72)
ح 273.

(3/56)


عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة مرفوعاً، بمثل حديث محمد بن سلمة السابق. قال الدارقطني: "الوليد بن عبيد الله ضعيف".
وإذا كانت هذه المتابعة ضعيفة أيضاً، فإن حديث أبي هريرة هذا يبقى على حاله من الضعف.
وقد استدل ابن القَيِّم - رحمه الله - على عدم صحة هذا المرفوع بما رُوِيَ عن أبي هريرة موقوفاً بدون هذا الاستثناء، فقال: "ويدل على بطلان الحديث: ما رواه النسائي1: حدثنا الحسن بن أحمد بن حبيب، حدثنا محمد بن عبيد الله بن نمير، حدثنا أسباط، حدثنا الأعمش، عن عطاء ابن أبي رباح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "أربعٌ من السُّحْتِ: ضِرَابُ الفحل، وثمنُ الكلب، ومهر البغيِّ، وكسبُ الحجَّام"2.
فتلخص من ذلك: أن استثناء ثمن كلب الصيد من النهي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصحُّ، قال البيهقي رحمه الله: "والأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن ثمن الكلب خالية عن هذا الاستثناء، وإنما الاستثناء في الأحاديث الصِحَّاحِ في النهي عن الاقتناء"3. وقال النووي رحمه الله: "وأما الجواب عمَّا احتجوا به من الأحاديث والآثار: فكلها ضعيفة باتِّفَاق
__________
1
السنن الكبرى: (4/427) ح 4677.
2
زاد المعاد: (5/771) .
3
سنن البيهقي: (6/7) .

(3/57)


الْمُحَدِّثِين"1. وقال السيوطي: "والجمهور على الْمَنْعِ، وأجابوا عن هذا: بأن الحديث ضعيف باتفاق أئمة الحديث"2.
وبذلك يَتَرَجَّحُ ما ذهبَ إليه ابن القَيِّم رحمه الله، والله أعلم.
__________
1
المجموع: (9/216) .
2
زهر الرُّبى: (7/191) .

(3/58)


3-
باب ما جاء في بيع الْمُغنيات
82- (4)
عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَبِيعُوا القَيْنَاتِ1، ولا تَشْتَرُوهُنَّ، ولا تُعَلِّمُوهُنَّ، ولا خَيْرَ فِي تِجَارةٍ فِيهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حرامٌ. في مثل هذا نزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] ".
تَكَلَّمَ ابن القَيِّم - رحمه الله - على هذا الحديث عند تفسيره لهو الحديث بأنه: الغناء، فقال: "وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء مرفوعاً إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ففي مسند أحمد، ومسند عبد الله بن الزبير الحميدي، وجامع الترمذي من حديث أبي أمامة ... " فساق الحديث، ثم قال:
"
وهذا الحديث وإن كان مداره على: عبيد الله بن زَحْرٍ، عن علي بن يزيد الأَلْهَانِي، عن القاسم - فعبيد الله بن زَحْر: ثقةٌ، والقاسمُ: ثقة، وعليٌّ: ضعيفٌ - إلا أن للحديث شواهد ومتابعات، سنذكرها إن شاء الله، ويَكْفِي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث: بأنه الغناء"2.
قلت: هذا الحديث أخرجه الترمذي في (جامعه) 3، وأحمد في
__________
1
قال ابن الأثير: "القَيْنَةُ: الأَمَةُ غَنَّتَ أو لم تُغَن ... وكثيرا ما تُطلق على المغنية من الإماء ... وتجمعُ على: قِيان أيضاً". (النهاية 4/135) .
2
إغاثة اللهفان: (1/239 - 240) .
(3/570)
ح 1282 ك البيوع، باب كراهية بيع المغنيات. و (5/345) ح 3195 ك التفسير، باب تفسير سورة لقمان.

(3/59)


(
مسنده) 1 كلاهما من طريق: بكر بن مُضَر2.
وأخرجه: الحميدي في (مسنده) 3، والطبراني في (معجمه الكبير) 4، والطبري في (تفسيره) 5، ثلاثتهم من طريق: مُطَّرِح بن يزيد6.
وأخرجه: أحمد في (مسنده) 7، والطبراني في (الكبير) 8، والطبري في (تفسيره) 9، كلهم من طريق: خَلاّد10 الصفَّار - ووقع عند أحمد: خالد، وهو خطأ-.
وأخرجه الطبراني في (الكبير) 11 من طريق: يحيى بن أيوب.
__________
(5/264) .
2
ابن محمد بن حكيم المصري، أبو محمد، ثقة ثبت، من الثامنة، مات سنة 173 أو 174هـ / خ م د ت س. (التقريب 127) .
(2/405)
ح 910.
(8/233)
ح 7805.
5
جامع البيان: (21/60) .
6
أبو المهلّب الكوفي، نَزَلَ الشّام، يقال: هو الأسدِي، ومنهم من غاير بينهما، ضعيف، من السادسة/ ق. (التقريب 534) .
(5/252) .
(8/254)
ح 7862.
9
جامع البيان: (21/60) .
10
ابن أسلم الصفَّار، أبو بكر البغدادي، أصْلُهُ من مرو، ثقة، من العاشرة، مات سنة 249هـ / ت س. (التقريب 196) .
11 (8/251)
ح 7855.

(3/60)


وأخرجه الطبراني - أيضاً - في (الكبير) 1 من طريق: ليث بن أبي سليم2. كلهم عن:
عبيد الله بن زَحْر3، عن عليِّ بن يزيد4، عن القاسم بن عبد الرحمن5، عن أبي أمامة رضي الله عنه به، وألفاظهم متقاربة.
وقد أخرجه ابن ماجه في (سننه) 6 من طريق: مُطَّرِح أبي المهلب، عن عبيد الله بن زحر، عن أبي أمامة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث. هكذا بإسقاط علي بن يزيد، والقاسم بن عبد الرحمن من الإسناد، فيكون هذا الإسناد معضلاً، وقد صَرَّحَ الحافظ ابن حجر بأن عبيد الله بن زحر يُرْسِلُ عن أبي أمامة7، فيكون هذا من مراسليه عنه.
وهذا الحديث ضَعَّفَهُ بعض الأئمة، وَطَعَنُوا في إسناده، فقال الترمذي: "هذا حديث غريب، إنما يُروى من حديث القاسم، عن أبي أمامة.
__________
(8/253)
ح 7861.
2
ابن زنيم.
3
الضَّمْري مولاهم، الأفريقي، صدوق يخطئ، من السادسة / بخ 4. (التقريب 371) .
4
ابن أبي زياد الألهاني، أبو عبد الملك الدمشقي، ضعيف، من السادسة، مات سنة بضع عشرة ومائة/ ت ق. (التقريب 406) .
5
الدمشقي، أبو عبد الرحمن، صاحب أبي أمامة، صدوقٌ يغرُب كثيراً، من الثالثة، مات سنة 112هـ / بخ 4. (التقريب 450) .
(2/733)
ح 2168 ك التجارات، باب ما لا يحلُّ بيعه.
7
تهذيب التهذيب: (7/12) .

(3/61)


والقاسم ثقةٌ، وعلى بن يزيد يُضَعَّفُ في الحديث"1. وسأل البخاريَّ عن إسناده؟ فقال: "عبيد الله بن زحر ثقة، وعليُّ بن يزيد ذاهب الحديث، والقاسم بن عبد الرحمن مولى ثقة"2. وأورده ابن حزم في (المحلى) 3 من طريق: مُطَّرِح أبي المهلب، عن عبيد الله بن زحر ... ثم قال: "مطرح مجهولٌ، وعبيد الله بن زحر ضعيف، والقاسم ضعيف، وعليُّ بن يزيد دمشقي مطرح، متروك الحديث". كذا قال أبو محمد رحمه الله.
قلت: وإسناد هذا الحديث مداره - كما قال ابن القَيِّم - على هؤلاء الثلاثة: عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم.
أما عبيد الله بن زَحْر: فقد اختلفت فيه أقوال الأئمة، فجرحه جماعةٌ، واحتمله آخرون، فَضَعَّفَهُ الإمام أحمد في رواية حرب4. وقال عليُّ بن المديني: "منكر الحديث"5. وقال ابن معين: "ليس بشيء"6. وقال مرة: "كلٌّ حديثه عندي ضعيف"7. وقال مرة: "ضعيف"8. وقال
__________
1
جامع الترمذي: (5/346) .
2
علل الترمذي: (1/512) .
(2/705 - 706) .
4
تهذيب التهذيب: (7/12) .
5
العلل: (ص 90) .
6
تاريخ يحيى - رواية الدوري: (2/382) .
7
تاريخ الدارمي عن يحيى: (ص 174) رقم 626.
8
سؤالات ابن الجنيد لابن معين: (ص 396) رقم 513.

(3/62)


أبو حاتم: "لَيِّنُ الحديث"1. وقال الدارقطني: "ضعيف"2. وقال ابن حبان: "منكر الحديث جدًّا، يَروي الموضوعات عن الأثبات ... "3. وضعفه غير هؤلاء4.
وَضَعَّفَ ابن حبان والدارقطني روايته عن عليِّ بن يزيد خاصة، قال ابن حبان: "وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبرٍ: عبيد الله بن زحر، وعلي بن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمن، لا يكون متن ذلك الخبر إلاّ مما عملته أيديهم، فلا يَحِلُّ الاحتجاج بهذه الصحيفة، بل التَّنَكُّبُ عن رواية عبيد الله بن زحر - على الأحوال - أولى"5. وقال الدارقطني: "عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد: نسخة باطلة"6.
ومع ذلك فقد وَثقَهُ جماعةٌ، قال النسائي: "ليس به بأس"7. وقال البخاريُّ: "ثقة"8. وقال أبو زرعة: "لا بأس به، صدوق"9. وقال
__________
1
الجرح والتعديل: (2/2/315) .
2
تهذيب التهذيب: (7/13) .
3
المجروحين: (2/62) .
4
انظر: تهذيب التهذيب: (7/13) .
5
المجروحين: (2/62 - 63) .
6
الضعفاء والمتروكين: (ص 268) .
7
تهذيب التهذيب: (7/13) .
8
علل الترمذي: (1/512) .
9
الجرح والتعديل: (2/2/315) .

(3/63)


أحمدُ بن صالح: "ثقة"1. وذكره العِجْلِي في (الثقات) 2 وقال: "يُكْتَبُ حديثه، وليس بالقويِّ".
والذي يظهر - والله أعلم - أنه "إلى الضَّعْفِ أقرب"3 كما قال الذهبي رحمه الله.
وأما عليُّ بن يزيد الألهاني، شيخ عبيد الله السابق: فقد "اتفق أهل العلم على ضعفه". كما قال السَّاجي4 رحمه الله.
وأما القاسم بن عبد الرحمن: فقد اختلفت فيه أقوال الأئمة أيضاً5، وقال أبو حاتم: "حديث الثقات عنه مستقيم لا بأس به، وإِنَّمَا يُنْكَرُ عنه الضعفاء"6.
قلت: وهذا الحديث من رواية ضعيف عنه، وهو: علي بن يزيد.
فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن هذا الإسناد ضعيفٌ لا تقوم بمثله حُجَّةٌ، ولكن وُجدَت متابعات لعبيد الله بن زحر، وعلى بن يزيد، وربما تَصْلُحُ لتقوية هذا الحديث.
__________
1
تهذيب التهذيب: (7/13) .
2
بترتيب الهيثمي: (ص 316) .
3
المغني: (2/415) .
4
تهذيب التهذيب: (7/397) .
5
انظر: ترجمته في الميزان: (3/373) ، والتهذيب: (8/322) .
6
تهذيب التهذيب: (8/324) .

(3/64)


فقد تابع عبيد الله بن زحر: الفرجُ بنُ فَضَالَة، فساقه ابن حزم في (المحلى) 1 من طريق: سعيد بن منصور، نا الفرج بن فضالة، عن علي بن يزيد به، ثم ضَعَّفَهُ بالقاسم. وأشار البيهقي في (سننه) 2 إلى هذه الرواية.
قلت: وتضعيفه بالفرج بن فضالة أولى من تضعيفه بالقاسم.
وأما عليُّ بن يزيد الألهاني: فقد تابعه يحيى بن الحارث3، أخرجه الطبراني في (معجمه الكبير) 4 من طريق: الوليد بن الوليد5، ثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان6، عن يحيى بن الحارث، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه عنه، وزاد في آخره: حتى فَرَغَ من الآية ثم أتبعها: "والذي بعثني بالحقِّ، ما رفَعَ رجلٌ عَقِيرَتَهُ7 بالغناء، إلا بَعَثَ الله عز وجل عند ذلك شيطانين يرتقدان على عاتقيه، ثم لا يزالان يضربان بأرجلهما على صدره - وأشار إلى صدر نفسه - حتى يكون هو الذي يسكت".
__________
(9/707) .
(6/14) .
3
الذِّماري، أبو عمرو الشامي، القاري، ثقة، من الخامسة، مات سنة 145هـ/ 4. (التقريب 589) .
(8/212)
ح 7749.
5
ابن زيد العنسي، الدمشقي، أبو العباس، قال أبو حاتم: صدوقٌ. وقال الدارقطني وغيره: متروك. انظر: الميزان: (4/350) .
6
العنسي، الدمشقي.
7
أي: صوته. وقيل: أصله أن رجلاً قُطِعت رِجله، فكان يرفعُ المقطوعة على الصحيحة ويصيح من شدة وجعها بأعلى صوته، فقيل لكلِّ رافعٍ صوته: رَفَعَ عَقِيرَتَهُ. (النهاية 3/275) .

(3/65)


والوليد بن الوليد: قال فيه أبو حاتم: "صدوقٌ، ما بحديثه بأس، حديثه صحيح"1: وضعفه غيره. وعبد الرحمن بن ثوبان وإن ضَعَّفَهُ جماعة، فقد وثقه آخرون، وهو ممن يكتب حديثه على ضعفه، كما قال ابن معين، وابن عدي2.
فهاتان المتابعتان - لعبيد الله بن زَحْر، ثم لعليِّ بن يزيد - تصلحان لتقوية هذا الحديث، وإخراجه من حيز الضعف إلى حيز القبول، ويكون - إن شاء الله - حَسَناً لغيره.
ثم إنه قد وُجدَ لهذا الحديث شاهدٌ من حديث عائشة رضي الله عنها، ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - في (الكلام على مسألة السماع) 3 فقال: "وَرُوِيَ في ذلك حديث مرفوع من حديث عائشة رضي الله عنها" فذكره.
وأشار البيهقي - رحمه الله - إلى هذا الحديث، فقال: "وروي عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عائشة، وليس بمحفوظ. وروي عن ليث راجعاً إلى الإسناد الأول - يعني: رواية ليث عن عبيد الله ابن زحر - خَلَّطَ فيه ليث"4.
وعزاه الهيثمي إلى الطبراني، فقال: "ورواه الطبراني في الأوسط،
__________
1
الجرح والتعديل: (4/2/19) .
2
انظر: تهذيب التهذيب: (6/151) .
(
ص112) .
4
سنن البيهقي: (6/14) .

(3/66)


وفيه اثنان لم أجد من ذكرهما، وليث بن أبي سليم: وهو مُدَلِّسٌ"1.
وهذا مع ضعفه، فإنه يُستأنس به، ويصلح لتقوية حديث أبي أمامة السابق، هذا مع ما ذكره ابن القَيِّم - رحمه الله - من تفسير كثير من الصحابة للهو الحديث بأنه الغناء، قال: "فقد صحَّ ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود ... وصحَّ عن ابن عمر رضي الله عنهما - أيضاً -: أنه الغناء"2.
فَتَلَخَّصَ من ذلك: أن حديث أبي أمامة رضي الله عنه يَتَقَوَّى بمتابعات، وشاهد من حديث عائشة رضي الله عنها، مع ما جاء من أقوال الصحابة المؤيدة لهذا المرفوع، كما قَرَّرَهُ ابن القَيِّم رحمه الله، والله أعلم.
__________
1
مجمع الزوائد: (4/91) .
2
إغاثة اللهفان: (1/240) . وينظر: جامع البيان للطبري: (21/60 - 62) .

(3/67)


4-
باب ما جاء في النهي عن العينة
83- (5)
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بالدِّينَارِ والدِّرْهَمِ، وتَبَايَعُوا بِالعِيْنَةِ1، واتَّبَعُوا أَذْنَابَ البَقَرِ، وتركوا الجهادَ في سبيل الله: أنزلَ الله بهم بلاءً، فلا يَرْفَعُهُ عنهم حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُم ".
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - هذا الحديث في عدد من كتبه2، مستدلاً به على تحريم العينة. وقد ساقه من طريقين، وَبَيَّنَ أن كلاً منهما يَشُدُّ الآخرَ، ويُثْبتُ أن للحديث أصلاً محفوظاً، هذا مع قوله بأن في الإسنادين كلاماً يسيرًا3. وقد حَكَمَ بحسن هذين الإسنادين، فقال: "وهذان إسنادان حَسَنَان يشدُّ أحدهما الآخر"4.
قلت: هذا الحديث يُروى عن ابن عمر - رضي الله عنهما - من طريقين:
__________
1
العِيْنَةُ: السَّلَفُ، واعْتَانَ الرجل: اشترى الشيء بالشيء نسيئةً.... وفسرها الفقهاء: "بأن يبيع الرجل متاعه إلى أجلٍ، ثم يشتريه في المجلس بثمنٍ حالٍ لِيَسْلَمَ به من الرِّبَا، وقيل لهذا البيع عينة؛ لأنَّ مشتري السِّلْعَةَ إلى أجلٍ يأخذ بدلها عَيْناً، أي نقداً حاضراً". (المصباح المنير 2/441) .
2
ينظر: تهذيب السنن: (5/103 - 104) ، وإعلام الموقعين: (3/165 - 166) ، والداء والدواء: (ص63) .
3
تهذيب السنن: (5/104) .
4
تهذيب السنن: (5/104) .

(3/68)


الطريق الأول: أخرجه أبو داود في (سننه) 1، والبيهقي كذلك في (سننه) 2، وأبو بشر الدولابي في (الكنى) 3، ثلاثتهم من طريق:
حيوة بن شريح4، عن إسحاق5 أبي عبد الرحمن الخراساني، أن عطاء الخراساني حَدَّثَهُ، أن نافعاً حَدَّثَهُ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعاً بنحو ما تَقَدَّمَ، إلا أن فيه: "سلط الله عليكم ذلاً ... ".
وقد ضَعَّفَ جماعةٌ إسناد هذا الحديث بأبي عبد الرحمن الخُراساني، فقال ابن القطان: "الحديث من أجله - يعني إسحاق بن أَسِيد - لا يصحُّ"6. وقال المنذريُّ: "في إسناده إسحاق بن أسيد، أبو عبد الرحمن الخراساني،.. لا يُحْتَجُّ بحديثه"7. وجعل الذهبي هذا الحديث من مناكير إسحاق هذا، فقال: "ومن مناكيره في سنن أبي داود: حدثنا عطاء الخراساني ... "8. وقال الحافظ ابن حجر: "إسناده
__________
(3/740)
ح 3462 ك البيوع، باب النهي عن العينة.
(5/316) .
(2/65) .
4
ابن صفوان التجيبي، أبو زرعة المصري، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ، من السابعة، مات سنة 158هـ وقيل 159هـ/ ع. (التقريب 185) .
5
ابن أَسيد، الأنصاري، أبو عبد الرحمن الخراساني، ويقال: أبو محمد المروزي، نزيل مصر، فيه ضعف، من الثامنة. (التقريب ص 100) .
6
بيان الوهم والإيهام: (5/294 – 295) ح 2484.
7
مختصر سنن أبي داود: (5/102 - 103) .
8
الميزان: (4/547) .

(3/69)


ضعيف"1. وقال أيضاً: "في إسناده مقال"2. فقال الصنعاني مُبَيِّنَاً ذلك: "لأن في إسناده أبا عبد الرحمن الخراساني"3.
وأَعَلَّهُ المنذريُّ - فوق ذلك - بعطاء الخراساني، فقال: "وفيه أيضاً: عطاء الخراساني، وفيه مقال"4.
وخالف هؤلاء جميعاً: ابن تيمية رحمه الله، فقال: "إسنادٌ جيدٌ"5. وابن القَيِّم رحمه الله، فقال: "إسنادٌ حسن"6!
قلت: أما إسحاق بن أسيد هذا: فقد ضَعَّفَهُ غير واحدٍ، فقال أبو حاتم: "ليس بالمشهور، ولا يُشتغل بحديثه"7. وقال أبو أحمد الحاكم: "مجهول"8. وقال الأزديُّ: "منكر الحديث، تركوه"9. وقال ابن بكير: "لا أدري حاله"10. وذكره ابن حبان في (الثقات) 11 لكن قال:
__________
1
الدراية: (2/151) .
2
بلوغ المرام: (ح860) .
3
سبل السلام: (3/80) .
4
مختصر سنن أبي داود: (5/103) .
5
القواعد النورانية: (ص142) .
6
تهذيب السنن: (5/104) .
7
الجرح والتعديل: (1/1/213) .
8
تهذيب التهذيب: (1/227) .
9
المصدر السابق.
10
المصدر السابق.
11 (6/50) .

(3/70)


"
يخطئ". وقال المنذري: "لا يحتجُّ بحديثه"1. وَضَعَّفَهُ ابن القطان كما مرَّ. وقال الذهبي: "ضُعِّفَ"2. وقال ابن حجر: "فيه ضعف"3.
والذي يظهر من أمرِ هذا الرَّجُل: أنه ضعيفٌ، لكنه ليس شديد الضَّعْفِ، ولذلك لم يجزم فيه الذهبي ولا ابن حجر بالضعف - وقد تقدم قولهما - بل قال الذهبي مرة: "وهو جائز الحديث"4. وهذا يدلُّ على أن ضعفه محتمل عندهما.
وقد وُجدَتْ متابعةٌ لإسحاق هذا في شيخ شيخه، أشار إليها أبو نعيم في (الحلية) 5، فقال: "ورواه فضالة بن حصين، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر". وذكر الشيخ الألباني أنَّ هذه المتابعة أخرجها ابن شاهين في (الأفراد) ، وقال: "تفرد به فضالة"6.
ولكن فضالة هذا متكلم فيه أيضاً، قال عنه أبو حاتم: "مضطرب الحديث"7. وقال ابن حبان: "شيخ يَروي عن محمد بن عمر الذي لم يتابع عليه، وعن غيره من الثقات ما ليس من أحاديثهم"8.
__________
1
مختصر السنن: (5/102) .
2
الكاشف: (1/60) .
3
التقريب: (ص100) .
4
الميزان: (1/184) .
(3/319) .
6
السلسلة الصحيحة: (1/16) ح 11.
7
الجرح والتعديل: (3/2/78) .
8
المجروحين: (2/205) .

(3/71)


فَتَبَيَّنَ من ذلك: أن هذا الإسناد ضعيفٌ بأبي عبد الرحمن الخراساني، وأنَّ المتابعة التي وُجدتْ له - مع كونها قاصرة - لا تُسْعِفُه، لضعف إسنادها بفضالة بن حصين، وقد يكون اختلط عليه إسناد هذا الحديث فجعله عن أيوب، فإنه مضطرب الحديث.
ومن هذا يتبين أنَّ تحسين ابن القَيِّم إسناده غير جيد، إلا أن يريد بذلك: بمجموع طرقه، فقد يحتمل ذلك.
الطريق الثاني: عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر. ويروى عن عطاء من وجهين:
الوجه الأول: ما أخرجه أحمد في (مسنده) 1، والطبرانيُّ في (الكبير) 2، من طريق: أبي بكر بن عَيَّاش، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعاً بنحو اللفظ المتقدم أول البحث.
وقد صَحَّحَ هذا الإسناد جماعةٌ: فقال ابن القطان: "هذا حديث صحيحٌ، ورجاله ثقات"3. وقال ابن تيمية: "إسناد جيد"4. وقال ابن القَيِّم: "إسناد حسن"5. وقال الحافظ ابن حجر: "رجاله ثقات،
__________
(2/28) .
(12/432)
ح 13583.
3
بيان الوهم والإيهام: (5/295 - 296) .
4
القواعد النورانية: (ص 142) .
5
تهذيب السنن: (5/104) .

(3/72)


وصححه ابن القطان"1. ووصفَ إسنادَهُ بأنه أجودُ وأمثلُ من إسناد إسحاق بن أسيد، عن عطاء الخراساني الماضي2. وقال مرة: "أصحُّ ما ورد في ذَمِّ بيع العِيْنَة: ما رواه أحمد والطبراني، من طريق أبي بكر بن عياش ... "3. وحسَّنَ السيوطيُّ إسناده4. وقال أحمد شاكر: "إسناده صحيح"5.
وَضَعَّفَهُ البيهقيُّ، فقال: "ورُوِيَ من وجهين ضعيفين: عن عطاء ابن أبي رباح، عن ابن عمر"6. وقال المناويُّ: "أبو بكر بن عياش مختلفٌ فيه"7.
وَأَعَلَّهُ الحافظ ابن حجر بعنعنة الأعمش وهو مُدَلِّسُ، فقال: "وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلولٌ؛ لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحاً؛ لأن الأعمش مُدَلِّس، ولم يذكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني، فيكون فيه تدليس التسوية: بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر، فرجع الحديث إلى
__________
1
بلوغ المرام: (ح 860) .
2
الدراية: (2/151) .
3
التلخيص الحبير: (3/19) .
4
الجامع الصغير مع فيض القدير: (1/397) ح 740.
5
التعليق على مسند أحمد: (7/27) ح 4825.
6
السنن: (5/316) .
7
فيض القدير: (1/397) .

(3/73)


الإسناد الأول، وهو المشهور"1. يعني حديث إسحاق الخراساني.
وقد أَبْدَى ابن القَيِّم - رحمه الله - تَخَوُّفَهُ من احتمال وقوع ذلك، فقال: " ... وإِنَّمَا يُخَافُ ألا يكون الأعمش سمعه من عطاء، أو أنَّ عطاء لم يسمعه من ابن عمر"2. فأضاف بذلك علة أخرى، وهي: احتمال إرسال عطاء له. وكلام ابن القَيِّم هذا كأنه أخذه من شيخه ابن تيمية رحمهما الله، فإنه نسبه إليه في موضع آخر3.
قلتُ: أما غَمْزُ هذا الإسناد بأبي بكر بن عَيَّاش فلا ينبغي؛ فإن الرجل ثقةٌ، فقد وثقه غير واحد من الأئمة، إلا أنه كان يخطئ، قال الذهبي رحمه الله: "أحدُ الأعلام، ثقة يغلط"4. وقال ابن عديّ: "لم أجد له حديثاً منكراً إذا روى عنه ثقة، إلا أن يروي عنه ضعيف"5. وقال ابن حبان: "والصواب في أمره: مجانبة ما عُلِمَ أنه أخطأ فيه، والاحتجاج بما يرويه، سواء وافق الثقات أو خالفهم؛ لأنه داخلٌ في جملة أهل العدالة، ومن صَحَّتْ عدالته لم يستحق القدح ولا الجرح إلا بعد زوال العدالة عنه بأحد أسباب الجرح، وهكذا حُكْمُ كلِّ مُحَدِّثٍ ثقةِ صَحَّت عدالته وتَبَيَّنَ خطؤه"6. ومع ذلك: فقد روى هذا الحديث عنه ثقة، وهو الأسود بن
__________
1
التلخيص الحبير: (3/19) .
2
تهذيب السنن: (5/104) .
3
انظر: إعلام الموقعين: (3/166) .
4
المغني: (2/774) .
5
الكامل: (4/30) .
6
الثقات: (7/670) .

(3/74)


عامر الشامي1، وذلك في إسناد الإمام أحمد.
وأما ما قاله ابن حجر من تدليس الأعمش، فإنَّ كلامه قد تَضَمَّنَ أموراً:
1-
أن الأعمش قد عنعنه، وهو مدلس.
2-
أن عطاء الذي عنعن عنه الأعمش، قد يكون عطاء الخراساني، فيكون قد حصل تدليس تسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر.
3-
وإذا كان كذلك، فإنَّ هذا الإسناد يرجع إلى الإسناد الأول، الذي رواه: أبو عبد الرحمن الخراساني، عن عطاء الخراساني، عن نافع، عن ابن عمر.
وأقول: أما عنعنة الأعمش، فإنها عِلَّةٌ ولا شكَّ في هذا الإسناد، ولكنه ممن احْتُمِلَ تدليسهم: لإمامتهم، وقلة تدليسهم في جنب ما رووه، ولذلك جعله الحافظ ابن حجر في "الطبقة الثانية" من طبقات المدلسين2 الذين هذه صفتهم. ومع ذلك فإنه قد تُوبِعَ على هذه الرواية، كما سيأتي بيانه.
وأما القول بأنَّ عطاءً يحتمل أن يكون ابن أبي مسلم الخراساني: فلا أَدْرِي ما الذي دعا الحافظ ابن حجر إلى إيراد هذا الاحتمال؟ فإنه قد جاء منسوباً في روايتي الطبرانيِّ وأحمد، إذ جاء عندهما: "عطاء بن أبي
__________
1
انظر: التقريب: (ص 111) .
2
طبقات المدلسين: (ص 49) .

(3/75)


رباح". وإذا كان كذلك فإنه لا يلتبس بعطاء الخراساني، فلعلَّ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - لم يقف عليه منسوباًَ، فقال ما قال!
وأما ما ذهب إليه من تدليس التسوية: فإنه بناه على الاحتمال السابق وقد عُرِفَ ما فيه، ومع ذلك فلو سُلِّمَ للحافظ القول به، فإنه لا يكونُ كما قال؛ فإنَّ المعروف في تدليس التسوية أنه يُلجأ إليه لإسقاط ضعيفٍ من الإسناد بين ثقتين، فهل نافع مولى ابن عمر الإمام الثبت ضعيفٌ حتى يسقطه الأعمش من الإسناد؟ هذا لازم قول الحافظ ابن حجر، ولكنه لا يلتزمه ولا يقول بضعف نافع أبداً.
بَقِيَ الكلام في سماع عطاء من ابن عمر رضي الله عنهما - وهو ما تَخَوَّفَ منه ابن القَيِّم رحمه الله -: فقد قال الإمام أحمد وعليُّ بن المديني: إنه رأى ابن عمر ولم يسمع منه1.
وقد ضَعَّفَ الأئمة مرسلات عطاء ولم يحمدوها، فقال علي بن المديني: "مرسلات مجاهد أحبُّ إليَّ من مرسلات عطاء بكثير؛ كان عطاء يأخذ عن كلِّ ضربٍ"2. وقال الإمام أحمد: "ليس في المرسلات أضعفُ من مرسلات الحسن وعطاء؛ فإنَّهما كانا يأخذان عن كلِّ أحدٍ"3.
__________
1
المراسيل - ابن أبي حاتم: (154 - 155) ، وجامع التحصيل: (ص 290) .
2
تهذيب التهذيب: (7/202) .
3
المصدر السابق.

(3/76)


فإذا كان كذلك، فإنَّ هذه عِلَّةُ أخرى في هذا الإسناد تضاف إلى ما سبق، وهي: انقطاعه بين عطاء وابن عمر.
الوجه الثاني1: ما أخرجه أبو يعلى في (مسنده) 2، والطبراني في (الكبير) 3، من طريق: ليث بن أبي سليم، عن عبد الملك بن أبي سليمان4، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - بنحو حديث الأعمش الماضي.
وهذا الإسناد ضعيفٌ؛ لضعف ليث بن أبي سليم. وعبد الملك بن أبي سليمان فيه كلامٌ يسيرٌ لا يضره، وقد ضَعَّفَ البيهقي - رحمه الله - هذا الإسناد. فقال عنه وعن طريق الأعمش السابق: "ورُوي ذلك من وجهين ضعيفين عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر"5.
ولكن، مع ما في هذا الإسناد من ضعفٍ، فإنه إذا ضُمَّ إلى إسناد الأعمش الماضي تَقَوَّى كلٌّ منهما بالآخر، وإذا ضُمَّ الاثنان إلى حديث عطاء الخراساني، عن نافع، عن ابن عمر، فإنهما - كما قال ابن القيم رحمه الله -: "يَشُدُّ أحدهما الآخر"6، مع ما تَقَدَّمَ من تصحيح
__________
1
من وجوه الرواية عن عطاء، عن ابن عمر.
(10/29)
ح 5659.
(12/433)
ح 13585.
4
العَرْزَمِي، صدوقٌ له أوهامٌ، من الخامسة، مات سنة 145هـ/ خت م 4. (التقريب 363) .
5
سنن البيهقي: (5/316) .
6
تهذيب السنن: (5/104) .

(3/77)


بعض الأئمة لبعض طرق حديث عطاء، وتحسين آخرين له، وبذلك يَتَبَيَّنُ: "أن للحديث أصلاً محفوظاً عن ابن عمر"1. فيكون هذا الحديث بمجموع طرقه حسناً، وقد صَحَّحَهُ الشيخ الألباني بمجموع طرقه2، ولعل الأليق به أن يكون حسناً، والله أعلم.
__________
1
تهذيب السنن: (5/104) .
2
السلسلة الصحيحة: (ح11) .

(3/78)


5-
باب في بيع أمهات الأولاد
84- (6)
عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "مَنْ وَطِئَ أَمَتَهُ، فَوَلَدَتْ له، فهي مُعْتَقَةٌ عن دُبُرٍ1 منه".
تناول ابن القَيِّم - رحمه الله - قضية بيع أمهات الأولاد، فكان مما قال: "وقد احْتُجَّ على منع البيع بحجج كلها ضعيفة". ثمَّ ذكر منها حديث ابن عباس هذا، قال: "وفي لفظ: أيما امرأةٍ عَلِقَتْ2 من سَيِّدِهَا، فهي معتقة عن دُبُرٍ منه - أو قال - من بعده".
قال رحمه الله: "وهذا الحديث مداره على حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس، وهو ضعيف الحديث، ضَعَّفَهُ الأئمة"3.
قلت: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه في (سننه) 4، وأحمد، والدارمي في (مسنديهما) 5، والطبراني في (الكبير) 6، والحاكم في
__________
1
أي: بعد موته. يقال: دَبَّرْتَ العبدَ، إذا عَلَّقْتَ عِتْقَهُ بموتك، وهو التدبير: أي أنه يُعْتق بعدما يُدَبِّره سَيِّدُهُ ويموت. (النهاية 2/98) .
2
عَلِقَتِ المرأة بالولد - وكل أنثى - تَعْلَقُ: حَبِلَتْ. (المصباح المنير ص 425) .
3
تهذيب السنن: (5/411) .
(2/841)
ح 2515 ك العتق، باب أمهات الأولاد.
5
حم: (1/303، 317، 320) . مي: (2/172) ح 2577. ك البيوع، باب في بيع أمهات الأولاد.
(11/209)
ح 11519.

(3/79)


(
المستدرك) 1، والبيهقي في (سننه) 2، كلهم من طريق: شريك.
وأخرجه الدارقطني في (سننه) 3 من طريق: أبي أُوَيْس. كلاهما عن:
حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحو اللفظ المتقدم.
وهذا الإسناد ضَعِيفٌ جدَّاً؛ فإنَّ مداره على حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، وقد أجمعوا على ضَعْفِهِ، بل قال النسائي: "متروك"4. وقد ضُعِّفَ هذا الحديث لأجله، فقال البيهقي عقبه: "حسين ضَعَّفَهُ أكثر أصحاب الحديث". وقال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف، حسين بن عبد الله ... تركه ابن المديني ... ، وَضَعَّفَهُ أبو حاتم وأبو زرعة، وقال البخاريُّ: يُقال إنه كان يُتَّهَمُ بالزندقة"5. وقال الحافظ ابن حجر: "في إسناده الحسين بن عبد الله الهاشمي، وهو ضعيف جداً"6.
وخالف الحاكم رحمه الله، فقال: "حديث صحيح الإسناد، ولم
__________
(2/19) .
(10/346) .
(4/132)
ح 24، (4/133) ح 27.
4
تهذيب التهذيب: (2/342) .
5
مصباح الزجاجة: (2/65 - 66) .
6
التلخيص الحبير: (4/217) .

(3/80)


يخرجاه". فَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بقوله: "قلت: حسين متروك"1، وابن الملقن بقوله: "وفيه نظرٌ قويٌّ، سيما رواية الدارقطني"2.
وقد روي حديث ابن عباس هذا على وجهٍ آخر عنه رضي الله عنه أنه قال: ذُكِرَتْ أُمُّ إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أَعْتَقَهَا وَلَدهَا".
وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه في (سننه) 3 من طريق: أبي بكر النَّهْشَلِي، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس به.
وهو ضعيفٌ كالذي قبله؛ لأن "حسين بن عبد الله" في هذا الإسناد أيضاً، وقد تَقَدَّمَ بيان حاله، وقد أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى تضعيفه بذلك، فقال: "وهو أيضاً من رواية حسين"4.
ولكن قد رُوِيَ بهذا اللفظ من غير طريق حسين هذا، وذلك فيما أورده ابن القَطَّان من طريق: قاسم بن أصبغ، عن محمد بن وَضَّاح، عن مصعب بن سعيد، ثنا عبيد الله بن عمرو الرَّقِّي، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: لما ولدت ماريةُ إبراهيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقها ولدها" 5.
__________
1
تلخيص المستدرك: (2/19) .
2
خلاصة البدر المنير: (2/464) ح 2989.
(2/841)
ح 2516.
4
تهذيب السنن: (5/411 - 412) .
5
بيان الوهم والإيهام: (2/85) ح 58.

(3/81)


وهذا الإسناد فيه مصعب بن سعيد، وهو المصيصي، أبو خيثمة، قال فيه صالح جزرة: "شيخ ضريرٌ لا يَدْرِي ما يقول"1. وقال ابن عديّ: "يُحَدِّثُ عن الثقات بالمناكير، ويُصَحِّفُ عليهم"2 وقال ابن القطان: "يُضَعَّفُ"3.
ولكن سُئل عنه أبو حاتم؟ فَقَطَّبَ وجهه، وقال: "عبد الله بن جعفر أحبُّ إليَّ منه، وكان صدوقاً"4. وذكره ابن حبان في (الثقات) 5، وقال: "ربما أخطأ، يُعْتَبَرُ حديثه إذا روى عن الثقات، وَبَيَّنَ السماع في خبره؛ لأنه كان مدلساً". وقال الذهبي: "صدوق"6. وذكره ابن حجر في الطبقة الثالثة من طبقات المدلسين7.
وعل ما قاله ابن حبان رحمه الله: فإنَّ هذا الإسناد لا بأس به؛ لأنَّ شيخ مصعب في هذا الإسناد ثقةٌ، وقد صَرَّحَ مصعبٌ بالتحديث، فانتفت شبهة تدليسه.
وقد صَحَّحَ رواية قاسم بن أصبغ هذه جماعة من الأئمة، فنقل
__________
1
لسان الميزان: (6/44) .
2
الكامل: (6/364) .
3
بيان الوهم والإيهام: (2/86) .
4
الجرح والتعديل: (4/1/309) .
(9/175) .
6
المغني: (2/660) .
7
طبقات المدلسين: (ص 111) .

(3/82)


الزيلعي عن ابن القطان أنه قال: "إسناد جيد"1. - ولم أقف عليه في كتاب ابن القطان2 عند كلامه على هذا الحديث -، وقال ابن الملقن: "رواه ... ابن حزم بإسناد صحيح، وصححه"3. وقال الحافظ ابن حجر: "له طريق عند قاسم بن أصبغ إسنادها جيد"4.
فتلخص من ذلك: أن الحديث ضعيف بالإسناد الذي أورده ابن القَيِّم رحمه الله - وهو ما حكم به عليه -، لكن الحديث وردَ من طريق أخرى صَحَّحَ جمعٌ من الأئمة إسنادها، مما يفيد أن لهذا الحديث أصلاً، والله أعلم.
__________
1
نصب الراية: (3/287) .
2
انظر: (بيان الوهم والإيهام 2/85) .
3
خلاصة البدر المنير: (2/464) ح 2991.
4
الدراية: (2/87) ح 621.

(3/83)










من كتاااااااب الاطعمة














































( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )


ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها







12-
من كتاب الأطعمة والصيد والذبائح
1-
باب في الطافي من صيد البحر
85- (1)
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أو جَزَرَ1 عنه فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فيه وَطَفَا فلا تَأْكُلُوهُ".
ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - تضعيف عبد الحق لرفع هذا الحديث، وأن الصواب وَقْفُهُ على جابر رضي الله عنه، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أُسْنِدَ من وجه ضعيفٍ: عن يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن جابر. ومن حديث: عبد العزيز بن عبد الله بن حمزة بن صهيب، وهو ضعيفٌ.
ثم نَقَلَ ابن القَيِّم اعتراض ابن القطَّان على عبد الحق، إذ قال: "فإنْ كان عبد الحق ضَعَّفَ المرفوع لكونه من رواية أبي الزبير: فقد تناقض، لتصحيحه الموقوف، وهو عنه. وإن عَنَى به ضعف يحيى بن سليم: تناقض أيضاً، فكم من حديث صححه من روايته، ولم يخالف يحيى بن سليم في رفعه عن إسماعيل بن أمية إلاّ من هو دونه، وهو إسماعيل بن عَيَّاش، وأما إسماعيل بن أميَّة: فلا يُسْأَلُ عن مثله".
ثم تَعَقَّبَ ابن القَيِّم ابن القطان، فقال: "وهذا تَعَنُّتٌ من ابن القطان، والحديثُ إنما ضُعِّفَ لأن الناس رووه موقوفاً على جابر، وانفرد برفعه يحيى بن سليم، وهو مع سوء حفظه قد خَالَفَ الثقات، وانفرد عنهم، ومثل هذا لا يحتجُّ به أهل الحديث، فهذا هو الذي أراده
__________
1
أي: ما انكشف عنه الماءُ من حيوان البحر، يُقال: جَزَرَ الماءُ، يجزر جَزْرًا: إذا ذهب ونقص. ومنه الجزر والمدُّ، وهو رجوع الماءِ إلى خلفٍ. (النهاية 1/268) .

(3/87)


أبو داود وغيره من تضعيف الحديث"1.
ثم أَخَذَ في توجيه صنيع عبد الحق في كَوْنِهِ صَحَّحَ حديث يحيى بن سليم في غير هذا الموضع وَضَعَّفَهُ هنا، فَبَيَّنَ أن هذه هي "طريقةُ أئمةِ الحديث العارفين بعلله: يُصَحِّحُونَ حديثَ الرَّجُلِ في موضع، ويضعفون حديثه في موضع آخر إذا انفرد أو خالف الثقات ... "2.
قلت: هذا الحديث مداره على: أبي الزبير، ووهب بن كيسان3، كلاهما عن جابر رضي الله عنه.
أما حديث أبي الزبير: فقد رُوِيَ عنه من عِدَّة طرق:
الطريق الأول: أخرجه أبو داود، وابن ماجه في (سننيهما) 4، والطبراني في (الأوسط) 5، ثلاثتهم من طريق:
أحمد بن عبدة، عن يحيى بن سليم6، عن إسماعيل بن أمية7، عن
__________
1
تهذيب السنن: (5/324 - 325) .
2
المصدر السابق: (5/ 325 - 326) .
3
القُرشي مولاهم، أبو نعيم، المدني الْمُعَلِّم، ثقةٌ، من كبار الرابعة، مات سنة 127هـ/ع. (التقريب 585) .
4
د: (4/165) ح 3815 ك الأطعمة، باب في أكل الطافي من السمك. جه: (2/1081) ح 3247 ك الصيد، باب الطافي من صيد البحر.
(3/410)
ح 2880.
6
الطائفي، نزيل مكة، صدوقٌ سيء الحفظ، من التاسعة، مات سنة 193هـ أو بعدها/ ع. (التقريب 591) .
7
ابن عمرو بن سعيد بن العاص، الأموي، ثقةٌ ثبتٌ، من السادسة، مات سنة 144هـ / ع. (التقريب 106) .

(3/88)


أبي الزبير، عن جابر به، ولفظه هو المذكور أول البحث.
ومن طريق أبي داود أخرجه: الدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 1، وابن عبد البر في (التمهيد) 2.
الطريق الثاني: أخرجه الدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 3 من طريق: أبي أحمد الزبيري4، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير به.
الطريق الثالث: أخرجه الترمذي في (علله) 5 من طريق: الحسين ابن يزيد6، عن حفص بن غياث، عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير به، ولفظه: "ما اصطدتموه وهو حيٌّ فكلوه، وما وجدتموه ميتاً طافياً فلا تأكلوه".
الطريق الرابع: من رواية يحيى بن أبي أنيسة7، عن أبي الزبير به، أشار إليه البيهقي في (سننه) 8.
__________
1
قط: (4/268) ح 8. هق: (9/255) .
(16/225) .
3
قط: (4/268) ح 7. هق: (9/255) .
4
هو: محمد بن عبد الله بن الزبير.
(2/636) .
6
ابن يحيى الطَحَّان الأنصاري، الكوفي، لَيِّنُ الحديثِ، من العاشرة، مات سنة 244هـ / د ت. (التقريب 169) .
7
أبو زيد الجزري، ضعيفٌ، من السادسة، مات سنة 146هـ/ ت. (التقريب 588) .
(9/256) .

(3/89)


الطريق الخامس: من رواية الأوزاعي عن أبي الزبير به، أشار إليه البيهقي - أيضاً - في (سننه) 1.
فهذه طرقُ حديث أبي الزبير، عن جابر، ولا يخلو واحدٍ منها من عِلَّةٍ، وقد بين الأئمة ما فيها:
أما رواية يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية: فقال أبو داود عقب إخراجها: "روى هذا الحديث: سفيان الثوري، وأيوب، وحماد، عن أبي الزبير، أوقفوه على جابر". وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن إسماعيل إلا يحيى". وقال الدارقطني: "لا يصحُّ رفعه، رَفَعَهُ يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن أمية، وَوَقَفَهُ غيره"2. وقال البيهقي: "يحيى بن سليم كثير الوهم، سيئ الحفظ، وقد رواه غيره عن إسماعيل بن أمية موقوفاً"3.
والرواية التي أشار إليها البيهقي رحمه الله، أَخْرَجَهَا الدارقطني في (سننه) 4 من طريق: إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه موقوفاً من قوله، قال الدارقطني: " ... موقوف، هو الصحيح".
فقد خالف إسماعيل بن عياش يحيى بن سليم، فجاء به عن
__________
(9/256) .
2
سنن الدارقطني: (4/268) .
3
السنن: (9/256) .
(4/269)
ح 9.

(3/90)


إسماعيل بن أمية موقوفاً، ورواية ابن عياش هذه عن غير الشاميين، فهي ضعيفةٌ عند العلماء، وقد قال ابن القطان - في رَدِّهِ على عبد الحق -: "ولم يخالف يحيى بن سليم في رفعه عن إسماعيل بن أمية إلا من هو دونه، وهو إسماعيل بن عياش"1. وَأَعَلَّه كذلك صاحب (الجوهر النقي) 2 بأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن غير الشاميين.
قلت: فلذلك لا تُعَلُّ رواية يحيى بن سليم بمخالفة إسماعيل بن عياش له عن إسماعيل بن أمية، ولكن تعلُّ رواية إسماعيل بن أمية بمخالفة الأئمة الجهابذة له: الثوري، وأيوب السختياني، وحماد بن سلمة، وعبيد الله بن عمر وغيرهم؛ إذ جاءوا به عن أبي الزبير، عن جابر موقوفاً، وهذا الذي سَلَكَه أبو داود - رحمه الله - في إعلال رواية يحيى بن سليم الطائفي.
وحينئذٍ يمكن لنا أن نقول: إن رواية هؤلاء الأثبات لهذا الحديث عن أبي الزبير موقوفاً، تُقَوِّي رواية ابن عياش له عن إسماعيل بن أمية موقوفاً، لموافقتها رواية هؤلاء الحفاظ، وعند ذلك ينسب الوهم ليحيى ابن سليم في رفعه عن إسماعيل بن أمية؛ فإنه كان سيئ الحفظ، كما قال غيرُ واحدٍ من أهل العلم3.
وأما رواية أبي أحمد الزبيري، عن الثوري، عن أبي الزبير: فقد
__________
1
بيان الوهم والإيهام: (3/577) ح 1366.
(9/256) .
3
انظر: تهذيب التهذيب: (11/226 - 227) .

(3/91)


ضَعَّفَهَا العلماءُ أيضاً، فقال الدارقطني: "لم يُسْنِده عن الثوري غير أبي أحمد، وخالفه وكيعٌ، والعَدَنِيَّان1، وعبد الرزاق، ومؤمل، وأبو عاصم وغيرهم: عن الثوري رووه موقوفاً، وهو الصواب"2. ونقل البيهقي عن سليمان بن أحمد اللَّخْمي- شيخ شيخ البيهقيِّ في هذا الحديث - قوله: "لم يرفع هذا الحديث عن سفيان إلا أبو أحمد"3.
وقد كان أبو أحمد الزبيري هذا يخطئ في حديث الثوري4، وقد خالف - مع ذلك - الأثبات من أصحاب الثوري - وعلى رأسهم وكيع - لذا وجب تقديم رواية الجماعة، والحكم على روايته بالخطأ، وهذا ما سَلَكَهُ الدارقطني رحمه الله.
وأما روايةُ ابن أبي ذئب عن أبي الزبير: فقد ضَعَّفَهُا الإمام البخاري، فقال: "ليس هو بمحفوظ، ويروي عن جابر خلاف هذا، ولا أعرفُ لابن أبي ذئب عن أبي الزبير شيئاً"5.
قلت: وفي الإسناد "الحسين بن يزيد الطحان" لَيَّنَهُ أبو حاتم6، وتبعه الحافظ ابن حجر7.
__________
1
هما: عبد الله بن الوليد العدني، ويزيد بن أبي حكيم العدني. (تهذيب الكمال11/163– 164) .
2
سنن الدارقطني: (4/268) .
3
سنن البيهقي: (9/255) .
4
تهذيب التهذيب: (9/255) .
5
علل الترمذي: (2/636) .
6
الجرح والتعديل: (1/2/67) .
7
التقريب: (ص 169) .

(3/92)


وأما رواية ابن أبي أنيسة، عن أبي الزبير: فقد ضَعَّفَها البيهقي قائلاً: "ويحيى ابن أبي أنيسة متروكٌ لا يحتجُّ به"1.
وضعف أيضاً رواية الأوزاعي، فقال: "رواه بقية بن الوليد، عن الأوزاعي، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً، ولا يحتجُّ بما ينفرد به بقية، فكيف بما يخالف فيه"2.
فهذا مجملُ القولِ في طرق هذا الحديث عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً، وقد تَبَيَّنَ عدمُ انتهاض أيٍّ منها للحجة، وبخاصة إذا عورضت برواية الثقات الأثبات - الذين تقدم ذكرهم - له عن جابر موقوفاً.
وأما الطريق الثاني: من طرق هذا الحديث عن جابر رضي الله عنه، وهي رواية وهب بن كيسان: فقد أخرجها الدارقطني في (سننه) 3، والطحاويُّ في (أحكام القرآن) 4، وابن عدي في (الكامل) 5، من طريق: إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عبيد الله بن حمزة6، عن وهب، عن جابر مرفوعاً. وهو عند ابن عديّ: عن وهب، ونعيم بن عبد الله.
__________
1
السنن: (9/256) .
2
المصدر السابق.
(4/267)
ح 6.
4
كما في نصب الراية: (4/203) .
(5/1923) .
6
ابن صهيب بن سنان الحمصي، ضعيفٌ، ولم يرو عنه غير إسماعيل بن عياش، من السابعة/ ق. (التقريب 358) .

(3/93)


وقد ضُعِّفَ هذا الطريق أيضاً، قال ابن أبي حاتم: "سألت أبا زرعة عن حديث رواه إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عبيد الله، عن وهب بن كيسان ونعيم بن عبد الله ... ؟ قال أبو زرعة: هذا خطأٌ، إنما هو موقوفٌ عن جابر فقط، وعبد العزيز بن عبيد الله: واهي الحديث"1. وقال ابن عدي: "هذا إنما يرفعه عبد العزيز بن عبيد الله، عن وهب بن كيسان ونعيم بن عبد الله"2. ثم قال - بعد أن سرد له أحاديث -: "وهذه الأحاديث التي ذكرتها لعبد العزيز: مناكير كلها، وما رأيت أحداً يحدث عنه غير إسماعيل بن عياش"3. وقال الدارقطني: "تفرد به عبد العزيز بن عبيد الله، عن وهب، وعبد العزيز ضعيفٌ، لا يحتجُّ به"4. وضعفه كذلك البيهقي5 بعبد العزيز هذا، وكذا ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 6.
فهذا كلام الأئمة رحمهم الله: أبو داود، والبخاريُّ، وأبو زرعة، وابن عدي، والدارقطني، والبيهقي في تضعيف هذا الحديث مرفوعاً، وتصحيح رواية الوقف، مع ما تقدم من كلام عبد الحق رحمه الله، وكأن البغوي مال إليه ترجيح الوقف أيضاً، فقال: "ورواه سفيان
__________
1
علل ابن أبي حاتم: (2/46) ح 1620. وانظر: (2/49) ح 1630.
2
الكامل: (5/1923) .
3
الكامل: (5/1924) .
4
سنن الدارقطني: (4/268) .
5
السنن: (9/256) .
(2/175- 176)
ح1105.

(3/94)


الثوري، وأيوب، وحماد: عن أبي الزبير، وأوقفوه على جابر"1. وضعفه مرفوعاً أيضاً: الشيخ الألباني2 رحمه الله.
قال البيهقي رحمه الله - بعد أن رَجَّحَ وقفه -: "وقول الجماعة من الصحابة على خلاف قول جابر، مع ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" 3. وقال الحافظ ابن حجر: "وإذا لم يصحّ إلا موقوفاً، فقد عارضه قول أبي بكر وغيره، والقياس يقتضي حله؛ لأنه سمك، لو مات في البر لأكل بغير تذكية، ولو نضب عنه الماء، أو قتلته سمكة أخرى فمات لأكل، فكذلك إذا مات وهو في البحر"4.
فتحصَّلَ من ذلك: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد أصاب في إعلاله الرواية المرفوعة، وتقديم الموقوفة عليها، وأن ابن القطان لم يُصب حين ذهب إلى تقوية المرفوع، وبالله التوفيق.
__________
1
شرح السنة: (11/245) .
2
ضعيف ابن ماجه: (ح 699) ، وضعيف الجامع: (ح 5021) .
3
السنن: (9/256) . وانظر: التمهيد: (16/226 - 228) .
4
فتح الباري: (9/619) .

(3/95)


2-
باب الفأرة تقع في السمن فتموت فيه
86- (2)
عن ميمونة رضي الله عنها: "أن فأرةً وقعت في سَمْنٍ فماتت، فَسُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "أَلْقُوهَا وَمَا حَولَهَا، وَكُلُوهُ".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "اخْتُلِفَ فيه إسناداً ومتناً، والحديث من حديث: الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنه سمع ابن عباس يُحَدِّثُ عن ميمونة، ولفظه: "أن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها؟ فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوه". رواه الناسُ عن الزهري بهذا المتن والإسناد، ومتنه خرجه البخاريُّ في (صحيحه) ، والترمذي، والنسائي. وأصحاب الزهري كالمجمعين على ذلك.
وخالفهم معمرٌ في إسناده ومتنه، فرواه عن: الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال فيه: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه".
ولما كان ظاهر هذا الإسناد في غاية الصحة، صَحَّحَ الحديث جماعةٌ، وقالوا: هو على شرط الشيخين، وحكي عن محمد بن يحيى الذُّهَلِي تصحيحه. ولكن أئمة الحديث طعنوا فيه، ولم يروه صحيحاً، بل رأوه خطأ محضاً"1. ثم نقل كلام الأئمة: البخاري، والترمذي في إعلاله، وردَّ على ابن حبان في تصحيحه إياه.
__________
1
تهذيب السنن: (5/ 336 - 340) .

(3/96)


وقال مرة: "ولم يصح فيه التفصيل بين الجامد والمائع"1.
قلت: هذا الحديث مداره على الزهري، ويُروى عنه على أوجه مختلفة:
الوجه الأول: عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود2، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه عن الزهري هكذا: مالكٌ، وابن عيينة، والأوزاعي، وعبد الرحمن بن إسحاق، ومعمر في رواية، وغيرهم.
أما مالك، فقد اختلف عنه:
فرُوي عنه: عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة مرفوعاً.
وروي عنه: عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون ذكر "ميمونة".
وروي عنه: عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مقطوعاً، أسقطوا منه ابن عباس، وميمونة.
ورواه يحيى القطان، وجويرية: عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن ابن عباس: أن ميمونة استفتت النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه أوجه الاختلاف على مالك في رواية هذا الحديث، ذكرها
__________
1
إعلام الموقعين: (4/279) .
2
الهُذَلي، أبو عبد الله المدني، ثقةٌ فقيهٌ ثبتٌ، من الثالثة، مات سنة 94هـ، وقيل غير ذلك/ ع. (التقريب 372) .

(3/97)


الدارقطني في (علله) 1، ثم قال: "والصحيحُ: عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة".
وقال ابن عبد البر: "وهذا اضطرب شديد عن مالك في إسناد هذا الحديث.... والصواب فيه: ما قاله يحيى ومن تابعه"2.
وأما رواية ابن عيينة، عن الزهري: فأخرجها الحميدي في (مسنده) 3 - ومن طريقه: البخاريّ في (صحيحه) 4، والطبراني في (الكبير) 5 - قال: ثنا سفيان، ثنا الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنها به.
وأخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه) 6 - ومن طريقه الطبراني في (الكبير) 7 - قال: حدثنا سفيان به، بنحو ما تقدم. وسقط من الطبراني لفظة "فماتت"، وهي في المصنف.
وأخرجه أحمد في (المسند) 8: حدثني سفيان به.
__________
1
ج5 (ق 180/ب) .
2
التمهيد: (9/34) .
(1/149 - 150)
ح 312.
4
ك الذبائح والصيد: ح 5538.
(23/429)
ح 1043.
(8/280)
ح 4444.
(24/15)
ح 25.
(6/329) .

(3/98)


وأخرجه أبو داود في (سننه) 1: حدثنا مسدد، والترمذي في (جامعه) 2: حدثنا سعيد المخزومي وأبو عمار، والنسائي في (سننه) 3: أخبرنا قتيبة، كلهم عن: سفيان، عن الزهري به، بنحو ما تقدم، غير أن أبا داود سقطت من عنده لفظة: "فماتت".
وأخرجه الطيالسي في (مسنده) 4: حدثنا سفيان ... فذكره، لكنه قال فيه: "أن فأرة وقعت في سمن جامد لآل ميمونة". فزاد فيه كلمة "جامد"، لكن قال الحافظ ابن حجر: "ورواه الحميدي والحفاظ أصحاب ابن عيينة بدونها"5. وسيأتي أن حجاج بن منهال تابع الطيالسي على هذه اللفظة عن سفيان.
وأخرجه ابن حبان في (صحيحه) 6 من طريق إسحاق بن راهويه، قال: أخبرنا سفيان ... عن ميمونة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تموت في السمن؟ فقال: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها وكلوه، وإن كان ذائباً فلا تقربوه".
قال ابن حجر عن رواية إسحاق، عن سفيان هذه: "تفرد بالتفصيل عن سفيان دون حفاظ أصحابه، مثل أحمد والحميدي ومسدد
__________
(4/180)
ح 3841 ك الأطعمة، باب الفأرة تقع في السمن.
(4/256)
ح 1798 ك الأطعمة، باب الفأرة تموت في السمن.
(7/178) .
(
ح 2716) .
5
فتح الباري: (1/344) .
6
الإحسان: (2/335) ح 1389.

(3/99)


وغيرهم"1. وقال مرة: "هذه الزيادة في رواية ابن عيينة غريبة"2. هذا ما يتعلق برواية ابن عيينة.
وأما رواية الأوزاعي، عن الزهري: فأخرجها الإمام أحمد في (مسنده) 3 عن محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي، عن الزهري ... بالإسناد السابق إلى ميمونة: أنها استفتتْ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في فأرة سقطت في سمن لهم جامد ... الحديث.
فهؤلاء أشهر الرواة عن الزهري: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنها به.
وخالف هؤلاء جميعاً - من بين أصحاب الزهري -: معمرُ بن راشد، فقال فيه: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، وهو:
الوجه الثاني عن الزهري:
أخرجه من هذا الطريق: عبد الرزاق في (مصنفه) 4 عنه، ولفظه: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع في السمن، قال: "إذا كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه".
__________
1
فتح الباري: (9/669) .
2
المصدر السابق: (9/668) .
(6/330) .
(1/84)
ح 278.

(3/100)


ومن طريق عبد الرزاق أخرجه: أبو داود في (سننه) 1، وابن حبان في (صحيحه) 2 والبيهقي في (سننه) 3.
وأخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه) 4: حدثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري بإسناد عبد الرزاق، لكن بدون تفصيل، ففيه: أنه سئل عن فأرة ماتت في السمن؟ فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوه". فيكون هذا اختلافاً على معمر في متن هذا الحديث5، وستأتي الإشارة إلى أنه اختلف عليه في إسناده أيضاً.
وأهل العلم إزاء هذا الاختلاف في هذا الحديث فريقان:
فطائفة منهم رجحوا رواية الجماعة من أصحاب الزهري: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن ميمونة. وحكموا على رواية معمر بالوهم والغلط، قال الترمذي: "حديث غير محفوظ"6. وسأل عنه البخاريَّ، فقال: "حديث معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة: وَهِمَ فيه معمر، ليس له أصل"7. وقال
__________
(4/181)
ح 3842.
2
الإحسان: (2/335) ح 1390، 1391.
(9/353) .
(8/280)
ح 4445.
5
وقد نَبَّهَ على هذا الاختلاف الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : (6/669) .
6
جامع الترمذي: (4/257) .
7
علل الترمذي: (2/758 - 759) .

(3/101)


أبو حاتم: "وهمٌ، والصحيح: الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم"1. وذهب إلى هذا: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال باضطراب معمر وخطئه في هذا الحديث2. وذكر الحافظُ ابن حجر أن أبا زرعة الرازي، والدارقطني قالا بذلك أيضاً، ولم أجد قول واحد منهما، إلا أن الدارقطني قد صحح هذا الطريق بالنسبة للخلاف الحاصل فيه عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتيبة، لكنه لم يتعرض - فيما وقفت عليه من نسخة (العلل) - لرواية الزهري، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة3.
وطائفةٌ أخرى ذهبت إلى أن الطريقين محفوظان عن معمر، منهم: محمد بن يحيى الذهلي، فقال: "والطريقان عندنا محفوظان إن شاء الله، لكن المشهور: حديث ابن شهاب، عن عبيد الله"4. وصححه أيضاً: الإمام أحمد5، وابن حبان رحمهما الله، فإنه ترجم له بقوله: "ذكر الخبر الدال على أن الطريقين اللذين ذكرناهما لهذه السنة جميعاً محفوظان". ثم أخرج تحت هذه الترجمة رواية معمر للطريقين كليهما6. واختار
__________
1
علل ابن أبي حاتم: (2/12) ح 1507.
2
انظر: مجموع الفتاوى: (21/490، 516، 526) .
3
انظر: علل الدارقطني: ج 5 (ق 180/ب - 181/أ) .
4
التمهيد: (9/35) ، وانظر: فتح الباري: (1/344) وفيه قوله: "لكن طريق ... ميمونة أشهر".
5
مسائل الإمام أحمد - رواية عبد الله: (1/17) رقم 20.
6
الإحسان: (2/335) ح 1391.

(3/102)


تصحيح الطريقين أيضاً: ابن رجب الحنبلي1 رحمه الله.
وقد اختار ابن القَيِّم توهيمَ معمر، وتصويب رواية غيره عن الزهري، وقد مضى كلامه أول هذا البحث، وسيأتي مزيد كلام له في هذا.
واستدلَّ الفريق الأول على ترجيح رواية من رواه: عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة بأدلة، منها:
الأول: ما جاء في رواية الحميدي لهذا الحديث، عن سفيان - ومن طريقه البخاريُّ والطبراني - من أنه قيل لسفيان: فإن معمراً يحدِّثه2: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة؟ قال: ما سمعت الزهري يقول إلا: عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد سمعته منه مراراً. فهذا سفيان بن عيينة - رحمه الله - يجزم بأنه لم يسمعه من الزهري إلا من حديث ميمونة.
الثاني: ما أخرجه البخاري في (صحيحه) 3: حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن يونس، عن الزهري: عن الدابة4 تموت في الزيت والسمن، وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها؟ قال: "بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قرب منها فطرح، ثم أكل" عن حديث عبيد الله بن عبد الله.
__________
1
شرح علل الترمذي: (ص 485 - 486) .
2
أي: يحدِّث به.
3
ك الصيد والذبائح، ح 5539.
4
أي: في حكم الدابة.

(3/103)


قال ابن القَيِّم رحمه الله: "واحتجاجه - أي الزهري - بالحديث من غير تفصيل: دليلٌ على أن المحفوظ من رواية الزهري إنما هو الحديث المطلق الذي لا تفصيل فيه، وأنه مذهبه، فهو رأيه وروايته، ولو كان عنده حديث التفصيل بين الجامد والمائع لأفتى به واحتجَّ به، فحيثُ أفتى بحديث الإطلاق، واحتجَّ به: دلَّ على أن معمراً غلط عليه في الحديث إسناداً ومتناً"1. وقال الحافظ ابن حجر: "وهذا يقدح في صحة من زاد في هذا الحديث عن الزهري التفرقة بين الجامد والذائب ... لأنه لو كان عنده مرفوعاً، ما سوَّى في فتواه بين الجامد وغير الجامد"2.
الثالث: من أدلة هذا الفريق: أن معمراً قد اضطرب في هذا الحديث في الإسناد والمتن، فقد قال عبد الرزاق: "وقد كان معمر- أيضاً- يذكره عن الزهري، عن عبيد الله ... عن ابن عباس، عن ميمونة. وكذلك أخبرناه ابن عيينة"3. فهذا اضطراب سنده.
وأما اضطراب متنه: فقال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... قد اضطرب حديث معمر، فقال عبد الرزاق عنه: فلا تقربوه. وقال عبد الواحد بن زياد عنه: وإن كان ذائباً أو مائعاً لم يؤكل. وقال البيهقي: وعبد الواحد بن زياد أحفظ منه. يعني: من عبد الرزاق. وفي بعض طرقه: فاستصبحوا به. وكل هذا غير محفوظ في حديث الزهري"4.
__________
1
تهذيب السنن: (5/337) .
2
فتح الباري: (9/669) .
3
المصنف: (1/84) ح 279.
4
تهذيب السنن: (5/337) .

(3/104)


ثم ساق ابن القَيِّم - رحمه الله - حديثاً آخر في معنى حديث أبي هريرة الْمُفَصَّل فقال: "وأما الحديث الذي رواه ابن وهب، عن عبد الجبار بن عمر، عن ابن شهاب، عن سالم، عن:
87- (3)
ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن فَأْرَةٍ وَقَعَتْ في سَمْنٍ؟ فقال: "أَلْقُوها وما حَولَهَا، وكُلُوا ما بَقِيَ" فقيل: يَا نبيَّ الله، أَرَأَيْتَ إن كان السَّمْنُ مَائِعَاً؟ قال: "انْتَفِعُوا به، ولا تَأْكُلُوهُ".
قال ابن القَيِّم: "فعبد الجبار بن عمر: ضعيفٌ، لا يحتجُّ به. وَرُوِيَ من وجهٍ آخرَ ضعيف: عن ابن جريج، عن ابن شهاب. قال البيهقي: والصحيح عن ابن عمر من قوله في فأرة وقعت في زيت، قال: "استصبحوا به، وادهنوا به أدمكم""1.
قلت: هذا هو:
الوجه الثالث: من أوجه رواية هذا الحديث عن الزهري: وقد أخرجه: ابن وهب في (موطئه) كما ذكر ذلك ابن عبد البر في (التمهيد) 2، ومن طريقه: أخرجه البيهقي في (سننه) 3، من طريق: عبد الجبار بن عمر4 به.
__________
1
تهذيب السنن: (5/340) .
(9/36) .
(9/354) .
4
الأيلي، الأموي مولاهم ضعيفٌ، من السابعة، مات بعد الستين/ ت ق. (التقريب332) .

(3/105)


وقد ضَعَّفَهُ جماعة من العلماء: قال أبو حاتم: " ... وَهْمٌ، والصحيح: الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة"1. وقال محمد بن يحيى الذهلي: "وهذا الإسناد عندنا غير محفوظ، وهو خطأ، ولا يُعرف هذا الحديث من حديث سالم، وعبد الجبار ضعيفٌ جداً"2. وقال الدارقطني: "ورواه عبد الجبار بن عمر، عن الزهري ... ووهم فيه"3. وقال البيهقي: "عبد الجبار بن عمر غير محتج به"4.
وأما الطريق الآخر الذي أشار إليه ابن القَيِّم: فأخرجه الدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 5، من طريق: يحيى بن أيوب، عن ابن جريج، عن ابن شهاب ... بمثل إسناد عبد الجبار المتقدم.
قال البيهقي: "والطريق إليه - يعني إلى ابن جريج - غيرُ قويٍّ، والصحيح عن ابن عمر: من قوله، موقوفاً عليه غير مرفوع". واختار الحافظ ابن حجر تصحيح الوقف6.
فتلخص من ذلك: أن الصحيح في هذا الحديث: عن الزهري،
__________
1
علل ابن أبي حاتم: (2/12) ح 1507.
2
التمهيد: (9/36) .
3
العلل: ج 5 (ق180/ب) .
4
السنن: (9/354) .
5
قط: (4/291) ح 80. هق: (9/354) .
6
فتح الباري: (9/669) .

(3/106)


عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنهم. بدون ذكر التفصيل بين الجامد والمائع. وهو الذي اختاره ابن القَيِّم رحمه الله.
ومع ذلك، فإن الجمهور على العمل برواية التفصيل والأخذ بمقتضاها1؛ قال ابن عبد البر رحمه الله: "في هذا الحديث معانٍ من الفقه، منها ما اجْتُمِعَ عليه، ومنها ما اخْتُلِفَ فيه، فأما ما اجتمع عليه العلماء من ذلك: أن الفأرة، ومثلها من الحيوان كله يموت في سمنٍ جامدٍ، أو ما كان مثله من الجامدات، أنها تُطْرَحُ وما حولها من ذلك الجامد، ويؤكل سائره إذا استيقن أنه لم تصل الميتة إليه، وكذا أجمعوا: أن السَّمْنَ - وما كان مثله - إذا كان مائعاً ذائباً، فماتتْ فيه فأرةٌ - أو وقعت وهي ميتة - أنه قد نجس كله، وسواء وقعت فيه ميتة، أو حية فماتت، يتنجس بذلك، قليلاً كان أو كثيراً. هذا قول جمهور الفقهاء، وجماعة العلماء"2. والله أعلم.
__________
1
انظر: فتح الباري: (1/344) .
2
التمهيد: (9/40) .

(3/107)


3-
باب في الأكل مع المجذوم
88- (4)
عن جابر رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ، فَأَدْخَلَهَا مَعه في القَصْعَةِ".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: " ... حديثٌ لا يثبتُ ولا يصحُّ، وغايةُ ما قال فيه الترمذيُّ: إنه غريب، لم يصححه ولم يحسنه، وقد قال شعبة: اتَّقُوا هذه الغرائب. قال الترمذيُّ: ويُروى هذا من فِعْلِ عمر، وهو أثبتُ"1.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه في (سننهم) 2، وابن حبان في (صحيحه) 3، والحاكم في (المستدرك) 4، والعقيلي في (الضعفاء) 5، وابن عدي في (الكامل) 6، والبيهقي في (شعب الإيمان) 7، كلهم من طريق:
__________
1
زاد المعاد: (4/153) .
2
د: (4/239) ح 3925 ك الطب، باب في الطيرة. ت: (4/266) ح 1817 ك الأطعمة، باب ما جاء في الأكل مع المجذوم. جه: (2/1172) ح 3542، ك الطب، باب الجذام.
3
الإحسان: (7/641) ح 6087.
(4/136 - 137) .
(4/242) .
(6/2404) .
(3/513)
ح 1294.

(3/108)


الْمُفَضَّل بن فضالة، عن حبيب بن الشَّهيد1، عن محمد بن المنكدر، عن جابر: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ2 فَوَضَعَهَا مَعَه في القَصْعَةِ، وقال: كُلْ ثقةً بالله، وتَوَكُّلاً عليه". هذا لفظ أبي داود، وابن ماجه. وعند الترمذي، وابن حبان، والحاكم، والعقيلي، والبيهقي: "كُلْ بسم الله، ثقة بالله ... ".
قال أبو عيسى الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث يونس بن محمد3، عن المفضل بن فضالة، والمفضل بن فضالة هذا شيخٌ بصريٌّ. والمفضل بن فضالة شيخ آخر مصري أوثقُ من هذا وأشهر. وقد روى شعبة هذا الحديث عن حبيب بن الشهيد عن ابن بريدة: أن عمر4 أخذ بيد مجذوم. وحديث شعبة أثبت عندي وأصحّ".
وهذا الكلام بحروفه - مع تقديم وتأخير - هو كلام الإمام البخاريِّ رحمه الله؛ فإنَّ الترمذي أخرجَ هذا الحديث في (علله) 5 وقال: "سألتُ محمداً عن هذا الحديث ... " فذكره.
__________
1
الأزدي، أبو محمد البصري، ثقةٌ ثبت، من الخامسة، مات سنة 145هـ / ع. (التقريب151) .
2
يقال: رجلٌ أَجْذَمٌ وَمَجْذُومٌ وَمُجَذَّمٌ إذا تَهَافَتَتْ أَطْرَافُهُ من داءِ الجُذَامِ. (لسان العرب: ص 578، مادة: جذم) .
3
ابن مسلم البغدادي، أبو محمد المؤدب، ثقة ٌثبتٌ، من صغار التاسعة، مات سنة 207هـ / ع. (التقريب 614) .
4
في بعض نسخ الترمذي: "ابن عمر". والمثبت هو الصواب؛ فإنه هكذا في رواية الترمذي في (العلل) ، وكذا في (تحفة الأشراف) : (2/358) ، وهو الذي نقله ابن القَيِّم عن الترمذي.
(2/770)
ك الأطعمة، باب ما جاء في الأكل مع المجذوم.

(3/109)


وقال ابن عدي: "هذا لا أعلم يرويه غير حبيب، ولمفضل بن فضالة عن هشام، عن عروة نسخة ... غير أني لم أر في حديثه أنكر من هذا الحديث، والذي أمليته - يعني حديث الأكل مع المجذوم - وباقي حديثه مستقيم".
وأخرجه ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 1 بإسناده إلى الحاكم، ثم قال: "قال الدارقطني: تفرد بن المفضل، قال يحيى: ليس المفضل بذاك".
قلت: وقد تُوبع المفضل بن فضالة على روايته هذه، فأخرجه ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 2 من حديث: عبيد الله بن تمام، عن إسماعيل المكي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر به، ولفظه: "كُلْ بسم الله، إيماناً بالله، وتوكلاً عليه".
ولكن هذا الإسناد ضعيفٌ جداً؛ فإن عبيد الله بن تمام، أبا عاصم الواسطي: ضعفه الدارقطني، وأبو حاتم، وأبو زرعة3. وإسماعيل المكي: هو ابن مسلم، قال ابن الجوزي عقب إخراجه: "قال أحمد: إسماعيل المكي منكر الحديث. قال يحيى: لم يزل مختلطاً، وليس بشيء ... وقال النسائي: متروك الحديث"4. فلا تفيد هذه المتابعة الحديث شيئاً.
وأما رواية شعبة، عن حبيب بن الشهيد، عن ابن بريدة، عن
__________
(2/386)
ح 1456، ك المرض، حديث في الأكل مع المجذوم.
(2/387) .
3
الميزان: (3/4) .
4
انظر أقوال العلماء فيه في: تهذيب التهذيب: (1/331 - 333) .

(3/110)


عمر رضي الله عنه في أكله مع المجذوم - التي صَوَّبَهَا البخاريُّ والترمذي -: فلم أقف على من أخرجها، لكن أخرج العقيليُّ من طريق: عبد الرحمن بن زياد، عن شعبة، عن حبيب بن الشهيد، عن عبد الله بن بريدة قال: "كان سلمان يعملُ بيديه، ثم يشتري طعاماً، ثم يبعث إلى الْمُجَذَّمين فيأكلون معه"1 فجعل "سلمان" مكان "عمر" ثم قال العقيلي عقبه: "هذا أصلُ الحديث، وهذه الرواية أولى". قال الشيخ الألباني: "ولعله الصواب؛ فإن إسناده صحيحٌ، وعبد الرحمن بن زياد هذا: هو الرصاصي، قال أبو حاتم: صدوق. وقال أبو زرعة: لا بأس به"2.
وأما قصة أكل عمر مع المجذوم: فقد أخرج عبد الرزاق في (المصنف) 3 عن معمر، عن أبي الزناد: أن عمر قال لمعيقيب4 الدَّوسي: "ادن مني، فلو كان غيرك ما قعد مني إلا كقيد رمح". وكان أجذم.
وهذا مرسلٌ؛ فإنَّ أبا الزناد لم يدرك ابن عمر ولم يره كما قال أبو حاتم5، فكيف بروايته عن عمر؟!
__________
1
الضعفاء: (4/242 - 243) .
2
السلسلة الضعيفة: (3/282) ح 1144.
(10/405)
ح 19510.
4
ابن أبي فاطمة الدوسي، حليف بني عبد شمس، من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين، وشهد المشاهد، وولي بيت المال لعمر، ومات في خلافة عثمان أو علي/ع. (التقريب 542) .
5
المراسيل: (ص 111) .

(3/111)


فإذا تَقَرَّرَ عندنا ضعفُ حديث جابر هذا، علمنا أن قول الحاكم: "صحيح الإسناد". وموافقة الذهبي له، وقول ابن حجر: "حسن"1، وقول السيوطي: "صحيح"2: ليس بصواب، وأنَّ الصواب: ما ذهب إليه ابن القَيِّم من ضَعْفِ هذا الحديث، والله أعلم.
__________
1
كما نقله صاحب فيض القدير: (5/41) .
2
في الجامع الصغير مع فيض القدير: (5/41) . وقد ضعفه الشيخ الألباني. (ضعيف الجامع الصغير رقم 4200) .

(3/112)










من كتااااااب الايماااان والنذور














































( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )


ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها







13-
من كتاب الأيمان والنذور
1 -
باب النذر في المعصية، ومن رأى أن عليه الكفارة
89 - (1)
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نَذْرَ في مَعْصِيَةٍ، وكَفَّاَرُتُه كَفَّاَرُة يَمَيٍن" 1.
استدل ابن القَيِّم - رحمه الله - بهذا الحديث للقائلين بوجوب الكفارة في نذر المعصية، وذهب إلى صِحَّةِ الحديثِ بطرقهِ وشواهِدِهِ كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وذكر - رحمه الله - عند كلامه على حكم طلاق الغضبان حديث:
90- (2)
عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نَذْرَ في غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ".
قال ابن القَيِّم: "وهو حديث صحيحٌ، وله طرقٌ"2.
وقد أورده - رحمه الله - للاستدلال به على أنَّ طلاق الغضبان لا يقع، وذلك بطريق الأولى، فقال: "فإذا كان النذر – الذي أثنى الله على من أوفى به، وأمر رسوله بالوفاء بما كان منه طاعة – قد أَثَرَّ الغضب في انعقاده، لكون الغضبان لم يقصده ... فالطلاق بطريق الأولى والأحرى"3.
__________
1
تهذيب السنن: (4/373 – 376) .
2
الإغاثة الصغرى: (ص 39 – 40) .
3
الإغاثة الصغرى: (ص 41) .

(3/115)


قلت: أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في (سننهم) 1، وأحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3، من طرق:
عن يونس بن يزيد4، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة به.
وهذا الإسناد رجاله ثقاتٌ، إلا أنه معلولٌ، كما قال الحافظ ابن حجر5 رحمه الله. وقد بَيَّنَ الأئمة عِلَّتَهُ، فقال الترمذي عقبه: "هذا حديث لا يصحُّ؛ لأنَّ الزهريَّ لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة". وقال النسائيُّ: "وقد قيل: إنَّ الزهريَّ لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة" وقال البيهقي مثل ذلك.
قلت: فيكون هذا الإسناد منقطعاً.
ودليلهم على عدم سماع الزهري هذا الحديث من أبي سلمة: أنه قد روى عن الزهري على غير هذا الوجه.
__________
1
د: (3/594) ح 3290، 3291، باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية. ت: (4/103) ح 1524، باب ما جاء عن رسول الله أن لا نذر في معصية. س: (7/26- 27) ، باب كفارة النذر. جه: (1/686) ح 2125، باب النذر في المعصية. كلهم في كتاب الأيمان والنذور، إلا ابن ماجه، فهو عنده في (الكفارات) .
(6/247) .
(10/69) .
4
ابن النَّجَّاد الأيلي، أبو يزيد، مولى آل أبي سفيان، ثقةٌ، إلا أنَّ في روايته عن الزهري وهماً قليلاً، وفي غير الزهري خطأ، من كبار السابعة، مات سنة 159هـ على الصحيح/ ع. (التقريب 614) .
5
انظر: فتح الباري: (11/587) ، والتلخيص الحبير: (4/175) .

(3/116)


فرواه عبد الله بن أبي عتيق1، وموسى بن عقبة، كلاهما عن الزهري، عن سليمان بن أرقم2، عن يحيى بن أبي كثير3، عن أبي سلمة، عن عائشة به.
أخرجه بهذا الإسناد: أبو داود، والترمذي، والنسائي، والبيهقي في (سننهم) 4. قال البخاريُّ – بعد أن ساقه من طريق سليمان بن أرقم هذه-: "والحديث هو هذا"5. وكذا صححه الدارقطني فقال – بعد أن ساق وجوه الاختلاف فيه -: "والصحيح: حديث ابن أبي عتيق، وموسى بن عقبة، عن الزهري"6.
فَتَبَيَّنَ من ذلك: أن الزهريَّ – رحمه الله – إنما سمع الحديث من سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، "فَدَلَّسَهُ بإسقاط اثنين" - كما قال ابن حجر7- ورواه عن أبي سلمة مباشرة.
ونازع الشيخ الألباني في القول بتدليس الزهريِّ هنا، وأنه يحتمل
__________
1
عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، أبو بكر، صدوقٌ فيه مزاحٌ، من الثالثة/ خ م س ق. (التقريب 321) .
2
البصري، أبو معاذ، ضعيفٌ، من السابعة/ د ت س. (التقريب 250) .
3
أبو نصر اليمامي.
4
د: (3/595) ح 3292، ت: (4/103) ح 1525، س: (7/27) ، هق: (10/69) .
5
جامع الترمذي: (4/103) ، وانظر العلل له: (2/651 – 652) .
6
علل الدارقطني: ج5 (ق 72) .
7
فتح الباري: (11/587) . وانظر: جامع التحصيل: (ص 331) .

(3/117)


أن يكون له فيه إسنادان، أحدهما: عن سليمان بن أرقم، عن يحيى، عن أبي سلمة، والآخر: عن أبي سلمة مباشرة قال: "ويؤيد هذا أنه قد صَرَّحَ بالتحديث في رواية له" فذكر رواية عند النسائي1 وفيها قول الزهري: "حدثنا أبو سلمة"2.
قلت: وما ذكره الشيخ الألباني – رحمه الله – لو صحَّ لكانَ دليلاً على سماع الزهريَّ الحديث من أبي سلمة، لكن يبدو أنَ كلمة "حَدَّثَنا" مُصَحَّفَةٌ، وصوابها: "حَدَّثَ"، كذا نقله المزِّي في (تحفة الأشراف) 3، ونقله الدارقطني في (علله) 4 فقال: " ... وقال أبو ضمرة: عن يونس، عن ابن شهاب قال: حدث أبو سلمة". وحينئذٍ تكونُ هذه اللفظة من الزهري دليلاً على عدم سماعه منه لا العكس.
وَيُؤَكِّدُ ذلك: أنَّ أبا داود قال عقب رواية الزهري عن أبي سلمة هذه: "وسمعت أحمد بن شبويه يقول: قال ابن المبارك - يعني في هذا الحديث -: حَدَّثَ أبو سلمة. فدلَّ على أن الزهريَّ لم يسمعه من أبي سلمة"5. والله أعلم.
على أن طريق سليمان بن أرقم المتصلة هذه معلولة - أيضاً - بأمور:
__________
1
سنن النسائي: (7/27) .
2
إرواء الغليل: (8/216) .
(12/367) .
4
ج 5 (ق 72) .
5
سنن أبي داود: (3/595) .

(3/118)


أولها: اتِّفَاقُهم على ضعف "سليمان بن أرقم": قال البخاريُّ - عقب حكايته هذه الطريق -: "وسليمان بن أرقم متروكٌ، ذاهب الحديث"1. وكذا قال النسائي - عقب روايته الحديث -: "سليمان ابن أرقم متروك الحديث"، وقال ابن حجر: "ضعيف باتفاقهم"2.
ثانيها: أنَّ سليمان بن أرقم - مع ضعفه - قد وَهِمَ في هذا الحديث؛ فإنَّ غير واحدٍ من أصحاب يحيى بن أبي كثير خالفوه في إسناده، فرووه عن: محمد بن الزبير الحنظلي، عن أبيه، عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود – عقب إخراج حديث سليمان بن أرقم -: "قال أحمد بن محمد المروزي: إنما الحديث حديث على بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران بن حصين" قال أبو داود: "أراد: أن سليمان بن أرقم وَهِمَ فيه، وحمله عنه الزهري، وأرسله عن أبي سلمة، عن عائشة"3. ثم قال أبو داود: "روى بقية، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن محمد بن الزبير، بإسناد علي بن المبارك مثله".
قلت: والحديث من طريق علي بن المبارك، ومن طريق الأوزاعي
__________
1
علل الترمذي: (2/652) .
2
فتح الباري: (11/587) . وينظر كلام العلماء عليه مُفَصَّلاً في تهذيب التهذيب: (4/168 – 169) .
3
سنن أبي داود: (3/596) .

(3/119)


أخرجه: النسائي في (سننه) 1، وأخرجه البيهقي من طريق الأوزاعي2 فقط.
وحديث يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن الزبير هذا: هو الذي ساقه ابن القَيِّم - رحمه الله - بلفظ "لا نَذْرَ في غضبٍ ... ". وسيأتي بيان هذا اللفظ.
فَرَجَعَ بذلك حديث أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، إلى حديث: محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران بن حصين.
إلا أنَّ حديث عمران هذا معلوٌلٌ - أيضاً - بثلاث علل، وهي:
1-
ضعف إسناده. 2- انقطاعه. 3- اضطرابه سنداً ومتناً. وبيان ذلك:
أولاً: ضعف إسناده: فإنَّ "محمدَ بن الزبير الحَنْظَلِيّ" ضَعَّفَهُ غيرُ واحدٍ من العلماء، حتى قال البخاريُّ: "منكر الحديث"، وقال أبو حاتم: "في حديثه إنكار"3. وقال الحافظ ابن حجر: "متروك"4.
وكذلك أبوه الزبير: لم يرو عنه إلا ابنه محمد، وذكره أبو العرب
__________
(7/27 – 28) .
2
سنن البيهقي: (10/70) .
3
تنظر أقوال العلماء فيه في (تهذيب التهذيب) : (9/167) .
4
التقريب: (ص 478) .

(3/120)


في كتابه (الضعفاء) 1. وقال ابن حجر: "لَيِّنُ الحديث"2.
ثانياً: انقطاعه: فقال النسائي: "قيل: إن الزبير لم يسمع هذا الحديث من عمران بن حصين"3. وقال البيهقي مثل ذلك، ثم ساق بإسناده إلى يحيى بن معين أنه قال: "قيل لمحمد بن الزبير الحنظلي: سمع أبوك من عمران بن حصين؟ قال: لا"4.
ومما يدلُّ على انقطاعه: ما أخرجه النسائي5، والبيهقي6 من حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن الزبير، عن أبيه، عن رجل صَحِبَهُ، عن عمران به. هذا سياق البيهقي، وعند النسائي: "عن أبيه، عن رجل من أهل البصرة قال: صحبت عمران بن حصين، وفيه قصة، ولفظه: "لا نذر في غضب ... ".
وأخرج النسائي7 من حديث عبد الوارث بن سعيد، عن محمد بن الزبير، عن أبيه، أن رجلاً حَدَّثَهُ: أنه سأل عمران. ولفظه: "لا نَذْرَ في غَضَبٍ ... ".
__________
1
انظر: تهذيب التهذيب: (3/320 – 321) .
2
التقريب: (ص 214) .
3
سنن النسائي: (7/28) .
4
سنن البيهقي: (10/70) . وانظر: تهذيب التهذيب: (3/320) .
(7/28) .
(10/70) .
(7/29) .

(3/121)


قال أبو حاتم الرازي - بعد أن بَيَّنَ وجوهَ الاختلاف فيه على محمد بن الزبير-: "حديث عبد الوارث أشبه، لأنه قد بَيَّنَ عورة الحديث"1.
ثالثاً: اضطرابه سَنَدَاً وَمَتْنَاً: أما اضطراب إسناده: فإنه رُوِيَ عن محمد بن الزبير على أوجه مختلفة، وقد ذكرنا بعضها فيما مضى، ونضيف إليها هنا:
-
أنه رواه سفيان الثوري، عن محمد بن الزبير، عن الحسن، عن عمران بن حصين به، أخرجه النسائي2، وأحمد3، والحاكم4، والبيهقي5. ولفظه: "لا نذر في معصية ولا غضب ... ".
-
وأخرجه النسائي6 من طريق: منصور بن زاذان، عن الحسن، عن عمران بن حصين، لم يذكر محمد بن الزبير.
قال البيهقي: "وهذا - أيضاً - منقطعٌ، ولا يصحُّ عن الحسن عن عمران سماع من وجه صحيح يثبت مثله"7. ثم ساق بإسناده
__________
1
علل ابن أبي حاتم: (1/440) .
2
السنن: (7/29) .
3
المسند: (4/443) .
4
المستدرك: (4/305) .
5
السنن: (10/70) .
(7/29) .
7
سنن البيهقي: (10/70 – 71) .

(3/122)


إلى علي بن المديني - رحمه الله - القول بعدم صحة ذلك1.
-
وخالف هؤلاء - أيضاً - علي بن زيد بن جدعان، فجعله عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه النسائي2، ثم قال: "عليُّ بن زيد ضعيف، وهذا الحديثُ خطأ، والصواب: عمران بن حصين".
وأما اضطراب متنه: فقد جاء لفظه مرةً: "لا نذر في معصية ... "، ومرة جاء: "لا نذر في غضب ... "، وجاء مرةً: "لا نذر في معصية ولا غضب ... ". وتقدمت كل هذه الألفاظ.
وقد أشار الحافظ العراقيُّ إلى الاضطراب في حديث محمد بن الزبير هذا3. وقال الشيخ الألباني - بعد أن ذكر بعض وجوه الاختلاف في إسناده -: "وهذا اضطراب شديد يسقط الحديث بمثله لو كان من رواية ثقة؛ لأنَّ الاضطراب في روايته يدل على أنه لم يحفظه، فكيف إذا كان الراوي واهياً، وهو محمد بن الزبير؟ "4.
ونعود الآن إلى موقف ابن القَيِّم - رحمه الله - من هذين الحديثين، وما استند إليه في تصحيحهما:
__________
1
وانظر: المراسيل لابن أبي حاتم: (ص 38) .
2
السنن: (7/29 – 30) .
3
كما في فيض القدير: (6/437) .
4
إرواء الغليل: (8/213) .

(3/123)


قال ابن القَيِّم رحمه الله: "هذه الآثار قد تَعَدَّدَتْ طرقها، ورواتها ثقاتٌ"1. كذا قال رحمه الله.
قلت: أما تعدد طرقها: فقد تَبَيَّنَ مما مضى أن طرق هذه الأحاديث وإن تعددت، فإنها مختلفة مضطربة، فلم يزدد الحديث بها إلاّ اضطراباً، كما ظهر لنا أن الحديثين – بكل طرقهما – إنما يرجعان إلى طريق واحدٍ هو: محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران بن حصين.
وأما ثقة رواتها: فقد وُجِدَ الأمر على خلاف ذلك، ففي طريق عائشة: "سليمان بن أرقم" المتروكُ الذي لا تقوم به حجة، وفي طريق عمران بن حصين: "محمد بن الزبير" الضعيفُ، "وأبوه" المجهول.
ثم قال ابن القَيِّم: "وإن كان الزهريُّ لم يسمعه من أبي سلمة، فإنَّ له شواهدَ تُقَوِّيِهِ"2 وذكر من هذه الشواهد حديث عمران بن حصين.
قلت: قد تقدم ضعف حديث عمران وشدة اضطرابه، وعلمنا أن حديث عائشة هو نفسه حديث عمران بن حصين، وإنما غَلِطَ فيه سليمان ابن أرقم، وخالفه غيره. فكيف يكون أحد الحديثين شاهداً للآخر؟!
ثم أشار ابن القَيِّم - رحمه الله - إلى شاهدٍ آخر، وهو: ما أخرجه
__________
1
تهذيب السنن: (4/374) .
2
تهذيب السنن: (4/374) .

(3/124)


ابن الجارود في (المنتقى) 1 من طريق: موسى بن أعين، ثنا خطاب2، ثنا عبد الكريم، عن عطاء بن أبي رباح:
91- (3)
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النذرُ نَذْرَان: فما كان لله كفارته الوفاء، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين".
قال الشيخ الألباني: "وهذا إسناد صحيحٌ، رجاله كلهم ثقات رجال البخاريِّ، غير خَطَّاب، وهو ابن القاسم الحراني، وهو ثقة كما قال ابن معين وأبو زرعة في رواية عنه، وقال البرذعي عنه: منكر الحديث، يقال: إنه اختلط قبل موته. وذكره ابن حبان في الثقات"3. ثم اعترض على ابن حجر في جزمه باختلاط خطاب هذا حيث إنه لم يذكره به سوى أبي زرعة، ومع ذلك لم يجزم به.
قلت: وأخرج هذا الحديث البيهقيُّ في (سننه) 4 - من طريق ابن الجارود - وَضَعَّفَهُ!
ثم ذكر ابن القَيِّم شاهداً آخر. وَصَحَّحَ إسناده، وهو ما رواه الطحاوي:
__________
(
ح 935) .
2
ابن القاسم الحرَّاني، قاضيها، ثقةٌ اختلط قبل موته، من الثامنة/ د س. (التقريب194) .
3
السلسلة الصحيحة: (ح479) .
(10/72) .

(3/125)


92- (4)
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ نَذَرَ أن يطيعَ الله فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَر أن يعصي الله فلا يعصه، ويُكَفِّر عن يمينه".
قال ابن القَيِّم: "وهو عند البخاري إلا ذكر الكفارة"1. ثم نقل عن عبد الحق قوله: "وهذا أصحُ إسناداً، وأحسن من حديث أبي داود" يعني: حديث الزهري، عن أبي سلمة المتقدم.
قلت: هذا الحديث أخرجه الطحاوي في (مشكل الآثار) 2 من طريق: حفص بن غياث، قال: سمعت ابن مُجَبَّر3، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها به.
وأخرجه البخاري في (صحيحه) 4 من طريق: طلحة بن عبد الملك5، عن القاسم، عن عائشة به، بدون هذه الزيادة التي فيها ذكر الكفارة.
وابن مجبر - راويه عن القاسم عند الطحاوي - هو: عبد الرحمن ابن مجبّر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، روى عن: سالم بن عبد الله،
__________
1
تهذيب السنن: (4/374 – 375) .
(1/470 – 471)
، (3/37) .
3
وقع في المشكل: "ابن محرز"، والصواب ما أثبته. انظر: (الجوهر النقي 10/71) ، (وفتح الباري 11/581) .
4
ك الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة. ح 6696 (الفتح: 11/581) .
5
الأيلي، ثقة، من السادسة / خ 4. (التقريب 282) .

(3/126)


وروى عنه: مالك بن أنس، وثقه عمرو بن علي1، وكذا ابن حبان2.
وقد روى الحديث: طلحةُ بن عبد الملك الأيلي - كما عند البخاري - وتابعه عليه: أيوب السختياني3، كلاهما عن القاسم به، ولم يذكرا هذه الزيادة، فإمَّا أن يُقال: ابن مجبر ثقة فزيادته مقبولة، وإما أن يقال: إنه قد خالف من هو أوثقُ منه وأكثر عدداً فتردُّ زيادته، ولعلَّ هذا الأخير هو ما تطمئن إليه النفس، وقد قال ابن القطان رحمه الله: "عندي شكُّ في رفع هذه الزيادة"4.
وبعد، فهذا ما انتهى إليه البحث، مع الإمام ابن القَيِّم -رحمه الله- في هذه القضية، وخلاصة ذلك:
أن حديث أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها في كفارة النذر غير صحيح، بل فيه ضعفٌ واضطراب، ولا يصلح حديث عمران بن حصين شاهداً له؛ لأن حديث عائشة رضي الله عنها قد رجع إلى حديث عمران. هذا مع ضعف حديث عمران أيضاً.
أما الشواهد التي ساقها ابن القَيِّم: فلا يصلح أكثرها لتقوية هذا الحديث، وقد ثبت منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما إذا ترجح
__________
1
الجرح والتعديل: (2/2/287) .
2
الثقات: (7/76) .
3
وروايته عند ابن حبان: (الإحسان 6/287) ح 4373.
4
التلخيص الحبير: (4/175) ح 2057.

(3/127)


توثيق خطاب بن القاسم. وكذلك حديث عائشة - عند الطحاوي - فقد يصلح شاهداً إذا قيل بقبول الزيادة فيه من الثقة.
ثم إن مضمون هذا الحديث - وهو القول بالكفارة في نذر المعصية - قد ذهب إليه: الإمام أحمد، وإسحاق، وبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والجمهور على خلاف ذلك، مع اتفاقهم على الشطر الأول من الحديث وهو: أنه لا يجب الوفاء بنذر المعصية1، والله أعلم.
__________
1
انظر: جامع الترمذي: (4/104 – 105) ، وفتح الباري: (11/587) .

(3/128)










من كتاب العتق














































( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )


ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها







14-
من كتاب العتق
1 -
باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم
93- (1)
عن سمرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُو حُرُّ ".
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "هذا الحديث له خمسُ عللٍ:
إحداها: تَفَرد حماد بن سلمة به، فإنه لم يحدث به غيره1.
العلة الثانية: أنه اختلف فيه حماد وشعبة، عن قتادة، فشعبة أرسله، وحمادٌ وصله، وشعبةُ هو شعبةُ.
العلة الثالثة: أن سعيد بن أبي عروبة خالفهما، فرواه: عن قتادة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله.
العلة الرابعة: أن محمدَ بن يسار رواه: عن معاذ، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن قوله. وقد ذكر أبو داود هذين الأثرين.
العلة الخامسة: الاختلاف في سماع الحسن من سمرة"2.
قلت: هذا الحديث أخرجه: أبو داود في (سننه) 3، والترمذي في: (جامعه) 4، و (علله) 5، والنسائي في (الكبرى) 6، وأحمد، والطيالسي
__________
1
ومراده: أنه تفرد بوصله، وأنه لم يُحَدِّث به كذلك غيره.
2
تهذيب السنن: (5/407) .
(4/259)
ح 3949 ك العتق، باب فيمن ملك ذا رحم محرم.
(3/637)
ح 1365 ك الأحكام، باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم.
(1/561) .
(5/14)
ح 4881.

(3/131)


في (مسنديهما) 1، وابن الجارود في (المنتقى) 2، والطبراني في (الكبير) 3، والبيهقي في (سننه) 4 - من طريق أبي داود - من طرق، عن:
حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن5، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم به، ولفظه كما تقدم، لكن وقع في إحدى روايات الإمام أحمد: "فهو عتيقٌ" بدل: "فهو حر".
ووقع عند أبي داود من طريق موسى بن إسماعيل - أحد رواته عن حماد -: "عن سمرة بن جندب فيما يحسب حماد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ".
قال أبو داود: "لم يُحَدِّث ذلك الحديث إلا حماد بن سلمة، وقد شكَّ فيه". وقال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه مسنداً إلا من حديث حماد بن سلمة". وسأل الترمذي البخاريَّ عنه؟ فلم يعرفه عن الحسن، عن سمرة إلا من حديث حماد بن سلمة"6. ونقل المنذري عن علي بن المديني قوله: "هذا عندي منكرٌ"7.
__________
1
حم: (5/15، 18، 20) . طس: (ح 910) .
(
ح 973) .
(7/248)
ح 6852.
(10/289) .
5
ابن أبي الحسن البصري، واسم أبيه: يسار، الأنصاري مولاهم، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهورٌ، وكان يُرْسِلُ كثيراً ويُدَلِّس، وهو رأس أهل الطبقة الثالثة، مات سنة110هـ / ع. (التقريب 160) .
6
علل الترمذي: (1/561) .
7
مختصر السنن: (5/408) .

(3/132)


وكلام هؤلاء الأئمة - رحمهم الله - ظاهرٌ في كون حماد تَفَرَّدَ بوصل هذا الحديث، وعبارة الترمذي صريحة في ذلك، فإن هذا الحديث يُروى من وجه آخر عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، بدون ذكر "سمرة". وقد نقل المنذري وغيره عن أبي داود أنه قال: "شعبة أحفظ من حماد بن سلمة". قال المنذري: "يعني أنَّ شعبة رواه مرسلاً"1. وقال الخطابي: "أراد أبو داود من هذا: أنَّ الحديثَ ليس بمرفوع، أو ليس بمتصل، إنما هو: عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم"2.
قلت: وكلمة أبي داود هذه لم أرها هكذا، والذي في (السنن) قوله: "سعيد أحفظ من حماد". وذلك أن أبا داود – رحمه الله – أخرجه من طريق: سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن موقوفاً عليه3. وأخرجه مرة أخرى عن سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد والحسن مثله4. وأخرجه - قبل هذين الأثرين - من حديث سعيد أيضاً، عن قتادة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: "من ملك ذا رحم ... " الحديث5. وأشار إلى الموقوف على عمر: الترمذيُّ6، والبخاريُّ7،
__________
1
مختصر السنن: (5/408) .
2
معالم السنن: (5/408) .
3
سنن أبي داود: (4/261) ح 3951.
4
سنن أبي داود: (ح3952) .
5
المصدر السابق: (ح3950) .
6
في جامعه: (3/638) .
7
علل الترمذي: (1/561) .

(3/133)


لكنهما قالا: عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن عمر رضي الله عنه، فلعلها رواية أخرى عن قتادة. فهذه الروايات من طريق سعيد هي التي قال أبو داود عقبها: "سعيد أحفظ من حماد".
فَتَحَصَّلَ من ذلك أن هذا الحديث يُروى عن قتادة على عدة أوجه:
1-
حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، مرفوعاً.
2-
شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ولم أقف على هذه الرواية، ولكن تَقَدَّمَ نقل المنذري لكلام أبي داود فيها، وكذا كلام الخطابي.
3-
سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن من قوله. مقطوعاً.
4-
سعيد، عن قتادة، عن الحسن وجابر بن زيد من قولهما.
5-
سعيد، عن قتادة، عن عمر بن الخطاب من قوله، وتقدم أن أبا داود أخرج هذه الروايات الثلاث الأخيرة، وأخرجها أيضاً: النسائي في (سننه الكبرى) 1.
6-
سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن عمر رضي الله عنه موقوفاً عليه. ولم أقف على هذه الرواية أيضاً، لكن ذكرها البخاري والترمذي كما تقدم.
__________
(5/14 – 15)
ح 4883 – 4886.

(3/134)


فهذه وجوه رواية هذا الحديث عن قتادة، والخوف أن يكون ذلك اضطراباً في هذا الحديث، لكن الذي يهمنا في هذا المقام: أن هذا الحديث لا يصحُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم موصولاً، فهو ما بين: موقوف على عمر رضي الله عنه، أو مُرْسَل: عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقد ضَعَّفَ مراسليه جماعة -1 أو مقطوع من كلام الحسن رحمه الله. وقد تَقَدَّمَ كلامُ أبي داود في ترجيح الرواية المرسلة، وكذا ترجيح الموقوف من طريق سعيد، وقال الحافظ ابن حجر: "وَرَجَّحَ جمعٌ من الحفاظ أنه موقوف"2.
وحتى لو حُكِمَ للرواية الموصولة، فإنها تبقى معلولةً – كما أشار ابن القَيِّم – بالخلاف في سماع الحسن من سمرة؛ فإنَّ كثيرين لا يثبتون له سماعاً منه، والحسن مدلس، وقد عنعن في هذا الحديث.
وَثَمَّةَ شاهدٌ لحديث سمرة هذا، يُروى عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولم يتعرض له ابن القَيِّم رحمه الله:
وهو ما أخرجه: النسائي في (الكبرى) 3، وابن ماجه في (سننه) 4، وابن الجارود في (المنتقى) 5، والحاكم في (المستدرك) 6،
__________
1
انظر جامع التحصيل: (ص 100 – 101) .
2
بلوغ المرام مع سبل السلام: (4 / 1501) ح 1339.
(5/13)
ح 4877.
(2/844)
ح 2525.
(
ح 972) .
(2/214) .

(3/135)


والبيهقي في (سننه) 1، وَعَلَّقَهُ الترمذي في (جامعه) 2، كلهم من طريق: ضمرة بن ربيعة3، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً بمثل حديث سمرة. ووقع عند ابن الجارود، والبيهقي: "فهو عتيق ".
وقد ضَعَّفَ الأئمة هذا الحديث - عن ابن عمر رضي الله عنهما - وأنكروه: فأنكره الإمام أحمد وردَّه ردّاً شديداً، وقال: "لو قال رجلٌ: إن هذا كذبٌ، لما كان مخطئاً"4. وذُكِرَ له مرة، فقال: "ليس من ذا شيء، وَهِمَ ضمرة"5. وقال الترمذي: "ولم يُتابع ضمرة على هذا الحديث، وهو حديث خطأ عند أهل الحديث"6. وقال النسائي: "لا نعلم أن أحداً روى هذا الحديث عن سفيان غير ضمرة، وهو حديث منكر"7. ونقل البيهقي عن الطبراني - وقد رواه من طريقه - قوله: "لم يرو هذا الحديث عن سفيان إلا ضمرة"8. وقال البيهقي: "وهم فيه
__________
(10/289) .
(3/638) .
3
الفلسطيني.
4
تهذيب التهذيب: (4/461) .
5
مسائل أبي داود للإمام أحمد: (ص 314) .
6
جامع الترمذي: (3/638) .
7
السنن الكبرى: (5/13) ح 4877.
8
سنن البيهقي: (10/289) .

(3/136)


راويه ... المحفوظ بهذا الإسناد: حديث نهى عن بيع الولاء وهبته"1. وقال البوصيري: "هذا إسناد فيه مقال"2.
ومع ذلك، فقد صححه الحاكم! فقال: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي! وصححه كذلك: عبد الحق، وابن حزم3، وابن القطان4. والقول ما قاله هؤلاء الأئمة، من أنَّ هذا الحديث منكرٌ؛ فإنَّ ضمرة وإن كان صدوقاً، فإنه كان يَهِمُ، وعنده بعض المناكير5، ولعل هذا من مناكيره، والله أعلم.
فتلخص من ذلك: أنَّ حديث سمرة بن جندب هذا معلولٌ كما ذكر ابن القَيِّم رحمه الله، وأن ما وُجدَ له من شاهد عن ابن عمر: منكرٌ، فلا يصلح لتقويته، وبذلك يبقى الحديث على ضعفه، والله أعلم.
ثم ذكر ابن القَيِّم - رحمه الله - حديثاً آخر في هذا الباب، وَأَعَلَّهُ، فقال: "وقد روى البيهقيُّ وغيره، من حديث أبي صالح، عن:
94- (2)
ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: جاء رجلٌ - يقال له: صالح - بأخيه فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أَعْتِقَ أخي هذا، فقال: "إِنَّ اللهَ أَعْتَقَهُ حِينَ مَلَكْتَهُ ".
__________
1
سنن البيهقي: (10/289) .
2
مصباح الزجاجة: (2/67) . ط / يوسف الحوت.
3
المحلى: (10/223) . تحقيق / حسن زيدان.
4
التلخيص الحبير: (4/212) .
5
تهذيب التهذيب: (4/461) .

(3/137)


قال ابن القَيِّم: "ولكن في هذا الحديث بَلِيَّتَانِ عظيمتان: العرزمي - وهو عبد الرحمن بن محمد - عن الكلبيِّ: كُسَيْرٌ عن عُوَيْرٍ"1.
قلت: هذا الحديث: أخرجه الدارقطني في (سننه) 2 – ومن طريقه: البيهقي3 – من طريق:
عبد الرحمن بن محمد4 العرزمي، عن أبي النضر5، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما به.
قال الدارقطني عقبه: "العرزميُّ تركه ابن المبارك، ويحيى القطان، وابن مهدي. وأبو النضر هو: محمد بن السائب الكلبي، المتروك أيضاً، وهو القائل: كل ما حَدَّثْتُ عن أبي صالح كذب".
وَتَعَقَّبَ ابن القطان عبد الحق بأنه ذَكَرَ هذا الحديث ولم يُبَيِّنْ علته، ثم أَعَلَّهُ بنحو ما أعله به الدراقطني6.
__________
1
تهذيب السنن: (5/409) .
(4/129)
ح 15.
3
السنن: (10/290) .
4
ابن عبيد الله الفزاري، العَرْزَمي. يروي عن: جابر الجعفي، وعبد الملك بن أبي سليمان، وجماعة. روى عنه: ابنه محمد، وعبيد الرحمن بن صالح العتكي وغيرهما. قال أبو حاتم: "ليس بقوي". وضعفه الدارقطني. الجرح والتعديل: (2/2/282) ، والضعفاء والمتروكين للدارقطني: (ص 275) رقم 339.
5
هو: محمد بن السائب بن بشر الكلبي، أبو النضر الكوفي، النسَّابة، مُتَّهَمٌ بالكذب، ورمي بالرفض، من السادسة، مات سنة 146هـ/ ت فق. (التقريب 479) .
6
بيان الوهم والإيهام: (3/553) ح 1332
فَتَحَصَّلَ من ذلك: أن الأمر على ما وصف ابن القَيِّم رحمه الله، وأن هذا الحديث لا يصحُّ؛ لأن في إسناده مَتْرُوكَيْن كما تقدم، والله أعلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج2. باقي صحيح السيرة النبوية تحقيق الشيخ الألباني مراجع ومدقق {من 130. الي234.}

  ج2. صحيح السيرة {ج2. باقي صحيح السيرة النبوية  تحقيق  الشيخ الألباني مراجع ومدقق {من 130. الي234.} صفحة رقم -130 - قال : قلت : من غف...